280

مصر في مطلع القرن التاسع عشر

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

اصناف

على أنه إلى جانب هذه التهديدات، تضمنت هذه الرسالة ما يبعث على الأمل، في استجابة الباب العالي لمطالب الباشا، عندما لوحت بأنه إذا اهتم محمد علي بمسألة الحرمين الشريفين، ووصلت القسطنطينية الأنباء بأن طوسون باشا قد بلغ ينبع، وافق السلطان على ما يريده محمد علي، من حيث العفو عن يوسف كنج، ورفع الباشوية المصرية إلى مرتبة الوجاقات؛ أي إعطاء الحكم الوراثي لمحمد علي.

فلم يعد هناك معدى حينئذ - لكل هذه الاعتبارات التي ذكرناها - عن أن يحزم الباشا أمره على إنفاذ جيشه إلى الحجاز دون إبطاء آخر، ولقد كان لهذا القرار الذي اتخذه محمد علي، إثر ورود هذا الكتاب إليه، نتيجة أخرى هامة، هي أنه نبتت من هذا الحين فكرة الإجهاز على البكوات المماليك بأية وسيلة، إذا تيقن لديه استحالة الاتفاق معهم، والاطمئنان إليهم.

وفي الشهور الثلاثة التالية سارت الأمور سيرا حثيثا، لتصفية المسائل المعلقة بين محمد علي والباب العالي، فقد استمر يستحثه وكلاؤه في القسطنطينية على إخراج جيشه إلى بلاد العرب، وأجاب الباب العالي مطالبه رويدا رويدا، وإن كان ظل متمسكا ببقاء سليمان باشا في إيالة الشام، ولكن خطر سليمان، كانت قد زالت حدته عندئذ، بسبب إقدام الباشا على الفتك بأدواته البكوات المماليك في مذبحة القلعة.

فقد كتب إليه محمد نجيب في 9 يناير 1811 يسرد المساعي التي قام بها، وما قدمه من حجج وبراهين في مناقشاته مع رجال الخاصة السلطانية، ومع سائر كبار الدولة، لتأييد مطالب الباشا، بصدد مسألة الشام والمسائل الأخرى، ويؤكد أنه لم يقصر في تنفيذ تعليمات الباشا في شأن هذه المسائل جميعها. «ولكن حيث إن خروج الجيش لإنقاذ الحرمين الشريفين قد تأخر، فقد اغتنم خصوم محمد علي هذه الفرصة وراحوا يقولون للسلطان: هل رأيتم يا مولانا كيف أن ربيب نعمتكم محمد علي باشا لا يقصد الذهاب إلى الحرمين، بل مراده تنظيم شئونه بالصورة التي تعود بالنفع على مصلحته الذاتية فحسب، لقد كان في وقت ما يتخذ من مسألة المماليك ذريعة لعدم الذهاب إلى الحجاز، واستمر على ذلك ردحا من الزمن، ولكنه الآن قد بدأ يجد من مسألتي الشام (وإبعاد سليمان باشا عن ولايتها)، ويوسف باشا كنج (واستصدار العفو عنه، وإرجاعه إلى حكومة دمشق) ذريعة جديدة، ولن يفيد شيء في حمله على الخروج إلى الحجاز، حتى ولو أنهيت هاتان المسألتان في صالحه.» وقد اعتذر محمد نجيب عن تكرار القول في هذا الموضوع الذي سبق أن ذكره للباشا، ولكن الذي اضطره لتسطير ذلك، هو شدة حزنه وألمه لما بلغت به الحال في القسطنطينية، وراح يحلف الأيمان لمحمد علي «أن كل مسألة من مسائل الباشا سوف يجري إنجازها بما يفوق كثيرا ما ينتظره محمد علي، ولكن ذلك كله متوقف على الدافع القوي الذي ييسر إنجازها: قيام طوسون باشا في أقرب وقت ووصوله إلى ينبع.» وقد اختتم محمد نجيب هذه الرسالة بقوله: «وعليه، فإني أستحلفكم يا سيدي بالله وبجاه رسوله الكريم أن تأذنوا بإنجاز مطلوبنا هذا؛ أي إنفاذ الجيش إلى الحجاز، وعندئذ لكم أن تطلبوا ما تشاءون، وإذا اتضح لكم أن مطالبكم هذه لا تجاب، فلكم أن تفعلوا حينئذ ما تريدونه.»

