مصر في مطلع القرن التاسع عشر
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
اصناف
لقد جرى ما جرى، ولنضرب الآن صفحا عنه، ولكن الباشا بالرغم من تعهده في عريضته للباب العالي هذه المرة في أثناء توجهه لمحاربة البكوات، وهي العريضة التي قال فيها: إنه سينهي مسألة البكوات في ظل الدولة، وإنه لن ينقض عهده أيضا فيما يتعلق بالمسألة الحجازية حتى إنه ترك كاتب ديوانه في مصر (القاهرة)، لإنجاز الاستعدادات اللازمة، حتى إذا عاد من محاربة المماليك خرج فورا بجيشه إلى جهات الحجاز، ودون أن يجعل هذا الجيش يدخل القاهرة، بالرغم من هذا كله، صرف الباشا نظره عن وعده، كأنه لم يكسب شيئا من هذا القبيل، وكأنما لا علم له بشيء من ذلك جميعه، ثم راح يعلق حركته وتوجهه إلى الحجاز على عزل والي الشام سليمان باشا.
فيا عزيزي نجيب أفندي، بماذا يضره والي الشام؟ أيجوز أن نتحاشى وزيرا شجاعا جبارا كسليمان باشا بسبب أمور طفيفة كهذه؟ لقد أرسل حضرة سليمان باشا في العام الماضي، وفي وقت حاجتنا وضيقنا مؤنا تزيد على المائة والخمسين ألف كيلة من الحبوب، عدا ما أرسله من نقود تزيد على الألفين والخمسمائة كيس، وعلاوة على ذلك، فإنه منذ أن نصب واليا لصيدا، حرص أعظم الحرص على عدم التذرع بشتى الأعذار والدعاوى للتخلص من الطلبات التي طلبت منه، وعلى عدم تأخير مصالح اليوم إلى الغد، كما حرص على الظفر بالرضى الشاهاني، وهو يستعد الآن لإنجاز ما يلزمه للتوجه إلى الأقطار الحجازية حسب تعهده.
ولكن حضرة الباشا محمد علي اعتذر دائما عن إجابة شيء مما طلب منه، وقبلت الدولة اعتذاره عن تأخره في هذه المسألة الخيرية (الحجازية)، ورضيت بإرساله الستين ألف كيلة من الحنطة، والخمسمائة كيس من النقود، وهذا مع العلم بأنه من المشكوك فيه أنه سوف يرسل حتى ذلك، وأما الوزراء العظام وسائر الأمراء الكرام، فقد بادروا بتقديم إعانة الجهاد، مرة ومرتين وثلاث مرات ... (وهم كذلك) رغم حاجتهم للمساعدة من الدولة، بسبب حروبهم المستمرة ضد الأعداء ، منذ ثلاث سنوات، قد باعوا فراءهم وسروجهم، واستدانوا مبالغ طائلة من المال، وبعثوا بذلك كله للدولة ...
لقد كنا طلبنا من حضرة الباشا محمد علي إرسال خمسمائة كيس نقدا، ليس في لغة الآمر، ولكن في رجاء المتسول وضراعته، وعلى أن ينال في نظير ذلك حصة من إيرادات أية جهات أو أقاليم يريدها؛ أي إننا لم نطلب شيئا من غير مقابل، فحصلنا منه على أعذار منوعة، ثم طلبنا مقدارا من المال يتبرع به الأهالي، كل فرد حسب قدرته، بدلا من هذه الأكياس، ولكنه لم يفعل، بل إنه لم يقرأ على الأهالي الفرمان الذي وصله ...
ونحن ما أوضحنا حاجتنا، والتمسنا المساعدة من حضرة الباشا، إلا لاعتقادنا بأنه وزير الدولة الصادق، ومع هذا فلو أننا أعطينا هذا الفرمان إلى أي فرد من أهل مصر، مهما بلغت ضآلة شأنه، وقلنا له خذ هذا الفرمان واذهب إلى مصر، واجمع من أهل الإسلام ومن محسوبي الدولة العلية، ما تستطيع أن تجمعه من الفضة أو النقود، من غير أن يعلم بذلك حضرة والي مصر، ثم ابعث إلينا بما تجمعه، لكان ميسورا أن تصلنا مئات الأكياس من النقود.
