1 - نظرات في التاريخ العربي
2 - رجال غيروا وجه التاريخ
1 - نظرات في التاريخ العربي
2 - رجال غيروا وجه التاريخ
من زاوية القاهرة
من زاوية القاهرة
تأليف
محمد شفيق غربال
الفصل الأول
نظرات في التاريخ العربي
ذكر الكندي، صاحب كتاب فضائل مصر أن أميرا من أمرائها قال يوما، وهو بالميدان الذي يلي الفسطاط: أتتأملون الذي أرى؟
قالوا: وما الذي يرى الأمير؟
قال: أرى ميدان رهان، وجنان نخل، وبستان شجر، ومنازل، وذروة جبل، ونهرا عجاجا، وأرض زرع، ومرعى ماشية، ومرتع خيل، وصائد بحر، وقانص وحش، وملاح سفينة، وحادي إبل، ومغارة رمل، سهلا وجبلا في أقل من ميل في ميل.
في هذه الرقعة صورة مصر، وفي هذا المركز - الفسطاط القاهرة - قلب مصر، ومصر تتوسط العالم العربي، ومن زاوية القاهرة نطلع فنرى حلقاته وأدواره متناسبة متوازنة، كل حلقة في مكانها، وكل دور في موضعه، لا يطغى شيء على شيء، الضوء موزع التوزيع العادل، والظلال كذلك.
وكانت مصر المركز لأسباب، منها: توسطها الجغرافي الظاهر، ومنها: أنها المرآة الصادقة لظاهرة عربية عامة، ظاهرة التركيب العجيب للأصل والوافد من عناصر الحضارة العربية «وهذه ظاهرة سيزداد تفصيلها فيما يلي بعد قليل»، ومنها ثالثا: أن مصر وحدها، مصر دون سائر الأقطار العربية اتصلت أدوار تاريخها في نسق محكم مسبوك.
أما والأمر كذلك فلنا أن ننظر من زاوية القاهرة، وهذا دون افتئات ودون تجن.
فإذا ما فعلنا ذلك فماذا ينطبع في الذهن بعد نظرة شاملة نافذة فاحصة ...؟ تنطبع حقيقة يمكن التعبير عنها بالقول:
إن تاريخ الأمة العربية هو ملتقى تواريخ الأمم، هو من تلك التواريخ بمثابة النهر الكبير تصب فيه الجداول، وتلتقي في مائه أمواه الفروع. ألا ترى أصحاب الكتب العربية التاريخية العامة يبدءون بشتى الأمم والشعوب، ثم يسيرون بها رويدا رويدا إلى أن يبلغوا زمن الرسالة وقيام الدولة العربية، وحينئذ يسلكون تواريخ الأمم في تاريخ الأمة العربية.
ولنتأمل قليلا تركيب تلك الدولة العربية، وتركيب تاريخها. في هذا التاريخ يندمج كل ما يتعلق بالجزيرة العربية قبل الإسلام، بقبائلها وممالكها وأيامها وأحوالها وآدابها، هذه جزء لا يتجزأ من تاريخ الأمة العربية، ثم إذا ما انتقلنا من الجزيرة نحو البلاد التي فتحها العرب، والتي انتشروا فيها، والتي استعربت شعوبها بأقدار متفاوتة من الاستعراب، فإننا نجد تلك الشعوب متحضرة بحضارات، هي في ذاتها تتركب أيضا من عناصر أصيلة وطارئة، وفي مختلف الأقطار التي استوطنها العرب يتنوع امتزاج عناصر الحضارة تنوعا كبيرا.
وتلك العناصر هي: الهندية، الإيرانية، الأرامية، اليونانية، المصرية، الإفريقية، البربرية، اللاتينية، الجرمانية، الكلنية ... إلخ، وتركبت في مختلف الأقطار من هذه العناصر تراكيب متعددة، ففي أقصى الشرق يقل الأثر الإفريقي البربري الجرماني اللاتيني، وفي أقصى الغرب يقل الأثر الهندي الإيراني، ولكنها دخلت جميعا في تركيب الحضارة العربية، وإن تلونت تلك الحضارة في مختلف الأقطار العربية بألوان متأثرة بموقع القطر وبظروفه التاريخية السابقة للفتح العربي.
ترى إذن أن لا بد لفهم التاريخ العربي من فهم التواريخ التي التقت به، والعجيب في أمر حضارة هذه الأمة العربية أن تناسب أجزائها، وانتظام عناصرها في نسق محبوك مسبوك يرجع إلى وضوح الملامح، وبروز التقاسيم، فلا يصعب على الناظر تبين كل جزء وكل تفصيل. كتب أحد الأقدمين في صفة أهل الأندلس كتابة تطلعنا على تلك الخاصية من خصائص الحضارة العربية قال: (وقد روى كلامه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية) «أهل الأندلس عرب في الأنساب، والعزة والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، وهنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها، وضبطهم لها ورواياتهم، وبغداديون في ثقافتهم، وظرفهم، ورقة أخلاقهم، ونباهتهم، وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباتهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.»
وإذا سألنا: لم صفت عقول الفاتحين ذلك الصفاء الذي مكنها من تلقي ما تلقت من مختلف الثقافات على ذلك النحو الرائع الذي لم ير له التاريخ فيما نعرف نظيرا؟ وإذا سألنا: لم حافظوا على التراث الإنساني تلك المحافظة الباهرة؟ أجبنا بأن ذلك يرجع أولا لما فرضه عليهم دينهم نصا وروحا، لما رسمته أوامره ونواهيه، شريعة وأحكاما ومثلا، كما أنه يرجع ثانيا إلى ظروف الفتوح، وإلى ظروف الاستيطان في الأقاليم، فكانوا حقا أمة وسطا.
ومن الصور المشرفة في التاريخ العربي توسط مقوماته بين طرفي الإفراط والتفريط، فارتقاء الحسيات يقابله ارتقاء مماثل للمعنويات، والعناية بالزراعة وما يتصل بها من الغراسات، والتفنن في الاستنبات، والبراعة في جر المياه وصرفها، لا تقل عن العناية بالصناعات، والزراعة والصناعة شأنهما لا يقل عن شأن التجارة وما يتصل بها من تنظيم وطرائق إنهاء الحقوق والادخار والائتمان، والألفاظ المتصلة بهذا والتي دخلت اللغات الأجنبية تدل على ما كان للعرب من أصالة في هذه الشئون.
وإذا ما انتقلت من هذا إلى الحياة العقلية، ترى أن ما صرف من العناية في الأبحاث النظرية وازنه الانتباه إلى التطبيقات العملية، مثل ذلك يقال عن الحياة الروحية، فلا إسراف عموما في رعاية ما يوجبه حق الجماعة، وما يقتضيه حق الفرد.
هذا وإذا كان التاريخ العربي ملتقى التواريخ، فإن الحرية العربية حياة الأمة العربية اتصفت هي أيضا بصفة أساسية، هي التنوع في إطار الوحدة، وإلى هذه الصفة ترجع قوتها في الماضي، وهذه الصفة هي التي تفسر كيف أنه كلما ازداد عرب اليوم تقاربا، كلما كانت خصائصهم الإقليمية سببا من أسباب التكامل، وعاملا من عوامل تبادل المنافع.
وبعد؛ فما لب الأمة العربية، ما خلاصة تاريخها، ما جماع عقلها أو روحها؟ إن أردنا إجابة في كلمة واحدة قلنا: اللغة العربية، والعربية بصفة أساسية شأنها شأن التاريخ العربي، أنزل بها كتاب الله، وبنى الأوائل علومها على القواعد وبالأساليب التي أقاموا عليها وبها سائر المرافق والأدوات والرسائل، وقد نقل المرحوم الأستاذ/محمد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة العربية رأيا في العربية لعالم اللغات السامية «رنان» يصح الاستماع إليه، ولم يكن رنان هذا ممن يحبون العرب، قال: «من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسلة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار مختلفة؟» وقال: أيضا: «ما عهدت قط فتوحا أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها، فإن العربية - ولا جدال - قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلاف العناصر، إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ وأضيف واليونانية واللاتينية ميتتان والعربية حية، لغة أحياء.»
وكلما أطال الإنسان التفكر كلما آمن بأن لغة العرب كانت أعظم ما خلق العرب، لماضيهم ولحاضرهم ولمستقبلهم.
العرب بين الأمم
ما مقام العرب بين الأمم ... ما أقدميتهم؟ ما أصالتهم؟ وماذا قدموا لأجيال الإنسانية؟ وبماذا ولماذا استحقوا أن يوصفوا بالأمة الوسط؟ والكلام عن مقام العرب بين الأمم يستدعي الحديث عن تطور المحيط العالمي، الذي أحاط بهم وبغيرهم، كما أنه يستدعي بيان مقام الجزيرة العربية مهد العروبة - في تاريخ الأمة الكبرى - أمة العرب في المشارق والمغارب.
وأقوم المسالك ألا نوغل في القدم إلى ما هو أبعد عن تمايز الألسنة، وعن اختصاص الشعوب شعبا شعبا بحصص من الأرض، فلنترك إذن ما سبق المسطور من البيان، ولنترك أمر ما كان وما لم يكن بين الساميات والحاميات إلى من يحسنونه من العلماء، وإلى من يحبون أن يخوضوا فيه دون أن يكونوا من أهله، ولنبدأ حيث تحضر الإنسان في أرض النيل وأرض الرافدين وما بينهما؛ حيث قامت الدول العامة الأولى، المصرية، البابلية، إلخ. - وهنا كان أحد أصلي الحضارة قاطبة - أي هذا الأصل المصري السوري العراقي، وكان الآخر الأصل الهندي الصيني، وفي ذلك الأصل المصري السوري العراقي مبدأ تواريخ الأمم، بما في ذلك مبدأ تاريخ العرب - ويصعب نعته بنعت واحد فإذا نعت بالشرقي - الوسيط أو الأدنى أو ما إلى ذلك، كان معنى ذلك أنه فرع على أصل يقع غربيا، وهذا لا يجوز، فهو الأصل وأوربا الفرع، كما أنه لا يجوز نسبته إلى آسيا أو إفريقيا أو إليهما معا، كما لا يجوز ربطه بالبحر المتوسط وحده، أو بالنيل وحده، وجمع هذه المعالم الجغرافية في جملة يعقد الوصف - فإذا شئنا نعتا جامعا مشتقا قلنا: إنه ملتقى الحضارات أو مهد الوحدانية.
ولنا أن نتصور نوعين من التغير كانا يحدثان في نطاق ذلك الملتقى: أحدهما: ما كان يحدث داخل كل وحدة من وحداته، كانتقال الحكم في مصر الفرعونية مثلا، من أسرة إلى أسرة، وما إلى ذلك، أما النوع الآخر فتأثيره أعم، وكان مما يترتب على حركات الشعوب والجماعات المتصلة بملتقى الحضارات، هذا على وجه أو أكثر من أوجه الاتصال، دون أن ينتهي بها الاتصال به إلى الاندماج فيه - وكان من هذه الشعوب اليونان والفينيقيون وعرب الجزيرة وامتداداتها في البحار العربية وما يليها وفي بادية الشام - وقد مارس اليونان تجارتهم ومغامراتهم ونشاطهم الاستعماري في مختلف مواطن هذه الحضارة، وفي خارج مواطنها، وتعلموا من أصحابها ما تعلموا، وصاغوا ما تعلموا في الأسلوب الذي شاءته شخصيتهم، وكذلك الفينيقيون - وكذلك العرب - أثروا كثيرا وتأثروا كثيرا بأمم الحضارة، إلا أن شخصية الجزيرة في بداوتها وحضرها، في علاقاتها بجيرانها الأقربين، في وساطاتها التجارية الممتدة في مسالك البحار بقيت على ما هي عليه، إلى أن كان ما قدر الله للإنسانية والعرب: الدعوة للإسلام.
وبالدعوة - وبإنشاء الدولة العربية جد معنى آخر للعرب والعروبة، وجد طور آخر لمقام العرب بين الأمم - على أن هذا الطور الجديد لا يفهم على وجهه الحق إلا إذا بينا ما سبق إنشاء دولة العرب من أحداث خطيرة، فإن هذه الأحداث وما ترتب عليها من نتائج شكلت البيئة التي قامت فيها الدولة العربية، والتي أدى فيها العرب رسالتهم للحضارة.
لقد سبق قيام الدولة العربية أن خضعت مواطن الحضارة العراقية السورية المصرية لفارس، وأكسبها ذلك ما انتقل إليها عن طريق فارس من عناصر هندية، فزادها هذا غنى، بل وحاول الفرس مزج العناصر المختلفة في نتاج مشترك، إلا أن انعدام التوحيد الديني حال دون إيجاد ذلك النتاج المشترك، مثل هذا يقال عن محاولة الإسكندر لما غزا الولايات الفارسية وبلغ السند وأنشأ دولته المشهورة، ولما خلفه الرومان وضموا من ممالك الإسكندر، جدت ظروف جديدة، فاستطاعت فارس أن تستقل بحياتها القومية، كما أن الرومان أدخلوا في نطاق الحضارة جزءا كبيرا من أواسط أوربا وغربيها، وانصرف هم الرومان لتدبير رغد العيش أكثر من انصرافه للحياة العقلية، وعلى الرغم من الاضطهاد الحكومي الرسمي فقد تمكنت الدعوة المسيحية من الانتشار والانتصار على العبادات الوثنية، وأصبحت في القرن الرابع الدين الرسمي للقياصرة، ثم حدث انقسام الدولة الرومانية إلى غربية وشرقية، ثم وقوع أكثر الولايات الغربية في حكم الشعوب المتبربرة الأوربية، كما حدث أيضا ظهور الفرق المسيحية، وما كان بينها من مجادلات.
وقد قامت الدولة العربية فيما كان لفارس، وفيما كان للروم المتبربرين من ممالك، ومع الزمن كانت الدولة العربية تواجه ملك الروم في البلقان والأناضول، وممالك الأوربيين في شمال البحر المتوسط، ثم تواجه ما كانت تواجهه فارس في الهند والصين وأواسط آسيا، ويمتد نفوذها عبر الصحراء الكبرى وعبر البحار الإفريقية الآسيوية إلى ما يقع وراءها من قبائل وشعوب ومجتمعات، ومع الزمن أيضا انتشر الإسلام، وانتشرت اللغة العربية، فكانت الأمة العربية الكبرى، واللغة العربية فيها ضربان، لغة حضارة الدولة كلها، يستخدمها أبناؤها جميعا لأغراض الحضارة، وإن احتفظ منهم من احتفظ بلغته أو بلهجته لأغراض المعيشة المنزلية، أو للتقاليد القومية الخاصة، أو للطقوس الدينية، ويستخدمها أكثر أبنائها لكافة الأغراض، فلم تكن لهؤلاء لغة أخرى، وفي تاريخ المجتمع العربي تلتقي تواريخ الشعوب التي تتكون منها، والحضارة التي ازدهرت في ذلك المجتمع تجمع بين القديم الذي ورث والجديد الذي أوجد، والعلاقات بين ذلك المجتمع وما حوله من الأمم تتكون من معاملات يومية سلمية دائمة ، يتخللها قدر من الحرب يرمي في حقيقة الأمر إلى أن يحافظ كل فريق على ما بيده، فنشأ بذلك نوع من توازن القوى.
يوازي ذلك التوازن بين المجتمع العربي وغيره من المجتمعات توازن داخلي في المجتمع نفسه، ثم حدث أن اختل ذلك التوازن الداخلي، وتعرض المجتمع بذلك لعوامل التفرق بين وحداته وأقاليمه - القديمة التاريخية - كيف حدث هذا؟ كان من أسبابه تعدد الفرق الدينية، وكان من أسبابه أيضا أن الوحدات والأقاليم القديمة التاريخية استعادت في ظل الدولة العربية حيويتها، وهذه الحيويات الإقليمية نزعت نحو اكتمال الاستقلال الإقليمي، يضاف إلى هذا ما تعرضت له الدولة العربية من حركات الجماعات البدوية الآسيوية من أتراك وتتار ومن إليهم، ولا بد أن نلاحظ أخيرا أن المجتمع العربي في تلك الأيام لم يتح له ما بلغته المجتمعات في أنحاء العالم، منذ ذلك العهد من خبرة في شئون التنظيم الدستوري، الذي يوفق بين النزعات الإقليمية المشروعة ومقتضيات الوحدة السلمية، على أن ذلك العهد من التاريخ العربي، وهو يستغرق القرون من الثالث عشر للسادس عشر، كانت له مفاخرة، فيه تألفت الجبهة المصرية السورية اليمنية، فيه تألفت ما يصح أن أطلق عليه دولة البرين والبحرين (البر المصرية والبر الشامي والبحر المتوسط والبحر الأحمر)، قلب العروبة، وفيه ردت هذه الدولة التتار والصليبيين على أعقابهم خاسرين، وقد حفظ أهلوها التراث العربي سليما حيا.
هذا على الرغم مما كان من محو الكثير من معالم الثقافة العربية في فارس وما يتصل به، وعلى الرغم أيضا من جلاء العرب عن الأندلس، فقد كان للعرب من أهل الجزيرة فخر بناء مجتمع عربي حر في جزائر البحار الآسيوية الإفريقية وسواحلها، وفيما يلي الصحراء من الأقطار الإفريقية.
وفي القرن السادس عشر يبدأ للعرب عهد جديد، اجتمع فيه عليهم التغلغل الأوربي من جهة، والسيادة التركية العثمانية من جهة أخرى، إلا أنهم استطاعوا متفرقين أن يحتفظوا بمقومات شخصيتهم حية، وإن خفيت مظاهرها، ثم اشتد التغلغل الأوربي في القرنين التاسع عشر والعشرين متخذا أشكالا شتى من الهيمنة السياسية، والتوجيه الاقتصادي، والعرقلة الاجتماعية، وتضييق الآفاق العلمية، وبعث هذا في العرب روح الكفاح من أجل الاستقلال السياسي والاقتصادي، وبالجملة من أجل حرية بناء مجتمعهم على النحو الذي يشتهون، ونصب أعينهم الآن تحرر كامل ووحدة كاملة، ومهمتهم في عالم اليوم، أن يكونوا أولا أقوياء، فالقوي لا ينفع نفسه فحسب، ولكنه ينفع الناس جميعا بقوته، وأن يحيلوا، ثانيا، كما كان يفعل آباؤهم والعناصر المتباينة، أن يحيلوها نتاجا إنسانيا مثمرا، نتاجا خير نتاج،
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا .
تعبير الفن عن الشخصية العربية
إذا شاء أحدنا أن يبحث عن مظهر تتجلى فيه الشخصية العربية - شخصية الفرد وشخصية الجماعة - فأظنه لن يجد خيرا من فنون العرب وصناعاتهم، في تلك الفنون وفي تلك الصناعات تلاقت فنون الشعوب التي كونت الأمة العربية، تلاقت لتكون فنونا جديدة قديمة؛ لما فيها من محافظة على تراث منتقل من سلف لخلف، وجديدة لما طرأ عليها من تحوير اقتضاه الانتقال إلى الطور الإسلامي من التاريخ، ففي الفن العربي إذن ملتقى فنون، وفي الصناعة العربية ملتقى صناعات، وتاريخ الفن العربي وتاريخ الصناعات العربية يجمعان القضايا والمسائل التي ترد في التاريخ العربي عموما - وإذن كان الفن العربي مرآة المجتمع العربي - وكان مرآة جلية؛ لأن المؤرخين لم يهتموا بأمره، ولم يخشوا دلالاته فتركوه أو نسوه، ولذا نستطيع أن نبدأ استخدامه في فهم الماضي العربي دون أن نبدأ بتقدير الاعتبارات النقدية، والتوجيهات الاجتماعية النظرية التي شكلت التعبير الأدبي العربي.
والمجتمع العربي لا يفرق بين فنون جميلة أو رفيعة، وفنون ليست كذلك، ولا يفرق بين الفنان والصانع، قد يكون ما يصنع أنيقا أو ساذجا، يرضي الذوق أو لا يرضيه، وقد تكون مادة المصنوع معدنا نفيسا أو طينا، هذا ما كان يميز مصنوعا عن مصنوع آخر، ولكنهم كانوا لا يعرفون التمييز الذي نعرفه في الوقت الحاضر، التمييز الذي يقوم على إنتاج أشياء لمجرد الرمز أو لمجرد النظر أو لمجرد التعبير عن خاطر أو ما إلى ذلك، وإنتاج أشياء هي أدوات العيش.
ومن أجل ذلك لا نجد الفن العربي موضوعا يشتغل به النقاد، يعرضون قضاياه الفلسفية، ويبسطون آراءهم في معاييره ومقاييسه، مثلما فعلوا في الصناعتين - النظم والنثر - ولا يتحدثون في الفن إلا حينما يعرضون للحلال والحرام، للمباح والمحظور والمكروه، أو لآداب الحياة الاجتماعية، أو لشئون الصناع وأهل الحرف في المدن وهكذا، وبذلك خلا تاريخ الفن العربي من تعقيد أصاب غيره من أدوات التعبير، وانطلق أداة حرة.
لقد وصفته بالعربي: أكان كذلك؟ أيهما الأصح، الإسلامي أو العربي؟ سؤال يتكرر في مواضع أخرى، ومنذ سنوات غيروا رسميا اسم دار الآثار العربية، وجعلوه دار الفن الإسلامي، ما وجه الحق في ذلك؟ والذين غيروا اسم دار الآثار العربية قالوا: إن الفن كان فن الشعوب الإسلامية عربية وغير عربية، فالإسلامي إذن وصف أعم وأصدق، ونفس الشبهة تقع عند تسمية الفلسفة أو العلم، فما الرأي؟ لا أرى إشكالا كبيرا، فإنك تقول العلوم الإسلامية إذا أردت الدين، وتقول العلوم العربية إذا أردت علوم اللغة العربية، أو إذا أردت طورا عربيا من أطوار التاريخ والعلم عموما؛ أي تاريخ منحى معين من مناحي الفكر الإنساني، معبر عنه باللغة العربية بصرف النظر عن المشتغلين به.
وقد عرف كذلك في التواريخ التي صنفها الأوروبيون لتاريخ العلم عموما، والفلسفة لا جدال في تسميتها بالإسلامية، فكذلك سماها الذين اشتغلوا بها من العرب وغير العرب، من المسلمين ومن اللاإسلاميين.
وأما الفن، فلا جدال في عظم تأثير العقيدة والمثل العليا في تشكيله، ولا جدال في أن ذلك التأثير أسبغ على الفن في مختلف بلاد المسلمين لونا من الوحدة عظيم الشأن، ومع ذلك فيوجد في التعبير الفني في مختلف تلك البلاد قدرا من الاختلاف، يبرر كل التبرير أن نتكلم عن الفن العربي، والفن الإيراني، والفن الهندي، وهكذا، بل يوجد في الحياة الفنية العربية بالذات في مختلف أقاليم العالم العربي ما يوجب الاهتمام بمظاهره الإقليمية في العراق، أو في مصر وسوريا، أو في الأندلس والمغرب.
تتصل قضية الأمم أو الوصف على هذا النحو بقضية أساسية من قضايا التاريخ العربي: الوحدة والإقليمية ، لا جدال - كما قلت - في أن العقيدة أكسبت الفن ذلك القدر من الوحدة، الذي حدا ببعض العلماء إلى تفضيل وصفه بالإسلامي، فعلى أي وجه كان تأثير العقيدة؟ كان ذلك عن طريق إسلام الوجه لله، وعن طريق الابتكار الفني مظنة محاكاة الخلق - وإسلام الوجه لله وحده يجنب المخلوق الترفع، ويحتم عليه معرفة قدر نفسه، فالتواضع أخلق به - وقد ترتب على التزام التواضع في اختيار مادة المصنوع، الآجر للبناء، الجص للزخرفة: الفخار أو النحاس أو الزجاج للآنية، والطريف أن زيادة الغنى واكتساب عادات المترفين أدى إلى أسلوب من الفن يجمع بين تواضع الأساس، ومقتضيات الرفاهية والتنعيم، فيبقى الفخار ولكن تكسوه طبقة من المعدن البراق، بقي النحاس ولكنه يذهب أو يفضض، يبقى الآجر مادة البناء ولكن يكسوه القيشاني الخلاب أو الفسيفساء الباهرة، وهكذا الزجاج الموشى بالمينا أو النحاس أو الخشب المطعم، وأما عن تجنبه مظنة محاكاة الخلق فآثاره معروفة، إحالة المجسات مسطحات، إحالة الحيوانات أزهارا، المنحنيات مستقيمات والمستقيمات منحنيات، قطع الصلة بين السبب والمسبب.
وأما عن المثل العليا، وما كان من أثرها، فواضح أنها كسبت الصناعة والعاملين فيها شرفا ونبلا، ويكفي في هذا أن نذكر كيف كان الأنبياء يكسبون رزقهم من عمل أيديهم صناعا، وانتشار الخط العربي كان أيضا عاملا من عوامل وحدة الفن، هو في ذاته فن عمل فيه المسلمون جميعا ما شاء لهم حبهم له وإعجابهم به، وهو أيضا أساس من عناصر الزخرفة، لا يقتصر انتشاره على أقطار العالم الإسلامي، ولكن انتقل إلى الأقطار الأوربية، فاستخدمه الصناع فيها لأغراض الزخرفة، دون أن تؤدي الحروف أو الكلمات كلاما مفيدا، وهكذا كانت قضية وحدة الفن.
وأما قضية إقليميته: فإنها ترجع لأسباب ندرجها في الكلام على ثلاث مسائل: المسألة الأولى: نوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية، المسألة الثانية: تطور الفن في المجتمع العربي الذي تكون في تلك الأقاليم، والمسألة الثالثة: مصير هذا الفن العربي.
أبدأ بنوع الفن السائد في أقاليم الدولة العربية عند الفتح: كان فن الآثار الضخمة الشامخة التي خلفها المصريون القدماء ، أو البابليون، أو الآشوريون وأمثالهم، آثارا ضخمة شامخة حقا، لا يمكن إلا معاينتها، ولكن لم يزد الأمر عن المعاينة والتعجب.
أما فنون العمارة والزخرفة، فهي الفنون اليونانية الرومية في طورها المسيحي، مطعمة في أقدار متباينة بالفن الساساني، وأما الفنون الصغرى، فهذه تتنوع بطبيعة الحال بتنوع البيئات من إقليم إلى إقليم، وظاهر أن مادة الفن يتخذها الناس في الأغلب مما يكون في متناول أيديهم، وظاهر كذلك أن الأساليب تتنوع طبقا لحاجات الناس، وهذه الحاجات هي مما تمليه ظروف المناخ وما يتصل به، مثال ذلك الفنون المنزلية الخاصة بالأثاث والآنية والفنون الشخصية الكساء ... إلخ.
وهكذا نرى أن الفنون التي كانت تسود الأقاليم العربية كانت من أسباب اتخاذ الفن العربي المتطور، منها وجهات إقليمية متباينة داخل إطار الوحدة التي أشرت إليها.
وإذا انتقلنا من هذا إلى تطور الفن في العهد العربي من تاريخ تلك الأقاليم، تبينا أن الخاصية الرئيسية لهذا التطور ترتبت على دخول الشعوب العربية الأصيلة في تلك الأقاليم في المجتمع الجديد، بمواهبها وأذواقها وأساليبها، فنشأ من ذلك الفن الجديد، تلتقي فيه - كما قلت في مستهل الحديث - العناصر القديمة بالعناصر الجديدة.
ذكر المؤرخون أن الزخارف الجصية في دير السوريان بوادي النطرون هي الزخارف العباسية العراقية المنتشرة في أرجاء الدولة العربية، وذكر المؤرخون أيضا أن الأبواب الخشبية في كنيسة السيدة بربارة لا تختلف في شيء عن مثيلاتها في العصر الفاطمي.
نرى إذن أن الفن يوضح كيف أثمر التفاعل والتداخل في بناء الحضارة الجديدة في جو السماحة، في جو الكرامة؟ على أن الأقاليم العربية لم تجر الأمور فيها على وتيرة واحدة؛ فمنها ما عمه طوفان البداوة كما في المغرب، أو المتبربرين كما في العراق، أو انقطع نموه وتطوره كما في الأندلس بجلاء العرب.
ومن تلك الأقطار ما بقيت فيه حلقات التطور متصلة؛ وهذا بصفة خاصة في سوريا ومصر.
ولكن هل تعني اتصال الحلقات أننا نستطيع أن نصف الفن في طوره الراهن بأنه امتداد للفن العربي، الذي كان موضوع هذا الحديث، لا جدال في أنه توجد في وقتنا الحاضر، في حياتنا الفنية، وفي مطالب الحياة عموما من النزعات والمؤثرات والمشكلات ما يبرر القول بأن الفن قد دخل طورا جديدا قليل الصلة بالفن كما ورثناه، ليس معنى ذلك أنه مات؛ فالفن القوطي في أوربا مثلا له بداية وله نهاية معروفتان - ولكن تأثيره لم ينته بتلك النهاية - يؤثر إذا ما استدعى الذوق محاكاته، ويؤثر إذا ما تدخل عنصرا أو أسلوبا في تركيب فني معين، وقد يصدق هذا على الفن العربي: أنه بعد أن أدى ما أدى في المجتمع العربي قد تحول إلى طراز أو أسلوب تاريخي له حيويته وله رسالته.
تعبير العلم عن الشخصية العربية
وكيف يعبر العلم عن الشخصية العربية؟
نفهم أن الفن أو الأدب يفعل ذلك، ولكن العلم؟ لقد قيل: إنه لا وطن له، وإذا صح ذلك، فهو شائع في الأوطان وشائع في الأزمنة.
ولكن هذا لا يصح، أن العلم الذي ينتقل من وطن إلى وطن، أو من زمن إلى زمن لاحق، هو العلم المستخدم في تسخير القوى الطبيعية والحية لمنفعة الإنسان.
وحتى هذا التسخير القائم على التجربة والملاحظة، أو على تطبيق ما يصح بالقوانين العلمية، حتى هذا نجده يختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر، فمن المجتمعات الإنسانية ما كان أسبق من غيره في هذا المضمار، ومن المجتمعات أيضا ما كان في بعض أجياله سباقا، وفي بعضها محافظا جامدا قانعا، أو محاكيا ناقلا عن الغير.
وأما عن العلم بالمعنى الخاص، أي بمعنى استخدام مناهج معينة لإيجاد صلات تربط حقائق متماثلة متفرقة بعضها بالبعض، ولا يهتم الباحث في عمله هذا بالتساؤل عما إذا كان لعمله هذا فائدة عملية تطبيقية في الحال أو الاستقبال، أو العلم بالمعنى الخاص الآخر، أي بمعنى استخدام العلم لتعليل أو تفسير أو وصف هذا العالم أو هذا الكون، العلم بمعنييه هذين وثيق الصلة بمجتمع أو مجتمعات معينة، أو بزمن واحد دون سائر الأزمنة، هو الزمن الذي ابتدأ على نحو ما بالإيطالي جاليليو منذ ثلاثمائة سنة، ابتدأ متمهلا، ثم اشتدت حركته منذ نحو قرن ونصف قرن من السنين.
لنا إذن أن نقول: إن العلم بمعانيه المختلفة يعبر عن الشخصية العربية، ولكن على أي وجه أو على أي وجوه كان التعبير؟ كان سبيلنا إلى معرفة ذلك أن نسجل للعلماء الذين كتبوا بالعربية أسماء كتبهم ورسائلهم وما ورد عنهم في أخبار الحكماء والأطباء وطبقاتهم من مآثر، وهذا كله دون تحقيق، إلا فيما ندر، ثم نلحق بهذا فضل هؤلاء العلماء على أوربا، وهذا كله - أيضا - لا يدل على أكثر من أن الحركة العلمية في المجتمع العربي كان لها خطرها، وكان لها مقامها في الحضارة الإنسانية.
ولكن، على أي وجه أو على أي وجوه كان ذلك الخطر وذلك المقام؟ السبيل التي اتخذناها لم تهدنا إلى معرفة ذلك، وبعد، فما الذي ينبغي أن نصنع. الذي ينبغي على كل باحث أن يبدأ به هو أن يسأل الأسئلة الصحيحة، والسؤلان الصحيحان هما:
أولا:
إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم؟
وثانيا:
هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون.
للإجابة على السؤال الأول - إلى أي حد أقيم المجتمع العربي على العلم - يجب أن ندرس الآلات والأدوات التي استخدمها العرب مما ورثوا ومما استحدثوا، أي يجب أن ندرس ماذا استخدموا في بناء البيئة المادية التي عاشوا فيها؟
وفي الوقت نفسه، يجب أن ندرس الأسس العلمية التي أقاموا عليها علاقاتهم المدنية والروحية، أي ما استخدموا في بناء البيئة المعنوية التي عاشوا فيها، وما نعرفه عما ورثوا وما استحدثوا من آلات وأدوات ضئيل لا يعتد به، بالرغم من أن دراسة الأدوات والآلات هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما اهتدوا إليه من تطبيقات علمية سواء أكان ذلك بالملاحظة والتجربة، أو باستعمال قوانين عرفوها عن طريق النظر.
والملم بتاريخ المكتشفات قبل زماننا الحالي، يعلم أن أكثر من أوجدوها كانوا صناعا مهرة لا يعلمون علما، والأقل كانوا علماء كان لهم ولع بالصناعة؛ منهم الحاذق، ومنهم الذي يستطيع أن يشرف على عمل الصانع اليدوي.
ولهذه الحقيقة سر، سرها أن قوانين العلم في تلك الأزمنة يشوبها الكثير من الوهم أو من الرجاء الكاذب أو الخوف، وكلما خلا عقل الصانع من التربية العلمية المشوبة على هذا النحو، كلما كان أقدر على الانتفاع من دروس الملاحظة والتجربة، كلما صنع شيئا ينفع الناس.
ومن رجع إلى طبقات الحكماء والأطباء قل أن يجد رجلا منهم لم ينسب إليه المترجم صناعة آلة أو أداة، بل لم نذهب بعيدا؟ التراجم التي أوردها الجبرتي للرياضيين والفلكيين والمهندسين والكيميائيين، قل أن تجد فيها ترجمة لم يستحدث صاحبها آلة أو ما أشبه أو أشربة أو عقاقير، بما فيهم أبوه هو نفسه.
وفي كتاب وصف مصر بحث مفصل مصحوب بالرسم والمقاييس لكل ما استخدمه أهل البلاد في آخر القرن الثامن عشر من أدوات وآلات، ودرسها يدلنا على مقدار العلم التطبيقي الذي أقيم عليه المجتمع في الجانب المادي من حياته.
جانب مادي آخر نختاره من مصر، الحياة الطبية فيها لا تقوم إلا على أساس من العلم، عرف العرب هذا تمام المعرفة، نصح أحد الحكماء ولي الأمر في زمنه بقوله: «وعليك بحفظ أهل الكيميا العظمى وهم الفلاحون.» الذي يصف الفلاحين بأنهم أهل الكيمياء العظمى يدرك تمام الإدراك سر الفلاحة.
وعرف العرب أيضا الأساس العلمي للحياة المصرية عندما نسبوا إلى أحد الحكماء الأقدمين أنه هو الذي أردم أراضي أكثر قرى مصر، وأسس الجسور المتوصل بها من قرية إلى قرية في زمن النيل، وسبب ذلك أن أكثر القرى بمصر كان أهلها إذا جاء النيل تركوها وصعدوا إلى الجبال المقابلة لها، فأقاموا بها إلى أن يذهب النيل خوفا من الغرق، فيذهب بذلك مغل كثير، ولما علم الحكيم بذلك قاس أراضي أكثر القرى على أعلى ما يكون من النيل، وأردم ردوما وبنى عليها القرى، وعمل بها بجسورة ما بين القرى، وفي أوساط الجسورة قناطر ينفذ الماء فيها من أرض قريبة إلى أخرى، فزرع كل واحد منهم الزرع في وقته من غير فوات، ووقف من كل ضيعة أرضا معينة يصرف مغلها في كل سنة إلى إصلاح هذه الجسورة، وفي العهد العربي بقيت العناية بهذا، بهذا الأساس العلمي للحياة المصرية، ويذكر القفطي صاحب أخبار الحكماء أن أباه عهد إليه بديوان فدن الجسورة (كما كان يعرف) وكان له نواب وضمان ومشدون، وكان العمل فيها أتعب من جميع الأعمال، ويذكرون أن العالم المشهور «ابن الهيثم» أنه قال: لو كنت بمصر لعملت في نيلها عملا يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، وقيل: إن الخليفة الحاكم استدعاه لينفذ ما وعد، وقيل: إنه عجز، وقيل: إنه تظاهر بالجنون ليتقي شر الحاكم، ولما أمن انصرف إلى عمله العلمي على النحو الرائع الذي أرخه الأستاذ مصطفى نظيف.
هذا كله قليل عن البيئة المادية - أما البيئة المعنوية فشأن العلم فيها جد خطير - تكفي الإشارة إلى الأسس العلمية من منطقية ولغوية ونفسانية وفقهية لضبط عمليات الفكر والبيان والنقد، والروابط المدنية بين الأفراد والجماعات، والحقوق والواجبات، وأخيرا وليس آخرا التهجد والتعبد ومجاهدة النفس، فالنظرة العربية كانت محيطة نافذة، والعلم واحد متعدد الجوانب، قالوا: إن دعائمه ثلاث: المجسطى في علم هيئة الفلك وحركات النجوم لبطليموس القلوذي، وصناعة المنطق لأرسطاطاليس، وكتاب سيبويه البصرى في علم النحو العربي.
وننتقل لسؤالنا الثاني: هل استخدم العلم في تعليل وتفسير ووصف العالم أو الكون؟ كان من العرب من تحدث حديث المنجم في تأثيرات الكواكب وحركات الأفلاك، ومن تحدث حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وما الفاعل وما المنفعل منها، وكيفية تمازجها وتنافرها، ومن تحدث حديث المهندس الباحث عن مقادير الأنباء ولوازمها، ومن تحدث حديث المنطقي الباحث عن مراتب الأقوال ومناسب الأسماء والحروف والأفعال.