وأما محمد علي فقد راح من ناحيته يدفع عن نفسه اتهامه بأنه ما يريد عزل سليمان باشا عن ولاية الشام إلا لأغراض نفسانية، فلا سليمان الباشا بالرجل الذي نال من رفعة الشأن أو تحلى بالصفات النبيلة، التي تبعث على الحسد منه، ولا محمد علي بالرجل الذي لم يحظ تحت رعاية السلطان، بالنعم الجليلة واللفتات السامية، والتوجهات السنية مما لم يسبق أن حظي أحد غيره بمثلها، حتى ينفس على سليمان باشا مركزه ومنصبه. ثم بسط محمد علي السبب الذي يدعوه لطلب عزله، وهو لا يخرج عما سبق ذكره: اتصال سليمان باشا بالبكوات المماليك، واقتناع محمد علي بأنه مصمم على الكيد له وإثارة الفتنة عليه بمجرد خروجه إلى الحجاز.

وكان في رسالته التي ضمنها دفاعه هذا، وبعث بها إلى محمد نجيب في 16 يناير 1811، أن ذكر محمد علي مرة أخرى، أنه لن يستطيع مغادرة مصر، ومرافقة الحملة الموجهة إلى الحجاز، ما دام سليمان باشا في ولاية الشام، وبخاصة بعد أن بعث سليمان «يقول لبقايا المماليك من الأشقياء القليلين الذين طردوا وأجلوا إلى بلاد السودان: لا تأسفوا فإني سوف أريحكم قريبا إن شاء الله.» ثم أخذ الباشا يقول: «فإن كان المطلوب إنجاز المصلحة الحجازية على الوجه التام وكما ينبغي، فلتبذل الهمة لذهابي، بصرف العناية إلى صرف المشار إليه سليمان باشا عن إيالة الشام، وأما إذا كان لا ضرورة لسفري - ولا أدري إذا كان من الممكن أن يتم الأمر على يد العسكر المهيئين للذهاب والذين سوف أرسلهم بطريق البحر، أم يتعذر إنقاذ الحرمين الشريفين من غير ذهابي - فلا يجب أن يعزى إلينا أي تقصير إذا فشلت الحملة؛ فقد جاء في الأمثال: «ألف عامل ورئيس واحد»، وعند العلم يتوقف ذهابي على دفع المشار إليه عن إيالة الشام، كما أفدت مرارا حسبة لله.»

وفي كتاب آخر، في 26 يناير 1811، دافع محمد علي عن تهمة المماطلة والتسويف التي أسندت إليه، وكون أن هناك جماعة لدى الباب العالي - كما أبلغه وكلاؤه - تزعم «أن والي مصر لا يقوم بمهمة الحرمين الشريفين، آية ذلك ما أبداه قديما، ولا يزال يبديه من حجج يعتل بها، متعلقة بمسألة البكوات المماليك، إلى غير ذلك من الدعاوى والأعذار الأخرى، والتي لا يمكن أن يكون مقصده منها إلا ترك الوقت يمضي دون أن يفعل شيئا، فقال إن العمل جار بهمة لإعداد السفن اللازمة لنقل الجند من السويس، وإنه قد أبحر عدد من السفن إلى جهات مواني جدة وينبع واليمن لجلب سفن (الداو أو الضاو ) منها إلى القصير، وإنه يعتزم الذهاب بنفسه إلى السويس للإشراف على الاستعدادات النهائية، حتى إذا أكملت أنفذ ابنه طوسون باشا دون أي إمهال على رأس الجند المرسلين بحرا إلى أرض الحجاز، وفضلا عن ذلك، فهناك ما ينهض دليلا على أنه لم يكن القصد مما ذكره سابقا وأشار به على الباب العالي، التسويف والمماطلة، فقد ذكر الشريف غالب نفسه أن مأمورية إنقاذ الحرمين مأمورية جسيمة، لا تتم بمجرد الحركة من مصر وحدها فحسب، بل يقتضي لإنجازها، بل ويلزم لنجاحها، الحركة والزحف من الجهات الثلاث: مصر والشام والعراق، باتفاق مع حاكمي دمشق وبغداد، فلو كان غرض محمد علي عدم القيام بالحملة، وإضاعة الوقت وتفويت الفرصة، لتعلل بأعذار أخرى، غير مسألة المماليك، أجدر بالاعتبار، كأن يقول مثلا: إن واليي بغداد والشام، كليهما أقدم منه في منصب الوزارة وأغنى، فمتى تحركا تحرك هو في أثرهما، ومع أن هذه الدعوى - إذا ذكرت - تتفق مع ما يذكره ويشير به الشريف غالب، فقد امتنع محمد علي عن سلوك هذا الطريق، بل تهيأ للخروج إلى الحجاز دون طلب أية مساعدة مالية، ولا انتظار لإعانة أو لنجدة من ناحيتي الشام وبغداد، وتعهد بالقيام بهذه الخدمة الجليلة وحده، وتكفل بها عن رغبة صادقة منه في خدمة دينه ودولته لوجه الله تعالي.»

