إهداء الكتاب
المقدمة
القسم الأول
1 - وطنية الفلاح وآماله
2 - مصر وتركيا
3 - الحكم الذاتي
4 - روح الأمة
5 - القومية واللغة
6 - الرقي الاقتصادي
7 - الصناعة
نامعلوم صفحہ
8 - التجارة
9 - الاجتماع والصحة
10 - الإدارة
11 - سياسة التعليم
12 - الرأي العام
القسم الثاني
13 - نظرة إجمالية
14 - درس في الحكم الذاتي
15 - درس في القضاء
16 - درس في الإدارة
نامعلوم صفحہ
17 - دروس مصر لنفسها
18 - نظراؤنا في الحياة
خاتمة
إهداء الكتاب
المقدمة
القسم الأول
1 - وطنية الفلاح وآماله
2 - مصر وتركيا
3 - الحكم الذاتي
4 - روح الأمة
نامعلوم صفحہ
5 - القومية واللغة
6 - الرقي الاقتصادي
7 - الصناعة
8 - التجارة
9 - الاجتماع والصحة
10 - الإدارة
11 - سياسة التعليم
12 - الرأي العام
القسم الثاني
13 - نظرة إجمالية
نامعلوم صفحہ
14 - درس في الحكم الذاتي
15 - درس في القضاء
16 - درس في الإدارة
17 - دروس مصر لنفسها
18 - نظراؤنا في الحياة
خاتمة
مصر في ثلثي قرن
مصر في ثلثي قرن
بين الماضي والحاضر
تأليف
نامعلوم صفحہ
محمد مصطفى الههياوي
إهداء الكتاب
إلى روح «محمد فريد بك»
تهدى الأعمال الصالحة إلى الأرواح الطاهرة، فإن كان كتابي هذا عملا صالحا - وأرجو أن يكون كذلك - فهو هديتي إلى روحك الطاهر.
محمد مصطفى الههياوي
تمهيد
بقلم محمد مصطفى الههياوي «لا ترضى إنكلترا بتقدم مصر ورقيها»
الوزير الإنكليزي «بلمرستون»
الله القاهر فوق عباده، إن مسنا الضر فهو كاشفه، وإن مسنا الخير فهو المنعم به، والطاعة لله فيما أمر:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
نامعلوم صفحہ
وله التصديق فيما قال:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
هذه «مقالات» أنشرها متضامة بين هاتين الدفتين - وقد نشرها «وادي النيل» متفرقة - ولست أزعم أنها كل ما يؤدي به الكتاب المصري فرض البيان والإرشاد لأمته في وقت شدتها، وحين ثورة آمالها العظمى، ولكني أزعم أنها مرآة عسى أن تحملها اليد فلا تضعها، وتسرح فيها العين فلا تنتقل عنها إلا عند ختامها، أرجو أن نكون كذلك، لا لشيء، إلا أن بها صورة صغرى من صور الماضي، تنبئ النفس بعجره وبجره، وتصدم الأذن والعين بوضره ودفره. وإني لأعلم أنها صورة مؤلمة، ولكني كذلك أردت، وكذلك أريد، فإن الآلام تحيي من القلوب ما أماتته الغفلة.
ولعلنا ندرك أن الأمنية التي يطلبها كل مصري الآن لأمته ونفسه، لم تعد مطلوبة كما تطلب اللذات المعنوية، لعلنا لا نطلب الاستقلال التام لنتمتع بلذة الشعور المعنوي بأننا مستقلون، فقد عظم الأمر حتى تجاوز المعنويات فصارت الأمنية، أمنية الحياة، حياة المصريين في هذا العصر، وحياة أبنائهم إلى الأبد.
ولئن لم يبلغ الأمر تمامه لحقت على أصحابه كلمة الشقاء السرمد، اللهم إن أحببتنا فهيئ لنا المصير الذي لا نريده غيره، فإن سبق منا التفريط فيما نحب وكان جزاؤنا عندك أن يسبق منك القضاء بما نكره، فاقبضنا إليك، وضمنا إلى جوارك، ولكن الله أرحم من أن يخذل مجاهدا في حق مسلوب، والله مع الصابرين.
المقدمة
انظر في تاريخ مصر الحديث، منذ بدأت نهضتها التي وافقت أعظم نهضات الأمم نشأة وغاية؛ تجد في صفحاته وبين سطوره بثورا كبثور المرض الجلدي، ثم تبينها وقل بعد ذلك: أليست هي فقاقيع تملؤها جراثيم السياسة الغادرة؟
في الوقت الذي ثارت فيه فرنسا ثورتها الكبرى، فدكت صرح الظلم، ومزقت حجب الجهالة، وأطلعت شمس حريتها لتستقبل حياتها طيبة، في ذلك الوقت بعينه كان محمد علي يخطو بمصر خطوات الجبار الذي يرمي ببصره إلى غاية يأبى إلا أن يدركها، وقد لا تجد تناسبا بين أمة جاءها رجل واحد فوكزها لتصحو ثم ساقها لتتقدم، وأمة أخرى وقف الموت بروحها بين شفتيها فجمعت من اليأس قوة أطفأت نار الظلم ودقت عنقه.
قد لا تجد تناسبا بين الأمة المصرية يوم جاءها محمد علي حاكما مطلقا يوقظها من النوم ويرفعها من الضعة، والأمة الفرنسوية يوم ثارت بنفسها تذيب قيود الاستبداد وأغلاله بنار الحقد والضغينة، ولكن محمد علي كان زارعا جديدا، وكان طامعا في ملك عريض ومجد باذخ، فلا عجب أن يكون همه أن يبني الملك العظيم في شعب له من عظمة المجد التاريخي ما ليس لغيره.
وكأنما كان محمد علي يريد أن يكتب بيده صفحة تاريخه فلا يدع بين سطورها مكانا يكتب فيه: إن هذا الجندي الألباني الصغير لم يكن وارث الملوك، ولا ربيب العروش فكيف لا تصيبه الخيبة كما أصابت كثيرين غيره خرجوا من دهماء العامة يطمعون في العرش والتاج. كأنما كان هذا الجندي يريد أن تضيق سطور تاريخه عن أن تسع مثل هذه الوصمة، فكتب صفحته بيده، وأبى أن تغلبه الحوادث على أمره، فبلغ ما أراد على كره من الأيام.
نامعلوم صفحہ
إن مثل مصر بين الناس كمثل السفينة على غوارب البحر الهائج، تسلمها لجة إلى لجة، ولكنها قوية على متن البحر فلا تغرق، وكأنها الحبة الوسطى في عقد الممالك، كل أحد يريدها، وكل أحد يصرفه عنها طمع غيره فيها، ولم يكن محمد علي يجهل أن هذه مكانة بلاده عند الناس. وماذا كان يصنع إلا أن يعوذها بتعاويذ السياسة ويرقيها برقى الختل والخداع ليداوي الداء بالداء ويبرد الحديد بالحديد، وكان أخوف ما يخافه أن تتهيأ الفرصة للإنكليز فيظهروا ما أبطنوا ويعلنوا ما أضمروا، وكانت عقارب السياسة تدب بين فرنسا وإنكلترا في خفاء، فتحذر كلتاهما أن تغلبها الأخرى على مصر، ولكن فرنسا كانت بصيرة في الطمع معتدلة في الشراهة، فمال إليها محمد علي لأنها أخف ثقلا ولأن سياستها أقل سماجة، على أن إنكلترا مع هذا لم ترد عقارب سياستها إلى الوكر.
الرجل الذي أراد أن يبني الملك العريض على أساس من عزمه استطاع أن يرفع له صرح ملك يضرع النجم، وما كان ليتم له ذلك إلا لأنه اختار لبنائه أرضا يستقر عليها البناء، ولولا أنه كان كمثل الزارع لما وجب أن يقال إنه اختار أخصب تربة وأصفى جو لزرعه فأصبح بهيجا، ففي ربع قرن جعل اليابس رطبا، والقحل خصبا، والجهل علما، والفقر غنى، والخراب عمارا، والليل نهارا. وفي ربع قرن أحيا الصناعة، ونشر التجارة، وأنشأ الأسطول، وسد الثغور، وحشد الجيوش، وكان يعتمد على شعب مرن في الخير، بصير بما ينفع، متطلع للحياة الطيبة والمجد العطر، وكان له من هذا الشعب ومن الوطن المختص بمواهب الثروة ومزايا الغنى قوة حسية ومعنوية تغنيه عن الناس وتلقي في روعه أن الناس مفتقرون إليه أو حاقدون عليه أو طامعون فيه، ولم تستعص على الجندي العصامي أسباب العظمة في هذا الوطن العظيم، فكل شيء هيئ سريعا كأنه شذوذ في سنة تكوين الأمم، أو كأنه ظاهرة غريبة بين ظواهر الاجتماع البشري، ولم يسترخ الزمن بمحمد علي طويلا حتى قام يفتح الأقطار بجيشه المصري، وأسطوله المصري، وماله المصري، وذخائره المصرية، وقد استفحل أمره وعظم شأنه، فخافته الدول وهابته الممالك، وقذف الله به الرعب في قلب أوربا القوية بجيوشها وأساطيلها، الغنية بأموالها وصناعتها وتجارتها، المالكة زمام النصر بالعلم المنشور والفضل المأثور.