ومن هذه الأحاديث وما إليها كان الخوض في الشئون الكونية خوضا لا يرجع إليه الآن لذاته، إنما يرجع إليه من يحب أن يعرف تعبير العلم عن الشخصية العربية في مختلف عصور التاريخ العربي، وهو تعبير إذا أضفنا إليه تعبير الفن وتعبير الأدب، كانت لدينا الصورة الكاملة بالقدر المستطاع.
يقابل هذه الصورة للحياة العلمية العربية صورة الحياة العلمية في أوربا، ثم جد مع هذه الحياة الأوربية فصل لم يجد على حياتنا العلمية، ألا وهو النهضة العلمية التي تسيطر على عصرنا الحاضر، لم لم يجد هذا الفصل على مجتمعنا؟
سؤال قد نستطيع الإجابة عنه إذا أكدنا من جديد الصلة الوثيقة التي تصل بين مجتمع وحياته العلمية، إن المجتمع إذا لم تجد عليه مشكلات تقتضي تجديد حياته، فإنه يبقى على ما هو عليه، ومجتمعنا لم يتسع الاتساع الذي اتسعه المجتمع الأوربي في العصور الحديثة، ومن ثم فلم تجد عليه مشكلات، ولم تجد عليه أسئلة، فبقي على ما هو عليه حتى هذه الأيام، أيام الحضارة العلمية، وها هو ذا مجتمعنا يتحفز لإنشاء صلاته بها؛ ليستفيد ويفيد، يشارك في تقويم معوجها، وفي إشاعة خيرها بإذن الله.
الشعوبية القديمة والشعوبية الجديدة
خصوم العرب بالأمس وحاسدوهم على ما آتاهم الله من فضله عرفوا في الكتب القديمة باسم الشعوبية، وأعداؤهم اليوم وكارهو ارتقائهم لنا أن نعرفهم هم أيضا باسم الشعوبية، فلنميز في هذا الحديث إذن بين شعوبية قديمة وشعوبية جديدة.
والكلمة - في ذاتها - إن دلت على إيمان منتجاتها بحق الشعوب جميعا في البقاء، وبأن لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، إن دلت على الإيمان بهذا فلا غبار عليها، لكنها قديما ... وحديثا تعبر عن بغضاء وعن حقد، وترمي إلى الحط من قدر العرب، وإلى هدم البناء الذي أقاموه في ماضيهم، والبناء الذي يعملون في حاضرهم في تشييده.
وفي القديم ركز الشعوبيون القدماء مهاجمة العرب في تأكيد ما كانت الحياة في الجزيرة من شظف وخشونة، وفي جمع ما تفرق في دواوين الشعراء من المثالب والنقائض، ومن هذا كله رسموا الصورة التي شفت صدورهم وأطفأت نار حسدهم، من ذلك قول أحدهم، الجيهاني يسب العرب ويتناول أعراضها ويحط من قدرها: يأكلون اليرابيع والضباب والجرذان والحيات، ويتعاورون ويتساورون ويتهاجمون ويتفاحشون، وكأنهم قد سلخوا من فضائل البشر، ولبسوا أهب الخنازير، ويقول أيضا: وليس للعرب كتاب أقليدس، ولا أنجسطس، ولا الموسيقى، ولا كتاب الفلاحة، ولا الطبيعة، ولا العلاج، ولا ما يجري في مصالح الأبدان، ويدخل في خواص الأنفس، ويقول أيضا: ومما يدل على شرفنا وتقدمنا وعزنا وعلو مكاننا أن الله أفاض علينا النعم، ووسع لدينا القسم، وبوأنا الجنات والأرياف، ونعمنا وأترفنا، ولم يفعل هذا بالعرب؛ بل أشقاهم وعذبهم، وضيق عليهم، وحرمهم.
هذه أمثلة من تجني الشعوبية القديمة، ذكروا خشونة العيش في الجزية، وأغفلوا ما كان بأماكن كثيرة فيها من نعومة الحياة وترفها، وأثبتوا التساور والتهاجي والتفاحش، وحذفوا ما كان هناك من طيب الأعراق وصفاء الأحلام والمروءة، وزعموا أن العرب لم يكن لهم كتاب أقليدس وغيره مما عددوا، ونسوا أن استخدمه العرب، وما إليه في النظري والتطبيقي من العلم، فارتقوا بالعلم درجات فوق ما بلغ أصحاب أقليدس، وأغرب من هذا كله ادعاء الشعوبية أن ما أفاض الله عليهم من النعم يدل على شرفهم وتقدمهم وعزهم وعلو مكانهم، وهو لم يفعل هذا بالعرب، بل أشقاهم وعذبهم وضيق عليهم وحرمهم، يقولون هذا ويغفلون عما كان من نعمة الله على العرب بإخراجهم من ظلمات الشرك به إلى نور التوحيد، ثم أورثهم المشارق والمغارب، ولأحد البلغاء من الأقدمين وصف جامع لما حدث في جملة رائعة:
وقد رأيت حين هبت ريحهم (أي العرب) وأشرقت دولتهم بالدعوة، وانتشرت دعوتهم بالملة، وعزت ملتهم بالنبوة، وغلبت نبوتهم بالشريعة، ورسخت شريعتهم بالخلافة، ونضرت خلافتهم بالسياسة الدينية والدنيوية كيف تحولت محاسن الأمم إليهم، وكيف وقعت فضائل الأجيال عليهم؟
هذا وقد أخذ المنصفون من العرب على أهل تلك النحلة الشعوبية القديمة انصرافهم عن معرفة أخلاق الأمم بالبحث عن علل اختلاف إشارات أبنائها وشمائلهم وهيئاتهم، ولكنهم بدلا من التزام جادة الإنصاف والتحري طاوعوا الهوى، فشقوا به، وطال نصبهم، وقل غنمهم.
بيد أن الشعوبية الجديدة تدبر أمرها وتحبك دسها على وجه آخر، وهذه الشعوبية الجديدة وإن نبعت من منابع البغضاء القديمة، إلا أنها نوعت أساليبها وخططها، وتجنبت الظهور متجمعة في فرقة واحدة، أو تحت راية واحدة، على أن الغاية واحدة وإن تعددت الوسائل، والشعوبية الجديدة عرب وأعاجم، والأعاجم منهم الشرقيون، الذين يناصبون العرب العداء منتسبون للفرنجة، ولنختر أمثلة توضح أساليبهم، وقد يقول قائل : وما الذي يدعو لسوء الظن بهم إلى هذا الحد، ولم لا تختلف النظرات إلى التاريخ، ولم لا تختلف التقديرات؟ والرد على ذلك أن النظر إذا صدر عن البغضاء انكشف أمره، وفقد ما يجب أن يكون للحكم العملي، من حصانة تضمن للعالم احترام اختلاف وجهة النظر، كما أن العالم أو الذي يدعي العلم إذا نطق بما أجمعت القرائن والأدلة على ضده مستجيبا في نطق هذا لنزوات الأهواء والمصالح، ليس له أن يعترض على ضمه لشعوبية اليوم.
وليس يصح في الأفهام شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل
من أقوالهم: لا فضل للعرب ولا أصالة: ما هم إلا نقلة العلوم، ما هم إلا حملتها لمن أثبتوا فيما بعد أنهم أولى بها منهم، وفي هذا للعرب كل الفضل وكل الأصالة، فنقل العلم يفيد تحصيله ثم درسه ثم نشره، والعلم يتطور بانتقاله في المراحل، فأمر العلم إذن عند العرب جد مختلف عما يصوره «ما هم إلا نقلة العلوم» وإلى هذا ينبغي أن نفهم شيئا آخر، أن المنابع التي نهل منها العرب كانت هندسية فارسية نبطية آرامية مصرية يونانية، وأن العرب خلقوا من هذه العناصر المتباينة مركبا، وكانت أصالتهم الحقيقية في إجراء هذا التركيب، وبه كان انتفاع الإنسانية أتم وفخر العرب أعظم.
ويقول قائلهم أيضا: ولنسلم بفضل العرب، ولكن أكانوا عربا حقا؟ حقيقة كتبوا تصانيفهم بالعربية، ولكن كانت الأصول غير عربية، بل كان فضلهم على علوم اللسان العربي، وعلى الآداب العربية ظاهرا، وهذا صحيح، ولكني أعتبره مفخرة العرب؛ لأنهم نجحوا في أن يلحقوا بأنفسهم الشعوب التي تكون منها في النهاية مجتمعهم، ونجحوا في أن يلحقوهم بمجتمعهم العربي مبتكرين، خالقين، مبدعين، والابتكار والخلق والإبداع لم تكن أبدا صفات الأذلاء؛ والذين اندمجوا من الأعاجم في هذا المجتمع العربي الجديد بدءوا بهذا الاندماج عهدا جديدا، أساسه تراثهم القومي متفاعلا مع تراث غيرهم من شعوب الأمة العربية.
هذا وجه الحق في معنى العربي والمستعرب والأعجمي، وكان علينا أن نثبته، وقد استخدمه شعوبيو اليوم في بناء حركاتهم الطائفية الإقليمية التي أحبوا أن يخفوها تحت طلاء الوطنية، والدعوة الوطنية التي يستخدمها شعوبيو اليوم حق يراد به باطل، حق؛ لأن الاعتزاز بالوطن خير يثمر كل خير، ويراد به الباطل؛ لأن المنادين به يدعون إلى التفرقة، إلى التفتيت، التشتيت، وقد عرف العرب الأقدمون ما للخصائص الإقليمية من قيمة في تبادل المنافع والفوائد الثقافية والفكرية، فلم ينكروا الإقليمية الخاصة، ولكنهم عرفوا كيف ينشئون الصلات التي جعلت من خصائص الأقاليم مصدر قوة وغنى وتكامل؟ أما أن يقوم بين ظهرانينا من يزعم أن أربعة عشر قرنا مرت منذ الفتح العربي على أقاليم الدولة العربية دون أن تؤثر في أبنائها، فسخف القول ظاهر، وأما أن يدعو إلى نقض ما كان، فدعوة لها ما وراءها من حقد وتعصب وبغضاء، وقد تلتقي في صورة الهدم هذه معاول داخلية وأخرى خارجية.
ولندع الكلام عن الهدم فهو كريه، ولنتركه لحديث البناء؛ لنقرر أن تاريخ المجتمع العربي في المغرب، في مصر، في سوريا، في العراق، في فلسطين، في أي قطر من أقطار الدولة العربية، ما هو إلا فصل جديد من فصول تواريخ تلك الأقطار، وأن تاريخها في عهدها العربي لا يفهم دون الرجوع إلى ما سبقه.
وإن تاريخ المجتمع العربي لا يمكن فهمه دون فهم نصيب كل من عناصر هذا المجتمع وطوائفه في بنائه، فالارتباط بينهم - بين الوطنيين والمستوطنين المستعربين والعرب - وثيق، ففي مصر مثلا، كان لأبنائها الأصليين سواء منهم من احتفظ بدينه أو من تحول للإسلام، فضل تعليم الوافدين من العرب كيف يعيشون خير عيشة تلائم الظروف الجديدة؟ من حيث أساليب الزراعة وطرائقها، ونظام حيازة الأرض ومسحها وريها، وما يستتبع هذا كله من نظم مالية وإدارية، ومن حيث الصناعات القائمة، مع استخدام المواد الأولية التي بين أيديهم على أحسن ما يتفق وأحوال البلاد الطبيعية، هذا إلى جانب وضع الأنماط والرسوم التي ترضي الأذواق المتوازنة، نجد ما يماثل هذا إذا ما انتقلنا إلى الأثر الفعلي والفني والروحي في الأدب الشعبي العربي، وفي حياة النسك والزهد.
وجملة القول أن المجتمع العربي التقت فيه العناصر الوافدة والأصلية وتفاعلت وأثمرت، وأن هذا المجتمع مجتمع الجميع، وأن التاريخ العربي ملتقى التواريخ، والشعوبية الجديدة لن تنال منه أكثر مما نالت الشعوبية القديمة، ولن يكون حظ الجديدة إلا حظ القديمة، فلا يعدو أن يكون أثرا من الآثار الأدبية.
المدينة العربية: حكومتها في الماضي والحاضر
منذ مائة عام، أو تزيد تغيرت أوضاع الحكم والإدارة في المدينة العربية تغيرا كبيرا، فانتقل الإشراف على شئون المدن إلى مجالس أو هيئات بلدية، يشترك فيها ممثلون لأبناء البلد مع موظفين تعينهم الحكومة، ويحال على المجالس النظر في مرافق المدينة ومصالحها، ويوضع تحت تصرفها المال اللازم لمراعاة تلك المصالح.
هذا ما تتفق فيه المدن العربية الآن، إلا أن بينها اختلافات؛ اختلافات في تكوين المجالس، وفي القدر الذي أتيح لها من التصرف، وفي طبيعة المرافق المحالة عليها، وغير ذلك، وعلى هذا فبين الأنظمة والأوضاع البلدية أو الحضرية العربية من الفروق ما يبرر سعي المدن المختلفة؛ ليفيد بعضها من البعض الآخر، بإيفاد البعثات واستقبالها، وعقد المؤتمرات من الفنيين والمهتمين بالشئون الحضرية، من نواحي العمارة والاجتماعيات والثقافيات وما إليها، وقد يكون من المفيد ومن الممتع فيما نحن بصدده أن أحاول إطلاع المستمعين على كيفية مباشرة السلف لتلك الشئون في المدن العربية، أو بعبارة أخرى: على أحكام المدن العربية.
والغاية من هذه الأحكام: حفظ الدين وسياسة الدنيا، فيتعين على صاحب السلطان أن ينشئ الوظائف اللازمة لبلوغ هذه الغاية، أو المؤدية - كما نقول في اصطلاح عصرنا الحاضر - للخدمات المختلفة الضرورية والكمالية لحياة المجتمع المدني، وهذه الوظائف كانوا في الماضي يعبرون عنها بالخطط، وسأقتصر في الحديث على الخطط المتعلقة بالقضاء والمظالم، الحسبة، محاولين إظهار ما بينها من فروق، ومختتمين الحديث ببيان وجوه القوة والضعف في النظام في جملته.
هذا، ومما هو جدير بالملاحظة أن «الحسبة» بالذات نالت من انتباه الناظرين في التاريخ العربي حظا كبيرا، كما لو كانت أهم الخطط، أو أن متوليها - المحتسب - أهم من في المدينة، وأدى هذا إلى اهتمام المشتغلين بذلك التاريخ بالبحث عن الكتب التي وضعت في مختلف العصور؛ لتمكين المحتسبين من حسن القيام بما ندبوا من أجله. (ومن هذه ما نشره الدكتور العريني، من أساتذة كلية الآداب بجامعة القاهرة، باسم «نهاية الرتبة في طلب الحسبة».)
ولا جدال في أن كتب الحسبة هذه تستحق كل عناية؛ وفي كونها من خير ما يصور لنا الحياة اليومية - إن صح التعبير - في المدن العربية، إلا أنها تقل أهمية في نظر الراغب في فهم الأوضاع والأحكام في تلك المدن عن المراجع الفقهية؛ فلم اجتذب إذن المحتسب - لا القاضي - نظر الجمهور؟ بالضبط لأن عمل المحتسب كان مع الجمهور، وعلى مرأى ومسمع من الجمهور، فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله، وينبغي على كل إنسان أن يتطوع لهذا ولذاك كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، ولكن بين المتطوع والمحتسب فرقا؛ فالأمر بالمعروف متعين على المحتسب بحكم ولايته الحسبة، لا يجوز له أن يتشاغل عنه، وعليه أن يجيب من استعداه.
وليس ذلك على المتطوع، وله أن يبحث وأن يفحص وأن يتخذ أعوانا وأن يرتزق على حسبته، وأن يعزر في المنكرات الظاهرة، وله أن يجتهد برأيه فيما تعلق بالعرف دون الشرع.
وقد شرح الماوردي في الأحكام السلطانية أن الدعاوى التي ترفع إلى المحتسب تتعلق ببخس وتطفيف في كيل أو وزن، أو بغش وتدليس في مبيع أو ثمن، أو بمطل الدين لمستحقه مع المكنة.
وبالجملة فمهمته إلزام الحقوق والمعونة على استيفائها، قيل: والأمر بالمعروف في حقوق الآدميين ضربان: عام وخاص؛ فأما العام فكالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو كأن يطرقه بنو السبيل من ذي الحاجات، ومهمته - المحتسب - في هذه وغيرها أن يحمل الناس على المصالح العامة في المدينة؛ مثل المنع، ومن المضايقة في الطرقات، ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل، والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها، وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة.
وأما الخاص، فالحقوق إذا مطلت، والنهي عن المنكر يتناول المحظورات والمعاملات المنكرة، ومما يؤخذ ولاة الحسبة بمراعاته من أهل الصنائع في الأسواق ثلاثة أصناف؛ منهم من يراعي عمله في الوفور والتقصير، ومنهم من يراعي حاله في الأمانة والخيانة، ومنهم من يراعي الجودة والرداءة، فأما من يراعي عمله في الوفور والتقصير فكالطبيب والمعلم؛ لأن للطبيب إقداما على النفوس يقضي التقصير فيه إلى تلف أو سقم.
وللمعلمين من الطرائق التي ينشأ الصغار عليها ما يكون نقلهم عنها بعد الكبر عسيرا، فيقر منهم من توفر علمه وحسنت طريقته، ويمنع من قصر وأساء من التصدي لما تفسد به النفوس، وتخبث به الآداب.
وأما من يراعي حاله في الأمانة والخيانة فمثل الصياغة والحياكة والقصابين والصباغين؛ لأنهم ربما هربوا بأموال الناس، فيراعي أهل الثقة والأمانة منهم فيقربهم، ويبعد من ظهرت خيانته ويشهر أمره؛ لئلا يغتر به من لا يعرفه.
وأما من يراعي عمله في الجودة والرداءة، فلولاة الحسبة أن ينكروا عليهم في العموم فساد العمل ورداءته، وإن لم يستعدهم أحد من الناس في ذلك، كما أن لهم هذا الإنكار في عمل مخصوص اعتاد الصانع فيه الفساد والتدليس، فإذا استعداه رجل وتعلق بدعواه عزم، وافتقر العزم إلى تقدير أو تقويم لم يكن للمحتسب أن ينظر فيه لافتقاره إلى اجتهاد حكمه، وكان القاضي بالنظر فيه أحق، أما إذا لم يفتقر العزم إلى تقدير أو تقويم واستحق فيه المثل الذي لا اجتهاد فيه ولا تنازع، فللمحتسب أن ينظر فيه بإلزام الغرم، ولتأديب الصانع على فعله؛ لأنه أخذ بالتناصف وزجر عن التعدي.
