ولما انقضى زمان السفر ودخل القطار مدينة لندن العظيمة جعلت أتأمل هاتيك الجبال الراسية من البناء تمتد أميالا إلى كل جانب، أو هي بحار لا حد لها من الشوارع والفنادق والمخازن والحوانيت والمساكن شوه الدخان الكثير ظاهرها فاشتد سوادها، وما ترك لها من الجمال شيئا إلا في قليل من المواضع الكثيرة التي تراها العين مدة سير القطار بين أحياء لندن، والجهة التي يراها المسافر القادم من الخارج قبل سواها أقل جهات لندن زخرفا وجمالا، لولا أن المسافر يعلم من اتساع المدينة وطولها البالغ وأبنيتها التي لا تعد أنه في لندن؛ لظن أنه لم يصلها بعد، أو هو في مدينة أخرى صناعية أحقر من عاصمة المملكة الإنكليزية الواسعة ومركز تجارة الأرض ومالها ومقر المالكين ربع هذه الدنيا ونقطة الارتقاء العصري والاقتدار.
ولما بلغت محطة تشارن كروس في لندن لقيت فيها من الخلق الكثير ما يعسر عده، حتى إنه لم يمكن لي أن ألقى عربة أسير فيها إلى الفندق؛ لأن المدينة كانت يومئذ حافلة بالملايين فوق طاقتها بسبب عيد اليوبيل العظيم فوضعت أمتعتي في مخازن المحطة وخرجت ماشيا أخترق الصفوف وأصطدم بالمئات والألوف، وقد قامت للناس ضجة ما سمع بمثلها السامعون واحتشد الربوات والملايين في تلك الشوارع الكبرى احتشادا يكسف محافل الأولين والآخرين، ولا عجب ففي لندن وضواحيها من السكان سبعة ملايين نفس وهو عدد يزيد عن عدد الساكنين في بعض الممالك برمتها وزاد عليهم من أمها في ذلك الحين وهم نحو مليوني نفس أخرى جاءت لتشهد حفلات اليوبيل التي ترى وصف بعضها في الفصل التالي.
وأما الذي أقول عن أعظم مدائن الأرض وأفخمها وأكبرها وأهمها، فإني لو خصصت هذا الكتاب برمته لوصف عشر معشار الذي يستحق الذكر فيها لانتهيت وبيني وبين الإشباع بعد باعد؛ لأن لندن هذه مملكة أو بلاد عظيمة مساحتها 118 ميلا مربعا، وقد قامت على ضفتي نهر التمز، وامتدت إلى كل جانب حتى أضحت كأنما هي بلا آخر، تتصل أطرافها بالعمائر والمدائن الأخرى، فلا تعلم أين تبدأ المدينة وأين تنتهي، ولو جمعت شوارعها العديدة بعضها إلى بعض لبلغ طولها ثلاثة آلاف ميل أو أكثر، وهي مسافة تزيد عن البعد ما بين مصر ولندن، أو لو أحصي سكانها طائفة طائفة لوجدت أن فيها من أهل اسكوتلاندا أكثر مما في عاصمة تلك البلاد ومن الكاثوليك أكثر مما في رومة - وهي عاصمة العالم الكاثوليكي - ومن اليهود أكثر مما في القدس، ومن الألمان أكثر مما في مدينة ألمانية من مدن الطبقة الثانية، هذا غير أن أهل الأرض كلهم يجدون فيها من المواطنين عددا عديدا، وقد يوجد في لندن آلاف من بلاد واحدة لا يجتمعون بعضهم على بعض إلا في حفلات نادرة، أو قد يعيش المرء عمرا كاملا فيها وله صديق في ناحية أخرى منها لا يلتقي به لاتساع هذه المدينة وكثرة أحيائها واحتشاد الملايين في كل جوانبها، وأما إذا شئت أن تحصي ما يرد إليها من بضاعة وتجارة، وما يودع فيها من كتب البريد ورسائل البرق وما ينفق فيها من المال على هذه الحاجة وذلك الشيء؛ فإنك ترى أرقاما يمكن لك قراءتها ولا يمكن إدراكها، فهي مثل أبعاد الكواكب وأجرام السماء ألوف فوق ألوف لا تدرك أهميتها العقول، يكفي أن يقال إن بعض مخازنها العظمى تبيع بنحو خمسة ملايين جنيه في السنة، والعمال في بعض مصارفها ومعاملها عشرات آلاف يتناولون الرواتب الطيبة، وفيها 216 ميدانا كبيرا غير الميادين الصغرى و565 محلا للأنغام الموسيقية والتمثيل، وحوالي ثلاثمائة معرض ومتحف من جميع الأشكال، وأكثر من عشرة آلاف أثر أو تمثال في حدائقها وشوارعها والميادين، وفوق مليون مصباح تنير جوانبها الواسعة بعضها كهربائي والباقي أكثره غاز مثل نور المدائن المصرية. وفي