هذا إجمال تاريخ النهضة المصرية أيام محمد علي الجندي الألباني الصغير، وقد ذكرنا أنها وافقت النهضة الفرنسوية، والذي ينظر في تاريخ النهضتين يوم ابتدأتا لا يسعه إلا أن يحكم أن نهضة مصر كانت أوفر نشاطا وأوسع خطوة؛ إذ لم تكن تتعثر في طريقها بما كانت تتعثر به نهضة فرنسا وهي طفلة، فكان يجب أن تؤدي مقدمة النهضة المصرية إلى نتيجة كالتي أدت إليها مقدمة النهضة الفرنسوية إن لم تكن أعظم منها، فلماذا لم يكن ذلك؟
يوم طلع فجر النهضة المصرية فرسم نوره على أفق العالم خطا أبيض يجلو سعادة مصر وأبنائها، كانت أفعى السياسة تملأ شدقيها سما، وكانت ترصد الغفلات فتنفث من هذا السم قطرات تصيب جديد حظنا فيصدأ، فكم مرة قتلتنا هذه الأفعى، وكم مرة قعدت لنا منذ القدم مقاعد الشر لتقتلنا!
ولكن الجندي الألباني كان يقظا، غير أن أفعى السياسة مكرت بغيره فآذته بهذا المكر، ويذكر التاريخ من أمثلة ذلك قصة إحراق الأسطول المصري التي لم تزل مكتوبة في تاريخ السياسة الروسية بقلم العار، وقد كان يتاح لروسيا أن تنال فخر إحراقه بقوتها وإرادتها معا، لو أنها كانت غير مسخرة للسياسة التي وصفت بالغدر في أول سطر من تاريخ العالم السياسي، غير أن جندينا الصغير كان في أمته أعظم من أصحاب العروش وحملة التيجان.
مضى لنا منذ تولي محمد علي ولاية مصر نحو قرن وربع قرن، فلنقسم هذا الزمن ثلاثة عهود: الأول عهد محمد علي، الثاني عهد خلفائه إلى سنة 1882، الثالث عهد الاحتلال الإنكليزي من سنة 1882 إلى اليوم. وقد يعتقد الناس أننا قطعنا ما قطعنا من العهد الأخير برقي يناسب حركة العالم في التقدم العصري، وتقتضيه طبيعة روح الحياة إبان شباب الإنسانية، وإذا كان الحق خلاف ذلك فإن هذا الحق لا يثبت عند من يجهلونه ومن خدعتهم أضاليل السياسة إلا بعنف وعناء؛ فإن العقل البشري لا يكاد يصدق أن أمة لزمت الجمود على حال واحدة فلم يطرأ عليها جديد من أسباب الحياة غير ما كان لها منذ قرن وربع قرن اللهم إلا ما بلغته بنفسها وهي تتحرك تحت الأثقال وتعاني ما أصابها من القيود والأغلال، فنحن لذلك نعالج عنف الإقناع وننهض بعناء الإثبات بالبرهان القاطع، حتى إذا سطع نور الحق لم نعد نشعر بعنف ولا نجد عناء.
أول ما تدعيه السياسة الإنكليزية أنها أفاضت على مصر حياة حسية لم تكن تحلم بها من قبل، فإذا سئلت أي شيء هي هذه الحياة الحسية؟ وأين مجراها من عروق الأمة؟ قالت هذه السياسة مفتخرة: ليس بعد الزراعة وبهجتها ونظام الري ودقته من حياة. أما مجراها من عروق الأمة فبين أجساد الفلاحين الذين يسبحون بحمد المصلحين بكرة وأصيلا!!
هذه هي الدعوى التي ترى السياسة أنها في مكان التصديق من النفوس لأنها تزعم أن الحس شاهد عليها، ولكن السياسة أخطأت حين ظنت أن حقائق التاريخ الحديث مجهولة، أو أنها تملك أن تمحوها من الصدور إذا ملكت أن تمحوها من السطور، وستظل مخطئة هذا الخطأ إذا ظلت ظانة ذلك الظن.
إن الزراعة في بهجتها منذ أحياها محمد علي، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك إلا تاريخه الحربي لكان دليلا قاطعا، فالرجل حارب أقوى الدول بجيوش كثيفة، وارتحل عن بلاده إلى الأقطار البعيدة بذخائر وأساطيل، ولم يكن يعتمد على غير بلاده، فهل كان يتخذ من الحصى نقودا، ومن التراب خبزا وماء؟ أم ماذا كان يفعل لجيوشه في الحرب الطويلة إذا لم تكن زراعته نضيرة وغلاته وفيرة؟ ثم كيف كانت نضرة الزرع ووفرة الغلات إذا لم تكن الزراعة في محل العناية العظمى علما وعملا؟
ينهض هذا الدليل إذا لم يكن هناك نص صريح في أن ما نراه اليوم هو ما فعله محمد علي، وعندنا مصادر كثيرة مستفيضة بالنصوص التاريخية، ولكن الدليل الذي لا يستطيع الخصم إنكاره ما كان قائما من ناحيته أو ما كان له حظ في إقامته، ونحن نجد هذا الدليل في تقرير «لجنة التجارة والصناعة»، وليست قيمته في أن اللجنة حجة ثقة عند الحكومة لأنها هي التي ألفتها، بل في أن بين أعضاء اللجنة ثلاثة من كبار الإنكليز هم المستر «سدني ويلز» مدير إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري، والمستر «كريج» الذي كان مراقبا لقلم الإحصاء العام بوزارة المالية، والمستر «ف. مردوخ» من أرباب الصناعات بمدينة «المنصورة».
نامعلوم صفحہ
والدليل الذي نشير إليه هو قول اللجنة في الفصل الأول من الباب الثاني من تقريرها: «وكان همه الأكبر - تريد محمد علي - متجها إلى ترقية الزراعة والصناعة، وتحقيقا لهذا الغرض السامي رأى أن يستعين بمدنية أرقى من مدنية بلاده، كما أنه مهد للشعب سبيل الحصول على حاجته من التعليم، وبث فيه الرغبة في طلب العلم ووضع كذلك المشروع العظيم لأعمال الري والترع والقناطر وبدأ في تنفيذه فتكللت أعماله بالنجاح».
1
لم يحدث في العهد منذ سنة 1882 شيء جديد للزراعة المصرية، لم تزد أنواعها، ولم تتغير أساليبها، اللهم إلا شيء واحد جديد، هو نقص متوسط المحصول وكثرة الآفات، وإرهاق الفلاح بالمغارم المتنوعة.
ولم يحدث شيء جديد للري، اللهم إلا نظام يهلك الزرع ظمأ، ويملأ قلب الفلاح كمدا وغيظا، كلما وقف أمام زرعه فرآه يموت بنار القيظ الشديد، ونار الظمأ الشديد، والماء حرام عليه وهو على قيد شبر منه.
لم نعرف أثرا لهذا العهد في احتفار ترعة أو بناء خليج، ولسنا من يكتم الحق إذا قيل إن «خزان أسوان» أثر خالد للاحتلال الإنكليزي، ولكن لا ينبغي لأحد أن يكتم الحق أيضا إذا قلنا إن هذا الأثر العظيم قام حدا فاصلا بين مصر وسودانها فأصبح محبس الماء عن الوادي، فلا يرسله إلا بقدر معلوم، ولا يجري هذا القدر إلا بمشيئة مطلقة، تعطي وتمنع، لا بخلا ولا كرما، بل تحكما وإكراها على الإذعان.
