إهداء الكتاب
المقدمة
القسم الأول
1 - وطنية الفلاح وآماله
2 - مصر وتركيا
3 - الحكم الذاتي
4 - روح الأمة
5 - القومية واللغة
6 - الرقي الاقتصادي
7 - الصناعة
8 - التجارة
9 - الاجتماع والصحة
10 - الإدارة
11 - سياسة التعليم
12 - الرأي العام
القسم الثاني
13 - نظرة إجمالية
14 - درس في الحكم الذاتي
15 - درس في القضاء
16 - درس في الإدارة
17 - دروس مصر لنفسها
18 - نظراؤنا في الحياة
خاتمة
إهداء الكتاب
المقدمة
القسم الأول
1 - وطنية الفلاح وآماله
2 - مصر وتركيا
3 - الحكم الذاتي
4 - روح الأمة
5 - القومية واللغة
6 - الرقي الاقتصادي
7 - الصناعة
8 - التجارة
9 - الاجتماع والصحة
10 - الإدارة
11 - سياسة التعليم
12 - الرأي العام
القسم الثاني
13 - نظرة إجمالية
14 - درس في الحكم الذاتي
15 - درس في القضاء
16 - درس في الإدارة
17 - دروس مصر لنفسها
18 - نظراؤنا في الحياة
خاتمة
مصر في ثلثي قرن
مصر في ثلثي قرن
بين الماضي والحاضر
تأليف
محمد مصطفى الههياوي
إهداء الكتاب
إلى روح «محمد فريد بك»
تهدى الأعمال الصالحة إلى الأرواح الطاهرة، فإن كان كتابي هذا عملا صالحا - وأرجو أن يكون كذلك - فهو هديتي إلى روحك الطاهر.
محمد مصطفى الههياوي
تمهيد
بقلم محمد مصطفى الههياوي «لا ترضى إنكلترا بتقدم مصر ورقيها»
الوزير الإنكليزي «بلمرستون»
الله القاهر فوق عباده، إن مسنا الضر فهو كاشفه، وإن مسنا الخير فهو المنعم به، والطاعة لله فيما أمر:
يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون
وله التصديق فيما قال:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين .
هذه «مقالات» أنشرها متضامة بين هاتين الدفتين - وقد نشرها «وادي النيل» متفرقة - ولست أزعم أنها كل ما يؤدي به الكتاب المصري فرض البيان والإرشاد لأمته في وقت شدتها، وحين ثورة آمالها العظمى، ولكني أزعم أنها مرآة عسى أن تحملها اليد فلا تضعها، وتسرح فيها العين فلا تنتقل عنها إلا عند ختامها، أرجو أن نكون كذلك، لا لشيء، إلا أن بها صورة صغرى من صور الماضي، تنبئ النفس بعجره وبجره، وتصدم الأذن والعين بوضره ودفره. وإني لأعلم أنها صورة مؤلمة، ولكني كذلك أردت، وكذلك أريد، فإن الآلام تحيي من القلوب ما أماتته الغفلة.
ولعلنا ندرك أن الأمنية التي يطلبها كل مصري الآن لأمته ونفسه، لم تعد مطلوبة كما تطلب اللذات المعنوية، لعلنا لا نطلب الاستقلال التام لنتمتع بلذة الشعور المعنوي بأننا مستقلون، فقد عظم الأمر حتى تجاوز المعنويات فصارت الأمنية، أمنية الحياة، حياة المصريين في هذا العصر، وحياة أبنائهم إلى الأبد.
ولئن لم يبلغ الأمر تمامه لحقت على أصحابه كلمة الشقاء السرمد، اللهم إن أحببتنا فهيئ لنا المصير الذي لا نريده غيره، فإن سبق منا التفريط فيما نحب وكان جزاؤنا عندك أن يسبق منك القضاء بما نكره، فاقبضنا إليك، وضمنا إلى جوارك، ولكن الله أرحم من أن يخذل مجاهدا في حق مسلوب، والله مع الصابرين.
المقدمة
انظر في تاريخ مصر الحديث، منذ بدأت نهضتها التي وافقت أعظم نهضات الأمم نشأة وغاية؛ تجد في صفحاته وبين سطوره بثورا كبثور المرض الجلدي، ثم تبينها وقل بعد ذلك: أليست هي فقاقيع تملؤها جراثيم السياسة الغادرة؟
في الوقت الذي ثارت فيه فرنسا ثورتها الكبرى، فدكت صرح الظلم، ومزقت حجب الجهالة، وأطلعت شمس حريتها لتستقبل حياتها طيبة، في ذلك الوقت بعينه كان محمد علي يخطو بمصر خطوات الجبار الذي يرمي ببصره إلى غاية يأبى إلا أن يدركها، وقد لا تجد تناسبا بين أمة جاءها رجل واحد فوكزها لتصحو ثم ساقها لتتقدم، وأمة أخرى وقف الموت بروحها بين شفتيها فجمعت من اليأس قوة أطفأت نار الظلم ودقت عنقه.
قد لا تجد تناسبا بين الأمة المصرية يوم جاءها محمد علي حاكما مطلقا يوقظها من النوم ويرفعها من الضعة، والأمة الفرنسوية يوم ثارت بنفسها تذيب قيود الاستبداد وأغلاله بنار الحقد والضغينة، ولكن محمد علي كان زارعا جديدا، وكان طامعا في ملك عريض ومجد باذخ، فلا عجب أن يكون همه أن يبني الملك العظيم في شعب له من عظمة المجد التاريخي ما ليس لغيره.
وكأنما كان محمد علي يريد أن يكتب بيده صفحة تاريخه فلا يدع بين سطورها مكانا يكتب فيه: إن هذا الجندي الألباني الصغير لم يكن وارث الملوك، ولا ربيب العروش فكيف لا تصيبه الخيبة كما أصابت كثيرين غيره خرجوا من دهماء العامة يطمعون في العرش والتاج. كأنما كان هذا الجندي يريد أن تضيق سطور تاريخه عن أن تسع مثل هذه الوصمة، فكتب صفحته بيده، وأبى أن تغلبه الحوادث على أمره، فبلغ ما أراد على كره من الأيام.
إن مثل مصر بين الناس كمثل السفينة على غوارب البحر الهائج، تسلمها لجة إلى لجة، ولكنها قوية على متن البحر فلا تغرق، وكأنها الحبة الوسطى في عقد الممالك، كل أحد يريدها، وكل أحد يصرفه عنها طمع غيره فيها، ولم يكن محمد علي يجهل أن هذه مكانة بلاده عند الناس. وماذا كان يصنع إلا أن يعوذها بتعاويذ السياسة ويرقيها برقى الختل والخداع ليداوي الداء بالداء ويبرد الحديد بالحديد، وكان أخوف ما يخافه أن تتهيأ الفرصة للإنكليز فيظهروا ما أبطنوا ويعلنوا ما أضمروا، وكانت عقارب السياسة تدب بين فرنسا وإنكلترا في خفاء، فتحذر كلتاهما أن تغلبها الأخرى على مصر، ولكن فرنسا كانت بصيرة في الطمع معتدلة في الشراهة، فمال إليها محمد علي لأنها أخف ثقلا ولأن سياستها أقل سماجة، على أن إنكلترا مع هذا لم ترد عقارب سياستها إلى الوكر.
الرجل الذي أراد أن يبني الملك العريض على أساس من عزمه استطاع أن يرفع له صرح ملك يضرع النجم، وما كان ليتم له ذلك إلا لأنه اختار لبنائه أرضا يستقر عليها البناء، ولولا أنه كان كمثل الزارع لما وجب أن يقال إنه اختار أخصب تربة وأصفى جو لزرعه فأصبح بهيجا، ففي ربع قرن جعل اليابس رطبا، والقحل خصبا، والجهل علما، والفقر غنى، والخراب عمارا، والليل نهارا. وفي ربع قرن أحيا الصناعة، ونشر التجارة، وأنشأ الأسطول، وسد الثغور، وحشد الجيوش، وكان يعتمد على شعب مرن في الخير، بصير بما ينفع، متطلع للحياة الطيبة والمجد العطر، وكان له من هذا الشعب ومن الوطن المختص بمواهب الثروة ومزايا الغنى قوة حسية ومعنوية تغنيه عن الناس وتلقي في روعه أن الناس مفتقرون إليه أو حاقدون عليه أو طامعون فيه، ولم تستعص على الجندي العصامي أسباب العظمة في هذا الوطن العظيم، فكل شيء هيئ سريعا كأنه شذوذ في سنة تكوين الأمم، أو كأنه ظاهرة غريبة بين ظواهر الاجتماع البشري، ولم يسترخ الزمن بمحمد علي طويلا حتى قام يفتح الأقطار بجيشه المصري، وأسطوله المصري، وماله المصري، وذخائره المصرية، وقد استفحل أمره وعظم شأنه، فخافته الدول وهابته الممالك، وقذف الله به الرعب في قلب أوربا القوية بجيوشها وأساطيلها، الغنية بأموالها وصناعتها وتجارتها، المالكة زمام النصر بالعلم المنشور والفضل المأثور.
هذا إجمال تاريخ النهضة المصرية أيام محمد علي الجندي الألباني الصغير، وقد ذكرنا أنها وافقت النهضة الفرنسوية، والذي ينظر في تاريخ النهضتين يوم ابتدأتا لا يسعه إلا أن يحكم أن نهضة مصر كانت أوفر نشاطا وأوسع خطوة؛ إذ لم تكن تتعثر في طريقها بما كانت تتعثر به نهضة فرنسا وهي طفلة، فكان يجب أن تؤدي مقدمة النهضة المصرية إلى نتيجة كالتي أدت إليها مقدمة النهضة الفرنسوية إن لم تكن أعظم منها، فلماذا لم يكن ذلك؟
يوم طلع فجر النهضة المصرية فرسم نوره على أفق العالم خطا أبيض يجلو سعادة مصر وأبنائها، كانت أفعى السياسة تملأ شدقيها سما، وكانت ترصد الغفلات فتنفث من هذا السم قطرات تصيب جديد حظنا فيصدأ، فكم مرة قتلتنا هذه الأفعى، وكم مرة قعدت لنا منذ القدم مقاعد الشر لتقتلنا!
ولكن الجندي الألباني كان يقظا، غير أن أفعى السياسة مكرت بغيره فآذته بهذا المكر، ويذكر التاريخ من أمثلة ذلك قصة إحراق الأسطول المصري التي لم تزل مكتوبة في تاريخ السياسة الروسية بقلم العار، وقد كان يتاح لروسيا أن تنال فخر إحراقه بقوتها وإرادتها معا، لو أنها كانت غير مسخرة للسياسة التي وصفت بالغدر في أول سطر من تاريخ العالم السياسي، غير أن جندينا الصغير كان في أمته أعظم من أصحاب العروش وحملة التيجان.
مضى لنا منذ تولي محمد علي ولاية مصر نحو قرن وربع قرن، فلنقسم هذا الزمن ثلاثة عهود: الأول عهد محمد علي، الثاني عهد خلفائه إلى سنة 1882، الثالث عهد الاحتلال الإنكليزي من سنة 1882 إلى اليوم. وقد يعتقد الناس أننا قطعنا ما قطعنا من العهد الأخير برقي يناسب حركة العالم في التقدم العصري، وتقتضيه طبيعة روح الحياة إبان شباب الإنسانية، وإذا كان الحق خلاف ذلك فإن هذا الحق لا يثبت عند من يجهلونه ومن خدعتهم أضاليل السياسة إلا بعنف وعناء؛ فإن العقل البشري لا يكاد يصدق أن أمة لزمت الجمود على حال واحدة فلم يطرأ عليها جديد من أسباب الحياة غير ما كان لها منذ قرن وربع قرن اللهم إلا ما بلغته بنفسها وهي تتحرك تحت الأثقال وتعاني ما أصابها من القيود والأغلال، فنحن لذلك نعالج عنف الإقناع وننهض بعناء الإثبات بالبرهان القاطع، حتى إذا سطع نور الحق لم نعد نشعر بعنف ولا نجد عناء.
أول ما تدعيه السياسة الإنكليزية أنها أفاضت على مصر حياة حسية لم تكن تحلم بها من قبل، فإذا سئلت أي شيء هي هذه الحياة الحسية؟ وأين مجراها من عروق الأمة؟ قالت هذه السياسة مفتخرة: ليس بعد الزراعة وبهجتها ونظام الري ودقته من حياة. أما مجراها من عروق الأمة فبين أجساد الفلاحين الذين يسبحون بحمد المصلحين بكرة وأصيلا!!
هذه هي الدعوى التي ترى السياسة أنها في مكان التصديق من النفوس لأنها تزعم أن الحس شاهد عليها، ولكن السياسة أخطأت حين ظنت أن حقائق التاريخ الحديث مجهولة، أو أنها تملك أن تمحوها من الصدور إذا ملكت أن تمحوها من السطور، وستظل مخطئة هذا الخطأ إذا ظلت ظانة ذلك الظن.
إن الزراعة في بهجتها منذ أحياها محمد علي، ولو لم يكن هناك دليل على ذلك إلا تاريخه الحربي لكان دليلا قاطعا، فالرجل حارب أقوى الدول بجيوش كثيفة، وارتحل عن بلاده إلى الأقطار البعيدة بذخائر وأساطيل، ولم يكن يعتمد على غير بلاده، فهل كان يتخذ من الحصى نقودا، ومن التراب خبزا وماء؟ أم ماذا كان يفعل لجيوشه في الحرب الطويلة إذا لم تكن زراعته نضيرة وغلاته وفيرة؟ ثم كيف كانت نضرة الزرع ووفرة الغلات إذا لم تكن الزراعة في محل العناية العظمى علما وعملا؟
ينهض هذا الدليل إذا لم يكن هناك نص صريح في أن ما نراه اليوم هو ما فعله محمد علي، وعندنا مصادر كثيرة مستفيضة بالنصوص التاريخية، ولكن الدليل الذي لا يستطيع الخصم إنكاره ما كان قائما من ناحيته أو ما كان له حظ في إقامته، ونحن نجد هذا الدليل في تقرير «لجنة التجارة والصناعة»، وليست قيمته في أن اللجنة حجة ثقة عند الحكومة لأنها هي التي ألفتها، بل في أن بين أعضاء اللجنة ثلاثة من كبار الإنكليز هم المستر «سدني ويلز» مدير إدارة التعليم الفني والصناعي والتجاري، والمستر «كريج» الذي كان مراقبا لقلم الإحصاء العام بوزارة المالية، والمستر «ف. مردوخ» من أرباب الصناعات بمدينة «المنصورة».
والدليل الذي نشير إليه هو قول اللجنة في الفصل الأول من الباب الثاني من تقريرها: «وكان همه الأكبر - تريد محمد علي - متجها إلى ترقية الزراعة والصناعة، وتحقيقا لهذا الغرض السامي رأى أن يستعين بمدنية أرقى من مدنية بلاده، كما أنه مهد للشعب سبيل الحصول على حاجته من التعليم، وبث فيه الرغبة في طلب العلم ووضع كذلك المشروع العظيم لأعمال الري والترع والقناطر وبدأ في تنفيذه فتكللت أعماله بالنجاح».
1
لم يحدث في العهد منذ سنة 1882 شيء جديد للزراعة المصرية، لم تزد أنواعها، ولم تتغير أساليبها، اللهم إلا شيء واحد جديد، هو نقص متوسط المحصول وكثرة الآفات، وإرهاق الفلاح بالمغارم المتنوعة.
ولم يحدث شيء جديد للري، اللهم إلا نظام يهلك الزرع ظمأ، ويملأ قلب الفلاح كمدا وغيظا، كلما وقف أمام زرعه فرآه يموت بنار القيظ الشديد، ونار الظمأ الشديد، والماء حرام عليه وهو على قيد شبر منه.
لم نعرف أثرا لهذا العهد في احتفار ترعة أو بناء خليج، ولسنا من يكتم الحق إذا قيل إن «خزان أسوان» أثر خالد للاحتلال الإنكليزي، ولكن لا ينبغي لأحد أن يكتم الحق أيضا إذا قلنا إن هذا الأثر العظيم قام حدا فاصلا بين مصر وسودانها فأصبح محبس الماء عن الوادي، فلا يرسله إلا بقدر معلوم، ولا يجري هذا القدر إلا بمشيئة مطلقة، تعطي وتمنع، لا بخلا ولا كرما، بل تحكما وإكراها على الإذعان.
كل الأنهار والترع والجسور والقناطر والدساكر كانت قبل هذا العهد، وفلاح مصر اليوم هو فلاحها منذ القدم، لم يتعلم جديدا غير أسلوبه الموروث، ولم يتناول بذرا جديدا غير بذره المعروف، والأرض هي الأرض، والهواء هو الهواء، والشمس هي الشمس، وفصول السنة لم تتغير فهي التي تمر بنا منذ خلق الله الزمان، فماذا حدث؟ أين الحياة الزائدة؟ أو أين القدر الزائد في الحياة؟
إذا لم تبلغ مصر حظها الحسي الذي بلغته الآن، لوجب ألا تكون من الأرض التي يعمرها البشر، على أنها لم تبلغ حظها من الحياة التي ارتقى إليها العالم بخطواته الواسعة؛ لأنها قيدت بينا كان العالم طليقا! ولكن موطن النظر هو هل كانت تبقى جامدة لو أنها كانت طليقة؟ هذا الذي نريد أن نعرفه الآن.
أنشأ محمد علي وخلفاؤه المصانع لكل شيء، فبقيت المصانع إلى أن طغى على مصر سيل العهد الأخير. وأنشأوا القلاع ليذودوا الطارق المغير عن الثغور والسواحل، فبقيت قلاعهم إلى أن دخل على مصر ليل العهد الأخير. وأنشأوا المدارس لكل علم وفن، فبقيت مدارسهم إلى أن نشبت بمصر أظافر العهد الأخير. فماذا أصاب مصر في هذا العهد الأخير؟
هدمت المصانع فأصبحت مصر عالة على غيرها تستجديه أحقر الحاجات، ودرست الصناعات والفنون فأطبقت على الأمة جهالتها، وهدمت القلاع، وأبيحت السواحل والثغور، فصارت البلاد كالدار المهجورة يدوسها كل طارق، أو كالحمى المباح ينتهكه كل راع، وهدم بعض المدارس وبقي منها ما تتم الخدعة ببقائه بعد أن مسخ فأصبح صورة جوفاء.
وهيهات أن تفتخر علينا يد الإصلاح بشيء، اللهم إلا سياسة تشهد بالعجز قبل أن تشهد بسوء النية، ويا ويل العلم والإصلاح والتمدين ممن يعالجها ستا وثلاثين سنة ثم يقول بنفسه في نفسه إن الدواء كان داء، ومن العجب أن يتمرن الطبيب ستا وثلاثين سنة فيختمها بالخيبة، ثم يطلب أن يتمرن مدة مثلها!! ويا رحمتا لمريض عملت مشارط طبيبه المتمرن ومقاريضه في جسمه كل هذه المدة لا لشيء إلا أن الطبيب يتمرن!
أما المدارس العالية، فالحمد لله، لا تستطيع السياسة الإنكليزية أن تدعي أنها أنشأت منها واحدة في عهد الاحتلال، فكلها قبله. على أنها تستطيع أن تقول إنها ألغت بعضها، وإنها جاهدت لتقضي على «جامعة الأمة»، ولا ندري فلعل ذلك كان في سبيل التعليم أيضا!!
إلى هنا يسهل على القارئ أن يعرف العهد الأول والعهد الثالث من ثلاثة العهود التي مضت منذ تم الأمر في مصر لمحمد علي، ومتى عرفهما بما وصفنا سهل عليه أن يفاضل بينهما ليرى أيهما يفضل الآخر، وسهل عليه بعد ذلك أن يبصر بعينه ويلمس بيده حقيقة هائلة تنطوي في أحرف هذا السؤال: هل كنا نكون في مثل حالنا الحاضرة إذا دامت بنا الحياة على نحو ما كان لعهد محمد علي وعباس الأول وسعيد وإبراهيم وإسماعيل؟ وبعبارة أخرى: هل تقدمنا أو تأخرنا؟
يجري قلم السياسة في كتابة التاريخ أحيانا، ولكن للسياسة قلما غير القلم الذي يكتب الحقائق الصريحة ويمحص مسائل التاريخ فمثل القلم الذي حملته يد اللورد كرومر حين وضع كتابه «مصر الحديثة» لا يكون مقبول الشهادة أمام العدل التاريخي؛ لأنه مغموس في مداد السياسة، وقد لا يجد الكاتب السياسي غضاضة إذا حمل هذا القلم وهاجم به الحقائق، بل قد لا يجد عيبا في ذلك وإن حمله بيد ترعشها الشيخوخة كيد اللورد كرومر يوم أملت عليه أضغانه السياسية ذلك الكتاب.
وليس كثيرا في لغة السياسة أن يقعد الرجل إلى مسألة يبحثها وهو يعرف الحق في أمرها، ولا عجيبا في أخلاق السياسة أن يجلس صاحبها جلسة ربما كانت طويلة، ليستخرج العلل والأسباب كما يهوى لا كما تهوى الحقيقة.
هكذا كان اللورد كرومر في كتابه، فقد جلس يبحث أسباب احتلال الإنكليز مصر، وجعل يحاول إقناع الناس بأن الاحتلال كان خطبا جسيما على إنكلترا تحملته بشمم وشرف وإباء، لا لشيء إلا أن تنقذ مصر وتسعدها! فكانت في ذلك كالأب الرحيم، يتعب ليريح أبناءه.
ولم يقنع الرجل بهذا التضليل فجعل مسألة الاحتلال تبعة كانت محل النظر بين المحافظين والأحرار، وكان كل فريق يلقيها على الآخر ويترفع عن أن تنسب إليه، ثم وقف موقف الحكم بين الخصمين فقال في الفصل التاسع من كتابه: «وسيظهر من الفصول القادمة من هذا الكتاب أن جل التبعة في وقوع الاحتلال راجع إلى ما فعلت حكومة المستر غلادستون لا إلى تدابير الحكومة التي رأسها اللورد سلاسبوري قبله».
ولا ريب أن من يلمون أقل إلمام بتوفق السياسة الإنكليزية أمام المسألة المصرية في كل أطوارها، يعلمون كيف يقع التناقض بين زعم الشعور بالتبعة ومحاولة الفرار منها، وبين النيات التي استكنت في صدر السياسة الإنكليزية حتى ظهرت يوم بدأت إنكلترا وفرنسا تتحرشان بالخديو إسماعيل.
غير أن شر التناقض ما قصد به إخفاء الحقائق بتشويه سمعة الرجال تنفيرا من النظر في سيرتهم؛ حتى لا يظهر فضل أيامهم على أيام سواهم، وهذا الذي يجب الالتفات إليه خاصة، فقد جهد اللورد كرومر كما جهد غيره في النيل من عباس باشا الأول وسعيد وإسماعيل، فألقى عليهم صورة الوحوش، ومن ذا الذي يظن أن للوحش عقلا حتى ينتظر أن يرى له مأثرة في الإصلاح؟ ولكن الحق لا يخفى، وقد قلنا قبل إن السياسة لا تستطيع أن تمحو الحقائق من الصدور، إذا استطاعت أن تمحوها من السطور، وهذه أمثلة من تناقض الحق والسياسة.
قال اللورد كرومر في عباس باشا الأول: «أما عباس فكان عاتيا شرقيا من أردأ الأنواع، تروى حكايات لا تعد عن قسوته التي تنفر منها النفوس ولم يكن له مع هذه السيئات حسنة مثل أسلافه، بل إن صفاته كانت قبيحة من جميع الوجوه».
ويقول التاريخ الصحيح إن من أعمال عباس باشا الأول على قصر عهده أنه «أرسل بعوثا علمية إلى أوربا عدد طلبتها 48 طالبا أنفق عليهم 82933 جنيه»، فلعل اللورد كرومر يعد هذا العمل إحدى سيئاته التي لم يكن له معها حسنة واحدة!! ولعله لم ينس حين كتب ما كتب أن عهده في مصر كان عهد قضاء على البعوث العلمية!.
وقال هذا اللورد في سعيد باشا: «إنه كان أقل غلظة وتوحشا من سلفه، ولكنه أتى أعمالا في منتهى القسوة والشناعة».
وقال أيضا إن المستر ولن قنصل إنكلترا في القاهرة كتب إلى المستر سينيور سنة 1855: «إن سعيد باشا طائش متهور مجنون فقد صوابه من مداهنة الأجانب المحيطين به».
وتقول لجنة التجارة والصناعة في تقريرها: «وقد جنى أعقابه - تريد محمد علي - ثمار أعماله العظيمة ولم يألوا جهدا في أن يحذوا حذوه ويقتفوا أثره غير مدخرين وسعا في أعمال التحسين والتكميل، وكان لسعيد باشا وإسماعيل باشا قصب السبق في هذا الميدان».
