الكتاب الأول
الكتاب الثاني
الكتاب الأول
الكتاب الثاني
مرآة الإسلام
مرآة الإسلام
تأليف
طه حسين
الكتاب الأول
1
في أواسط القرن السادس للمسيح كانت الأمة العربية متخلفة أشد التخلف بالقياس إلى الأمم التي كانت تجاورها، لها في الجنوب بقايا حضارة كانت قد درست، ولم يكن أهل الجنوب أنفسهم يعلمون من أمرها إلا أخلاطا هي إلى الأساطير أقرب منها إلى الحق.
كانوا يذكرون حمير وملوكها من التبابعة، وكانوا يذكرون سبأ، وكانوا يذكرون الأذواء، بل كان الأذواء ما يزالون يحتفظون بشيء من سلطانهم، يعيشون في حصونهم ويتسلطون على أهلها وعلى من حولها في حواضر الجنوب وبواديه.
وكانت هناك مع ذلك قبائل متبدية لا تخضع لأحد منهم، وإنما تعيش عيشة الأعراب في بواديهم. وكانت في الجنوب مدن كبار أو صغار فيها بقية من حضارة، ولكنها لا تغني عن أصحابها شيئا. ولم يكن الجنوب العربي خالصا للعرب، وإنما كان الحبشة يتسلطون على جزء عظيم منه، وعجز العرب عن إجلاء هؤلاء المحتلين فاستعانوا بالفرس على ذلك وأعانهم الفرس، ولكن لا ليردوا عليهم سلطانهم ولا ليخلصوا لهم وطنهم، بل ليقوموا مقام الحبشة الذين أجلوهم.
وكان أهل الجنوب مع ذلك قد وصلت إليهم دعوة الدينين: اليهودي والمسيحي. وأكبر الظن أن يهوديتهم ومسيحيتهم كانتا تتأثران بجهلهم وغلبة البداوة عليهم. كالذي سنراه حين نتحدث عن شمال الجزيرة.
ومهما يكن من شيء فمن الإسراف في الخطأ أن نظن أن أهل جنوب الجزيرة العربية في ذلك الوقت قد كانوا على شيء ذي خطر من الحضارة بمعناها الصحيح. ولكنهم على كل حال كانوا يحيون حياة خيرا من الحياة التي كان يحياها سائر الأمة العربية في قلب الجزيرة وشمالها.
كانت لهم بقية من زراعة وكانت تصل إليهم تجارة الهند وأشياء من تجارة الحبشة والفرس، وكان أهل الشمال كما سنرى يلمون بهم كل عام فينقلون ما عندهم من التجارة لينشروها في العالم المتحضر. وكان هذا كله يتيح لهم شيئا من ثراء، فلم يكن عيشهم قاسيا ولا غليظا كعيش غيرهم من العرب.
وكان ما ورثوا من بقايا حضارتهم الدارسة وما وصل إليهم من الديانتين السماويتين وما أتيح لهم من هذا الثراء المتواضع؛ كان كل ذلك قد جعلهم أرق قلوبا وأصفى طباعا من أهل الشمال. ولكنهم على هذا كله كانوا متخلفين بالقياس إلى الأمم المتحضرة، فكانت كثرتهم الكثيرة أمية وكان أقلهم يكتبون ويقرءون.
فإذا تركنا الجنوب إلى قلب الجزيرة العربية - أي إلى نجد - فالحياة القاسية والعيش الغليظ والجهالة المطبقة، ونظام القبائل الذي يقوم على العصبية أكثر مما يقوم على أي شيء آخر.
ولم يكن حال الشمال من تهامة والحجاز خيرا من حال نجد، وإن وجدت في الحجاز مدن أو قرى، كما كان يقال في تلك الأيام، وإن عاش أهل هذه المدن أو القرى عيشة الاستقرار والدعة لا يرحلون عن مدنهم أو قراهم تتبعا للغيث والتماسا للكلأ، وإنما يرحلون تجارا إلى الجنوب في الشتاء وإلى الشمال في الصيف، كما يحدثنا بذلك القرآن الكريم عن قريش.
كان لأهل الطائف وأهل يثرب شيء من زراعة، ولكن حياتهم كانت تقوم على زراعتهم هذه اليسيرة وعلى تجارتهم أيضا، وكانت حياة مكة تقوم على التجارة من جهة وعلى الحج من جهة أخرى، يفد إليها العرب من أقطار الجزيرة في موسم الحج فيقضون نسكهم ويتجرون أيضا وتنتفع مكة بما يحملون من ألوان التجارة.
ومن حول هذه المدن أو القرى كانت البوادي بما فيها من شظف العيش وقسوة الحياة والتنقل في التماس المراعي، والخصومات المتصلة التي تثيرها العصبية بين القبائل، والتي تنتج عنها الغارات والحروب. ومع ذلك فلم يستطع أهل هذه المدن أو القرى أن يبرءوا من العصبية، ولا أن يعيشوا عيشة المتحضرين بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما كانت العصبية قوام حياتهم، يعيشون عيشة القبائل في البادية، وقد تثار بينهم الخصومات، وقد تشب بينهم الحروب.
وكان هذا كله يستتبع كثيرا من جفاء الأخلاق وغلظ القلوب، بحيث لم تكن حياة أهل القرى تمتاز من حياة أهل البادية إلا بشيء من ثراء كانت تستأثر به قلة من الأغنياء، الذين يتسلطون على من يعيش معهم من الناس تسلطا لا يخلو من عسف وظلم وأثرة واستعلاء. وكانت اليهودية قد استقرت في شمال الحجاز لأسباب لا نحققها ولا يبينها التاريخ؛ فإلى جانب الأوس والخزرج في يثرب كانت تعيش قبائل يهودية، وفي خيبر كذلك. وهذه القبائل اليهودية كانت تحيا نفس الحياة التي كان العرب يحيونها من حولها، قليل من حضارة وكثير من بداوة.
وكانت كثرة اليهود في الحجاز أمية كالعرب، لا يقرأ ولا يكتب منهم إلا أحبارهم. وكان هؤلاء الأحبار أقرب إلى الجهل منهم إلى العلم، وقليل منهم من كان يحسن العلم بدينه فكيف بسائر اليهود!
وسنرى فيما يأتي من هذا الحديث كيف صور القرآن الكريم جهل اليهود من أهل الحجاز دينهم وكتابهم. ولسنا نعلم على سبيل التحقيق متى وصلت بعض القبائل العربية إلى أطراف الشام وأطراف العراق.
ولكن المحقق أن العرب في ذلك العصر الذي نتحدث عنه كانوا قد جاوزوا الجزيرة العربية شمالا إلى الشام واستقروا في أطرافه، وأنهم كذلك كانوا قد جاوزوا جزيرة العرب شرقا إلى العراق وإلى الجزيرة. وغلبت النصرانية على أولئك وهؤلاء، ولكنها كانت نصرانية خاصة يجهل أصحابها حقائقها ولا يكادون يعرفون منها إلا مظاهر وصورا.
وكما أن الإمبراطورية البيزنطية قد حمت هؤلاء العرب في الشام واتخذت منهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وأجزلت لهم العطاء ويسرت لهم سبل العيش؛ فكذلك صنعت الإمبراطورية الفارسية بالعرب الذين استقروا في العراق، اتخذتهم حرسا للحدود بينها وبين الجزيرة العربية وجعلت منهم ملوكا وسادة، وملكت بعضهم الأرض وأغدقت عليهم العطاء.
2
وإذن فقد عرف العرب النصرانية في الشام والعراق، وربما عرفوها في مكة أيضا وفي الطائف بفضل التجارة من جهة، وبفضل من كان يصل إليهم من الرقيق من جهة ثانية، وبفضل بعض التجار الذين غامروا بأنفسهم وبتجارتهم فوصلوا إلى مكة واستقروا فيها، وكذلك عرف العرب المسيحية في الجنوب في مدينة نجران التي اضطهد المسيحيون من أهلها وعذبوا في دينهم كما يحدثنا المؤرخون، وعرف العرب اليهودية في جنوب الجزيرة وشمالها.
فليس صحيحا إذن أن الأمة العربية في ذلك العصر كانت تعيش في عزلة لا تعرف من أمر الأمم المجاورة لها شيئا؛ فاليهودية والمسيحية لم تتنزلا على أهل الجنوب ولا على أهل الشمال من السماء، وإنما جاءتا أولئك وهؤلاء من الاتصال بالأمم المتحضرة المجاورة.
وليس من شك في أن بعض العرب الذين جاوروا الفرس وخضعوا لسلطانهم خضوعا ما قد عرفوا المجوسية الفارسية واتخذوها لهم دينا. وقد يقال إن أهل البادية في نجد وتهامة والحجاز كانوا بمعزل من هذا كله، قد انقطعوا لأنفسهم وفرغوا لحياتهم تلك الغليظة القاسية، ولكن هذا أيضا لا يستقيم؛ فمن عرب البادية والقرى ظهر شعراء كانوا يلمون بعرب الشام وعرب العراق ويأخذون جوائز ملوكهم وسادتهم، ويعودون بعد ذلك إلى قومهم في البادية فيحدثونهم بما رأوا وما سمعوا.
وهذه التجارة المتصلة بين أهل القرى وبين الأمم المجاورة كانت جديرة أن تعرف العرب كثيرا من شئون الفرس والروم والحبشة أيضا. ولأمر ما تنصر أفراد من قريش كورقة بن نوفل وزيد بن عمرو، ولأمر ما نجد فيما ينسب إلى بعض الشعراء في ذلك العصر من الشعر ما يدل على أنهم قد عرفوا أطرافا من المسيحية واليهودية كالذي نجده عند النابغة الذبياني وعند زهير وعند الأعشى وعند أمية بن أبي الصلت الذي قال فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما روى الشيخان: «كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم.»
ونحن لا نجد عند الشعراء هذه الأطراف من الديانتين اليهودية والمسيحية فحسب، وإنما نجد عندهم - إن صح ما ينسب إليهم من الشعر - وصفا لأطراف من حضارة تلك الأمم كوصفهم لمجالس اللهو والشراب والغناء وغير ذلك.
فعزلة الأمة العربية إذن سخف من السخف لا ينبغي أن يقبل أو يطمأن إليه. وكل ما في الأمر أن قلب الجزيرة العربية وشمالها لم يخضعا لسلطان أمة متحضرة، وإنما خلي بينهما وبين الحياة الحرة يحياها أهلهما كما يريدون أو كما يستطيعون. فعاشوا عيشتهم تلك الغليظة الجافية لم تصل إليهم الحضارة وإنما وصلت إليهم أطراف منها. فهموا بعضها وقصروا عن فهم بعضها الآخر؛ فسيطرت عليهم جاهليتهم بكل ما فيها من الآثام والشرور والمنكرات.
3
وكان لهم دين غليظ كحياتهم هو هذه الوثنية الساذجة الغليظة التي لم تفكر فيها عقولهم ولم تمتزج بقلوبهم، وإنما كانت أخلاطا ورثوها عن آبائهم فلم يغيروا منها شيئا، بل أنكروا كل من حاول أن يغير منها شيئا كالذي صنعت قريش بزيد بن عمرو حين أظهر السخط على دينها. وإذا أردنا أن نحلل هذا الدين الذي كانت العرب تدين به في غير فقه ولا تعمق، فسنرى أولا أنهم لم يكونوا ينكرون أن للسموات والأرض وما فيهن خالقا هو الإله الأعظم. واقرأ إن شئت قول الله عز وجل:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله .
ثم اقرأ إن شئت هذا البيت الذي أحبه النبي
صلى الله عليه وسلم
من شعر لبيد فيما روى الشيخان:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكل نعيم لا محالة زائل
ولكن علمهم بوجود الله كان ساذجا لم يبلغ أعماق قلوبهم ولم يصل إلى دخائل ضمائرهم ولم يمتزج بنفوسهم، فاتخذوا من دون الله آلهة قريبة منهم يرونها بأبصارهم ويلمسونها بأيديهم، بل قد يصنعون كثيرا منها بأيديهم كهذه الأصنام التي كانوا يتخذونها من الحجارة أو من الخشب، وكهذه الأشجار التي كانوا يعظمونها ويطيفون بها. ثم لم يكتفوا بذلك بل اعتقدوا أن الأرض التي يعيشون عليها ليست خالصة لهم، وإنما يعيش عليها معهم كائنات أخرى حية هي أقوى منهم قوة وأشد منهم بأسا، كائنات لا يرونها ولكنهم قد يسمعونها، وقد يخيل إليهم أنهم يرون آثارها، وهي كانت - فيما زعموا - تخالط آلهتهم وتجري على أيديها بعض الأحداث، وربما خالطت أفرادا منها فأنطقتهم بأشياء فيها إنباء بما كان وإنباء بما سيكون، وهذه الكائنات هي الجن؛ أي الكائنات المستخفية المستورة التي لا يراها الناس ولكنهم يرون - فيما زعموا - بعض ما تفعل ويتلقون منها - فيما زعموا أيضا - بعض ما تقول.