كل الأنهار والترع والجسور والقناطر والدساكر كانت قبل هذا العهد، وفلاح مصر اليوم هو فلاحها منذ القدم، لم يتعلم جديدا غير أسلوبه الموروث، ولم يتناول بذرا جديدا غير بذره المعروف، والأرض هي الأرض، والهواء هو الهواء، والشمس هي الشمس، وفصول السنة لم تتغير فهي التي تمر بنا منذ خلق الله الزمان، فماذا حدث؟ أين الحياة الزائدة؟ أو أين القدر الزائد في الحياة؟
إذا لم تبلغ مصر حظها الحسي الذي بلغته الآن، لوجب ألا تكون من الأرض التي يعمرها البشر، على أنها لم تبلغ حظها من الحياة التي ارتقى إليها العالم بخطواته الواسعة؛ لأنها قيدت بينا كان العالم طليقا! ولكن موطن النظر هو هل كانت تبقى جامدة لو أنها كانت طليقة؟ هذا الذي نريد أن نعرفه الآن.
أنشأ محمد علي وخلفاؤه المصانع لكل شيء، فبقيت المصانع إلى أن طغى على مصر سيل العهد الأخير. وأنشأوا القلاع ليذودوا الطارق المغير عن الثغور والسواحل، فبقيت قلاعهم إلى أن دخل على مصر ليل العهد الأخير. وأنشأوا المدارس لكل علم وفن، فبقيت مدارسهم إلى أن نشبت بمصر أظافر العهد الأخير. فماذا أصاب مصر في هذا العهد الأخير؟
هدمت المصانع فأصبحت مصر عالة على غيرها تستجديه أحقر الحاجات، ودرست الصناعات والفنون فأطبقت على الأمة جهالتها، وهدمت القلاع، وأبيحت السواحل والثغور، فصارت البلاد كالدار المهجورة يدوسها كل طارق، أو كالحمى المباح ينتهكه كل راع، وهدم بعض المدارس وبقي منها ما تتم الخدعة ببقائه بعد أن مسخ فأصبح صورة جوفاء.
وهيهات أن تفتخر علينا يد الإصلاح بشيء، اللهم إلا سياسة تشهد بالعجز قبل أن تشهد بسوء النية، ويا ويل العلم والإصلاح والتمدين ممن يعالجها ستا وثلاثين سنة ثم يقول بنفسه في نفسه إن الدواء كان داء، ومن العجب أن يتمرن الطبيب ستا وثلاثين سنة فيختمها بالخيبة، ثم يطلب أن يتمرن مدة مثلها!! ويا رحمتا لمريض عملت مشارط طبيبه المتمرن ومقاريضه في جسمه كل هذه المدة لا لشيء إلا أن الطبيب يتمرن!
نامعلوم صفحہ
أما المدارس العالية، فالحمد لله، لا تستطيع السياسة الإنكليزية أن تدعي أنها أنشأت منها واحدة في عهد الاحتلال، فكلها قبله. على أنها تستطيع أن تقول إنها ألغت بعضها، وإنها جاهدت لتقضي على «جامعة الأمة»، ولا ندري فلعل ذلك كان في سبيل التعليم أيضا!!
إلى هنا يسهل على القارئ أن يعرف العهد الأول والعهد الثالث من ثلاثة العهود التي مضت منذ تم الأمر في مصر لمحمد علي، ومتى عرفهما بما وصفنا سهل عليه أن يفاضل بينهما ليرى أيهما يفضل الآخر، وسهل عليه بعد ذلك أن يبصر بعينه ويلمس بيده حقيقة هائلة تنطوي في أحرف هذا السؤال: هل كنا نكون في مثل حالنا الحاضرة إذا دامت بنا الحياة على نحو ما كان لعهد محمد علي وعباس الأول وسعيد وإبراهيم وإسماعيل؟ وبعبارة أخرى: هل تقدمنا أو تأخرنا؟
يجري قلم السياسة في كتابة التاريخ أحيانا، ولكن للسياسة قلما غير القلم الذي يكتب الحقائق الصريحة ويمحص مسائل التاريخ فمثل القلم الذي حملته يد اللورد كرومر حين وضع كتابه «مصر الحديثة» لا يكون مقبول الشهادة أمام العدل التاريخي؛ لأنه مغموس في مداد السياسة، وقد لا يجد الكاتب السياسي غضاضة إذا حمل هذا القلم وهاجم به الحقائق، بل قد لا يجد عيبا في ذلك وإن حمله بيد ترعشها الشيخوخة كيد اللورد كرومر يوم أملت عليه أضغانه السياسية ذلك الكتاب.
وليس كثيرا في لغة السياسة أن يقعد الرجل إلى مسألة يبحثها وهو يعرف الحق في أمرها، ولا عجيبا في أخلاق السياسة أن يجلس صاحبها جلسة ربما كانت طويلة، ليستخرج العلل والأسباب كما يهوى لا كما تهوى الحقيقة.
هكذا كان اللورد كرومر في كتابه، فقد جلس يبحث أسباب احتلال الإنكليز مصر، وجعل يحاول إقناع الناس بأن الاحتلال كان خطبا جسيما على إنكلترا تحملته بشمم وشرف وإباء، لا لشيء إلا أن تنقذ مصر وتسعدها! فكانت في ذلك كالأب الرحيم، يتعب ليريح أبناءه.
ولم يقنع الرجل بهذا التضليل فجعل مسألة الاحتلال تبعة كانت محل النظر بين المحافظين والأحرار، وكان كل فريق يلقيها على الآخر ويترفع عن أن تنسب إليه، ثم وقف موقف الحكم بين الخصمين فقال في الفصل التاسع من كتابه: «وسيظهر من الفصول القادمة من هذا الكتاب أن جل التبعة في وقوع الاحتلال راجع إلى ما فعلت حكومة المستر غلادستون لا إلى تدابير الحكومة التي رأسها اللورد سلاسبوري قبله».
ولا ريب أن من يلمون أقل إلمام بتوفق السياسة الإنكليزية أمام المسألة المصرية في كل أطوارها، يعلمون كيف يقع التناقض بين زعم الشعور بالتبعة ومحاولة الفرار منها، وبين النيات التي استكنت في صدر السياسة الإنكليزية حتى ظهرت يوم بدأت إنكلترا وفرنسا تتحرشان بالخديو إسماعيل.
غير أن شر التناقض ما قصد به إخفاء الحقائق بتشويه سمعة الرجال تنفيرا من النظر في سيرتهم؛ حتى لا يظهر فضل أيامهم على أيام سواهم، وهذا الذي يجب الالتفات إليه خاصة، فقد جهد اللورد كرومر كما جهد غيره في النيل من عباس باشا الأول وسعيد وإسماعيل، فألقى عليهم صورة الوحوش، ومن ذا الذي يظن أن للوحش عقلا حتى ينتظر أن يرى له مأثرة في الإصلاح؟ ولكن الحق لا يخفى، وقد قلنا قبل إن السياسة لا تستطيع أن تمحو الحقائق من الصدور، إذا استطاعت أن تمحوها من السطور، وهذه أمثلة من تناقض الحق والسياسة.
قال اللورد كرومر في عباس باشا الأول: «أما عباس فكان عاتيا شرقيا من أردأ الأنواع، تروى حكايات لا تعد عن قسوته التي تنفر منها النفوس ولم يكن له مع هذه السيئات حسنة مثل أسلافه، بل إن صفاته كانت قبيحة من جميع الوجوه».
ويقول التاريخ الصحيح إن من أعمال عباس باشا الأول على قصر عهده أنه «أرسل بعوثا علمية إلى أوربا عدد طلبتها 48 طالبا أنفق عليهم 82933 جنيه»، فلعل اللورد كرومر يعد هذا العمل إحدى سيئاته التي لم يكن له معها حسنة واحدة!! ولعله لم ينس حين كتب ما كتب أن عهده في مصر كان عهد قضاء على البعوث العلمية!.
نامعلوم صفحہ
وقال هذا اللورد في سعيد باشا: «إنه كان أقل غلظة وتوحشا من سلفه، ولكنه أتى أعمالا في منتهى القسوة والشناعة».
وقال أيضا إن المستر ولن قنصل إنكلترا في القاهرة كتب إلى المستر سينيور سنة 1855: «إن سعيد باشا طائش متهور مجنون فقد صوابه من مداهنة الأجانب المحيطين به».
وتقول لجنة التجارة والصناعة في تقريرها: «وقد جنى أعقابه - تريد محمد علي - ثمار أعماله العظيمة ولم يألوا جهدا في أن يحذوا حذوه ويقتفوا أثره غير مدخرين وسعا في أعمال التحسين والتكميل، وكان لسعيد باشا وإسماعيل باشا قصب السبق في هذا الميدان».
