وقال الرجل: «لم أكن أظن أن أراك ثانية يا بدرية!»
وتنفس نفسا عميقا، ومال بوجهه قليلا يحاول أن يخفي دمعة همت أن تقطر!
وكان الضابط المشرف جالسا إلى منضدة في صدر الخيمة يسمع تناجيهما وعلى شفتيه ابتسامة الغبطة والرضا.
وعادت بدرية تقول: «راجح!»
وربت راجح على كتفها وهو يبتسم، وقال: «لا تخشي بعد اليوم شيئا يا بدرية، لن نفترق طويلا بعد، لقد دنا اليوم الذي أرتقب يا عزيزتي من زمان، لأغسل الدم بالدم، وأنتقم، ويومئذ نعود أعزة إلى الوطن الذي أكرهنا على هجرانه، ويومئذ ...»
وطأطأت بدرية رأسها من حياء، واسترجعت أماني عاشت بها حينا وعاش فتاها، وسرحا بأفكارهما إلى بعيد، إلى حيث كان الملتقى كل مساء، تحت ضوء القمر، وفي ظلال النخيل الشاخصة على مقربة من مضارب الحي، يتساقيان المنى ويتناجيان نجوى الشباب، وابتسم، وابتسمت ...
ودوى بوق المعسكر يدعو فرقة المتطوعين من أعراب الصحراء إلى نوبتهم في العمل، فهب راجح واقفا ومضى إلى واجبه تتبعه عينان تفيضان بالحب والحنان، ولسان يخافت بالنجوى والدعاء ... ... كان ذلك بالإسكندرية في صيف سنة 1940 ...
وفي ليلة من ليالي البدر في ربيع سنة 1945، وعلى بعد أميال إلى الغرب من مدينة الإسكندرية، كان رجل وامرأة جالسين في ظل جذع من جذوع النخل على مقربة من مضارب الحي، يتذاكران الماضي ويخافتان بالنجوى ...
وفي المدينة، على بعد ساعات من الحي، كان المذياع يتحدث إلى الناس حديثا يترقبونه منذ بعيد مشوقين إليه، موقنين به قبل أن يكون كأن قد كان ... ... وراح المذيع يصف مصرع «موسوليني» في «ميلانو» ويقص عاقبة أمره، وتجاوز خيال السامعين حدود الزمان والمكان فكأن قد رأوه في آخر مشاهده مصلوبا على السارية في الميدان منكسا قد تدلى رأسه إلى الأرض كأنما يبحث في التراب عن مجده الذي كان ...!
وقال راجح وقد جاءه النبأ: «لو كان بيدي ...!»
نامعلوم صفحہ