هذا وقد عبروا عن الفرق بين الحسبة والقضاء أجمل تعبير، قالوا: إن للناظر في الحسبة من سلاطة السلطة فيما يتعلق بالمنكرات ما ليس للقضاء؛ لأن الحسبة موضوعة للرهبنة، والقضاء موضوع للمناصفة، فهو بالوقار أحق، وعلى هذا فبين الحسبة والنظر في المظالم شبه من حيث إن موضوعهما مستقر على الرهبنة المختصة بسلاطة السلطة وقوة الصرامة، ومن حيث جواز التعرض فيهما لأسباب المصالح والتطلع إلى انكسار العدوان الظاهر، والفرق بينهما أن النظر في المظالم موضوع لما عجز عنه القضاء، والنظر في الحسبة موضوع لما رفه عنه القضاة.
والقاضي - لا المحتسب - ينظر في الحقوق التي يتداخلها التجاهد والتناكر؛ لأن الحاكم في هذه يقف على سماع بين وإحلاف يمين، ولا يجوز للمحتسب أن يسمع بينة على إثبات الحق، ولا أن يحلف يمينا على نفي الحق.
وقد استقر الأمر في المدن العربية على أن يجمع القاضي على الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين؛ مثل النظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه، وفي وصايا المسلمين وأوقاتهم، وتزويج الأيامى عند الأولياء على رأي من رآه، والنظر في مصالح الطرقات والأبنية، وتصفح الشهود والأمناء والنواب، واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والحق؛ ليحصل له الوثوق بهم، وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته ونوابغ ولايته.
وأما النظر في المظالم فكانت وظيفته ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء، وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة، ومن الخلفاء من باشرها بنفسه، ومنهم من أضافها للقضاء، كما أن منهم من جعلها لصاحب الشرطة، ثم جعلت فيما بعد في يد من عرف بالوالي، وهي في خلال هذه الأطوار فيها توسع عن أحكام القضاء، وأصبح فيها للتهمة في الحكمة مجال، وأصبحت تفوق العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم، ويحكم فيها - كما قالوا - بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية.
وبعد؛ فهذا وصف موجز لحكومة المدينة العربية في ماضيها الطويل، فما هي كلمة الحق في أمرها ... لا جدال في أنها حققت الخير للناس، وبدأت المدينة العربية مكانا عظيما وذكرا حسنا، ولا جدال في أن قضاتها أقاموا بأحكامهم صرحا للعدالة جليل الشأن، وأنهم عرفوا كيف يصونون الحقوق، ويتوخون المصالح العامة.
ولا جدال في أن محتسبيها صحوا المستهلك، أي مجموع الناس، وضربوا على أيدي المطففين والغشاشين والمدلسين والخائنين، ولا جدال في أن الناظرين في المظالم حفظوا الأمن وصانوه، لا جدال في هذا كله، ولكن للصورة جانب آخر، كما يقولون، فهذا المحتسب قد يجاوز حدود المصلحة، وقد ينتهي به الأمر إلى إرهاق الناس باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولنا أن نسأل: أكان من المستطاع دائما أن يكون للمدينة محتسب يعرف من أسرار الطب وطرائق المعلمين والصناع ما يمكنه من أداء عمله على الوجه المعقول؟
وهذا الناظر في المظالم لا نستطيع إلا أن نقول عنه: إنه صان الأمن بالإرهاب، لا بإنفاذ القانون، وربما جاز لنا أن نقول: إن الناظرين في المظالم على تنوع أسمائهم هؤلاء أساءوا إلى الحياة الإسلامية كما عرفها التاريخ أكبر إساءة، وكانوا أسوأ من هدر الحقوق وهدم القانون وضيع الكرامات الإنسانية.
والمدينة العربية لم تملك أداة واحدة وهيئة واحدة للإشراف على مصالحها ومرافقها، كما تملك الآن في مجالسها البلدية، كما أنها لم تملك طرائق منتظمة للرقابة على أصحاب الوظائف فيها، أو للانتصاف من جورهم وتعسفهم، وجملة القول أن حكومة المدينة العربية افترضت ثبات الظروف المادية والمعنوية، افترضت عدم النمو وعدم التغيير، فإذا ما عرض لها عارض من قحط أو وباء أو تغلب عدو انهارت انهيارا تاما، على أن تاريخها ترك لنا في الوقت نفسه فصولا مجيدة من السعي للخير وفعله، من حفظ الدين وسياسة الدنيا، ومن قدر لا يستهان به من التوفيق بين سعادة الفرد ومصلحة الجماعة.
الفصل الثاني
رجال غيروا وجه التاريخ
سقراط ... حياته وموته
لنا في حياة سقراط عظات وهو - ميتا - أوعظ منه حيا، هذا الرجل الدميم الفقير ابن البناء والقابلة غير التاريخ دون أن يعمد إلى شيء من ذلك، ودون أن يخطر على عقله أنه يفعل ما يؤدي إلى ذلك، كان كل ما فعل أن يسأل الناس أسئلة معدودات، ويسألها صباح مساء، ويوجهها لرجل السياسة وللصانع وللمتصدي للتعليم، ولا يثنيه عن توجيهها شيء يهمل شأنه ويهمل ذويه، سخرية المرحين لا تزعجه كثيرا، وغضب الذين يكشف عن جهلهم أو سوء رأيهم أو ارتباك تفكيرهم أو مغالطاتهم لا يخيفه، وكيف يخاف من لا يخشى الموت؟ وكيف يخشى الموت من يؤمن بأن الله آتاه الحكمة، وأنه أمره أن يحث قومه صغيرهم وكبيرهم على أن يعرفوا أنفسهم، على ألا يهتموا إلا بما هو جدير بالاهتمام، وأي دليل يجب على الإنسان أن يستصحب في سفره الطويل، أيسترشد بإلهام من ضميره، أو عليه أن يبحث عن المرشد فيما حوله؟ والكمال أين يطلبه الإنسان، أيطلبه بمجاراة نفسه يترك لها العنان لتبلغ به ما شاء لها هواها؟ أم يكون الكمال بكبح جماح النفس والعمل الطيب؟ أهو مما يمليه العقل أو هو مما يفرضه سلطان خارجي؟
إن الفضيلة وحدها هي الجديرة بالطلب، وهي التي تؤتي جميع الخيرات، لقد كان سقراط في حياته وفي موته حدثا فريدا في تاريخ الإنسانية، كان مواطنا أثينيا يؤدي ما يفرضه نظام المدينة، خدم في الجيش وفي هيئات الحكم المختلفة، ولكنه كان أيضا وفي نفس الوقت مثال الإنسان المتحلي بالسمو الخلقي المنجذب نحو الكمال، وبين المواطن والحكيم تنازع وتجاذب تولدت فيهما فكرته الأخلاقية السياسية، والفكرة في مبتدئها ثابتة الأصل فيما هو واقع، وهي في منتهاها تتجه نحو أسمى ما يكون - وقد تمثل التنازع بين المبتدأ والمنتهى في حياته، وتمثل أيضا في موته - فهو شهيد التنازع بين ما يجب على المواطن من إطاعة لقانون المدينة الوضعي، وما يجب على الإنسان من طاعة الله.
قال سقراط: في مستهل حياتي أولعت ولعا شديدا بذلك الفرع من فروع المعرفة، الذي نعرفه باسم العلم الطبيعي، فعددت حينذاك علما ساميا أن أتعرف على الظواهر، وأن أتحرى علة وجود كل واحدة منها، وعلة انحلالها، وكنت أجهد عقلي باحثا في صدق النظرية القائلة بأن الكائنات الحية تنشأ عن تفاعل الحرارة والبرودة تفاعلا من نوع التخمر، أو في القول بأن أداة الفكر هي الدم أو الهواء أو النار، أو في القول الآخر بأن المخ هو الذي يمكننا من السمع والبصر والشم، كما أني كنت كثير التفكير في التاريخ الطبيعي للمجموعة الشمسية ولكوكبنا بالذات، وقد انتهى بي كل هذا إلى اليقين بأني لا أحسن هذه البحوث وأمثالها، بل إني أقل الناس جميعا إحسانا لها، ثم حدث في يوم من الأيام أني سمعت الفيلسوف أناكسا جوراس يقرأ من كتاب له قوله: إن العقل هو مدبر الكون، وأنه علة كل شيء، فقبلت هذا وفرحت به، وبدا لي أنه الحق، وبدا لي أن نظام الكون يدل على أن عقلا يدبره نحو أسمى غاية ممكنة.
وهكذا عرف سقراط أن العلم الطبيعي لا يفسر كل شيء، بل عرف أن أهم الأشياء لا يعرض لها هذا العلم بالمرة، وهكذا انتقل من البحث الطبيعي للبحث الروحي، للبحث عن الخير والحق.
واضطرب الأمر في أثينا، انقطع ما سادها زمنا من وئام بين السياسة والثقافة، وغلب على أهلها حب التغلب، فحاولوا الاستبداد بالمدن الأخرى، وأخفقوا في ذلك آخر الأمر إخفاقا شديدا، وأفسدت الهزيمة على الناس أصالة الرأي وسداد النظر، فمنهم من خشي التعرض للقديم، واستنكر جميع الدعوات صالحها وطالحها، من ذلك ما فعله أريستوفانين في مسرحيته المشهورة «السحب» من الجمع بين سقراط والسفسطائيين في كفة واحدة، وقد صور الكاتب سقراط في تلك المسرحية رجلا غريب الأطوار، سخيف التصرف، مهملا لشأنه، مبشرا بالتقدم، جاحدا بوجود الآلهة، ومنهم - وهذه كثرتهم - اندفعوا في تيار الخصومات السياسية، وكان سقراط ضحية هؤلاء وأولئك.
وهذه الحال التي آلت إليها الديمقراطية الأثينية هي ما حمل أفلاطون وأرسطاطاليس على أن يقفا منها الموقف المشهور في فلسفتهما السياسية، كرها منها موقفها المعادي للثقافة، وكرها منها تفضيلها التسلط على المدن الأخرى على انتشار آدابها وفنونها ومثلها العليا، وكرها هزيمتها في حربها، وكرها - أخيرا - إعدام سقراط.
حمل هذا كله الفيلسوفين على التبرؤ من كل ما أدى في القرنين الماضيين إلى عظمة أثينا الاقتصادية والسياسية، وأخذا يدعوان إلى أن السبيل الوحيد لبقاء المدن اليونانية هو تعاون خصمي الديمقراطية الأثينية اللدودين: الفلسفة الأثينية من جهة، والنظام الاجتماعي الأسبرطي من جهة أخرى.
واتهم سقراط بأنه يخوض في كل شيء، يخوض في كل ما هو فوق الثرى وما تحت الثرى، ولا يؤمن بآلهة المدينة، ويلبس الحق بالباطل، ويضلل الشباب، وقدم للمحاكمة، وقضاته مئات يختارون بالقرعة طبقا لنظام المدينة.
ووقف سقراط أمام قضاته والحاضرين قال: يقول متهمي: إني خطيب بارع، فخذوا حذركم مني، إن كانوا يعنون ببراعة الخطاب قول الحق فأنا حقيقة خطيب بارع، ولا يليق بي وقد بلغت من السن السبعين أن أختلق، أو أن أموه، أو أن أكذب كما لو كنت حدثا طائشا، لقد قالوا عني: إني رجل يجيل الفكر في العلويات وفي السفليات، وإني أزين للناس الباطل عامدا، وأسوأ ما في هذا الاتهام أنه قد يحمل الناشئين على سوء الظن بالباحثين عن الحقيقة، فيتصورونهم جاحدين، والواقع أنني لا أخوض في تلك العلويات وتلك السفليات، وليس هذا لأنني أحتقرها، ولكن لأنني لا أخوض فيما ليس لي به علم، ولقد حاولت أن أتبين من هم متهمي، فلم أستدل عليهم، وحاولت أن أستدل على من أضللت فلم أهتد إلى واحد منهم، وأنا أتقاضى على تعليمي أجرا، وشاهدي على صحة قولي فقري.
وقد تقولون: إذا كنت لا تختلف عن سائر الناس فما الذي أدى إلى وقوفك اليوم موقفك هذا؟ سؤال في محله، وإليكم جوابي: لقد اشتهرت بالحكمة، بل وقد شهد بأني أحكم الناس من استخار الآلهة في دلفي، وأخذت بناء على هذا أفتش عمن هو أحكم مني، فتشت عنهم بين رجال السياسة، وبين أصحاب الصناعة، أي عند جميع الذين اشتهروا بها وبحذقهم صناعاتهم، فكرهني الناس؛ لأني كشفت عن حقيقة باطنهم، وقد تقولون: ألا تستحي من كونك حييت حياة انتهت بك إلى موقف سينتهي إلى الموت؟ وأنا أقول: إن المهم هو ما وقف من أجله الإنسان هذا الموقف، وليس المهم هو أن تكون خاتمته الموت ... والوقع أيضا أنه ليس من المحقق أن الموت هو أسوأ ما يمكن أن يصيب الإنسان، وليس من المحقق أنه خير ما يصيبه، والأكيد أن أسوأ ما يصيب الإنسان الجهل الذي يحمله على أن يتوهم أنه يعلم ما لا يعلم.
وقد تطلقون سراحي مشترطين على أن أكف عما أنا فيه، ولكني أرفض ذلك، وليس هذا لأني لا أحبكم أو لا أتمنى خيركم، ولكنني أطيع الله ولا أطيعكم، فما دمت حيا فإني أبقى محبا للحكمة، أبقى حاثا صباح مساء الصغير والكبير على عدم الاهتمام بالمال أو بالجسد؛ لأن المال لا يثمر الفضيلة، بل إن الفضيلة تؤتي جميع الخيرات.
إني أعرف أني سأموت أو أنفى أو أحرم من حقوق المواطنين، ولكني لا أعد هذه شرورا عظيمة، إن متهمي لن يسيئوا إلي بقدر ما سيسيئون إلى أنفسهم بقتلهم رجلا ظلما، وأنا لا أدافع إذن عن نفسي بقدر ما أنا أدافع عنكم، وما أنا إلا كدابة الأرض توقظ النائم والغافل - رسالة إلهية - أهملت في سبيل القيام بها أمري وأمر ذوي.
وقضت أغلبية غير كبيرة إدانته، وطلب إليه أن يقترح لنفسه عقوبة غير الموت، وألح عليه أصحابه أن يفعل ذلك، فاقترح أن يحكم عليه بغرامة مالية صغيرة - وكأنه كان في مجلس الحاكم لا مجلس المحكوم عليه - أو كأنه تعمد ألا يجد القضاة مناصا من الحكم بالإعدام، قال: إن الغرامة المالية لا يستطيع دفعها لفقره، وقال: إنه يكره الحبس ويكره الإبعاد عن وطنه أثينا، فالموت أفضل.
وختم كلامه: والآن قد حانت ساعة الفراق، أنا إلى الموت وأنتم إلى الحياة، وأي النهايتين أفضل، علم هذا عند الله وحده.
الرواقيون وسيادة العقل
يقرر مؤرخو الحكمة من العرب أن حكماء اليونان سبع فرق، سميت بأسماء اشتقت لها من سبعة أشياء؛ أحدها: من اسم الرجل المعلم للحكمة، والثاني: من البلد الذي فيه مبدأ ذلك العلم، والثالث: من اسم الموضع الذي كان يعلم فيه، والرابع: من التدبير الذي كان يتدبر به، والخامس: من الآراء التي كان يراها في علم الفلسفة، والسادس: من الآراء التي كان يراها في الغرض الذي كان يقصد إليه في تعلم الفلسفة، والسابع: من الأفعال التي كانت تظهر عليه في تعليم الفلسفة. والفرقة المسماة من اسم الموضع الذي اتخذه مؤسسها الحكيم زينون للتعليم هي فرقة أصحاب المظلة أو الرواق، سموا بذلك؛ لأن تعليمهم كان في رواق هيكل بمدينة أثينا - فهم الرواقيون - وفي عداد الرواقيين رجال نعتبرهم ممن غيروا التاريخ، طبع كل واحد منهم الرواقية بطابع خاص، وكانت الرواقية أكبر بناء فكري روحي عرفه العالم اليوناني الروماني الشرقي ابتداء من فتوح الإسكندر، إلى ما بعد انتشار المسيحية في ذلك العالم، وامتلاكها ألباب أمة قاطبة، بل وبقي الوصف رواقي في اللغات الأوربية دالا حتى الآن على طراز من السلوك الجدير بالإعجاب، سلوك الرجل لا يجزع ولا يهاب.
والرواقية كانت فلسفة خلت من الخوارق، ولكنها بعثت في قلوب معتنقيها ما يبعثه الدين في معتنقيه من تعلق وإيمان، وهذا ما حملنا على أن نعتبر قادتها رجالا غيروا التاريخ - فالأديان وما في حكمها من مذاهب الفكر هي التي غيرت التاريخ حقا - وما سواها فأثره قد يكون جليلا في وقته، ولكنه محدود بزمان وبمكان معينين.
ومذاهب الفكر منها ما يصلح لأزمنة الضراء ومنها ما يصلح لأزمنة النعماء، وأعظم المذاهب ما صلح للضراء والنعماء معا، أعظمها ما يدرع الإنسان لاحتمال الملمات، ولكنه يقيه في الوقت نفسه ما قد يجلبه الرخاء من بطر النعمة، أو من شره أو من أثرة، وكانت الرواقية كذلك، وأهم من هذا أنها نسبت الإنسان لا لمدينة بعينها، ولكن للعالم، بل للكون، ولا عجب فقد قام المذهب الرواقي في طور جديد من أطوار التاريخ، طور الفتح الإسكندري، وزوال المدينة العتيقة، وارتقاء العلوم الطبيعية.
ولا عجب أن نجد بين قادة المذهب حكيما يعلم في أثينا، ولكنه ولد في قبرص، وينتسب فيما يقال إلى أصل فينيقي، أي أصل غير يوناني، وهو زينون مؤسس الرواق على المشهور، كما نجد أيضا بينهم عبدا أعرج هو أبيقستيتوس، وكما نجد أيضا شيشرون أخطب خطباء الجمهورية الرومانية، وكما نجد أخيرا القيصر الروماني مارك أرويل، حكيم معلم، ورجل جرى عليه الرق وعذبه مولاه، والخطيب العالي الصيت الذي شهد الفصول الأخيرة من الجمهورية، وقتله الذين قتلوها، والقيصر المطلق السلطان يعنو لسلطان الواجب، ويطيل النظر في طبيعة الإنسان والكون، ويتخذ من نظره هذا نبراسا يهتدي به في سلوكه، ولكنه لا يحاول أن يتخذ من ذلك مذهبا رسميا يفرضه على المتعلمين أو على أصحاب المناصب، على أن الرواقية اتخذت سبيلها إلى الفقهاء العاملين في الشرائع الرومانية، وعلى أساس نظريتها في القانون الطبيعي بنى الفقهاء الكثير من شروحهم وتأويلاتهم، فأكسبوا تلك الشرائع ما اشتهرت به من خصائص المعقولية، وكان هذا مما أعان على جعلها قابلة لأن تكون شرائع عالمية، لا تتأثر إلا بعض التأثر بظروف الزمان والمكان.