ولكنه قبل وصول هذا الكتاب الأخير إلى الآستانة، كانت جهود وكلائه بها قد أثمرت ثمرتها، وكان مما ساعد على ذلك، أن محمد علي قصر جهوده الآن على إلغاء حكم الإعدام الذي صدر في حق يوسف كنج، والتماس تعيينه في منصب آخر مناسب إذا تعذر إرجاعه إلى ولاية الشام.

وكان نزول محمد علي عن إصراره السابق على إعادة إيالة الشام إلى يوسف كنج خطوة موفقة، من حيث تذليل بعض الصعوبات القائمة، لتمسك الباب العالي ببقاء سليمان باشا في حكومة دمشق، ولكن هذه الخطوة كانت تدل من ناحية أخرى على أن محمد علي، منذ شهر يناير 1811، قد بيت النية على التخلص نهائيا من المماليك؛ أي تجريد سليمان - وقد اتضح تعذر نزع ولاية الشام منه - من ذلك السلاح الذي خشي محمد علي دائما أن يطعنه به في ظهره إذا خرجت جيوشه أو القسم الأكبر منها في حملة الحجاز.

وقد ظهرت آثار هذه الخطوة فيما كتبه إليه أحد رجاله بالقسطنطينية - أحمد شاكر - في 27 يناير 1811، يبلغه أن الباب العالي قد أصدر أمرا إلى حسن بك متصرف رودس بإرسال الصواري وغير ذلك من الأدوات اللازمة للسفن، والتي كتب الباشا يطلبها من القسطنطينية، كما تفضل الباب العالي بإجابة ملتمس محمد علي الخاص بترقية أحد خدامه - حسن كاشف القبرصي - فأنعم عليه برتبة رئيس البوابين (قبوجي باشبلق)، ويعلمه بوصول جواب الشريف غالب، ردا على مكاتبة محمد علي له، إلى الآستانة، ثم وصول التماس العفو عن حكم الإعدام الذي صدر على يوسف كنج باشا، وإعطاء هذا الأخير منصبا مناسبا. ثم يستطرد أحمد شاكر فيقول: «ولقد كانت الهمة تبذلونها مبعث سرور شامل، ثم إنه (عدا ما سبق ذكره) قد تفضل الباب العالي فأصدر العفو عن جرائم يوسف باشا وإلغاء الأمر الذي كان قد صدر بإعدامه على شريطة أن يظل يوسف باشا مقيما بمصر بعد رفع رتبة الوزارة عنه، بحسن توجهات الذات الشاهانية المبذولة نحو دولتكم، وبخاصة لأن صون نفوذكم واقتداركم في مهمة الحجاز التي عهد بها إليكم، هو ما يريده الباب العالي.» وفضلا عن ذلك، فقد وعد الباب العالي بإعطاء ولاية جدة إلى يوسف كنج مع إبقاء وزارته بمجرد انتهاء محمد علي من تأدية المهمة التي كلف بها، ونجحت جيوشه في إنقاذ الحرمين الشريفين؛ حيث إن الباب العالي يرى من غير المناسب إسناد منصب ليوسف كنج الآن.

نامعلوم صفحہ