أما إسماعيل باشا فلا يحتاج أبناء الجيل الحاضر إلى تكذيب ما تتقوله عليه السياسة؛ فإنهم لم يزالوا مغمورين بآثاره يرونها في كل شيء، وتقابلهم في كل مكان، فكل شيء في المدن والأقاليم وطرقها وشوارعها ناطق بهذه الآثار، ولا يظن أحد أن سليلا من سلالة هؤلاء الرجال المصلحين يسلم من تلك اللدغات إذا وقف في طريق الأفعى السياسية.
ولعلنا في حاجة إلى أمر لا بد لنا أن نذكره قبل ختام هذه الكلمة؛ فإنا نحسب أن الأذهان غير ملتفتة إليه:
يسمع المصريون أحيانا ذكر أسماء رجال النهضة الحديثة من مصريين وأوربيين، أما رجالنا وشباننا فإنهم يعرفون تلك الأسماء، وأما ناشئتنا الحديثة فهي لا تعرفها؛ لأنها لم تعد تسمع ذكرها بعد أن كانت من المدارس في مكان الأساتذة، ومن الألسنة في محل التمجيد.
رجالنا يعرفون أمثال رفاعة، ومصطفى مختار، ومظهر، وعلي مبارك باشا، وعبد الله فكري، وبهجت باشا، ومحمود الفلكي باشا وإسماعيل الفلكي باشا من العلماء والمهندسين، ومحمد الدري باشا وعلي إبراهيم باشا وعيسى حمدي باشا من الأطباء، والقواد الذين فتحوا السودان قبل أن يفتحه الجيش المصري الفتح الأخير، ثم ينسب ذلك إلى اللورد كتشنر ويكون به قائدا من عظماء الرجال يعرف رجالنا هؤلاء وإخوانهم الكثيرين بآثارهم الماثلة فيما تركوا من الأعمال والمؤلفات والمترجمات، ويعرفهم شباننا بأسمائهم فقط؛ لأن إرادة خاصة طوت آثارهم العلمية، وقطعت صلة النسب بين أسمائهم وآثارهم العملية، ولا تعرفهم ناشئتنا لأن هذه الإرادة الخاصة أزالت ذكرهم من كل شيء أمام الناشئة.
ويعرف رجالنا وشباننا غير هؤلاء العلماء الوطنيين، العلماء الأوربيين من أبناء فرنسا وإيطاليا وسواهما، أمثال كلوت بك وكياني ولينان موجل وهامنت ولمبير ... إلخ إلخ.
فقل لمن يعرفون هؤلاء وهؤلاء، ولم يذكرونهم بأثر قائم أو حديث مروي: هل رأت مصر أمثالهم، مصريين أو غير مصريين أثناء العهد الذي طغى عليها ستا وثلاثين سنة؟ ثم سل نفسك بعد أن تسمع الجواب، وسل كل إنسان: لماذا لم تر مصر أمثالهم؟ ألأن العلم رفع من الأرض؟ أم لأن الدنيا خلت من العلماء؟ أم لا لهذا ولا لذاك، بل لشيء آخر؟!
هل يقدر أن ترى مصر أمثال هؤلاء العلماء؟ نعم ذلك مقدور إذا عاد جوها كما كان صالحا لهم، ومن يعيد صلاح الجو غير أبنائها؟!
اللهم إن الأمل كل الحياة، وحوادث الأيام غذاء الأمل ولا أمل إلا بالثقة، ولا ثقة إلا أن يغلب الحذر سلامة النية، أما الحذر فهو هنا، هنا تحت كل حرف من حروف هذا البيت:
أسأت مذ أحسنت ظني بكم
والحذر سوء الظن بالناس
هوامش
القسم الأول
الفصل الأول
وطنية الفلاح وآماله
«فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا، ولا يريدون الانتفاع بنا» (المستر أرثرهور)
نكتب هذه المقالات مستمدين حقائقها من الكتاب الذي رقمته يد الزمن خلال ثلث قرن اجتازته مصر ووقفت اليوم على طرفه، تريد أن تستأنف عهدا غيره، وتغلق بابه لتفتح لها باب حياة خير من حياتها فيه.
وإذ كانت الحجة القوية لخصوم مصر السياسيين أن المصري قضى ذلك العهد راضيا، بل مقدسا للذكر مسبحا بالحمد، لا يجد سبيلا للشكر غير الاعتراف بالعجز عن الشكر، وكانوا لا يرون هذا المصري الراضي المطمئن إلا في شخص الفلاح؛ حسن أن نبدأ الكلام في حال الفلاح وآماله، وشعوره ووجدانه، بل حديثه لنفسه وهواجس الرجاء الذي يناجي به قلبه وربه في خلوته وساعة ينبطح على أرض الحقل، وحين يتصل بصره بالسماء، فيرى جمال الجو ونعمة النيل وفيض الخير الدافق، فيقول في نجواه: يا رب لماذا لا يكون لي - أنا المصري - هذا الوطن الجميل خالصا؟
قال المستر «أرثر هور» مكاتب جريدة «التيمس» في الشرق الأوسط في أولى مقالاته التي كتبها عن «الاضطراب في مصر»: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر لنا أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
كذلك قال هذا الكاتب، وفي قوله معنى يدل عليه مفهوم عبارته، فكأنه أراد أن يقول: إن العصيان لم يكن منتظرا لأنهم فوجئوا به؛ أي إن المظنون بل المعتقد كان خلافه، وقد كان هذا العصيان عاما، وكان مفاجأة، فلا بد أن يكون الشعور بأسبابه الطبيعية عاما أيضا، ولا بد أن يكون الذين فوجئوا به على خطأ في جهل أسبابه أو تجاهلها؛ إذن: لم يكن الفلاح الذي كان شديدا في هذا العصيان راضيا ولا مطمئنا، ولم يكن يجد من نعمة التمتع بحرية الوطن بديلا.
بل يدل المفهوم على معنى أكبر من هذا المعنى، ففي العبارة ما ظهر من أن المصريين لا يحبون معارضيهم السياسيين، ولا يريدون الانتفاع بهم فكأن عدم الحب كان خفيا على هؤلاء المعارضين من قبل، وكأنهم يريدون أن يقولوا الآن: إن ما زعمناه من أن الفلاح حامد شاكر، وأن نور التقديس يسطع في جوانب نفسه كان زعما باطلا.
ولا نظن المستر «أرثر هور» يرى بعد هذا أن يكون الحب ضربا من ضروب الطاعة التي تقضي بها محكمة أو مجلس، أما إرادة عدم الانتفاع فإن لها سببا تراه كل عين في الصورة التي تشهد بها حالة مصر العلمية والتجارية والصناعية والاجتماعية والأدبية؛ فإن لهذه الصورة لسانا ينطق فصيحا بشرح قيمة الانتفاع في ثلث قرن كامل.
وقد لا نعدم معترضا يقول: إن هذا الكلام نظري، أو أثر حالة محدودة جاءت في الزمن الأخير اضطرارا أو خطأ بغير قصد. إذن نرجع إلى الحقائق في حينها البعيد والقريب.
استقبلت مصر أياما قضى بها الزمن منذ سنة 1882، ولم تكد تجتاز حوادث تلك السنة والسنتين قبلها حتى بسطت يدها للعمل، ورفعت صوتها بالحجة، وما كانت يدها المبسوطة في معاهد المدن بأسبق حركة منها في حقول الريف، ولا كان صوتها المرفوع في قصور العواصم بأعلى منه في أكواخ القرى، وكم بين هذا الزمن الذي نحن فيه الآن وبين الوقت الذي وقعت فيه حادثة «الجيش» يوم استعرضه سمو الخديو عباس في الحدود؟ لقد كان ذلك الوقت في أول عهدنا بما قضي به علينا، فليسألوا الحق: لماذا جر كبراء المصريين مركبة الخديو عباس يومئذ؟ ولماذا أغدق عليه البريد والبرق رسائل الشكر من أرجاء القرى وأعماق الريف؟ أما جواب الحق فهو أن وطنية الفلاح العريقة أرته موطن الشكر من الوجوب فأعرب عن شكره برسائله، وأن وطنية المتحضرين الراسخة أرتهم موطن الحمد من اللزوم، فجروا مركبة أميرهم الشاب.
كان الفلاح يخرج من داره إلى حقله وفي يده حبل ماشيته، فيلذ له أن يقف وتقف الماشية وراءه، إذا اتفق أن رأى قارئا من أبناء القرية يطوي صحيفة في يده، وما كان يقف ليسأله ما بها من الأخبار لأول مرة، بل ليسأله: أية الصحف هي أمن الصحف الوطنية؟ فإذا علم أنها ضالته استحلف صاحبه أن يقرأ ليسمعه آية الإخلاص لمصر، غير قانع بالسؤال عن أخبارها، وإذ ذاك يتهافت الفلاحون فيقف قارءوهم موقف المعلم، ولكنه لا يلقي درسا، بل يتذاكر وإياهم سورة الوطنية المشتركة وآية الإخلاص للوطن.
يتناول وصف الفلاحة أعيان البلاد ووجهاءها وعمدها، أولئك الذين يشتركون في صحف السوء بما يشبه الأمر المقضي به، غير أن مكاتب البريد في أرجاء القطر تعلم كيف كانوا يرفضون هذه الصحف كلما وقع حادث يهيج شعور الوطنية، بينما كانت تلك الصحف لا تخجل أن تؤلمهم بقحة، وتجرح شعورهم بجرأة.
وفي الحادثة المحزنة التي حملت وزرها سنة 1906، تجلت وطنية الفلاح المصري مشوبة بالكمد، ممزوجة بالدمع الذي جرى مجرى الدم المراق، فكانت القرى كالمرجل تغلي بنار الوطنية، وكان ضوء هذه النار يسطع في الصحف جمعاء، وكان بريقها يلمع على أسلاك البرق، وضوء هذه الوطنية هو الذي نفذ إلى أقطار الغرب كافة فبدد ما نسجت يد التضليل، واستقامت به الحقيقة التي حرفت عن موضعها .
ولم تكد شمس الوطنية تتوارى بحجابها بين جوانح الفلاح المصري، حتى أشرقت يوم النكبة بفقد المغفور له مصطفى كامل، ولعل المأتم الذي أقامته الأمة كلها حزنا عليه أنطق دليل على أن المصري الفلاح وغير الفلاح لا يرضى غير مصره، ولا يحب سوى أمته.
لم يكن مصطفى نبيا أمر الله بطاعته، ولا كان ملكا يستوجب الطاعة على العباد بالجبروت المطلق، ولا كان ذا جاه يرهب الناس بجاهه، ولا مال يستهوي النفوس بماله، ولكن الأمة أطاعته وأحبته، وسمعت منه ووثقت به، على حين أن بينها الأمراء ممن لم يبلغ إمارتهم، وأصحاب النفوذ ممن لم تكن له سطوتهم، وخزنة الأموال ممن لم تكن له أموالهم، ولم يكن مصطفى ساحرا ولا ماكرا، فكيف وجد النصر والتأييد في القرى والمدن؟ وكيف هتف الفلاح وابنه وامرأته باسمه وراء المحراث، وفي طريق القرية وعلى سطح الدار؟ كان ذلك وهو حي بيننا، لأنه نفذ إلى مقر الوطنية في القلوب، ولأنه هتف باسم مصر وهو أحب الأسماء إلينا وأغلاها عندنا، فهتفنا باسمه في كل مكان، أما جنازته يوم مات فقد شيعها في القاهرة آلاف الفلاحين الذين جاءوا من أبعد قرى الريف في شمال القطر وجنوبه، بل كانوا يرون أن حرمته عليهم وحقهم في تشييعه، يقضيان أن يطلبوا بألسنة البرق تأخير الجنازة حتى يدركوها، وأما مأتمه فقد كان مأتم الأمة، فلا مدينة ولا قرية إلا كانت حزينة مكتئبة، ولا دار ولا معبد إلا وجبت فيه التعزية والبكاء، وعقدت مجالس الترحم والدعاء، وقد لبثت القرى والمدن في مأتمه أربعين يوما.
ليس صعبا أن يراجع الناس صحف مصر في عشر سنوات بين عام 1904 و1912؛ فإنهم إذا فعلوا رأوا الفلاح المصري ظاهرا أبدا بين جماهير المحتجين على ما وقع خلال هذه السنوات، وليسأل المنصفون: كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور بالوطنية أيام حادثة «الكاملين» وما تلاها من سوق الوطنيين إلى المحاكم كما يساق القتلة السافكون، وجرمهم هو جرمهم الذي لا يزالون يقترفونه، بل الذي تقترفه الأمة كلها اليوم، هو الألسنة الوطنية والأقلام الوطنية ، ثم ليسألوا كيف كانت قرى الريف وبلدانه تفور وطنية يوم عرضت مسألة «القناة» ووقف نواب الأمة لها موقفهم التاريخي المشهود.
أكان الفلاح خلال هذه الأيام كلها راضيا أم غاضبا؟ نعم كان راضيا، ولكنه رضا المؤمن يقبل القدر ويسأل الله اللطف فيه.
كابد الفلاح المصري من نظام الري ما أصابه بالنكبة في خصوبة الأرض، وجودة الزرع، ولم ينقطع عهد الفلاح بما كان لأرضه من الخصوبة، ولزرعه من الجودة، قبل الزمن الذي جاء فيه هذا النظام، فالفلاح يعلم اليوم أنه أصيب في المقتل من حياته الاقتصادية، بعلم أن بطن الأرض امتلأ ماء ففسد، وأن متوسط محصول الفدان من القطن أصبح ثلاثة قناطير، وقد كان في أيامه الماضية ستة قناطير، ويعلم أن الأرض الواسعة لم تزل بورا في وطنه وهو في حاجة إليها، ويعلم أن الآفات سلطت على زرعه لا نقمة من الله بل أثرا لازما لفساد الطرق التي اتخذت لتوزيع الماء.
يعلم الفلاح أن زينة الظاهر تنبئ بخبر مكذوب، وأن وراء هذا الظاهر باطنا هو الذي يعرفه؛ لأنه هو الذي يشقى به، ويصلى ناره، على أن هذا الفلاح أدرك أن العلم حق مباح له منذ كان المغفور له محمد علي باشا يأخذ ابنه ليعلمه، ثم تلفت حوله فإذا هو محروم من العلم؛ لأن سياسة التعليم قضت أنه ليس أهلا للإنسانية التي يتخذ العلم زينة لها.
هذا بعض ما كابده الفلاح فيما قبل السنوات الخمس الأخيرة، وهذه وطنيته وشعوره، فإن كان بعد ذلك راضيا محبا مغرما، كانت مسألة فيها نظر!
الفصل الثاني
مصر وتركيا
«ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك» (المستر أرثر هور)
كلما تحرك المصريون في سبيل آمالهم، استطابت الصحف واستطاب بعض الكتاب والساسة أن يقولوا: إن هذه الحركات ليست إلا حنينا لتركيا، وإن هذا الحنين ليس إلا فورة المنزع الديني! ولكن الكلام عن آمال المصريين في حركاتهم، لم يكن خاصا بصحف إنكلترا وكتابها وساستها، وإنما كان خاصا بهم أن يتجانفوا الحق في وصفها.
إن مصر الإسلامية تعلم من حكمة الإسلام وعدله ما يجمع لها الاستقلال المدني على أتم وجوهه، والتبعية الروحية على أتم وجوهها أيضا، وقد أنصف المستر «أرثر هور» مراسل التيمس في الشرق الأوسط الحقيقة والتاريخ إذ قال: «ولكن عروة العواطف التي تربط مصر بتركيا كانت على وجه عام أقوى مما كان مظنونا، وذلك رغم عدم الرغبة في سيادة الأتراك».
غير أن المسألة تحتاج إلى بيان تنحسر به شبهة الباطل عن وجه الحق، فالذين يعرفون مصر وشعبها، والذين وقفوا على تاريخ النهضة المصرية منذ كانت لمصر قضية في تاريخ السياسة، يشهدون أن الشعب المصري لم يكن يأبى سيادة الأتراك المدنية ليقبل أية سيادة أخرى، ولكنه كان يأباها ليكون سيد نفسه وصاحب أمره، وهكذا كان الحكم الذي شرع الله له، لا فضل لأحد على أحد إلا بالعدل والتقوى، وهيهات أن يرضى شعب لنفسه ما يرضى للسلعة تنتقل من يد إلى يد بثمن أو بغير ثمن، فكيف بالشعب المصري وهو يحفظ قول «ابن الخطاب» حين اقتص لأحد المصريين من ولد «لعمرو بن العاص»: «متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».
إذا كان المستر «أرثر هور» لا يرى غير أن يشير إلى أن مصر تأبى السيادة التركية، فإن مصر نفسها تجهر بأنها تأبى كل سيادة لأحد، بل أولى بهذا الإباء أن يكون ضرورة بديهية؛ لأن عروة العواطف القوية لم تصرفه عن تركيا، فمن البديهي ألا ينصرف عن غيرها لا سيما إذا انضم إليه ضعف العواطف أو عدمها كما يشهد المستر «أرثر هور» نفسه بقوله: «فلما انتصرنا في الحرب فوجئنا بعصيان أيقظنا من النوم، وظهر أن المصريين لا يحبوننا ولا يريدون الانتفاع بنا».
وقد لا يقتنع المعارضون إلا ببرهان أكثر وضوحا وأوسع بيانا. فإن كانوا كذلك قلنا: إن الإسلام يأبى أن يعيش محلول العروة، غير مستند إلى ركن ليس أرفع منه إلا الله، ولا يد فوقه إلا يد الله، وقد علم المسلمون في مصر وغيرها هذا الحكم من شريعتهم ، وهم ينظرون اليوم كما نظروا منذ سبعة قرون فيجدون بقية هذا الركن في تركيا، ولا منافاة بين أن يجتمع الإخلاص للدين في حدوده المشروعة، والإخلاص للوطن في حدوده القومية، فالمصريون كغيرهم يريدون أن تبقى للمسلمين خلافة لا يتوسط بينها وبين الله شيء غير عنصر الإسلام، لتتم الولاية الروحية، وتستقيم عباداتهم وأوامر دينهم فيما بينهم وبين الله، ويريدون ألا تكون لأحد سيادة مدنية عليهم؛ ليشعروا بنعمة الحرية، وهي أعظم نعمة في الحياة.
نعم، يقول المصريون: نحن في عمل الدنيا المحض أولياء أنفسنا، وفي عمل الآخرة المحض تابعون إلى ولاية المسلمين الروحية العامة، فنحن نريد أن تكون هذه الولاية، وأن تبقى مصونة عن أن تكون فوقها يد غير يد الله، وليس لمن له بصيرة أن يتأول هذا المعنى ليصرفه عن موضعه إلى الشحناء الدينية، فإن المثل قائم في المسيحية نفسها، فهناك ديوان الفاتيكان يأبى إلا أن يكون مستقلا، ويأبى الكاثوليكيون في كل بقاع الأرض إلا أن تكون له السيادة الروحية عليهم، وأن يكون محفوظ الكيان قوي السلطان، فهل قال أحد إن هذه العروة الوثيقة التي تربط أهل الكثلكة بالبابوية نزعة منهم إلى الشحناء الدينية أو تفريط في سؤددهم القومي؟!
على أن السيادة التركية المدنية التي ألح عليها الزمن وجعل ينقصها من أطرافها حتى كانت في آخر العهد بها كالخيط دقة وكالطيف مثالا، لم تكن قليلة الأثر في مدافعة الأيام، فقد كانت على ما بها من ضعف ووهن عقبة في سبيل الحالة الجديدة،
1
وكانت النتيجة الضرورية لانقطاع ذلك الخيط الدقيق - لو أنه انقطع قبل الحرب الكبرى - أن تقف مصر وحدها مجاهدة لنفسها حيث لا تعينها قوة المشاكلة في الشعوب الأخرى، ولا ترفع يدها بحجة المبادئ والوعود التي خلقتها الحرب، فبقاء تلك السيادة إلى الوقت الذي خاضت فيه تركيا غمار الحرب أفاد القومية المصرية فائدة لا يختص بها مسلم دون قبطي.
في مصر أمة تعرف أنها كانت سيدة، وتعرف أن صاحب السيادة يأنف أن يكون مسودا، وفي مصر المسلمون يأخذون بأيدي إخوانهم في الوطنية ، عاملين جميعا لغاية واحدة، هي أن يكونوا سادة أنفسهم في وطنهم، فلا المسيحي يشعر في وطنه بأنه مسود، ولا المسلم يشعر بأن هناك سيدا له ولابن وطنه الآخر، أما النجوى الروحية فلكل أن يناجي بها من شاء، ولكل أن يعترف بها في حدودها ومعناها لمن أراد، هذا سر العروة القوية التي تربط عواطف مصر بتركيا، وإن التاريخ ليشهد أن المصريين وقفوا أمام العثمانيين مواقف كثيرة يطلبون فيها استقلالهم المدني، بينا كانوا يحرصون كل الحرص على الخلافة، ويجيبونها إذا دعتهم لأمر جليل لا يزيد سلطانها المدني عليهم، فهل غريب أن يقفوا هذه المواقف أمام غير العثمانيين؟ إنها إذن مشكلة لا تفهم!
هوامش
الفصل الثالث
الحكم الذاتي
«إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية»
المستر لويد جورج
الأشكال التي تتخذها صور الحكم في الشعوب تتلون بألوان من الخصائص الفطرية، أو الملكات المكسوبة بالوراثة، أو بتحدي التاريخ، أو العادة المألوفة التي لم يذهب بها طول أمد الإهمال.
وإن المشاهدة لتدل على أن الناس مفترقون في ذلك، فالجماعة التي لم تعرف من خصائص الحياة إلا الشعور الساذج بأنها موجودة على قدر المكان الذي يحتويها والزمان الذي يشتملها، لا يصلح فيها حكم يعتمد على إرشادها لنفسها؛ فإن مثلها كمثل الطفل تعوزه الرعاية في حركاته، والتقويم في انتقال خطاه، ولكنك لا تجد تلك الجماعة إلا فيمن تهبط بهم «الصدفة» من رءوس الجبال، أما الذين تحملهم أرض المدائن ويكتنفهم عمران الحياة فإن مجرد اجتماعهم على هذا النحو بجعلهم أهلا لأن يستقلوا بشأنهم، ويعيشوا بإمرة أنفسهم لا بإمرة سواهم، وقد لا تكون صلاحيتهم للمثل الأعلى من الكمال تامة، ولكنهم لا يدركون هذا المثل الأعلى إلا أن يتركوا لأنفسهم ترفعهم لجة وتهبطهم لجة، حتى يجيدوا السباحة فوق غوارب بحر الحياة.
في العالم الآن أمم هي المثل الأعلى للحكم الذاتي في أجل معانيه، ولم يزل التاريخ ناطقا أن هذه الأمم لم تصل إلى ذلك إلا بعد أن تركت لنفسها، ولم يقل التاريخ قط إن أمة مغلوبة خرجت من يد أمة غالبة ظافرة منها بالتدريب على الحكم الذاتي الكامل، ولا قال التاريخ إن أمة فقدت حواسها وهي مقهورة حتى لم يوقظها القهر إلى ما تجهل مما يجب أن يكون لها، كل الأمم التي وعاها صدر التاريخ وكانت مغلوبة شعرت في غلبتها بأن الغالب سلط عليها بحكمه وأن سبيل نجاتها أن تحكم نفسها، وكان هذا الشعور مفتاح باب التفكير في الحكم الأصلح، أليس ذلك كافيا لإثبات أهليتها لأن تكون لنفسها، وأن تعيش لنفسها، وأن تنفصل عمن عداها لتنال الحق الطبيعي، وهو أن تبقى للوطن ويبقى الوطن لها؟
متى علم الرومانيون والدانماركيون الشعب الإنكليزي أن يحكم نفسه بنفسه؟ ومتى علم الإنكليز الأمريكيين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم؟ ومتى تلقى البولونيون والفنلنديون والقوقازيون وشعوب الملايا وغيرهم دروس الحكم الذاتي عن قياصرة روسية؟ ومتى وعت شعوب أمريكا آيات هذا الحكم عن الإسبانيين؟ بل متى طلعت شمس الحرية في فرنسة بإرادة الغالبين الذين تلقفتها أيديهم جيلا بعد جيل؟
التاريخ تجارب صادقة إن لم يكن قواعد تبنى عليها الأحكام الصحيحة، وإلى جانب التاريخ الطبائع المكسوبة والتقاليد الموروثة، ولا ينكر حكم هذه الأقضية الثابتة إلا ذو غاية يمقتها العدل، أو جهل يبرأ منه العلم، أو عقل أعمى لا يبصر الحقائق.