انتقل زينون - مؤسس المذهب - إلى أثينا قرب ختام القرن الرابع قبل الميلاد، وأخذ يعلم الفلسفة في طور جديد من أطوار التاريخ، لقد زالت المدينة العتيقة بمواطنيها وآلهتها وشرائعها الخاصة، يجد الفرد من أبنائها في المدينة وفي العشيرة كل ما يلزم حياته، وحل محل المدن دولة الإسكندر ثم العالم الإسكندري المتحد حضاريا، المنقسم سياسيا، ثم العالم الروماني في أيام الجمهورية وفي أيام القيصرية - وهذا كله لم يحقق السلم الذي خطر على عقل الإسكندر وعلى عقل الحكماء - فقد كان في الواقع يقوم في الكثير من حقيقته على الاستعباد وعلى الاستغلال، ولكنه في الوقت نفسه أوجد إطارا اتسع لتقارب الشعوب والعقول، ومهد لعواطف التراحم والتعاطف وللأخوة الإنسانية التي تسمو على كل شيء، وتبقى حسية على الرغم من كل شيء، فاستطاع مذهب كالرواقية أن يجد في ذلك العالم اليوناني الروماني الشرقي المجال لانتشاره، واستطاع دين كالنصرانية وكالإسلام فيما بعد أن يجد العقول والقلوب مهيأة لرسالة الوحدانية.
ولما زالت المدينة العتيقة بدا كما لو أن المواطن قد فقد الدليل المرشد، وفقد بفقدانه أنظمة المدينة وقوانينها، ولكن الغنم كان أكبر من الخسارة، فحلت فكرة الإنسان محل فكرة المواطن، وحل الالتجاء إلى الضمير تستمد منه الهداية محل قانون الجماعة، وحل قران الحياة بالطبيعة محل الفصل بينهما، بحيث أصبحت القوانين الطبيعية هي قوانين الحياة، وهي بذلك أساس جديد للأخلاق وللسلوك عند الرواقيين.
اطمأن الرواقيون اطمئنانا إلى حقيقة وجود الأشياء، بل والمعاني، وإلى أن الإدراك بالحواس خليق بأن يعتمد عليه، وقالوا بأن لا خير إلا ما هو خير وأن لا شر إلا ما هو شر، ومعنى هذا أن ما يهم حقا هو الإنسان وحده، وما التشاريف وما المال وما الصحة إلا إضافات تضاف إلى الإنسان، وتقديرها لا يتوقف عليه، بل على غيره، وقد يقال: ولكن الناس يطلبونها ويغالون في شأنها، ألا يدل ذلك على قيمتها؟ لا يدل على شيء، فإن حكم الإنسان عليها تثوب بتأثره بها كالقاضي بحكمه متأثرا برشوة أو ما ينيبه وإن شئت حكما عادلا، فارجع إلى التاريخ، هل سمعت عن رجل يطريه المؤرخون لأن عمره طال مثلا؟ لا: إن التاريخ يسجل بالحمد للرجال بطولتهم ومآثرهم، وتفاوت الناس في الدرجات أو الألقاب مثلا؟ أيسجل التاريخ مثلا بطولة القائد وحده فيهمل بطولة الجندي البسيط؟ لا، وقد يستطيع إنسان أن يؤذي إنسانا آخر، ولكن لا يستطيع أن يجعل منه رجلا خيرا أو رجلا شريرا، وكيف يكون الإنسان خيرا؟ يكون ذلك بأداء وظيفة الإنسان على وجهها الحق، ووجهها الحق هو نتيجة حركة الطبيعة نحو ما هو خير، وهي حركة تتجلى في نماء البذرة الدقيقة إلى شجرة باسقة، ونماء الجرو الأعمى إلى كلب الصيد، ونماء القبيلة الوحشية إلى الشعب المتحضر، فعالم الطبيعة إذن يدبره عقل شائع في كل جزئيات الكون، يسوده النظام والتعاطف.
لقد أخذوا على الرواقيين مآخذ، أخذوا على الأوائل منهم نوعا من التعالي على الناس؛ إذ كانوا يميزون بين الحكماء وغير الحكماء، وأخذوا عليهم قدرا من الغلو في الترفع عن المشاعر والعواطف الإنسانية العامة، من ذلك ما زعموه من أن الذي يهم وحده في العمل هو الاجتهاد في أدائه لا نتيجته، مثال ذلك: أنك إذا أضنيت نفسك في مكافحة وباء اكتسح قرينك فليس المهم نجاحك أو إخفاقك، إنما المهم ما بذلت في تلك المكافحة، وإذا ما ألم بصديق لك علة فأنت تعطف عليه أو تبذل له العون، والمهم هو بذل العطف والعون، وقد شبه أحد النقاد الرواقيين في هذا بالرسول يحمل هدية لرجل لا يعرف عنوانه على وجه التحديد، ويبحث الرسول عن المهدى إليه ويجهد نفسه، ولكنه لا يستطيع أن يهتدي إليه، فيعود بالهدية لصاحبها غير مكترث بالنتيجة بعد أن أدى واجبه تماما، وفي هذا التشبيه شيء من القسوة، وإنا لو ذهبنا إلى أقوال أكثر قادتهم لوجدنا فيها بساطة نبيلة: جاء في تأملات مارك أوريل، ولنذكر أنه سطر أغلبها في خيمته في ميادين القتال، فقد قضى العشرين عاما التي جلس فيها على عرش القيصرية محاربا لحشود القبائل المتبربرة، ولنذكر أيضا أن ساعات العمل كانت في أكثر أيامه لا تنقص عن ست عشرة ساعة، نقرأ منها: «من الناس من إذا أسدى آخر إليه يدا يسجل عليه هذا، ومنهم من إذا أسدى إليه يدا لا يسجلها ولكنه لا ينساها، ومنهم ثالث يسدي إليه دون أن يلحظ أنه يفعل شيئا، هو كالكرم تثمر قطف العنب دون أن تعرف أنها تفعل ذلك، وهي على استعداد دائما لأن تثمر من جديد.»
الحسن البصري وأهل السنة والجماعة
أبو سعيد الحسن بن أبي الحسن البصري، نحفظ عنه عظات بليغة مثل: بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا، ومثل: أمتكم آخر الأمم، وأنتم آخر أمتكم، ولقد رأيت أقواما كانوا فيما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم فيما حرم الله عليكم منها، ومثل: ما رأيت يقينا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت، أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي، فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذتها وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز، فسأله، فرقق له الشعبي، وقال له: قارب وسدد، فإنما أنت عبد مأمور، ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن، وقال: ما تقول يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا بن هبيرة، خف الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله، يا بن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد، وإن يزيد لا يمنعك من الله، يا بن هبيرة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله تعالى، فما وافق كتاب الله فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه، فإن الله أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه.
فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن، وقال: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة، وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر للشعبي بألفين، فقال الشعبي: رققنا له فرقق لنا، فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما اجتمعوا فرقها، وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها. له من هذا وأمثاله الكثير، ولكن ليس هذا كل ما هنالك، فإن أكثر المبادئ التي حركت الرجال والجماعات في تاريخ الأمة تتصل بعصر الحسن البصري، وبالحسن البصري في عصره، وأهم من هذا الاتصال أن الحسن البصري وقف من هذه المبادئ التي فرقت الناس موقف من استطاع أن يجمع أكثر هذه الأمة على موقف وسط، هو أصل ما نعرفه في التاريخ باسم موقف أهل السنة والجماعة.
ولم يكن التوسط عند الحسن يفيد التلفيق أو الأخذ من كل شيء بطرف، لا، لم يكن الأمر كذلك، بل كان التوسط عنده يرجع إلى أن يرتفع الحكم على الأحداث وعلى الرجال عما هو زائل من الأغراض متفقا مع أثر الطبقة الأولى من السلف، مبتعدا عن عوامل الفرقة.
فرفع الحسن بذلك كله للحق راية، قد يكثر الرافعون لها وقد يقلون، ولكنها تظل أبدا مرفوعة حتى لو حال حائل - أحيانا - دون أن يراها جيل من الأجيال.
وقد تهيأ للحسن البصري أن يكون الرجل الذي كان له في عصره هذا الموقف بحكم ظروف وأسباب، كان من الموالي، وكان من التابعين، وكان من أهل البصرة، وعاش في عصر الفتن الكبرى، سبي أبوه إبان الفتوح العظمى من ميسان إلى المدينة المنورة، وأصبح مولى لزيد بن ثابت الأنصاري من علماء الصحابة الستة أو السبعة المشهورين، وتزوج المولى من أمة لأم سلمة، إحدى أمهات المؤمنين، فأنجبا الحسن في السنة الحادية والعشرين من الهجرة، وشب في وادي القرى، ثم سكن البصرة، وعرفه الناس سيدا من سادات التابعين، أدرك سبعين رجلا ممن شهدوا بدرا، وعرفوه ورعا تقيا قوي الخلق فصيحا، اعترض على استخلاف معاوية ابنه يزيد، وأنكر على الحجاج وعلى عبد الملك بعض أعمالهما، كان في الخطابة ندا للحجاج وراوية ثبتا للحديث، قاصا من طراز غير طراز قصاص ذلك الزمان، يجلس في آخر المسجد بالبصرة وحوله الناس يسألونه في الفقه، وفي حوادث الفتن التي كانت في عهده، ويحدثهم بما صح عنده من حديث، ويقص عليهم فيعظهم ويذكرهم ويحذرهم وينذرهم.
وكانت الدنيا إذ ذاك في إقبال، وحب الترف قد غزا جميع طبقات المجتمع.
ومسلك الحسن بوأه مكان الصدارة بين الزهاد من التابعين، والعصر - كما قلت - عصر فتن بدأت بمقتل عثمان رضي الله عنه، وقد صدق الجاحظ حين قال في قتل عثمان وفي قاتليه: «لا جرم لقد احتلبوا به، وما لا تطير رغوته، ولا تسكن فورته، ولا يموت ثائره، ولا يكل طالبه ... وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا - عليهما السلام - غلا غليانه، وقتل سافحه كدمه رحمة الله عليه.»
ثم ما كان بين الإمام علي - عليه السلام - وبعض كبار الصحابة، وما سفك من دماء في واقعة الجمل، وفي صفين، وفي النهروان، وما صحب هذا كله من خلاف على مبادئ أساسية.
وقد وقع هذا أو أكثره في العراق، يتساءل الناس من المخطئ ومن المصيب؟ وانتقلوا من الحكم عما هو واقع إلى أبحاث دينية في مصير مقترف الكبيرة، في الجبر والاختيار، وما إلى ذلك، وتفرق الناس فرقا؛ خوارج وشيعة ومرجئة وزيدية ومعتزلة، وهذه ستتطور وتتفرع، كل هذا والإضراب منتشر حول المطالبة بحقوق أهل البيت، وحركات ابن الزبير، والمختار، وابن الأشعث، وزياد والحجاج ومن شاكلهما من عمال بني أمية يمعنون في القمع بيد من حديد، وفي تلك الظروف عاش الحسن البصري عاملا على رأب الصدع، باذلا الجهد في جمع القلوب، سأله سائل ما تقول في هذا الطاغية، يعني الحجاج، فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل متشيع لبني أمية: ولا مع أمير المؤمنين، فقال الحسن: ولا ومع أمير المؤمنين، أي أنه اتخذ موقفا مستقلا نجح في النهاية في جعله موقف الكثرة في هذه الأمة.
ولم يعتمد في اتخاذ موقفه المستقل هذا على جاه أو مال أو عصبية، بل كان اعتماده على النفوذ المعنوي الذي اكتسب في مصره وفي عصره، فلم يقدر ذو سلطان على مسه بسوء، ولما توفي عام 110ه خرج أهل البصرة جميعا لتشييعه.
وقد قلت: إن أكثر المبادئ التي حركت الرجال والجماعات في تاريخ الأمة تتصل بعصر الحسن البصري، وبالحسن البصري في عصره.
ولذا قيل: إن أكثر الحركات الدينية في الإسلام يمكن ردها إليه.
وإنا إذ نردها إليه علينا أن نبدأ بتقرير حقيقة طالما غفل عنها الباحثون، فكثيرا ما كان همهم أن يلتمسوا أصولا لجميع المبادئ الفكرية والدينية الإسلامية في الثقافات الأجنبية التي اتصل بها المجتمع الإسلامي، وقد أدى بهم الإغراق في ذلك إلى سوء تصوير وسوء تأويل.
ومما لا شك فيه أن المنبع الذي نهل منه الحسن كان كتاب الله، وأن بذور التصوف التي بذرها كانت قابلة لأن تنمو نموا مستقلا عن المؤثرات الخارجية، وهذه البذور هي التي نما منها علم القلوب والخواطر، وله في الحياة الروحية الإسلامية ما له من مكانة.
وبهذه الذخيرة المعنوية أمكن للحسن أن يواجه الظروف القاسية التي واجهت الرجال في عصره: أيستطيع الرجل أن يصدر أحكاما على رجال كانوا من خيرة الرجال، من الصحابة الأجلاء، كان الحسن لا يتهرب من الحكم، ولكن كانت العبرة عنده في الأعمال طمأنينة الجماعة وراحة القلوب، وبذلك رفض أن يفعل فعل الخوارج، فيحمل السلاح ولو كان حمل السلاح لأجل تحقيق العدالة، أو أن يفعل فعل من خرج على الأمويين لغصبهم حق من هم أولى منهم بالخلافة، فتأليف القلوب عنده وجمعها على الحق لا يقتضي حتما العمل السياسي المشترك وما يماثله.
والشهادة عند الحسن تنال فيما به تنال، في الجهاد الأكبر، مجاهدة النفس، وهو بهذا يؤكد معنيين: يؤكد أولا وجوب إبلاغ الفرد كماله الخلقي بمجاهدته نفسه، ويؤكد ثانيا الصلات بين الفرد وبين الجماعة، فأما المعنى الأول فالطريق إليه واضحة المعالم: أداء الفرائض، التحلي بفضائل وبآداب تهذيبية، ورياضات روحية، وبمناسك خيرية، ومن هذه كلها يتكون أدب الدين، وأما المعنى الثاني: الصلات بين الفرد والجماعة، فيجمعه عند الحسن فكرة الصحبة بين أفراد الجماعة، وهي تتسع لتشمل لا الأحياء فحسب، ولكن لتشمل الأحياء والأموات والأجيال المتعاقبة، واتسعت عند بعض المتصوفة لتشمل أجيال الإنسانية جميعا.
وهكذا وضع الحسن البصري راية أهل السنة والجماعة، وهي راية مرفوعة دائما في هذه الأمة ، بالقوة أو بالفعل؟
أبو العلاء المعري ومعرفة الإنسان بالإنسان
أبو العلاء المعري يرى نفسه في ثلاثة سجون؛ لفقده ناظريه، ولزومه بيته، ولكون النفس في الجسم الخبيث كما قال، ومن الناس من يظن أنه كان في سجن رابع من أساليب التعبير المتكلفة التي صنعها لمنظومه ومنثوره.
وإلى هذه السجون نضيف سجنا آخر ليس لأبي العلاء، ولكن للفكر العربي عن أبي العلاء، وما أضيق هذا الفكر وما أتفهه في كل ما يتعلق بأبي العلاء ... رجل فذ، رجل موهوب حصل كل ما يستطيع زمانه أن يعلمه، وعمل على أن يعرف الإنسان على أن يصل إلى كنه الظاهرة الإنسانية، ظاهرة الإنسان في هذا الكوكب وفي هذا الكون، ومحاولته المعرفة يعبر عنها أولا فأول - إن صح القول - كالإنسان يفكر بصوت مسموع، رجل هذا شأنه وهذا جده وهذا جهاده، فماذا كان من أمره؟
كان هم النقاد الأقدمين التنقيب عن سرقاته وعن سرقات غيره منه، وهذا ضرب من النقد أراه مما أفسد، وأراه مما صرف الناس عما هو أجدى.
وكان هم اللغويين أن يتخذوا من منظوم أبي العلاء ومنثوره مادة نحوية صرفية، أو مادة كلامية، وهو ضرب من النقد نافع دون شك، بشرط أن يفهم على أنه أداة، على أنه وسيلة للتحقيق من المعنى الذي أراده الشاعر.
وكان هم المؤرخين والمترجمين مقصورا على التحقيق من كفره أو من إيمانه.
وهذا ولا شك أمر له خطورته وله ضرورته، ولكن بشرط أن يتسع البحث لبيان علاقات فكر أبي العلاء بصنوف التفكير الكلامية والفلسفية والتصوفية.
وهذا الاتساع لم يحدث، بل الذي حدث أن يستحضر المؤرخ بيتا من الشعر يستدل به على إيمان أبي العلاء بعقيدة من العقائد، ويستحضر آخر بيتا يستدل به على إنكاره إياها وهكذا.
ألا ترى إذن، أن الفكر العربي عن الرجل في سجن؟
ولقد ظل الأمر كذلك إلى أن أطلق طه حسين الفكر من ذلك السجن، إلى أن صنف العقاد فصولا قيمة نقدية، إلى أن درست بنت الشاطئ رسالة الغفران دراسة محررة، إلى أن حبب أديب جم التواضع أبا العلاء إلى الناس ... أديب فقدناه منذ عهد قريب: هو المرحوم كامل كيلاني.
لقد أطلق هؤلاء الفكر العربي فيما يتعلق بأبي العلاء، فبدأنا ندرك أن سجونه الثلاثة كانت سبيله للحرية أو سبيله للمعرفة.
فسبيل المعرفة هي سبيل الحرية، ومعرفة الظاهرة الإنسانية استمدها من نفسه، ولا يستطيع أن يستمدها من نفسه إلا بلزوم البيت، إلا بأخذ نفسه بما أخذها به من زهد ومن نسك.
وهذا يختلف عما نشاهده الآن من محاولات لتحليل أو شرح الظاهرة الإنسانية.
إن الذين يحاولون هذا الآن يقدمون عليه ولديهم ما كشف عنه العلم من أسرار الفضاء، وما جمعه الجيولوجيون والبيولوجيون عن أطوار الأرض وأطوار الكائنات الحية، وما يتصوره النفسيون عن أغوار النفس الإنسانية، وما كتبه الأثريون عن الحضارات القديمة، والإنثروبولوجيون عن مختلف الجماعات الإنسانية.
هذه الذخيرة العظيمة لم يكن لدى أبي العلاء وأضرابه منها إلا القليل الذي لا يعتد به، ولكن كان لديه ذخيرة من نفاذ البصر إلى خبايا الباطن لا يغني عنها أي علم بظروف الحياة الإنسانية الخارجية.
وصح بهذا ما يقال الآن عن أن شرح الظاهرة الإنسانية ينبغي ألا يقدم عليه إلا من كان في وقت واحد أخا دين وفلسفة وطب.
