من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
وكذلك شرط النظر مطلقا هو الحياة؛ لا نظر بدون حياة، وانتهاء الحياة معناه انتهاء النظر، الأحياء الذين لا يعملون النظر أموات، والأموات الذين ما زلنا نتعامل مع نظرهم أحياء. ليست الحياة فقط شرط النظر بل نتيجته، ليست فقط مقدمته بل ثمرته، وليست الحياة فقط شرطا للعلم، بل هي الشرط العام الشامل لليقظة والانتباه والنظر والعلم والمعرفة. هي شرط القدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة. وقد دعا ذلك البعض إلى إخراج هذا الشرط من حد العلم، ومع ذلك تظهر الحياة كشرط للعلم في الإلهيات كما تظهر في الطبيعيات؛ ففي الإلهيات الحياة شرط العلم والقدرة في صفات الذات، وفي الطبيعيات الحياة شرط وجود الأجسام.
25
وقد يتميز شرط النظر أكثر فيصبح العقل. فالنظر يتم بالعقل، ومن له عقل له نظر، ومن لا نظر له لا عقل له. وقد يتميز شرط العقل بشرطي الانتباه واليقظة لما كان العقل هو حياة الشعور اليقظ المنتبه. الانتباه من الغفلة، واليقظة ضد النوم. فالعلم مظهر من مظاهر الحياة، والحياة هي اليقظة والانتباه. لا علم لميت أو نائم أو غافل . والعلم أيضا يبعث على الحياة واليقظة والانتباه؛ هناك إذن علاقة متبادلة بين الشرط والمشروط. لا يحدث العلم إلا بالحياة واليقظة والانتباه، وفي نفس الوقت يبعث العلم على الحياة واليقظة والانتباه. وما يحدث في عالمنا هذا من تجاوز العلم والغفلة يجعلنا نشك في صحة العلم. لو كان العلم صحيحا لما حدث إلا باليقظة ولا حدث الانتباه.
26
وقد يجعل البعض النظر ليس فقط شرطا للعلم، بل مضادا له؛ لأنه عدم حصول العلم. والحقيقة أن التضاد هنا غياب وليس تعارض وجود. ومن ثم كان النظر أقرب إلى الشرط منه إلى التضاد. العلم يحدث بالنظر، والذي يضاد العلم هو الشك والظن والوهم والجهل والتقليد. وقد يجعل البعض الآخر النظر مؤديا إلى العلم دون أن يكون شرطا له؛ فشرط العلم هو الحياة مقارنا للمشروط، ولا يتصور مقارنة النظر للعلم. والحقيقة أن هذا إما إقلال لشأن النظر أو مجرد خلاف لفظي واستبدال لفظ شرط بلفظ آخر هو مؤدى، الأول يدل على الثبوت، والثاني يدل على الحركة، الأول يدل على عدم وجود الضد مثل غياب الإدراك، والثاني يدل على ضرورة وجود المنهج وهو النظر.
27
ولا يحتاج النظر إلى علم مسبق؛ إذ أنه سابق على أي علم. بل إن عدم العلم شرط صحة النظر لأن النظر يؤدي إلى العلم. وإذا كان هناك نظران بعد العلم بالمنظور الأول، فإنه يدرك وجها آخر من الدليل لم يدركه النظر الأول؛ فلا يمتنع وجود فكرين في حالة واحدة. وعند من يمنع ذلك يقضي النظر الثاني على ذهول الناظر من العلم بالنظر الأول. وإذا أمكن العلم بالمدلول دون نظر يكون النظر ضروريا لإيجاد البرهان، ويكون النظر هنا تراجعيا من النتائج إلى المقدمات أو من الحدس إلى البرهان. والحدس أحد مراحل النظر، وكذلك التأمل الباطني أو الانتباه المستمر أو رؤية الواقع، كلها لحظات للنظر بشرط ألا يؤدي الجزم بالمطلوب أو بنقيضه إلى تحجر البحث وتعثر النظر، فالجزم اعتقاد قاطع مضاد للنظر.
28
في حين يرى البعض الآخر أن العلم بالمطلوب أو الجهل المركب به يبطل النظر؛ إذ كيف يتم النظر فيما علم من قبل؟ وعلى هذا النحو يبطل النظر في وجود «الله» ممن يعلمه مسبقا صحة النظر. وإدخال «الله» كافتراض مسبق قبل إثبات وجوده في أي نظرية في العلم يبطل النظرية. كما أن الجهل المركب يبطل النظر، أي عدم العلم بالعلم أو عدم العلم بالنظر، ومن لا يعرف أن النظر يفيد العلم فإنه لن ينظر، والجهل المركب هو ألا يعلم الإنسان أنه لا يعلم.
ونظرا لقسمة النظر إلى صحيح وفاسد، هناك شروط خاصة للنظر الصحيح، وعلى رأسها اثنان: الأول أن يكون النظر في الدليل دون شبهة، والثاني أن يكون النظر في الدليل من جهة الدلالة، وهذا كله أدخل في نظرية الاستدلال. أما البحث في الدليل والدلالة ووجه الدلالة، هل هي شيء واحد أم أشياء متغايرة، فذلك كله ما يخرج عن نطاق نظرية العلم ويدخل في ميتافيزيقا العلم.
نامعلوم صفحہ