والتاريخ يشهد أن مصر كانت لنفسها مستقلة أكثر ما عاشت من عمر الدهر، وكانت لها تجارب في حكم الشورى أكثر ما رأت من الأحكام في حياتها، وكانت تقاليدها الشورية متصلة الحلقات بماضيها البعيد وعهدها الحاضر، فإن لم يقتنع المعاندون بشهادة التاريخ فليقتنعوا بدلالة التجربة، وإم لم يقتنعوا بهذه فليقتنعوا بآثار الملكة النفسية التي استلزمتها التقاليد الموروثة، وإن لم يقتنعوا بهذه أيضا فلا أقنع المعاند إلا الله.
ليست سطور التاريخ هي التي شهدت وحدها بأن مصر كانت في أقدم أيامها شورية على أكمل مثال، بل شهدت الآثار الناطقة بذلك أيضا؛ فقد صح أن قصر «لابيرنت» الذي كان في إقليم الفيوم وكان مؤلفا من ثلاث آلاف غرفة لم يكن إلا الدار التي يجتمع فيها «مجلس الأعيان » للنظر في شئون البلاد كافة، ولما دخل الإسلام مصر دخل وفي يمينه علم الشورى فقضى أن تكون سبيل حكم الناس. وبقيت مصر إسلامية تقرأ كتابها الكريم وتعي أحكام شريعتها القويمة، ولم تنسخ آية الشورى من كتابها، ولا رفعت أحكامها من شريعتها، وإذا كانت الأديان تطبع النفوس على غرارها، وتستجد لها كيفيات وملكات لم تكن من قبل؛ وجب أن تقضي الضرورة أن الدين الإسلامي أكسب المصريين ملكة الحكم الذاتي وطبع نفوسهم عليها، هذا أهون الحكمين، أما الحكم العظيم الذي جاء به الإسلام فهو أمره لأهله أن يكونوا أولياء أنفسهم صونا لهم من عسف الغريب، وحرصا على ريحهم أن تذهب فيعيشوا أذلاء مقهورين.
يتصل عهد مصر اليوم بأول عهدها بالإسلام، فهي لا تزال إسلامية، وقبل ذلك كانت متصلة بعهد المجد العظيم أيام كانت سيدة العالم، ومفيضة الحياة على الأكوان، ومعلمة الشعوب أن الحكم الذاتي حق لكل شعب حين كان قصر «لابيرنت» مقر شوراها، والآن فعهدها بالحكم الذاتي في أمثلته الحديثة ليس بعيدا.
كان لمصر لعهد محمد علي «مجلس المشاورة الملكي» و«المجلس المخصوص» وهو بمثابة مجلس الوزراء، وكان لها «مجلس نواب» لعهدي إسماعيل وتوفيق، وكان لها «مجلس الشورى» و«الجمعية العمومية» حتى استعيض عنهما بالجمعية التشريعية، وكانت لها مجالس المديريات التي لم تزل باقية، وقد لقي مجلسا النواب ومجلس الشورى والجمعية العمومية من تصاريف السياسة ما لقيت، فإن الأولين قتلا في مهدهما، والأخيرين عاشا يجزيان على الإحسان بالإساءة وعلى الإساءة بالإحسان، كانت كل حجة تصدر منهما على أن الأمة خليقة بالحكم الذاتي الكامل تعد ذنبا يستحقان عليه عقوبة الطعن ونقصا يتخذ دليلا على عكس المطلوب.
1
هكذا وقفت السياسة للأمة هذا الموقف الغريب، وكان المنصفون يسخرون من هذا الموقف أكثر مما يعترضون عليه؛ لأنه كان موقف الرجل يقيم نفسه وليا على آخر فيضمر له ما شاء هواه ثم يعجز عن أن يستقيم على الصدق فيما يقول ويفعل.
لم يخلق الله أمة - منذ خلق الدنيا - لتعلم أمة أخرى كيف تحكم نفسها بنفسها، وما خرجت أمة قط من يد أمة أخرى وفي يدها إجازة هذا الحكم بعد أن تكون قد نالتها بالامتحان، ولكن الذي وجد وقامت عليه شواهد الحس والعلم والتاريخ أن الشعوب تخرج من أيدي غالبيها كما يخرج المريض من فراش المرض ولا تكون قد شفاها دواء من مرضها، بل تكون هي قد علمت الدواء وعلمت أنه محرم عليها فشرعت تطلبه لتستطب به.
إن الأمة التي يقال إنها عليلة تحتاج إلى المعالجة بيد أمة صحيحة ليست بين الأمم التي تعمر الأرض، تلك أمة ضربت في المجاهل مع الوحوش فلها فطرة وحشية، فحاجتها قبل كل شيء أن تستأنس وتراض على طبائع الإنسان، ومثل هذه الأمة لا حيلة في أن تتسلط عليها أمة أخرى، لا حيلة في ذلك ولا واقي لها من أن تبلغ بها غاية المتسلط القاهر وهي الإدماج والتسخير.
يقول المستر لويد جورج: «إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية».
هذا القول حسن، معناه أنه لا بد أن تكون الحكومة التي تقوم مقام الحكومة الأهلية حكومة غير حسنة أي قبيحة.
فهل من إنصاف الحق أن يكون العمل بهذه القضية في مكان دون مكان؟ تلك إحدى عجائبهم!
هوامش
الفصل الرابع
روح الأمة
«إن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها هي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد»
إدمون دي مولان
هناك مقياس للحياة غير الثروة والعلم والنشاط في طلبهما، وهذا المقياس هو روح الأمة.
إن المصباح يرسل نوره ضعيفا أو قويا، ولكن العين توحي لصاحبها سبب ضعفه وقوته، توحي له أنها ترى شيئا مكنونا هو زيت المصباح، وأنه يضيء على قدره، فلو أن أمة كانت أمينة على خزائن الأرض، قائمة على بيوت الحكمة والعلم، ثم لم يكن روحها ذا نور ساطع يدل الناس عليهما لما أغناها العلم والمال أن تلتمس وسيلة يرى الناس في مرآتها جمال الكرامة، وجلال الإباء وعزة النفس، وعظمة الرأي والعمل. وإن مكان الأمة المصرية من هذه المنزلة ليس منكورا، فهو في مثل ضوء الشمس وضوحا والعالم المبصر لا ينكر ما ينكره الأعمى.
مضى عهد غير قصير وقفت فيه مصر موقف السلم الظاهر، ولكنها طوت هذا الزمن كله تحارب الحوادث وتنازل الأيام، ولم تتقلد سلاحا إلا بقية عزم صادق وأنفة صحيحة ويقظة دائمة وعقل يكشف لها عن أفانين الخطط التي يبتدعها الدهر. ولا يقول أحد إن مصر المجاهدة خرجت مقهورة في معركة من معاركها السلمية الدائمة؛ ذلك بأن روحها سليم لم تمرضه الأيام، طاهر لم تدنسه الحوادث، مصقول الجوهر، ينتفع بما يضر، ويهتدي بما يضل.
ما كانت الأمة المصرية قبل العهد الأخير مخلوقات صورية تقبل كل روح ينفخ فيها، ولكنها كانت شعبا تام الخلق، نامي الجسد والروح، ممتازا بخصائصه ومقوماته، كانت شعبا مدركا أين هو من الوجود وأين يستحق أن يكون موقفه بين الشعوب، وكان لا بد لهذه الأمة أن تكون كذلك؛ إذ لم تجهل من تاريخها القديم أن لها على العالم حق الأستاذ على التلميذ، فلا أقل من أن تنال المساواة لغيرها وفاء ببعض هذا الحق، ولا جهلت من تاريخها الحديث أنها تعلمت حتى جعلت تزاحم غيرها، وأثرت حتى جعلت تبلغ الأقطار القاصية بتجارتها وغلاتها ومصنوعاتها، وقويت حتى أخضعت الأشداء وأخافت الأقوياء.
قال المسيو «تييرس» وزير خارجية فرنسا في كتاب إلى المسيو «جيزو» سفير فرنسا في لندن: «إن الباشا - محمد علي - قادر أن يشعل نار الحرب لأي تهديد يقع، أو حصار يحدث، أو أي عمل آخر، فخذ حذرك من ذلك، وأيقن أن محمد علي يجتاز جبال طوروس، ويلقي أوربا في هاوية الخطر إذا هوجمت الإسكندرية أو أية جهة من جهات القطر المصري الهائجة أو التي توشك أن تهيج».
مصر التي لم تجهل هذه الصفحة من تاريخها الحديث لا تقذف إلى الضعة والهوان إلا أرجعتها خصائصها إلى الرفعة والشرف؛ فإن بينها وبينهما ذمة مرعية ونسبا محفوظا.
جوهرة الأكوان، مصر التي على شاطئ البحر الأبيض، التي عشقها الفرس والرومان والعرب، لم تزل دار الغريب وملجأه لا يجد في الدنيا غيرها بديلا من وطنه، ولا يجد في الأقطار صدرا رحبا، وحضانة بارة كصدرها وحضانتها، مصر هذه تعلم أن لها هذه المنزلة عند الناس فتعلم أن تربتها ذهبية، ونيلها نمير، وأفقها صحو، وشمسها مترفقة. تعلم أن في هوائها شفاء السقم، وفي أخلاقها عزاء الغريب، وأن الذكاء والألفة والثبات والصبر صفات مخلوقة في أبنائها مكسوبة في غيرهم، وقد جعلتها هذه الخصال وطنا يلوذ به من لا وطن له، وكانت كذلك منذ أقدم أيام التاريخ، أفلا تكتسب مصر من جيرانها ومن الوافدين عليها قدرة على تناول الحسن من آرائهم وفعالهم.
نهض «محمد علي» بمصر منذ قرن وربع قرن، ويوم تحرك بنهضتها استقدم العلماء من أوربا مستعينا بهم على ما يبغي، ولم يبن محمد علي لهؤلاء العلماء الذين استقدمهم بروجا يعيشون فيها، ولكنه خلطهم بالأمة، وهم كانوا أوعية علم وخزائن فضل وأمثلة لمحاسن الأخلاق، فهل كان المصريون يومئذ مخلوقين بغير أعين تبصر وآذان تسمع وقلوب تعي؟ أو كانت لهم أعين وآذان وقلوب فانتفعوا بسيرة أولئك الرجال وأضافوا جديد منفعتهم إلى قديم المجد الذي ورثوه عن آبائهم؟ على أن هؤلاء الرجال كانوا بين الأمة أساتذة معلمين، فيكف لا تصقل روحها بصقال العلم الذي أفاضوه عليها، والعمل الذي دربوها عليه؟ وما زال شأن الولاة بعد ذلك كشأن محمد علي، وكان إلى جانب هؤلاء العلماء أهل النشاط والفضل من الأجناس الوافدة على مصر، تتكاتف وإياها على خدمة الوطن الذي تناسل فيه المصريون، والذي رحب صدره لغيرهم فكان لكل غريب وطنا ثانيا أعز عليه من وطنه الأول.
رأت مصر هؤلاء جميعا، ووقفت على ما عندهم من الرأي في الحياة والعمل للسعادة، ونظرت في كتب العلماء وتاريخ الأمم ونهضات الشعوب، وأدركت ما لها من أسباب وعلل، ثم عادت تقارن ذلك بماضيها فإذا هو صورة منه، فلما شرعت تقارنه بحاضرها هالها بعد المسافة بينهما، على حين أن صفاتها خليقة باتحاد الصورتين، ومنزلتها من الرقي حرية أن تكون بين منازل الأعزاء.
رزقت الأمة روحا سليم التكوين رفيع المكانة كامل الخلق، فكان لها حصنا يرد عنها عادية الزمن، وقوة تصرع الأيام كلما أغارت عليها فترجع مخذولة خزيانة، فروح الأمة المصرية هو الذي أبقاها إلى اليوم فلم تنل منها حيل الأيام شيئا، وهو الذي صان وحدتها فلم تصل إليها يد التمزيق، هو الذي أيقظ فؤادها فلم تنصب لها حبالة إلا تبينت موضعها وقطعت خيوطها.
أكان ينتظر من أمة استأثرت بالذكر الأسمى من جميل ما أسدى المصريون والعرب للمدنية فضربت بسهم وافر فيما أخرجت للعالم مدنية القرن التاسع عشر والقرن العشرين، أن تحمل بين جنبيها روحا متخاذلا، لا يثبت به موقفها أمام الأعاصير والزعازع؟
يؤثر عن «إدمون دي مولان» قوله: «إن الأمم التي بلغت فيها همة الإنسان منتهاها هي ملجأ الحياة الأدبية الصحيحة حيث تثبت الأخلاق وتبقى المحامد».
وقد شهد الله أن الأمة المصرية إحدى هذه الأمم؛ فإن مبلغ همة إنسانها أن غالب الأيام فغلبها وصادم الحوادث فصدمها على كثرة إلحاحها ودوام انصبابها، ومن سوى هذه الأمة خليق أن يكون ملجأ الحياة الصحيحة؟ وهل يضيرها أن أصابتها المدنية السياسية برشاش الفساد؟ هبها كذلك، ففي الباطن جوهر نقي طاهر.
إن الله شهيد، لئن لم يسلم الناس أن هذه الأمة كذلك فلا كانت كذلك أمة أخرى، وإنها إذن لبدعة تستحق النظر فهل من متعظ؟
الفصل الخامس
القومية واللغة
«إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها»
ماكس نوردو
إذا صورت القومية جسدا فاللغة روحها، وإذا انفصل الروح عن الجسد فارقته الحياة.
وقد صدقت شواهد التاريخ، ولم يكذب نذيره للناس ألا يناموا عن لغتهم خشية أن تفنى فتفنى قوميتهم معها، في التاريخ شواهد الصدق، فهو يقول: إن أول ما يكون هلاك اللغة أن يتخللها دخيل لغة أخرى، فيحمل معه إلى نفوس أهلها طبائعا غير طبائعهم، وعادات غير عاداتهم، وآدابا غير آدابهم، تمكنها منها تلك الألفاظ السهلة السيالة التي تخالط لغتهم الأهلية، وكلما قوي هذا الدخيل انبسطت به الألسنة، واعتادت معانيه الأذهان، فتنقبض اللغة الأهلية شيئا فشيئا، ثم تذوب أمام غلبته، وهنالك تودع الأمة قوميتها وتقابل قومية جديدة لا تبصر فيها تاريخا خاصا، ولا خلقا خاصا ، ولا وطنية خاصة.
أين قوميات الأمم القديمة والحديثة التي هضمت لغتها معدات اللغات الزاحفة عليها؟ أين قومية هنود أمريكا وأهل المستعمرات الأوربية من وسط أفريقيا؟ وأين قومية «المغاربة» من أبناء «زنانة» و«كتامة» وورثة «القرطاجيين»؟ وأين قومية غير هؤلاء ممن كانوا قديما وحديثا أصحاب وطن عزيز الجانب ووطنية ناهضة الجناح؟ لقد هضمتها أيدي الغالبين حين هضمت لغاتهم لغاتها، وإنك لتحتال بكل حيلة لترى خيط الصلة بين من يسكنون تلك البقاع اليوم وبين آبائهم الأولين، فلا ترى ذلك الخيط؛ لأنهم كانوا أمما روحها اللغة فانتسخت لغاتهم فمسخوا أمما أخرى. ثم بادت لغاتهم الجديدة فمسخوا مرة ثانية، هكذا يروي التاريخ وتصدق روايته، وإنه ليحدثنا أيضا أن الفاتحين إنما يغلبون الأمم ويخضعونها بسلاحين: اللغة والسيف.
أصبحت اللغة العربية لغة مصر، ومضت عليها القرون الطويلة فصارت وعاء لآداب الأمة وعاداتها وأخلاقها وتاريخها، وصارت قوام شخصيتها ومساك جنسها وصارت لسانها في التأليف والكتابة والمخاطبة، وفي كل حاجة للغة فيها وساطة، ولعل اللغة العربية أقوى اللغات على الذيوع وبسطة السلطان، وأقدرها على الثبات والظفر بالفوز على أحداث الزمن، أما قوتها على الذيوع فلأنها لغة دين بجانب أنها لغة قومية، ولغة الدين لا تحتاج إلى شيء يعينها على إخضاع غيرها من اللغات متى أقبلت النفس على هذا الدين، وأما أنها قادرة على الثبات فلأن لها من بقاء القرآن آخر الدهر نصيرا شديد البأس بجانب القومية وهي النصير العام، وإنك لتدرك مقدار أثر الدين في حفظ اللغة العربية إذا سمعت هذه الدعوى المقلوبة:
قال اللورد دفرين في تقرير خاص بالتعليم في مصر وضعه سنة 1882: «وأخال أن أمل التقدم ضعيف ما دامت العام تتعلم اللغة العربية الفصحى التي هي لغة القرآن».
على رغم أن للأمة المصرية من لغتها تلك القوة وهذا الثبات، فقد وجدت هذه اللغة في وطنها خلال ثلث القرن الأخير ما لا يجده الخصم من خصمه، ولكن الأمة لم تكن تخضع لما يفسد عليها لغتها ثم ينتهي بفنائها، بل كان كل سهم يرمى به القلب اللغة يجد دواء عاجلا يرد عليها العافية أكثر مما كانت، ويعيد إليها البهجة أعظم مما فقدت، ويزيدها تمكينا، ويزيد نهضتها صعودا، وسوقها رواجا، ولا ريب أن لغة الأمة تمشي الآن بين صفوف من الجلال لم تكن تمشي بينها من قبل.
ظهرت مخاصمة اللغة الوطنية في دور الحكومة فأغفل أمرها في المخاطبات ووضع التقارير وتأليف القوانين واللوائح، ولم يبق لها ظل إلا فيما لا بد منه لإبلاغ الأمة ما تريد الحكومة أن تبلغها من أعمالها، والحكومة مصرية والوطن مصري، واللغة العربية لغة الحكومة الرسمية الوطنية، ولغة الوطن التي لا عوض عنها، ولكن حكومتنا عاشت ثلث قرن تقابل لغتها الرسمية بوجه عابس، وتصافحها بيد مقبوضة، كانت الحكومة تعدل عن لسانها الرسمي إلى لسان آخر أجنبي، ولا نعرف حكومة وطنية لها لغة خاصة تفعل ذلك إلا حكومتنا.
القوانين توضع أعجمية، وتبحث بلسان أعجمي، ويقضى بتنفيذها وطاعتها، وبعد ذلك تترجم بلغة الأمة. فإذا سألت: لماذا يكون ذلك؟ فلا تجد جوابا إلا أن هناك لغة غريبة يراد أن تكون أصلا واللغة الرسمية فرعا، أو رأسا واللغة الوطنية ذيلا، وإذا سألت: لماذا لا يعرف الموظفون الأجانب لغة البلاد لأنهم المحتاجون إلى الوظائف ولأنهم موظفون في حكومة البلاد؟ فلا تجد جوابا إلا أنهم أرادوا عكس الآية وكفى.
وظهرت مخاصمة اللغة العربية في التعليم منذ سنة 1891، فقد كانت اللغة العربية لسان التعليم في المدارس كلها، وفي هذه السنة دخلت اللغة الأجنبية المدارس الابتدائية، وجعلت لسان التعليم في دراسة علمي الأشياء والجغرافيا، وفي سنة 1892 دخلت المدارس الثانوية وجعلت لسان التعليم في دراسة العلوم الطبيعية والتاريخ والجغرافيا، ولما جاءت سنة 1897 لم يكن للغتنا أثر في التعليم بهذه المدارس.
وإذا كان يشفع في هذا أن إهمال اللغة في الدرجتين الأوليين من درجات التعليم لا يضيرها كثيرا لأن حضانة الأسر لأبنائها كفيلة بحفظها؛ فإنا ننكر أن إشراب النفوس الناشئة لغة أخرى منذ الحداثة، لا ينزل هذه اللغة من نفوسهم في المكان الذي يجب أن تنزله لغتهم القومية، على أن سياسة التعليم التي رأت أن تنسخ ظل اللغة العربية من التعليم الابتدائي لتنزع جذورها من الصدور نسخت ظلها من التعليم العالي أيضا، والنتيجة المقصودة أن تبقى اللغة بعيدة عن المنهج العلمي فلا تكون لغة علم كما لا تكون لغة قومية.
كانت لغة الأمة لسان التعليم في مدرسة الطب إلى سنة 1897، ثم أغارت عليها اللغة الأجنبية في تلك السنة، كانت لغة البلاد لغة التعليم كله في صغريات المدارس وكبرياتها، فرأينا وقتا طردت فيه لغتنا من مدارسنا كافة، ولولا أن الأمة شديدة الغيرة على قوميتها فهي شديدتها على لغتها، لما عادت اللغة العربية لسانا للتعليم في بعض المدارس.
ومن عجيب ما حدث أن التقرير الذي وضعته لجنة التجارة والصناعة بيانا لنتيجة عملها وضع بلغة أجنبية ثم ترجم إلى العربية، وكان هذا أيضا شأن لجنة التعليم الأولي في تقريرها، وهو شأن كل لجنة تؤلفها الحكومة المصرية لتؤدي عملا.
أما موقف الأمة فيدل على جلاله هذا الفخر الذي وعاه صدر الأيام، والذي استحقته بفضل الغيرة الدائمة على لغتها والجهاد الدائم لنصرتها، وقد ذاعت الصحف الوطنية فأدت نصيبا غير قليل في خدمة اللغة، هذبت الأساليب، وأدتها إلى الأفهام مستقيمة، ونثرت المفردات الفصيحة؛ فوعتها الأذهان وظهرت في التفاهم كتابة ومخاطبة، ومن جميل ما فعلته الصحف الوطنية أن طهرت الأساليب من الألفاظ الفاسدة والتراكيب السقيمة والكلمات التي ينفر منها الذوق، مما دخل به المتمصرون على هذه البلاد.
أما الأدب والتأليف فالفخر بهما عظيم، وإنك لتعد الجم من الشعراء المطبوعين على سلامة الذوق وتجويد اللفظ والمعنى، والكتاب المنشئين ممن يمتعك بيانهم، ويطربك حريف أقلامهم، وإنك لتستقبل كل يوم مؤلفا جديدا أقل ما فيه من الخير أن به من مفردات اللغة ما يدل على مستحدث المعاني ومستجد الأشياء.
هذه غيرة الأمة على لغتها، وهذا جهادها في سبيل نصرتها، فهل يضيرها بعد ذلك أن تبقى مخذولة بين جدران الدور الحكومية؟ هل يضيرها ألا يرسم بها شيء، وأن توضع أسفل من غيرها في كل ورقة أو بطاقة، وأن يجري بها القلم الحكومي سقيما عليلا، لا ينتسب إلى العربية أكثر مما ينتسب إلى الأعجمية؟
إن الذي يرى كتابا أو منشورا خارجا من إحدى دور الحكومة لا يرى فيه حكومة مصر في هذا القرن، بل يراها في قرن الاختلاط، فلغتها قبطية لا تنسب إلى عرب ولا إلى عجم.
راجت سوق اللغة وأرغمت أنف البغي، ولا سبيل إلى القضاء على قومية أمة إلا أن يقضى على لغتها، قال «ماكس نوردو» الألماني: «إن القضاء على لغة أمة قضاء على قوميتها».
أما قومية الأمة المصرية فمحال أن يقضى عليها لأن لها لغة أبدية الحياة، فالطمع في ذلك سقطة من سقطات العقل!
الفصل السادس
الرقي الاقتصادي
«إنا لو رجعنا البصر إلى أبعد الأزمان التي يحدثنا عنها التاريخ؛ لوجدنا أن قدماء المصريين كانوا عائشين في ظل حكومة كاملة النظام، يتنعمون بمزايا حضارة لا تدانيها حضارة سواها»
لجنة التجارة والصناعة
يحسن بنا قبل الكلام فيما بلغته الأمة من الرقي الاقتصادي خلال ثلث القرن الأخير، وقبل النظر في أسباب هذا الرقي ومآخذه، أن نقف قليلا على طلل الماضي نندب فوق قبره مجدا فنيت معاهده، ولم تفن آياته وشواهده.
لنسأل الطلل الدارس: أين الدفائن من أرض مصر تخرجها همة تحشد العلم جيشا وتسوق الدهر خادما؟ وأين السفائن من بحار مصر تغادرها موقرة بالمتاجر مما أنبتت التربة الذهبية، وما أبدعت اليد الصانعة، فتروح بفضل الإحسان للناس بما تحمله إليهم، وتغدو بربح المال لأهلها والثناء على بنيها؟ وأين الحياة الصاعدة إلى منزلة النجم إدراكا لغاية الرقي في كل ضرب من ضروبه؟ أين الزراعة فياضة الغلات، والصناعة باهرة الآيات، والعلم شجرة أصلها في مصر، وظلها في كل مكان؟
أين هذا كله؟ بل أين مصر ألتي رآها صاحبها وليس في الدنيا قطر يدانيها، ولا في الأرض رقعة تفضلها، فحسب أن ملكها لا ينبغي لغير إله، ووجد ذلك الإله في نفسه فقال محتجا:
أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي
أين مصر التي أرادها «يوسف» حين قال لصاحبها:
اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم
وأين مصر التي صدق ابن العاص في وصفها حين قال: «إنها زمردة خضراء»؟
طوي الكتاب وجف القلم، وبقيت عيون السماء شاخصة ترى كيف يتغير الإنسان ولا يتغير المكان، وبقي النيل جاريا ينظر كيف تتبدل ألوان الخلائق ولا يتبدل لونه الفضي، ولكنها أمة لا تبكي الماضي لتجلس على قبره حتى تهلك، وإنما تبكيه لتذكره فتنتفع، وتتمثل جلاله فتتعظ.