شوارعها ازدحام لا تفهمه العقول من الوصف، ولا بد لإدراكه من المشاهدة؛ فإن الناس والمركبات والعربات والأرتال والخيل وسواها سلسلة متصلة الحلقات إلى الجانبين لا تنقطع طول النهار، حتى إنك لو وقفت عند بنك إنكلترا مدة النهار من أوله إلى آخره تريد أن تجتاز الطريق من جانب إلى جانب لما لقيت فرصة تناسب مرادك، ولا أمكن لك العبور إلا إذا وقفت العربات قليلا من هنا ومن هنا، بإشارة من رجل البوليس الواقف أمامك، وهنا لا بد من القول إن بوليس لندن من أعظم قوات الأرض انتظاما، وقد لا يكون في الممالك المنظمة بوليس مثله في حسن المنظر والترتيب؛ فإن رجاله ينتقون من ذوي القامات الطويلة والمناظر الحسنة، ويشترط فيهم أن يكونوا ذوي معارف وخبرة بأحوال البلاد، فهم يرشدون الناس إلى كل أمر بلطف لا مزيد عليه، ويسوقون أهل الجرائم إلى المحاكم، فتكفي شهادتهم لإدانته، ولا يلزم لذلك مرافعة أو نيابة، ويخلون الشوارع من الزحام على كثرة الوافدين والمحتشدين ولا يظهر عليهم ملل أو عناء، وإن تسلهم عن مطعم أو نزل أو معرض تريد أن تذهب إليه أجابوك بوقار ورقة أن سر إلى الجهة الفلانية خطوات معدودة، ثم تحول إلى يمينك أو يسارك ثم انتقل ثم سر أمتارا يعدونها لك بوجه التقريب، فتصل إلى حيث تريد ولهم في معرفة الأماكن علم عجيب. وأما إشارتهم للعربات بالوقوف فمن أجمل الحركات فيها الإشارة إلى مقدرتهم واحترام جماهير الإنكليز للقانون والسلطة الشرعية؛ لأن هذه العربات كما قلنا تعد آلافا في كل شارع بعضها يلي بعضا، فإذا اجتمع المارة في نقطة يريدون العبور منها إلى الجهة المقابلة أشار رجل البوليس الواقف في منتصف الطريق برفع يديه قليلا وعند ذلك تبطل كل حركة وتقف الحوافل والعربات كلها من الجانبين كأنما يد الرجل آلة تتصل بعجلات المركبات، فإذا رفعت هذه الآلة أوقفت مسير العجلات، وعند ذلك يمكن للمارة الانتقال حتى إذا تم هذا رفع الرجل يده مرة أخرى فتعود سلسلة المركبات إلى المسير، ولا يخالف الأمر حوذي ولو يكون سائق عربة الملك بنفسه، ولطالما رأيت العربة وأنا راكب فيها تقف حينا بعد حين في مسيرها، وأتطلع فلا أجد بوليسا يوقفها حيث أكون، وعلمت أن الأمر جاء من موضع في آخر الشارع فوقفت كل عربة وأوقفت التي وراءها حتى وصل الدور إلى عربتي، ووقفت ثم عادت إلى المسير والذي يوقفها ويسيرها رجل لا تراه، وفي هذا من بدائع النظام ما يسر العقول.
وقد كانت مدينة لندن صغيرة في أول أمرها لا تزيد مساحتها عن ميل مربع إلى ضفتي التمز، ثم اتسع نطاقها وامتدت فروعها حتى صارت أوسع مدائن الأرض وأكبرها، ومساحة أرضها خمسة أضعاف مساحة باريس؛ لأن منازلها فيما سوى القسم المتوسط منها غير مزدحمة وشوارعها رحيبة وحدائقها كثيرة وميادينها عديدة، وأما البقعة الأصلية التي كانت فيها لندن الأولى فتعرف باسم «ستي» أو المدينة، وهي قسم خاص من أقسام لندن له أهمية كبرى؛ لأنه خص بالتجار والمصارف والأعمال المالية الخطيرة، وفيه بنك إنكلترا العظيم والبنوك الأخرى وإدارات الشركات التجارية والجرائد اليومية ومقر محافظ لندن ومحكمة خاصة بأعمال «الستي» هذه، وهي بالإجمال مركز الحركة ونسبتها إلى بقية لندن نسبة القلب على جسم الإنسان؛ لأن الدم يدور في الجسم متفرعا من القلب، وحركة المال والأعمال تدور في كل لندن ومرجعها إلى «الستي»؛ ولذلك نجد أجرة المخازن والوكالات فيها عظيمة، وثمن الأرض فوق التصديق لا يقل عن خمسين جنيها عن كل قدم مربعة وقد يزيد، ولو بيعت بعض الأراضي المجاورة لبنك إنكلترا بالفدان لزاد ثمن الفدان الواحد عن مليوني جنيه، وفي هذا ما يكفي للدلالة على عظمة المدينة واتساع نطاق الحركة التجارية فيها.
