في هذا القصر كان يقيم «عبد الرحمن بك»، وهو ضابط من ضباط الجيش القدماء له ماض مجيد ووقائع مشهورة، فلما أسن وقعد هجر المدينة إلى الريف الهادئ، فاتخذ له بيتا ومزرعة، وأقام حيث بنى القصر الأبيض في عز وجاه ومنعة.
وكان له ولد واحد أتاه على حين كبرة وهرم، فنشأ في الريف نشأة أهله، وتشرب من طباعهم وعاداتهم المأثورة، فلما بلغ السابعة بعث به أبوه إلى المدينة، فشدا من العلم ما شدا، ثم عاد ليقيم بجانب أبيه ويقوم على شئون مزرعته.
لم يكن في القرية كلها، ولا في القرى المجاورة، فتى أعز على أهله وعلى جيرانه من «عابد» ابن عبد الرحمن بك. وكان فتى ريان العود، ناضر الشباب، فيه دماثة الحضري المتبدي وشهامة القروي المتحضر، وإنه لوحيد أبيه وسيد أمره، وأبوه سيد القرية العزيز الممنع.
وكان عابد في السابعة عشرة من عمره حين التقى بأمينة عينا لعين، فوقع من نفسها ووقعت من نفسه؛ وكان جالسا في خص إلى جانب من مزرعة أبيه حين مرت به لأول مرة فأتبعها عينيه مأخوذا، ومضت على وجهها مغضية من حياء وهي تتمتم بالتحية. وابتدأ للحب تاريخ ...
لم يكن أبو أمينة من ضباط الجيش القدماء؛ نعم، ولا كان له تاريخ ووقائع يباهي بها ويفتخر، ولا كان يملك قصرا ومزرعة؛ ولكن أمينة على ذلك قد استطاعت أن تغلب الفتى على نفسه وتملك قياده ...
ولما التقيا من بعد على غفلة من العيون في ظل شجرة الصفصاف، والشمس تنفض آخر أشعتها على أوراق الشجر حمراء ملتهبة، نظر إليها ونظرت إليه، وكانت شفتها تختلج وفي عينيها عبرة، ودنا منها ومد إليها يدا، وامتدت يداها إليه ترده، وهمست: «عابد ...!» وكأنما همت أن تقول شيئا ثم أمسكت، وبرقت قطرات الدمع بين أهدابها، وتحدثت عينان إلى عينين. وأرخى الليل سدوله وما تزال أمينة في مجلسها وما يزال عابد؛ ثم نهضا فاتخذا طريقهما إلى القرية صامتين، يتبادلان لمسة باليد كلما همت أن تجتاز قناة في طريقها بين الحقول؛ يهم أن يعينها وتهم أن تستعينه؛ ثم افترقا قبل أن يبلغا أول أبيات القرية وما سألها ولا أجابت ...
وأوت أمينة إلى منامتها بجانب أخيها الصغير في دار أبيها يراوح القلق بين جنبيها؛ واتخذ عابد مقعده إلى جانب النافذة في غرفته من القصر الأبيض، يسرح عينيه في الفضاء المظلم الذي يغلف دور القرويين ويلفها في صمت موحش؛ وأشرق الصبح وما تزال وما يزال!
كان عابد يعلم من نفسه ما يعلم الناس: أنه سيد نفسه، وأنه من المنزلة عند أبيه بحيث يحق له أن يتمنى وأن ينال ما يتمنى، ولكنه إلى ذلك كان يشعر في أعماقه أن القدر يتربص به ليحول بينه وبين أعز أمانيه. أتراه يستطيع أن يقول ويكشف عن ذات نفسه؟ وماذا يقول أبوه ويقول الناس حين يصارحهم أنه يريد أن يتزوج أمينة؟
أمينة ...؟! من تكون ومن يكون؟ هل هي إلا فتاة من فتيات يتمنين لو كن من خدم القصر الأبيض؟ نعم، وإن أباها لواحد من عشرات يعيشون في ظل القصر الأبيض خولا وبطانة. إنه لسيد من يليه من الفلاحين ولكنه عبد سيده، وإنه ليملك دارا وأفدنة كاسبة ولكنه مملوك؛ لأن القرية كلها ليس فيها إلا سيد واحد ومالك واحد ...
كذلك كان عابد يفكر حين كانت أمينة راقدة في فراشها تفكر؛ وبكى الفتى حين تبين موقفه، وتمنى لو كان واحدا من سواد أهل القرية وله رأيه وإرادته ولم يكن السيد العاجز ... وبكت الفتاة حين تبينت موقفها، ولكنها لم تتمن شيئا لأنها كانت عاجزة حتى عن التمني!
نامعلوم صفحہ