من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
اصناف
4
وقد يتحول إلى سؤال عن طريق القلب فيصبح: وهل النظر الفاسد يستلزم الجهل؟ وتكون الإجابة: إذا كان النظر الصحيح يفيد العلم، فالنظر الفاسد يستلزم الجهل مطلقا، سواء كان الفساد من المادة أو من الصورة.
5
لا يورث النظر الفاسد علما أو رأيا من مضاداته مثل الشك والظن والوهم والجهل والتقليد، سواء كان الفساد في صورة الدليل أم في مادته. وذلك لأن الجهل اعتقاد جازم غير مطابق، في حين أن النظر الفاسد نقص في معرفة الدليل أو وجه الدلالة أو وقوع في شبهة. واعتبار النظر الفاسد يفيد الجهل تأكيد على أهمية النظر الصحيح وتحذير من الوقوع في النظر الفاسد الذي لا يكون فقط سبيلا إلى نقص في العلم بل إلى وجود الجهل. هو حماس للنظر الصحيح وحرص عليه. أما اعتبار النظر الفاسد لا يؤدي إلى الجهل فهو تحليل موضوعي لعلاقة النظر بالعلم. النظر آلة والعلم نتيجة، وعيب الآلة لا يؤدي إلى النتيجة المضادة. الجهل سابق على النظر، ولكنه لا يتلو النظر الفاسد. النظر الفاسد خطأ يمكن تصحيحه، وإعمال النظر في حد ذاته جهد بصرف النظر عن نتائجه. أما اعتبار النظر الفاسد مؤديا إلى الجهل من حيث المادة وليس من حيث الصورة؛ لأن الصورة يمكن تصحيحها دون المادة، فذاك إعلاء من شأن الصورة على المادة وتحويل نظرية العلم إلى نظرية صورية خالصة كما هو الحال في المنطق القديم، في حين أن المادة أيضا يمكن تصحيحها بإكمالها وجعلها ممثلة للمجموع، ومن ثم تتأسس نظرية العلم بجانبيها الصوري والمادي على السواء.
والحقيقة أن هذه القضية، أن النظر الصحيح يفيد العلم، موجهة عند القدماء ضد مذاهب وفرق معينة تنكر أن يكون النظر مؤديا إلى العلم، وهي السمنية التي تجعل المعرفة مقصورة على الحس،
6
والمهندسون في الإلهيات الذين يجعلون النظر مفيدا للعلم في الهندسيات وحدها، والقائلون بالعلم دون النظر، والصوفية القائلون بالإلهام، والفقهاء أهل الأثر الذين يرون في الوحي بديلا عن النظر. (أ)
وقد وجهت السمنية ثلاث حجج ضد النظر: الأولى أن العلم الحاصل بالنظر إن كان ضروريا بان خلافه، وإن كان نظريا لزم التسلسل. وبعبارة أخرى إن العلم الضروري لا يحتاج إلى نظر وإن احتاج إلى نظر لزم الدور لإثبات العلم النظري. والحقيقة أن العلم الضروري لا يحتاج إلى إثبات من العلم النظري وإلا لما كان ضروريا. فهناك بداهة الحس، وأوائل العقل، ومعطيات الوجدان التي لا خلاف عليها. أما العلم النظري فهناك اتفاق على وجوده بإجماع العقلاء، يستند إلى الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر؛ وبالتالي فلا وقوع في الدور. والثانية أن المطلوب إذا كان معلوما فلا طلب له، وإن لم يكن معلوما فكيف نعرفه؟ وبتعبير آخر، إذا كان المطلوب معلوما فلا فائدة في طلبه، فإن وجد فكيف يعرف أنه المطلوب؟ والحقيقة أن المطلوب يعلم كافتراض ثم يطلب التحقق من صحته بصرف العموم وطلب التخصيص، أو يعرف المبدأ النظري ويطلب كيفية التحقيق العملي له. والثالثة أن الذهن لا يقوى على استحضار مقدمتين، وبالتالي يستحيل النظر. والحقيقة أن العلم بحضور مقدمتين لا تستلزم نتيجة إلا بعمل الشعور وحصول تجربة؛ إذ لا تحصل النتائج من المقدمات حصولا آليا حتميا بمجرد حضور المقدمتين. لا بد من توجيه الوجدان، فالذهن والوجدان شيء واحد مع الموضوع. الذهن مجرد قدرة على تحليل الموضوع في الشعور ورؤية حدسية له. وهناك حجج أخرى عديدة للسمنية تفصيلا لهذه الحجج الرئيسية الثلاث. منها ما يعتمد على ضعف الأدلة، في حين أن ضعف الأدلة لا يعني خطأها؛ فهناك أدلة يقينية برهانية، ومنها ما يعتمد على وجود المعارض؛ لأن النظر يفيد العلم فقط في غياب المعارض لا في حضوره، مع أن النظر يقتضي غياب المعارض والرد عليه. والمعارضة في نهاية الأمر جزء من النظر أو النظر المقابل. ومنها أنه إذا وجب النظر المؤدي إلى العلم وجب التكليف، والتكليف غير مقدور، وهذا إعلان لعجز العقل وضعف الإرادة؛ فالإنسان مكلف بعقله على النظر وبإرادته على الفعل، وفي حقيقة الأمر إن معظم الحجج التي تقدمها السمنية حجج صورية خالصة، هدفها إثبات القضية والدفاع عن المذهب، وتعبر عن موقف مسبق، ولا تؤسس نظرية متكاملة في العلم. فلا تعني المعرفة الحسية إقصار المعارف كلها على الحس. بل إن الحس نفسه يشمل العقل والبديهة والوجدان والمشاهدة والحدس والتواتر ومجرى العادات، وليس فقط ما يأتي من الحواس الخمس. كل البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق في كل ما اختلف الناس فيه منشؤها الحس. إن الاقتصار على المعرفة الحسية والشك في المعرفة العقلية إنكار لليقين الحسي والعقلي والوجداني في آن واحد. وإنكار ليقين التواتر الذي يقوم على شهادات الحس والعقل والوجدان. هناك أوليات العقل التي تمنع من التسلسل إلى ما لا نهاية، وهناك العلم الضروري الذي لا يحتاج إلى نظر، وهناك العلم الحدسي الضروري والعلم النظري الاستدلالي الموصل إلى اليقين. ويثبت يقين العلوم باجتماع المعارف الحسية والعقلية والحدسية والوجدانية والمتواترة إن كان الذهن لا يقوى على استحضار المقدمات أو نشأ منه خلاف. والشك في المعارف اليقينية الأخرى في نهاية الأمر ليس من قبيل المعرفة الحسية، بل معرفة تثبت أن المعارف ليست كلها معارف حسية.
7
ولم يقتصر القدماء بالرد على حجج السمنية، بل وجهوا إليهم حججا، شافعين الدفاع بالهجوم، ومكملين السلب بالإيجاب؛ فالعلم بفساد النظر ليس من قبل المحسوسات، بل يحتاج إلى نظر، والعلم بفساد النظر ليس إما ضرورة أو بالنظر، ولما امتنعت الضرورة لم يبق إلا النظر. ومهاجمة النظر نظر، إما أنه لغو لا يعتد به، أو أنه يتم بالنظر، وهذا إثبات للنظر. كما أن مهاجمة النظر تحتاج إلى نظر، ومعارضة الفاسد للفاسد يحتاج إلى نظر. ولا يمكن أن تتم مهاجمة النظر عنادا وإنما تتم بالنظر. والشك في النظر أنه مؤد للعلم يذهب بالدليل ويعتمد عليه، والدليل يؤدي إلى النظر، والنظر يفيد العلم. ومن ثم ثبت بالدليل أن النظر يفيد العلم ثم وقع إنكار لذلك، فإنما يكون مجرد عناد.
نامعلوم صفحہ