وتختلف البواعث التي تبعث الناس لطلب المعرفة؛ منهم من يطلبها للتحكم في الطبيعة وقهرها لخدمة الإنسان، ومنهم من يطلبها مدفوعا بالغرور والكبرياء، ومنهم من لا يملك إلا التأمل في الكون، لا يملك أن يستخدم عقله وأن يستنطق كل ما حوله؛ محاولة من جانبه لإخضاع الظواهر لقوانين وضوابط معقولة، وكان أبو العلاء على ما أرى من هؤلاء، كان لا يستطيع إلا أن يعرف، وقد وجد في نفسه وفيما حوله ما يدعو إلى المعرفة.
هو من شمال الشام من المعرة القريبة من حلب قاعدة الحمدانيين، مات سيف الدولة قبل مولد الشاعر بثمان سنوات، ولكن كانت آثار عهده لا تزال قائمة؛ شعر المتنبي، فلسفة الفارابي، نحو ابن جني، الجوار العربي الرومي القائم على تبادل المنافع في ظل حرب الإمامة الفاطمية في القاهرة، وسعيها نحو نشر مذهبها وسلطانها، القرامطة وحركاتهم في الجزيرة العربية وفي العراق والشام، جموع العشائر البدوية ومحاولات شيوخها إنشاء إمارات تقوم على العصبية القبلية، وفي المعرة وغيرها من الأمصار قدر من العصبية المحضرية، يجمع الأهلين في كل منها حول ما يقرب من الحكم الذاتي.
والعصر الذي ولد فيه أبو العلاء كان كما نرى عصر اضطراب، ولكنه كان يحتوي على جميع ما يصلح لتركيب ثقافة شاملة، وشرط هذا وجود المدرسة الجامعية تتولى التأليف.
ولم يقدر لأبي العلاء العمل في المدرسة الجامعية؛ كما أتيح فيما بعد للغزالي فعمل وحيدا.
اختار العزلة منذ أن قرر العودة إلى المعرة من بغداد، ولا يعرف على وجه التحقيق أكانت عودته لما بلغه من مرض أمه، أم لمهانة أصابته.
عاد معتزما لزوم داره، أبلغ أهل المعرة عزمه هذا، وطلب إليهم ألا يخفوا للقائه إذا بلغ القرية، ولا لزيارته إذا استقر في داره.
فاجأهم بهذا عندما انصرف عن العراق مجتمع أهل الجدول، وموطن بقية السلف، كما قال، على أنه لم يبين لم فعل ذلك، بل اكتفى بالقول بأنه بعد أن قضى الحداثة فانقضت، وودع الشبيبة فمضت، وحلب الدهر أشطره، وجرب خيره وشره، وجد العزلة في أوفق ما يصنع في أيام الحياة.
وقال: إنه استخار الله فيه بعد جلاته على نفر يوثق بخصائلهم، فكلهم رآه حزما، وعده إذا تم رشدا، وفرض على نفسه عدم الزواج والنسل، وحظر عليها أكل الحيوان وما يخرج منه، وعاش على العدس والزيت والتين والدبس، مع خشونة الملبس والفراش على أن الناس لم يتركوه، فأقبل عليه الطلاب من أبعد الأقطار الإسلامية، يطلبون عنده العلم والأدب، ومات وسنه الرابعة والثمانون.
وبعد: أفله رسالة؟ أكل ما خلف تشاؤم ونقد وسخرية فقط من قبيل المقام؟
مل المقام فكم أعاشر أمة
أمرت بغير صلاحها وأمراؤها
ظلموا الرعية واستجازوا كيدها
ويشربها على عمد مساء
يحرم فيكم الصهباء صبحا
ويشربها على عمد مساء
ما فيهم بر ولا ناسك
إلا إلى نفع له يجذب
أفضل من أفضلهم صخرة
لا تظلم الناس ولا تكذب
تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكموا أن تلقفوا
وكيف صعود إلى الثر
يا بلا سلم
كذب الظن لا إمام سوى العقل مشي
را في صبحه والمساء
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا أو شبيه جنون
والذي حارت البربة فيه
حيوان مستحدث من جماد
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
كان في هذا وأمثاله شفاء لما في صدره، ولكن ماذا كانت رسالة حياته، كانت السعي الدائب لفهم حقائق الأشياء، الاستناد إلى قوة المعنويات في عصر سادته القوة الغشوم، الطهارة والنقاء والبراءة من الإثم، الحرص على التقرب إلى الله، والإمعان في تسبيحه والثناء عليه، الضعف في القوة والقوة في الضعف، رد الأمور إلى بسطائها ...
وهل هناك أجمل من العصر الذي يذكر فيه أباه ليصلي عليه ويهدي إليه التحية، ويعلن اليأس من لقائه: أدعوك وعملي سيئ ليحسن، وقلبي مظلم لكي ينير، وقد عدلت عن المحجة إلى بنيات الطريق، وأنت العدل ومن عدلك أخاف يا من سبح له زرقة الأفق وزرقة الماء وحمرة الفجر وحمرة شفق الغروب، وإن كان الدمع يطفئ غضبك فهب لي عينين كأنهما غمامتا شتا تبلان الصباح والمساء، واجعلني في الدنيا منك وجلا لأفوز في الآخرة بالأمان، وارزقني في خوفك بر والدي وقد فاد بره إعداد الدعوة له بالغدو والآصال، فاهد اللهم له تحية أبقى من عروة الجدب وأذكى من ورد الربيع، وأحسن من بوارق الغمام تسفر لها ظلمة الجدث، ويحضر أغير السفاة، ويارح ثرى الأرض تحية رجل للقيا ليس براج: «يقول هنا إنه للقيا ليس براج، ولكنه يقول في موضع آخر»:
خلق الناس للبقاء فضلت
أمة يحسبونهم للنفاد
الغزالي وميزان العمل
حجة الإسلام أبو حامد الغزالي، أثره في التاريخ الإسلامي، هذا إن لم أقل في التاريخ الإنساني عامة، أن يضع للناس ميزان العمل، وهو التعبير الذي استخدم في الدلالة على التوازن الذي يجب أن يكون بين العلم والعمل، وهما معا طريق السعادة، على أن من العمل ما هو مسعد ومنه ما هو مشق ، وعلى أن من العلم ما هو نظري ومنه ما هو عملي، فالعلوم كثيرة وكذلك الأعمال، فهي مختلفة بالنوع ثم بالمقدار، وكذلك أيضا الخيرات والسعادات، فهي أنواع، وسعادة كل شيء في وصوله إلى كماله الخاص به، والكمال الخاص بالإنسان هو إدراك حقيقة العقليات على ما هي عليه، دون المتوهمات والحسيات التي يشاركه الحيوانات فيها، ولا يدرك شيء من هذا كله إلا بتزكية النفس وقواها وأخلاقها، وذلك بمجاهدة الهوى وتحري الخيرات والصوارف عنها.
فالسعادة مما ينبغي أن يطلب وأن يسعى إليه، والفتور عن طلب السعادة - كما قال - حماقة، والمجاهدة لا تكون بقهر النفس وجمعها على اعتزال العالم الزهاد والنساك، أو بتعذيب الأبدان، لكي تتخلص من علائق الدنيا وشواغلها، وإنما تكون المجاهدة بمعالجة النفس لتفضي إلى الفلاح، الفلاح هو الاهتداء إلى العلم وطريق تحصيله، وإلى العمل المسعد وطريقه، وهذا بتهذيب الأخلاق، وترويض النزوات النفسانية وبضبط الغضب، فتصير النفس مذعنة للعقل غير مستولية عليه، ويعرف الفرق بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال.
هذا ومن الناس من يتوهم أن مجاهدة النفس لا تحدث إلا في أحوال الأزمات، أي عندما يتعرض الإنسان لضغط طارئ، على أن الأمر أعم من ذلك، فالمجاهدة موقف مستمر يقوم على التيقظ والمجالدة والمرابطة - والحالتان كلتاهما يوجدان في حياة الإمام الغزالي نفسه، وقد وصفهما هو في كتابه «المنقذ من الضلال» - وهو من أجمل كتب حكاية الحال إطلاقا.
عاش الغزالي في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري في خراسان والعراق، وفي عصر اشتد فيه اضطراب الفكر الاجتماعي، تشعبت فيه آراء الفرق تشعبا كبيرا، ومنها من دعت إلى انقلابات اجتماعية، وقد بلغ من شدة الخلاف أن الدول الإسلامية قام بينها ما نسميه الآن الحرب الباردة، وأنها أخذت إذ ذاك تحاول أن تقيم نظامها على أساس ضيق من الفرق بدلا من إقامته على أساس السنة الجامعة، وكان لا بد لمواجهة أزمة الأمة إذ ذاك من ظهور إمام يسمو على الفرق، إمام يرتفع من حضيض النقلية إلى بقاع الاستبصار، إمام خير الطريقين؛ طريق الاشتغال بتحصيل العلوم، وطريق الاقبال بكل الهمة على الله تعالى - فأما عن اشتغاله بتحصيل العلوم فكان اشتغالا متوازنا، أدرك أن النفس إن لم تكن قد ارتاضت بالعلوم الحقيقة البرهانية، فإنها تكتسب بالخاطر خيالات تظنها حقائق تترك عليها، وأما الإقبال على الله، فمؤداه محو الصفات المذمومة والإخلاص.
وقد قدر الله أن يكون الغزالي إمام المائة الخامسة، على أنه لم ينهض بما ينهض به إلا بعد أن اجتاز أزمة نفسانية عنيفة، هي التي وصفها - كما تقدم - في كتاب المنقذ من الضلال، وكان لا بد قبل أن يتصدى لما تصدى له من أن يعرف نفسه وقواها وخواصها، فكيف - كما قال - يشتغل بمخالطة زيد من لا يعرف زيدا؟
أعد الغزالي ليتولى التدريس في مدرسة من المدارس الجامعية التي اهتمت الدولة السلجوقية بإنشائها؛ للمحافظة على سلامة الاعتقاد، وتولى التدريس أستاذا لامعا يختلف إليه من الطلاب ثلاثمائة طالب، ويرضى عنه أولو الأمر من أصحاب السلطان، ولكنه أخذ لا يرضى عن نفسه، قال: لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق الدنيوية، ولاحظت أعمالي وأحسنها التدريس والتعليم؛ فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار إن لم أشتغل بتلافي الأحوال، فلم أزل أتفكر فيه مدة، أصمم على الخروج من بغداد، أقدم فيه رجلا وأؤخر عنه أخرى، فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريبا من ستة أشهر، أولها رجب سنة ثمان وأربعمائة، وفي هذا الشهر جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار؛ إذ أثقل الله علي لساني حتى أعتقل عن التدريس، وأورثت العقلة في اللسان حزنا في القلب وضعفا في القوى، حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج، وقالوا: هذا أمر نزل بالقلب، ومنه سرى إلى المزاج، فلا سبيل إليه بالعلاج إلا بأن يتروح السر من المهم، ثم لما أحسست بعجزي التجأت إلى الله تعالى التجاء المضطر الذي لا حيلة له، فأجابني الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وسهل على قلبي الإعراض عن الجاه والمال والأولاد والأصحاب.
وتلطف الغزالي بلطائف الحيل في الخروج من بغداد، ودخل الشام وأقام بها قريبا من سنتين، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة، اشتغالا بتزكية النفس، وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى، واعتكف مدة في مسجد دمشق، ورحل منها إلى بيت المقدس، ثم تحركت فيه داعية الحج فأداه، وخفت حدة الأزمة، واستجاب إلى دعوة عياله ودعوة وطنه، وكان يحب أن تصفو له الخلوة، ولكنها كانت لا تصفو له إلا في أوقات متفرقة، ولكنه مع ذلك لا يقطع طمعه منها، تدفعه عنها العوائق، ولكنه يعود إليها، ودام على ذلك مقدار عشر سنين.
وقد كتب في خلالها كثيرا من كتبه، كما كتب فيها قسما كبيرا من أهم كتبه إطلاقا: إحياء علوم الدين، والكتاب رسم كامل شامل للحياة الكاملة المتوازنة التي يصورها الغزالي، وهو ثمرة اجتهاده ومجاهدته، جاهد نفسه فقدر على سياستها وضبطها وحصلت له بذلك الحكمة التي يسرت له التمييز بين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الصدق والكذب في المقال، وبين الجميل والقبيح في الأفعال، وتكونت له شخصية متكاملة على أتم ما يكون التكامل، يسعى ليعطي كل ذي حق حقه، راعى اختلاف الخلق والأديان والملل، وأحب أن يعرف ما لدى كل حزب، فلم يعتمد على ما يقال عنه، بل توغل وتقحم وتفحص بنفسه، وقد قال في ذلك: لا يقف على فساد نوع من العلوم من لا يقف على منتهى ذلك العلم، حتى يساوي أعمالهم في أصل العلم، ثم يزيد عليه ويجاوز درجته، فيطلع على ما لم يطلع عليه صاحب العلم من غور وغائلة، وبناء على ذلك لم يغادر باطنيا إلا وأحب أن يطلع على بطانته، ولا ظاهريا إلا وأراد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فلسفيا إلا وقصد الوقوف على كنه فلسفته، ولا متكلما إلا واجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيا إلا وحرص على العثور على صوفيته ، ولا متعبدا إلا وترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقا معطلا إلا وتجسس وراءه للتنبيه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
ولم يكتف بالتوغل والتقحم والتفحص، بل انتقل إلى تشييد صرح شامخ على أساس من العلم الذي يوثق به، وهو العلم الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، وعلى أساس من العمل - والعمل عنده اجتماعي الغاية دائما - لا يتم إلا في الحياة الاجتماعية، ففيها وحدها يمكن التعليم والتعلم، النفع والانتفاع، التأدب والتأديب، الاستئناف والإيناس، نيل الثواب وإنالته، التواضع والتجارب.
والفضيلة عنده وسط بين الإفراط والتفريط، فالشجاعة مثلا وسط بين الجبن والتهور، فالكمال في الاعتدال، ومعيار الاعتدال العقل والشرع معا، والخير ليس ما يقرره العقل وحده، بل ما يقرره العقل المتأدب بالشرع، وبعد؛ فهذا قليل في موضوع خطير؛ حجة الإسلام الغزالي وميزان العمل.
شيخ الإسلام ابن تيمية
رسالات الإصلاح التي انتشرت في أرجاء العالم الإسلامي، في الشرق وفي الغرب في الزمن الحديث، يمكن إرجاعها لشيخ الإسلام ابن تيمية. إمام القرنين السابع والثامن الهجريين، فهو - بحق - مؤسس حركات التجديد الإسلامي الحديث، ولا يصعب على الباحث أن يجد سلسلة الأستاذ متصلة بينه وبين الشيخ محمد بن عبد الوهاب، صاحب دعوة الإصلاح المشهورة في الجزيرة العربية، أساس الإمارة ثم المملكة العربية السعودية، كما لا يصعب عليه أيضا أن يصل بين ابن تيمية وبين الدعوة التي اضطلع بها في أيامنا القريبة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهذا كله على النحو الذي سيبين في هذا الحديث.
وابن تيمية كان من ذلك الطراز من الأئمة الذين قيل عنهم: «هم قوم خشن، تقلصت أخلاقهم عن المغالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجد وقل عندهم الهزل، وعرت نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الآراء إلى الروايات، وتمسكوا بالظاهر تحرجا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدققوا في العلوم الغامضة، بل وقفوا في الورع، وأخذوا ما ظهر من العلوم، وما وراء ذلك، قالوا: الله أعلم بما فيها من خشية بارئها.»
ولد تقي الدين أبو العباس أحمد في حراز في إحدى وستين وستمائة، ورحل به والداه عنها عند قدوم التتار - وكانوا إذ ذاك يعيثون في الأقطار الإسلامية فسادا - هم في شرقيها، والصليبيون والغلاة من أصحاب الفرق في ربوع الشام، ولم يكن في العالم الإسلامي يومذاك مكان يصلح أن يولي المسلمون وجوههم نحوه سوى مصر والشام يجتمعان في ظل سلطان واحد، ويحيا فيهما وحدهما التراث العربي.
ففي الشرق سلطان المغول، وفي الغرب كان قد قضي على البقية الباقية من سلطان المسلمين في الأندلس.
وكان آل ابن تيمية أفراد عائلة اشتهرت كابرا عن كابر بالعلم والخطابة والوعظ وخدمة القرآن، ولم يترك ابن تيمية ناحية من نواحي الثقافة إلا وقد كتب فيها - وكثيرا ما كتب وألف وهو نزيل السجون - وما أكثر ما نزل السجون - ألف الكثير من رسائله في السجن، أو في الطريق منه أو إليه، بعيدا عن المراجع والمصادر فهو - كما وصفت - من قوم خشن أنكر ما يرى وجوب إنكاره، لا تأخذه في الحق لومة لائم، وجاهد بقلمه ولسانه، وهو جهاد شاركه ويشاركه فيه كثير من الفقهاء من أمثاله، وجاهد في صفوف المقاتلة، وهو جهاد انفرد به دون فقهاء زمانه، فاشترك في مقاتلة التتار وفي مقاتلة أهل البغي المنتسبين لبعض الفرق، وكان في رأيه أن هؤلاء سهلوا على الصليبيين النزول في ثغور الساحل، كما سهل نظراؤهم اجتياح التتار أراضي الخلافة في الشرق، وشغف ابن تيمية بالتفسير شغفا عظيما، وتعلق بالسنة تعلقا كبيرا، وعنده أن الاستعصام بالكتاب والسنة يهيئ لصاحب اليقين النظر الواثق إلى شئون الفرد، وشئون المجتمع، ويمضي به النظر إلى الفصل في تلك الشئون على الوجه الذي تقتضيه المصلحة العليا للجماعة.
وبهذا استطاع هذا السلفي أن يضع أسس التجديد في المجتمع الحديث، وانتفى عنه بذلك ما وصفوه به من جمود ومن صلابة، وكان على استعداد ليقبل الكثير في سبيل الاجتماع تحت راية الكتاب والسنة، لا يسأل عن أصل السلطان أو طبيعته إذا قام صاحبه أو أصحابه بتحقيق المصلحة، وكذلك لا يرى بأسا في اختلاف الأقاليم، وفي اختلاف المعاملات، وأحوال الطوائف، إن لم تمس المصلحة العليا للجماعة.
بل وعمل على أن يجعل من تنوع العناصر أداة القوة، مثال ذلك: قبوله نظام العشائر في البوادي، وتوليه شيوخها بالإرشاد والتهذيب وحثهم على الهدوء والاستقرار، فخرج على الجمود الذي كان يسود إذ ذاك، والذي أذهب كثيرا من جلال الفقه الإسلامي.
وقد ظهر هذا بارزا في دراسته المشهورة للسياسة الشرعية، وقد ظهرت آثار هذه الحرية في آرائه الاقتصادية، وأصول المعاملات، وقد بين للناس في رسالته «الحلال» الأصول التي يجب أن يتبعوها في معاملتهم، وأنحى باللائمة على أولئك الفقهاء والمتصوفة الذين أرادوا نوعا من الورع أفرطوا فيه بغير دليل شرعي، حتى كاد يقلب وجوه المعاملات، ويصم الجماعة الإسلامية بأنها تتعامل في غير حل، وتعيش في غير مل، (على حد قول المرحوم الأستاذ عبد العزيز المراغي في ترجمته الجميلة لابن تيمية) وبالجملة فقد حاول أن يتحلل من الربقة التي وضعها بعض الفقهاء من التقيد بحرفية النص دون الرجوع إلى الروح التي أملته والظروف التي أحاطت به.