وللستي أو المدينة قوانين خاصة بها وعوائد قديمة لم تتغير عما كانت عليه في أيام الملوك الأول إلا قليلا، ولها محكمة تجارية خاصة بها وبأعمال تجارها في قصر مشهور يعرف باسم جلدهول، وهو دار البلدية تولم فيه بعض الولائم الرسمية يقيمها حاكم مدينة لندن أو اللورد مايور وهو ينتخب من بين أعضاء مجلس يدير شئون هذا القسم العظيم من أقسام لندن ويسمى لوردا مدة تولي الوظيفة، ويعطى راتبا سنويا مقداره عشرة آلاف جنيه، ولا تزيد مدة ولايته عن سنة واحدة، وهم في كل يوم تاسع من شهر نوفمبر ينتخبون حاكما جديدا ويحتفلون بتعيينه احتفالا لا مثيل له عن الإنكليز في الأبهة والفخامة، حتى إن يوم اللورد مايور ليعد بينهم من الأعياد الكبرى، ويتطلع إليه الصغار والكبار في كل حين. فأما صغار الناس؛ فلأن الكتاب والعمال منهم يستريحون يومئذ من عناء الأعمال ويتفرجون على موكب اللورد مايور حين يدور في أهم شوارع المدينة، وأما الكبار فإنهم يدعون إلى وليمة فاخرة مساء ذلك اليوم في قاعة جلدهول التي ذكرناها، ومن شروط هذه الوليمة أن يدعى إليها كل كبير وذي مقام، وفي الجملة وزراء الدولة الذين اعتادوا الحضور وإلقاء الخطب الرنانة تعرب عن سياسة المملكة في تلك الليلة، حتى إن وزراء الخارجية إذا أرادوا التصريح بأمر ذي بال أبقوه إلى ليلة اللورد مايور، والذين يهمهم معرفة خطة الحكومة في مسألة من المسائل يقرءون الخطب التي تتلى في تلك القاعة البديعة، وفي كل سنة تنقل الأسلاك البرقية أقوال هؤلاء الوزراء العظام إلى جهات الأرض في 9 نوفمبر على ما يذكر القارئون. وهم في مثل هذه الأحوال يبدءون بالطعام ويتلوه الشراب الفاخر ثم يقف اللورد مايور مرحبا بالضيوف وفي يده كأس من الخمر يشربه في سر جلالة الملك فيشاركه الحاضرون مظهرين آيات الإكرام، ويقوم بعد هذا الوزراء للخطابة ثم يشرب رئيس الوزراء نخب اللورد مايور، ويشكره على إعداد تلك الحفلة متمنيا له عاما سعيدا في الختام، وبهذا يتم الاحتفال الذي تدوي الأرض بأخباره في كل عام.
