من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
فالإنسان لا يشعر بحقيقة إلا في موقف، ولا يثور إلا عندما تهدد حياته. التجربة أصدق من الجدل العقلي؛ يتطلب الجدل العقلي التسليم بإمكانية المعرفة ووجوب النظر، في حين أن الموقف اللاأدري لا يسلم بأية حقائق لأنه موقف إرادي خالص؛ لذلك منع القدماء مكالمتهم لعدم وجود أي أساس مشترك بينهم. الشك اللاأدري تقصير في النظر وإنكار لعمل العقل، ونفي لقدرة الإنسان على البحث والكشف، وتحليل الواقع ورؤية مكوناته. هناك حقائق يمكن معرفتها مثل وجود النفس الذي لا يمكن نفيه، وجود نفس الذي يشك؛ فالشك فعل من أفعال النفس؛ لذلك جعل علماء أصول الدين أول أركان نظرية العلم إثبات الحقائق والعلوم.
5
هناك حقائق تسكن إليها النفس ضرورة، لا مجال فيها للإيهام أو الخداع، مثل أني موجود الآن، جالس وأكتب، أفكر فيما أكتب فيه، وأني محتل ومتخلف، وأعيش في عصر يسوده النفاق. الشك مضاد لسكون النفس؛ ولما كانت النفس تطلب سكونها فإنه يستحيل الشك.
6
يمكن تفنيد الشك ليس فقط بالرجوع إلى بداهات الحس وأوليات العقل التي تحدث عنها القدماء، بل إلى بداهات الموقف الإنساني، حيث تبرز الوقائع التي يحيا بينها الإنسان؛ فمثلا نحن نعيش في العالم، نتعامل مع الآخرين، نحن شعب أرضه محتلة، وبلده نام، تعيش جماهيرنا في ضنك، تصارع من أجل لقمة العيش. هناك حقائق الحياة المرة التي نعيشها، وإنكارها هو إثبات لوجودها، وإبعاد الشعب عنها وتجاهل أجهزة الإعلام لها عمدا إبعاد للجماهير عن المشاركة في صنع القرار والوعي بها اتقاء لحركتها. نعاني من الفقر يوميا، ونقاسي من الاستغلال كل لحظة. البيروقراطية مأساتنا، والتسلط يجثم على صدورنا، والنفاق يلف ويدور حولنا، والسخط يعمينا، والاضطهاد موجه ضدنا، والعيون تقف لنا بالمرصاد. هذه هي الحقائق اليومية التي نعاني منها ليل نهار، والتي هي مثار حديث الناس في الطرقات علنا أو في الدور همسا، والتي تكمن وراء هموم المواطنين. أدرك ذلك بحياتي، وأعيشه بوجودي، أراه وألمسه، أسمعه وأشعر به، ولا أكاد أخطئ في أي منهما لأنها تتحول إلى ثورة ساخطة عارمة، وانتفاضة شعبية لا ينكرها إلا متسلط يعمل لصالح طبقة تستغل الشعب وتثري على حسابه. وأنضم إلى حزب سياسي يعمل على استرداد حقوق الفقراء من الأغنياء، ويعد لتحرير الأرض وتوحيد المنطقة. الحس يدرك، والوجدان يشعر، والعقل يحلل. ولا يشك في ذلك كله إلا ضال أو مضلل، يريد أن يبقي الوضع القائم كما هو عليه، ويريد أن يقضي على مشاركة الجماهير، وأن يستمر في سلبها حقوقها والتنكر لها، يظهر غير ما يبطن؛ يظهر الشك، ويبطن اليقين، يدعو الناس إلى الريبة، وهو جازم بما يهدف إليه؛ فالشك زعزعة لمعتقدات أصحاب الحقوق، وتثبيت لمعتقدات سالبي الحقوق، الشك ضياع للنظر وبالتالي ضياع للأساس الواعي للسلوك، فلا يبقى إلا الهوى والمصلحة؛ حينئذ تركن النفس إلى الدنيا، ويترك الإنسان رسالته. العمل هو أكبر رد فعل على الشك، واسترداد الحقوق بالفعل أكبر إثبات للحقائق النظرية؛ لذلك كان الشهداء هم الدليل على إثبات وجود الحقائق، وكانت ثورات الشعوب أكبر دليل على إثبات وجود المبادئ. يمثل الشك إذن خطورة على الحياة الاجتماعية وتاريخ الشعوب، وذلك برفض المبادئ؛ أي رفض الالتزام والانتهاء إلى العدمية أو الفوضوية أو اللامبالاة أو السلبية المطلقة. ومرحلتنا التاريخية التي نمر بها الآن لم تصل إلى هذا الحد، بل إن مأساتنا هي اللامبالاة التي تنشأ من عدم الإحساس بالرسالة، وعدم تحمل الأمانة، وليس من عدم تمثل مبدأ والعمل على تحقيقه.