ربما اعتقدوا أن الآلهة التي كانوا يتخذونها ليست في أنفسها خالقة لشيء ولا مدبرة لشيء، ولكنها واسطة بينهم وبين الإله الأعظم الذي خلق السموات والأرض والذي يدبر الأمر كله؛ فهم لا يعبدون هذه الآلهة لأنها تستطيع وحدها أن تنفعهم أو تضرهم، وإنما يعبدونها لتشفع لهم عند الله ولتقربهم إلى الله زلفى كما نقرأ في القرآن الكريم.
فهم مشركون لا يجحدون الله ولا يعبدونه وحده، وإنما يعبدون معه آلهة أخرى يتخذونها واسطة بينهم وبينه.
وتمضي القرون على هذا النحو من الوثنية فتضاف إليه على مر الزمان الخرافات والسخافات، وإذا هم يقربون إلى آلهتهم كأنهم يرشونها لتشفع لهم عند الله، وهم يستشيرونها في أكثر أمرهم ويستقسمون عندها بالأزلام، وهم يرضون عنها حين ترضيهم ويسخطون عليها حين تسخطهم لا يخطر لهم أنها أعجز من أن ترضى أو تسخط، وإنما يحاولون الأمر ويستعينون بآلهتهم، فإن تم لهم ما حاولوا من الأمر رضوا وزعموا أن الآلهة قد سمعت لهم وأجابتهم إلى ما طلبوا، وإن لم يتم ما حاولوا سخطوا وزعموا أن آلهتهم لم تستجب لهم ولم تعنهم.
كذلك كانت هذه الوثنية ساذجة إلى أقصى حدود السذاجة، سخيفة إلى أبعد غايات السخف. ولم يفكر هؤلاء العرب الوثنيون فيما يمكن أن يكون بعد الموت، بل قدروا أن لهم حياتهم هذه التي يحيونها على الأرض، وأن آلهتهم وسطاء بينهم وبين الله على أن يقضوا آرابهم وينفقوا حياتهم هذه كأحسن ما يحبون، فإذا أدرك الموت جيلا منهم مضى لسبيله وجاء جيل بعده وقد ورث عنه دينه وآراءه في الله الذي خلق السموات والأرض، وفي هذه الآلهة التي تسعى لهم عند الله فيما يريدون من الخير، وفي رد ما يخافون من الشر والمكروه.
وكثير من هؤلاء العرب الوثنيين كانوا يتصلون بالمسيحيين واليهود يسمعون منهم ويقولون لهم ويعاملونهم في شئون الحياة على اختلافها، ولكنهم على ذلك لا يتأثرون بما يرون من دينهم ومن مذاهبهم في الحياة.
4
ولا أكاد أشك في أن وثنية أهل مكة لم تكن صادقة ولا خالصة، وإنما كانوا يتجرون بالدين كما كانوا يتجرون بالعروض التي كانوا يجمعونها من الجنوب ومن أنحاء الجزيرة العربية لينقلوها إلى أقطار أخرى من الأرض كانت محتاجة إليها. فهم كانوا أذكى قلوبا وأنفذ بصيرة وأكثر ممارسة لشئون الحياة في قريتهم تلك وفي غيرها من المواطن التي كانوا يختلفون إليها بتجارتهم. وهم كانوا بحكم ممارستهم للتجارة يتصلون بأمم متحضرة في الشام ومصر وفي العراق وبلاد الفرس أيضا. وكانوا يرون مذاهب هذه الأمم في الحياة ومذاهبهم في الدين أيضا؛ فلم يكن من الممكن أن يؤمنوا لهذه السخافات التي كان يؤمن بها العرب الوثنيون.
فإذا أضفت إلى ذلك أن الكعبة كانت في ظهرانيهم، وأن العرب كانوا يحجون إلى هذه الكعبة من جميع أنحاء الجزيرة، وأنهم لم يكونوا يأتون مكة للحج وحده، وإنما كانوا يأتون للحج والتجارة أيضا في تلك الأسواق التي كانت تقام كل عام تقريبا من قريتهم؛ عرفت أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان بتلك الوثنية والتعظيم لتلك الآلهة ترغيبا للعرب في الحج وتحقيقا لمنافعهم منه.
والذي نراه من حياة قريش قبيل الإسلام وحين بعث النبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم يدلنا أوضح الدلالة وأقواها على أنهم لم يكونوا أهل إيمان ولا أصحاب دين، وإنما كانوا قبل كل شيء أصحاب تجارة يسعون فيها عامهم كله، تسافر قوافلهم في جميع العروض ثم تعود فتستقر في مكة وقتا لتسافر بعد ذلك بهذه العروض تحملها إلى الآفاق. ولم يكونوا يؤثرون على تجارتهم شيئا، ولم يكن يشغلهم إلا التفكير في جمع المال من أغنيائهم وأوساطهم وفقرائهم أيضا لجلب العروض ثم بيعها وجلب عروض أخرى لبيعها في الجزيرة العربية نفسها وفي توزيع الأرباح التي تحققها التجارة على أصحاب الأموال. فكانوا ينفقون عامهم في أخذ وعطاء وانتقال واستقرار يتحدثون في المال والتجارة إذا لقي بعضهم بعضا، ويفكرون في المال والتجارة إذا خلوا إلى أنفسهم، وإذا شغفت النفوس بالمال وجدت في جمعه واستثماره شغلت به عن كل شيء وملك عليها أمرها كله، وأوشك أن يكون لها إلها تعبده وحده لا تشرك به شيئا.
والمال فتنة لقلوب الرجال يفسد عليها كل شيء ويوشك أن يصرفها عن كل خير. وكذلك كانت قريش في ذلك العصر: مؤمنة بالمال مذعنة لسلطانه، لا يعنيها إلا أن تستثمره وتكثره وتضيف بعضه إلى بعض، وتستمتع أثناء ذلك بما يمكن أن يتيح لها من طيبات الحياة وخبائثها أيضا. فقريش كانت تحب الترف بمقدار ما يتاح لمثلها منه، وتحب التسلط بشرط أن لا ينقص من مالها شيئا.
وإذا أردت أن تصور مكة كما كانت في ذلك العصر، فاذكر مدينة من مدن الفينيقيين الذين لم يكن يعنيهم إلا التجارة والمال، واذكر بعد ذلك أن المدن الفينيقية لم يكن في واحدة منها بيت يجمع الناس إليه من الآفاق كما كانت الحال في مكة.
وكان سكان مكة في ذلك العصر يأتلفون من طبقات ثلاث: طبقة لها كل الحقوق وهي قريش، تستند حقوقها إلى ما كانت ترى من شرف أصولها أولا ومن أنها صاحبة البيت ثانيا، وكانت هذه الطبقة الشريفة المستأثرة بالحقوق كلها تنقسم في نفسها إلى: فئة الأغنياء أولي الثراء العريض، وفئة الذين يملكون من المال ما يتيح لهم أن يتجروا سواء سافروا للتجارة أو اكتفوا بإعطاء أموالهم للمتجرين، وفئة أخرى فقيرة قد تملك القليل وتتجر فيه وقد لا تملك شيئا فهي مضطرة إلى أن تعمل لتعيش.
وهذه الفئات الثلاث من قريش كلها متساوية في الشرف وفي الاستمتاع بالحقوق، وهي من أجل ذلك تكون فئة ممتازة لطبقة السادة.
وتأتي بعدها طبقة أخرى هي طبقة الحلفاء، وهم ناس من العرب على اختلاف قبائلهم آووا إلى مكة ليأمنوا فيها؛ فهي مدينة حرام يأمن اللاجئ إليها مهما تكن جنايته وجرائره على قومه، وناس من العرب آخرون تسامعوا بغنى قريش ودعة الحياة في مكة فأقبلوا يبتغون فضلا من رزق. وكل هؤلاء وأمثالهم لم يكن يتاح لهم المقام المطمئن في مكة إلا إذا حالفوا حيا من أحياء قريش أو فردا من أفرادها. فهم أحرار إذا حفظوا حق الحلف والجوار، تحميهم قريش فيأمنون ويسعون في الرزق، ولكنهم ليسوا من قريش، وإنما هم طبقة دونها تعيش في ظلها ولا تشارك في حقوقها.
وطبقة ثالثة هي الرقيق الذي لا حق له حتى في نفسه، يملكه سيده كما يملك ما في بيته من أداة، ويسخره فيما يريد من أمره كما يشاء، ليس له أن ينكر ولا أن يعترض، وإنما عليه أن يسمع ويطيع. وسيده يملك أن يحرره بالعتق كما يملك أن يبيعه أو يهبه، كما يملك أن يعاقبه أشد العقوبة وأيسرها، وله عليه حق الموت والحياة، ولكن قريشا لم تكن تغلو في استعمال هذا الحق.
وإلى جانب هذه الطبقات الثلاث كان يعيش بمكة شذاذ من الآفاق ليسوا عربا ولكنهم عجم من أمم مختلفة، أقبلوا متجرين بتجارة تحتاج إليها الطبقة الغنية والوسطى. بعض هؤلاء كان يتجر باللهو: يسقي الخمر، ويسمع الغناء، ويلهي من احتاج إلى اللهو من شباب قريش بألوان من المتاع ليس من السهل أن يوجد في البيئات العربية، وبعضهم كان يتجر بالنقد يصرف الدنانير والدراهم ويقوم الذهب والفضة بهذين النقدين.
وكان هؤلاء الأجانب يعيشون في أمن لا يعرض لهم أحد بمكروه لمكان الحاجة إليهم، وأكثرهم كانوا من المسيحيين أقبلوا من بلاد الروم، وربما كانوا ينفعون قريشا بما يحدثونهم من أحاديث بلادهم، وبما يفتحون لهم في هذه الأحاديث من أبواب التجارة والربح.
كذلك كانت تعيش مكة في ذلك العصر، يضطرب فيها هؤلاء السكان على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأجناسهم. وواضح أن أكثر الرقيق لم يكونوا عربا فلم تكن قريش صاحبة حرب؛ لأن المال والتجارة لا يحبان الحرب.
فكانت تشتري هؤلاء الرقيق فيما كانت تشتري من العروض، وربما اتجرت فيهم أحيانا. ولكنها كانت تشتريهم في أكثر الأحيان لمنافعها ومآربها وحاجاتها المختلفة، وواضح أن هؤلاء الرقيق لم يكونوا يدينون دين سادتهم، وإنما كان منهم المسيحي واليهودي والمجوسي حسب البلاد التي نشئوا فيه واجتلبوا منها. ومن الطبيعي أن أغنياء قريش وأهل الطبقة المتوسطة منهم لم يكونوا يعملون في التجارة، فكان الرقيق يكفونهم حاجاتهم اليومية: يرعون عليهم ما كانوا يملكون من الإبل والغنم، ويعنون بما كانوا يملكون من الخيل، ويعملون فيما كانوا يملكون من الأرض خارج مكة في الطائف أو في غيرها، ويقومون بخدمتهم في دورهم، ويخدمونهم في أسفارهم في الصيف والشتاء، وربما كان بعضهم يحسن حرفة من الحرف، فكان سادتهم يسخرونهم في اصطناع حرفهم هذه والاكتساب منها، على أن يكون كسبهم لسادتهم لا يملكون لأنفسهم شيئا إلا ما يقوتهم ويقيم أودهم.
