لقد مات أبي أيها القلب! فماذا لك بعد في هذا العالم. مات أبي وظللت أنتحب وأنوح وأبكي بكاء النساء، ثم طبعت على جبينه البارد قبلة كانت آخر عهدي به. فسلام عليه يوم ولد، ويوم مات، ويوم يبعث حيا، ورحم الله روحه بين الأرواح الطاهرة الكريمة.
كلما آويت إلى فراشي طافت بي هاته الأشباح والرسوم. فلا أنام إلا وفي قلبي لذعة الذكريات، وفي أجفاني عبرات الأسى. وها أنا ذاهب لأنام، وأنا أعلم أنني لن أنام إلا باكيا كئيبا.
الاثنين 13 جانفي 1930
ذهبت أنا والأخ زين العابدين والأخ مصطفى خريف مساء اليوم إلى النادي الأدبي لإلقاء محاضرتي عن كتاب «الأدب العربي في المغرب الأقصى» الذي طلب مني النادي الأدبي أن أبسط لهم رأيي فيه. ولكننا لم نجد أحدا هناك ، فجلسنا وأخذ الأخ زين العابدين يتلو علينا أقصوصة الحبيبة أو أحدوثة الحبيبة كما يريد أن يسميها الأخ عثمان الكعاك؛ لأنه يرى كلمة أحدوثة أدق ترجمة لكلمة «نوفيل» الفرنسية.
وأحدوثة الحبيبة هاته قصة صغرى كتبها الأخ زين العابدين بمشاركة شخص أبى أن يسميه، وأعدها للعدد الثاني من مجلة «العالم»، وهي قصة تونسية حاول أن يمثل فيها بعض العادات التونسية، وصور فيها بعض الأوهام الخرافية التي تستحوذ على عقول العذارى الشابات. واستعمل فيها طائفة من التعابير التونسية الخالصة التي لم تألفها العربية ولكنها لا تأباها قواعدها. وفي أثناء تلاوة الأحدوثة أقبل الأخ المهيدي ورفيق له، وبعدهما أقبل الأديب أبو الحسن بن شعبان. وكانت الأحدوثة موشكة على الانتهاء، وظل الأخ زين العابدين يتلوها إلى أن انتهت في هاته الجملة: وظلت أمي حلومة تشمر عن ساعديها وتضحك إلى أذنيها.
وعلى إثرها دار الحديث حول الروايات الشعبية والأدب المحلي، وكان مؤجج هذا الحديث هو الأخ زين العابدين الذي كان يقول: «إن الروايات الشعبية والأدب المحلي - كما أنها يجب أن تمثل حياة الشعب بما فيها من عادات وطباع وأخلاق ومميزات - فإنها يجب أن تشتمل على كثير من تعابيره الفنية الدقيقة، وتراكيبه ومعانيه التي يستعملها في مخاطباته؛ لأن هاته أهم ناحية حية من نواحي الحياة الشعبية، ففيها تبدو صور صادقة من نفسية الشعب التي تنم عنها فلتات قوله والتفاتات ذهنه.»
فقلت: إني أقرك على رأيك هذا، ولكن على شرط أن يتسفل الأديب «للتحصيل على هاته الغاية» إلى أن يمزج أسلوبه العربي بالأسلوب العامي المحرف، كما يفعل بعض المصريين اليوم، فإن مثل هاته الطريقة السيئة لقاضية على الأدب العربي الجميل، وماسخته إلى نوع من الأدب هجين، لا هو بالعربي البليغ ولا هو بالعامي الصميم، وإنما هو مسخ بين الاثنين. وإنما على الأديب الشعبي الذي يريد أن يكون موفقا أن يخضع اللغة العربية وأساليبها لاحتمال المعاني الشعبية التي تحمل طابع الشعب وميسمه. وبذلك تكون اللغة قد اكتسبت ثروة معنوية طارفة تضيفها إلى ما لها من كنز تليد، أو أن يدخل تعابير شعبية في اللغة العربية، على شرط أن لا تخل بروح العربية، ولا بقواعدها الأصلية. وبذلك يكون الأديب مخلصا للغة العربية، ومخلصا لفنه النزيه.
فقال الأخ الزين: نعم إنها لفكرة قيمة، وهذا ما حاولت أن أتباعه في أحدوثة «الحبيبة»، فإن كلمة «ضحكت لأذنيها» كلمة محلية محضة لا تعرفها العربية من قبل، ولكنها مع ذلك لا تنافي شيئا من ضوابط اللغة، زيادة عما فيها من دقة التصوير لمعنى الضحك والإغراق فيه، ولا أعرف في العربية تعبيرا يضاهي هذا في دقة التصوير لمعنى الإغراب في الضحك، إلا أنني أعرف في الفرنسية تعبيرا قريبا من تعبيرنا في هاته الدقة إلا أنه دونه، وهو قولهم: «ضحك حتى أفطس أنفه».
فقال الأخ إبراهيم بورقعة: «إن العرب يقولون: ضحك ملء شدقيه» وهو تعبير غير ظاهر المعنى؛ لأن الضاحك لا يمتلئ شدقاه.
فأجابه أبو الحسن بن شعبان بأن كيفية الضحك تختلف باختلاف الوجوه والأشكال. وظاهرته أنا على ذلك.
نامعلوم صفحہ