كانت مصر منذ أقدم تاريخها كأعظم ما تكون أمة في رقيها الاقتصادي، نقول كانت كذلك من قبل لأنها هوت في أيامها الأخيرة من منزلة رقيها العظيم، ولكن الأبرار من أبنائها تداركوها فجعلوا يقيلون عثرتها فلا ينالهم كلال ولا ملل كلما دكوا عقبة فوجدوا بعدها عقبات، تلك حقيقة لا عناء في الاقتناع بها، فمصر تقول إن صناعتها وتجارتها وزراعتها بارت أشد البوار، وهي حين تقول ذلك تأمن كل اعتراض من جانب اليد التي قامت على منافس الحياة الاقتصادية، فقد جاءت هذه اليد في الزمن الأخير تعترف بأن مصر الاقتصادية لا تتنفس أنفاس الحياة، ولا تنبض نبض الصحة، وكان هذا الاعتراف عملا لا قولا، والعمل لا يكذب إذا جاز أن يكذب القول.
نسمع الآن كما كنا نسمع قبل الآن أن الأمة المصرية مغمورة بفضل الإصلاح الذي تم في ثلث القرن الأخير، فعلينا أن نعرف هذا الجميل لأهله، نعم الأمة المصرية أكرم الأمم أخلاقا وأكثرها سماحة، فهي تعرف الجميل إذا رأته في موضعه أو رأت أنها مقصودة به أو ببعضه وإن لم يقع في موضعه، أما لسان الحكومة فينطق بأن هذا الجميل لم يكن ولم يحصل، فمن الغبن أن تكلف الأمة معرفته، وتعنف على إنكاره، أو يقال إنها جحدته.
أتدرون ماذا يقول لسان الحكومة؟ إنكم تسمعونه في المذكرة التي وضعتها وزارة المعارف المصرية لتطلب إلغاء الشهادة الابتدائية من مجلس الوزراء، وتسمعونه في الأمر الحكومي الذي قضى بتأليف «لجنة التجارة والصناعة»، وفي الأمر الذي قضى بتأليف «لجنة تعميم التعليم الأولي»، وفي الأمر الذي قضى بتأليف «مجلس التجارة الزراعية»، إنكم تسمعون هذا اللسان في هذه الصور الحكومية المسجلة؛ فإن وزارة المعارف لم تفتقر إلى الشجاعة الأدبية ساعة سجلت على نفسها في مذكرتها أن التجربة دلت على فساد التعليم الابتدائي وعدم جدواه، ولم تأنف السلطة الفعالة أن يشهد الأمر الخاص بلجنة التجارة والصناعة أن صناعة مصر وتجارتها طويتا فأريد نشرهما في الزمن الأخير، ولم تخش أن يعجب الناس حين يسمعون أنها تحركت بعد الجمود الطويل لتنشئ «جامعة أميرية» فلم تكن هذه الجامعة أكثر من ضم المدارس العالية وراء سور واحد، ولم تعبأ بالغرابة التي تفيض بها دعوى إصلاح التعليم بالهيكل العظمي الذي خلق للتعليم الأولي، ولم تأبه للدهشة التي تملك النفوس حين ترى ألفاظ العناية بالتجارة الزراعية مسموعة الآن فقط.
هذا هو لسان الحكومة في مذكراتها وأوامرها، وهو فصيح في الاعتراف بأن التعليم والزراعة والتجارة والصناعة لبثت مرتكسة في هاوية من الإهمال ليس في قرارها إلا الفناء حتى أيقظت الحاجة الوقتية العيون المغمضة فانفتحت بالنظر، النظر الذي لا يتجاوز الإشارة والكلام، على أن هذه الأشياء كانت أثناء تأجج الحرب يوم كان السكون ألزم الأشياء للمتحاربين، والآن فأين هي؟ وما خبرها، اللهم لا أثر ولا خبر، ولعل كل شيء عاد إلى أصله!
الزراعة
ماذا بلغت زراعة مصر من الرقي؟ إن الرقي الذي تضاف إلى الحكومة أسبابه وآثاره يقاس بمقياس العدم فهو لا شيء. أستغفر الله، فإن هناك شيئا عظيما رجعت أسبابه وآثاره إلى النظام الذي ابتلع الأموال العظيمة، هذا الشيء اسمه خيبة الآمال وفساد الأعمال، وله شاهد موجود ناطق، هو طرق الري التي أثبت الفنيون فسادها يوم كانت نظرية لم يجربها العمل، والتي أثبتت التجربة القاسية ما قاله الفنيون فيها، والتي لم تزل باقية إلى الآن.
أما أصل التفكير في الحاجة إلى نظام الري الحديث، ففضله راجع إلى محمد علي ورجال عهده، ولم يزل عمله في تحقيقه ناطق الآثار، بل أشار «السير ولكوكس» بالرجوع إلى الطرق التي وضعها محمد علي للري، وهي إشارة معناها أن المصلحين في هذه الأيام لم يعرفوا كيف ينظرون بعين ذلك المصلح الكبير، فرضوا لأنفسهم أن يتقهقروا إلى الوراء قرنا وربع قرن ليلتمسوا فضله في الإصلاح.
لم تزل الحياة الزراعية جامدة كأن لم تمر بها الأعوام الطويلة، فإذا لم يكن الري قد صلح بما فعله به فإن الأرض لم تر بذرا جديدا غير ما تعرف من البذور، وهذه البذور القديمة لم تجد عناية لتجويد نوعها، بل وجدت نقيض ذلك إهمالا أصاب بعضها بالرداءة وبعضها الآخر بالانحطاط بجانب مثله من بذور الأمم الأخرى، وهل تفتقر هذه الحقيقة إلى برهان بعد أن رأينا مصيبة القطن بانحطاط درجته، وبعد أن شاهدنا غفلة الحكومة عنه، فلا هي رفعت من هذا الانحطاط بتوليد الأنواع الجيدة، ولا هي دعت الزراع إلى ذلك وحببت إليهم العمل بحسن الجزاء، إنما كانت دلائل العناية أن انصرفوا بكل قوتهم إلى السودان يستنبتونه قطنا يرتفع على القطن المصري ويحتجزون له النيل ليرى نبات مصر وفلاحها أمرا جللا لم يريانه من قبل.
إن الأثر الملموس هو أن محصول القطن زاد في جملته لأن الفلاح زاد الأرض التي يزرعها قطنا ونقص في مقداره الجزئي، فقد أصبح متوسط محصول الفدان الواحد ثلاثة قناطير وكان قبل سنة 1900 نحو ستة قناطير، وما كان لهذا النقص من علة إلا أن الأرض ضعفت بكثرة تداولها في زراعة القطن لكثرة ما تطلبه المصانع الإنكليزية وغيرها منه، وإن نظام الري ملأ بطن الأرض ماء ولم يقم بجانبه نظام الصرف ففسدت تربتها.
أما محصول الغلال فإليك ما قالته لجنة التجارة والصناعة فيه: «إن محصول الغلال المصرية لم يزل على ما كان عليه منذ قرن خلافا للبلدان الكبرى الزراعية فإن محصولاتها تضاعفت وذلك بفضل الأساليب الزراعية الحديثة».
هذا هو الأثر الملموس، وهو الجميل الذي أسدي لمصر فما أعظمه! وما أثقله على رقبتها! وما أوجب عليها أن تعرفه فلا تنكره أبد الدهر! أليس كذلك؟
إن للإصلاح مواقيت لا تنقطع عن أمة ما دامت حاجاتها في الحياة متجددة، والإصلاح ليس كلاما يقال ويذاع، ولكنه عمل، فلماذا لم نره في مواقيته؟!
الفصل السابع
الصناعة
«إن مصر غدت مهد حضارة هي من أغنى الحضارات القديمة وأمجدها ، كما أنه بسبب التقصير في الانتفاع بالمزايا الطبيعية قدر لهذه البلاد ألا تبلغ درجة الرقي والرخاء التي كانت جديرة بها»
لجنة التجارة الصناعة
ما كانت البلاد المصرية في أي عهد من عهود الحضارة في منزلة تهبط عن الدرجة الأولى بين غيرها من البلاد جميعا، اللهم إلا هذا العهد فقد هبطت حتى أصبحت سفلا، وتأخرت حتى صارت ذيلا.
ومصر مخلوقة لتسكنها أمة تمشي أمام الأمم وفي يدها لواء الحضارة؛ فإن بها من الخصائص الطبيعية والمزايا الكونية ما ليس بغيرها، وإذا كانت للحضارة مقومات من ظواهر الطبيعة في الأرض والهواء والماء والجو والإنسان، فهذه المقومات وفيرة على أكملها في مصر، حتى كأنها اختصت بها دون سواها، ولكن العهد الذي احتواه ثلث القرن الأخير جعل مصر في ذيل الناس؛ لأنه أهمل كل هبة أنعمت بها الطبيعة على مصر، فكان من الضروري أن تكون نتيجة الإهمال غروب شمس الحضارة المصرية واقتحامها سبيل الحياة في لجة من الظلام الدامس، على أن الأمة لم تعجز عن أي توري همتها فتقدح شررا تستضيء به.
ادخل أية مدينة مصرية، وانظر هل تقف عينك منها على شيء أبدع من آثار الصناعة القديمة، افتح أي كتاب في تاريخ مصر القديم والحديث، وانظر هل تقرأ إلا شهادات تنطق بأن الصناعة المصرية كانت في العهد القديم أيام الفراعنة، وفي العهد المتوسط أيام الفاطميين وغيرهم من الولاة والأمراء المسلمين، وفي العهد الذي بدأت فيه النهضة الحديثة أيام محمد علي وخلفائه من بعده؛ في منزلة من الرقي والإبداع والجودة ودقة الذوق لم تبلغها منزلة الصناعة في أمة أخرى حتى في هذه الأيام؟ فإذا رأيت ما تبصر عينك وقرأت ما يشهد به التاريخ فسل: لماذا وقفت صناعة مصر منذ ابتداء العهد الأخير موقف الجمود، ثم تحدرت على درج الانحطاط والفناء حتى عفا أثرها، وانقطع خبرها؟
وحيثما كانت الأمة ناهضة لتقف بين صفوف الأمم في الموقف الذي تقتضيه الحياة الكريمة، وجب أن تحمل نصيبا عظيما من العمل لهذا الموقف، كذلك كانت الأمة المصرية في كل أيامها .
ولم تنس هذه الأمة أن الصناعة هي الدرجة الأولى في السلم التي تصعد فيها الأمم لموقفها الرفيع، فكل حاجة من حاجات الحياة إنما تقوم على عماد قوي من الصناعة، ولا تدرك الأمة حاجاتها كاملة إلا حين تعتمد على صناعتها أو يكون أعظم اعتمادها عليها، فلو أن أمة عاشت عالة على غيرها في كل مصنوع لبقيت مشلولة اليد ناقصة الحاجات.
هذه الحقيقة التي لم تنسها الأمة هي التي ألقت إليها بمقاليد الصناعة في أيامها الأولى فبلغت منها ما لم تبلغه أمة أخرى، وهي التي ألقت إليها بمقاليد الصناعة حينما أسفر فجر هذا العصر فرفعت قواعد المصانع الواسعة، والآن كيف لا نسيل الدمع إذا وقفن بأطلال مصانعنا؟ بل كيف لا نسأل: لماذا هدمت مصانع النسيج والزجاج والمعادن
1
والحديد والآنية والورق؟ وأين مصانع السفن والذخائر وملابس الجيش وسلاحه وعدده وخيامه؟ هل ادخرنا ما يفي حاجة الرقي إلى أن يفرغ عمر الدهر فهدمت تلك المصانع؟ هل بلغنا نهاية القوة والبأس فحطمت الترسانات، أم ماذا كان؟ ولأي شيء قوضت دور الصناعات؟
نقيم الحجة على اليد التي أخذت السبيل على منافس الحياة الصناعية مما تقوله الألسنة الرسمية نفسها، هذا هو التقرير الذي وضعته لجنة التجارة والصناعة الرسمية يقول: إن صناعة مصر لم تمت عن فقر ولا عوز، ولم تهلك عن غباوة في الصانع المصري؛ فالمواد الأولى موفورة لا تعوز مصر إلى غيرها، والصانع المصري ذكي صبور مبدع، هكذا تقول لجنة التجارة والصناعة في كل سطر من تقريرها؛ إذن لماذا ماتت صناعتنا؟ إن تقرير هذه اللجنة ينطق بالجواب أيضا، فهو يقول: «في سنة 1836 بلغت قيمة المنسوجات المصدرة للخارج 62000 جنيه مصري أي بنسبة 3 في المئة من مجموع الصادرات، وفي سنة 1913 هبطت قيمتها إلى 11 ألف جنيه أي بنسبة تكاد تكون في حكم العدم، ونلاحظ أخيرا أن المحصولات الصناعية الأخرى كانت قيمتها في صادرات سنة (1836): 51000 جنيه مصري أي بنسبة 2 ونصف في المئة من المجموع، أما في سنة 1913 فلا تتجاوز نسبتها 0٬9 المئة».
ويقول بعد ذلك: «حلت إنكلترا في المنزلة الأولى التي كانت لتركيا في سنة 1836 سواء في تجارة الواردات أو في تجارة الصادرات، وقد أصبحت أهم بلد تورد لنا بضائعها وتستورد بضائعنا».
نعم، لعلنا نجد في هذا القول الرسمي جواب السؤال.
وليست الآثار السيئة التي أدى إليها موت الصناعة المصرية خاصة بإقامة الأمة مقام الافتقار الدائم إلى الغير، وظهور نصيبها من الرقي في مظهر يمكن أن يقال معه إنها عاجزة عن أن تعول نفسها وتترك لذاتها، بل آثاره السيئة أصابت الأمة أيضا بالفقر الأدبي إلى جوار الفقر المادي؛ فإن هذه الأمة القوية تسكن وطنا توفرت فيه أسباب النماء الإنساني، فمن النتائج الطبيعية أن تتناسل ويكثر أبناؤها، كذلك تقول الاحصاءات. وبمقدار تهدم الدور الصناعية يضيع أطفال وشبان ورجال هيأتهم الفطرة للصناعة، وزادوا عن حاجة الزراعة وغيرها من الأعمال، وقد وقعت هذه النتيجة الخطرة فأدت إلى العواقب التي لا بد أن تؤدي إليها كخلل الأمن العام وكثرة العاطلين وشيوع التسول والتعويل على مرتزقات حقيرة تتخذ عند الراقين دليلا على صنعة الأمم والبلاد، ولم يكن أبناء الأمة ليركبوا هذا المركب على جهل به، بل كانوا يركبونه اضطرارا على رغم أنهم أكرم من أن يركبوه مختارين.
كانت الأمة ترى شبح هذه الحالة فيملأ عينيها ظلاما، وكانت لا تجهل ما وراءه من عاقبة تنصب بالويل على أعز شيء في مستقبلها، ولكنها لم تكن مستسلمة ولا نائمة، إن الإمة رفعت أعلام يقظتها فصاحت الصحافة الوطنية تشهد العالم على ما يحدث وعلى أنها عارفة بما يحدث، وصاح القادة في الأندية الرسمية وغير الرسمية يشهدون العالم أيضا هذه الشهادة، وبينا كانت تقيم برهان يقظتها على هذا النحو كانت تستجمع قوة العمل وهي مكتوفة ولكن الآثار التي أخرجتها حركة الشعب المكتوف نزلت بين آثار الشعوب الأخرى منزلة عالية.
صاح المصريون: لتحي صناعة مصر، وليحي مجدها الصناعي، وليعد عهد الحضارة العظيمة. ولم يلبث هذا الصياح أن هبط على قلب الصانع المصري في حانوته الحقير، فماذا فعل؟ أخرج البدائع مما شبعت العين بجماله وهو معروض أمام الأبصار في المعارض الصناعية، ولو نطقت ألسنة الإنصاف لسمع الناس أن أعظم ما يفتخر به ممدنو الشعوب في فخامة القصور التي شيدت في المدن المصرية لهذا العهد ليس إلا عمل الصناع والعمال المصريين الذين يحشدون لبناء تلك القصور والعمائر كما حشدوا من قبل لبناء الأهرام.
وقد يلذ للإنصاف أن يسمع الناس أيضا صوت الحق فيما رأوه من ظواهر العناية الرسمية بالصناعة المصرية في السنوات الأخيرة، ولا أسهل على الحق من أن يقول: إن الأثر يدل على المؤثر. وهذا هو المؤثر فأين الأثر؟ هذه هي إدارة التعليم الفني والصناعي فأين هذا التعليم على وجهه الصحيح؟ وأين ما أجرى الله على يد هذه الإدارة من الآثار الفنية والصناعية والتجارية؟ هنالك آثار جليلة لها، فإذا سألت عنها فسل قبل ذلك: لماذا اقترن وجود إدارة التعليم الفني بنهضة الأمة الصناعية؟ ولماذا نرى كل الحرص على أن تمتد يدها إلى كل مكان تستقل فيه الأمة بإحياء الصناعة، من مدرسة أو مصنع أو غيرهما؟
ولكن الأمة ناهضة لا محالة، والأمة الناهضة بعزم غير مفلول لا تغلب على ما تريد، فإذا غلبت كان ذلك إحدى فلتات الطبيعة!
هوامش
الفصل الثامن
التجارة
«إن المكانة الاقتصادية لتجارة الصادرات المصرية قد ضعفت واضمحلت لأن تنوع المواد التي تتكون منها الصادرات أخذ في النقص بدل الزيادة، وهذا يجعل اعتماد القطر على البلاد الأجنبية أشد وأعظم منه في أي زمن سابق»
لجنة التجارة والصناعة
يحمل الزمن أعلام التجارة المصرية، ولكل عصر من عصوره التي مرت بمصر علم خافق.
إن التاريخ مرآة الماضي، والناس ينظرون في هذه المرآة صورة تنبئ باليد التي طوقت بها تجارة مصر أعناق الشعوب، ولكن هذا التاريخ سيقف مرعوش اليد حين يكتب صفحة التجارة المصرية في ثلث القرن الأخير، لا يدري أيصل حاضرها بماضيها وهو لا يتصل، أم يعزله عنه فيشين كتابه الأبيض بصفحة سوداء؟
تستمد تجارة الأمة قوتها وسعة انتشارها من نماء المنتجات، لا فرق في ذلك بين ما تنتجه الأرض وما تنتجه الصناعة.
وإن شواهد الحاضر الذي تغامر فيه الأمم العاملة والحكومات المخلصة لتدل على أن أية أمة لم تكن تبني مجد تجارتها إلا بهذه الشواهد.
يجتهد كل شعب، أو تجتهد الحكومات المخلصة لشعوبها لتحرز السبق في عدة أشياء لا بد منها لإحراز النصر في معركة الأسواق، فالبلاد التي تخرج أجود الحاصلات من أرضها وصناعتها، والتي تعرف كيف ترى الأذواق وإلى أين تتجه، والتي تجمع بين الاتقان والجمال ومطابقة الأذواق مع إدراك الحيلة لجعل النفقة أقل ما تكون بالقياس إلى غيرها، البلاد التي تفعل ذلك هي بلاد الأمة التي تنزل تجارتها من الأسواق أرفع منزلة، وتنال من الربح أوفر نصيب، وتبلغ من شيوع الذكر وسعة الانتشار ما يسير كالطير في جوه، كل شعب عامل عرف ذلك قديما وحديثا وسعى ليستأثر به دون سواه، وقد كان الشعب المصري كذلك أيام كان قدوة الشعوب في الثروة والحضارة والقوة والمجد، فهل له اليوم هذه المنزلة؟ كلا، فقد ضاعت وصار إلى منزلة البوار فأصبح عالة، تجارته من يد الغير وبيد الغير، وحاجاته التجارية من عند الغير، حتى لو أن هذا الغير أبى عليه مادة التجارة، لما رأيت في مصر تاجرا وطنيا.
كلما كانت صناعة الأمة راقية، متمشية مع روح العصر، قائمة على أساس صحيح من الوسائل العملية، وكلما كانت زراعة الأمة نامية، جيدة الثمرة، كثيرة الأنواع؛ كانت تجارتها عظيمة رائجة، وقد رأينا كيف أصيبت الزراعة والصناعة في مصر، فليس عندنا من غلات الأرض ما ندخل به أسواق العالم إلا القطن، وهو مع ذلك محمول على قيود، بعضها يجذبه من منزلته العالية إلى الأسفل، وبعضها يختص غير المصريين بربحه العظيم ولا يترك لهم إلا بقايا قد لا يقنع بها المنتج غير التاجر.
قالت لجنة التجارة والصناعة: «إن مكانتنا الاقتصادية ترتكز على محصول زراعي واحد وهو القطن، وفضلا عن ذلك فهذا المحصول معرض من حيث قيمته وكميته لتقلبات أشد وأعظم مما يصيب سائر المحصولات المعادلة له في الأهمية».
وإذا سألت عن غير القطن فقل: أين غلات الأرض المصرية وهي التي تنبت كل شيء وينضر فيها كل نبات؟ أين أزواج الفاكهة من كل صنف وخزائن الغلات من كل نوع؟ أين البقول والألياف؟ وأين خشب الغابات؟ أين ما يتبع نماء الزراعة وسعة الأرض من تربية الماشية والطيور؟ وأين أوبارها وأصوافها وألبانها وزبدها وسمنها وعسلها؟ كل ذلك شيء لا أثر له في تجارة مصر، وقد كان من خصائصها، وكانت تفيض به على العالم أجمع.
إذا لم تكن صناعة ولا زراعة، ولا عمل للانتفاع بمزايا الأرض والحيوان، فأي شيء تستمد التجارة منه قوتها وتعتمد عليه في انتشارها؟
ليس هذا وحده هو الذي نسخ ظل التجارة المصرية من أسواق العالم بعد أن كانت ملئها، فإن هناك شيئا آخر، هو عدم العناية بمعادن مصر ودفائنها من جامد وسائل، وقد كانوا يقولون سترا على وصمة الإهمال إن القطر المصري ليس من الأقطار التي استودعتها الطبيعة كنوزها المدفونة، غير أن التاريخ كان يصيح من جانب الصدق بأنه قول زور، واليوم أقامت «لجنة التجارة والصناعة» البرهان الرسمي على كذب هذا القول الذي كان شبه رسمي، قالت اللجنة: «كان المصريون يمارسون صناعة التعدين وسبك المعادن بدليل وجود الكثير من الآلات الزراعية المصنوعة من النحاس والتماثيل المصبوبة من البرونز والحديد».
على أن ما حدث أخيرا شهد بأن أصحاب تلك الدعوى كانوا يدعونها لغاية في نفوسهم أبرزتها صورة الشركات
1
التي ألفت لاستخراج زيت البترول من آبار «هرجادة» و«جمسة» ولم يكن فيها أثر ليد مصرية، حتى ولا يد الحكومة!
ومن البديهي أن عناية الحكومات بمواصلاتها البرية والبحرية على قدر عنايتها بتجارتها الوطنية، ويمكن أن يقال إنك أينما وجدت سفينة تجارية تمخر عباب البحر؛ علمت أن العلم الذي يخفق عليها علم حكومة تحارب حربا تجارية وطنية، ويقال نتيجة لهذا: إنك حيثما وجدت البحار خالية من سفينة تنسب إلى حكومة موجودة في الأرض علمت أن هذه الحكومة دفنت تجارة وطنها فلم تعبا بما ينقلها من بلد إلى بلد.
وبعد ذلك هل يتفضل الزمن الذي ينطق بلسان العمل في ثلث القرن الأخير فيدل الناس على سفينة تجارية للحكومة المصرية وبعبارة أخرى للشعب المصري ؟ إن لأشد الأمم ضعفا وافتقارا سفنا تجارية وتجارة منتشرة، أما مصر فليس لها شيء من ذلك، لا لأنها عاشت على هذا الفقر قبل ثلث القرن الأخير، بل لأنه جاء فنزع سفنها التجارية من يدها. ولم تزل هذه السفن موجودة تشق البحار، فسلوها ما سبب جفائها؟ سلوا شركة البواخر الخديوية: كيف انتقلت سفننا التجارية إلى يدها، ثم سلوا الأيام تخبركم: لماذا انتقلت؟
كانت مصر ذات تجارة واسعة نامية تعتمد على زراعة وصناعة واسعتين ناميتين، وكان لها أسطول تجاري يشارف الناس في أوطانهم بمجد التجارة المصرية، وكانت قوتها التجارية تنبعث عن نشاطها لنفسها وهي طليقة، واليوم فلا تجارة إلا ما يجود به من كانت مصر تجود عليهم؛ لأن الزراعة جامدة على حال لم تتغير مع الزمن، والصناعة مشدودة الوثاق بحبال وسلاسل، وهذه همة الشعب تقطع سلاسلها وحبالها، والشعب يستمد القوة على ذلك من قلبه، من إخلاصه، من ثقته بنفسه، من الحق الذي لا يخذل، فإذا خذلته الأيام كان شأنها عجبا!