ولكن لا يكون ذلك إلا بالاستمساك بالعروة الوثقى، بالاعتصام بالكتاب والسنة، والتقدير لآراء السلف الذين حرصوا على نقل الدين إلى الخلف خاليا من كل شائبة.
يوضح موقفه عامة رأيه مثلا في الخوارج فإنه على الرغم من رميه لهم بالمروق عن الدين، نجده يقدرهم ويثني على حرصهم على مبادئهم وجهادهم فيما اعتقدوه سبيل الله، وهو يراهم المثل الأعلى لنشر المبادئ والقيام عليها واحتفاظهم بالقرآن الكريم، وإن كان ينعي عليهم إفراطهم في مجافاة السنة وفصلها عن القرآن، وعدم استغلالها استغلالا حسنا لو قاموا به لكانوا خير الناس تمثيلا لمبادئ المسلمين.
وقد عرض ابن تيمية في كفاحه لآراء من سبقه ومن عاصره، وتتبعها بالدرس والتمحيص، فكان عالما أصوليا فقيها محدثا خبيرا بالملل والنحل، مطلعا على الفلسفة، عالما بالتاريخ.
ووجه عنايته بالملل والنحل اعتقاده أن مبادئها كانت سببا في تلك الحركات الثورية الهدامة التي أدت إلى تفكك عرى الوحدة الإسلامية، على أنه استغل ما ورد في مقالات اللاإسلاميين أحسن استغلال، وصاغ على ضوء آرائهم وظيفة الإمام العادل، وفتح باب الاجتهاد والقواعد العامة لإصلاح الراعي والرعية، متكلما في كل هذا بلغة إسلامية على نهج الإسلام والسنة، شارحا إياه بما وسعه بيانه من القرآن وأحاديث الرسول وآراء السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وبما تقتضيه مصلحة المسلمين، وما تمليه روح الشريعة على أن الكفاح في سبيل الحق أثار عليه من أثار، وأغضب عليه من أغضب، وأوغر أعداؤه عليه صدر أولي الأمر، فأوهموهم أن ابن تيمية لا يخشى منه من الناحية الدينية فحسب، بل إن خطره من الناحية السياسية أبعد أثرا، وإنه لو أرخي له العنان لكان خاتمة مطافه إخراج المماليك من الحكم، كما فعل المهدي ابن تومرت في بلاد المغرب، فبدأ اضطهاد الحكام له سنة ثمان وتسعين وستمائة، وكان قد قارب الثلاثين.
وكان ذلك في دمشق، وفي السنة الخامسة من القرن الثامن بدأت المدة التي قضاها في سجون القاهرة والإسكندرية، ثم كانت الخاتمة في قلعة دمشق وفيها كانت وفاته.
قيل: ولما دخل الحبس وجد المحابيس مشتغلين بأنواع من اللهو، مضيعين بها الصلوات فأنكر الشيخ ذلك عليهم، وألزمهم بالأعمال الصالحة، وعلمهم من الدين ما يحتاجون إليه، حتى صار الحبس بما فيه من الاشتغال بالعلم خيرا من المدارس والزوايا، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وقد نقل أحد مؤرخيه رسالة منه لوالدته تطلعنا على جانب آخر من جوانب تلك الشخصية العظيمة، كتب إليها: «كتابي إليكم عن نعم من الله عظيمة ومنن كريمة وآلاء جسيمة، نشكر الله عليها، ونسأله المزيد من فضله، وتعلمون أن مقامنا الساعة في هذه البلاد إنما هو لأمور ضرورية، متى أهملناها فسد علينا أمر الدين والدنيا، ولسنا - والله - مختارين للبعد عنكم، ولو حملتنا الطيور لسرنا إليكم، ولكن الغائب عذره معه، وأنتم لو اطلعتم على باطن الأمور، فإنكم - والحمد لله - لا تختارون الساعة إلا ذلك، ونسأل الله العظيم أن يخير لنا ولكم وللمسلمين ما فيه الخيرة، ولا يظن الظان أنا نؤثر على قربكم شيئا من أمور الدنيا قط ، بل ولا نؤثر من أمور الدين ما يكون قربكم أرجح منه، ولكن ثم أمور كبار نخاف الضرر الخاص والعام من إهمالها، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب.»
وعلى الرغم من مخاطبة والدته بأنتم، وهذا أثر من آثار التحفظ في التحدث إلى الأمهات والآباء وعنهم، فالحنو العذب ظاهر في هذه الرسالة الجميلة، تطلعنا على الشيخ شديد الشكيمة ابنا بارا رضيا.
تولستوي بين الواقع والواجب
عندما مات رجل روسيا الكبير - تولستوي - منذ ما يقرب من خمسين سنة، حزن لموته قادة الفكر في بلادنا حزنا صادقا، رثاه شوقي، ورثاه حافظ، ورثاه نثرا في الجريدة الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان عنوان مقال الأستاذ: «مات الرجل».
لم حزن القادة لموت تولستوي حزنا صادقا؟ ما المناقب وما المآثر التي ذكروها له؟ ما العبر، ما العظات، ما المعاني التي استخرجوها من حياته ومن موته؟
تحدث شوقي عن بكاء العالم تولستوي، عن فقد الشعب نصيره، عن طوافه كعيسى بالحنان وبالرضى، عن أن لب الدين كان لديه، بينما لم يكن للمتصدين لخدمة الدين سوى القشور، ثم تخيل التقاء تولستوي بأبي العلاء في دار البقاء، وما كان من حديث القادم الجديد إلى المقيم القديم، يذكر تولستوي أنه سلك سبيل المترفين، وأنه نعم بمال وبنين، تمتع في الشتاء بالدفء في ظل شاهق، وفي الصيف بالجنة والغدير، ويذكر كضوء الشمس في كل بلدة ... ثم أجاب عما تساءل عنه أبو العلاء: هل غير الناس ما بهم؟ قال له: إن الناس هم كما عرفهم، وأضاف إلى ذلك وصفه لنفوذ المال في كل الأمور، ولحرص الناس على السلاح مع كثرة كلامهم على السلم، وفي ظل هذا الكلام كانوا إذا صادفوا شعبا آمنا أغاروا عليه، وختم الرثاء بالإشارة إلى ابتداء عصر الطيران إذ ذاك، فقال: إن العصر لما استقل البر والبحر مذهبا تعلق بأسباب السماء يطير ...
وكتب الأستاذ أحمد لطفي السيد كلمته عن تولستوي، حيث كان في قريته تحيط به أشباه المناظر التي كان يحبها تولستوي، ويعاشر أشباه الناس الذين كان يحبهم تولستوي، فلا شك أنه كتب في أليق ظرف من الزمان والمكان بالكتابة عنه، فرثاه كما يرثي المرء هذه الأرض الواسعة، ورثاه شاعرا بأن المصيبة بفقد هذا الحكيم لا تدمع عينا، كأنما هي تقع على العقول لا على القلوب، فأولى بوفاته أن تشبه بكسوف الشمس أو بخسوف القمر، أو بأية ظاهرة من تلك الظواهر الطبيعية التي أكثر ما تهتم لها عقولنا لتدبرها، وتعرف آثارها في الوجود، ومع ذلك فقد أكد الأستاذ إنسانية تولستوي، وحبه للسلام، وسماحة مسيحيته، ومواقفه الفلسفية والسياسية والاجتماعية، وختم مقاله، حسب تولستوي في أنه خالد الأثر في حكمته وتعاليمه.
وأما حافظ فقد بدأ قصيدته بالإشارة إلى رثاء أمير الشعر في الشرق لتولستوي، ومن مدح كثير من كتاب مصر له، وحافظ لا يبالي أن يقال عنه بعد أن أتى بعدهما «قد رثاه صغير» لا يبالي بذلك، فقد كان تولستوي عونا للضعيف، وحافظ ضعيف، وما له في الحياة نصير.
ولا يبالي أيضا باختلاف الناس في دعوته لعيسى: أهي قول ملحد أم قول بشير، على أن حافظ وهو صفر اليدين يقرر أن ثراء تولستوي رد عنه كيد أعدائه، وحافظ أيضا يصف التقاء تولستوي بشيخ المعرة ولكنه - على عكس شوقي - يجعل أبا العلاء هو المتكلم العارف بكل ما جرى من زائره، وبكل ما جرى عليه: تكلم عن بره وتقواه، وعن إحسانه وإجارته، وعن زهده، وعن كون إرادته السلام، وحياة الورى حرب، وعن محاولته دفع الشر والشر واقع، وعن طلبه محض الخير - ولا مناص من امتزاج الخير بالشر في هذه الدنيا - وختم كلامه:
أفاض كلانا في النصيحة جاهدا
ومات كلانا والقلوب صخور
فكم قيل عن كهف المساكين باطل
وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما رد عن فعل الأذى قول مرسل
وما راع مفتون الحياة نذير
وهكذا كانت نظرة شاعرين وفيلسوف لتولستوي عند موته، في ختام العقد الأول من القرن العشرين - وماذا نحن عنه قائلون بعد حروب عالمية طاحنة، وثورات اجتماعية شاملة، ومغامرات في عالم الفضاء مذهلة - نقول: إن قادة الفكر إذ ذاك والآن اهتموا بجانب الأعمال من حياة تولستوي أكثر من اهتمامهم بجانب أدبه؛ بل ومنهم من ظن أنه يمكن الفصل بين التعبير الأدبي عن شخصيته، واشتغاله بالدين أو الفلسفة، ومحاولته أن يحيا الحياة التي رآها وحدها جديرة بإنسانيته، وهذا الأديب الروسي الكبير الذي كان معاصرا له تورجينيف، هو نفسه يظن أن ذلك العمل مستطاع وواجب، ووجه له من فراش المرض مرض الموت نداء: أن اترك ما أنت فيه من اشتغال بالتصوف الأخلاقي، يا أكبر من أنجبت الروسيا - وعد للأدب - كان ذلك النداء بعد انقضاء خمس سنوات على الأزمة النفسية الكبرى التي انتابت تولستوي، عندما بلغ الخمسين من عمره، والتي صرفته إلى الفلسفة وإلى الكتب المقدسة، يلتمس فيها شفاء من علته، ومن حيرته، ومن عجزه، على أن الأسئلة والمشكلات التي أثارتها الأزمة النفسية عند بلوغه الخمسين بصورة محيرة معجزة لم تكن جديدة تماما، فقد سبق له أن عرض في قصصه الكبرى وعلى أفواه أشخاصها للأسئلة الكبرى، لم نحيا؟ ما سر حياتي، وما سر حياة الغير؟ كيف يجب أن أحيا؟ ما الموت؟ ماذا يجب أن أفعل لكي أنجو بنفسي ... وما إلى ذلك - لقد أثيرت هذه المسائل في أكبر قصصه الحرب والسلام، وقد ألفها ولما يبلغ الأربعين - وذهب فيها إلى ما أن يتوهمه الناس وما يتوهمه الذين يعرضون لتعليل أفعال الأفراد والجماعات من المؤرخين وغيرهم، لا يستقيم عند ذوي النظر السليم - واختار أن يصف مذهبه هذا بما يحدث في وقائع الحروب الكبرى - إذ الحرب أكثر إظهارا للعلاقات بين الأفراد والجماعات، وأوضح بيانا للعلل وللقوى من شئون حياة السلم.
وإذا وجب علينا أن ننظر إلى حياة تولستوي وحده، فإنه يتعين علينا أن نتعرض ونعترف بما كان للأزمة التي انتابته عند بلوغه الخمسين من أثر حاسم في تلك الحياة.
ينتمي إلى أسرة أرستقراطية غنية، والأرستقراطية لا تملك الأرض فحسب، ولكن تملك أيضا ما على ظهرها من بني الإنسان.
ونشأ يتيما ودرس بجامعة فازان، ثم لحق بالجيش ضابطا، واشترك في حروب القرم بين بلاده والدولة العثمانية وحليفتيها إذ ذاك بريطانيا وفرنسا ، وترك الجيش وعرف لهو المدينة، وعرف سعادة الأسرة، وساح خارج بلاده، ودرس وأحب حياة الأرستقراطية الريفية، وأقبل عنها وعن حياة الكتابة، قوي البدن قوي العقل لا يفوته شيء، قوة خارقة تنفذ من خلال وصف العمل العادي للإنسان أو الحيوان إلى ما وراء العمل من خصال، قوة تذهل وتخيف.
فماذا حدث عندما بلغ الخمسين، قال: إنه لا يدري لهذا سببا، فقد كان سعيدا، وفجأة أحس بأن ما كان يدفعه للحياة أصبح يدفعه للموت، وعندما أحب أن يشرح لنا ما كان، رجع للأمثولة البديعة التي نقرأها في كليلة ودمنة: فالتمست للإنسان مثلا، فإذا مثله مثل رجل نجا من خوف فيل هائج إلى بئر، فتدلى وتعلق بغصنين كانا على سمائها، فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر، فإذا حيات أربع قد أخرجن رءوسهن من أجحارهن، ثم نظر فإذا في قاع البئر تنين فاتح فاه، فنظر له ليقع فيأخذه، فرفع بصره إلى الغصنين فإذا في أصلهما جرذان أسود وأبيض، وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران، فبينما هو في النظر لأمره والاهتمام لنفسه، إذ أبصر قريبا منه كوارة فيها عسل نحل فذاق العسل فشغلته حلاوته وألهته لذاته عن الفكرة في شيء من أمره، وأن يلتمس الخلاص لنفسه، ولم يزل لاهيا حتى سقط في فم التنين فهلك، وعند تولستوي أن من الناس من هو أعمى بنهل العسل ولا يرى التنين ولا الحيات ولا الجرذين، ومنهم من يرى ولكنه لا يبالي فله لذة الساعة الحاضرة، ومنهم من يرى ويدعو الله أن يوجد مخرجا، والتمس الشفاء عند الفلاسفة وعند رجال الأديان.
وعرف بعد سنتين من أزمته أن الإيمان يستمد من منابعه الصافية، وأن الحضارة هي سر الشقاء، وأن الطبقات العليا حياتها مشوبة بالنفاق والغرور، وأن فقر الفقراء يرجع إلى غنى الأغنياء، ولكنه لم يدع إلى عنف، بل دعا إلى مقابلة السيئة بالحسنة، وحاول أن يحيا الحياة التي تتفق ومبادئه، وهنا كانت مأساته الكبرى، حاول أن يتجرد مما يملك، وأن يعيش من عمل يده، وليس من ملبس الفلاحين - وخشي أصحاب السلطان السياسي والديني أمر دعوته، فقاوموها بأساليبهم، وكره أهله منه ما حاول، ولم يرض عن عمله إلا بنته الصغرى، فأرادوا أن ينزلوه عما اعتاد وعلى ما اعتادوا، فكان عذابه، علائق الدنيا - كما يقولون - كانت أقوى وأشد، هرب من منزله، وأدركه الموت يائسا شقيا، كان له من حب ذويه ومن إعجاب العالم بأسره ما يهيئ له الحياة الهنية، لو قبلها، ولكنه رفضها وضحى بها في سبيل التوفيق بين الواقع والواجب، فكان أعظم من حاولوا ذلك التوفيق، وكان أيضا أعظم أولئك الذين رفضوا أن يسلموا بعجزهم عن ذلك.
جمال الدين الأفغاني والعروة الوثقى
إن أحببنا أن نتخذ شعارا لجمال الدين الأفغاني، فخير ما نفعل هو أن نستعير الاسم الذي اختاره للجريدة المشهورة التي أصدرها هو والشيخ محمد عبده في باريس، الجريدة القصيرة العمر العظيمة التأثير: «العروة الوثقى» والعروة الوثقى أصدق تعبيرا عن أماني جمال الدين وأحلامه عن مساعيه وكفاحه من أي اسم من الأسماء التي اعتاد مؤرخوه إيرادها: الجامعة أو الوحدة أو ما إليها، العروة الوثقى أصح دلالة على قصده؛ لأنها لا تفيد نظاما بعينه، ولا تقيده بفكرة سياسية معينة، هي أصح دلالة؛ لأنها تدل على التضامن المتين الوثيق الذي يتنوع ويتطور وفق ما تقتضيه ظروف الزمان والمكان، وهذا التضامن يكون بين أفراد الجماعة الواحدة، أفراد الشعب الواحد، وهو في هذه الحالة يؤثر العمل المشترك في دائرة القطر الواحد، كما كان الحال من سعيه في أفغانستان أو إيران أو مصر، ويكون التضامن ثالثا في مجال أعم يشمل الشعوب الإسلامية، ويكون التضامن رابعا في مجال أقرب للعالمية يشمل الشعوب الشرقية والآسيوية والإفريقية في كفاحها ضد النفوذ الأوربي؛ عدو الجميع.
أدرك جمال الدين من غائلة ذلك النفوذ الأوربي - وخصوصا النفوذ البريطاني - ما لم يدركه إذ ذاك أبناء الأقطار العربية في الغرب، وذلك لأنه شهد في الهند زوال الحكم الوطني، وبناء الإمبراطورية البريطانية الهندية - فقد كان في الهند في وقت الثورة الكبرى في سنة سبع وخمسين - كما أدرك جمال الدين مدى ابتعاد كل من الثقافتين الفارسية الهندية والعربية إحداهما عن الأخرى، كان يمثل ثمرة الثقافة الفارسية الهندية، وكانت رسالته نقل تراثها لأبناء الثقافة العربية في مصر، وجعل تلك الثمرات عاملا في نهضة تلك الثقافة في إحيائها في الارتفاع بها عن حضيض التقليد، في الاشتغال بالحقائق وترك الانهماك في الصيغ والألفاظ، تقول العروة الوثقى: «والعلماء لا تواصل بينهم ولا تراسل، فالعالم التركي في غيبة عن حال العالم الحجازي فضلا عمن يبعد عنهم، وأليس بعجيب ألا تكون سفارة للعثمانيين في مراكش، ولا لمراكش عند العثمانيين، أليس بغريب ألا تكون للدولة العثمانية صلات صميمة مع الأفغانيين وغيرهم من أهل الشرق ...»