وكذلك اجتمعت في مكة أجناس مختلفة من الناس وألوان مختلفة من الديانات، وكان من الطبيعي أن يؤثر هذا كله في حياة قريش. وليس شيء أشد تأثيرا في حياة الناس من اتصالهم بالأجناس المختلفة ذوي الحضارات والديانات المختلفة، وهذا هو الذي يفسر لنا ما امتازت به قريش من العرب كافة - في ذلك العصر - من ذكاء القلوب وسعة الحيلة ونفاذ البصيرة وبعد النظر وحسن السياسة لأمورها كلها والبراعة في القيام على المال واستثماره، وفي فهم الناس والنفوذ إلى أعماقهم.
ولكن قريشا على ذلك كانت تسكن قرية في واد غير ذي زرع، قرية منقطعة انقطاعا تاما من البلاد المتحضرة. كل شيء كان يؤهل قريشا وقريتهم للحضارة وللحضارة الممتازة لولا هذا الانقطاع الذي فرض عليها.
ومن الحق أن قريشا كانت تتصل اتصالا منتظما بالبلاد المتحضرة بحكم أسفارها في التجارة، ولكن الحضارة لا تنقل من مكان إلى مكان كما تنقل العروض، وإنما تنشأ في بيئة من البيئات تنبت من الأرض ثم تقوى وتشتد ويزيدها الاتصال بالأمم المتحضرة نموا وازدهارا.
5
كذلك كانت تعيش قريش في القرن السادس للمسيح، ليس من اليسير أن نحدد لها نظاما من نظم الحكم التي يعرفها الناس؛ فلم يكن لها ملك ولم تكن جمهورية أرستقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة، ولم تكن جمهورية ديمقراطية بالمعنى المألوف لهذه الكلمة أيضا، ولم يكن لها طاغية يدبر أمورها على رغمها، وإنما كانت قبيلة عربية قد احتفظت بكثير من خصائص القبائل البادية. فهي منقسمة إلى أحياء وبطون وفصائل، والتنافس بين هذه الأحياء والبطون والفصائل قائم يشتد حينا ويلين حينا آخر، ولكنه لا يصل إلى الخصومات الدامية كما كانت الحال في البادية، وأمور الحكم - إن صح أن يذكر لفظ حكم - تجري كما كانت تجري في القبيلة البادية. وكل ما وصلت إليه قريش من التطور في شئون الحكم هو أنها لم يكن لها سيد أو شيخ يرجع إليه فيما يشكل من الأمر، وإنما كان لها سادة أو شيوخ يلتئم منهم مجلس في المسجد الحرام أو في دار الندوة، وأمام هذا المجلس تعرض مشكلات التجارة وتعرض المشكلات التي تكون بين أحيائها، وقد تعرض المشكلات التي تثار بين الأفراد إن بلغت من الخطر أن تثير خصومة بين حيين أو أكثر.
ومضى أمر قريش على هذا النحو إلى آخر العصر الجاهلي. وكأنها أحست قبيل البعثة أن هذا النظام لا يكفل العدل الشامل الذي يطمئن إليه الأقوياء والضعفاء جميعا، وإنما يكفل العدل بين السادة وأنصاف السادة، ويخلي بين هؤلاء وبين شيء من الظلم يقع على الضعفاء من الحلفاء وممن أووا إلى مكة ليقيموا فيها إقامة تقصر أو تطول.
ومن أجل هذا اجتمعت طائفة من خيار هؤلاء السادة وأقويائهم، وتحالف أعضاؤها على أن يرفعوا الظلم ويقوموا دون المظلوم حتى ينتصف من الظالم ودون الضعيف حتى يأخذ حقه من القوي. وهذا الحلف هو المعروف بحلف الفضول الذي شارك فيه النبي
صلى الله عليه وسلم
فيمن شارك فيه من بني هاشم قبل البعثة. وقد ذكر النبي بعد ذلك هذا الحلف وأثنى عليه.
6
وكانت ثقيف تعيش نحو هذه العيشة في الطائف إلا أن أمرها لم يكن كأمر قريش على الحج والتجارة؛ فلم يكن إلى الطائف حج لمكان الكعبة من مكة.
وكانت ثقيف قد رزقت شيئا من الخصب فاصطنعت الزراعة وزراعة الفاكهة خاصة، واعتمدت - أو كادت تعتمد - في تجارتها على قريش؛ فكانت قريش تشتري عروض الطائف وتنشرها فيما تنشر من تجارتها، وربما أسهم بعض الأغنياء من ثقيف بأموالهم في تجارة قريش، فكانوا كغيرهم من أهل مكة في ذلك.
على أن شيئا من حسن الصلة كان قائما بين قريش وثقيف، فكان بينهم الصهر من جهة، وربما اشترى بعض الأغنياء من قريش أرضا بالطائف واغترس فيها الحدائق والكروم، وربما اتخذ بعض الأغنياء من قريش لأنفسهم دورا في الطائف يفزعون إليها من مكة؛ بحيث نستطيع أن نقطع بأن قريشا وثقيفا كان بينهما شيء يشبه الحلف ويقوم على المصالح المشتركة في الزراعة والتجارة جميعا.
ولم تكن ثقيف - على قوتها في الجاهلية - تمتاز بمثل ما كانت تمتاز به قريش من ذكاء القلوب ونفاذ البصيرة، وإنما كانت ثقيف تمتاز بشيء من القوة والمنعة، وتمتاز بالمكر والدهاء وحسن المداورة والبراعة في الكيد للخصم أو العدو.
7
أما يثرب فقد كان شأنها يختلف عن شأن هاتين القريتين اختلافا شديدا؛ فهي أولا بعيدة عنهما بعدا يحول بينها وبين مشاركتهما في كثير أو قليل من الأمر، وهي ثانيا لم تكن خالصة لقبيلة واحدة كما كانت مكة خالصة لقريش وكما كانت الطائف خالصة لثقيف، وإنما كان يسكنها قبيلتان من العرب ترجعان إلى أصل يمني واحد، ولكنهما تختصمان دائما ويشتد التنافس بينهما أحيانا حتى يورطهما في حرب تتصل وقتا طويلا.
وهاتان القبيلتان هما الأوس والخزرج، وكانت كل قبيلة منهما تمضي أمورها على طريقة القبائل لا يفرق بينهما وبين أهل البادية إلا أنهما مستقرتان في مدينتهما لا تنتجعان الغيث وإنما تنتظرانه، ولا تتنقلان في التماس الكلأ. وكلتا القبيلتين كانتا تعيشان على الزراعة وعلى استثمار النخل خاصة.
ثم هناك فرق آخر بين يثرب من جهة وبين مكة والطائف من جهة أخرى، وهو أن يثرب لم تكن خالصة لأهلها من العرب، وإنما كان اليهود يشاركونهم فيها. وكانت المعاملات في الزراعة والتجارة تجري بين اليهود وبين هاتين القبيلتين بحكم الجوار والاشتراك في الأرض والمصالح على اختلافها، وكان لكل قبيلة من الأوس والخزرج حلفاؤها من اليهود يحاربون معها إن حاربت ويسالمون معها إن سالمت.
ومن أجل هذا كله كان الفرق عظيما بين أهل يثرب من العرب وأهل مكة والطائف، فأهل يثرب أصحاب زراعة متصلة يزرعون ليعيشوا ولا يكادون يتجرون خارج الجزيرة إلا قليلا، وهم بعد ذلك مخالطون لأهل الكتاب من اليهود مخالطة متصلة.
فلا غرابة في أن يؤثر هذا كله في أخلاقهم وفي طبائعهم فيجعلهم ألين عريكة وأرق شمائل وأسمح أخلاقا. ولكنهم على ذلك ظلوا كغيرهم من العرب مشركين يعبدون الأوثان ويؤمنون بكثير مما كان أهل البادية يؤمنون به من السخافات والخرافات، وظلوا كغيرهم من العرب يعظمون البيت الحرام بمكة ويمجدونه في الموسم مع غيرهم من الحجيج.
وكانوا في هذا العصر الذي نتحدث عنه قد بلغ منهم الجهد لكثرة الاختلاف بين القبيلتين وما كان ينشأ عن ذلك من الخصومات والحروب، ثم لأن اليهود على ما كان بينهم وبين القبيلتين من الجوار واشتراك المصالح كانوا يستظهرون على هؤلاء العرب الجهال الأميين، يستظهرون عليهم بما عندهم من كتاب، وبما لهم من دين مهما يكن أمره فقد كان أرقى من هذه الوثنية الغليظة التي كان العرب يدينون بها.
8
وليس غريبا - بعد هذا الذي عرض عليك في إيجاز من شئون الأمة العربية في وبرها ومدرها - أن تنشأ عن هذه الحياة التي كانوا يحيونها أخلاق غليظة كغلظ هذه الحياة، وعادات منكرة كنكر هذه الحياة أيضا، فهؤلاء الذين يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، ويعبدون الأشجار التي لا يتحرجون من أن ينتفعوا بثمارها وغصونها إن احتاجوا إلى ذلك، لا ينتظر منهم أن تصفو طبائعهم وتمتاز أخلاقهم وتلين قلوبهم وتحسن شمائلهم، بل عكس هذا كله هو الذي ينتظر منهم.
فإذا أضفت إلى ذلك ما كانت البداوة تفرض على أهلها من الفقر والعوز وقسوة الحياة، وأن أهل القرى إنما هم قوم عاشوا بداة أولا ثم استقروا في قراهم بعد ذلك دون أن يضيعوا من خصائص البداوة إلا أقلها، فليس غريبا بعد هذا كله أن نعرف من عادات هؤلاء العرب ما نعرف من الغلظة والقسوة والجفاء، وليس غريبا أن نعرف أنهم كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر والإملاق، ويئدون بناتهم خشية الفقر والإملاق والعار أيضا. وليس غريبا أن نعرف أن العلاقة بين رجالهم ونسائهم لم تكن مهذبة ولا نقية ولا مبرأة مما يعاب، إلى غير ذلك من العادات الكثيرة التي غيرها الإسلام وحفظ الشعر منها شيئا غير قليل.
ومن الطبيعي أن أهل القرى كانوا أرق طباعا من أهل البادية إلى حد ما؛ فلسنا نعرف أن أهل مكة أو الطائف أو يثرب كانوا يقتلون أبناءهم أو يئدون بناتهم، حال بينهم وبين هذا ما أتيح لهم من لين العيش وسعة ذات اليد، ولكن أهل القرى كانوا قلة ضئيلة بالقياس إلى أهل البادية فلا ينبغي أن يتخذوا عنوانا لهم.
ومهما يكن من شيء فقد كان أهل الوبر وأهل المدر سواء في وثنيتهم تلك الغليظة، لم يكادوا يتأثرون تأثرا ذا بال بمن جاورهم من اليهود والنصارى، وعسى أن يكون اليهود والنصارى الذين استقروا بين العرب هم الذين تأثروا بالحياة العربية وغلظها وما كان يشوبها من العادات والأخلاق.
فقد يكون من النافع حقا أن نقيس نصرانية نجران إلى النصرانية التي كانت منتشرة في البلاد المتحضرة، وأن نقيس يهودية يثرب وخيبر إلى يهودية اليهود الذين كانوا متفرقين في البلاد المتحضرة أيضا. كلا الدينين انقطعت الصلة أو كادت تنقطع بينه وبين الذين كانوا يقومون عليه من الأحبار فتبدى، وإن استقر في هذه القرى؛ لأن هذه القرى نفسها كانت أقرب إلى البداوة منها إلى الحضارة.
وعلى كل حال فلم يكد العرب ينتفعون بما كان بينهم وبين اليهود والنصارى من اتصال، وإنما ظلوا كما كانوا حتى جاءهم دينهم الجديد.
9
وكان بين قريش رجل من أشرافهم يتجر كما يتجرون، ويحضر مجالسهم في المسجد وفي دار الندوة، هو عبد المطلب بن هاشم، ولكنه كان يمتاز من قومه بكثير من الوقار وميل إلى الدين والنسك، يعظم ما كان قومه يعظمون من هذه الآلهة، ولكن عن إخلاص وصدق لا عن تكلف ورياء. وقد أتيحت له أشياء زادته امتيازا من قومه فخاصموه أول الأمر ثم أكبروه بعد ذلك؛ فهو قد احتفر بئر زمزم.
وحدث أصحاب الأخبار بأنه لم يحتفرها من عند نفسه وإنما أتاه آت في نومه فأمره باحتفارها وبين له مكانها، فأقبل على ما أمر به حتى أنفذه.