هوامش
الفصل التاسع
الاجتماع والصحة
«إن مهمة المجلس هي المحافظة على الصحة العامة في مصر، ومع هذا يجب السهر على المصلحة التجارية؛ فلا يجوز تغيير اللوائح المحلية إلا إذا روعيت فيها هذه المصلحة»
مستر ميافيل
أرأيت إذا جلست إلى شيخ فان برك الدهر على صدره، فاستوصفته حياة مصر الاجتماعية والصحية قبل ثلث القرن الأخير، فماذا يسمعك؟
لا شك يفتح عينيه البراقتين ببطء ليراك، كأنه يسمع منك بعينه البصيرة لا بأذنه السميعة، ذلك فعل الذكرى التي ثارت في قلبه، والحيرة التي تملأ صدره كلما رأى حاضره وذكر ماضيه، ومثل هذا الشيخ يتبرم بالحياة لأنها أمهلته حتى رأى جيل الفساد والسقم.
شيخك المسئول يزفر ويتململ تحت سؤالك، كأنه يحاول أن يزيح عن قلبه حجرا ثقيلا، ولكنه على كل حال سيتكلم، فاسمع ما يقول:
منذ أربعين عاما كانت مصر موطنا لشعب بريء طاهر، لا يعلق بذيله دنس، ولا يتقذر شرفه برذيلة، أعراضه موفورة عليها رقيب من الأرواح، ودينه مصون عليه حفيظ من المهج، كان أكثر ما تبلغه الرذيلة منه أن ترسل خيالها فيقطع عنق هذا الخيال، وكان أكبر ما يدخل عليه المكر أن يبعث نذيره فيقضي على هذا النذير.
هكذا كانت مصر وشعبها منذ أربعين عاما، أيام كانت قوتها المعنوية كالحديد صلابة وتماسكا، وثروتها في يدها كالوديعة في يد الأمين لا تمتد يده إليها بسوء، وأخلاقها صافية كالماء لا عكر فيها، متآخذة كالعقد المنظوم لا انفراط لها.
مضت تلك الأيام وطوت شبابها وشيبها، وقد كانوا من قوة الأبدان بحيث يعدل واحدهم ألفا، ومن حياة الوجدان بحيث لا تموت أعراضهم حتفا، ومن طهارة النفس بحيث لا يلمون بفاحشة، ولا تنزل الدنية بواديهم.
هذه صفة مصر وشعبها في الوقت الذي كان قبل أربعين عاما، فهل مسخت هذه الصفة أو لا تزال قائمة؟ وهل تبدلت الحال أو بقيت على نحو ما كانت؟
اهبط المدائن من أرض مصر، وافتقد الفضيلة فيها؛ فإنك سوف تجدها بعد الوصب والإعياء منتبذة مكان الذليل العاني تحت حجر من أحجار المعابد، أو في زاوية من زوايا القبور؛ لأنها حوربت في السبل والأندية والمدارس والمجالس، فانهزمت تطلب النجاة في الدور المأهولة، ولم يفرخ روعها حتى هوجمت في الدور أيضا، فطارت عنها تطلب النجاة في المعابد، في بيوت الله. ويا ويلتنا فقد أحيط بها خفية في هذه البيوت أيضا، إنها لا بد أن تذهب إلى المقابر لتجيرها العظام النخرة والأجساد البالية، وكذلك فعلت، وكذلك أحسن الموتى جوار الفضيلة.
الفضيلة في نفسها غير مذنبة، والفضيلة لا تحارب لذاتها، فلماذا شنت عليها تلك الغارات؟ سؤال يسأله العقل ويقره الإنصاف، ولكن الفضيلة تشد الأزر، وتجمع الشتات، وتصلح الأبدان، وتعصم الأرواح، وتصون الأخلاق والآداب، وتحفظ الثروة والجاه، وتجري بحار العلم، وتغري بالمحامد، وتحث على الرفعة، وتأمر بالعمل للحياة الكريمة، هذا كله فعل الفضيلة فكيف تفعل فعلها الطبيعي في مصر؟ إنها إذن تستحق أن تنفى من الأرض!
مرض الاجتماع المصري بما أصاب الأخلاق، فلم تعد التربية تعالجه، ولا وازع الدين يداويه، ولا يعرف الناس حكومة أهلية ترى مرض الاجتماع في وطنها فتنام عنه أو تبيحه، اللهم إلا أن تكون تلك الحكومة مكتوفة أو مسوقة إلى ما يجب ألا يكون، ولم تكن مصيبة الاجتماع المصري بهذا المرض فقط، بل كانت بما سلط على أبنا الأمة من التشريد والفراغ، والذي يدخل المدائن لا يرى خذلان الفضيلة وحدها بل يرى أيضا خذلان الإنسانية بين جيوش المتشردين العاطلين.
عاشت الأمة خلال هذا الزمن بين مشادة ومدافعة، تنادي: إن البلاء داهم والشر متفاقم. وتطلب من الحكومة أن تؤدي الواجب فلا تسمع، وكان شأن الأمة بين حالين: شكاية وتحذير، ومعرفة للواجب وشروع في أدائه. أما التحذير فلم يكن يسمع، وأما العمل فكانت الأمة تنهض به في طريق ارتفعت فيها العقبات، على أنها لم تكن ترجع عن مقصدها وإن لم تنل منه إلا قليلا.
بقيت الصحة، وما أيسر أن تمتد العين إلى مساكن هذا الوطن في قراه ومدائنه لترى كيف تتخذ منها العلل والأمراض مكان سكانها، إن القاهرة عاصمة الشرق أجمع لم تنل جديدا من الإصلاح الصحي، فشوارعها الكبيرة الواسعة هي الشوارع التي اختطها إسماعيل وأسلافه من قبله، وقد كانت الأشجار زينة على جوانبها فاجتثت أخيرا، والإسكندرية على مثالها إلا ما اقتضت الشهوات الخاصة أن يبالغ في إصلاحه من شوارعهما حيث يسكن المتصرفون في أمور البلاد، وليست المدن الأخرى بأحسن حظا من العاصمتين وهي لا تكون كذلك طبعا، وبعد أن تكون هذه حال الصحة في الحواضر تبقى حالها في بدان الريف وقراه وصمة في جبين القرن العشرين، ألصقها به من لا يعنون بأرواح العباد.
هنالك في المدائن أحياء اسمها الأحياء الوطنية، يسكنها الشعب العامل المجتهد الصبور، أزقة وحارات لا تكاد تنفذ إليها خيوط الشمس حتى تبرد حرارتها برطوبة وخمة، ولا تكاد تمر بها نسمات الهواء حتى تفسد بنتن ريحها الخانقة، في تلك الحارات والأزقة ترى الموت جاثما يتنمر، وتبصر الحياة خائفة تترقب، ومنها ترتفع أصوات النوائح كلما جاء صيف أو دخل شتاء فجال الموت وصال، وعلى أرضها تقام المآتم الدائمة لأبناء مصر الذين تتخطفهم يد الفناء. أستغفر الله ، بل يد الإهمال الذي تركهم في مساكن ألح عليها الخراب لطول العهد بها، وأنكرها العصر لأنها أولى أن تكون مساكن أثرية.
هذه صحة الشعب الذي يسكن المدن، أما شعب الريف فلولا أنه يخرج إلى فضاء الأرض فيجد الحياة في شمسه المشرقة وهوائه النقي، لما كان غير الدور قبورا له، أفلم تنظروا مساكن الريفيين في قراهم؟ الرجل والمرأة والطفل على مضجع واحد بجانب مضجع البقرة والأتان، وما كان ابن الريف ليرضى ذلك لنفسه وأهله لولا أنه مضطر، وهو ليس يجهل كيف يجب اتقاؤه للصحة، ولكنه لا يملك وسيلة الاتقاء، يعرف أن اليد المسيطر مكلفة أن تصون صحته وحياته ولكنه يقنع بالسكوت خشية التجبيه والرفض ويعلل نفسه بأن تفعل اليوم أو غدا.
لولا أن طبيعة هذا العصر أفضت إلى النفوس بالضرورات الواجبة لما أبقت الأوباء على حي في مصر من أبنائها، علمت الأمة أن كل شيء في الوجود للحياة، وأن الحياة بالصحة والعافية، فجعل الناس في الريف والحضر لا يشكون ألما إلا فزعوا إلى الأطباء، وما كانت «مصلحة الصحة» ولا ميزانية الحكومة لتنفعانهم لو أنهم قعدوا ينتظرون أن تعالج الحكومة أسقامهم!
هكذا يشهد الواقع، ويرجع الواقع في شهادته إلى أول العهد بالحياة الأخيرة، فقد شاع الوباء الأصفر «الكوليرا» في هذه البلاد سنة 1883 حتى خافت الدول أن ينتقل إلى أوربا فألفت في الإسكندرية مجلسا صحيا دوليا يتخذ الوسائل للنجاة من خطبه الداهم، وكان المستر «ميافيل» مندوب إنكلترا في هذا المجلس.
فانظر ما قال يومئذ: «إن مهمة المجلس هي المحافظة على الصحة العامة في مصر، ومع هذا يجب السهر على المصلحة التجارية فلا يجوز تغيير اللوائح المحلية إلا إذا روعيت فيها هذه المصلحة».
كلمة قالها المستر «ميافيل» منذ ست وثلاثين سنة، فكانت وحيا لم يتبدل وكانت قانونا جرى عليه العمل إلى الآن، فماذا ما تدل عليه هذه الكلمة حين تتعارض في مصر صحة الأمة ومصلحة التجارة؟ أليس ذلك عجيبا في أفعال الناس؟!
الفصل العاشر
الإدارة
«وقد اقترح بعضهم حديثا أن يتعلم المرشحون أمورا تفيدهم في مناصبهم الرسمية في مصر والسودان وشرع في إخراج هذا الاقتراح من القول إلى الفعل على سبيل التجربة»
اللورد كرومر سنة 1905
أمام الإدارة المصرية دائما شبح هائله مخيف هو شبح الأمن العام، ولكن الإدارة المصرية لم توفق يوما واحدا لتأمين نفسها صولة هذا الشبح، فأنواع العلاج التي التمستها له لم تكن تزيده إلا خللا واعتلالا، واللجج الزواخر التي رفعتها من صنوف العمل والتدبير كانت ولم تزل تتكسر على صخرته الصماء، ضاع المال الذي لا يحصى في سبيل الأمن العام، ونفدت الحيلة التي أظهرها أصحاب السيطرة في القرن الأخير، وهي تجربة قاسية تنطق بأن اليد التي تحركت لتصلح كانت قادرة على إضاعة المال والوقت فقط.
من الممكن أن يخرجوا اللوائح والمنشورات التي وضعت خلال ثلث قرن المعالجة الأمن العالم من خلله فيبنوا بها جبالا من الورق، ومن الممكن أن يعودوا إلى الوسائل التي التمسوها لمعالجة الأمن العام من سقمه ليروا كيف لا تتعارف إلا كما يتعارف الماء والنار، ولقد كان النفي الإداري آخر وسيلة استعيرت من سياسة القرون المظلمة ليصلح بها الأمن العام في القرن العشرين ولكنها لم تفلح أيضا، فهل هذه الخيبة كلها لأن مصر واد من أودية الشياطين فلا يستطيع البشر رياضة أهله على الخير؟ أو لأن الداء الدفين في صدور غير صدور أهل البلاد؟
الإدارة المصرية فروع ترجع إلى أصل معين، أو هي كأعضاء الجسد تستمد الهداية من الرأس، ولا ريب أن الحياة التي تدب في أصل الشجرة تتمشى في عروقها جميعا، وإذا صلح الرأس صلح الجسد كله، وإن الأغصان الجافة الميتة لتدل على جفاف أصلها وموته، وفساد الأعضاء ناطق بفساد الرأس، كانت فروع الإدارة المصرية في أيدي المصريين، ولكن أصلها لم يكن في أيديهم فكيف اعتلت؟
وماذا كان يعجز الإدارة عن تقويم الاعوجاج الدائم الذي أصيبت به قناة الأمن العام؟ لو أن إنسانا نشر بين يديه تاريخ الإدارة في ثلث القرن الأخير لرأى أداة العجز، فهنالك أوامر مقرونة بأن تطاع طاعة وحي السماء، تصدر عن آمر يرى أنه معصوم في مثل هذا البلد، فلا يقبل إرشادا ولا يسمع تعليما.
حتى إذا شرعت فروع الإدارة في تنفيذها عافتها نفوس الناس؛ لأنها مقطوعة النسب بعاداتهم وأخلاقهم ومشاربهم وقوميتهم، وإذ ذاك تضطرب تلك القناة التي يراد تقويمها في أيدي الموظفين المصريين، وما أسهل أن يقال إن هؤلاء الموظفين عجزة قليلو الخبرة، تعوزهم الوصاية ويفتقرون إلى الإرشاد الطويل. ثم يتلو هذه الشهادة المقلوبة أن يخلو ذلك الآمر بنفسه قليلا وما هي إلا أن يخرج بأمر جديد ينسخ الأمر القديم، وهكذا تتكرر هذه التجارب بل لا تزال إلى الآن، أما إثمها فعلى الموظفين المصريين وأما خيرها المزعوم فلغيرهم، وإذا ذكرت بعد ذلك قيل إنها تجارب صحيحة ولكن البلاد لم تتهيأ لها بعد!
قال اللورد كرومر في تقريره سنة 1905 وهو يصف طريقة انتخاب الموظفين الإنكليز للمناصب المصرية: «يجب أن يكون عمر الطالب عند تقديم طلبه بين 21 و25 سنة»، وأكثر هؤلاء إنما كانوا يتولون مناصب الإدارة، وأكثرهم لم يكن يخطئه الحظ فيقبض بيده على منصب من مناصب التفتيش، هؤلاء الشبان هم الذين قال عنهم اللورد كرومر أيضا إن بجانب كل مدير في الأقاليم مفتشا إنكليزيا يساعده، وهم الذين قال عنهم: إن طلبهم وظائف الحكومة المصرية عظيم حتى بلغوا سنة (1905): 220 طالبا بينما كانت الوظائف الخالية 14 وظيفة، ولا تدل شهادة الواقع على أن مديري الأقاليم أهل الخبرة والتجربة، وأبناء البلاد العارفين بأخلاقهما وعاداتها وما يصلح لها وما لا يصلح، لا تدل شهادة الواقع على أن مديري الأقاليم الممتازين بهذه الصفات كانوا يبرمون أو ينقضون أمام الإرادة التي يكتنفها نزق الشباب في ابن الحادية والعشرين أو الخامسة والعشرين، فلو أن الإدارة المصرية صلحت بعد ذلك لكان صلاحها رمية من غير رام، أو كان إحدى خوارق العادات!
كانت هذه علة الإدارة، ولا تؤدي هذه العلة إلى غير نتيجتها الطبيعية وهي خلل كل شيء يرجع إليها ولا سيما الأمن العام، فإذا أضيف إلى العلة الإدارية علة حرمان الأمة من التعليم والتهذيب كملت أسباب الخلل وكان أمرا واجب الوقوع.
إن وازع العلم أبلغ تأثيرا في النفس من وازع القوة، وقد كان يجب أن يكون أول يوم فتح به ثلث القرن الأخير أو يوم يفتح به الإصلاح الجديد خاليا من كل عيب، خالصا من شائبة النية المنحرفة عن الاستقامة، قالوا يومئذ إن الإدارة مريضة تحتاج إلى العلاج، وكان يجب أن يقولوا إن بناء العلم الذي وضع أساسه محمد علي ورفع قواعده خلفاؤه من بعده يحتاج إلى إكمال، ولكن الذي حصل غير ذلك، الذي حصل أن دك بناء العلم، وعولجت الإدارة بعقاقير تضاعف الداء، ووجدت مضاعفات لم تكن موجودة من قبل، وهي انسياب سيل المدنية الفاسدة على البلاد، وتفتق الشهوات الشيطانية بما فعله الطمع في ركوب متن هذه المدنية، أمسى الناس وأصبحوا، فإذا هم في ظلمة حالكة، مصباح العلم ينطفئ قليلا قليلا، وفساد الإدارة يتجلى بأشكال وألوان من المغارم، وشيطان المدنية الفاسدة يغوي الناس أن يلقوا بأنفسهم في مهاوي الهلاك، وسوء العمل لحفظ الثروة الفردية يقتلعها من جذورها، أعجيب بعد هذا أن تكثر الجرائم، وتشيع المظالم، ويطغى الفساد، ويقتل الناس بعضهم بعضا؟ كلا، ليس هذا عجيبا، ولكن العجيب أن يكون خلافه.
وقد توفرت الأمثلة من غرائب العهد المعروف، وربما كان أغربها أن يصدر الأمر القاطع فيتلقاه موظفو الإدارة المصريون بالطاعة والتنفيذ، فإذا نشأت عنه أمور يوجب القانون أن يكون لها قصاص، سيق الموظف المصري الذي سمع وأطاع ونفذ إلى موقف القصاص، فلا يجد ما يدافع به عن نفسه إلا أن يقول في نجواه: «غيري جنى وأنا المعذب فيكم»، ولم تزل الذاكرة تحفظ قصة أولى بها أن توضع بجانب القصص التي تنسب إلى الشرقيين للسخرية منهم، ولم يفت الصحف الوطنية أن تشير إلى قصتنا هذه في حينها، غير أننا نرويها تفكهة للقراء.
قالوا في السنة الماضية: إن أحد معاوني الإدارة المصريين رفع قضية على الحكومة يطالبها بتعويض لأنها فصلته عن وظيفته بسبب غير قانوني، أما السبب الذي قضى بفصله فهو أن عظيم الكفاءة شديد الذكاء؛ ولذلك كان ينتقد أعمال بعض زملائه، فعلم المفتش الإنكليزي خبره فأمر بنقله إلى إقليم آخر ظهرت فيه كفاءته العظيمة وذكاؤه الشديد أيضا، ولكن المفتش علم ذلك مرة أخرى فكتب بجرة قلم واحد يأمر بفصله، ومثل هذا الأمر لا بد مطاع.
هكذا رويت القصة وهي لم تخل من بيان الذنب الذي قضى أن يفصل صاحبها من عمله، ولكن ذنبه أنه كفء تام الكفاءة، ذكي عظيم الذكاء.
فهلا يفهم الناس من هذا أن الموظف المصري المستقيم الجدير بأن يخلد في وظيفته هو الغبي العاجز؟ وهل سمع الناس أن الغباوة والعجز شرطان لا بد منهما في الوظائف الإدارية؟ وكيف ينتظر بعد هذه القصة أن يصلح أمر الإدارة في مصر إذا لم تتغير الحال غير الحال؟!
ومن بدائع اللورد كرومر قوله في تقريره سنة 1905 فيما تصلح به حال الموظفين الإنكليز: «وقد اقترح بعضهم حديثا أن يتعلم المرشحون أمورا تفيدهم في مناصبهم الرسمية في مصر والسودان، وشرع في إخراج هذا الاقتراح من القوة إلى الفعل على سبيل التجربة».
ولم يعلم أحد كنه هذه الأمور غير اللورد والمقترحين والمرشحين المتعلمين والأساتذة الذين يعلمونهم، ولكنا علمنا أنها أمور تفيدهم في مناصبهم بمصر والسودان، فأية ناحية كانت تنحاز إليها فائدة تلك الأمور؟ ناحية مصر أم ناحية إنكلترا؟ هذا شيء تنطق الحقائق الواقعة بجوابه.
علم المصريون كل ما تقدم، وعلموا مصيرهم معه فلم يطمئنوا إليه، بل كشفوا غطاءه بالنقد الصحيح، وجعلوا يتقون عاقبته بالعمل على قدر التحرك في القيود الثقيلة، نهضوا بالتعليم فكانت آثار الأمة فيه أضعاف آثار الحكومة، وجاهدوا في تهذيب الأخلاق وصيانة العادات وحفظ القومية، فرفعوا منار الأمة حتى سطع نوره فرآه العالم، واليوم ترفع الحجب عن الحقيقة المستورة، فيشهد الناس أن في مصر أمة راقية وأنها رقت بنفسها بين عقبات تعيي القادر الطليق، كذلك فعل البطل يدرك القوز في معارك الأبطال، ولو أنها لم تكن كذلك لما كانت سلالة آبائها الأولين.
الفصل الحادي عشر
سياسة التعليم
«إن مسائل التعليم الأهلي كيفما تنوعت طرق حلها ذات اتصال بحياة الامم وفنائها»
اللورد مورلي
نصف التعليم في مصر - على سبيل التسامح - بأنه أجنبي ووطني، أما الأجنبي فالذي تنشره مدارس الجاليات الأجنبية، وأما الوطني فللأمة فيه نصيب عظيم، ونصيب الحكومة هو البقية الضئيلة.
هذه صورة الواقع على حقيقتها وعلى ما يشهد التاريخ من أنها قديمة، وقد عرف الناس جميعا أن التعليم الحكومي في مصر كالمريض الذي أعضل داؤه، فلا هو يموت ليريح أهله من بلواه ولا هو يشفى ليرجى نفعه وتؤمل فائدته.
ويدل الواقع الذي تبصره العين، على أن التعليم في مدارس الجاليات الأجنبية كان منذ وجدت هذه المدارس في مصر، ولم يزل كذلك كالتربة الخصبة يربو نباتها ويزهر غرسها وتعطي أكلها وفيرا شهيا، ولا كذلك التعليم في مدارس الحكومة فهو كالتربة السبخة، تستغرق جهد الزارع، وتنهب ماله في نفقتها، ثم تقتل البذر الذي يلقى لها.
يدخل المصريون مدارس الجاليات الأجنبية الفرنسوية والإيطالية والأمريكية، فتغذوهم ما لا تغذوهم مدارس الحكومة، فإذا أكملوا الدرس بها خرجوا بأهلية تامة، ووجدوا العدة للحياة العملية، فلا يشعرون أنهم آلات أخرجتها المدارس للحكومة فقط كما وصف اللورد كرومر غرض التعليم في مدارسها، ويذهب المصريون بأنفسهم إلى أوربا ليستوعبوا ما فاتهم من العلم في جامعاتها، فيعودون ببضاعة ليست مزجاة يغشون بها كل سوق من أسواق العلم والعمل فتروج.
أما مدارس الحكومة فيدخلها المصري إنسانا ثم يغادرها آلة لا تصلح إلا لعمل خاص معين هو خدمة الحكومة، فإذا سدت في وجهه أبواب هذه الخدمة انفتح له باب آخر واسع، هو باب العطلة، باب الفراغ، باب الضياع، باب النكبة التي تصيب الأمة في شبابها.
فهل المصريون أذكياء في مدارس الجاليات الأجنبية وفي جامعات أوربا، أغبياء في مدارس الحكومة المصرية؟ هل تتغير فطرة المصريين إذا دخلوا مدارس غير مدارس حكومتهم، ولا تتغير إذا دخلوا مدارسها؟ هل العلم شيء يتقيد بالمكان والزمان فهو يشرق في تلك الجامعات والمدارس، ولا يشرق في كل مكان ينسب إلى وزارة معارفنا؟ كلا، لا شيء من هذا كله، وإنما الأمر كما سترى.
قال اللورد مورلي: «إن مسائل التعليم الأهلي كيفما تنوعت طرق حلها ذات اتصال بحياة الأمم وفنائها».
ماذا يقول اللورد مورلي؟ يقول إنك تستطيع أن تتخذ التعليم الأهلي سبيلا للحياة كما تستطيع أن تتخذه سلاحا للفناء، ونحن لا نقول إن تعليم الحكومة كان خلال ثلث القرن الأخير أحد هذين الأمرين، ولكنا نرسم له ولما فعل به صورة صحيحة لا تنكرها سياسة التعليم نفسها لأن لها يدا في رسم هذه الصورة، ثم للناس أن يقولوا ما شاءوا.
