إنك لتصف الطريق المخيفة لأخيك الذاهب في سبيل الغاية المطلوبة، ويكون حقا عليك أن تصفها له؛ فإنك إذا لم تفعل كنت قد أهملت الواجب، وفرطت في أداء الحق.
وإنك لتدل الساري في جوف الليل على مكان الظلام، كما تدله على مطلع القمر حتى لا تنصرف عينه عن النور الساطع إلى الظلمة الحالكة، فتزل قدمه ويضل هداه.
بل إنك لتأنس من نفسك حدة النظر وسلامة البصر، ثم تحتاج إلى من يرفع حجب الخداع عن عينك ويمنع مغالطة الحس عن قلبك، فلا يخدعك لمعان السراب ولا يغرك البرق الكذاب.
إن الفجر الكاذب يجاور الفجر الصادق، فإن لم تكن على بصيرة من هذا وهذا، فقد يرديك الأول بضلاله، بينا أنت تطلب الثاني لتهتدي به.
كذلك نحن نرسم صورة فرضية، والفرضيات أمثلة تصورية يقتضيها وجوب الحذر مما يقدر أنه ناشئ عنها.
ونحن قد شبعنا وعودا ومواثيق، حتى أصابنا مرض البطن لكثرة ما تجرعنا من حلوها ومرها، ووفرة ما ازدردنا من علسها وبصلها، بل أصابتنا تخمة المواثيق والوعود، فأصبحنا في حاجة إلى الشفاء من هذه التخمة، وماذا علاجها إلا أن تلقى الأفواه ما ملأ البطون، ثم لا تعيده مرة أخرى خشية أن ترجع العلة أضعاف ما كانت، إنا نسمع وعودا ومواثيق، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالناس هم الناس، يعدون اليوم كما وعدوا أمس، والطريق هي الطريق، يسلكها غدا من سلكها اليوم.
أبت مصر إلا أن تكون في ثلث القرن الجديد كما تريد لنفسها وكما تريد أن تكون إلى الأبد، فهل تتبدل إرادتها بما يقال إنها ستناله من القشور التي تعلم تفاهتها، ولا تجهل أنها قشور تنفصل عن اللب الخالص فتجف وتسحق وتذروها الرياح، ثم لا تكون شيئا مذكورا؟
وماذا عسى أن تكون تلك القشور؟ لقد أسلفنا بعضها واليوم ننظر في شيء آخر هو الذي يسمى إصلاح الإدارة، أو كما يراد أن يقال: تلقين المصريين درسا جديدا في مدرسة الأعمال الإدارية.
آمنا وصدقنا أن القوم آمنوا وصدقوا الآن فقط إن الإدارة مختلفة معتلة، وإن المصريين مبعدون عن المناصب الإدارية فعلا وحكما؛ لأن الأكفاء الكثيرين ضرب بينهم وبين هذه المناصب بسور من حديد السياسة، ولأن الذين تقلدوها لا يملكون تقديما ولا تأخيرا، فلا رأي ولا سلطة ولا عمل إلا أن يتحركوا بالخطة الموضوعة كما تتحرك قطع الآلة الحديدية الصماء بقوة الدفع المسلط عليها، ولكن هل قال أحد من المصريين إننا نطلب إصلاح الإدارة بأي صورة من السياسة التي تريد أن تتبرع بهذا الإصلاح؟ وكيف تسمع السماء والأرض ضجة المصريين العالية بطلب شيء مخصوص محدود معين هو الاستقلال التام، ثم تريد تلك السياسة أن تتجاهل هذه الصورة، أو تقول إن أذن السماء والأرض مريضة بالصمم لأن أذنها هي لم تسمع صوت المصريين أو سمعته استقلالا، وفهمته حماية بعد أن كان احتلالا؟
لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لحاربت حربا شديدة في سبيل الوفاء بالوعود القديمة، ولأصرت على الرفض والإباء إذا فرض أن أحدا طلب منها أن تبقى في مصر لحظة واحدة بعد الآن. نعم، لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لفعلت ذلك ليقوم لها من حسن النية شفيع يخرجها من مصر طاهرة الذيل بعد أن أمضت ستا وثلاثين سنة تتكلف الإصلاح فلا يطاوعها، وتناديه فلا يجيبها، وتستلينه وتستعطفه فلا يلين لها ولا يعطف عليها، ولكن هذه السياسة ضرب من السياسة العامة، والسياسة لا قلب لها، فلا ترحم نفسها ولا ترحم أحدا.
نامعلوم صفحہ