من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
وبالرغم مما يبدو على التعريفات من مسائل نظرية خالصة إلا أن أهميتها ترجع إلى أنها ضرورية لتعريف العلم قبل تأسيس علم الكلام. وهو ما حدث أيضا في علم أصول الفقه وعلوم التصوف بتحديد كلمة «علم» دون علوم الحكمة التي جعلت المنطق مدخلا لها وآلة للعلوم جميعا. ولا يمكن الحديث عن تعريف «علم الكلام» دون معرفة أولا بتعريف العلم؛ أقسامه، وشروطه، وطرقه. البحث عن إمكانيات المعرفة الإنسانية إذن سابق على تأسيس هذه المعرفة ذاتها. وربما لا تسمح قدرات العلم الإنساني بإقامة «علم إلهي» يدعي أنه يصدر أحكاما على الله في ذاته، وهو في الحقيقة يتحدث عن طريق القسمة والمثال أو عن طريق التشبيه والقياس؛ قياس الغائب على الشاهد. معرفة إمكانيات العلم إذن مطلب أساسي لتأسيس العلم وقبل الحديث عن أي علم. وقد أسقطنا نحن في حياتنا المعاصرة هذا الجزء من علم الكلام وبدأنا بالذات والصفات والأفعال كما هو الحال في علم الكلام المتأخر دون حديث عن إمكانية العلم بمثل هذا الموضوع وشروطه.
وعندما يعرف العلم فإن الذي يعرف هو العلم الإنساني، وليس «العلم الإلهي» موضوع الذات والصفات والأفعال؛ لأننا لا نعلم علما آخر سوى العلم الإنساني، بل إن الوحي ذاته بعد نزوله وفهمه يصبح علما إنسانيا، سواء كان أصول دين أو أصول فقه، علوم حكمة أو علوم تصوف. والعلم الإنساني لا حدود له. وكل عصر يضيف إلى العلم علما؛ تقدم العلوم إذن غير محدود. لقد استطاع العقل الإنساني أن يدرك التنزيه وأن يتصور اللانهائي ويتمثل اللامحدود. وإن تصور العلم الإنساني محدودا والعلم «الإلهي» غير محدود لهو تصور يقوم على احتقار الذات وتملق الغير، وتعذيب النفس والرضا بالغير. ليس العلم الإنساني محدودا، ولن يزداد «الله» فرحا بأن نجعل علمه لا محدودا. تعبر هذه الثنائية عن تخلف ثقافي واجتماعي؛ حيث تكون الجماعة أقرب إلى الجهل منها إلى العلم، وتجد تعويضا عن جهلها بنسبة العلم إلى قوة خارجية عنها تكون الوصية عليها والملهمة لها، سواء كانت مشخصة أو غير مشخصة، دينية أم سياسية، عاقلة أو أسطورية. هل العلم ضروري لا يحتاج إلى تعريف؟ فكل إنسان يعلم بوجوده، والعلم بالوجود شرط العلم وأساسه، كما أن العلم لا يعرف إلا بالعلم، وهو ما يستلزم الدور، وبالتالي وجبت البداية بعلم ضروري ليس في حاجة إلى تعريف. العلم مساوق لوجود الإنسان، ومطابق لفطرته، كما أن الجهل مضاد لطبائع الأمور. العالم موجود، والجاهل غير موجود، والأمة العالمة موجودة، والجاهلة لا وجود لها؛ لذلك قد يرفض البعض حد العلم باعتباره لا ضرورة له؛ فكيف يحد العلم وهو أمر بديهي يعلمه كل إنسان وشعر به من نفسه. كما أنه يصعب تحديد العلم لأنه يتحدد بعلم، وهذا العلم بآخر إلى ما لا نهاية. لا بد إذن من علم بديهي لا يحتاج إلى حد، فيكون العلم حينئذ لا حد له. ولا تمنع التفرقة بين تصور العلم وحصوله من الوقوع في الدور؛ لأن تصور العلم، وهي المقدمة، غير حصوله وهي النتيجة. وذلك لأن تصور العلم أيضا يحتاج إلى تصور آخر، وهذا إلى ثالث إلى ما لا نهاية.