ألفت الحكومة أثناء سنوات الحرب لجانا كثيرة، منها ثلاث فرغت من عملها ووضعت تقاريرها وهي: لجنة التجارة والصناعة، ولجنة التعليم الأولي، ولجنة الشئون الصحية. وقد وصفت كل واحدة من هذه اللجان الثلاث النقص الذي رأته في عملها الخاص واتفقت كلها على أن النقص هائل عظيم، وأرجعت كلها سبب هذا النقص الهائل العظيم إلى فساد التعليم في البلاد، ولكن كل هذه اللجان لم تجد في نفسها قدرة على أن تصف للناس علة فساد التعليم وتشهدهم على سببه الصحيح، اللهم إلا لجنة التعليم الأولي فقد أشارت إلى جزء من العلة وشطر من السبب فقالت: «إن مجموع ما تنفقه الحكومة المصرية على التعليم 465753 جنيها في السنة، وهو يعادل 2 في المئة من مجموع الميزانية العمومية للمصروفات».
ثم قالت: «وإذا قوبلت نسبة صافي المصروفات هذه - وهي 2 في المئة - بمثلها في الممالك الأجنبية ظهر فرق مدهش جدا، لا من حيث ميزانيات الدول العظمى فقط، بل من حيث الممالك التي حالها المالية قريبة من حال القطر المصري؛ لأنه إذا أنفق على التعليم من ميزانية الحكومة المصرية بنسبة ما ينفق في رومانيا أو بلغاريا مثلا حيث تبلغ هذه النسبة 10 في المئة من مجموع الميزانية؛ لزم أن تزيد اعتمادات التعليم في مصر دفعة واحدة من 465753 جنيها إلى3350000».
وأبانت اللجنة في موضع آخر الوجوه التي ينفق فيها هذا القدر من المال ثم خلصت إلى نتيجة لا تؤدي إلى الفزع أكثر مما تنطق بالعار؛ إذ قالت: «إن ما تنفقه الحكومة في الحقيقة من إيراداتها الخاصة في كل سنة على تعليم الشعب نحو 19000 جنيه فقط».
هذا جزء من العلة وشطر من السبب، على أن لجنة التعليم الأولي لم تجد قدرة على الجهر بهذه الوصمة المسجلة إلا بعد أن أعذرت للحكومة بعذر فرغ الناس من إبطاله، فقد قالت في صدر تقريرها: «والحقيقة أن حال مصر المالية كانت إلى عهد قريب تمنع من إعداد وسائل التعليم على اختلاف فروعه ومن سد حاجة الأمة إليه سدا وافيا».
فهذه الحقيقة مقلوبة إلا أن يكون المقصود بالعهد القريب أول العهد بحكم محمد علي، فهل تقصد اللجنة ذلك؟
إن العلة الصحيحة والسبب الحق فيما نطق به لسان السياسة التي قعدت على صدر التعليم في مصر وما نطقت به ألسنة أعوانها، ولقد كانت هذه السياسة تقلب الحقائق البديهية ولا تتقي أن يسمع العالم أجمع ما تثني به على من يقلبون الحقائق، قال يعقوب أرتين باشا الذي لبث وكيلا لوزارة المعارف عمرا طويلا، والذي شرفه السادة الإنكليز بثقتهم في كتاب له يسمى «التعليم العام»: «إن وجود المجانية في المدارس الابتدائية في مصر أمر غير عادل ومخالف للذوق السليم، وهي في الواقع في غير محلها فضلا من أنها خطر على موظفي الوزارة».
إلى هذا الحد تبلغ الجرأة برجل صعد إلى أرفع المناصب في حكومة مصر على أكتاف الأمة، فيرى أن المجانية في المدارس المصرية الرسمية ليست من العدل ولا من موافقة الذوق السليم! بل إنها خطر! خطر داهم عظيم يفترس الموظفين كما يفعل الوحش بفريسته! ولم يكن رأي هذا الرجل العادل السليم الذوق المشفق على الموظفين من افتراس المجانية، رأيا من عند نفسه، أقنعته التجربة أو أقنعه العلم بصحته، ولكنه كان وحيا يهبط عليه فيصدع به أداء لأمانة التبليغ، فما كان أعظمه أمانة، وما كان أشقى مصر بأمانته!
قال اللورد كرومر في تقريره سنة 1900: «كانت نسبة المجانية في مدارس الحكومة سنة 1889 - أي قبل الاحتلال - 95 في المئة، أما السنة الماضية فكانت نسبة الذين يدفعون المصروفات المدرسية في المدارس الابتدائية الأميرية 98 ونصف في المئة، وفي المدارس الثانوية 96 في المئة، وأنا واثق أن هذه السياسة ستظل متبعة بثبات حتى تلغى طريقة التعليم المجاني إلغاء تاما أو تكون في حكم ذلك».
صدق اللورد كرومر وصدقت ثقته؛ فإن عينه لم تنم عن تحقيق العمل بالسياسة التي وثق أنها ستظل متبعة، حتى لقد وصف اغتباطه بنجاح هذه السياسة بعد زمن قصير، فقال في تقريره سنة 1904: «ومما يستحق الذكر أن تلميذا واحدا فقط يتعلم مجانا في المدارس الابتدائية».
نعم هذا عمل عظيم يستحق الذكر لأنا قضاء على الأمة بالجهل.
أي شيء أرسلته السماء على مصر حتى أصيبت في العلم، في روح الحياة، في سر البقاء، في مطلع النور، فضربت عليها ضرائب التعليم، وقضي على المجانية في مدارسها، هل هكذا بطش السياسة؟ تكون نسبة المجانية سنة 1879: 95 في المئة، ثم تكون نسبة الذين يؤدون أجور التعليم سنة 1900: 98 في المئة؟ أكانت مصر غنية فافتقرت؟ أم كانت سفيهة السياسة فرشدت؟
ألغيت البعوث العلمية، فلا أحد يذهب إلى أوربا في ظل الحكومة المصرية يتلقى الفن والعلم، اللهم إلا بضعة أفراد عادت وزارة المعارف فجعلت ترسلهم إلى إنكلترا فقط، وقد وصف ذلك المسيو لامبير آخر ناظر فرنسوي لمدرسة الحقوق المصرية فقال: «إن أمر الإرسالية مدهش؛ فقد كانت قبل أن يتولى الإنكليز مقاليد المعارف في مصر موزعة في أوربا، ولكنهم قصروها الآن على إنكلترا، ويا ليت أنهم اختاروا المدارس الراقية التي تخرج للمصريين رجالا نافعين يماثلون الإنكليز المتعلمين! فإنهم اختاروا مدارس كمدرسة بوردو في آيل وورث على مقربة من لندن وهي مدرسة تخرج طلبة في كفاءة حاملي شهادة البكالوريا المصرية».
وليس المسيو لامبير وحده صاحب هذا الرأي، فهناك كثيرون غيره من الإنكليز المنصفين يشاطرونه ما يرى، بل لا يقال إن ذلك رأي نظري فإنه الواقع الذي لا ينكره أحد.
انظروا، أين المدارس التي أنشأها محمد علي؟ أين المدارس العالية لا في القاهرة وحدها، بل في مدن القطر من أسوان حيث كانت المدرسة العالية المعروفة باسمها إلى الإسكندرية؟ إنها أطلال تجيب من بكاها وتنعي من بناها، ذلك ماض له شمس تشرق في نفوس المنصفين فلا يملكون إلا أن يقولوا الحق، في نور هذه الشمس شهد هتزرزنر في كتابه «مصر في عهد الاحتلال الإنكليزي» فقال: «ألغيت 22 مدرسة تجهيزية من مدارس الحكومة سنة 1883 وثلاث مدارس فنية ومدرسة المعلمين ومدرسة المساحة».
وإنا لنجد أمامنا فيضا عظيما من تلك الشهادات ومن الأقوال الرسمية نفسها لا نريد أن نطيل به، ولكنا لا نكتم فضل الأمة فيما نشب من معارك التعليم بينها وبين سياسته.
وقد كانت الأمة دائما ظافرة، أليس ذلك لأنها تأبى أن تضل سبيل الحياة؟
إن الفشل في تجربة ثلث قرن لا يدل على خير منتظر، فإن كان الفشل عن عجز فليس وراء العجز في ثلث قرن مطلب للقدرة، وإن كان عن قصد فلا يتحول الإنسان عن قصده المطلوب، إن المصلحتين متناقضتان، والسبيلين متعاكستان، والحق في جانب واحد هو جانب الأمة، ولا يرجع صاحب الحق عن حقه، ولا عهد للناس بحق يضيع ووراءه مطالب؛ فإن ضاع كان شذوذا في سنة الاجتماع!
الفصل الثاني عشر
الرأي العام
«أما الجنس الذي هو أهل للعمل فسيحيا حتما؛ فإن كل أمة عاملة سينقذها العمل منقذ كل عامل»
المسيو كليمانصو سنة 1882
للشعب المصري وطن قديم وله تاريخ جليل، وله حب لوطنه وعلم بتاريخه، فهل عليه ذنب إذا أحب وطنه وأخلص إليه؟ وهل عليه لوم إذا استضاء بتاريخه فمشى في نوره يستعيد المجد العظيم، ويطلب الحياة الغالية؟
كأنما يراد من الشعب المصري أن ينفض يده من وطنه، أو لا يحبه على الأقل، ولكن هل يحب الوطن لأنه رقعة يابسة من الأرض تطأ الأقدام مثلها في كل ناحية، أو لأنه ملاذ أهله ومنبت حياتهم وموطن عزهم، والدار التي يعيشون بها أباة أعزاء، لا يمسهم فيها ضيم ولا ينالهم ذل؟ إنما يحب الوطن لذلك، فإذا أريد المصريون على ألا يحبوا وطنهم، ففي طي هذه الإرادة شيء آخر هو أن يكرهوا أنفسهم ما داموا لا يحبون وطنهم، أي أن يكونوا أعداء أنفسهم.
أما قبول ذلك فضرب من الجنون، وأما طلبه فأبلغ جواب عليه أن يقال لصاحبه: اكره أنت وطنك أو حاول أن تكرهه. فإذا استطعت فاطلب من غيرك أن يكره وطنه أو يحاول أن يكرهه!.
1
متى كان حب الوطن غريزة في الفطرة كان لا بد أن يقصد أهل الوطن مقاصد تبلغ به مكان العز والشرف، وأول ما يقصدونه أن ينظروا إن كان وطنهم مأخوذا من أيديهم أو معرضا لذلك سعوا ليستخلصوه، وإذ ذاك يأتلف رأيهم ويجمعوا أمرهم حيث تكون الغاية واحدة، وقد لا يكون الوطن مأخوذا ولا عرضة للأخذ فتصح النية على العمل لرفعة شأنه حيث تكون الغاية واحدة أيضا، وفي كلتا الحالين يتكون ما يسمونه الرأي العام، وربما لا يكون الرأي العام في الأمة الواحدة متحد المجرى، ولكنه على كل حال يكون متحد الغاية، فإذا جاءت الطامة كان واحدا في مجراه وغايته، فترى الأمة كلها حزبا واحدا وقد كانت أحزابا شتى.
في مصر رأي عام قديم لم تختلط عليه السبل، ولم ينحرف عن قصد الغاية، وللرأي العام المصري قوة مثله في كل بلد وإن لم يكن له بطشه، لا لعجز فيه بل للأناة والتؤدة، ولا بلاغ العالم أنه موجود وأنه غير باغ ولا عاد، ولأن المصري يريد أن يكون الإنصاف عدته والحق سلاحه، كي لا يقال إنه لم يحكم إنصاف العالم في قضيته، أو إنه عمل وحده فليترك وحده.
عرفت قوة الرأي العام المصري في تولية الملوك، فهو الذي حمل الدولة العثمانية على الرضا بمحمد علي واليا لمصر، هو الذي طلب ذلك وأجمع عليه منذ قرن وربع قرن فلم تجد الدولة العثمانية وهي في عظمتها بدا من أن تكون عند إرادته.
وعرفت قوة الرأي العام المصري في تقييد الحاكم الفرد المطلق منذ ثلاث وخمسين سنة، فقد أنشئ المجلس النيابي المصري سنة 1866 في أول العهد بحكم الخديو إسماعيل، وهنا يجب أن نلتفت إلى أمر لا بد منه، وهو أن إسماعيل كان يومئذ طليقا من كل قيد، آمنا كل رقيب، كان يومئذ بعيدا عن أشباح الحوادث التي وقعت في آخر أيامه، فلا يقال إنه رضي أن توضع في يديه قيود الحكومة النيابية وأن تقوم سلطة الأمة بجانب سلطته ليخدع أوربا أن يغش ساستها، ولم يخلق إسماعيل من طينة غير طينة الملوك والأمراء المطلقين حتى تكون الحكومة النيابية خاطرا في نفسه لم يشعر به أحد سواه، وحتى يباده الأمة بهذا الخاطر غرة حين لا يكون قد أحسه من جانبها أو لا تكون الأمة قد أرته نور أمنيتها.
وعرفت قوة الرأي العام المصري سنة 1881 يوم توفرت عزيمة الأمة كلها على مقصد واحد، فأعاد لها الخديو توفيق مجلسها النيابي لا إعطاء بل أخذا، حتى إذا جاءت سنة 1883 بطشت القوة الطارئة بهذا المجلس فقضت عليه.
وعرفت قوة الرأي العام المصري في الحرب الأولى التي نشبت بين الدولة العلية واليونان، فقد كانت مصر تغلي بأحر مما تغلي به تركيا نفسها، ولم يكن ذلك لأنها تريد أن تظفر تركيا فتقوى على مسخ الاستقلال المصري، بل لأن السيادة الاسمية العثمانية كانت هي الصخرة الصلبة أمام القضاء على هذا الاستقلال وكانت الأمة تعلم ذلك، وتعلم أن في قوة تركيا بقاء هذه الصخرة حتى يزيلها المصريون أنفسهم، أو يزيلها غيرهم ممن لا يطمعون في أن يضعوا مكانها صخرة أقسى منها.
وعرفت قوة الرأي العام المصري في حادثة العقبة، وكان غليانه إذ ذاك استمساكا بتلك السيادة الاسمية خشية أن ينقطع خيطها فترزح الأمة بسيادة فعلية تذهب باستقلالها الداخلي، وتضاعف عناءها في طلب الاستقلال التام.
وعرفت قوة الرأي العام المصري في حادثة المحكمة الشرعية العليا يوم أغلقها قاضيها حتى ترفع يد العبث بالأحكام القضائية، فكان رأي الأمة عضده القوي.
وعرفت قوة الرأي العام المصري يوم نكب العدل وفجعت الإنسانية بحادثة «دنشواي» سنة 1906 فثارت النقمة على الجبروت المتمرد في كل دار، وارتفع صوت الغضب حتى أطبق على الأقطار وحتى سجلت الوصمة على أصحابها، وخرج العدل مرفوع الرأس، وظفرت الأمة بما شهد الناس من حياتها، وإن لم يكن ذلك كله قد رد عليها فائتا، ولا أحيا ميتا.
عرفت قوة الرأي العام المصري منذ تولى محمد علي ولاية مصر وفي كل ما قدمنا من الحوادث وغيرها مما تعاقب بعدها ولم يزل ناميا قويا ، يتجلى في كل مواقفه المشهودة ليدل الناس على أن الأمة لا تهن عن تفرق، ولا تؤخذ لجهالة، ولا تغلب افتقارا لأهلية الاستقلال.
كان الرأي العام المصري يقظا شديدا؛ لأنه كان ولم يزل معتزا بالعدل، مؤيدا بالحق، فلم يكن يخشى أن تكون له شدة في طلب الحق، وصلابة في إقامة العدل.
وفيما بين هذه السنة التي نحن بها وسنة 1906 كان شأن الرأي العام المصري عظيما؛ فقد عز جانبه، ورسخت قدمه، وبلغ من القوة مكانة الرأي العام في أعز الأمم جانبا وأرفعها مكانا.
ألحت الكوارث على الأمة من كل ناحية فكانت كالمطر الغداق يسيل على المرتفعات والآكام كما يسيل في الأغوار والأودية، ولكن هذه الكوارث كانت تعطي الرأي العام قوة بدل الضعف وتزيده نورا بدل الظلام، لم يهب أن تلح الكوارث عليه، بل سار تحتها وهي مرعدة مبرقة، فخلص بقوته الروحية وبقوة الحق الذي في يده إلى أعمدة الجبروت فهزها.
هل ارتعدت الأمة بكوارث الأيام فلم تظهر شديدة في حقها إلى اليوم، فماذا يراد أن يكون من أمة هذه حياتها؟
إنا نحن ذلك الجنس الذي قال المسيو كليمانصو فيه سنة 1882: «أما الجنس الذي هو أهل للعمل والنظام - يريد الجنس المصري - فسيحيا حتما؛ فإن كل أمة عاملة سينقذها العمل منقذ كل عامل».
وقد بقينا نحن المصريين ذلك الجنس وزدنا عملا ونظاما، فإن لم ينقذنا العمل فلا أنقذ أمة في الأرض.
هوامش
القسم الثاني
الفصل الثالث عشر
نظرة إجمالية
«وهل يعقل أن تفشل حكومة وطنية مثل فشلنا في مدة 25 سنة مضت؟!»
المستر روبرتسون سنة 1908
يقولون إن لجنة «اللورد ملنر» ستفد على مصر لتضع نظاما جديدا للحكم غير الأنظمة الكثيرة التي تعاورتها التجربة خلال ثلث القرن الأخير، فلقائل أن يقول - وقد يكون قوله حقا - إن التجربة الجديدة على فرض أنها ستكون لا تشذ عن التجارب الأولى، أي إنها ستكون عرضة للمسخ والنسخ والمحو الإثبات ما دام الغرض واحدا لا يتغير، وهو رسوخ القدم في مصر إلى ما شاء الله.
لنفرض أن تجربة المستقبل ستستغرق ثلث قرن آخر، ولننظر إليها بعين الحق والعدل، أفلا نرى حينئذ أنها طريق ترسم إلى غرض يخالف الغرض الذي تطلبه الأمة، لا يستطيع أحد أن يقنع العقل البشري بأن هذين الغرضين متفقان أو يمكن اتفاقهما؛ فالتاريخ يشهد بغير ذلك، وحوادث التاريخ لا تدل على أن أمة حاكمة تتبرع من نفسها بوسائل الحكم الصحيح لأمة محكومة كرما منها وفضلا، الشهادة التاريخية التي كانت صادقة في كل وقت تقضي أن تسير الأمة الأولى بالأمة الثانية على جسر من القطيعة، وفي سبيل لا يوجد الخلاص النهائي عند غايتها.
إنا ليسهل علينا جدا ان نقول إن مصر تستطيع أن تصبر ثلث قرن جديد لو أنها وثقت ثقة صحيحة بأن القوم سيودعونها بسلام يوم ينقضي أمده، ولكن هل في الأرض شيء يستطيع أن يجعل هذه الثقة في محل الإيمان من قلوب المصريين؟ إن كل ما يمكن أن يقال لمصر إنه مطلع تلك الثقة ليس إلا وعودا وعهودا وأقساما مغلظة ومواثيق مبرمة، بل أكثر من ذلك معاهدات دولية وقرارات برلمانية، غير أن مصر تستطيع مع هذا كله أن تقول: إن الوعود والعهود والمواثيق والأقسام، لا تخدع إلا الساذج ولا تغر غير الأبله، بل إنها تنزع الثقة من الصدور كلما تجددت واشتدت. لا، بل تستطيع مصر أن تقول فوق ذلك: إن هذه الأساليب علمتني أن أكون من اليوم غير ساذجة ولا بلهاء.
كان الميثاق من قبل مصوغا في هذا الأسلوب: «لا ننوي البقاء في مصر إلى الأبد، ولا نطمع أن نبسط يدنا بحماية عليها»، فكيف كان هذا الميثاق بعد؟ مضت سنة وأخرى، وعشر وعشرون، ثم كاد القرن ينتصف، فماذا رأينا؟ لم نر إلا عملا وأنظمة ووسائل وتدابير لا يحتاج إليها الذي ينوي الارتحال، بل هي حاجة من ينوي البقاء إلى الأبد، على أن الأيام طاحت بصدق الشطر الأخير من الميثاق، فلم يصدق ما قيل من إنهم لا ينوون بسط الحماية، ونحن اليوم نسمع ميثاقا جديدا لولا أن مصر تحركت حركة الحياة والإباء والشرف لما سمعناه ، هذا الميثاق الجديد هو أن العدل والرحمة قضيا أن يدرب المصريون على الحكم الذاتي، ثم يكون لهم هذا الحكم!
لا ريب أن الناس جميعا ينظرون صورة هذا الميثاق فيرونه في الأرض، بينا يرفعون بأبصارهم إلى منزلة الأمة ومكان أمنيتها وموضع حقها فيرونها في السماء.
يريدون أن يدربوا المصريين على حكم أنفسهم بأنفسهم، ثم ماذا؟ لم يتفضلوا فيقلوا ماذا يكون بعد ذلك، ولكنا نحن نستطيع أن نقول، ويستطيع العدل أن يسمع حديثنا فتطيب نفسه.
الذي سيكون أحد أمرين: فإما أن نصل إلى غاية الحكم الذاتي، وإما ألا نصل، وعلى كل حال لا نعرف الوقت الذي ضرب أجلا لهذا الدرس الجديد، فليكن ثلث قرن كالذي مضى، فإذا وصلنا كانوا قد انتقضوا على أنفسهم وأضاعوا غرضهم، فأي شيء يضطرهم إلى إضاعة الوقت والغرض فيما لا يجديهم، وإذا لم نصل كانوا قد أتموا الإجهاز علينا.
إذا كان يراد منا الآن أن نقتنع بأننا سنحكم أنفسنا بأنفسنا في المستقبل، وإنهم سيودعوننا وداعا جميلا في يوم لا يعلمه إلا الله، فلماذا لا يكون ذلك اليوم؟!
وإذا كان القاصر لم يبلغ رشده على يد وصيه بعد أن تولاه ثلث قرن فمتى يبلغه؟ إن القاصر يصف نفسه بالرشد وينسب إلى الوصي ما ينسب إلى كل وصي خشن اليد، حديد الناب، طويل الظفر. ويقيم الحجة على ما يدعي فيقتنع الناس بحجته، فكيف لا يترك لنفسه ليرى الناس هل رشد أو لا يزال قاصرا؟
لئن كان حقا ما قاله المستر «روبرتسون» سنة 1905: «هل يعقل أن تفشل حكومة وطنية مثل فشلنا هذا في مدة 25 مضت؟».
فحق أيضا ما قاله الإنكليزي المنصف صاحب كتاب «تحرير مصر» سنة 1906: «لماذا لا نعترف بأن مصر بلغت سن الرشد، وأنها تعلمت ما يكفيها، وأن الساعة قد أتت لتقوم الأمة المصرية بشأن نفسها وتدبر أمرها بعقلها؛ لأن آمال القارة الأفريقية كلها معقودة بمصر؟».
نعم، كلا القولين سؤال حق، ونحن أيضا لا ندري لماذا لا يكون هذا الاعتراف؟ ولا نعلم كيف يعقل أن تفشل حكومة وطنية كفشلهم في ربع قرن؟
أليس في الأرض إنصاف؟ على أن الإنصاف في السماء إذا لم يكن في الأرض!
الفصل الرابع عشر
درس في الحكم الذاتي
«إني أقمت في مصر مدة قبل أن تحققت قلة علمي بموضوع اشتغالي، ووجدت إلى آخر أيامي في تلك البلاد أني كنت أتعلم في كل يوم أمرا جديدا»
اللورد كرومر
لو أن رجلا أنشأ مدرسة ليعلم الأبناء، أكان يدل على مهارته أن تبقى مدرسته نحو أربعين حولا بناء تغشاه سحابة الجهل على رغم أنه يحشوها كل يوم بأساتذة جديدين؟
كلا، بل يكون أمر هذا الرجل بين حالين، فهو إما يريد أن يكون تاجرا حيث لا يريد أن يكون معلما، وإما يريد الخير ولكنه لا يعرف سبيله؛ إذن فهو لا ينفع، فإن تشبث بأن تبقى يده آخذة بزمام الناشئين بعد هذه التجربة الطويلة، فلا يكون ذلك حقا له.
هذا مثلنا بين الماضي والمستقبل، وقد كان الشفيع في بقاء الحالة على ما هي عليه أننا نتلقى العلم والنظام والمدنية في مدرسة السياسة العالية، فإذا جاء اليوم الذي نصبح فيه أهلا للاستقلال تركنا أستاذنا ومضى مشكورا، ولكننا نسمع الساسة والكتاب الإنكليز يقولون ما قالوه من قبل، يقولون: إن الذي مضى كان تجربة اقترن بها الفشل. واللورد كرومر يؤيد ذلك بقوله: «كانت حكومة مصر هذه - يشير إلى حكومتها منذ سنة 1882 - تجربة واختبارا في باب الإدارة الشرقية فانتهت التجربة ببعض الفوز مع ما في هذه الحالة من المساوئ والعيوب».