ولما كان اتساع لندن الهائل وكثرة الأعمال فيها توجب تسهيل طرق المواصلة ، فقد بنوا فيها من محطات سكك الحديد شيئا كثيرا، من ذلك 14 محطة كبيرة لشركات مختلفة توصل لندن بجهات البلاد وأطرافها، وكلها واسعة فخيمة البناء تنار بالكهربائية، وفوق أكثرها فنادق عظيمة مشهورة تديرها شركات سكك الحديد، وأكبرها مساحة محطة واترلو فيها 16 رصيفا، تقوم القطر منها، وينتقل الناس من رصيف إلى رصيف على جسور جميلة فإذا ذهب الرجل إلى هذه المحطة للسفر أو لغيره وجب عليه أن يسأل العمال الواقفين في مدخلها عن الرصيف الذي تسير منه القطرات إلى الجهة التي يريدها، ولا بد أن يجد المسافرون في كل محطة رجالا يخبرونهم عن المواعيد وكل ما يلزم لراحتهم، وبعضهم لا يبطل الكلام جوابا على السؤالات التي يوجهها القادمون إليه مدة النهار بطوله. وفي لندن غير هذه المحطات ست وعشرون محطة أخرى خصت بهذه العاصمة، وقد بنيت كلها تحت الأرض وأنفقت الشركة على حفر السراديب لها وعملها مبالغ طائلة، وهي تخترق لندن في جميع جهاتها، فلو رأيت رسم هذه العاصمة تحت الأرض لعجبت من كثرة الطرق والسراديب ينتقل فيها الألوف ومئات الألوف كل يوم، فإنه يقوم كل يوم أكثر من ألفي قطر تسير تحت الأرض من جهة في لندن إلى جهة، وكلها ملأى بالركاب والمتنقلين، فيبلغ عددهم مليونا ونصفا من الخلق في كل أسبوع أو نحو 77 مليونا في السنة، وأغرب من هذا أن القطر التي تسير على الأرض وتحت الأرض لم تكف للمطلوب، فعندهم قطر حديدية تسير فوق الماء وتحت الماء، فأما فوق الماء فإنهم بنوا لها جسورا عديدة متينة فوق نهر التمز ترى الأرتال دائمة المرور عليها، وأعظمها جسر البرج عند برج لندن - الذي سيجيء الكلام عليه - بني حديثا على نسق بديع وجعل طبقات، واحدة منها لسكة الحديد وواحدة فوقها للمشاة يصعدونها على سلم في أولها وينزلون من سلم في آخرها، ويقرب منه في الجمال جسر لندن طوله 928 قدما وعرضه 54، وهو قائم على عمد ضخمة وقناطر عظيمة تمر من تحتها السفن والمراكب السائرة في نهر التمز، وقد أنفقوا على بنائه مليوني جنيه ، وحسبوا أنه يمر فوقه 20 عربة في الدقيقة أو 15 ألفا في كل يوم، وأما تحت النهر فإن في لندن خطين تسير عليهما القطر في سراديب عظيمة تحت بطن النهر، سقوفها بالحديد وبنوا لها محطة في كل جانب من جانبي النهر، والمسافر ينزل المحطة في آلة رافعة وخافضة، أو على سلم كثير الدرجات حتى إذا وصلها رأى الأرض تعج بالخلق تحت ماء النهر والمحطة الفسيحة منارة بالكهربائية فيركب العربة ويسير به القطار في ذلك النفق، يجري الماء من فوقه حتى يصل الضفة الأخرى ويعود إلى وجه الأرض.
وكل هذه الخطوط وهذه السكك لم تكف أيضا حتى إنهم أنشئوا من البواخر تسير في نهر التمز ما لا يعد، وهي طول النهار في رواح ومجيء بين أطراف المدينة، هذا غير ما في عاصمة الإنكليز من الترامواي والأمنبوس والحوافل والعواجل والعربات على أشكالها، وعدد العربات الصغيرة للأجرة من نوع الهانسم الذي يركب سائقه في أعلى العربة من الوراء 30 ألفا، فاحسب عدد العربات الأخرى للأجرة ولأصحابها العديدين وتصور مقدار الحركة الهائلة في هذه المدينة العظيمة. ومن أجمل ما يمكن للغريب أن يراه ويعرف منه أهمية لندن أن يصعد الطبقة العليا من جسر البرج الذي مر ذكره فيرى تحته قطر الحديد والعربات على أشكالها سائرة مجدة من الجانبين، وتحتها سفن البخار والزوارق والقوارب لا تعد سائرة فوق الماء، وتحتها أرتال عظيمة سائرة بالألوف في سراديب تحت الماء، ومن حولها إلى الجانبين قطر وعربات سائرة على وجه الأرض في كل جهة، فإذا رأى الغريب كل هذا صفر عجبا لعظمة الإنكليز ومقدار اشتغالهم واتساع نطاق أعمالهم وعظمت عاصمتهم الكبرى في عينيه فوق عظمتها المعروفة.