أما إسماعيل باشا فلا يحتاج أبناء الجيل الحاضر إلى تكذيب ما تتقوله عليه السياسة؛ فإنهم لم يزالوا مغمورين بآثاره يرونها في كل شيء، وتقابلهم في كل مكان، فكل شيء في المدن والأقاليم وطرقها وشوارعها ناطق بهذه الآثار، ولا يظن أحد أن سليلا من سلالة هؤلاء الرجال المصلحين يسلم من تلك اللدغات إذا وقف في طريق الأفعى السياسية.
ولعلنا في حاجة إلى أمر لا بد لنا أن نذكره قبل ختام هذه الكلمة؛ فإنا نحسب أن الأذهان غير ملتفتة إليه:
يسمع المصريون أحيانا ذكر أسماء رجال النهضة الحديثة من مصريين وأوربيين، أما رجالنا وشباننا فإنهم يعرفون تلك الأسماء، وأما ناشئتنا الحديثة فهي لا تعرفها؛ لأنها لم تعد تسمع ذكرها بعد أن كانت من المدارس في مكان الأساتذة، ومن الألسنة في محل التمجيد.
رجالنا يعرفون أمثال رفاعة، ومصطفى مختار، ومظهر، وعلي مبارك باشا، وعبد الله فكري، وبهجت باشا، ومحمود الفلكي باشا وإسماعيل الفلكي باشا من العلماء والمهندسين، ومحمد الدري باشا وعلي إبراهيم باشا وعيسى حمدي باشا من الأطباء، والقواد الذين فتحوا السودان قبل أن يفتحه الجيش المصري الفتح الأخير، ثم ينسب ذلك إلى اللورد كتشنر ويكون به قائدا من عظماء الرجال يعرف رجالنا هؤلاء وإخوانهم الكثيرين بآثارهم الماثلة فيما تركوا من الأعمال والمؤلفات والمترجمات، ويعرفهم شباننا بأسمائهم فقط؛ لأن إرادة خاصة طوت آثارهم العلمية، وقطعت صلة النسب بين أسمائهم وآثارهم العملية، ولا تعرفهم ناشئتنا لأن هذه الإرادة الخاصة أزالت ذكرهم من كل شيء أمام الناشئة.
ويعرف رجالنا وشباننا غير هؤلاء العلماء الوطنيين، العلماء الأوربيين من أبناء فرنسا وإيطاليا وسواهما، أمثال كلوت بك وكياني ولينان موجل وهامنت ولمبير ... إلخ إلخ.
فقل لمن يعرفون هؤلاء وهؤلاء، ولم يذكرونهم بأثر قائم أو حديث مروي: هل رأت مصر أمثالهم، مصريين أو غير مصريين أثناء العهد الذي طغى عليها ستا وثلاثين سنة؟ ثم سل نفسك بعد أن تسمع الجواب، وسل كل إنسان: لماذا لم تر مصر أمثالهم؟ ألأن العلم رفع من الأرض؟ أم لأن الدنيا خلت من العلماء؟ أم لا لهذا ولا لذاك، بل لشيء آخر؟!
هل يقدر أن ترى مصر أمثال هؤلاء العلماء؟ نعم ذلك مقدور إذا عاد جوها كما كان صالحا لهم، ومن يعيد صلاح الجو غير أبنائها؟!
نامعلوم صفحہ
اللهم إن الأمل كل الحياة، وحوادث الأيام غذاء الأمل ولا أمل إلا بالثقة، ولا ثقة إلا أن يغلب الحذر سلامة النية، أما الحذر فهو هنا، هنا تحت كل حرف من حروف هذا البيت:
أسأت مذ أحسنت ظني بكم
والحذر سوء الظن بالناس
هوامش
القسم الأول
الفصل الأول
وطنية الفلاح وآماله
«فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا، ولا يريدون الانتفاع بنا» (المستر أرثرهور)
نكتب هذه المقالات مستمدين حقائقها من الكتاب الذي رقمته يد الزمن خلال ثلث قرن اجتازته مصر ووقفت اليوم على طرفه، تريد أن تستأنف عهدا غيره، وتغلق بابه لتفتح لها باب حياة خير من حياتها فيه.
وإذ كانت الحجة القوية لخصوم مصر السياسيين أن المصري قضى ذلك العهد راضيا، بل مقدسا للذكر مسبحا بالحمد، لا يجد سبيلا للشكر غير الاعتراف بالعجز عن الشكر، وكانوا لا يرون هذا المصري الراضي المطمئن إلا في شخص الفلاح؛ حسن أن نبدأ الكلام في حال الفلاح وآماله، وشعوره ووجدانه، بل حديثه لنفسه وهواجس الرجاء الذي يناجي به قلبه وربه في خلوته وساعة ينبطح على أرض الحقل، وحين يتصل بصره بالسماء، فيرى جمال الجو ونعمة النيل وفيض الخير الدافق، فيقول في نجواه: يا رب لماذا لا يكون لي - أنا المصري - هذا الوطن الجميل خالصا؟
نامعلوم صفحہ
قال المستر «أرثر هور» مكاتب جريدة «التيمس» في الشرق الأوسط في أولى مقالاته التي كتبها عن «الاضطراب في مصر»: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
كذلك قال هذا الكاتب، وفي قوله معنى يدل عليه مفهوم عبارته، فكأنه أراد أن يقول: إن العصيان لم يكن منتظرا لأنهم فوجئوا به؛ أي إن المظنون بل المعتقد كان خلافه، وقد كان هذا العصيان عاما، وكان مفاجأة، فلا بد أن يكون الشعور بأسبابه الطبيعية عاما أيضا، ولا بد أن يكون الذين فوجئوا به على خطأ في جهل أسبابه أو تجاهلها؛ إذن: لم يكن الفلاح الذي كان شديدا في هذا العصيان راضيا ولا مطمئنا، ولم يكن يجد من نعمة التمتع بحرية الوطن بديلا.
بل يدل المفهوم على معنى أكبر من هذا المعنى، ففي العبارة ما ظهر من أن المصريين لا يحبون معارضيهم السياسيين، ولا يريدون الانتفاع بهم فكأن عدم الحب كان خفيا على هؤلاء المعارضين من قبل، وكأنهم يريدون أن يقولوا الآن: إن ما زعمناه من أن الفلاح حامد شاكر، وأن نور التقديس يسطع في جوانب نفسه كان زعما باطلا.
ولا نظن المستر «أرثر هور» يرى بعد هذا أن يكون الحب ضربا من ضروب الطاعة التي تقضي بها محكمة أو مجلس، أما إرادة عدم الانتفاع فإن لها سببا تراه كل عين في الصورة التي تشهد بها حالة مصر العلمية والتجارية والصناعية والاجتماعية والأدبية؛ فإن لهذه الصورة لسانا ينطق فصيحا بشرح قيمة الانتفاع في ثلث قرن كامل.
وقد لا نعدم معترضا يقول: إن هذا الكلام نظري، أو أثر حالة محدودة جاءت في الزمن الأخير اضطرارا أو خطأ بغير قصد. إذن نرجع إلى الحقائق في حينها البعيد والقريب.
استقبلت مصر أياما قضى بها الزمن منذ سنة 1882، ولم تكد تجتاز حوادث تلك السنة والسنتين قبلها حتى بسطت يدها للعمل، ورفعت صوتها بالحجة، وما كانت يدها المبسوطة في معاهد المدن بأسبق حركة منها في حقول الريف، ولا كان صوتها المرفوع في قصور العواصم بأعلى منه في أكواخ القرى، وكم بين هذا الزمن الذي نحن فيه الآن وبين الوقت الذي وقعت فيه حادثة «الجيش» يوم استعرضه سمو الخديو عباس في الحدود؟ لقد كان ذلك الوقت في أول عهدنا بما قضي به علينا، فليسألوا الحق: لماذا جر كبراء المصريين مركبة الخديو عباس يومئذ؟ ولماذا أغدق عليه البريد والبرق رسائل الشكر من أرجاء القرى وأعماق الريف؟ أما جواب الحق فهو أن وطنية الفلاح العريقة أرته موطن الشكر من الوجوب فأعرب عن شكره برسائله، وأن وطنية المتحضرين الراسخة أرتهم موطن الحمد من اللزوم، فجروا مركبة أميرهم الشاب.
كان الفلاح يخرج من داره إلى حقله وفي يده حبل ماشيته، فيلذ له أن يقف وتقف الماشية وراءه، إذا اتفق أن رأى قارئا من أبناء القرية يطوي صحيفة في يده، وما كان يقف ليسأله ما بها من الأخبار لأول مرة، بل ليسأله: أية الصحف هي أمن الصحف الوطنية؟ فإذا علم أنها ضالته استحلف صاحبه أن يقرأ ليسمعه آية الإخلاص لمصر، غير قانع بالسؤال عن أخبارها، وإذ ذاك يتهافت الفلاحون فيقف قارءوهم موقف المعلم، ولكنه لا يلقي درسا، بل يتذاكر وإياهم سورة الوطنية المشتركة وآية الإخلاص للوطن.
