ألفت الحكومة أثناء سنوات الحرب لجانا كثيرة، منها ثلاث فرغت من عملها ووضعت تقاريرها وهي: لجنة التجارة والصناعة، ولجنة التعليم الأولي، ولجنة الشئون الصحية. وقد وصفت كل واحدة من هذه اللجان الثلاث النقص الذي رأته في عملها الخاص واتفقت كلها على أن النقص هائل عظيم، وأرجعت كلها سبب هذا النقص الهائل العظيم إلى فساد التعليم في البلاد، ولكن كل هذه اللجان لم تجد في نفسها قدرة على أن تصف للناس علة فساد التعليم وتشهدهم على سببه الصحيح، اللهم إلا لجنة التعليم الأولي فقد أشارت إلى جزء من العلة وشطر من السبب فقالت: «إن مجموع ما تنفقه الحكومة المصرية على التعليم 465753 جنيها في السنة، وهو يعادل 2 في المئة من مجموع الميزانية العمومية للمصروفات».
ثم قالت: «وإذا قوبلت نسبة صافي المصروفات هذه - وهي 2 في المئة - بمثلها في الممالك الأجنبية ظهر فرق مدهش جدا، لا من حيث ميزانيات الدول العظمى فقط، بل من حيث الممالك التي حالها المالية قريبة من حال القطر المصري؛ لأنه إذا أنفق على التعليم من ميزانية الحكومة المصرية بنسبة ما ينفق في رومانيا أو بلغاريا مثلا حيث تبلغ هذه النسبة 10 في المئة من مجموع الميزانية؛ لزم أن تزيد اعتمادات التعليم في مصر دفعة واحدة من 465753 جنيها إلى3350000».
وأبانت اللجنة في موضع آخر الوجوه التي ينفق فيها هذا القدر من المال ثم خلصت إلى نتيجة لا تؤدي إلى الفزع أكثر مما تنطق بالعار؛ إذ قالت: «إن ما تنفقه الحكومة في الحقيقة من إيراداتها الخاصة في كل سنة على تعليم الشعب نحو 19000 جنيه فقط».
هذا جزء من العلة وشطر من السبب، على أن لجنة التعليم الأولي لم تجد قدرة على الجهر بهذه الوصمة المسجلة إلا بعد أن أعذرت للحكومة بعذر فرغ الناس من إبطاله، فقد قالت في صدر تقريرها: «والحقيقة أن حال مصر المالية كانت إلى عهد قريب تمنع من إعداد وسائل التعليم على اختلاف فروعه ومن سد حاجة الأمة إليه سدا وافيا».
فهذه الحقيقة مقلوبة إلا أن يكون المقصود بالعهد القريب أول العهد بحكم محمد علي، فهل تقصد اللجنة ذلك؟
إن العلة الصحيحة والسبب الحق فيما نطق به لسان السياسة التي قعدت على صدر التعليم في مصر وما نطقت به ألسنة أعوانها، ولقد كانت هذه السياسة تقلب الحقائق البديهية ولا تتقي أن يسمع العالم أجمع ما تثني به على من يقلبون الحقائق، قال يعقوب أرتين باشا الذي لبث وكيلا لوزارة المعارف عمرا طويلا، والذي شرفه السادة الإنكليز بثقتهم في كتاب له يسمى «التعليم العام»: «إن وجود المجانية في المدارس الابتدائية في مصر أمر غير عادل ومخالف للذوق السليم، وهي في الواقع في غير محلها فضلا من أنها خطر على موظفي الوزارة».
إلى هذا الحد تبلغ الجرأة برجل صعد إلى أرفع المناصب في حكومة مصر على أكتاف الأمة، فيرى أن المجانية في المدارس المصرية الرسمية ليست من العدل ولا من موافقة الذوق السليم! بل إنها خطر! خطر داهم عظيم يفترس الموظفين كما يفعل الوحش بفريسته! ولم يكن رأي هذا الرجل العادل السليم الذوق المشفق على الموظفين من افتراس المجانية، رأيا من عند نفسه، أقنعته التجربة أو أقنعه العلم بصحته، ولكنه كان وحيا يهبط عليه فيصدع به أداء لأمانة التبليغ، فما كان أعظمه أمانة، وما كان أشقى مصر بأمانته!
قال اللورد كرومر في تقريره سنة 1900: «كانت نسبة المجانية في مدارس الحكومة سنة 1889 - أي قبل الاحتلال - 95 في المئة، أما السنة الماضية فكانت نسبة الذين يدفعون المصروفات المدرسية في المدارس الابتدائية الأميرية 98 ونصف في المئة، وفي المدارس الثانوية 96 في المئة، وأنا واثق أن هذه السياسة ستظل متبعة بثبات حتى تلغى طريقة التعليم المجاني إلغاء تاما أو تكون في حكم ذلك».
صدق اللورد كرومر وصدقت ثقته؛ فإن عينه لم تنم عن تحقيق العمل بالسياسة التي وثق أنها ستظل متبعة، حتى لقد وصف اغتباطه بنجاح هذه السياسة بعد زمن قصير، فقال في تقريره سنة 1904: «ومما يستحق الذكر أن تلميذا واحدا فقط يتعلم مجانا في المدارس الابتدائية».
نعم هذا عمل عظيم يستحق الذكر لأنا قضاء على الأمة بالجهل.
نامعلوم صفحہ