فيا صديقي نجيب أفندي، لنفرض جدلا أن إقليم مصر ليس للدولة العلية، وإنما تملكه دولة أخرى، فهل إذا اعتزمنا إرسال شخص بكتاب إلى مصر، وطلبنا قدرا من المال لإعانتنا في وقت الضيق، أكان يفشل في مهمته؟ كلا؛ لأن مصر وقتئذ سوف تهب لمساعدتنا ... وهكذا لدينا أشياء كثيرة أخرى للكلام فيها، ولكن ما الفائدة من ذكرها؟
وفضلا عن ذلك، فإن حضرة الباشا محمد علي إذا اهتم بمسألة الحرمين الشريفين وسعى لإدخال السرور على نفس مولانا السلطان فإنه يكون كمن قدم للدولة كل ما ذكرته، وعلى ذلك ، فسوف نقبل جميع مطالبه، ويكون مقربا ومرضيا عنه أكثر من سائر الوزراء، وموضع لفتات وإنعامات الذات الشاهانية التي لا نهاية لها، والتي يعجز اللسان عن بيانها، وسوف ترون ذلك بأعينكم حين وقوعها.
ذلك كان حديث رجل الدولة العظيم مع قبو كتخدا الباشا، وقد أكد محمد نجيب على الباشا أن واجب المصلحة، ومقتضى الوقت والحال يدعوه إلى المبادرة بإنفاذ جيشه إلى الحجاز، حتى يبلغ القسطنطينية بسرعة نبأ وصول طوسون باشا ودخوله إلى ينبع.
ووجه الأهمية في هذه الرسالة، عدا بيان وجهة نظر الباب العالي في مسألة البكوات المماليك، مما سوف نتكلم عنه في موضعه، أنها كانت تتضمن تهديد الباشا بعبارات لا يمكن أن تخفى دلالتها على أحد، بالتدخل - تحت ستار استنفار المسلمين للجهاد ضد الوهابيين - في شئون باشويته فورا؛ أي تفويض أركان تلك الباشوية التي يبذل محمد علي قصارى جهده لدعمها من عدة سنوات، مما يتعذر عليه دفعه أمام سلاح الدين الذي يشهره الباب العالي في وجهه، وكان الباب العالي قد وجه فرمانا في أواخر يونيو وأوائل الشهر التالي من نفس هذا العام (1810) إلى محمد علي باشا، وقاضي مصر والقضاة ورؤساء الجند، والأعيان ومن إليهم، يطلب فيه التبرعات للجهاد، وقد جاء في هذا الفرمان أن السلطان كان قد عرفهم في فرمان سابق أغراض الروس الصحيحة الذين احتلوا «شوملة» و«وارنة»، وشرعوا يزحفون على القسطنطينية، ولما كانوا قد هددوا بحرق أبواب العاصمة إذا لم تجب مطالبهم، فقد انعقدت جمعية عامة في جامع السلطان محمد للتشاور في الأمر، وبناء على قرارها أعلن السلطان الجهاد، وتجنيد كافة المسلمين، وحيث إن الدولة في أزمة مالية، فقد وجب على كل مسلم التبرع، بقدر حميته الدينية، للخزينة العامة، معاونة منه في هذا الجهاد، بمقتضى الفتوى التي صدرت في هذا الموضوع، والتي بعث منها السلطان صورة طي فرمانه هذا، وقد أمر السلطان أن يحصل التبرع في مصر، لا سيما من جانب أغنياء القوم بها، ولكن هذا الفرمان «لم يقرأ، ولم ينفذ» في مصر، كما شكا الآن الباب العالي ، وقد يعمد هذا إلى إرسال أحد مندوبيه لجمع التبرعات سرا فيحرك الباب العالي الفتنة ضد محمد علي تحت ستار الدعوة للجهاد.
أضف إلى هذا، أن الثناء على سليمان باشا لبذله قصارى جهده في معاونة الدولة، ووصفه بالبسالة والإقدام، والتفاني في خدمة الدولة، كان ينطوي على التهديد من طرف خفي بإمكان إسناد باشوية مصر إلى سليمان باشا، وقد يستطيع هذا بالاتفاق مع الباب العالي، انتهاز الفرصة السانحة لتدبير إخراج محمد علي من مصر، كما فعل مع يوسف كنج باشا، الذي يسعى محمد علي الآن في إرجاعه إلى ولايته المغتصبة منه، ولا سبيل إلى نكران هذا الخطر؛ لأن سليمان باشا كان في وسعه الاتحاد مع البكوات المماليك، الذين برغم هزائمهم الأخيرة، كانوا لا يزالون يسعون للذهاب إلى سليمان باشا الكرجي والانضمام إليه.
نامعلوم صفحہ