ويقول أصحاب الأخبار إنه وجد كنزا أثناء احتفار البئر قبل أن يصل إلى الماء فخاصمته فيه قريش؛ فجعله للكعبة ولم يأخذ هو ولا غيره منه شيئا، ثم أنبط الماء فخاصمته فيه قريش ترى أن البئر لها، ويرى هو أنها له؛ لأنه احتفرها بيده وأنبط ماءها بحهده . ولجت قريش في الخصومة - فيما يقول أصحاب الأخبار - حتى أجمعوا إلى أن يحتكموا إلى أحد الكهان فأوفدوا مع عبد المطلب وفدا يخاصمونه إلى ذلك الكاهن، ولكنهم لم يحتاجوا إلى هذا الاحتكام؛ لأن آية ظهرت لهم في الطريق أقنعتهم بأن عبد المطلب ليس متكذبا ولا متكلفا.
قال الرواة: وفي أثناء هذه الخصومة أحس عبد المطلب أنه وحيد ليس له من الولد من ينصرونه؛ فنذر لئن أتيح له عشرة منهم ليقربن أحدهم إلى الآلهة.
وقد أتيح له عشرة من الولد فأزمع أن يقرب أحدهم وهم بذلك، ولكن قريشا أبت عليه؛ لأنها استبشعت عمله هذا. وما زالت به حتى أقنعته بأن يقرع بين ابنه وبين عشرة عشرة من الإبل، فجعل كلما أقرع خرج السهم على ابنه حتى بلغت الإبل مائة فقربها إلى الآلهة ونجا ابنه ذاك الفتى.
فإذا صورت هذه القصة شيئا فإنما تصور نزوع عبد المطلب إلى شيء من الدين وإخلاصه فيه وإسماحه في سبيله بالولد والمال جميعا، وتصور كذلك عزوف قريش عن المفظع من الأمر، وإنكارها في عنف وإلحاح هذا القربان البشع الذي يضحى فيه بالإنسان للآلهة.
على أن ذلك الفتى الذي افتداه أبوه بالإبل فأغلى في الفداء لم يعمر، وإنما زوجه أبوه ثم أرسله إلى الشام مع قومه للتجارة، فذهب ولم يعد، أدركه الموت بيثرب في عودته من الشام، وقد ولد بعد موته صبي هو الذي اختاره الله ليأتي العرب بدينهم الجديد.
وفي تلك الأيام نفسها تعرضت مكة لخطر شديد: أقبل الحبشة إليها من اليمن غزاة يريدون أن يملكوا الحجاز كما ملكوا اليمن، وأن ينشروا في الحجاز دين المسيح كما حاولوا نشره في اليمن بعد أن انتقموا لتلك المدينة المسيحية «نجران»، وكانوا بالطبع مزمعين أن يهدموا الكعبة وأن يحطموا ما نصب عليها من الأوثان، ولكن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا؛ فهو يصد الحبشة عن مكة ويمنعهم أن يدخلوها ويردهم إلى اليمن مدحورين قد بلغ منهم الجهد وأصابهم ما أصابهم من الشر الذي صوره الله عز وجل أروع تصوير في السورة الكريمة:
ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول .
وما أحب أن أعرض لتأويل هذه الطير الأبابيل التي رمت الحبشة بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول؛ لأني أوثر دائما أن أقبل النص وأفهمه كما قبله وفهمه المسلمون الأولون حين تلاه عليهم النبي
صلى الله عليه وسلم .
وفي هذه الموقعة أظهر عبد المطلب من الصبر والجلد ومن الشجاعة والثقة ما لم يظهره غيره من أشراف قريش، فضلا عن أوساطها وعامتها؛ ذلك أنه أشار على قريش أن تخلي مكة وتلوذ بشعاف الجبال وتخلي بين هذا الجيش العظيم وبين ما يريد، فسمع له قومه وتجنبوا الحرب وأقام هو بمكة لم يعتزلها فيمن اعتزلها، وإنما قام عند الكعبة يدعو الله ويستنصره.
ويقول الرواة: إن الجيش أغار فيما أغار على إبل قريش فاحتازها وجاء عبد المطلب حتى استأذن على أبرهة عظيم الحبشة وقائد جيشها، فلما أدخل عليه لم يكلمه إلا في إبل له أخذها الجيش فيما أخذ من إبل قريش.
قال الرواة: فصغر عبد المطلب في نفس أبرهة، وقال له: كنت أظن أنك جئت تكلمني في شأن مكة وفي شأن بيتكم هذا الذي تعظمونه، فإذا أنت لا تسألني إلا أن أرد عليك إبلك!
قال عبد المطلب: فإني أكلمك في مالي الذي أملكه، فأما البيت فإن له ربا يحميه إن شاء.
فردت عليه إبله وعاد إلى مكانه من الكعبة يدعو الله ويستنصره.
قال الرواة: وأصبح أبرهة من غد مزمعا دخول مكة وهدم البيت، ولكن الله حال بينه وبين ذلك بما أرسل عليه وعلى جيشه من تلك الطير الأبابيل التي رمتهم بحجارة من سجيل فجعلتهم كعصف مأكول.
وعادت قريش إلى مكة موفورة لم ترزأ شيئا، فازداد إكبارهم لعبد المطلب وشجاعته وثقته وثباته؛ حيث لم يثبتوا وإنما فروا فلاذوا بشعاب الجبال.
في نفس هذا العام - الذي سمته قريش وسماه الرواة بعد ذلك عام الفيل - ولد هذا الصبي يتيما كما رأيت آنفا، فسماه عبد المطلب محمدا وكفله واسترضعه في بني سعد من هذيل، حتى إذا تم الرضاعة واحتفظت به المرضع بعد رضاعه وقتا ردته إلى أمه، فجعل ينشأ بمكة في ظل جده الشيخ. ثم سافرت به أمه - حين كان في السادسة من عمره - إلى يثرب تريد أن تزور وأن تزير الصبي قبر أبيه عبد الله بن عبد المطلب، ولكنها خرجت من مكة ولم تعد إليها كما خرج زوجها عبد الله من قبل فلم يعد إلى وطنه.
أدركها الموت في بعض الطريق منصرفها من يثرب عائدة إلى مكة، وعادت بالصبي حاضنته بركة - التي عرفت في الإسلام بأم أيمن - فقامت على خدمته في ظل جده وأصبح الصبي يتيما لأبيه وأمه جميعا. على أنه لم يبلغ السابعة حتى فقد جده أيضا فأخذه اليتم من جميع أقطاره: فقد أباه وأمه وجده، ولكن الله آواه كما يقول في سورة الضحى:
ألم يجدك يتيما فآوى .
وكفل الصبي بعد موت الشيخ عمه أبو طالب فكان له نعم الكافل ونعم الولي. وكان أبو طالب صاحب سفر في التجارة كغيره من أشراف قريش وأوساطها.
فيقول الرواة: إنه هم بالسفر في تجارته إلى الشام ذات عام والصبي في الثانية عشرة من عمره، فتعلق به الصبي وألح في أن يصحبه في سفره ذاك، ورق له قلب عمه فحمله معه إلى الشام.
ويقول الرواة: إنه لم يكد يبلغ به مشارف الشام حتى عاد به مسرعا إلى مكة عن أمر راهب من رهبان النصارى علم من أمر الصبي ما لم يعلم عمه، فأوصاه أن يرده إلى وطنه وأن يحرزه في مكة من مكر النصارى واليهود.
وشب الصبي في كفالة عمه، حتى إذا بلغ الرابعة عشرة من عمره شهد حرب الفجار التي كانت في حرم مكة بين قيس وقريش.
شهد الحرب ولكنه لم يشارك فيها؛ كان أصغر سنا من ذلك، فكان ينبل على أعمامه. وأكبر الظن أنه حين أينع جعل يسعى في رزقه فكان يرعى الغنم على قومه حتى إذا نيف على العشرين سلكت الحياة به طريقا أخرى.
10
كان فقيرا لا يكاد يملك شيئا، وكان يكسب قوته من رعي الغنم، ولكنه فتى من قريش ومن أشرافها، ورعي الغنم قد يليق بالصبية وبأمثالهم من الذين لم يتقدم بهم الشباب، فأما إذا شبوا واستتموا قوتهم فليس لهم بد من أن يسلكوا طرقا أخرى إلى الرزق. وعمه صاحب تجارة، وقد مات أبوه تاجرا، وجده كان صاحب تجارة أيضا، فما يمنعه أن يسلك الطريق التي ألفت قريش سلوكها؟
وقد أقبل عليه عمه ذات يوم فأنبأه بأن خديجة بنت خويلد - امرأة غنية من أكثر قريش مالا وأوسطهم نسبا - قد جهزت تجارة ضخمة إلى الشام، ونصح له بأن يكون رسولها بتجارتها تلك، وأنبأه بأنه يستطيع أن يسعى له في ذلك عند خديجة إن صح عزمه على السفر، فقبل الفتى ورضيت خديجة، ورأته مكة ذات يوم خارجا في قافلتها إلى الشام يصحبه غلام لخديجة يقال له «ميسرة»، وقد بلغ الشام فباع واشترى وعاد مع القافلة فأدى إلى خديجة تجارتها وأدى إليها مع هذه التجارة ربحا لم يتح لها في تجارة قط. وكأن الله لم يجعل هذه التجارة إلا وسيلة لشيء آخر وراءها؛ فقد وقع الفتى من قلب خديجة وإذا هي ترسل إليه مغوية له بخطبتها، وإذا هو يخطبها ثم يصبح لها زوجا، وهي تكبره بخمس عشرة سنة فيما يقول الرواة.
ومنذ ذلك اليوم عاش في مكة عيشة الموفورين لا يشكو حاجة ولا يجد ضيقا كما قال له الله عز وجل في سورة الضحى:
ووجدك عائلا فأغنى .
وقد أتيح له من خديجة الولد وأتيح له معها الأمن والدعة، ولكنه في ذلك الطور من أطوار حياته ظهرت فيه خصال لم تكن مألوفة في شباب قريش؛ فهو شديد النفرة من اللهو وشديد النفرة من اللغو أيضا، وهو أبعد الناس عن التكلف وأقربهم إلى الإسماح واليسر، وهو أبغض الناس لهذه الأوثان التي كان قومه يعبدونها مخلصين أو متكلفين، وهو أصدق الناس إذا تكلم، وأوفاهم إذا عامل، وأبعدهم من كل ما يزري بالرجل الكريم. وهو بعد ذلك أوصل الناس للرحم وأرعاهم للحق وأشدهم إيثارا للبر؛ فهو يجد عمه الذي كفله صبيا ويافعا قد كثر ولده وقل ماله، ويريد أن يعينه دون أن يؤذيه؛ فيأخذ منه صبيه عليا ويرد عليه من العناية واللطف والبر بعض ما أدى إليه أبوه حين كان صبيا يتيما. وقد شاعت عنه هذه الأخلاق، وعرف بهذه الخصال حتى أحبته قريش وسمته الأمين وعاملته على أنه الأمين حقا.
وفي ذات عام همت قريش أن تعيد بناء الكعبة فعزمت بعد تردد، ونقضت البناء وأخذت في إعادته، وشاركها الأمين فيما فعلت، حتى إذا بلغت موضع الحجر الأسود اختلفت أحياء قريش فيمن يضع هذا الحجر في موضعه، يرون أن من يتاح له ذلك سيظفر بشرف أي شرف. وما هي إلا أن يتحول الخلاف إلى خصومة تشتد وتعنف حتى يخشى شرها، ولكن ذوي أحلامهم وأولي رأيهم يشيرون عليهم بالتحكيم وبأن يحكموا أول داخل عليهم فيحكمونه، فيقضي بينهم قضاء يرضيهم ويكون له مع ذلك ما بعده؛ يبسط رداءه ويضع الحجر في وسطه ثم يأمرهم بأن يأخذوا بأطراف الرداء فيحملوه ويمشوا به حتى إذا بلغوا البناء أخذ الحجر فأقره بيده في موضعه.
على أنه قد أخذ يميل إلى العزلة شيئا فشيئا، ثم اشتد عليه حب العزلة فجعل يترك مكة بين حين وحين ويمضي وقد تزود لعزلته، حتى إذا بلغ غار حراء خلا فيه إلى نفسه الأيام والليالي، فإذا انقضى زاده أو كاد ينقضي عاد إلى أهله فتزود من جديد ورجع إلى غاره فأوى إليه ومكث فيه ما شاء الله أن يمكث. أصبحت هذه الخلوة له عادة ولكنه يعود إلى أهله ذات يوم ولهان مفجعا شديد الاضطراب ويقص على خديجة شيئا عجبا.
