والذي يبدو لي الآن أن العرب لا يعنون بامتلاء الشدقين «انتفاخهما» وإنما يريدون امتلاء الفم بصوت القهقهة كناية عن قوة الضحك، ثم قلت لهم: إن العرب يقولون: «ضحك حتى بدت نواجذه»، وهو تعبير قريب المعنى من تعبيرنا؛ لأن النواجذ قريبة من الآذان. وإذا انتفخ الفم من الضحك حتى بدت النواجذ فقد قرب من الآذان.
ثم انتقل الحديث إلى الأدب العامي، فقال زين العابدين: «إن في أدبنا العامي دقة في التعبير، وجمالا في التصوير، وسعة في الخيال، بصورة توجب الإعجاب الكبير. أذكر أنني طالعت مرة أنا وأبو القاسم قطعة من هذا الفن، يصف فيها صاحبها البرق، فأعجبنا بها إعجابا كبيرا؛ إذ إنه قد عبر بها عنه بأبرع مما عبرت عنه ألفاظ شاعر، وأبدع مما صورته نفس فنان».
فقال أبو رقعة: إنني أعتقد أن الأدب العامي بتونس أبلغ من الأدب العربي بها؛ وذلك لأن أدباء العربية بها تقيدهم كثير من التقاليد اللغوية والأغلال الشعرية التي توجب عليهم احتذاء من تقدمهم من الشعراء، زيادة عن أنهم يكتبون بلغة ليست لغتهم، بخلاف ما كانوا من قادة الأدب العامي، فإنهم بعيدون عن مثل ما يتقيد به الأديب العربي بتونس. ولذلك يكون من الفرق بين أدب هذا وذاك ما بين أدب الطبع وأدب التقليد.
وأنا أعرف واحدا من هؤلاء الذين يتملأون بروح الشعب ولغته من يعمد إلى القطعة من الأدب العامي ينقدها نقدا فنيا صحيحا دقيقا لو كسي الأسلوب العربي لكان خير أمثلة النقد الأدبي، إذ فيه تتجلى سلامة الطبع، ودقة الحاسة الفنية.
الثلاثاء 14 جانفي 1930
أشعر اليوم بفتور في بدني، وبتوعك في مزاجي، ولا أدري مأتاه. وأحس بكآبة عميقة تستحوذ على مشاعري وتقبض على قلبي وتجعلني أكره الكتب والأسفار والمحابر والأقلام.
لا أريد أن أزيد أكثر مما ذكرت، لأنني أرى النوم يغالبني والإعياء يدفعني للنعاس.
الخميس 16 جانفي 1930
اعتزمت الذهاب إلى حديقة البلفيدير صحبة رفيق لي، فبريت القلم وأعددت القرطاس وتأبطت كتابا لما عسى أن تحدثني به النفس من أفكار، أو يفيض به القلب من عواطف؛ لأنني لا أعلم متى تطغى علي الخواطر، وتزدحم علي الذكر، وتنهال علي الأفكار انهيالا.
فرب نظرة بريئة من رعبوبة فاتنة أهاجت بقلبي ألف فكر، وابتعثت فيه ألف ادكار غطى عليه الزمن.
نامعلوم صفحہ