من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
8
قد يكون هدف السمنية من حصر المعرفة في الحسية وحدها، وإنكار أن النظر يفيد العلم هو إثبات استحالة ثبوت «الصانع»؛ فالصانع ليس موضوعا حسيا حتى يدرك بالحس، والنظر لا يفيد العلم، وبالتالي لا يمكن معرفة الصانع أو إثباته. وإذا ثبت بالوحي مثلا ظل متوقفا على الدليل العقلي؛ وبالتالي فرض المذهب العقائدي نفسه على نظرية العلم فبترها. ليس لدى الإنسان إلا تأسيس نظرية في العلم، وبعد ذلك لا يهم الموضوعات التي تتأسس في هذه النظرية. وقد يثبت العلم النظري ويظل إثبات الصانع مستحيلا، فلا صلة بين إثبات العلم النظري وإثبات الصانع ضرورة. و«الصانع» الذي لا يثبت بالنظر الذي يفيد العلم يكون خارج نطاق العلم الإنساني. وإن توقف «الصانع» على العلم بالدليل توقف إنساني. ليس لدى الإنسان وسيلة لإثبات أو لنفي إلا النظر المفرد للعلم، والعلم بالدليل وبوجه الدلالة. الموضوعية خارج نطاق العلم ادعاء خالص، وهدم للعلم، وإفساح المجال للإيمان، وبالتالي ترسب الجهل ثم الطغيان.
9 (ب)
أما المهندسون في الإلهيات فإنهم يثبتون أن النظر يفيد العلم في الهندسيات، خاصة والعلوم الرياضية عامة، ولكن قد لا يفيده في الإلهيات. وإن أقصى ما يستطيع النظر أن يفيده في الإلهيات هو الظن والأخذ «بالأحرى أو الأخلق»؛ أي بالأولى، وبالمقارنة، والأجدى، وهي براهين نفسية خالصة تقوم على التعالي أو المفارقة. وهي تجربة شعورية أصيلة للتجاوز والبحث عن الصوري والعام والشامل. إذا كان موضوع الإلهيات هو «ذات الله»، فإن أقصى ما يستطيع أن يصل إليه النظر هو الظن إما عن طريق التشبيه لإثبات شيء أو عن طريق التنزيه لنفي شيء آخر. ولهم في ذلك حجتان، الأولى أن الحقائق الإلهية لا تتصور وبالتالي يستحيل التصديق. وكل ما يمكن تصوره هي أعراضها وصفاتها وآثارها وتجلياتها. وبالتالي ليس أمامنا إلا الظن والتقريب، وقياس الغائب على الشاهد إن شئنا معرفة إيجابية تقريبية أو عن طريق التنزيه إن شئنا معرفة مجردة خالصة. الأولى معرفة أدبية تقوم على التشبيه والقياس، والثانية معرفة عقلية تقوم على التنزيه ورفض القياس. الأولى تقرب بين المتشابهين والثانية تفرق بين المتمايزين. الأولى تقوم على التقريب والمحايثة أو الحلول والثانية تقوم على الإبعاد والتعالي أو المفارقة. بل إن «قياس الأولى» الذي يدل على التعالي والمفارقة هو قياس يقوم على التعظيم والتبجيل والاحترام، وهي العواطف الإنسانية التي تكمن وراء عملية التأليه، والتي تكشف عن موقف اجتماعي هو التقديس للأشخاص، وعن وضع سلوكي في العالم وهو التحقيق عن طريق التزلف وليس عن طريق الفعل. والثانية أن أقرب الأشياء إلى الإنسان وهي هويته غير معلومة بحيث كثر عليها الخلاف، ولم يعد من الممكن الجزم بأحد الأقوال المتنازعة، فما بالنا بأبعد الأشياء عنا؟ وأن مقالات الإسلاميين وغير الإسلاميين في «ذات الله» قد اختلفت وتباينت وتضاربت حتى لم يعد الإنسان قادرا على التمييز بين الحق منها والباطل. ويشهد على ذلك علم الكلام نفسه. والكل يدعي النظر والحجة ويقدم الدليل والبرهان بينما الاتفاق على العلوم الرياضية وارد وموجود يتفق عليها العقلاء والناظرون. وبالتالي فالنظر لا يؤدي إلى علم واحد في الإلهيات. والحقيقة أن ذات الإنسان ليست مجهولة، فكل منا يشعر بوجوده، ونفسه أقرب الأشياء إليه. أما ذات الله فإنها لم تدخل بعد في نظرية العلم حتى يمكن الحديث عنها. فإذا ما تأسست نظرية العلم يمكن الحديث بعد ذلك عن «الوعي الخالص» أو الذات، وليس قبلها.
10
والوعي الخالص إذا ما تم إثباته يكون أقرب الأشياء إلى النفس لأنه وعي الوعي أو الوعي بالنفس. فإذا كانت «ذات الله» صورة تشبيهية لوعي الإنسان بذاته، فإن معرفتها تتم بالرجوع إلى هذا الوعي. وإذا كانت ذات الإنسان مضاعفة إلى ما لا نهاية، فإنها تكون معروفة لديه قدر معرفته بذاته. يكفيه استرداد ما خرج منه دفعا أو قصرا. ويمكن للناظرين والعقلاء الاتفاق على الوعي الخالص وصفاته وأفعاله مهما تباينت بشرط العود إلى الوضع الشرعي للإنسان في العالم والقضاء على اغترابه فيه.
11 (ج)
أما القول بالمعلم كبديل عن النظر، فإنه لا يؤدي إلى تأسيس العلم.
12
وقد اعتمد القدماء لرفضه على حجة جدلية، وهي أن المعلم يحتاج إلى معلم، وهذا إلى ثالث، حتى يتسلسل الأمر إلى ما لا نهاية، أو ينتهي إلى مصدر للعلم هو العقل أو الوحي. وافتراض عقل كامل لا يحتاج إلى تعليم هو نفسه افتراض النبي أي الوحي وليس المعلم. ولما كان الوحي يعلم بالعقل كان العقل نقطة البداية في نظرية العلم وليس المعلم. القول بالمعلم إنكار لقدرة العقول على الوصول إلى الحقائق وإنكار للنظر، مع أن الوحي قد حث على النظر ورفض اتباع أي شخص حتى ولو ادعى العلم والإلهام وبلغ به الأمر حد ادعاء الألوهية. إن القول بأن النجاة لا تتم إلا بمعلم بدليل وجود النبي عن طريق الإيمان؛ يستلزم صدق المعلم كصدق النبي. فإذا كانت المعجزة - وهي دليل صدق النبي - ليست أصلا من أصول العلم، فالعلم لا يقوم على حوادث تاريخية، فما الدليل على صدق المعلم؟ والوحي الذي أتى به النبي يدعو إلى النظر والإيمان عن طريق البرهان، وهو طريق المعلم إن أراد التشبه بالنبي. والإلهام ليس طريقا لمعرفة صدق المعلم؛ لأن الإلهام ذاته في حاجة إلى تصديق، وبالتالي لا يكون أساسا للعلم.
نامعلوم صفحہ