11
أنبأها بأنه كان خاليا إلى نفسه في غار حراء، ولكنه ينظر فيرى شخصا أمامه ويسمع فإذا هذا الشخص يكلمه يقول له: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» يريد: لا أعرف القراءة، فضمه ضما شديدا - أو غطه غطا شديدا، كما يقول حديث الشيخين فيما يرويان عن عائشة - حتى بلغ منه الجهد، ثم أسلمه وقال: «اقرأ.» قال: «ما أنا بقارئ.» فغطه غطا شديدا حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله فقال:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم .
ثم استخفى حتى لا يرى النبي
صلى الله عليه وسلم
شيئا ولا يسمع شيئا، فيخرج من الغار وقد أخذه روع أي روع وهو في طريقه مسرع إلى أهله، ولكنه يسمع صوتا يناديه فينظر أمامه فلا يرى شيئا وينظر عن يمينه فلا يرى شيئا، وينظر عن شماله فلا يرى شيئا، وينظر خلفه فلا يرى شيئا؛ فيرفع رأسه فيرى ذلك الشخص الذي أتاه في الغار جالسا على كرسي بين السماء والأرض فيبلغ به الروع أقصاه، ويمضي أمامه لا يلوي على شيء حتى يأتي أهله مرتاعا مذعورا، يقول: «زملوني زملوني - أو دثروني دثروني - وصبوا علي ماء باردا.» فتفعل خديجة ما طلب إليها حتى يذهب عنه الروع. فيقول لزوجه بعد أن أنبأها نبأه: «لقد خشيت على نفسي.» تقول له خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق.
قال المحدثون ورواة السيرة: فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة - وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي - فقالت له خديجة: يابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بخبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى
صلى الله عليه وسلم ، يا ليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أومخرجي هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.
وكأنه لزم داره واجتنب غار حراء منتظرا ما يكون من أمره بعد ما رأى وما سمع، فأوحى إليه:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
ومنذ ذلك الوقت ظهر له ما يراد به، فلم يكن ما جاءه في الغار إلا إيذانا له بأن مهمة ثقيلة خطيرة قد ألقيت على عاتقه، وأن عليه أن يؤديها صبورا جلدا محتملا في سبيل أدائها ما قد يعرض له من العنت والمشقة والأذى، وهو على كل حال مكلف أمرين ليس أحدهما بأقل خطرا من الآخر؛ فأما أولهما: فهو أن يجاهد نفسه ويأخذها راضية أو كارهة بما سيدعو الناس إليه من تكبير الله بالقلوب والألسنة، ومن التطهير من كل دنس ظاهر أو خفي، ومن هجر الرجز واجتناب المن واستكثار ما يأتي من طاعة الله والاجتهاد في ذاته، ومن الصبر لربه على ما يبلوه به من ألوان البلاء، وعلى ما يكلفه حمله من ثقال الأعباء.
وأما ثانيهما: فهو أن ينذر الناس بأن حياتهم التي يحيونها ليست كما يظنون لهوا ولعبا واستمتاعا بما يتاح لهم من اللذات واحتمالا لما يعرض لهم من الآلام والمحن والخطوب، إنما هي شيء وراءه أشياء وله ما بعده. فليس لهم بد إذن من أن يحتاطوا لما وراء حياتهم من الأمر، ومن أن يأخذوا له أهبتهم ويتزودوا بما ينبغي من الزاد.
12
وقد تجرد النبي
صلى الله عليه وسلم
لأداء ما كلف به من مهمة، وما حمل من أمانة، فأخذ نفسه بأشد ما يأخذ الرجل به من الجهد والمشقة في ذات الله، وأنفذ أمر الله في نفسه فيما اختصه به من التكاليف كما أنفذ أمر الله في كل ما كلف أن يأمر الناس به، وقد بدأ بأهله وذوي قرباه فأنذرهم وبشرهم واستجاب له منهم من استجاب وأبى عليه من أبى. ثم أمر بتعميم دعوته فأنذر قومه وبشرهم ودعاهم إلى الإيمان والبر والمعروف؛ فلم يستجب له منهم إلا أقلهم، وامتنع عليه أكثرهم، ثم لم يكتفوا بالامتناع بل لم يلبثوا أن ضاقوا به وبدعوته وجعلوا يردونه ردا رفيقا أحيانا ويردونه ردا عنيفا في أكثر الأحيان. ثم تألبوا عليه وجعلوا يؤذونه في نفسه وفيمن تبعه من الناس بأيديهم وألسنتهم. ثم أصبحت الحياة بينه وبين قومه جهادا متصلا عنيفا أشد العنف وأقواه. ولكنه صبر لهذا الجهاد كما أمر أن يصبر واحتمل فيه من ألوان المشقة ما ينوء بالرجال أولي العزم كما أمر أن يحتمل، وجعل يصبر أصحابه ويهون عليهم ما كانوا يلقون، وما أكثر ما كانوا يلقون من ضروب الفتنة والعذاب!
وفي أثناء ذلك كان الوحي يتنزل عليه من السماء، فيعلن كل ما يوحي إليه به يتلوه على من آمن معه وعلى من لم يؤمن؛ فهو مكلف أن يبلغ رسالات ربه، وهو يبلغها أمينا عليها مجتهدا في تبليغها يبشر وينذر، ويرغب ويرهب، ويجادل المخاصمين ويقرع حجتهم بحجة الله لا وانيا ولا مستأنيا ولا مقصرا.
وقد هابت قريش أن تؤذيه إيذاء ثقيلا أو أن تخرجه من وطنه أو أن تقتله مخافة أن يغضب له قومه من بني عبد مناف فيفسد عليها أمرها كله. فجعل حلماء قريش يصانعونه ويرفقون به؛ يعرضون عليه أن يملكوه عليهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الملك، ويعرضون عليه أن يعطوه صفو أموالهم إن كان يفعل ما يفعل ابتغاء الغنى، ويعرضون عليه التماس الطب له إن كان له رئي من الجن يأتيه بهذا الكلام الذي يتلوه عليهم وبهذا الأمر الذي يدعوهم إليه. فلم يكن يجيبهم إلا بأن يتلو عليهم بعض ما كان ينزل عليه من القرآن.
وكان حلماء قريش والمنصفون منهم يسمعون القرآن حين يتلى عليهم فيبهرهم بألفاظه ومعانيه ونظمه ورقته حين يرق وشدته حين يشتد، ولكنهم على ذلك لا يؤمنون له، بعضهم يمنعه الحسد، وبعضهم تمنعه الكبرياء، وكلهم يشتد عليهم ما كانوا يدعون إليه من البر والمعروف والعدل والمساواة وإنصاف الفقراء من الأغنياء والضعفاء من الأقوياء، ومن ترك آلهتهم وعاداتهم وكثير من الأخلاق التي وجدوا عليها آباءهم وتوارثتها أجيالهم جيلا بعد جيل. وقد استيأسوا منه فلجأوا إلى عمه ذاك الذي كفله صبيا ويافعا والذي قام دونه يحميه منذ جعل يدعو دعوته هذه الجديدة وطلبوا إليه أن يراجع ابن أخيه لعله يكف عن ذم آلهتهم وتسفيه أحلامهم وإنكار ما تعارفوا عليه من عاداتهم وأخلاقهم، ومن إفساد عبيدهم وإمائهم وحلفائهم عليهم.
وقد قبل منهم أبو طالب فراجع ابن أخيه وعرض عليه ما يقول قومه وما يعرضون عليه من الملك وكرائم الأموال، وما ينذرونه به من البطش والعذاب؛ فلم يكن جوابه لعمه إلا أن قال مقالته تلك المشهورة: «والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أرجع عن هذا الأمر ما رجعت.»
وعاد أبو طالب إلى مشيخة قريش بقول ابن أخيه، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وإصرارا واستكبارا، فعمدوا إلى إيذائه في أصحابه وفي الرقيق والضعفاء منهم خاصة؛ لعلهم أن يصدوهم عن الإقبال عليه ويردوهم بعد إيمانهم كفارا، ولعله حين يرى ذلك أن يحس ما يشقى به أصحابه فيؤثر لهم ولنفسه العافية؛ فجعلوا يعذبونهم بالضرب حينا وبالماء حينا وبالنار حينا وبالموت حينا آخر. ولكنهم لم يبلغوا بذلك منه ولا من أصحابه شيئا؛ قتلوا ياسرا وزوجه سمية ذات يوم وابنهما عمار يرى فلم يصرفوا الأبوين ولم يصرفوا ابنهما عما أراد الله لهما من الكرامة بالإيمان، وإنما كان ياسر وزوجه نموذجا رائعا للصبر والجلد واحتمال الأذى في غير شكاة ولا تضعضع. ويقال: إن النبي
صلى الله عليه وسلم
مر بآل ياسر وهم يعذبون فلم يزد ياسر على أن يقول: الدهر هكذا يا رسول الله.
ويحدث رواة السيرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال لهم: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.» وكان ياسر وامرأته سمية أول شهيدين في الإسلام، فلم يجزع عمار ولم يجد الوهن إلى نفسه سبيلا، بل ازداد إيمانا مع إيمانه وصبرا إلى صبره حتى استيأس منه معذبوه واضطروا إلى أن يرفعوا عنه العذاب.
ويتحدث الرواة أن عمار بن ياسر كان أول من اتخذ مسجدا في بيته وفيه نزلت هذه الآية من سورة الزمر:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب .
وعذبوا «بلالا» أشد العذاب ونكلوا به أعظم التنكيل وجعلوه هزؤا للصبية والسفهاء، فلم يرفع عنه العذاب حتى اشتراه أبو بكر وكان رقيقا فأعتقه.
وعذبوا كثيرا غير هؤلاء - تجد أسماءهم في كتب السيرة - ألوانا من العذاب وفتنوهم ضروبا من الفتنة، مكثوا على ذلك أعواما لا يرقبون في هؤلاء المستضعفين عهدا ولا ذمة ولا تعطفهم عليهم رحمة.
وكان موقف قريش من المسلمين مختلفا، فأما ضعفاؤهم وفقراؤهم فكانوا يصبون عليهم العذاب صبا لا يخافون في تعذيبهم لوما ولا إنكارا، وأما أولو الشرف منهم الذين يأوون من قومهم إلى ركن شديد فكانوا يؤذونهم بألسنتهم ويؤذونهم بالقطيعة ويغرون قومهم أن يشتدوا عليهم، ويفتنوهم عن دينهم ما استطاعوا إلى فتنتهم سبيلا. ولكنهم على ذلك لم يبلغوا منهم شيئا ولم يصدوهم عن دينهم وإنما وجدوا منهم صبرا وجلدا واحتمالا، ووجدوا من بعضهم مقاومة وتحديا وردا عنيفا، كالذي كانوا يجدونه من عمر بن الخطاب ومن حمزة بن عبد المطلب.
وكذلك مضى الأمر بين النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه القليلين وبين قريش ذات العدد والقوة والثراء، لا يهن النبي ولا يضعف ولا يستخفى بدعوته، وأصحابه منهم القوي الذي يجالد عن دينه ومنهم الضعيف الذي يلقى العذاب صابرا عليه. ومنهم الغريب الذي يستحب الأذى يراه قربة إلى الله، فيتصدى لمجالس قريش ويعلن إليهم إسلامه ويحتمل منهم إيذاءهم له، كالذي كان من «أبي ذر» حين أسلم وهو غريب في مكة، فلم يرضه إلا أن يغيظ قريشا ويتلقى منهم اللكز والوكز واللطم والصفع حتى يغشى عليه، يفعل ذلك مرة ومرة حتى يأمره النبي أن يعود إلى قومه ويظل بينهم حتى يأتيه أمره.