يتناول وصف الفلاحة أعيان البلاد ووجهاءها وعمدها، أولئك الذين يشتركون في صحف السوء بما يشبه الأمر المقضي به، غير أن مكاتب البريد في أرجاء القطر تعلم كيف كانوا يرفضون هذه الصحف كلما وقع حادث يهيج شعور الوطنية، بينما كانت تلك الصحف لا تخجل أن تؤلمهم بقحة، وتجرح شعورهم بجرأة.
وفي الحادثة المحزنة التي حملت وزرها سنة 1906، تجلت وطنية الفلاح المصري مشوبة بالكمد، ممزوجة بالدمع الذي جرى مجرى الدم المراق، فكانت القرى كالمرجل تغلي بنار الوطنية، وكان ضوء هذه النار يسطع في الصحف جمعاء، وكان بريقها يلمع على أسلاك البرق، وضوء هذه الوطنية هو الذي نفذ إلى أقطار الغرب كافة فبدد ما نسجت يد التضليل، واستقامت به الحقيقة التي حرفت عن موضعها .
ولم تكد شمس الوطنية تتوارى بحجابها بين جوانح الفلاح المصري، حتى أشرقت يوم النكبة بفقد المغفور له مصطفى كامل، ولعل المأتم الذي أقامته الأمة كلها حزنا عليه أنطق دليل على أن المصري الفلاح وغير الفلاح لا يرضى غير مصره، ولا يحب سوى أمته.
نامعلوم صفحہ
لم يكن مصطفى نبيا أمر الله بطاعته، ولا كان ملكا يستوجب الطاعة على العباد بالجبروت المطلق، ولا كان ذا جاه يرهب الناس بجاهه، ولا مال يستهوي النفوس بماله، ولكن الأمة أطاعته وأحبته، وسمعت منه ووثقت به، على حين أن بينها الأمراء ممن لم يبلغ إمارتهم، وأصحاب النفوذ ممن لم تكن له سطوتهم، وخزنة الأموال ممن لم تكن له أموالهم، ولم يكن مصطفى ساحرا ولا ماكرا، فكيف وجد النصر والتأييد في القرى والمدن؟ وكيف هتف الفلاح وابنه وامرأته باسمه وراء المحراث، وفي طريق القرية وعلى سطح الدار؟ كان ذلك وهو حي بيننا، لأنه نفذ إلى مقر الوطنية في القلوب، ولأنه هتف باسم مصر وهو أحب الأسماء إلينا وأغلاها عندنا، فهتفنا باسمه في كل مكان، أما جنازته يوم مات فقد شيعها في القاهرة آلاف الفلاحين الذين جاءوا من أبعد قرى الريف في شمال القطر وجنوبه، بل كانوا يرون أن حرمته عليهم وحقهم في تشييعه، يقضيان أن يطلبوا بألسنة البرق تأخير الجنازة حتى يدركوها، وأما مأتمه فقد كان مأتم الأمة، فلا مدينة ولا قرية إلا كانت حزينة مكتئبة، ولا دار ولا معبد إلا وجبت فيه التعزية والبكاء، وعقدت مجالس الترحم والدعاء، وقد لبثت القرى والمدن في مأتمه أربعين يوما.
ليس صعبا أن يراجع الناس صحف مصر في عشر سنوات بين عام 1904 و1912؛ فإنهم إذا فعلوا رأوا الفلاح المصري ظاهرا أبدا بين جماهير المحتجين على ما وقع خلال هذه السنوات، وليسأل المنصفون: كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور بالوطنية أيام حادثة «الكاملين» وما تلاها من سوق الوطنيين إلى المحاكم كما يساق القتلة السافكون، وجرمهم هو جرمهم الذي لا يزالون يقترفونه، بل الذي تقترفه الأمة كلها اليوم، هو الألسنة الوطنية والأقلام الوطنية ، ثم ليسألوا كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور وطنية يوم عرضت مسألة «القناة» ووقف نواب الأمة لها موقفهم التاريخي المشهود.
أكان الفلاح خلال هذه الأيام كلها راضيا أم غاضبا؟ نعم كان راضيا، ولكنه رضا المؤمن يقبل القدر ويسأل الله اللطف فيه.
كابد الفلاح المصري من نظام الري ما أصابه بالنكبة في خصوبة الأرض، وجودة الزرع، ولم ينقطع عهد الفلاح بما كان لأرضه من الخصوبة، ولزرعه من الجودة، قبل الزمن الذي جاء فيه هذا النظام، فالفلاح يعلم اليوم أنه أصيب في المقتل من حياته الاقتصادية، بعلم أن بطن الأرض امتلأ ماء ففسد، وأن متوسط محصول الفدان من القطن أصبح ثلاثة قناطير، وقد كان في أيامه الماضية ستة قناطير، ويعلم أن الأرض الواسعة لم تزل بورا في وطنه وهو في حاجة إليها، ويعلم أن الآفات سلطت على زرعه لا نقمة من الله بل أثرا لازما لفساد الطرق التي اتخذت لتوزيع الماء.
يعلم الفلاح أن زينة الظاهر تنبئ بخبر مكذوب، وأن وراء هذا الظاهر باطنا هو الذي يعرفه؛ لأنه هو الذي يشقى به، ويصلى ناره، على أن هذا الفلاح أدرك أن العلم حق مباح له منذ كان المغفور له محمد علي باشا يأخذ ابنه ليعلمه، ثم تلفت حوله فإذا هو محروم من العلم؛ لأن سياسة التعليم قضت أنه ليس أهلا للإنسانية التي يتخذ العلم زينة لها.
هذا بعض ما كابده الفلاح فيما قبل السنوات الخمس الأخيرة، وهذه وطنيته وشعوره، فإن كان بعد ذلك راضيا محبا مغرما، كانت مسألة فيها نظر!
الفصل الثاني
مصر وتركيا
«ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك» (المستر أرثر هور)
كلما تحرك المصريون في سبيل آمالهم، استطابت الصحف واستطاب بعض الكتاب والساسة أن يقولوا: إن هذه الحركات ليست إلا حنينا لتركيا، وإن هذا الحنين ليس إلا فورة المنزع الديني! ولكن الكلام عن آمال المصريين في حركاتهم، لم يكن خاصا بصحف إنكلترا وكتابها وساستها، وإنما كان خاصا بهم أن يتجانفوا الحق في وصفها.
نامعلوم صفحہ
إن مصر الإسلامية تعلم من حكمة الإسلام وعدله ما يجمع لها الاستقلال المدني على أتم وجوهه، والتبعية الروحية على أتم وجوهها أيضا، وقد أنصف المستر «أرثر هور» مراسل التيمس في الشرق الأوسط الحقيقة والتاريخ إذ قال: «ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك».
غير أن المسألة تحتاج إلى بيان تنحسر به شبهة الباطل عن وجه الحق، فالذين يعرفون مصر وشعبها، والذين وقفوا على تاريخ النهضة المصرية منذ كانت لمصر قضية في تاريخ السياسة، يشهدون أن الشعب المصري لم يكن يأبى سيادة الأتراك المدنية ليقبل أية سيادة أخرى، ولكنه كان يأباها ليكون سيد نفسه وصاحب أمره، وهكذا كان الحكم الذي شرع الله له، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعدل والتقوى، وهيهات أن يرضى شعب لنفسه ما يرضى للسلعة تنتقل من يد إلى يد بثمن أو بغير ثمن، فكيف بالشعب المصري وهو يحفظ قول «ابن الخطاب» حين اقتص لأحد المصريين من ولد «لعمرو بن العاص»: «متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
إذا كان المستر «أرثر هور» لا يرى غير أن يشير إلى أن مصر تأبى السيادة التركية، فإن مصر نفسها تجهر بأنها تأبى كل سيادة لأحد، بل أولى بهذا الإباء أن يكون ضرورة بديهية؛ لأن عروة العواطف القوية لم تصرفه عن تركيا، فمن البديهي ألا ينصرف عن غيرها لا سيما إذا انضم إليه ضعف العواطف أو عدمها كما يشهد المستر «أرثر هور» نفسه بقوله: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
وقد لا يقتنع المعارضون إلا ببرهان أكثر وضوحا وأوسع بيانا. فإن كانوا كذلك قلنا: إن الإسلام يأبى أن يعيش محلول العروة، غير مستند إلى ركن ليس أرفع منه إلا الله، ولا يد فوقه إلا يد الله، وقد علم المسلمون في مصر وغيرها هذا الحكم من شريعتهم ، وهم ينظرون اليوم كما نظروا منذ سبعة قرون فيجدون بقية هذا الركن في تركيا، ولا منافاة بين أن يجتمع الإخلاص للدين في حدوده المشروعة، والإخلاص للوطن في حدوده القومية، فالمصريون كغيرهم يريدون أن تبقى للمسلمين خلافة لا يتوسط بينها وبين الله شيء غير عنصر الإسلام، لتتم الولاية الروحية، وتستقيم عباداتهم وأوامر دينهم فيما بينهم وبين الله، ويريدون ألا تكون لأحد سيادة مدنية عليهم؛ ليشعروا بنعمة الحرية، وهي أعظم نعمة في الحياة.