غير أنهم يقولون الآن: فلنأخذ في تجربة أخرى عسى أن يقارنها الفلاح، ولكن أسفار التاريخ تعترف بعجزها عن أن تطوي بينها خبر أمة غالبة وضعت سلاح الاستقلال في يد أمة مغلوبة.
إنا لا نبتدر هذه الدعوى بالرفض المطلق؛ فإن وراء البحث حجة الحق الناهضة، فلننظر ماذا يراد أن يكون، ولننشر صحيفة هذا الدرس الجديد، لنشم ما يفوح منها.
يقولون: سنتوسع في الخصائص النيابية، وسنمنحكم نعمة صغرى من نعم الحكومة النيابية لتصعدوا منها إلى النعمة الكبرى، هذا قول أهمل فيه الطرف الذي يصيح بحقه، وظهر به تجاهل الحق المطلوب، فالمصريون يطلبون الاستقلال التام لأنه حقهم الطبيعي المؤيد بالمعاهدات، الثابت بإجماع الناس، فكيف يقال لهم: ماذا تطلبون من التوسع في الخصائص النيابية والأخذ بيد التعليم ومداواة الإدارة من أمراضها؟ أليس هذا نهاية ما يكون من تجاهل العارف؟
لا تزال السياسة تطلع على الناس بعجائب يود العقل البشري أن تخسف به الأرض قبل أن تنسب إليه، عجائب تقطعت بها الأسباب، ورجع آخرها على أولها بمعاول التهديم والتخريب، فمن بدائع السياسة الإنكليزية أن لها رأيا لم يزل يتردد بلسان التوكيد، فهي ترى أن الأوربي محروم من التوفيق كلما أراد أن يعرف نفس الشرقي معرفة تكشف له عن ميوله وطبعه وعادته وخلقه، ولا يفتح الله عليه بهذا التوفيق مهما أقام في الشرق، والصواب أنه رأي صحيح على غير إطلاقه، فإذا خصص التعميم فصارت كلمة «أوربي» في عرف الساسة الإنكليز مرادفة لكلمة «إنكليزي»، بحيث لا تؤدي أكثر من معناها كان حقا ما يرون فالإنكليزي لم يفهم الشرقي ولا عرفه، ولا بلغ من حقيقته في ذاته وعادته وخلقه وحياته ما ينبغي أن يبلغه ليملك زمامه، وليس سبب ذلك أن النفس الشرقية مستكنة في صندوق من الحديد، بل سببه أن النفس الإنكليزية مترفعة عن أن نقف بجانب النفس الشرقية. فهي من وهم صاحبها في برج فولاذي يعلو بها عن منازل البشرية، لا بشرية الشرق وحده، بل بشرية الغرب أيضا!
يقول اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»: «إني أقمت مدة في مصر قبل أن تحققت قلة علمي بموضوع اشتغالي، ووجدت إلى آخر أيامي في تلك البلاد إني كنت أتعلم في كل يوم أمرا جديدا».
كذلك يقول اللورد كرومر، فيشهد على نفسه أنه أقام في مصر مدة كان يعمل فيها عمله المعروف - وهو عمل الحاكم المطلق الذي لا ينازعه أحد - على غير علم تام بموضوع عمله.
واللورد كرومر هو الذي يقول قومه إنه رجل فذ خبر مصر خبرة لم تتفق لإنكليزي سواه، ومع ذلك فقد عمل في مصر مدة وهو لا يعلم موضوع عمله ، على أنه بقي ناقص العلم بما لا بد منه لمن يستحل أن يقوم مقامه في مصر، فهو نفسه يقول إنه أدرك إلى آخر أيامه في هذه البلاد أنه كان يتعلم كل يوم أمرا جديدا، هذا مبلغ علم اللورد كرومر بمصر، وهو الذي أقام فيها نصف عمره كما قال، فما مبلغ علم غيره؟ وأين القدرة على تأهلينا للاستقلال إذا توفر حسن النية؟
بل نحن نبالغ في التسامح إلى ما لا يحتمل التسامح، نحن نقول: فلتجلسوا لتضعوا صورة الدرس الجديد في الحكم الذاتي ولكن هل يتسع المجلس لنا ولكم؟ هل تشركوننا في وضع هذه الصورة؟ فإن اشتركنا وإياكم فما نحن وإياكم بمتفقين، نحن نريد صورة لا نأخذها درسا مجهولا لأننا لم نعد نجهل هذا الدرس، وأنتم تريدون أن نكون تلاميذ نتلقى درسا لا نجهله، نحن نريد صورة يرى الناس فيها جمال سلطة الأمة، وأنتم تريدون صورة يرى الناس فيها مظهر إخضاعها، نحن نريد حكما ذاتيا يمشي بين صفوف من جلال الاستقلال، وأنتم تريدون شيئا موصوفا بأنه طريق الحكم الذاتي وهو في الواقع ليس كذلك.
هذه حالنا وإياكم إذا ضمنا وإياكم مجلس واحد تخلق فيه صورة الدرس الجديد، فإذا أبيتم الاشتراك فما أنتم بفاعلين شيئا، ولا قادرين على شيء لأنكم لا تعرفوننا فلا تعرفون ما ينفعنا، بل قد لا تعرفون ما ينفعكم لدينا.
كأننا ننظر إلى المجلس النيابي الذي يقال إنه سيكون مظهر سعة الخصائص الدستورية ومجال المنح التي تدني يد الأمة من آلة الحكم، كأننا ننظر إلى هذا المجلس في الصورة التي سيولد بها، ولكن كأننا أيضا نري نوابنا فيه نياما على مقاعدهم؛ لأنهم لا يملكون أن يتناولوا مطالع الحياة بالعقل الفياض والرأي الراجح، وكأن كل ما سيجتمعون له أن ينظروا في ضريبة الخفراء وعشور النخيل، وتأديب العمد، ومسائل الأمن العام، وأشكال التعليم الأولي، وما يسمى «بدل الانتقال والسفر» للموظفين ... إلخ إلخ. وما أشبه أن تكون هذه الأشياء أوليات لا تحتاج إلى مجلس نيابي!
إن الدرس الذي يراد أن نتلقاه، كالدرس الذي تلقيناه من قبل في موضوعه وغايته، ما دام على الصورة التي لمحناها في صحف أيامنا الحاضرة!
الفصل الخامس عشر
درس في القضاء
«نرى لهذه المسألة حلا واحدا وهو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها بيدها»
صاحب كتاب «تحرير مصر»
لعل الدرس الذي يراد أن نتلقاه لإصلاح القضاء المصري، هو الدرس الذي وضع اللورد كرومر مواده وعناصره منذ كان لا يرى أن يصلح القضاء إلا بإلغاء الامتيازات الأجنبية.
نعم، هو هذا الدرس القديم، هو الذي لم تغب عن الأمة خوافيه فاعترضته، وهو الذي طارت الآمال بأصحابه تحت غبار الحرب فألفوا له «لجنة إلغاء الامتيازات الأجنبية»، وجعلوا روحه ما يسمى توحيد القضاء هو الأمل المنتظر والعمل المدخر، غير أنهم لم يحكموا نسج شباكه، فاستطعنا أن نرى من ثقوبها شبح المستقبل المخيف.
لا ريب أن شريعة العدل لا تتمشى نزيهة طاهرة إلا أن تكون صالحة للزمان والمكان، وليس معنى ذلك أن تكون صلتها بهما زمنية ومكانية، بل معناه أن تكون هذه الصلة بشرية ترجع إلى أهل المكان الذي تشترط صلاحيتها له، وتوافق أهل الزمان الذي تشترط له هذه الصلاحية في مكانهم، فعدل الشريعة الموضوعة مستمد من روح الاجتماع الخاص، من العادات والأخلاق واللغة والدين والقومية، ولكن القوم يريدون أن يخالفوا هذه السنة الطبيعية حين يضعون شريعة إصلاح القضاء المصري، أو تقويضه وإقامة قضاء آخر في محله.
ليست اللغة ولا الدين ولا الأخلاق ولا العادات في شيء من الشريعة التي لا يريدون التحول عنها، ليست منها في شيء قليل أو كثير، وليس ينتظر أن تكون منها قط، ما دام النظر إليها في هذه الشريعة ينقض الغرض ويعكس المطلوب، ولو أنه أريد، أو لو أنه يراد أن تكون إحدى هذه الخصائص القومية في شيء من الشريعة القائمة بذهن السياسة، لما ألفت «لجنة إلغاء الامتيازات وتوحيد القضاء» على نحو ما ألفت، بل لما أجاب «السير برونيات» نقابة المحامين الأهليين ذلك الجواب الصريح المر، حين طلب أن يمثلهم أمام اللجنة فرد واحد فقالوا: إن رجلا واحدا لا يمثل أمة كاملة في وضع شريعتها، فقال: ليس من الضروري أن يكون فرد ولا أكثر من فرد.
نترك ما يصيب المسألة المادية من عدل هذه الشريعة الجديدة، فقد يكون ما يصيبها أهون من غيره، وقد يصبر المصري على النكبة التي يجرها عليه قضاء لا أثر فيه لشيء من خصائص الأمة، نترك هذا وننظر إلى المسألة الأخرى، إلى الغاية التي تنتهي إليها تلك الشريعة، أفلا تتمزق الحجب عن المستقبل فترى العين تحته قضاء معقدا مشكلا يودي إلى نتيجة واحدة، هي مسخ الروح الاجتماعي ومسخ العدل الوطني وتقمص روح الاجتماع والعدل جسدا غير مصري عملا بحكم التناسخ السياسي؟
لا يجوز أن نطمع في غير هذا؛ فإنا إذن نطمع في شيء ينافي ما لا بد منه للسياسة، فعلى الذين يجهلون العاقبة أن يوطنوا النفس على رؤية القضاء في هذه الصورة، وتناول الدرس الجديد بهذا المذاق، أما الإصلاح النافع فهو الذي توفرت عليه براهين الحق ووجده المنصفون من الإنكليز وغير الإنكليز سبيل المصلحة لمصر ولإنكلترا جميعا.
وقد بحث السياسي الإنكليزي صاحب كتاب «تحرير مصر» مسألة القضاء المصري بحثا دقيقا، وتناوله بعقل وحكمة لم تضع معهما مصلحة إنكلترا نفسها كما لم تضع معهما مصلحة مصر أيضا، وأبان مصاعب الأخذ برأي «اللورد كرومر» في توحيد القضاء وابتنائه على خليط من الشرائع الغربية، ثم قال في تضاعيف بحثه: «كيف يوجد نظام قانون يقنع المصريين والإنكليز واليهود والفرنسيون واليونان وكثيرين غيرهم، وإذا فرضنا وجود مثل هذا النظام فمن يستطيع أن يقدمه للموافقة عليه وقبوله، ولو فرضنا زوال كل هذه العقبات فإن إلغاء المحاكم القنصلية يكون من المصائب الكبرى على مصر من الوجهة السياسية».
وقال بعد هذا: «إن المسألة القضائية أكثر تعقيدا من المسألة المالية، ولا يمكن التفكير في أنها تحل بعقد مؤتمر دولي يجتمع فيه مندوبو الدول ويقرون في شأن القضاء المصري ما يرون، فيسعى هذا المؤتمر لتوحيد القانون بأن يضع قانونا رسميا يطابق أغراض الجميع، وينفذ في رعايا الجميع، غير أن عقد مثل هذا المؤتمر بعيد الحصول جدا، فإنه إذا اجتمع لا يلبث أعضاؤه أن يختلفوا شتى الاختلافات؛ لأن لكل طائفة دينا ولغة ومبادئ تخالف دين غيرها ومبادئه ولغته، ولا يبالغ من يقول إن مثل هذا المؤتمر لا يوشك أن يجتمع حتى ينقض، على أننا نرى لهذه المسألة حلا واحدا هو أنه ينبغي لمصر أن تأخذ عدالتها بيدها، يجب عليها أن تسأل الدول أن يسمحن لها بدخول صفوفهن وأن يعددنها منهن لتستطيع أن تنفذ عدالتها بيدها».
هذا رأي رجل إنكليزي منصف لا ينسى مصلحة أمته حين يدل على مصلحة مصر ومصلحة العدل لذاته في مصر، ولكن أبلغ من هذا قوله: «أليس عجيبا أن تبقى مصر كل هذا الزمان محرومة من الحقوق التي نالتها جمهورية سان دومنجو وجمهورية سان سلفادور وهما حكومتان صغيرتان، سادتهما الفوضى؟! أليست مصر قادرة على القيام بما تقوم به هاتان الحكومتان الصغيرتان اللتان يحكمهما العبيد؟! هل ينكر علينا أحد أن أهل مصر تعلموا في مدارسهم المنتظمة التي تفوق بعض المدارس الأوربية كل ما يتعلمه الغربيون في مدارسهم؟ فلماذا يحرمون من التمتع بالحقوق التي يتمتع بها العبيد السود في جمهوريتهم الحقيرة؟!».
حجة تنهض بالحق فلا دافع لها، أنهضها صاحبها منذ ثلاث عشرة سنة، فكيف إذا ضرب الحق بها الآن وجه الباطل؟
نحن نتمشى مع السياسة إلى أقصى غايات التسامح الممكنة، ونشهد الناس على أننا نقدم حسن الظن بين أيدينا، ولكنا نفتقر إلى دلائل تؤدي إلى أدنى مراتب الإقناع بحسن الظن. نقول: كيف توضع شريعة القضاء الجديدة؟ ومن الذي يضعها؟ إن الذي رأيناه أنها وضعت على نحو ما قال صاحب كتاب «تحرير مصر» من التذبذب بين الأهواء المختلفة والمنافرة الشديدة، وستوضع على هذا النحو إذا نسخت صورتها التي فرغوا من وضعها، أما الذين وضعوا هذه الصورة، أو سيضعون الصورة الأخرى، فرجال لا ننكر أن لهم كفاءة فيما هو خاص بهم، هم كانوا قضاة ومحامين وإداريين وماليين، وهم أصحاب كرامة تأبى لهم أن يقولوا في أنفسهم إنهم شراع، أو إن معرفة القانون في مسائلة القضائية، ومعرفة الإدارة في صنوفها الإدارية ، ومعرفة الفنون المالية والسياسة المادية، هي الكفاءة كل الكفاءة لوضع الشرائع وتكوين روح العدل، ولكن هؤلاء هم الذين وضعوا شريعة القضاء المصري في صورته التي شغلوا بها، فكيف تكون هذه الشريعة ذات قوام ثابت، ومنهج عدل صحيح؟
بل فوق أنهم فعلوا ما ليس لهم أن يفعلوه، استعاروا للعدل المصري عناصر غريبة قضت السياسة أن تحمل عليها شرائع القضاء في الهند وغيرها من المستعمرات، وهم باقون على استعارة هذه العناصر إذا قدر أن توضع شريعة القضاء المصري مرة أخرى، فكيف يجوز أن يكون الناس سواء فيما يقضى به في أوطانهم؟ لئن جاز أن تصلح الشرائع الفرنسوية والألمانية والروسية والأمريكية... إلخ إلخ مكان الشريعة الإنكليزية في بلادها؛ جاز أن تصلح في مصر شريعة ليست إلا خليطا متعجنا مرتبكا مستعارا من شرائع المستعمرات في الشرق والغرب.
ولكن السياسة هكذا تريد، والأمة لا تريد ما تريده السياسة وشتان بين إرادة يأباها الحق فينفر منها، وأخرى يرضاها فيسكن إليها، على أن الله لم يخلق للمصريين عقولا تفهم الدرس الذي يراد أن يأخذوا به في هذا الشرع الجديد، ذلك أمر الله، والله غالب على أمره.
الفصل السادس عشر
درس في الإدارة
«إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العام الآن»
المستر روبرتسون سنة 1905
قد يفترض الإنسان الشيء وهو غير كائن؛ مجاراة لخصمه، ليصل به إلى محل الإقناع بالحجة القاطعة، وليتصور الأمر المحذور بصورته التي يدل عليها قياس المستقبل بالماضي فيحذره ويتقيه.
إنك لتصف الطريق المخيفة لأخيك الذاهب في سبيل الغاية المطلوبة، ويكون حقا عليك أن تصفها له؛ فإنك إذا لم تفعل كنت قد أهملت الواجب، وفرطت في أداء الحق.
وإنك لتدل الساري في جوف الليل على مكان الظلام، كما تدله على مطلع القمر حتى لا تنصرف عينه عن النور الساطع إلى الظلمة الحالكة، فتزل قدمه ويضل هداه.
بل إنك لتأنس من نفسك حدة النظر وسلامة البصر، ثم تحتاج إلى من يرفع حجب الخداع عن عينك ويمنع مغالطة الحس عن قلبك، فلا يخدعك لمعان السراب ولا يغرك البرق الكذاب.
إن الفجر الكاذب يجاور الفجر الصادق، فإن لم تكن على بصيرة من هذا وهذا، فقد يرديك الأول بضلاله، بينا أنت تطلب الثاني لتهتدي به.
كذلك نحن نرسم صورة فرضية، والفرضيات أمثلة تصورية يقتضيها وجوب الحذر مما يقدر أنه ناشئ عنها.
ونحن قد شبعنا وعودا ومواثيق، حتى أصابنا مرض البطن لكثرة ما تجرعنا من حلوها ومرها، ووفرة ما ازدردنا من علسها وبصلها، بل أصابتنا تخمة المواثيق والوعود، فأصبحنا في حاجة إلى الشفاء من هذه التخمة، وماذا علاجها إلا أن تلقى الأفواه ما ملأ البطون، ثم لا تعيده مرة أخرى خشية أن ترجع العلة أضعاف ما كانت، إنا نسمع وعودا ومواثيق، وما أشبه الليلة بالبارحة! فالناس هم الناس، يعدون اليوم كما وعدوا أمس، والطريق هي الطريق، يسلكها غدا من سلكها اليوم.
أبت مصر إلا أن تكون في ثلث القرن الجديد كما تريد لنفسها وكما تريد أن تكون إلى الأبد، فهل تتبدل إرادتها بما يقال إنها ستناله من القشور التي تعلم تفاهتها، ولا تجهل أنها قشور تنفصل عن اللب الخالص فتجف وتسحق وتذروها الرياح، ثم لا تكون شيئا مذكورا؟
وماذا عسى أن تكون تلك القشور؟ لقد أسلفنا بعضها واليوم ننظر في شيء آخر هو الذي يسمى إصلاح الإدارة، أو كما يراد أن يقال: تلقين المصريين درسا جديدا في مدرسة الأعمال الإدارية.
آمنا وصدقنا أن القوم آمنوا وصدقوا الآن فقط إن الإدارة مختلفة معتلة، وإن المصريين مبعدون عن المناصب الإدارية فعلا وحكما؛ لأن الأكفاء الكثيرين ضرب بينهم وبين هذه المناصب بسور من حديد السياسة، ولأن الذين تقلدوها لا يملكون تقديما ولا تأخيرا، فلا رأي ولا سلطة ولا عمل إلا أن يتحركوا بالخطة الموضوعة كما تتحرك قطع الآلة الحديدية الصماء بقوة الدفع المسلط عليها، ولكن هل قال أحد من المصريين إننا نطلب إصلاح الإدارة بأي صورة من السياسة التي تريد أن تتبرع بهذا الإصلاح؟ وكيف تسمع السماء والأرض ضجة المصريين العالية بطلب شيء مخصوص محدود معين هو الاستقلال التام، ثم تريد تلك السياسة أن تتجاهل هذه الصورة، أو تقول إن أذن السماء والأرض مريضة بالصمم لأن أذنها هي لم تسمع صوت المصريين أو سمعته استقلالا، وفهمته حماية بعد أن كان احتلالا؟
لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لحاربت حربا شديدة في سبيل الوفاء بالوعود القديمة، ولأصرت على الرفض والإباء إذا فرض أن أحدا طلب منها أن تبقى في مصر لحظة واحدة بعد الآن. نعم، لو أن هذه السياسة أنصفت نفسها لفعلت ذلك ليقوم لها من حسن النية شفيع يخرجها من مصر طاهرة الذيل بعد أن أمضت ستا وثلاثين سنة تتكلف الإصلاح فلا يطاوعها، وتناديه فلا يجيبها، وتستلينه وتستعطفه فلا يلين لها ولا يعطف عليها، ولكن هذه السياسة ضرب من السياسة العامة، والسياسة لا قلب لها، فلا ترحم نفسها ولا ترحم أحدا.
وكيف تريد السياسة أن يكون إصلاح الإدارة في مصر؟ لا ريب سيقولون: نضع أنظمة جديدة فيضعونها، ونعطي المصريين حصة من العمل في الإدارة أزيد من حصتهم الحاضرة فيعطون أو لا يعطون. ولكن مصلحة السياسة ومصلحة مصر متضادتان، فأي دليل على أن هذه الأنظمة ستكون في مصلحة مصر، ولو فرض أنها ستكون في مصلحتها فأي دليل على أنها تنتقل من القول إلى الفعل؟ ولو فرض إنها ستنتقل فأي دليل على أن هذا الانتقال دائم؟ وأخيرا أي دليل على أن المصريين الذين ينالون تلك الحصة الواسعة من العمل الإداري سيكونون مخيرين لا مسيرين؟
اللهم إن هناك دليلا واحدا هو الماضي، وهذا الماضي يشهد أن شيئا من ذلك لا يكون، فخير ألا يكون من أصله، وخير أن ترجع السياسة إلى الصداقة على البعد، إلى الفوز بعطف أمة لها من مركزها ونهضتها تأثير عظيم في الشرق والغرب، إلى مطلب الأمة الصحيح، إلى الاستقلال التام؛ فقد عقد المصريون عليه خناصرهم وأصبحوا لا يقنعون بما دونه، لأنهم يريدون أن يكونوا أحياء، ولأنهم أدركوا أن الحياة هي الاستقلال.
قال المستر روبرتسون سنة 1905 ما معناه: «إن الموظفين الإنكليز يفعلون بغيرهم ما لا يريدون أن يفعله غيرهم بهم، سواء في ذلك موظفو الإدارة في مصر، والسياسيون في إنكلترا، والصحفيون الأوربيون في إنكلترا ومصر».
كان هذا رأي «المستر روبرتسون» قبل أربع عشرة سنة، فهل تغيرت الحال؟ كلا فإنها غريزة في الفطرة، وخلق يجري من النفوس مجرى الدم من الأجسام، وخطة وضعت لغاية لا تتخلف، ولكن المصريين لا يريدون أن يفعل غيرهم بهم إلا ما يفعلونه به إقامة لحكم المساواة بين الناس، وهيهات أن يرضى القوم ذلك، فإنها طبيعة لا يغيرها الزمن ولا شيء آخر قط.
ولسنا ندري ماذا يقول المستر روبرتسون اليوم، وقد بقي الموظفون في إدارة الأحكام والسياسيون في إنكلترا والصحفيون البريطانيون في إنكلترا ومصر على عهده بهم منذ أربع عشرة سنة؟ على أننا لا ندري ماذا يقول هؤلاء جميعا إذا سألهم سائل: لماذا تصفون المصريين بما تصفونهم به، وأنتم الذين أخذتم على أنفسكم تعليمهم وترقيتهم؟ ومتى يتعلمون ويرتقون؟ وماذا تقولون في التبعة؟ من يحتملها ومن الجدير بها؟ ومن الذي يجب أن يترك هذه الشئون حتى لا تتجدد تبعته مرة أخرى؟
إن أعذب ما قيل في هذا الباب كلمة قالها المستر روبرتسون أيضا سنة 1905 وهي: «إن للمصريين ما للأوربيين من الآمال، وقد ساعدتهم صحافتهم الوطنية على الانتباه إلى الحركة الكبرى الحاصلة في العالم الآن، عرفوا ما قامت به الأمة اليابانية، وأدركوا سخافة الأوربيين الذين اعتمدوا على التكهن الغربي المتأصل فيهم، فكانوا يزعمون أن اليابان لن تحرز ما أحرزته الآن».
لم تزل للمصريين تلك الآمال، وهي لم تقف عند المنزلة التي كانت لها يوم قال المستر روبرتسون هذه الكلمة، فقد تولتها الحياة النامية فضوعفت، وتعهدتها النفوس المخلصة فعظمت، ولم تكن حركة العالم الكبرى منذ أربع عشرة سنة إلا ذرة من حركته اليوم، فكم يكون انتباه المصريين؟ وكم تكون يقظتهم؟
ألا إن الإرادة لا تصلح إلا في أيدي أصحابها، وما كان لغريب الدار واللسان والخلق والعادة أن يعرف ما يعرفه صاحب الدار لنفسه، هل يكون ساكن المريخ أستاذا يلقي دروسه على ساكن الأرض ؟ إن أعجب العجب أن يكون ذلك أو يصدقه عقل، فإن كان فلا صلاح ولا فلاح!
اللهم إن وحي الإلهام الإلهي يحدثنا أن في سجل قضائك المبرم سطرا كتبته قدرتك العالية: إن مصر مع نفسها في ثلث القرن الجديد، وإلى الأبد.
