وطبقة ثالثة هي الرقيق الذي لا حق له حتى في نفسه، يملكه سيده كما يملك ما في بيته من أداة، ويسخره فيما يريد من أمره كما يشاء، ليس له أن ينكر ولا أن يعترض، وإنما عليه أن يسمع ويطيع. وسيده يملك أن يحرره بالعتق كما يملك أن يبيعه أو يهبه، كما يملك أن يعاقبه أشد العقوبة وأيسرها، وله عليه حق الموت والحياة، ولكن قريشا لم تكن تغلو في استعمال هذا الحق.
وإلى جانب هذه الطبقات الثلاث كان يعيش بمكة شذاذ من الآفاق ليسوا عربا ولكنهم عجم من أمم مختلفة، أقبلوا متجرين بتجارة تحتاج إليها الطبقة الغنية والوسطى. بعض هؤلاء كان يتجر باللهو: يسقي الخمر، ويسمع الغناء، ويلهي من احتاج إلى اللهو من شباب قريش بألوان من المتاع ليس من السهل أن يوجد في البيئات العربية، وبعضهم كان يتجر بالنقد يصرف الدنانير والدراهم ويقوم الذهب والفضة بهذين النقدين.
وكان هؤلاء الأجانب يعيشون في أمن لا يعرض لهم أحد بمكروه لمكان الحاجة إليهم، وأكثرهم كانوا من المسيحيين أقبلوا من بلاد الروم، وربما كانوا ينفعون قريشا بما يحدثونهم من أحاديث بلادهم، وبما يفتحون لهم في هذه الأحاديث من أبواب التجارة والربح.
كذلك كانت تعيش مكة في ذلك العصر، يضطرب فيها هؤلاء السكان على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأجناسهم. وواضح أن أكثر الرقيق لم يكونوا عربا فلم تكن قريش صاحبة حرب؛ لأن المال والتجارة لا يحبان الحرب.
فكانت تشتري هؤلاء الرقيق فيما كانت تشتري من العروض، وربما اتجرت فيهم أحيانا. ولكنها كانت تشتريهم في أكثر الأحيان لمنافعها ومآربها وحاجاتها المختلفة، وواضح أن هؤلاء الرقيق لم يكونوا يدينون دين سادتهم، وإنما كان منهم المسيحي واليهودي والمجوسي حسب البلاد التي نشئوا فيه واجتلبوا منها. ومن الطبيعي أن أغنياء قريش وأهل الطبقة المتوسطة منهم لم يكونوا يعملون في التجارة، فكان الرقيق يكفونهم حاجاتهم اليومية: يرعون عليهم ما كانوا يملكون من الإبل والغنم، ويعنون بما كانوا يملكون من الخيل، ويعملون فيما كانوا يملكون من الأرض خارج مكة في الطائف أو في غيرها، ويقومون بخدمتهم في دورهم، ويخدمونهم في أسفارهم في الصيف والشتاء، وربما كان بعضهم يحسن حرفة من الحرف، فكان سادتهم يسخرونهم في اصطناع حرفهم هذه والاكتساب منها، على أن يكون كسبهم لسادتهم لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا ما يقوتهم ويقيم أودهم.
وكذلك اجتمعت في مكة أجناس مختلفة من الناس وألوان مختلفة من الديانات، وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا كله في حياة قريش. وليس شيء أشد تأثيرا في حياة الناس من اتصالهم بالأجناس المختلفة ذوي الحضارات والديانات المختلفة، وهذا هو الذي يفسر لنا ما امتازت به قريش من العرب كافة - في ذلك العصر - من ذكاء القلوب وسعة الحيلة ونفاذ البصيرة وبعد النظر وحسن السياسة لأمورها كلها والبراعة في القيام على المال واستثماره، وفي فهم الناس والنفوذ إلى أعماقهم.
ولكن قريشا على ذلك كانت تسكن قرية في واد غير ذي زرع، قرية منقطعة انقطاعا تاما من البلاد المتحضرة. كل شيء كان يؤهل قريشا وقريتهم للحضارة وللحضارة الممتازة لولا هذا الانقطاع الذي فرض عليها.
ومن الحق أن قريشا كانت تتصل اتصالا منتظما بالبلاد المتحضرة بحكم أسفارها في التجارة، ولكن الحضارة لا تنقل من مكان إلى مكان كما تنقل العروض، وإنما تنشأ في بيئة من البيئات تنبت من الأرض ثم تقوى وتشتد ويزيدها الاتصال بالأمم المتحضرة نموا وازدهارا.
5
كذلك كانت تعيش قريش في القرن السادس للمسيح، ليس من اليسير أن نحدد لها نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس؛ فلم يكن لها ملك ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة أيضا، ولم يكن لها طاغية يدبر أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية قد احتفظت بكثير من خصائص القبائل البادية. فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه الأحياء والبطون والفصائل قائم يشتد حينا ويلين حينا آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية كما كانت الحال في البادية، وأمور الحكم - إن صح أن يذكر لفظ حكم - تجري كما كانت تجري في القبيلة البادية. وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شئون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أو شيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام أو في دار الندوة، وأمام هذا المجلس تعرض مشكلات التجارة وتعرض المشكلات التي تكون بين أحيائها، وقد تعرض المشكلات التي تثار بين الأفراد إن بلغت من الخطر أن تثير خصومة بين حيين أو أكثر.
نامعلوم صفحہ