نعم، يقول المصريون: نحن في عمل الدنيا المحض أولياء أنفسنا، وفي عمل الآخرة المحض تابعون إلى ولاية المسلمين الروحية العامة، فنحن نريد أن تكون هذه الولاية، وأن تبقى مصونة عن أن تكون فوقها يد غير يد الله، وليس لمن له بصيرة أن يتأول هذا المعنى ليصرفه عن موضعه إلى الشحناء الدينية، فإن المثل قائم في المسيحية نفسها، فهناك ديوان الفاتيكان يأبى إلا أن يكون مستقلا، ويأبى الكاثوليكيون في كل بقاع الأرض إلا أن تكون له السيادة الروحية عليهم، وأن يكون محفوظ الكيان قوي السلطان، فهل قال أحد إن هذه العروة الوثيقة التي تربط أهل الكثلكة بالبابوية نزعة منهم إلى الشحناء الدينية أو تفريط في سؤددهم القومي؟!
على أن السيادة التركية المدنية التي ألح عليها الزمن وجعل ينقصها من أطرافها حتى كانت في آخر العهد بها كالخيط دقة وكالطيف مثالا، لم تكن قليلة الأثر في مدافعة الأيام، فقد كانت على ما بها من ضعف ووهن عقبة في سبيل الحالة الجديدة،
1
وكانت النتيجة الضرورية لانقطاع ذلك الخيط الدقيق - لو أنه انقطع قبل الحرب الكبرى - أن تقف مصر وحدها مجاهدة لنفسها حيث لا تعينها قوة المشاكلة في الشعوب الأخرى، ولا ترفع يدها بحجة المبادئ والوعود التي خلقتها الحرب، فبقاء تلك السيادة إلى الوقت الذي خاضت فيه تركيا غمار الحرب أفاد القومية المصرية فائدة لا يختص بها مسلم دون قبطي.
في مصر أمة تعرف أنها كانت سيدة، وتعرف أن صاحب السيادة يأنف أن يكون مسودا، وفي مصر المسلمون يأخذون بأيدي إخوانهم في الوطنية ، عاملين جميعا لغاية واحدة، هي أن يكونوا سادة أنفسهم في وطنهم، فلا المسيحي يشعر في وطنه بأنه مسود، ولا المسلم يشعر بأن هناك سيدا له ولابن وطنه الآخر، أما النجوى الروحية فلكل أن يناجي بها من شاء، ولكل أن يعترف بها في حدودها ومعناها لمن أراد، هذا سر العروة القوية التي تربط عواطف مصر بتركيا، وإن التاريخ ليشهد أن المصريين وقفوا أمام العثمانيين مواقف كثيرة يطلبون فيها استقلالهم المدني، بينا كانوا يحرصون كل الحرص على الخلافة، ويجيبونها إذا دعتهم لأمر جليل لا يزيد سلطانها المدني عليهم، فهل غريب أن يقفوا هذه المواقف أمام غير العثمانيين؟ إنها إذن مشكلة لا تفهم!
هوامش
نامعلوم صفحہ
الفصل الثالث
الحكم الذاتي
«إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية»
المستر لويد جورج
الأشكال التي تتخذها صور الحكم في الشعوب تتلون بألوان من الخصائص الفطرية، أو الملكات المكسوبة بالوراثة، أو بتحدي التاريخ، أو العادة المألوفة التي لم يذهب بها طول أمد الإهمال.
وإن المشاهدة لتدل على أن الناس مفترقون في ذلك، فالجماعة التي لم تعرف من خصائص الحياة إلا الشعور الساذج بأنها موجودة على قدر المكان الذي يحتويها والزمان الذي يشتملها، لا يصلح فيها حكم يعتمد على إرشادها لنفسها؛ فإن مثلها كمثل الطفل تعوزه الرعاية في حركاته، والتقويم في انتقال خطاه، ولكنك لا تجد تلك الجماعة إلا فيمن تهبط بهم «الصدفة» من رءوس الجبال، أما الذين تحملهم أرض المدائن ويكتنفهم عمران الحياة فإن مجرد اجتماعهم على هذا النحو بجعلهم أهلا لأن يستقلوا بشأنهم، ويعيشوا بإمرة أنفسهم لا بإمرة سواهم، وقد لا تكون صلاحيتهم للمثل الأعلى من الكمال تامة، ولكنهم لا يدركون هذا المثل الأعلى إلا أن يتركوا لأنفسهم ترفعهم لجة وتهبطهم لجة، حتى يجيدوا السباحة فوق غوارب بحر الحياة.
في العالم الآن أمم هي المثل الأعلى للحكم الذاتي في أجل معانيه، ولم يزل التاريخ ناطقا أن هذه الأمم لم تصل إلى ذلك إلا بعد أن تركت لنفسها، ولم يقل التاريخ قط إن أمة مغلوبة خرجت من يد أمة غالبة ظافرة منها بالتدريب على الحكم الذاتي الكامل، ولا قال التاريخ إن أمة فقدت حواسها وهي مقهورة حتى لم يوقظها القهر إلى ما تجهل مما يجب أن يكون لها، كل الأمم التي وعاها صدر التاريخ وكانت مغلوبة شعرت في غلبتها بأن الغالب سلط عليها بحكمه وأن سبيل نجاتها أن تحكم نفسها، وكان هذا الشعور مفتاح باب التفكير في الحكم الأصلح، أليس ذلك كافيا لإثبات أهليتها لأن تكون لنفسها، وأن تعيش لنفسها، وأن تنفصل عمن عداها لتنال الحق الطبيعي، وهو أن تبقى للوطن ويبقى الوطن لها؟
متى علم الرومانيون والدانماركيون الشعب الإنكليزي أن يحكم نفسه بنفسه؟ ومتى علم الإنكليز الأمريكيين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؟ ومتى تلقى البولونيون والفنلنديون والقوقازيون وشعوب الملايا وغيرهم دروس الحكم الذاتي عن قياصرة روسية؟ ومتى وعت شعوب أمريكا آيات هذا الحكم عن الإسبانيين؟ بل متى طلعت شمس الحرية في فرنسة بإرادة الغالبين الذين تلقفتها أيديهم جيلا بعد جيل؟
التاريخ تجارب صادقة إن لم يكن قواعد تبنى عليها الأحكام الصحيحة، وإلى جانب التاريخ الطبائع المكسوبة والتقاليد الموروثة، ولا ينكر حكم هذه الأقضية الثابتة إلا ذو غاية يمقتها العدل، أو جهل يبرأ منه العلم، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق.
والتاريخ يشهد أن مصر كانت لنفسها مستقلة أكثر ما عاشت من عمر الدهر، وكانت لها تجارب في حكم الشورى أكثر ما رأت من الأحكام في حياتها، وكانت تقاليدها الشورية متصلة الحلقات بماضيها البعيد وعهدها الحاضر، فإن لم يقتنع المعاندون بشهادة التاريخ فليقتنعوا بدلالة التجربة، وإم لم يقتنعوا بهذه فليقتنعوا بآثار الملكة النفسية التي استلزمتها التقاليد الموروثة، وإن لم يقتنعوا بهذه أيضا فلا أقنع المعاند إلا الله.