وقد علمت قريش أنها لن تبلغ من النبي شيئا بهذه الفتنة؛ فأزمعت أن تؤذي بني هاشم كلهم، على أنهم لم يكونوا قد أسلموا جميعا ولكنهم أولو عصبية النبي ورهطه الأدنون. فأجمعوا ألا يبايعوهم وألا يصهروا إليهم وألا يزوجوهم وألا تكون بينهم وبين بني هاشم معاملة ما. واضطر بنو هاشم إلى شعبهم يعيشون فيه عيشة المحاصرين لا يكلمهم أحد ولا يعاملهم أحد، ولا تصل أرزاقهم إليهم إلا بعد المشقة الشاقة والعسر العسير.
وكتبت قريش بهذه المقاطعة صحيفة جعلتها عهدا بين أحيائها حتى يخلع بنو هاشم محمدا ويسلموه إليها، ولكن بني هاشم صبروا على الحصار، واحتملوا الجهد والمشقة والعناء إيثارا لأحسابهم. ومكثوا على ذلك عاما وعاما وعاما حتى شق ذلك على الذين يحاصرونهم أنفسهم وسعى بعضهم إلى بعض في إلغاء هذا العهد الآثم، وجعل أفراد منهم ترق قلوبهم لإخوانهم هؤلاء الذين يحاصرون ظلما فيجتهدون في أن يوصلوا إليهم أرزاقهم يستخفون بذلك من قومهم.
وإنهم لفي ذلك وإذا أبو طالب يغدو على قريش ذات يوم فيحدثهم - فيما يقول أصحاب السيرة - بأن ابن أخيه قد زعم له أن صحيفتهم تلك التي كتبوها بينهم وأودعوها جوف الكعبة قد أدركها البلى وعدت عليها الأرضة فلم تبق فيها مما كتبوا إلا اسم الله الذي ذكروه في أولها. قال أبو طالب: فانظروا يا معشر قريش إلى صحيفتكم تلك، فإن وجدتموها كما ذكر ابن أخي كان هذا إيذانا لكم بأنكم تعتدون على فريق من قومكم بغير الحق، وتظلمونهم ظلما منكرا، وبأن قد آن لكم أن ترفعوا هذا الظلم وتكفوا عن ذلك العدوان وتثوبوا إلى المعدلة بينكم وبين إخوانكم، وإن وجدتم صحيفتكم تلك كهيئتها يوم كتبتموها ووضعتموها في جوف الكعبة أسلمنا إليكم محمدا تصنعون به ما تشاءون.
فتسارع الذين رقت قلوبهم لبني هاشم يقولون: يا معشر قريش، لقد أنصفكم أبو طالب وأعطاكم الرضى فالتمسوا صحيفتكم تلك وانظروا؛ فإن كانت كما قال محمد فأجيبوا أبا طالب إلى رفع الظلم عن إخوانكم وإلا فقد آذنكم بأنه سيسلم إليكم ابن أخيه.
وتنظر قريش في الصحيفة فإذا كل ما كتب فيها قد محي، ذهبت به الأرضة، إلا اسم الله فإنه كما كتبوه، هنالك يرفع الحصار ويعود القوم إلى العافية.
ولكن هذا كله إن خفف عن بني هاشم فلم يخفف عن المسلمين من أصحاب النبي شيئا ؛ فإيذاؤهم متصل وفتنتهم ماضية على عهدها.
ثم يمتحن النبي امتحانا شاقا فيفقد زوجه خديجة تلك التي كانت أول من نصرته وآزرته وأجابته إلى دعوته. ثم يفقد عمه أبا طالب ذلك الذي كفله صبيا ويافعا، وقام دونه يحميه ويذب عنه وإن كان لم يؤمن له ولم يرجع عن دين آبائه، وإنما فعل ما فعل حبا لابن أخيه وعطفا عليه وأداء لحق العصبية والحسب.
ويشتد البلاء على المسلمين وتطمع قريش في النبي، فيأذن النبي للمسلمين في أن يهاجر من استطاع الهجرة منهم إلى بلاد الحبشة؛ حيث يستطيعون أن يعبدوا الله آمنين لا يلقون فتنة ولا عذابا. فيهاجر منهم من استطاع، ويأمنون على دينهم في تلك الأرض البعيدة، ويبقى النبي ومن أبى فراقه من أصحابه بمكة يلقون ما يلقون من الشدة والبأس، لا تزيدهم الفتنة إلا إيمانا وتثبيتا.
وفي ذات يوم يخرج النبي من مكة إلى الطائف يرجو أن يجد عند ثقيف من العون والجوار ما يمكنه من أداء رسالته، ولكنه لا يلقى من ثقيف إلا أعنف الرد وأثقله، وإذا هم لا يكتفون برده والإعراض عنه، وإنما يغرون به السفهاء والصبيان يؤذونه حتى يجهدوه وحتى يضطروه إلى ظل بستان ليستريح.
وكان في البستان صاحباه - رجلان من قريش هما عتبة بن ربيعة وأخوه شيبة - يريان النبي وقد بلغ منه الجهد وأوى إلى ظل بستانهما يستريح مما أدركه من العناء.
قال أصحاب السيرة: فيرق قلب هذين القرشيين له، ولكنهما متحفظان على ذلك، لا يؤويانه فتغضب قريش، فيدعوان «عداسا» غلاما لهما ويرسلانه إليه بطبق فيه عنب. ولكن «عداسا» لا يكاد يتحدث إلى النبي ويسمع منه حتى يراه سيداه مغرقا في البكاء مكبا على النبي يقبله ويتلطف له، فإذا عاد إلى سيديه سألاه، فإذا هو قد مال إلى ما يدعو إليه هذا الرجل الذي آذته ثقيف وأبى سيداه أن يضيفاه. وقد رجع النبي إلى مكة فلم يستطع أن يدخلها حتى استجار بشريف من أشرافها - هو مطعم بن عدي - فأجاره.
ثم جعل النبي يترقب موسم الحج يعرض نفسه فيه على قبائل العرب أيها يؤويه ويمنعه حتى يبلغ رسالات ربه، فترده قبائل العرب جهلا منها أولا، وكراهة أن تعادي قريشا ثانيا، حتى إذا كان في موسم من المواسم عرض نفسه على قوم من أهل يثرب فوجد عندهم ميلا إليه وإيثارا له فيضرب لهم موعدا من قابل، ويصبر عامه ذاك على الأذى ثم يلقى وفد يثرب فيبايعونه على أن يؤووه ويمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وقد استوثق العهد بينه وبينهم وعاد إلى مكة راضيا محبورا.
ثم جعل يأذن لأصحابه في الهجرة إلى يثرب فيهاجرون أرسالا، يهاجر الضعفاء منهم خفية ويهاجر الأقوياء منهم جهرة، وقد فشا الإسلام في يثرب، وقرئ القرآن في كثير من دورها، والنبي مع ذلك مقيم في مكة لا يبرحها، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة، وقد استأذنه صاحبه أبو بكر في أن يكون صاحبه في سفره فقبل منه. وقد عرفت قريش ما كان من العهد بينه وبين أهل يثرب وما كان من هجرة أصحابه إليها، فكرهوا أن يهاجر النبي فيصبح هو وأهل يثرب لهم عدوا؛ فاجتمعوا وتشاوروا وانتهى رأيهم إلى أن يرصدوا له عند بيته ليلا نفرا من أحياء قريش على اختلافها ليقتلوه، يضربونه ضربة رجل واحد فيضيع دمه في القبائل ولا يستطيع قومه من بني عبد مناف أن يثئروا لدمه.
قال الرواة: وقد أرصد هذا النفر من قبائل قريش عند بيت النبي ليلا وآذنه الله بمكر قريش فلم ينم في فراشه ليلته تلك، وإنما أمر ربيبه وابن عمه «عليا» أن ينام في فراشه ويتسجى ببرده وخرج على النفر الذين أرصدوا له، فإذا هم قد غشيهم النعاس.
قال الرواة: فوضع على رءوسهم شيئا من تراب ومضى لميعاده مع أبي بكر. فخرجا من مكة مستخفيين حتى انتهيا إلى غار ثور، فأويا إليه ينتظران أن ينقطع طلب قريش لهما، ومكثا في الغار ثلاثة أيام يأتيهما قوتهما كل يوم.
قال أصحاب السيرة: وأصبح الرصد فعلموا أن النبي قد خرج وأنه قد فاتهم، فسقط في أيديهم، وجدت قريش في طلب النبي وصاحبه.
ويتحدث أصحاب السيرة بأن فريقا من الذين جدوا في طلبهما قد بلغوا غار ثور، ذاك الذي أويا إليه، فلم يخطر لهم أنهما يستخفيان فيه، ولو قد نظروا تحت أقدامهم لرأوهما.
والشيء الذي ليس فيه شك هو أن أبا بكر قد كان قلقا في الغار يخشى أن يدركهما الطلب، وأن النبي كان يهدئ من روعه، بذلك جاءت الآية الكريمة في سورة التوبة:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم .
وكان أبو بكر قد أعد للسفر كل شيء، فلما قدرا أن طلب قريش لهما قد انقطع مضيا في طريقهما إلى يثرب فبلغاها، واستقبل النبي فيها أحسن استقبال، فرح به أنصاره من الأوس والخزرج في يثرب، وفرح به أصحابه الذين هاجروا قبله إليها. ومنذ ذلك اليوم الذي بلغ النبي فيه يثرب، فتحت أمامه وأمام دعوته طريق جديدة.
13
كان مقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بمكة منذ نبئ إلى أن هاجر ثلاث عشرة سنة - فيما يقول جمهور الرواة - لقي فيهن من الجهد ما لقي، وصبر فيهن على الجهد ما صبر، وتأسى به أصحابه ما استطاعوا إلى التأسي به سبيلا، وأنزل فيهن عليه من القرآن شيء كثير.
كان في مكة يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك ويأمر بالعدل وينهى عن الجور، ويجهر بأن الناس جميعا سواء عند الله لا يمتاز بعضهم من بعض إلا بالبر والتقوى، ويحذر الذين يشركون بالله ويجعلون له أندادا عذابا شديدا بعد الموت، وينبئ بأن لهذه الدنيا التي يعيش الناس فيها نهاية لا بد من أن تبلغها يوم تقوم الساعة، ويهول من أمر الساعة هذه تهويلا شديدا تنخلع له القلوب، وينبئ بقربها وبأنها تفجأ الناس على حين غفلة منهم؛ فتذهل الآباء والأمهات عن أبنائهم، وتنسي الإنسان كل شيء إلا نفسه، ويضطرب لها الكون اضطرابا أي اضطراب، فالسماء منفطرة، والكواكب منتثرة، والبحور مفجرة، والقبور مبعثرة، ويومئذ تعلم كل نفس ما قدمت من عمل وما أخرت.
وعلى هذا النحو كان يهول من أمر الساعة وما يكون بعدها من حساب الناس على ما قدموا وما أخروا من أعمالهم، وقد سجل كل عمل أتاه الإنسان في كتاب ينشر أمامه يحصي له حسناته وسيئاته، والنار معروضة عليه والجنة مزلفة له؛ فهو يرى الجحيم كأبشع ما يكون ويرى النعيم كأروع ما يكون، يتمنى هذا ويشفق من ذاك، ولكن كتابه قد نشر بين يديه يحكم له بالنعيم أو يحكم عليه بالجحيم، لا يظلم مثقال ذرة مما عمل، تضاعف له حسناته ولا تضاعف له سيئاته وإنما تحصى عليه كما هي لا يزاد فيها، وقد ينقص منها إن ثقل ميزان الحسنات. فالإنسان على نفسه بصيرة وإن ألقى معاذيره. ويومئذ يروع الكافرون حين يرون الكتاب منشورا فيقولون:
يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا .
فإذا قضي بين الناس بمقدار أعمالهم ذهب أصحاب النعيم إلى نعيمهم خالدين فيه أبدا، وذهب أصحاب الجحيم إلى جحيمهم خالدين فيه أبدا إن كانوا مشركين بالله لا يخلصون له قلوبهم ولا نفوسهم ولا ضمائرهم، وماكثين فيه دهرا يقصر أو يطول لا يقاس ذلك إلا بعفو الله عن الذين أذنبوا واقترفوا السيئات بعد أن آمنوا.