وأحسن ما يكون لمشاهدة ما في لندن من المتاحف والمعارض والآثار العظيمة أن يبدأ المتفرج من ساحة ترافلجار؛ لأنها نقطة الفصل بين أقسام لندن الأربعة - أي الشمال والجنوب والشرق والغرب - بدأت من هذه الساحة، فدخلت شارع ستراند، وهو من أعظم شوارع إنكلترا أهمية وازدحاما، فيه التجارة والبنوك وشركات التأمين والبوسطة العمومية والتلغراف والبورصة ودار البلدية وبنك إنكلترا، وهناك الازدحام الشديد والحركة التي لا تحدها العقول، وكل هذه في الجهة الشرقية من ساحة ترافلجارز وأول شيء يلتفت إليه الغريب كنيسة مار بولس تعد أعظم كنائس الإنكليز، وتقام فيها أكثر الاحتفالات العظيمة مثل احتفال اليوبيل الذي سنذكره، طولها 500 قدم وعرضها 118 ولها قبة عظيمة تعد من غرائب البناء الجديد، محيطها من الداخل 225 قدما وعلوها 365، فهي من أعلى أبنية الأرض. وفي ساحة هذه الكنيسة من الخارج تمثال الملكة حنة التي نظمت في أيامها قوانين الكنيسة الإنكليزية - على ما تقدم في فصل التاريخ - وتماثيل الرسولين بطرس وبولس، وفي داخلها قبور وتماثيل لكثيرين من عظماء الدولة الإنكليزية الذين شادوا لها صروح الفخار في هذا العصر وسابق الأعصار، مثل أمير البحر نلسون وقائد الجيوش ولنتون وهما اللذان حاربا نابوليون وكسراه، ومثل اللورد ملبورن أول وزراء الملكة فكتوريا وغوردون الذي قتل في الخرطوم وغيرهم كثير، ولقبة هذه الكنيسة - كما قلنا - شهرة ذائعة، قضوا أعواما كثيرة يشتغلون بتذهيبها وزخرفتها، وقد أنفقوا على ذلك الأموال الطائلة، ويمكن ارتقاء البرج على سلم كثير الدرجات عددها 616، والتفرج على مدينة لندن من ذلك العلو الشاهق إذا سمحت أحوال الجو بذلك فإن جو لندن متلبد بالغيوم في الصيف والشتاء، وإذا أشرقت الشمس فإن كثرة البخار والضباب والدخان في الهواء لا تساعد على النظر إلى البعيد من المشاهد.
لما انتهيت من مشاهدة هذه الكنيسة سرت في روستريت، وهو شارع عظيم فيه تمثال روبرت بيل الوزير المشهور توفي سنة 1850، وعلى مقربة منه إدارة البوسطة العامة وأعمالها تحير البصر؛ لأنها أكبر إدارة لأكبر عاصمة ولأكثر الناس حركة وأعمالا، ومثلها إدارة التلغراف العمومية، وهي تجاهها يكفي أن يقال في وصفها إن مئات من آلات التلغراف ترسل كل سنة عدة ملايين من الإشارات، والعمال فيها لا يرفعون رءوسهم من العمل مدة النهار بطوله أو مدة نوبتهم، وبينهم كثار من البنات في كل فروع البوسطة والتلغراف، وإيراد الدولة لا يقل عن 16 مليون جنيه كل سنة من هذه المصلحة بعد كل نفقاتها الهائلة، وقد سرت من تلك النقطة إلى موضع، هو مركز مدينة لندن حيث قام قصر حاكم لندن أو المانشن هوس، يقيم فيه العميد مدة توظفه سنة مع عائلته، وهو من القصور المنيفة فيه أحسن الرياش والخدمة بالملابس المقصبة برواتب من البلدية، والعميد يدخل هذا القصر كل سنة باحتفال رسمي، ويسلمه لخلفه بحفلة أخرى عند تجديد الانتخاب السنوي.
وتجاه المانشن هوس قصر البلدية أو جلدهول، بدءوا ببنائه سنة 1411 وانتهوا سنة 1431، وقد احترق وأعيد بناؤه سنة 1866 وزيدت زخارفه حتى صار من المشاهد المعدودة في أوروبا. وفي هذا القصر تولم الولائم لضيوف لندن من الملوك والكبراء، وتقام الحفلات السنوية، وأهمها حفلة 9 نوفمبر من كل سنة حين يدعو العميد وزراء إنكلترا للعشاء ويدعو معهم كل ذي مقام خطير، فتلقى في تلك الحفلة خطب تعرب عن سياسة الدولة وقد تقدمت الإشارة إليها، طول القاعة العمومية هنا 152 قدما وعرضها 49 ومنظر شبابيكها القديمة من أحلى ما يفتخر به الإنكليز، وفي هذه القاعة تماثيل الرجال العظام الذين شيدوا ملك إنكلترا الواسع مثل القواد والوزراء. وقد بني هذا القصر وقصر المحافظ وبنك لندن في ساحة واحدة على شكل مثلث هو على وجه الجملة أهم موضع في عاصمة الإنكليز.
نامعلوم صفحہ