نامعلوم صفحہ
ليست سطور التاريخ هي التي شهدت وحدها بأن مصر كانت في أقدم أيامها شورية على أكمل مثال، بل شهدت الآثار الناطقة بذلك أيضا؛ فقد صح أن قصر «لابيرنت» الذي كان في إقليم الفيوم وكان مؤلفا من ثلاث آلاف غرفة لم يكن إلا الدار التي يجتمع فيها «مجلس الأعيان » للنظر في شئون البلاد كافة، ولما دخل الإسلام مصر دخل وفي يمينه علم الشورى فقضى أن تكون سبيل حكم الناس. وبقيت مصر إسلامية تقرأ كتابها الكريم وتعي أحكام شريعتها القويمة، ولم تنسخ آية الشورى من كتابها، ولا رفعت أحكامها من شريعتها، وإذا كانت الأديان تطبع النفوس على غرارها، وتستجد لها كيفيات وملكات لم تكن من قبل؛ وجب أن تقضي الضرورة أن الدين الإسلامي أكسب المصريين ملكة الحكم الذاتي وطبع نفوسهم عليها، هذا أهون الحكمين، أما الحكم العظيم الذي جاء به الإسلام فهو أمره لأهله أن يكونوا أولياء أنفسهم صونا لهم من عسف الغريب، وحرصا على ريحهم أن تذهب فيعيشوا أذلاء مقهورين.
يتصل عهد مصر اليوم بأول عهدها بالإسلام، فهي لا تزال إسلامية، وقبل ذلك كانت متصلة بعهد المجد العظيم أيام كانت سيدة العالم، ومفيضة الحياة على الأكوان، ومعلمة الشعوب أن الحكم الذاتي حق لكل شعب حين كان قصر «لابيرنت» مقر شوراها، والآن فعهدها بالحكم الذاتي في أمثلته الحديثة ليس بعيدا.
كان لمصر لعهد محمد علي «مجلس المشاورة الملكي» و«المجلس المخصوص» وهو بمثابة مجلس الوزراء، وكان لها «مجلس نواب» لعهدي إسماعيل وتوفيق، وكان لها «مجلس الشورى» و«الجمعية العمومية» حتى استعيض عنهما بالجمعية التشريعية، وكانت لها مجالس المديريات التي لم تزل باقية، وقد لقي مجلسا النواب ومجلس الشورى والجمعية العمومية من تصاريف السياسة ما لقيت، فإن الأولين قتلا في مهدهما، والأخيرين عاشا يجزيان على الإحسان بالإساءة وعلى الإساءة بالإحسان، كانت كل حجة تصدر منهما على أن الأمة خليقة بالحكم الذاتي الكامل تعد ذنبا يستحقان عليه عقوبة الطعن ونقصا يتخذ دليلا على عكس المطلوب.
1
هكذا وقفت السياسة للأمة هذا الموقف الغريب، وكان المنصفون يسخرون من هذا الموقف أكثر مما يعترضون عليه؛ لأنه كان موقف الرجل يقيم نفسه وليا على آخر فيضمر له ما شاء هواه ثم يعجز عن أن يستقيم على الصدق فيما يقول ويفعل.
لم يخلق الله أمة - منذ خلق الدنيا - لتعلم أمة أخرى كيف تحكم نفسها بنفسها، وما خرجت أمة قط من يد أمة أخرى وفي يدها إجازة هذا الحكم بعد أن تكون قد نالتها بالامتحان، ولكن الذي وجد وقامت عليه شواهد الحس والعلم والتاريخ أن الشعوب تخرج من أيدي غالبيها كما يخرج المريض من فراش المرض ولا تكون قد شفاها دواء من مرضها، بل تكون هي قد علمت الدواء وعلمت أنه محرم عليها فشرعت تطلبه لتستطب به.
إن الأمة التي يقال إنها عليلة تحتاج إلى المعالجة بيد أمة صحيحة ليست بين الأمم التي تعمر الأرض، تلك أمة ضربت في المجاهل مع الوحوش فلها فطرة وحشية، فحاجتها قبل كل شيء أن تستأنس وتراض على طبائع الإنسان، ومثل هذه الأمة لا حيلة في أن تتسلط عليها أمة أخرى، لا حيلة في ذلك ولا واقي لها من أن تبلغ بها غاية المتسلط القاهر وهي الإدماج والتسخير.
يقول المستر لويد جورج: «إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية».
هذا القول حسن، معناه أنه لا بد أن تكون الحكومة التي تقوم مقام الحكومة الأهلية حكومة غير حسنة أي قبيحة.
فهل من إنصاف الحق أن يكون العمل بهذه القضية في مكان دون مكان؟ تلك إحدى عجائبهم!
نامعلوم صفحہ
هوامش
الفصل الرابع
روح الأمة
«إن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها هي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد»
إدمون دي مولان
هناك مقياس للحياة غير الثروة والعلم والنشاط في طلبهما، وهذا المقياس هو روح الأمة.
إن المصباح يرسل نوره ضعيفا أو قويا، ولكن العين توحي لصاحبها سبب ضعفه وقوته، توحي له أنها ترى شيئا مكنونا هو زيت المصباح، وأنه يضيء على قدره، فلو أن أمة كانت أمينة على خزائن الأرض، قائمة على بيوت الحكمة والعلم، ثم لم يكن روحها ذا نور ساطع يدل الناس عليهما لما أغناها العلم والمال أن تلتمس وسيلة يرى الناس في مرآتها جمال الكرامة، وجلال الإباء وعزة النفس، وعظمة الرأي والعمل. وإن مكان الأمة المصرية من هذه المنزلة ليس منكورا، فهو في مثل ضوء الشمس وضوحا والعالم المبصر لا ينكر ما ينكره الأعمى.
مضى عهد غير قصير وقفت فيه مصر موقف السلم الظاهر، ولكنها طوت هذا الزمن كله تحارب الحوادث وتنازل الأيام، ولم تتقلد سلاحا إلا بقية عزم صادق وأنفة صحيحة ويقظة دائمة وعقل يكشف لها عن أفانين الخطط التي يبتدعها الدهر. ولا يقول أحد إن مصر المجاهدة خرجت مقهورة في معركة من معاركها السلمية الدائمة؛ ذلك بأن روحها سليم لم تمرضه الأيام، طاهر لم تدنسه الحوادث، مصقول الجوهر، ينتفع بما يضر، ويهتدي بما يضل.
ما كانت الأمة المصرية قبل العهد الأخير مخلوقات صورية تقبل كل روح ينفخ فيها، ولكنها كانت شعبا تام الخلق، نامي الجسد والروح، ممتازا بخصائصه ومقوماته، كانت شعبا مدركا أين هو من الوجود وأين يستحق أن يكون موقفه بين الشعوب، وكان لا بد لهذه الأمة أن تكون كذلك؛ إذ لم تجهل من تاريخها القديم أن لها على العالم حق الأستاذ على التلميذ، فلا أقل من أن تنال المساواة لغيرها وفاء ببعض هذا الحق، ولا جهلت من تاريخها الحديث أنها تعلمت حتى جعلت تزاحم غيرها، وأثرت حتى جعلت تبلغ الأقطار القاصية بتجارتها وغلاتها ومصنوعاتها، وقويت حتى أخضعت الأشداء وأخافت الأقوياء.
قال المسيو «تييرس» وزير خارجية فرنسا في كتاب إلى المسيو «جيزو» سفير فرنسا في لندن: «إن الباشا - محمد علي - قادر أن يشعل نار الحرب لأي تهديد يقع، أو حصار يحدث، أو أي عمل آخر، فخذ حذرك من ذلك، وأيقن أن محمد علي يجتاز جبال طوروس، ويلقي أوربا في هاوية الخطر إذا هوجمت الإسكندرية أو أية جهة من جهات القطر المصري الهائجة أو التي توشك أن تهيج».
نامعلوم صفحہ
مصر التي لم تجهل هذه الصفحة من تاريخها الحديث لا تقذف إلى الضعة والهوان إلا أرجعتها خصائصها إلى الرفعة والشرف؛ فإن بينها وبينهما ذمة مرعية ونسبا محفوظا.
جوهرة الأكوان، مصر التي على شاطئ البحر الأبيض، التي عشقها الفرس والرومان والعرب، لم تزل دار الغريب وملجأه لا يجد في الدنيا غيرها بديلا من وطنه، ولا يجد في الأقطار صدرا رحبا، وحضانة بارة كصدرها وحضانتها، مصر هذه تعلم أن لها هذه المنزلة عند الناس فتعلم أن تربتها ذهبية، ونيلها نمير، وأفقها صحو، وشمسها مترفقة. تعلم أن في هوائها شفاء السقم، وفي أخلاقها عزاء الغريب، وأن الذكاء والألفة والثبات والصبر صفات مخلوقة في أبنائها مكسوبة في غيرهم، وقد جعلتها هذه الخصال وطنا يلوذ به من لا وطن له، وكانت كذلك منذ أقدم أيام التاريخ، أفلا تكتسب مصر من جيرانها ومن الوافدين عليها قدرة على تناول الحسن من آرائهم وفعالهم.