الفصل السابع عشر
دروس مصر لنفسها
«لقد أبنا بتمام الجلاء أن الأمة تريد أن تكون سيدة منزلها، سيدة صاحبة عزم وحزم، والآن تريد أن تبين أنها تريد أن تكون سيدة عادلة، ولكن تريد أن تكون سيدة على كل حال»
المستر لويد جورج
الدروس التي نفترض جدلا أن غيرنا سيلقيها علينا في معالجة الأمراض التي عجز هذا الغير عن معالجتها خلال ست وثلاثين حجة، أو الدروس التي يريدون أن يلقوها علينا كرها لا طوعا، هي التي وصفناها فيما مضى، والتي وصفنا مادتها وصيغتها، واللسان الذي تلقى به، والأسلوب الذي يعرب عنها، وقد علا صوت الأمة وصح عزمها على ألا تدخل مدرسة تلك الدروس مرة جديدة؛ لأنها تهلكة، ولأن الذي يلقي بنفسه في التهلكة هو المجنون.
والأمة تعرف سبيلها يوم تنفرد في وطنها كما ينفرد صاحب الدار في داره إذا تركه الضيف الذي يزاحمه في امتلاك الدار، تعرف الأمة سبيل التجديد والترميم، ولا تبطئ في بناء الأركان المهدومة والجدران المنقضة، كلما رأت ما فعل ضيفها الراحل الأمة التي بنت فهدموا، وغرست فاجتثوا، وأحيت فأماتوا، ورفعت فخفضوا، والأمة التي أقامت دهرا طويلا مغلولة اليد إلى العنق ترى الهدم والاجتثاث والإماتة والخفض، تأبى إلا أن تبني وتغرس، وتحيي وترفع، إذا أطلقت يدها المغلولة وحطم قيدها الشديد.
ولكن عسى أن يتطلع الناس لمعرفة ما ستصنع هذه الأمة لنفسها يوم تترك لنفسها، ولئن لم ينطق التاريخ بما ستفعل فإن حياتها الحاضرة وعزمها المنشور ينطقان به.
إن الأمة المصرية صادقة الأمل في الحياة، واثقة بأنها ستظفر بحياتها الكاملة لأن لها عزيمة تخضع قوة الزمن قبل أن يخضعها، ولها إرادة تحطم إرادة الدهر قبل أن يحطمها، ولم تفتقر أمة إلى أكثر من هذه الإرادة وتلك العزيمة، وكل أمة كانت مغلوبة فانتصرت على غالبها إنما كتب لها النصر بصدق إرادتها ومضاء عزيمتها.
ليست ثقة المصريين وليدة الحركة التي أطبقت على الأرض في هذه الأيام، وليس أملهم مخلوقا مع الآمال التي أحيتها مطامع النور في هذه الأعوام، ولكن ثقة المصريين وأملهم قديمان، ولو لم يكونا كذلك لكان أقل جهاد للسياسة كفيلا بأن يمسخهم ألوانا وأشكالا ونفوسا غير ألوانهم وأشكالهم ونفوسهم، غير أن السياسة جاهدت جهاد المستبسل وصبرت على طول الزمن لتبلغ النصر، ثم كانت عاقبتها وعاقبتنا أن بقيت في مصر أمة ممتلئة حياة ونشاطا وأملا، مندفعة في سبيل الرفعة والمجد الوطني اندفاع السيل المنحدر، وكان من فضل ذلك أن حفظت قوميتها ولغتها وأخلاقها ووطنيتها وأصابت من العلم بنفسها ما لا يتفق لأمة أخرى أن تصيبه لو أن السياسة وقفت لها موقفها لهذه الأمة.
هذا الحاضر الماثل أمام الأبصار صفحة بيضاء ينظرها الناس فيقيسون بها ما سيفعله المصريون لأنفسهم يوم تشرق عليهم شمس الاستقلال التام، أما المستقبل فما أيسر أن نقص على الناس ما تنوي الأمة أن تستوفيه من عظمته ومجده.
سنصلح المالية فلا تنفق أموالنا آلافا مؤلفة فيما لا ينفع، ونذرا يسيرا فيما ينفع ظاهرا ويضر باطنا، ولا تكون خزانتنا كالوقف الأهلي تفيض على الموظفين الإنكليز في غدواتهم وروحاتهم، وفي يقظتهم ونومهم، وفي حضرتهم وغيابهم، وفي بقائهم موظفين فإذا اعتزلوا الوظائف وعادوا إلى بلادهم أفاضت عليهم معاشا فخما ضخما، ومكافآت أضخم وأفخم من المعاش، ولا تخترع لنا كل ساعة أمورا جديدة يبرق ظاهرها باسم «مشروعات الإصلاح» وهي تستنفد المال ولو كان جبالا.
سنصلح ماليتنا ونحفظها وهي جديرة بالإصلاح والحفظ؛ لأنها وافرة ولأن الينابيع التي تفيض بها فائرة مباركة، وبعد أن نصلحها ونحفظها يرانا العالم برآء من الدين الثقيل، ونشعر بأننا خفاف لا ننوء بالدين الذي يعجب الناس منه لأنه باق إلى الآن، ولأنه ما كان ينبغي أن يبقى على حاله؛ فإن مصر غنية، والمزعوم أنها سعدت بالإصلاح المالي العظيم.
وسنصلح حياتنا الاقتصادية فنعود كما كنا أغنياء عن غيرنا إلا ما يقتضيه تبادل المنافع وتداول المصالح، تروج تجارتنا رواجا لا يقف بها داخل حدود البلاد، ولا يجعل حياتها معلقة على استجلاب المتاجر من الجهات التي أرادتها السياسة، وتنهض صناعتنا بما يشد أزر التجارة ويضاعف سعتها، وما يفي للأمة بحاجاتها من مصنوعاتها الوطنية الخاصة، فيبقى الربح لنا وتنمو به ثروتنا وتقوى مصالحنا، ويتوفر العمل لأبناء الأمة فلا يشقى عاطل بعيشه، ولا يختل النظام العام بكثرة العاطلين.
وسنصلح حياتنا العلمية، فلا نرى العلم تجارة في يد الحكومة تبخل به على من يعجز عن ثمنه، ولا تظل هذه التجارة رديئة النوع غالية الثمن كما هي الآن في السوق التي أقامتها سياسة التعليم، على أن العلم النافع، علم الحياة في هذا العصر، علم المزاحمة والمنافسة، هو الذي سنفجر عيونه فتروي نفوسا كاد يقتلها الظمأ، وتضيء سبيلا كثرت شبهاتها بظلام العلم الناقص الأبتر.
وسنصلح حياتنا الاجتماعية، فلا تطغى علينا سيول الفساد، ولا يدخل غش المدنية بأدرانها وأوضارها على النفوس الطاهرة والأخلاق المرضية، ولا تبقى الأبواب مفتوحة لكل طارق، يبيعنا السم الزعاف فيقتلنا بثمن نؤديه إليه، ويقضي على أخلاقنا وقوميتنا بجزاء حسن نجزيه به.
لا نريد أن يشاركنا أحد في أنفسنا، لنوصد أبواب الفساد ونشرح صدر الشرف الذي خذلته المدنية السياسية فأصبح حزينا كئيبا.
سنصلح جملة شأننا وعامة أمرنا، فنقف بين الأمم أمة لا ينكر الناس منها أن حاضرها غير ماضيها، وأن حياتها لا تتفق مع مزايا وطنها، وهيهات أن نصلح جملة الشأن وعامة الأمر، إلا أن نكون مع أنفسنا، وأن يرفع كل غريب يده عنا.
أوحت إلينا التجاريب الكثيرة القاسية أن السياسة تكون صادقة لأنها تقسم وتحلف وتتعهد، ولكن التجاريب أوحت إلينا أيضا أن صدق السياسة هو الكذب، إنا لا نطمع في صدق السياسة، بل نطمع في أن نقيم الحجة على أننا أمة تريد لنفسها ما تريده الأمة الإنكليزية لنفسها، ولا ننتظر أن تقول السياسة الإنكليزية إنكم تطلبون شططا. فإن الناس يجيبونها إذن: لقد طلبت الأمة الإنكليزية لنفسها شططا.
يقول المستر لويد جورج من خطبته في حفلة الاحتفاء بالجنرال اللنبي: «لقد أبنا بتمام الجلاء أن الأمة تريد أن تكون سيدة منزلها، سيدة صاحبة عزم وحزم، والآن تريد أن تبين أنها تريد أن تكون سيدة عادلة، ولكن تريد أن تكون سيدة على كل حال».
ونحن نريد أن نسأل: هل السؤدد في المنزل الخاص نعمة خلقها الله للأمة الإنكليزية وحدها؟ اللهم لا، فهو نعمة خلقها الله لكل أمة؛ إذن لماذا يكون من فضائل الأمة الإنكليزية أنها تريد أن تكون سيدة منزلها ولا يكون من فضائل الأمة المصرية أنها تريد أن تكون سيدة منزلها أيضا؟ هل تقترف هذه الأمة جريمة عظيمة إذا أرادت ذلك؟!
كلا: إن أمتنا تريد أن تكون سيدة منزلها، ولكنها لا تريد أن تكون سيدة على كل حال كما قال المستر لويد جورج في الأمة الإنكليزية، بل تريد أن تكون سيدة عادلة، سيدة صاحبة عزم وحزم، في حال واحدة هي العدل، فإذا لم تجد العدل في الرضا بإرادتها، فهنالك تقول:
أريد أن أكون سيدة منزلي على كل حال.
الفصل الثامن عشر
نظراؤنا في الحياة
«لتحي مصر، وليحي الاستقلال التام»
الأمة المصرية
تتجنى علينا السياسة النهمة، فلا ترانا أهلا لأن نحكم أنفسنا بأنفسنا، على أنها تقول ذلك ظاهرا ويخفي صدرها ما علمت من الحق، وهو أننا أهل لأن نحكم أنفسنا، بل أهل لأن نحكم غيرنا لا حكم الظالم للمظلوم، بل حكم المرشد للمسترشد.
أما السياسة القانعة المنصفة فتظهر الحق وتؤيد أصحابه، فإذا نحن استثنينا السياسة الإنكليزية الاستعمارية، واستثنينا سياسة الأربعة الذين أقاموا أنفسهم متصرفين في الأرض حين جلسوا جلستهم من مؤتمر الصلح، بقيت سياسة الشعوب في الغرب أجمع فإذا سأل أحد: ماذا ترى الشعوب وماذا يرى ساستها المنصفون؟ فحسب السائل أن يعلم أن في أمريكا وحدها 600 صحيفة تتناول القضية المصرية بالتأييد، وعليه أن يقيس بها غيرها، ولكن ألسنة الاستعمار السمجة لم تزل تدعي أن المصريين ليسوا أهلا للاستقلال التام، وأنهم يحتاجون إلى الدربة عليه، ولا بد من أستاذ مدرب، هذا الأستاذ هو السياسة البريطانية خاصة.
ونحن ماذا نقول لندفع زعما ليس من الصدق في شيء؟ إنه زعم أحبطه ما فيه من الباطل، ولكن المكابرة السياسية تقضي أن نقف لأصحابها - لا لغيرهم - موقف التدليل بالبرهان على البديهيات مما لا يحتاج إلى دليل أمام العقل المبصر، فإن لم يقتنعوا بالبديهيات وبراهينها، شهد عليهم الناس أنهم معاندون، يعرفون الحق ويكتمونه.
لم تزل السياسة البريطانية تطالب الشعب اليوناني ألا ينسى جميلها عنده، ولا يغفل عن دينها عليه، تقول هذه السياسة إن لها على هذا الشعب جميل الإنقاذ ودين الحرية، والشعب اليوناني معدود من الشعوب الشرقية، وقد ظفر باستقلاله منذ زمن طويل، ولم يقل أحد إنه كان يوم نال استقلاله أعرف بالحكم الذاتي من الشعب المصري في أيامه الحاضرة، ولا أوفر منه عددا ومالا، ولا أرسخ وطنية وعزما، ولا أوسع كفاءة وعلما، كانت السياسة البريطانية تعرف ذلك ولم تزل تعرفه، فلماذا لم تطلب يوم أنقذت الشعب اليوناني أن تتولاه بالتعليم والإصلاح لتؤهله للحكم الذاتي؟!
الشعب المصري لا يقل عن الشعب الروماني غنى وقوة وحياة، فهل يعلمون أن أحدا تولى رومانيا بحماية أو وصاية حتى لقنها دروس الحكم الذاتي وسقاها وسيلة الاستقلال التام؟ وهكذا يقال في البلغاريين والصربيين وأهل الجبل الأسود، بل نطلب من السياسة الاستعمارية أن تدل الناس على المدرسة التي سيدخلها اليوغسلافيون اليوم ليتلقوا دروس الاستقلال على أساتذة الاستعمار.
يقولون: إن الشرق لم يزل تلميذا صغيرا يفتقر إلى أستاذ هو الغرب، يقولون ذلك كلما صدمتهم حجة الشعوب الشرقية التي أخمدت أنفاسها أثقال الاستعمار، ويقولون حينما يقسمون الأرض شرقا وغربا إن شعوب البلقان كلها شرقية، فماذا يقولون لمن يقيم الحجة على أن الشرق أستاذ نفسه في حاضره، وأستاذ الغرب في ماضيه ويستدل على صدق هذا القول بهذه الشعوب؟ أيكذبون أنفسهم مرة أخرى فيزعموا أن شعوب البلقان أوربية غربية؟ فليكن ذلك كذلك، غير أن الحق يلجمهم إذا نهضت حجته من ناحية اليابان، ثم من ناحية شعوب روسيا الشرقية التي وقفت السياسة أمامها حائرة متذبذبة، فمرة تعرف لها حق الاستقلال، ومرة تنكره عليها، وأخرى تسكت عن الإقرار والإنكار!
وبعد كم من السنين تصبح الأمة المصرية أهلا للاستقلال التام على يد السياسة الإنكليزية؟ إنهم يريدون منا أن نصدق أن مصيرنا إلى الاستقلال في أيديهم، ولكنا نطلب مثلا واحدا، يشهد أن إنكلترا تركت أمة من الأمم التي كانت متغلبة عليها قائلة لها: اليوم أستودعك الله فاذكري هذا الجميل.
أين هذه الأمة؟ أهي أمريكا التي أنقذت نفسها كما تنقذ كل أمة نفسها؟ أم هي البوير وأمرها معلوم؟ أم هي كندا وحالها غير مجهولة؟ على أن يد الاستعمار البريطاني قبضت على بعض الأمم الكبيرة العظيمة الغنية دهرا يربو على مئة عام، فهل كان هذا الدهر كافيا لتعليم تلك الأمة وإصلاحها وتدريبها على الحكم الذاتي ثم توديعها بسلام؟!
اللهم إن مصر لا تريد أن تبقى مئة عام فإنها تعلم أن السياسة لا تقنع بالدهر كله أجلا للاعتراف بأنها قادرة على حكم نفسها بنفسها.
إن السياسة التي لا تخزيها هذه المزاعم، تقف الآن لبعض الأمم المستقلة موقف النمر المتحفز للافتراس، تتحفز السياسة لتثب على تلك الأمم المستقلة فتفجعها في استقلالها، فهل ينتظر أن تجود من نفسها بالاستقلال على أمة محرومة منه؟ وهل ينتظر أن تصدق في دعواها أنها تهيئ هذه الأمة للاستقلال؟
إلى هنا مزقنا حجاب الإبهام عن مفاخر السياسة الإنكليزية في هذه البلاد، فانكشفت تلك المفاخر ورآها الناس هباء، فلا الإصلاح إصلاح، ولا التعليم تعليم، ولا الإدارة إدارة، ولا النظام نظام، وليس للصدق شائبة في كل ما يدعون أنه إصلاح غير أن هناك مفخرة يظن الساذجون أنها حق ولم تكن إلا باطلا تلك التي يسمونها إنقاذ المصريين من السخرة، أو من ظلم الحكام قبل الاحتلال الإنكليزي، أما نسبتها إلى هؤلاء المصلحين فخطأ كنسبة كل شيء إليهم، والصواب ما قاله المؤيد في رده على خطبة اللورد كرومر في حفلة وداعه المشهورة وهذا نصه: «وقد فات اللورد أن حكومة مصر قد قررت قرارها في أمر العونة قبل الاحتلال وكانت سائرة في طريق التنفيذ، وأن أول معاهدة للرق كانت بينها وبين إنكلترا قبل عهد اللورد بسنين، وأن النظامات القانونية التي سوت بين الأمير والحقير في النهاية لم يضع أساسها في مصر اللورد ولا قومه، وأن الناس نشطوا إلى الكسب والعمل وأخذوا يجنون ثمار أعمالهم من يوم بدئ برفع أثقال الضرائب الشاذة عن كواهلهم، وأن ما رفع من هذه الأثقال في سنتي 80 و81 قد بلغ أكثر من مليوني جنيه مع أن ما رفع من هذه الأثقال في زمن الاحتلال لم يزد عن 604 ألف جنيه سنويا».
إذا كان هذا هو الحق فماذا يبقى للسياسة من المفاخر؟؟ اللهم لا شيء؛ إذن فخير شيء أن ترحل عنا، فإن كل لحظة تمضيها معنا تزيد عدم تصديقها اتساعا، وتزيدنا تأخرا وضياعا.
نحن نطلب ما يطلبه كل حي في الوجود.
نطلب ما لا يرضى خصومنا أن يفقدوه.
نطلب النعمة التي تطلبها الأمم بأعز شيء عليها.
نطلب الاستقلال التام، فلا تنام عنه عين أحد فينا، حتى يقضي الله بأمره.
لتحي مصر، وليحي الاستقلال التام
خاتمة
نثبت هنا المقالة التي نشرها الباحث المدقق الأستاذ الههياوي أفندي في جريدة الأفكار الغراء إبان توليه رئاسة تحريرها أخيرا تحت عنوان «الشعب القوي» فإنها أثمن خاتمة تلحق بتلك الآيات البينات، لما تضمنته من القضايا الصحيحة والمقدمات المنتجة في مسألتي: القوة والضعف، وكيف يناوئ الضعيف الذليل ذا القوة الغاشمة والجبروت الظالم فينال حقه منه. قال:
ليس الشعب القوي من يملأ البحار حديدا ونارا، ويملأ الأرض فضة وذهبا، وينزل أفرادا منه منزلة الملائكة من الناس يحسبون أنهم أطهار وإن دنسوا، أبرار وإن غدروا، ولكن الشعب القوي هو من تكون له روح الثقة بنفسه، ومن ينطوي صدره على إرادة للحياة، تذيب الحديد ولا يذيبها.
لم تخلق القوة مع الأقوياء يوم خرجوا إلى الأرض، فكل قوة مسبوقة بضعف، ولكن الأقوياء أرادوا أن يغلبوا الزمن ويصرعوا الأيام، فطردوا من نفوسهم هواجس الضعف، ونزعوا من صدورهم رهبة القوي المخيف، وثبتوا على الإيمان بأنهم أقوياء في ضعفهم، ما داموا يرون في أنفسهم قوما أهلا للحياة، وأهلا لما تقتضيه الحياة من إباء الضيم، والغيرة على حق الوجود.
إن الضعيف الذي يترفع عن وصفه بالخور وقصر الباع وانحلال العزيمة يجد في قرارة نفسه قوة معنوية، إن لم تكن هي القوة المادية التي تبطش وتحطم فهي سبيلها المؤدية إليها حتما، وليست بالضعيف حاجة إلى القوة الباطشة ليصول بها على أمثاله الضعفاء، ولكن حاجته إليها حاجة الأعزل إلى السلاح يدفع به عن حياته، فإذا عاش عاش كريما مهيبا، وإذا مات مات شريفا، هذه كلها حاجة الضعيف إلى القوة كي لا يموت كما يموت المغفلون.
حسب الذي يظن بنفسه الضعف أن تكون له إرادة الأقوياء ليكون قويا، هذه حقيقة تتناول الناس جميعا، أما أن ننظر إلى مكانها من حياة الشعب المصري فذلك الذي يشهد الحق بأنها كاملة فيه.
تصعد الآمال بنا إلى السماء أو ما فوقها، وترتفع آمالنا على أطراف العزائم الصادقة ويثبت أصلها في أعماق القلوب المؤتلفة، وإذا كان في الأرض شعب خليق أن تعجل له عزيمته وصدق إخلاصه لنفسه بالمطلب الجليل؛ فذلك هو الشعب المصري، ولكنا نخشى أن يكون ضلال بعض الآراء القديمة لم يزل ضاربا حجابه على بعض النفوس، بل نحن لا نخشى ذلك ولا نخاف أن يكون في مصر أمثال أولئك الذين كانوا يقولون: أين نحن من خصومنا، وأين قوتنا من قوتهم، وكيف السبيل إلى الحق الضائع ونحن ضعفاء؟
هذا سم كانت النفوس الميتة تعصره من خور العزيمة وسقوط الهمة ومرض القلب، والآن كل مصري يقول: أين نصيب الظالم من الثبات بجانب المظلوم؟ وأين قلق الغاصب من رزانة المغصوب منه؟ وأين برودة الغالب من نار المغلوب؟ بل أين ضجعة الباطل من صولة الحق؟ وقد يعجب من هذا الذين خدعتهم ظواهر الناس، ولكنهم سيطمئنون بالحقيقة إذا رجعوا إلى تاريخ العالم.
هل كانت أمة ضعيفة فبقيت على ضعفها أبد الدهر؟ وهل كانت أمة قوية فسالمتها الأيام ثم كتبت لها عهدا أن تبقى على قوتها؟ إن شمس السماء تحدث أهل الأرض بمن كانوا أهل قوة وبأس فضربهم الزمن حتى أفناهم، وإن الأرض لتخبر أنها حملت آخرين كانوا من الضعف في درجة العدم، ثم استحال ضعفهم قوة فعزوا بعد ذلتهم، وحيوا بعد موتهم؟ وكيف نفتري الكذب على الله فيجري في بعض الخواطر أن الله خلق الضعف لباسا لصنف من أصناف البشر وخلق القوة تاجا لصنف آخر. وهذا لسان التاريخ يخبرنا أن القوة والضعف صفتان تداولتهما البشرية، ولا تزال تتداولهما بين أبنائها.
إن قيل إن هناك ميزانا يعرف به نصيب كل شعب من قوة الحياة فإنا نقول: إننا شعب رجحت به كفة الميزان، أليست القوة أثرا تتركه المواهب الإنسانية، وثمرة تخرجها خصائص الوطن المعين؟ فمن ذا الذي يقول إن المصريين لم ينالوا من تلك المواهب نصيبهم الأوفر، وإن وطنهم لم ينفرد من تلك الخصائص بأجلها وأطيبها؟ إن كانت الثروة إحدى وسائل القوة الباطشة؛ فإن مصر أوفر بلاد الله ثروة ومالا، وإن كان الذكاء والأنفة والماضي الحافل بالمجد بعض هذه الوسائل، فالمصري الذي طوق عنق أوربا بفضل المعلم على التلميذ، والذي أقام صرح مجده القديم بين كواكب السماء، والذي أقسم ألا يقبل هضما، ولا يحمل ضيما، هذا المصري القوي خليق أن ينشر سلطانه بقوته، إذا قيل: أين الجديرون بالقوة القادرون في حكم العدل على بسطة السلطان.
لسنا نصف شيئا من صياغة الخيال، بل نحن نصف الواقع الذي خرج من يد أهله، ونصف الحق الذي يجب أن يكون ويطلب ويرده أصحابه إلى أنفسهم، فإذا أحد وصفنا بالضعف فقد أراد بنا سوءا، وإذا أحد أراد أن يقنعنا بأننا ضعفاء فقد أغرانا بالجمود، وإذا نحن سمعنا ذلك وصدقناه، أو وصفنا به أمتنا، فقد وضعنا بأيدينا أغلال الهوان في أعناقنا، وإنما ينبغي أن نكون أنصار الحقيقة فيما تقضي به لنا، والحقيقة تقضي أننا شعب اختصه الله بأسباب القوة، فلا ينقصنا إلا أن نعتقد أننا أقوياء بما لدينا من تلك الأسباب، وألا نعطل أسباب قوتنا أو نتركها يقوى بها غيرنا؛ وإنا إذن لترانا في قوة الأحياء العاملين المرهوبين، ما دمنا نطلب ما طلبه الضعفاء من قبلنا.
يجب أن نقول بل نعتقد أننا أهل قوة، لننظر في أنفسنا فنعالج ما ينقصنا من القوة، ويجب أن نثق كل الثقة بأن لنا قوة روحية لا تهبط عن مثلها في أعظم الشعوب حياة، هنالك تدفعنا هذه القوة الروحية في طريقها فإذن نحن أقوياء من كل وجه.
نامعلوم صفحہ