وتقول العروة الوثقى في بيان ما كان للسلف: «ما كان يهزم لهم جيش، ولا ينكس لهم علم، ولا يرد قول على قائلهم، قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم وأخيافهم رابية، مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، ومدنهم كانت آهلة مؤسسة على أمتن قواعد العمران، تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب، كان في نقطة الشرق من حكمائهم: ابن سينا والفارابي والرازي ومن يشاكلهم، وفي المغرب: ابن باجة وابن رشد وابن الطفيل ومماثلوهم، وما بين ذلك أمصار تتزاحم فيها أقدام العلماء في الحكمة والطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم، هذا فضلا عن العلوم الشرعية.» وتقول العروة الوثقى: «ألم تر أن الله جعل اتفاق الرأي في المصلحة العامة والاتصال بصلة الألفة في المنافع الكلية سببا للقوة في هذه الحياة الدنيا، والتمكن من الوصول لخير الأبد في الآخرة، إن الله جعل الركون إلى من لا يصح الركون إليه، والثقة بمن لا تنبغي الثقة به سببا في اختلال الأمر وفساد الحالة، فمن وثق في عمله بمن ليس منه في شيء، ولا تجمعه به جامعة حقيقية، ولا تصله به رابطة صحيحة، وليس في طبعه ما يبعثه على رعاية مصلحته أو كتم سره، ولا ما يحمله على بذل الجهد في جلب منفعته ودفع المضار عنه، يفسد حاله ويسوء مآله .»
وكانت هذه الأقوال وما صحبها من أعمال ثمرة خبرات وتجارب، بدأت من أيام نشأته الأولى في أفغانستان، وما شهد فيه من فتن وحروب ونزاع على الملك، كان للإنجليز دخل فيه، وما رآه في الهند فيما سبق الثورة الكبرى، وفيما لحقها من المآسي، أدى الفريضة، وزار مصر زيارته الأولى القصيرة، ثم انتقل للقسطنطينية، وأحسن القوم استقباله، وعين عضوا في مجلس المعارف، إلا أنه حدث ما أحفظ عليه قلب شيخ الإسلام حسن أفندي فهمي، وانتهز الشيخ فرصة أتاحتها له محاضرة ألقاها السيد جمال الدين بدار الفنون، فادعى أن السيد وصف النبوة بأنها صنعة، وأثار عليه العامة، ولم يسكت السيد، فصدر الأمر إليه بالسفر فهبط أرض مصر، وأجرت عليه الحكومة راتبا سنويا إكراما له لا في مقابل عمل، والأيام كانت أيام أزمات اقتصادية وفكرية وسياسية، أيام تصادم بين القديم والحديث، أيام دسائس سياسية وتدخل أجنبي، كل ذلك، كما قال الأستاذ مصطفى عبد الرازق تلميذ تلميذه الشيخ محمد عبده، هيأ الوسائل لمواهب رجل أوتي حظا عظيما من سمو النفس، ومتانة الخلق، وتوقد الذكاء، وقوة الذاكرة، ودقة الملاحظة، إلى علم غزير ونشاط لا يكل، وشجاعة لا تعرف الخوف، وبلاغة في الكتابة والخطابة خارقة للعادة مع نفوذ ساحر، وصمت مهيب جليل جذبت إليه قلوب أرباب المقامات العالية، وأهل العلم والأدب، والتف حوله أذكياء الطلاب، فكان يلقي عليهم دروسا في الأدب والمنطق والتوحيد والفلسفة وعلم التصوف وأصول الفقه والفلك، ويحمل تلاميذه على العمل في الكتابة، وإنشاء الفصول الأدبية والاجتماعية والسياسية، فاشتغلوا على نظره، وبرعوا بين يديه، وكانوا طليعة النهضة الأدبية في مصر، وكانوا مؤسسي بنيانها أين.
واتصل بالحركات السياسية، وأمرت الحكومة المصرية بإخراجه من مصر، فإن نشاطه أوغر عليه قنصل إنجلترا من جهة، كما هيج عليه من الجهة الأخرى الجامدين، وبعد إقامة في الهند سمح له بالانتقال إلى أوربا، وبدأت فترة الجهاد ضد الاستعمار فترة إصدار جريدة العروة الوثقى في باريس.
وانتقل الشيخ محمد عبده من منفاه في بيروت لمشاركة أستاذه في العمل فيها، والجريدة كانت ذات أثر في كل ما وجد من حركات وطنية، وحرية في بلاد المشرق.
وتنبه إلى خطرها أعداء الحرية والوطنية، فصادروها في مصر والهند، وهدد من توجد لديه بالعقاب، فلم ينشر منها في ثمانية أشهر إلا ثمانية عشر عددا، وخفت صوتها، وعاد محمد عبده إلى سورية، وبقي جمال الدين يواصل جهاده بالاتصال بالعلماء والكتاب ورجال السياسة.
وكتب عنه إذ ذاك تلميذه الكاتب المشهور أديب إسحاق (وهو أديب مسيحي، نفذت إلى قلبه دعوة جمال الدين الناس إلى حياة العزة والكرامة، كما نفذت إلى قلوب المسلمين).
قال أديب: عمره الآن خمس وأربعون سنة، تبحر في المعقول والمنقول، وبقي مجهول الشأن عند العامة حتى ظهرت آثاره وآثار مريديه في جريدة مصر.
صورته: أسمر اللون ربعة ممتلئ، قوي البنية، جذاب المنظر، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، غريب عفيف النفس، قانت كثير القيام، لا ينام إلا الغلس إلى الضحى، ولا يأكل غير مرة واحدة في اليوم، على أنه يكثر من شرب الشاي والتدخين، وهو قوي المعارضة، ميال إلى المعارضة، طويل الحجة، واسع المحفوظ نسبية يكاد يكشف حجب الضمائر، ويهتك أسرار السرائر، ولكنه مع فضله لا يسلم من حدة المزاج.
وانتهت فترة العمل في العواصم الأوربية بانتقاله إلى إيران بدعوة من الشاه ناصر الدين، وفي إيران التف حوله الناس كما التفوا حوله في مصر، وأثار ذلك حفيظة حساده، فدسوا له وغادر إيران، وعاد إليها من جديد بإلحاح من الشاه عليه، وفي هذه المرة تنكر له الشاه نفسه تنكرا شديدا، وأخرجه بالقوة إلى العراق وهو معتل الجسم.
وقد ألب السيد على الشاه أعداء الحكم المطلق والناقمين على الفساد، والمطالبين بالإصلاح، فأودى ذلك بالشاه نفسه، وبسقوط الحكومة الاستبدادية في النهاية.
ثم حدث بعد ذلك أن قبل السيد دعوة السلطان عبد الحميد للإقامة بالقسطنطينية، ولم يفسر مترجمو حياته حتى الآن لم انخدع وقبل تلك الدعوة التي أدت إلى وقوعه في إسار مموه بالذهب كما قيل، أيرجع القبول إلى شدة وثوقه بنفسه، وبمقدرته على توجيه سياسة عبد الحميد، وباستطاعته الاحتفاظ بحريته، أو يرجع القبول إلى بقية من حسن الظن في الملوك والسلاطين وإلى الأمل، وكان كثيرا ما يقتبس
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
وقضى خمس سنين من حياته يعيش بين مظاهر خداعة من عطف السلطان ودسائس لا تحصى، وكم تضرع أن يسمحوا له بالسفر، فأمسكوه بقية عمره في إسار مموه بالذهب، بل ومن المؤرخين من ذهب إلى أنه لقح شفته بمادة سامة سببت له حالة مرضية تشبه السرطان.
وسواء ما صح في ذلك، فهو في تاريخ الشرق من شهداء الحرية، وهو في تاريخ الشرق أول من دعا إلى الاستمساك بالعروة الوثقى.
معركة غيرت وجه التاريخ: عين جالوت
البطولة التي أتحدث عنها اليوم، هي البطولة التي بدت في عين جالوت، في رمضان منذ نحو سبعمائة سنة، وكانت البطولة التي أبدتها مصر ممثلة في سلطانها الملك المظفر سيف الدين قطز، وأمرائها وأجنادها من أصحاب السيوف، وعلمائها من القاطعين بالأحكام الشرعية، والمفتين، والمتصدرين للتدريس، ورجال دواوينها من أصحاب الأقلام، وأهل الفلاحة والصناعة والتجارة، وهم عماد الدولة، وهم الذين جهزوا الجيوش، وهم الذين بثوا روح التساند والتكافل، وهم جميعا الذين أنقذوا مصر في عين جالوت، سواء منهم الذين حضروها بأنفسهم وبأشخاصهم، والذين كانوا في حكم الحاضرين؛ لأنهم هم الذين مكنوا المقاتلين من القتال.
وعلى هذا فالبطولة يمكن أن تكون عمل فرد، ويمكن أن تكون عمل مجموعة، وممكن أن تتجلى في عمل يحدث بارزا قائما بنفسه، ويمكن أن تتجلى في عصر بأكمله أو في حياة طائفة من الشعب، ويمكن أن تكون عملا حربيا، كما يمكن أن تكون نشاطا مدنيا؛ فالأبطال، كما صورهم كاتب غربي مشهور (وقد نقل كتابه للغة العربية أديب مشهور: السباعي) فهم الأدباء ورجال الحرب، وغيرهم من القادة، والبطولة أوسع من بطولات الملاحم، وزمانها يعم جميع أدوار التاريخ، وإن أحبت الأمم أن تمجد أبطالها الأقدمين، وأحيانا أبطالها الخرافيين، مع أن الواقع كما نعرف أعجب من الخرافة، فلنلتمس بطولاتنا في الواقع، وعين جالوت التي بدت فيها بطولة مصر ممثلة على النحو الذي وصفت ، شهدت في القديم بطولة من نوع آخر، ففيها، كما ورد في المأثور، قتل الصبي داوود العملاق جالوت، وقد قدر الله لداوود أن يقتل به جالوت ووهبه ما وهب.
وفيها تقابل جيش مصر بجموع المغول والتتر، فحطم تلك الجموع، وكانت هذه أول مرة انكسر فيها هؤلاء منذ أن دخلوا أقطار العالم الإسلامي، وضربوا العراق والجزيرة والديار العربية والسورية، فكانت من الوقائع الحاسمة في التاريخ.
والبطولة التي تجلت فيها مرت في ثلاثة أدوار: في الدور الأول كانت بطولة التغلب على النزوع إلى التفرق، بطولة جمع الكلمة مع تقليد الحكم والزعامة للرجل الذي يستطيع مواجهة الشر والخطر، وفي الدور الثاني: كانت بطولة القرار العظيم؛ قرار الخروج إلى مواجهة البرابرة الزاحفين، وعدم انتظارهم، وفي أرض الوطن، وبطولة الخروج ينبغي أن ننوه بخطورتها وذلك لسببين؛ أولا: لأن المغول كانوا منذ خروجهم من بلادهم يعتمدون أكثر ما يعتمدون على نشر الرعب، وتحطيم أي عزم على المقاومة، وقد بلغ من إرهابهم أن الأسرى كانوا يستسلمون وهم كثيرون لتتري واحد، بل وقيل: إنهم كانوا ينتظرون دورهم هادئين مطمئنين حتى يفرغ التتري لقتلهم صبرا، وهم في ذلك كالضواري يقال إنها تسحر فريستها، فلا تحاول فرارا أو مقاومة، فكان الخروج لهم بطولة الجرأة، وكان أيضا بطولة الحكمة، ذلك أن البقاء في مصر انتظارا لقدومهم كان من شأنه أن يؤدي إلى تفرق الكلمة بعد أن اجتمعت، وإلى نشر روح التخاذل، وإلى التعلق بالآمال الكاذبة، ورجاء حدوث المعجزات التي تغني الناس عن البذل والتضحية.
وفي الدور الثالث: كانت البطولة التي بدت في القتال، في الواقعة نفسها، وللجميع أن يفخروا بما كان منهم، ولكن الفخر الأكبر لقطز نفسه.
ما الذي أحضر تلك الجموع من أقصى آسيا شرقا إلى أدناها لمصر غربا؟ ما الذي دفعها إلى التحطيم والتخريب، وإلى تمزيق الدول الإسلامية دولة دولة، هل نصدق ما قاله هولاكو في رسالته لسلطان مصر عن نفسه وعن قومه، وعما تصدى هو وهم لتحقيقه؟ قال: «إنا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلطنا على من حل به غضبه ... نحن لا نرحم من بكى ولا نرق لمن شكى ... فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد ... فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يسمع ... فإنكم أكلتم الحرام ... وخنتم العهود والأيمان ... ونشأ فيكم العقوق والعصيان، وقد ثبت عندكم أنا نحن الكفرة، وقد ثبت عندنا أنكم الفجرة، وقد سلطنا عليكم من له الأمور المقدرة، والأحكام المدبرة» ... إلى آخره، هذا مثال مما كان يكتبه على لسانهم رجال الأقلام المسلمين الذين سخروهم لخدمتهم، ويصعب أن نصدق أنهم آمنوا بأن لهم رسالة من نوع ما وصفوا، وكل ما كانوا يرمون إليه هو أن يلقوا في روع الناس أن لا خلاص منهم أبدا، كما يصعب أن نصدق أن النسطورية التي انتشرت في بعض قبائلهم وشعوبهم، ودان لها بعض كبرائهم (فكان كتبوغا قائدهم في عين جالوت نسطوريا، وكانت إحدى زوجات هولاكو نسطورية أيضا) كانت النسطورية هي المحرك لهم نحو غزو بلاد الإسلام، وتخريبها، وإذلال أهلها.
والأصدق أن نتصور أنهم استغلوا النسطورية في استمالة من استمالوا إليهم من الطوائف غير الإسلامية، وذلك للتفرقة، وجعل الكل يتجه إليهم للاحتماء بهم، ويصعب أخيرا أن نصدق أنهم قدموا غربا استجابة لدعوات التحالف التي وجهها إليهم بعض ملوك الفرنجة ورؤسائها الدينيين، والذي نعرفه أنهم استقبلوا سفراء الفرنجة واستمعوا إليهم، ولكنهم طلبوا إليهم أن يدخلوا في طاعتهم.
والأصدق من كل هذا هو الأبسط، أن تلك الجموع التي زحفت في أيام جنكيز خان، ثم زحفت من جديد في أيام أحفاده هولاكو وغيره، استجابت في زحفها لحاجات المجتمعات البدوية الوحشية، وأن الزحف نفسه نظمه بيت زعامة، هو بيت جنكيز خان، عرف رجاله كيف يقيمون على أسس بدوية ملكا يستخدمون في تنظيمه ما استخلصوه من نظم الصين والدول الإسلامية، ويستخدمون في إدارته من جمعوا من صينيين ومسلمين ومتنصرة من قومهم ومن الفرنجة.
وكانت سياستهم تقضي هدم السلطات العليا الدينية، من نوع الخلافة العباسية أو الرياسية الإسماعيلية، وتحطيم الملوك والأمراء الذين يرفضون الإذعان، وأما بالنسبة للإمارات المسيحية القائمة في دار الإسلام، فمن هذه ما دخل في حمايتهم مثل أرمينية الصغرى حاتم أو حاطوم، ومن هذه من اختار سياسة الحياد، وينطبق هذا بصفة خاصة على ما بأيدي الصليبيين إذ ذاك من مدن الساحل مثل عكا وطرابلس وصيدا وأنطاكية ... إلخ.
وآثر هؤلاء تلك الخطة؛ لأنهم كانوا أضعف من أن يتخذوا غيرها، ولأنهم أخذوا يدركون إذ ذاك معنى اشتراكهم والمسلمين في حضارة واحدة، وأن قدوم الآسيويين ينذر بخراب تلك الحضارة، والواقع أن صليبي الساحل وأيوبي الداخل كانوا جميعا يرجون أن يتركوا آمنين، والواقع أيضا أن الإمارات الصليبية أخذت تتحول - وقد تركت لنفسها - إلى جاليات تجارية دينية، أي أخذت تتخذ الوضع الذي انتقلت به إلى الأزمنة الحديثة، وانتشر المغول في الديار السورية يخربون ويرهبون، وأنذروا السلطة المصرية وحذروها، ثم توقعوا أن يفعل الإرهاب فعله فتسلم، والإرهاب من أدوات حربهم، فكأن المتنبي كان ينظر إليهم حين قال:
بعثوا الرعب في قلوب الأعادي
فكان القتال قبل التلاقي
ولما تحقق قطز مجيء التتار إلى البلاد الشامية، وعلم أنه لا بد من خروجه من الديار المصرية بالعساكر للذب عن المسلمين، فرأى أنه لا يقع له ذلك، فإن الآراء مشلولة لصغر السلطان ولاختلاف الكلمة، فجمع الأعيان والعلماء والأمراء، وعرفهم أن الملك المنصور هذا صبي لا يحسن التدبير في مثل هذا الوقت الصعب، فوافقوا على خلع المنصور ومبايعة قطز، وخرج بجيوشه وقد بلغت غارات التتار مدينة الخليل وغزة، قال أحد المؤرخين: وألقى الله تعالى في قلب قطز الخروج لقتالهم، بعد أن كانت القلوب قد أيست من النصرة على التتار، وأجمعوا فقط على حفظ مصر لا غير؛ لكثرة عددهم واستيلائهم على معظم بلاد المسلمين، وأنهم ما قصدوا إقليما إلا فتحوه، ولا عسكرا إلا هزموه، ولم يبق خارج حكمهم في الجانب الشرقي إلا الديار المصرية والحجاز واليمن.
وجرت المعركة في عين جالوت، وقاد المغول أميرهم كتبغا النسطوري، فإن هولاكو كان قد اضطر للعودة للشرق لشقاق بين أفراد بيت جنكيز خان، وفي الموقعة تجلت بطولة المحاربين وبطولة قطز بالذات، فعندما اضطرب جناح عسكر السلطان ألقى خوذته عن رأسه إلى الأرض، وصرخ بأعلى صوته: واإسلاماه، وحمل بنفسه وبمن معه حملة صادقة، فأيده الله بنصره، وقتل كتبغا، وانهزم باقيهم، ومنح الله ظهورهم للمسلمين يقتلون ويأسرون، ثم رجع التتار فتجمعوا من جديد قرب بيسان، وكانت معركة ثانية، وتزلزل المسلمون زلزالا شديدا، وصرخ السلطان صرخة عظيمة سمعها معظم العسكر وهو يقول: «وا إسلاماه ثلاث مرات، يا الله انصر عبدك قطز على التتار» فلما انكسر التتار الكسرة الثانية، نزل السلطان عن فرسه، ومرغ وجهه على الأرض وقبلها، وصلى ركعتين شكرا لله، ثم ركب فأقبلت العسكر وقد امتلأت أيديهم بالمغانم، وانتهى بذلك أمر التتار من الديار الشامية.
وعين جالوت هذه من معارك التاريخ الحاسمة، لا لأنها أنقذت الحضارة الإسلامية، فإن التتار بعد أن استقر ملوكهم في فارس وما يتبعها، تحضروا بتلك الحضارة الإسلامية، وإنما كانت عين جالوت من المعارك الحاسمة لأسباب أخرى؛ أولا: لأنها أنقذت الشام ومصر من الخراب الذي حل بالعراق، وثانيا: لأنها أنقذت مصر والشام وحفظت لهما موضعهما من العروبة، وثالثا: لأن المعركة أدت إلى تصفية أمر التفرقة السائدة في الشام والجزيرة، فانتهى بها ما كان من أيام الأيوبيين، وما كان باقيا من ملك الصليبيين، وقامت بتلك الوحدة المصرية السورية، وابتدأ فصل رائع من فصول ازدهار الحضارة العربية.
نامعلوم صفحہ