نهض «محمد علي» بمصر منذ قرن وربع قرن، ويوم تحرك بنهضتها استقدم العلماء من أوربا مستعينا بهم على ما يبغي، ولم يبن محمد علي لهؤلاء العلماء الذين استقدمهم بروجا يعيشون فيها، ولكنه خلطهم بالأمة، وهم كانوا أوعية علم وخزائن فضل وأمثلة لمحاسن الأخلاق، فهل كان المصريون يومئذ مخلوقين بغير أعين تبصر وآذان تسمع وقلوب تعي؟ أو كانت لهم أعين وآذان وقلوب فانتفعوا بسيرة أولئك الرجال وأضافوا جديد منفعتهم إلى قديم المجد الذي ورثوه عن آبائهم؟ على أن هؤلاء الرجال كانوا بين الأمة أساتذة معلمين، فيكف لا تصقل روحها بصقال العلم الذي أفاضوه عليها، والعمل الذي دربوها عليه؟ وما زال شأن الولاة بعد ذلك كشأن محمد علي، وكان إلى جانب هؤلاء العلماء أهل النشاط والفضل من الأجناس الوافدة على مصر، تتكاتف وإياها على خدمة الوطن الذي تناسل فيه المصريون، والذي رحب صدره لغيرهم فكان لكل غريب وطنا ثانيا أعز عليه من وطنه الأول.
رأت مصر هؤلاء جميعا، ووقفت على ما عندهم من الرأي في الحياة والعمل للسعادة، ونظرت في كتب العلماء وتاريخ الأمم ونهضات الشعوب، وأدركت ما لها من أسباب وعلل، ثم عادت تقارن ذلك بماضيها فإذا هو صورة منه، فلما شرعت تقارنه بحاضرها هالها بعد المسافة بينهما، على حين أن صفاتها خليقة باتحاد الصورتين، ومنزلتها من الرقي حرية أن تكون بين منازل الأعزاء.
رزقت الأمة روحا سليم التكوين رفيع المكانة كامل الخلق، فكان لها حصنا يرد عنها عادية الزمن، وقوة تصرع الأيام كلما أغارت عليها فترجع مخذولة خزيانة، فروح الأمة المصرية هو الذي أبقاها إلى اليوم فلم تنل منها حيل الأيام شيئا، وهو الذي صان وحدتها فلم تصل إليها يد التمزيق، هو الذي أيقظ فؤادها فلم تنصب لها حبالة إلا تبينت موضعها وقطعت خيوطها.
أكان ينتظر من أمة استأثرت بالذكر الأسمى من جميل ما أسدى المصريون والعرب للمدنية فضربت بسهم وافر فيما أخرجت للعالم مدنية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أن تحمل بين جنبيها روحا متخاذلا، لا يثبت به موقفها أمام الأعاصير والزعازع؟
يؤثر عن «إدمون دي مولان» قوله: «إن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها هي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد».
وقد شهد الله أن الأمة المصرية إحدى هذه الأمم؛ فإن مبلغ همة إنسانها أن غالب الأيام فغلبها وصادم الحوادث فصدمها على كثرة إلحاحها ودوام انصبابها، ومن سوى هذه الأمة خليق أن يكون ملجأ الحياة الصحيحة؟ وهل يضيرها أن أصابتها المدنية السياسية برشاش الفساد؟ هبها كذلك، ففي الباطن جوهر نقي طاهر.
إن الله شهيد، لئن لم يسلم الناس أن هذه الأمة كذلك فلا كانت كذلك أمة أخرى، وإنها إذن لبدعة تستحق النظر فهل من متعظ؟
الفصل الخامس
نامعلوم صفحہ
القومية واللغة
«إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها»
ماكس نوردو
إذا صورت القومية جسدا فاللغة روحها، وإذا انفصل الروح عن الجسد فارقته الحياة.
وقد صدقت شواهد التاريخ، ولم يكذب نذيره للناس ألا يناموا عن لغتهم خشية أن تفنى فتفنى قوميتهم معها، في التاريخ شواهد الصدق، فهو يقول: إن أول ما يكون هلاك اللغة أن يتخللها دخيل لغة أخرى، فيحمل معه إلى نفوس أهلها طبائعا غير طبائعهم، وعادات غير عاداتهم، وآدابا غير آدابهم، تمكنها منها تلك الألفاظ السهلة السيالة التي تخالط لغتهم الأهلية، وكلما قوي هذا الدخيل انبسطت به الألسنة، واعتادت معانيه الأذهان، فتنقبض اللغة الأهلية شيئا فشيئا، ثم تذوب أمام غلبته، وهنالك تودع الأمة قوميتها وتقابل قومية جديدة لا تبصر فيها تاريخا خاصا، ولا خلقا خاصا ، ولا وطنية خاصة.
أين قوميات الأمم القديمة والحديثة التي هضمت لغتها معدات اللغات الزاحفة عليها؟ أين قومية هنود أمريكا وأهل المستعمرات الأوربية من وسط أفريقيا؟ وأين قومية «المغاربة» من أبناء «زنانة» و«كتامة» وورثة «القرطاجيين»؟ وأين قومية غير هؤلاء ممن كانوا قديما وحديثا أصحاب وطن عزيز الجانب ووطنية ناهضة الجناح؟ لقد هضمتها أيدي الغالبين حين هضمت لغاتهم لغاتها، وإنك لتحتال بكل حيلة لترى خيط الصلة بين من يسكنون تلك البقاع اليوم وبين آبائهم الأولين، فلا ترى ذلك الخيط؛ لأنهم كانوا أمما روحها اللغة فانتسخت لغاتهم فمسخوا أمما أخرى. ثم بادت لغاتهم الجديدة فمسخوا مرة ثانية، هكذا يروي التاريخ وتصدق روايته، وإنه ليحدثنا أيضا أن الفاتحين إنما يغلبون الأمم ويخضعونها بسلاحين: اللغة والسيف.
أصبحت اللغة العربية لغة مصر، ومضت عليها القرون الطويلة فصارت وعاء لآداب الأمة وعاداتها وأخلاقها وتاريخها، وصارت قوام شخصيتها ومساك جنسها وصارت لسانها في التأليف والكتابة والمخاطبة، وفي كل حاجة للغة فيها وساطة، ولعل اللغة العربية أقوى اللغات على الذيوع وبسطة السلطان، وأقدرها على الثبات والظفر بالفوز على أحداث الزمن، أما قوتها على الذيوع فلأنها لغة دين بجانب أنها لغة قومية، ولغة الدين لا تحتاج إلى شيء يعينها على إخضاع غيرها من اللغات متى أقبلت النفس على هذا الدين، وأما أنها قادرة على الثبات فلأن لها من بقاء القرآن آخر الدهر نصيرا شديد البأس بجانب القومية وهي النصير العام، وإنك لتدرك مقدار أثر الدين في حفظ اللغة العربية إذا سمعت هذه الدعوى المقلوبة:
قال اللورد دفرين في تقرير خاص بالتعليم في مصر وضعه سنة 1882: «وأخال أن أمل التقدم ضعيف ما دامت العام تتعلم اللغة العربية الفصحى التي هي لغة القرآن».
على رغم أن للأمة المصرية من لغتها تلك القوة وهذا الثبات، فقد وجدت هذه اللغة في وطنها خلال ثلث القرن الأخير ما لا يجده الخصم من خصمه، ولكن الأمة لم تكن تخضع لما يفسد عليها لغتها ثم ينتهي بفنائها، بل كان كل سهم يرمى به القلب اللغة يجد دواء عاجلا يرد عليها العافية أكثر مما كانت، ويعيد إليها البهجة أعظم مما فقدت، ويزيدها تمكينا، ويزيد نهضتها صعودا، وسوقها رواجا، ولا ريب أن لغة الأمة تمشي الآن بين صفوف من الجلال لم تكن تمشي بينها من قبل.
ظهرت مخاصمة اللغة الوطنية في دور الحكومة فأغفل أمرها في المخاطبات ووضع التقارير وتأليف القوانين واللوائح، ولم يبق لها ظل إلا فيما لا بد منه لإبلاغ الأمة ما تريد الحكومة أن تبلغها من أعمالها، والحكومة مصرية والوطن مصري، واللغة العربية لغة الحكومة الرسمية الوطنية، ولغة الوطن التي لا عوض عنها، ولكن حكومتنا عاشت ثلث قرن تقابل لغتها الرسمية بوجه عابس، وتصافحها بيد مقبوضة، كانت الحكومة تعدل عن لسانها الرسمي إلى لسان آخر أجنبي، ولا نعرف حكومة وطنية لها لغة خاصة تفعل ذلك إلا حكومتنا.
نامعلوم صفحہ