وكانت قريش تسمع هذا كله فتنكره أشد الإنكار وتبغض من يتلوه عليهم أشد البغض؛ فهو ينبئهم بأن المشركين من آبائهم مخلدون في العذاب، وبأنهم سيلحقونهم في النار ويشاركونهم في هذا العذاب المقيم إن لم يجحدوا آباءهم ويجحدوا دينهم هذا ويؤمنوا بالله وحده لا يشركون به شيئا ولا يجعلون له ندا، ويؤمنوا بأن محمدا هذا الذي يتلو عليهم ما يتلو من القرآن رسول الله قد جاءهم من عنده بالحق والبينات. وليس لهم بد بعد هذا الإيمان من أن يلائموا بين حياتهم وبينه ومن أن يأتوا ما يأمرهم به النبي ويجتنبوا ما ينهاهم عنه، فإن خالفوا عن ذلك فالله لهم بالمرصاد والنار لهم معدة يسلكون فيها مع المشركين من آبائهم لا يقبل منهم عدل ولا صرف ولا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون.
وكان العتاة منهم والجبارون ربما سخروا من النبي ومما يتلو عليهم، وربما سألوه أن يأتيهم بآية تثبت لهم صدقه، فكان يتلو عليهم من القرآن ما يرد على سخريتهم، وكان ينبئهم بأنه لا يأتيهم بآية إلا هذا القرآن الذي يتلوه عليهم والذي جاءه من عند ربه، ويتحداهم هو فيسألهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وكان عجزهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن هو الدليل على أنه ليس من كلام الناس، وإنما هو من كلام الله الذي لا سبيل إلى تقليده ولا إلى محاكاته، فضلا عن الإتيان بمثل ما يأتي به، وكان يتلو عليهم فيما يتلو هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا . وكانوا لا يفهمون ولا تسيغ عقولهم أن تتصل الأسباب بين الله وبين واحد من الناس يوحي إليه هذا الكلام الذي كان يتلوه عليهم ويتحداهم به ويسألهم أن يأتوا بمثله، فيطلبون إليه آيات تكرههم على أن يؤمنوا له؛ يسألونه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، أو أن ينشئ لنفسه جنة من نخيل وعنب فيفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو يسقط السماء عليهم كسفا، أو يأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يبتكر لنفسه بيتا من زخرف، أو يرقى في السماء فيأتيهم منها بكتاب يقرءونه. وكان الله يأمره أن يجيب على هذا التحدي بهذه الجملة اليسيرة الرائعة:
سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا .
وكان بعضهم يأتيه أحيانا بالعظام البالية فيفتها بيده وينثرها في الهواء، ثم يسأله ساخرا: من يحيي العظام وهي رميم؟ فكان جوابه حاضرا من القرآن في هذه الآيات الكريمة من سورة يس:
قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم * الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون .
وكانوا يجادلونه في البعث أشد الجدال، يقولون - كما يحكي عنهم القرآن الكريم في سورة الإسراء:
أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ، فكان الجواب حاضرا كذلك من القرآن في السورة نفسها:
قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رءوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .
كان إذن يخوفهم قيام الساعة، ويخوفهم البعث والحساب، ويخوفهم العذاب الذي أعد للمشركين والمذنبين، وكان يخوفهم أشياء أخرى أيضا: يخوفهم أن يجري عليهم مثل ما جرى على أمم من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وقالوا فيهم مثل ما تقول قريش فيه، قالوا: إن بهم جنة. وقالوا: إنهم مسحورون. وقتلوا بعضهم، وأنذروا بعضهم بالقتل فصب عليهم عذاب عاجل في هذه الحياة الدنيا توطئة لما أعد لهم من عذاب آجل خالد في الحياة الآخرة.
كان يقص عليهم أمر الطوفان الذي أغرق العصاة من قوم نوح، ويقص عليهم أمر الريح التي أهلكت عادا حين عصوا أخاهم هودا، وأمر الصيحة التي أهلكت ثمود حين عصوا أخاهم صالحا، ويقص عليهم ما جرى على قوم لوط حين أمطرتهم السماء حجارة مسومة، ويقص عليهم ما جرى على أهل مدين حين أهلكتهم الرجفة لما عصوا شعيبا، ثم يقص عليهم في تفصيل ما أصاب فرعون وقومه حين عصوا موسى. وكان يأمرهم أن يسيروا في الأرض لينظروا كيف كانت عاقبة المفسدين، وكان يخوفهم أن يلم بهم مثل ما ألم بهذه الأمم من ألوان العذاب في الدنيا إلى ما ينتظرهم في الآخرة من العذاب المقيم.
يتلو عليهم هذا كله من القرآن فيسمعون أحيانا، ويسخرون ويجادلون ويعرضون أحيانا ويأبون أن يسمعوا ويعقلوا. وكان يتلو عليهم من القرآن خلق آدم وإسكانه هو وامرأته الجنة، ونهيه إياهما أن يقربا الشجرة المحرمة وإغراء الشيطان لهما بالمعصية وإخراجهما من الجنة. ويقص عليهم كذلك من أخبار السماء ما كان من مجاهرة إبليس بالمعصية وإبائه أن يسجد إعظاما لخلق آدم كما سجدت الملائكة، وما حل به من غضب الله عليه، وما زعم من أنه سيفسد ولد آدم وسيحملهم على المعصية؛ في أشياء أخرى كثيرة كان يقصها عليهم يعظهم بها لعلهم أن يهتدوا. فلا يحفلون بشيء مما يسمعون إلا هذه القلة القليلة التي كانت روعة القرآن تبهر قلوبهم.
وكانت قوة الحجة تسحر عقولهم فيؤمنون جهرا أو سرا، كالذي كان من أمر عمر - رحمه الله - حين أنبئ بأن أخته وزوجها قد أسلما، وقد ألقي إليه هذا النبأ وهو في طريقه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
ليبطش به فيما زعم. فلما سمع من أمر أخته وزوجها عدل إليهما ليبدأ بهما، ولكنه ينتهي إلى أن يقرأ عندهما الآيات الأولى من سورة طه فيلين قلبه بعد قسوة وترق نفسه بعد غلظة؛ وإذا هو يذهب إلى النبي لا ليقتله بل ليشهده على أنه مؤمن بالله وبأن محمدا رسوله.
وكذلك جرت الأمور بين النبي وأصحابه وبين قريش: جهاد لا ينقضي، وجدال لا يكاد ينقطع، واتصال للوحي أثناء ذلك، وتلاوة لهذا القرآن الذي كان يوحى إلى النبي، واجتماع إلى أصحابه قبل أن يهاجروا إلى الحبشة وبمن بقي منهم معه بعد أن هاجر أصحابه، يعلمهم الدين ويقرئهم القرآن، وينصح لهم في أمر دنياهم كما ينصح لهم في أمر دينهم.
وفي ذات يوم قامت قريش وقعدت وانطلقت ألسنتها بالسخرية، ووصل الشك إلى قلوب بعض الذين آمنوا؛ ذلك أن النبي أصبح فأنبأ بأنه أسري به من ليلته إلى المسجد الأقصى، وتلا هذه الآية الكريمة من سورة الإسراء:
سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير .
وواضح أن قريشا لم تكن لتصدق أن يسرى بالنبي من ليلته إلى المسجد الأقصى ويعود منه قبل أن يسفر الصبح. وهم الذين ينفقون في رحلتهم إلى الشام ما ينفقون من الأيام الطوال ويلقون في رحلتهم ما يلقون من المشقة والجهد؛ فكيف بهم حين ينبئهم النبي بأنه ذهب إلى المسجد الأقصى في القدس وعاد إلى مكة في ساعة من ليل. ولكنه يصف لهم الشام والقدس والمسجد فلا ينكرون من وصفه شيئا؛ هنالك اضطربت قلوبهم وفكروا في أن يعجزوه فأرسلوا إلى اليهود ينبئونهم نبأه ويلتمسون عندهم من المسائل ما يلقونها عليه يمتحنون بها صدقه.
قال رواة السيرة: فأمرهم اليهود أن يسألوه عن أمر الفتية الذين أووا إلى الكهف ما خطبهم؟ وألقيت عليه المسألة. ولكن الوحي أبطأ عليه شيئا حتى ظنت قريش أنها قد أعجزته، ثم أقبل عليهم ذات يوم فتلا عليهم قصة أهل الكهف كما عرفوها من اليهود.
فلا غرابة بعد هذا كله في أن يضيقوا به، وفي أن تضيق مكة بالنبي نفسه، وفي أن يثبته الله ويعزيه عن جحود قومه وعصيانهم بعدما جاءهم الحق واضحا جليا، فالله يقول له في سورة الكهف:
فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا .
وعلى رغم هذا كله فقد أقام فيهم حتى عرض عليهم أصول الدين وبين لهم ما ليس منه بد ليأمنوا سوء العاقبة في الدنيا والآخرة: بين لهم أن إلههم واحد لا شريك له، وأن الإشراك به ظلم وجحود يضطر صاحبه إلى الخلود في العذاب المقيم. وبين لهم أن الله قد أرسله رسولا كما أرسل الرسل من قبله إلى قومهم، وأن الإيمان لا يستقيم لصاحبه حتى يشهد من أعماق قلبه بوحدة الله وصدق رسوله، وحتى يكون الإيمان بالله ورسوله ملء قلوبهم وعلى ذكر منهم في كل ما يأتون وما يدعون. وبين لهم أن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى والرفق باليتامى والمساكين والبر بالوالدين وطاعتهما إلا في الكفر بالله أو معصيته. وبين لهم أن الله ينهاهم عن آثام فليس لهم بد من أن يجتنبوها، ينهاهم عن القتل ظلما، وينهاهم عن وأد البنات وقتل الولد خشية الإملاق، وينهاهم عن الزنى، وعن الخيلاء والمرح، وعن الغرور والكبرياء، وعن الكذب وقول الزور، وعن شهود اللغو والمشاركة فيه.
بين لهم هذا كله وأكثر من هذا كله وبشرهم بالمثوبة الحسنى عند الله إن آمنوا وأصلحوا وأطاعوا، وأنذرهم العقاب الشديد في الدنيا والآخرة إن كفروا وعصوا.
صدع بما أمره الله أن يصدع به وأدى مهمته كأحسن ما يكون أداء المهمات، لم يقصر ولم يفتر ولم ييأس حتى أذن الله له في الهجرة، فهاجر بعد أن أعفى نفسه من كل تبعة، وأدى حق الله وحق قومه عليه، وبر بهم فلم يلق منهم إلا جحودا وعقوقا، ولم يؤمن له منهم إلا القليل كما رأيت.
14
وبلغ «يثرب» فاستأنف حياة جديدة، وفتحت له إلى نشر دعوته طرق جديدة أيضا. وجد في «يثرب» مسلمين قد آمنوا بالله ورسوله قبل الهجرة وفشا الإسلام بينهم حتى كثروا، ووجد بينهم مشركين لم يدخل الإيمان في قلوبهم فمنهم من هدى الله إلى الحق فآمن وصدق إيمانه، ومنهم من أشفق من عواقب العناد فأظهر الإسلام وأبطن الكفر وعاش منافقا. ووجد فيها يهودا قد استمسكوا بما توارثوا من دينهم؛ فلم يكن له بد من أن يلائم بين حياته الجديدة في «يثرب» وبين هذه الطوائف المختلفة من الناس.
ولم تكن حياته في «يثرب» أهون ولا أيسر من حياته في مكة، ولعلها كانت أشق منها وأحفل منها بالخطوب، ولكنه استقبلها راضيا بها شاكرا لها حامدا لربه على أن أتاح له الأمن والنصر والمأوى حتى يبلغ رسالته ويؤدي حق الله عليه.
وقد بدأ بالمؤاخاة بين المهاجرين من أهل مكة والأنصار من أهل يثرب، فأنشأ بينهم صلة قوية بعيدة الأثر في حياتهم هي صلة الإخاء بأوسع معانيه وأدقها، ثم عقد نوعا من الحلف بينه وبين أصحابه من جهة وبين اليهود من جهة أخرى على أن يكون بينهم النصر على العدو والعون على الكوارث والأحداث.
