ووقف سقراط أمام قضاته والحاضرين قال: يقول متهمي: إني خطيب بارع، فخذوا حذركم مني، إن كانوا يعنون ببراعة الخطاب قول الحق فأنا حقيقة خطيب بارع، ولا يليق بي وقد بلغت من السن السبعين أن أختلق، أو أن أموه، أو أن أكذب كما لو كنت حدثا طائشا، لقد قالوا عني: إني رجل يجيل الفكر في العلويات وفي السفليات، وإني أزين للناس الباطل عامدا، وأسوأ ما في هذا الاتهام أنه قد يحمل الناشئين على سوء الظن بالباحثين عن الحقيقة، فيتصورونهم جاحدين، والواقع أنني لا أخوض في تلك العلويات وتلك السفليات، وليس هذا لأنني أحتقرها، ولكن لأنني لا أخوض فيما ليس لي به علم، ولقد حاولت أن أتبين من هم متهمي، فلم أستدل عليهم، وحاولت أن أستدل على من أضللت فلم أهتد إلى واحد منهم، وأنا أتقاضى على تعليمي أجرا، وشاهدي على صحة قولي فقري.
وقد تقولون: إذا كنت لا تختلف عن سائر الناس فما الذي أدى إلى وقوفك اليوم موقفك هذا؟ سؤال في محله، وإليكم جوابي: لقد اشتهرت بالحكمة، بل وقد شهد بأني أحكم الناس من استخار الآلهة في دلفي، وأخذت بناء على هذا أفتش عمن هو أحكم مني، فتشت عنهم بين رجال السياسة، وبين أصحاب الصناعة، أي عند جميع الذين اشتهروا بها وبحذقهم صناعاتهم، فكرهني الناس؛ لأني كشفت عن حقيقة باطنهم، وقد تقولون: ألا تستحي من كونك حييت حياة انتهت بك إلى موقف سينتهي إلى الموت؟ وأنا أقول: إن المهم هو ما وقف من أجله الإنسان هذا الموقف، وليس المهم هو أن تكون خاتمته الموت ... والوقع أيضا أنه ليس من المحقق أن الموت هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان، وليس من المحقق أنه خير ما يصيبه، والأكيد أن أسوأ ما يصيب الإنسان الجهل الذي يحمله على أن يتوهم أنه يعلم ما لا يعلم.
وقد تطلقون سراحي مشترطين على أن أكف عما أنا فيه، ولكني أرفض ذلك، وليس هذا لأني لا أحبكم أو لا أتمنى خيركم، ولكنني أطيع الله ولا أطيعكم، فما دمت حيا فإني أبقى محبا للحكمة، أبقى حاثا صباح مساء الصغير والكبير على عدم الاهتمام بالمال أو بالجسد؛ لأن المال لا يثمر الفضيلة، بل إن الفضيلة تؤتي جميع الخيرات.
إني أعرف أني سأموت أو أنفى أو أحرم من حقوق المواطنين، ولكني لا أعد هذه شرورا عظيمة، إن متهمي لن يسيئوا إلي بقدر ما سيسيئون إلى أنفسهم بقتلهم رجلا ظلما، وأنا لا أدافع إذن عن نفسي بقدر ما أنا أدافع عنكم، وما أنا إلا كدابة الأرض توقظ النائم والغافل - رسالة إلهية - أهملت في سبيل القيام بها أمري وأمر ذوي.
وقضت أغلبية غير كبيرة إدانته، وطلب إليه أن يقترح لنفسه عقوبة غير الموت، وألح عليه أصحابه أن يفعل ذلك، فاقترح أن يحكم عليه بغرامة مالية صغيرة - وكأنه كان في مجلس الحاكم لا مجلس المحكوم عليه - أو كأنه تعمد ألا يجد القضاة مناصا من الحكم بالإعدام، قال: إن الغرامة المالية لا يستطيع دفعها لفقره، وقال: إنه يكره الحبس ويكره الإبعاد عن وطنه أثينا، فالموت أفضل.
وختم كلامه: والآن قد حانت ساعة الفراق، أنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة، وأي النهايتين أفضل، علم هذا عند الله وحده.
الرواقيون وسيادة العقل
يقرر مؤرخو الحكمة من العرب أن حكماء اليونان سبع فرق، سميت بأسماء اشتقت لها من سبعة أشياء؛ أحدها: من اسم الرجل المعلم للحكمة، والثاني: من البلد الذي فيه مبدأ ذلك العلم، والثالث: من اسم الموضع الذي كان يعلم فيه، والرابع: من التدبير الذي كان يتدبر به، والخامس: من الآراء التي كان يراها في علم الفلسفة، والسادس: من الآراء التي كان يراها في الغرض الذي كان يقصد إليه في تعلم الفلسفة، والسابع: من الأفعال التي كانت تظهر عليه في تعليم الفلسفة. والفرقة المسماة من اسم الموضع الذي اتخذه مؤسسها الحكيم زينون للتعليم هي فرقة أصحاب المظلة أو الرواق، سموا بذلك؛ لأن تعليمهم كان في رواق هيكل بمدينة أثينا - فهم الرواقيون - وفي عداد الرواقيين رجال نعتبرهم ممن غيروا التاريخ، طبع كل واحد منهم الرواقية بطابع خاص، وكانت الرواقية أكبر بناء فكري روحي عرفه العالم اليوناني الروماني الشرقي ابتداء من فتوح الإسكندر، إلى ما بعد انتشار المسيحية في ذلك العالم، وامتلاكها ألباب أمة قاطبة، بل وبقي الوصف رواقي في اللغات الأوربية دالا حتى الآن على طراز من السلوك الجدير بالإعجاب، سلوك الرجل لا يجزع ولا يهاب.
والرواقية كانت فلسفة خلت من الخوارق، ولكنها بعثت في قلوب معتنقيها ما يبعثه الدين في معتنقيه من تعلق وإيمان، وهذا ما حملنا على أن نعتبر قادتها رجالا غيروا التاريخ - فالأديان وما في حكمها من مذاهب الفكر هي التي غيرت التاريخ حقا - وما سواها فأثره قد يكون جليلا في وقته، ولكنه محدود بزمان وبمكان معينين.
ومذاهب الفكر منها ما يصلح لأزمنة الضراء ومنها ما يصلح لأزمنة النعماء، وأعظم المذاهب ما صلح للضراء والنعماء معا، أعظمها ما يدرع الإنسان لاحتمال الملمات، ولكنه يقيه في الوقت نفسه ما قد يجلبه الرخاء من بطر النعمة، أو من شره أو من أثرة، وكانت الرواقية كذلك، وأهم من هذا أنها نسبت الإنسان لا لمدينة بعينها، ولكن للعالم، بل للكون، ولا عجب فقد قام المذهب الرواقي في طور جديد من أطوار التاريخ، طور الفتح الإسكندري، وزوال المدينة العتيقة، وارتقاء العلوم الطبيعية.
نامعلوم صفحہ