أما المدارس العالية، فالحمد لله، لا تستطيع السياسة الإنكليزية أن تدعي أنها أنشأت منها واحدة في عهد الاحتلال، فكلها قبله. على أنها تستطيع أن تقول إنها ألغت بعضها، وإنها جاهدت لتقضي على «جامعة الأمة»، ولا ندري فلعل ذلك كان في سبيل التعليم أيضا!!
إلى هنا يسهل على القارئ أن يعرف العهد الأول والعهد الثالث من ثلاثة العهود التي مضت منذ تم الأمر في مصر لمحمد علي، ومتى عرفهما بما وصفنا سهل عليه أن يفاضل بينهما ليرى أيهما يفضل الآخر، وسهل عليه بعد ذلك أن يبصر بعينه ويلمس بيده حقيقة هائلة تنطوي في أحرف هذا السؤال: هل كنا نكون في مثل حالنا الحاضرة إذا دامت بنا الحياة على نحو ما كان لعهد محمد علي وعباس الأول وسعيد وإبراهيم وإسماعيل؟ وبعبارة أخرى: هل تقدمنا أو تأخرنا؟
يجري قلم السياسة في كتابة التاريخ أحيانا، ولكن للسياسة قلما غير القلم الذي يكتب الحقائق الصريحة ويمحص مسائل التاريخ فمثل القلم الذي حملته يد اللورد كرومر حين وضع كتابه «مصر الحديثة» لا يكون مقبول الشهادة أمام العدل التاريخي؛ لأنه مغموس في مداد السياسة، وقد لا يجد الكاتب السياسي غضاضة إذا حمل هذا القلم وهاجم به الحقائق، بل قد لا يجد عيبا في ذلك وإن حمله بيد ترعشها الشيخوخة كيد اللورد كرومر يوم أملت عليه أضغانه السياسية ذلك الكتاب.
وليس كثيرا في لغة السياسة أن يقعد الرجل إلى مسألة يبحثها وهو يعرف الحق في أمرها، ولا عجيبا في أخلاق السياسة أن يجلس صاحبها جلسة ربما كانت طويلة، ليستخرج العلل والأسباب كما يهوى لا كما تهوى الحقيقة.
هكذا كان اللورد كرومر في كتابه، فقد جلس يبحث أسباب احتلال الإنكليز مصر، وجعل يحاول إقناع الناس بأن الاحتلال كان خطبا جسيما على إنكلترا تحملته بشمم وشرف وإباء، لا لشيء إلا أن تنقذ مصر وتسعدها! فكانت في ذلك كالأب الرحيم، يتعب ليريح أبناءه.
ولم يقنع الرجل بهذا التضليل فجعل مسألة الاحتلال تبعة كانت محل النظر بين المحافظين والأحرار، وكان كل فريق يلقيها على الآخر ويترفع عن أن تنسب إليه، ثم وقف موقف الحكم بين الخصمين فقال في الفصل التاسع من كتابه: «وسيظهر من الفصول القادمة من هذا الكتاب أن جل التبعة في وقوع الاحتلال راجع إلى ما فعلت حكومة المستر غلادستون لا إلى تدابير الحكومة التي رأسها اللورد سلاسبوري قبله».
ولا ريب أن من يلمون أقل إلمام بتوفق السياسة الإنكليزية أمام المسألة المصرية في كل أطوارها، يعلمون كيف يقع التناقض بين زعم الشعور بالتبعة ومحاولة الفرار منها، وبين النيات التي استكنت في صدر السياسة الإنكليزية حتى ظهرت يوم بدأت إنكلترا وفرنسا تتحرشان بالخديو إسماعيل.
غير أن شر التناقض ما قصد به إخفاء الحقائق بتشويه سمعة الرجال تنفيرا من النظر في سيرتهم؛ حتى لا يظهر فضل أيامهم على أيام سواهم، وهذا الذي يجب الالتفات إليه خاصة، فقد جهد اللورد كرومر كما جهد غيره في النيل من عباس باشا الأول وسعيد وإسماعيل، فألقى عليهم صورة الوحوش، ومن ذا الذي يظن أن للوحش عقلا حتى ينتظر أن يرى له مأثرة في الإصلاح؟ ولكن الحق لا يخفى، وقد قلنا قبل إن السياسة لا تستطيع أن تمحو الحقائق من الصدور، إذا استطاعت أن تمحوها من السطور، وهذه أمثلة من تناقض الحق والسياسة.
قال اللورد كرومر في عباس باشا الأول: «أما عباس فكان عاتيا شرقيا من أردأ الأنواع، تروى حكايات لا تعد عن قسوته التي تنفر منها النفوس ولم يكن له مع هذه السيئات حسنة مثل أسلافه، بل إن صفاته كانت قبيحة من جميع الوجوه».
ويقول التاريخ الصحيح إن من أعمال عباس باشا الأول على قصر عهده أنه «أرسل بعوثا علمية إلى أوربا عدد طلبتها 48 طالبا أنفق عليهم 82933 جنيه»، فلعل اللورد كرومر يعد هذا العمل إحدى سيئاته التي لم يكن له معها حسنة واحدة!! ولعله لم ينس حين كتب ما كتب أن عهده في مصر كان عهد قضاء على البعوث العلمية!.
نامعلوم صفحہ