2
والحقيقة أن العلم بناء نظري، العلم الضروري أولى خطواته. والنظر والاستدلال يفيدان العلم، والرؤية المباشرة للواقع، كما أن الإحصاء الكمي للظاهر يفيد العلم؛ ومن ثم فتعريف العلم ممكن، بل ضروري حتى يتأسس العلم؛ فالبداهة أحد جوانب العلم وليست العلم كله.
والعلم وإن عسر تعريفه إلا أن كل إنسان يشعر به، ويحصل عليه، ويجاهد في سبيله، ويفهمه ويقتنصه، ويرتقي الإنسان في مداركه. ولا يهم تعريف الشيء بقدر ما يهم الحصول عليه. قد تأتي صعوبة من أنه يشمل كل أفعال الشعور ابتداء من النظر ومقدماته حتى العلم ونتائجه؛ وبالتالي يكون من الأفضل إذن تحديد العلم مجازا أو تشبيها لصعوبة الحصول على حد حقيقي للعلم. أو على الأقل يكون العلم بديهيا لا مكتسبا، ومثال ذلك علم الإنسان بوجود نفسه. والحقيقة أن العلم البديهي أحد مراحل العلم وليس كله. وجعل العلم كله بديهيا ضروريا رد للعلم كله إلى أحد مراحله مع إغفال الاكتساب والاستدلال وتحليل العقل، وعمل الشعور.
3
ومع ذلك يمكن تعريف العلم عن طريق القسمة ابتداء من الاعتقاد غير الجازم الذي يجعل الإنسان مترددا بين شيئين وهو موقف الشك، أو قادرا على الترجيح بينهما؛ فيكون الراجح هو الظن والمرجوح هو الوهم. ويكون ذلك تعريفا للعلم عن طريق السلب؛ أي بنفي مضادات العلم، وما ليس بعلم ابتداء من الشك ثم الظن والوهم والجهل والتقليد. وقد أوفى القدماء الحديث في كل منها وكأنه موضوع مستقل؛ نظرا لأهميته وخطورته على العلم. (1) الشك والظن والوهم
فالشك هو تردد بين معتقدين دون ترجيح لأحدهما على الآخر. ويعتبره القدماء مذهب السوفسطائيين، وهو على ثلاثة أنواع: اللاأدرية، والعنادية، والعندية. وهي في حقيقة الأمر اتجاهات في المعرفة الإنسانية قبل أن تكون فرقا كلامية أو مذاهب تاريخية. لا يهمنا رصد أسماء الفرق القديمة واتجاهاتها وآرائها من الناحية التاريخية الخالصة، بل يهمنا وجود هذا الاتجاه الفكري في كل عصر، وتعبيره عن موقف معرفي خاص وكشفه عن بناء فكري عام.
اللاأدرية هو الشك المبدئي، الشك في الشك إلى ما لا نهاية حتى تنتفي الحقائق ويستحيل العلم . وقد صاغ القدماء حجتين لهدم هذا الموقف، الأولى جدلية مؤداها أن نفي الحقائق هو نفسه حقيقة، والثانية تجريبية تعتمد على إثبات الحركة بالسير، وإثبات الألم بالضرب. ولا ينفع المناظرة أو الأدلة والبراهين لإثبات العلم مع الشكاك عامة واللاأدرية خاصة، لأن إمكانية العلم مستحيلة؛ إذ لا يحدث العلم إلا بالانتقال من معلوم إلى مجهول، والشك ينفي إمكان قيام أي معلوم. الدليل الوحيد هو تجارب الألم واللذة، حرق الأصابع للشكاك مثلا من أجل إثبات المعارف الحسية لهم.
4
نامعلوم صفحہ