7
ولا يعني إثبات الحقائق الوقوع في «الدجماطيقية»، وإثبات حقائق مستقلة عن الواقع، لا تتغير بتغيره؛ فالحقائق هو هذا الواقع نفسه على مستوى الإدراك. إذا تخلف الإدراك عن الواقع تحول الفكر إلى صورية خالصة، وإذا سبق الفكر تطور الواقع تحول إلى طفولة ومراهقة. ولكن تحويل الواقع إلى فكر ثم العود إلى الواقع للتأثير فيه هي حقيقة ثابتة. لا إثبات إلا لحركة الواقع وصياغتها بالفكر. التاريخ حقيقة أولى، مساره وحركته وتطوره، مثل حقيقة وجود النفس.
والعنادية مذهب من يعترف بوجود الحقائق، وبالتالي يكون أقل شكا من مذهب اللاأدرية الذي ينكر وجود الحقائق أصلا، وينفي إمكان معرفتها. وهو المذهب القائل بتكافؤ الأدلة واستحالة الوصول إلى اليقين حيث تتعادل المواقف كلها، وتتساوى الحجج، وتختلف الآراء وتتضارب الأقوال دون إمكانية ترجيح أحدهما على الآخر. كل الدلائل ينفي بعضها بعضا. ليس هناك دليل إلا وله دليل مضاد، ولا توجد حجة إلا ولها حجة مناقضة. ومن ثم تساوت الآراء في الحق والباطل؛ فهي إما كلها باطل وإما كلها حق. ولما استحال أن تكون كلها حق، فالحق لا يناقض الحق؛ فهي إذن كلها باطل لاستحالة تغلب حجة على أخرى أو دليل على آخر؛ وبالتالي ليس هناك رأي أو مذهب أصح من الرأي أو المذهب المعارض.
8
والحقيقة أن القول بتكافؤ الأدلة نفي لبداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان، مثل وجود النفس ووجود العالم بصرف النظر عن إثبات حدوثه أو نفيه؛ فالأدلة لا تهدم بعضها البعض لأن بداهات الحس وأوائل العقول ومعطيات الوجدان لا يختلف عليها اثنان، بل إنها مقاييس للخطأ والصواب. والقول بتكافؤ الأدلة إثبات لعلم يقيني لا يتساوى مع نقيضه وهو هذا القول نفسه، وذلك يثبت وجود حقيقة يمكن معرفتها. وهي حجة جدلية يقدمها القدماء لتفنيد رأي الخصم. وأن افتراض خطأ كل رأي يعني أن القول بتكافؤ الأدلة باعتباره رأيا خطأ، وبالتالي ينهزم المذهب لعدم وجود دليل، وهي حجة جدلية لتفنيد رأي الخصم. ولا يمكن أن تصدق الأحكام المتناقضة كلها على شيء واحد كما لا يمكن أن تكون كلها صحيحة لأنها متناقضة أو باطلة. لكل شيء حكم معين هو الحكم الصحيح، وما سواه باطل. الأحكام المتناقضة على الشيء الواحد لا تصدق معا ولا ترتفع معا على رأي المناطقة، بل بها صواب وخطأ، إذا صح أمرها بطلت الأحكام الأخرى. والسبيل إلى التمييز بينها هو البرهان. لا يوجد دليل يهدم دليلا آخر، بل هناك تفسيرات مختلفة تتنازع واقعة معينة. لا يوجد التناقض إلا على المستوى الصوري أو المادي، أما على المستوى الإنساني فيمن الاحتكام إلى الواقع العملي لمعرفة أي التفسيرات أصدق. تدل الأحكام المتناقضة على اختلاف وجهات النظر أكثر مما تدل على تساوي الحق والباطل وتعادلهما، تشير إلى البعد الذاتي أكثر مما تشير إلى البعد الموضوعي،
نامعلوم صفحہ