ليست سطور التاريخ هي التي شهدت وحدها بأن مصر كانت في أقدم أيامها شورية على أكمل مثال، بل شهدت الآثار الناطقة بذلك أيضا؛ فقد صح أن قصر «لابيرنت» الذي كان في إقليم الفيوم وكان مؤلفا من ثلاث آلاف غرفة لم يكن إلا الدار التي يجتمع فيها «مجلس الأعيان » للنظر في شئون البلاد كافة، ولما دخل الإسلام مصر دخل وفي يمينه علم الشورى فقضى أن تكون سبيل حكم الناس. وبقيت مصر إسلامية تقرأ كتابها الكريم وتعي أحكام شريعتها القويمة، ولم تنسخ آية الشورى من كتابها، ولا رفعت أحكامها من شريعتها، وإذا كانت الأديان تطبع النفوس على غرارها، وتستجد لها كيفيات وملكات لم تكن من قبل؛ وجب أن تقضي الضرورة أن الدين الإسلامي أكسب المصريين ملكة الحكم الذاتي وطبع نفوسهم عليها، هذا أهون الحكمين، أما الحكم العظيم الذي جاء به الإسلام فهو أمره لأهله أن يكونوا أولياء أنفسهم صونا لهم من عسف الغريب، وحرصا على ريحهم أن تذهب فيعيشوا أذلاء مقهورين.
يتصل عهد مصر اليوم بأول عهدها بالإسلام، فهي لا تزال إسلامية، وقبل ذلك كانت متصلة بعهد المجد العظيم أيام كانت سيدة العالم، ومفيضة الحياة على الأكوان، ومعلمة الشعوب أن الحكم الذاتي حق لكل شعب حين كان قصر «لابيرنت» مقر شوراها، والآن فعهدها بالحكم الذاتي في أمثلته الحديثة ليس بعيدا.
كان لمصر لعهد محمد علي «مجلس المشاورة الملكي» و«المجلس المخصوص» وهو بمثابة مجلس الوزراء، وكان لها «مجلس نواب» لعهدي إسماعيل وتوفيق، وكان لها «مجلس الشورى» و«الجمعية العمومية» حتى استعيض عنهما بالجمعية التشريعية، وكانت لها مجالس المديريات التي لم تزل باقية، وقد لقي مجلسا النواب ومجلس الشورى والجمعية العمومية من تصاريف السياسة ما لقيت، فإن الأولين قتلا في مهدهما، والأخيرين عاشا يجزيان على الإحسان بالإساءة وعلى الإساءة بالإحسان، كانت كل حجة تصدر منهما على أن الأمة خليقة بالحكم الذاتي الكامل تعد ذنبا يستحقان عليه عقوبة الطعن ونقصا يتخذ دليلا على عكس المطلوب.
1
هكذا وقفت السياسة للأمة هذا الموقف الغريب، وكان المنصفون يسخرون من هذا الموقف أكثر مما يعترضون عليه؛ لأنه كان موقف الرجل يقيم نفسه وليا على آخر فيضمر له ما شاء هواه ثم يعجز عن أن يستقيم على الصدق فيما يقول ويفعل.
لم يخلق الله أمة - منذ خلق الدنيا - لتعلم أمة أخرى كيف تحكم نفسها بنفسها، وما خرجت أمة قط من يد أمة أخرى وفي يدها إجازة هذا الحكم بعد أن تكون قد نالتها بالامتحان، ولكن الذي وجد وقامت عليه شواهد الحس والعلم والتاريخ أن الشعوب تخرج من أيدي غالبيها كما يخرج المريض من فراش المرض ولا تكون قد شفاها دواء من مرضها، بل تكون هي قد علمت الدواء وعلمت أنه محرم عليها فشرعت تطلبه لتستطب به.
إن الأمة التي يقال إنها عليلة تحتاج إلى المعالجة بيد أمة صحيحة ليست بين الأمم التي تعمر الأرض، تلك أمة ضربت في المجاهل مع الوحوش فلها فطرة وحشية، فحاجتها قبل كل شيء أن تستأنس وتراض على طبائع الإنسان، ومثل هذه الأمة لا حيلة في أن تتسلط عليها أمة أخرى، لا حيلة في ذلك ولا واقي لها من أن تبلغ بها غاية المتسلط القاهر وهي الإدماج والتسخير.
يقول المستر لويد جورج: «إنه لا يمكن قط أن تقوم حكومة حسنة مقام حكومة أهلية».
هذا القول حسن، معناه أنه لا بد أن تكون الحكومة التي تقوم مقام الحكومة الأهلية حكومة غير حسنة أي قبيحة.
فهل من إنصاف الحق أن يكون العمل بهذه القضية في مكان دون مكان؟ تلك إحدى عجائبهم!
نامعلوم صفحہ