ثم جعل هو ومن تبعه من المهاجرين والأنصار يعبدون الله جهرة لا يستخفون بدينهم ولا يخافون فتنة عنه. وقد اتخذ النبي مسجدا عاما لأول مرة في الإسلام؛ يدعو فيه إلى ربه، ويقيم فيه الصلاة، ويجلس فيه للناس فيعلمهم ويؤدبهم ويبصرهم بما يجب عليهم أن يأتوا، وينهاهم عما يجب عليهم أن يجتنبوا، ويبين لهم محاسن الأخلاق وخير الأعمال، ويدلهم على ما يليق بالرجل المؤمن الكريم على نفسه وعلى غيره وما لا يليق به، كل ذلك في أمن ودعة وهدوء. ولم يكشف للمنافقين من أهل «يثرب» سترا، وإنما اكتفى منهم بما أظهروا للإسلام، فلم يعرض لهم بشيء مما يكرهون وإن كان الله قد أعلمه بمكانهم من النفاق. وكان كثيرا ما يقول لأصحابه: «إني لم أومر بأن أفتش عما في القلوب.» وكان جديرا أن يظل كذلك في أمنه وهدوئه وما أتيح له من هذه الحياة الوادعة على قسوتها. ولكنه لم يلبث ولم يلبث أصحابه معه أن وجدوا أنفسهم بين عدوين ليس أحدهما بأقل خطرا من صاحبه: فأما أولهما فهم هؤلاء اليهود الذين لم يؤمنوا به ولم يستكرههم على أن يؤمنوا به، وإنما اكتفى منهم بالمسالمة والموادعة وحسن الجوار والمناصرة عند الحاجة، ولكنهم لم يخلصوا لما كان بينه وبينهم من عهد وإنما أظهروا المسالمة وأضمروا الغدر، ثم لم يكتفوا بذلك بل أظهروا التكذيب لدينه وجادلوا فيه فأكثروا الجدال.
وأما العدو الآخر فقريش تلك التي تركها محفظة عليه أشد الحفيظة، كانت تحب أن تقتله أو تثبته أو تخرجه من مكة جهرة طريدا على رءوس الأشهاد، ولكنها تنظر فإذا هي لم تبلغ مما أرادت به شيئا، لم يغن عنها كيدها له وائتمارها به، وإنما كانت كما وصفها القرآن الكريم في الآية الكريمة من سورة الأنفال:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين . مكروا به حين كان بين أظهرهم ولكنهم لم يقدروا عليه، قد أنجاه الله منهم وأبدله بهم قوما آووه ونصروه؛ فلا يمكن أن تطيب نفوس قريش عما أتيح له من الأمن والدعة، وهي بعد ذلك تعرف أنها قد ظلمته وظلمت أصحابه معه أبشع الظلم وأشنعه؛ فهي لا تأمن أن ينتقم منها لما أصابه، بل تحذر أن يتخذ من أمنه في يثرب ومن أنصاره هؤلاء الجدد وسيلة إلى نصب الحرب لها، وهي من أجل ذلك حذرة أشد الحذر، قلقة أشد القلق، تريد أن تتقيه مهما تكن وسيلتها إلى ذلك؛ فهي تؤلب عليه وتغري به وتكيد له بعيدا عنها كما كادت له قريبا منها، تؤلب عليه العرب وتغري به اليهود، ثم هي بعد ذلك تؤذي من لم تتح له الهجرة من أصحابه أشد الأذى وأنكره، فلا غرابة في ألا يحول على هجرته إلى المدينة حتى يظهر الشر بينه وبين قريش، ويتبين أن الأمر بينهما صائر إلى الحرب لا محالة؛ فقريش عدوه وهي تراه لها عدوا، وترى مكانه من «يثرب» خطرا على تجارتها إلى الشام، ولا يكاد العام الثاني من هجرته يبلغ ثلثيه حتى تكون الحرب بينه وبينهم يوم «بدر».
كانوا كثرة وكان هو وأصحابه قلة، كان هو وأصحابه يوم التقى الجمعان يرون عدوهم مثليهم رأي العين، ولكن شتان بين قوم يقاتلون عن دينهم وعن إيمانهم بهذا الدين وهم مستيقنون أنهم إن ينصروا نعموا بانتصارهم في الحياة الدنيا وظفروا بأجرهم على الجهاد، وإن يقتلوا فهم شهداء عند الله قد ضمن لهم نعيما ليس مثله نعيم، نعيم صفو خالد لا كدر فيه ولا انقطاع له؛ وبين قوم يقاتلون عن أموالهم وعما يملؤهم من الغرور والكبرياء.
فلم تنشب الحرب بين الفريقين حتى أنزل الله نصره على نبيه وعلى المؤمنين، وانهزمت قريش هزيمة منكرة قتل صناديدها وأسرت جماعة من سادتها وكثرت الغنيمة، وعاد المنهزمون إلى مكة قد أحرزوا تجارتهم تلك التي نجا بها أبو سفيان ولم يكد، ولكنهم عادوا بخزي أي خزي يشقون بنار الهزيمة وفقد الصناديد والسادة والإخوان والآباء والأخلاء. وقد قص الله هذه الموقعة أروع القصص في سورة الأنفال.
ومن ذلك اليوم - يوم بدر - تسامعت العرب بالنبي وأحست قوته وبأسه وامتلأت قلوبهم منه رعبا. على أن قريشا لم تصبر على هزيمتها ولم تتعز عمن فقدت من سادتها وأحبائها، فجعلت تتهيأ للثأر، ترصد لذلك المال وتجمع الجموع، وأخذتها العزة بالإثم فحظرت إعلان الحزن على من قتل من رجالها.
وأقبلت حين دار العام إلى المدينة تريد أن تثأر وأن تنتصر على الذين انتصروا عليها، وقد كادت تعود إلى مكة بالخزي والخسار وخيبة الأمل، لولا أن هم بعض المسلمين بالفشل وطمع بعضهم في الغنيمة حين أراهم الله من النصر ما يحبون؛ فكرت عليهم قريش كرة كانت ابتلاء من الله لهم وتمحيصا لقلوبهم ودرسا قاسيا، عرف المسلمون كيف ينتفعون به فيما استقبلوا من أيامهم، وفيما أثير لهم من الخطوب والمشكلات.
ولكنهم على كل حال لم ينتصروا في تلك الوقعة يوم أحد، فكانت عليهم الدائرة: قتل منهم من قتل، وجرح منهم من جرح، وفر منهم كثير ولم يثبت إلا النبي ونفر قليل من أصحابه، وأصيب النبي نفسه إصابة ضعيفة، ورزئ بعمه «حمزة» وكثير من أصحابه، واستطاع أبو سفيان قائد قريش أن يقول للنبي ومن بقي معه من أصحابه: اعل هبل، الحرب سجال، يوم بيوم بدر. وقد أجاب عمر أبا سفيان عن أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
بأن الله أعلى وأجل، وبأن الله قد أبقى من المسلمين من سيكونون له ولقومه بلاء أي بلاء، وعلى رغم الهزيمة التي امتحن الله بها المسلمين في ذلك اليوم، وعلى رغم ما رزئ به النبي وما أصابه من الأذى وما أصاب أصحابه من الثكل والجراحة فقد أبى النبي أن يقبل الهزيمة كما قبلتها قريش يوم بدر؛ فأمر أصحابه أو من قدر منهم على الرحيل أن يتبعوا قريشا، ومضى على رأسهم في إثر المنتصرين، لم يحفل بقلة أصحابه وكثرة عدوه وإنما مضى في إثرهم لا يلوي على شيء حتى أمن كرتهم على المدينة، فعاد موفورا. وقص الله وقعة «أحد» كما كانت مؤنبا لمن فشل في المسلمين، وعاتبا على من انصرف عن الحرب إلى الغنيمة مخالفا بذلك عن أمر النبي، وعافيا مع ذلك عن أولئك وهؤلاء، وآمرا للنبي أن يعفو عنهم ويستغفر لهم ويشاورهم في الأمر، ومعزيا للمسلمين بعد ذلك عمن فقدوا من أصحابهم بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ومهيئا للمسلمين لما سيمتحنون به في أنفسهم وأموالهم، ولما سيسمعون من الأذى الذي يؤذيهم به المشركون والذين أوتوا الكتاب من اليهود.
قص الله هذا كله كأحسن ما يكون القصص في سورة آل عمران. على أن قريشا قد أطمعها انتصارها فلم تكد تستريح من غزوتها تلك وتفرغ لما كانت فيه من التجارة والحياة اللاهية اللاعبة، بل فكرت في غزو المدينة مرة أخرى. وجعلت تتأهب لذلك وتؤلب العرب وتحالف القبائل واليهود موقنة بأنها لن تأمن ما بقي للنبي وأصحابه شوكة، فليس لها بد من أن تزيل هذه المدينة أو أن تتهيأ لزوال مكة.
وكذلك أقبلت قريش بعد عام وبعض عام - ومعها كثير من قبائل نجد، وقد أحكمت أمرها مع اليهود - غازية للمدينة تلك الغزوة التي قصها الله في سورة الأحزاب والتي سميت بهذا الاسم.
وقد عرف النبي والمسلمون تأهب قريش وأحابيشها وحلفائها من أهل نجد لغزو المدينة، فتشاوروا في هذا الأمر وأشير على النبي أن يحتفر خندقا يمنع المشركين من بلوغ المدينة، فتأذن في أصحابه بذلك وشاركهم في احتفار الخندق، كما شاركهم من قبل في بناء المسجد يعمل بيده كواحد منهم، ويحتمل في ذلك من المشقة ما يحتملون، ويلقى فيه من العناء ما يلقون صابرا جادا مثبتا قلوب أصحابه مغريا لهم بالصبر والجد، حتى بلغوا من احتفار الخندق ما أرادوا.
وأقبلت قريش في جموع كثيرة جدا من أحابيشها وأحلافها: جموع تأتي من أسفل من المسلمين وهم قريش ومن جاء معهم، وجموع أخرى تأتي من فوقهم وهم أهل نجد من حلفاء قريش وجلهم من غطفان.
ورأى المسلمون ذلك فأكبروه واستكثروه، ولا سيما أنهم علموا أن بني قريظة من اليهود قد نقضوا عهدهم وغدروا بحلفائهم من المسلمين، وخلطوا أمرهم بأمر قريش وحلفائها بغيا وغدرا ونقضا للحلف والجوار.
وكان المسلمون يعلمون إلى هذا كله أن بين أظهرهم من المنافقين فريقا إن لم يظهروا تأييدهم لقريش فهم يضمرون خذلانهم للمسلمين ويأبون على كل حال أن ينصروهم. فلا غرابة في أن يصف الله عز وجل موقف المسلمين من هذا كله أبرع الوصف وأنفذه إلى القلوب في هذه الآيات الكريمة من سورة الأحزاب، وأن يذكر المسلمين بذلك بعد الموقعة ليعرفوا حسن بلائه فيهم وعظيم نعمته عليهم:
يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا .
ولم يكن بين جماعة المسلمين وبين هذه الجموع الضخمة من المشركين تزاحف ولا لقاء، وإنما كان بعض الأفراد من المسلمين والمشركين تكون بينهم المبارزة من حين إلى حين، ولكن المسلمون كانوا مع ذلك في بلاء عظيم، يمتحنون في إيمانهم وثقتهم بما وعد الله ورسوله ويمتحنون في صبرهم على اليأس والمكروه؛ ذلك أن قريشا وحلفاءها كانوا جديرين أن يقيموا فيطيلوا المقام ويفرضوا على المسلمين حصارا شديدا متصلا، وكان بنو قريظة من اليهود جديرين أن يأخذوهم من ظهورهم فلا يعرفون من يقاتلون ولا من أي وجه يقاتلون، ولكن الله يتيح للنبي من عدوه من يأتيه ناصحا له.
يريد أن ينصره، فيأمره النبي أن يخذل بين قريش واليهود، ويفعل الرجل ذلك على أحسن وجه، فيقنع اليهود بأن قريشا خليقة أن تغدر بهم حين يجد الجد ويشتد البأس، ويشير عليهم بألا يشاركوا قريشا في أمرها حتى تعطيهم رهائن من أنفسها، ويقنع قريشا بسوء نية اليهود وأن حلفهم لا يخلو من دخل، ويستحكم الشك عند قريش فتطالب اليهود بالقتال ويطلب اليهود الرهائن فلا تشك قريش في أنهم قد غدروا. وبينما هم في ذلك يرسل الله ذات ليلة ريحا عاصفة أي العصف باردة أي البرد، تطفئ نيران الحلفاء وتكفأ قدورهم وتنزع خيامهم فيأخذهم الذعر، ويشتد فيهم الاختلاط والاضطراب حتى لا يعرف الرجل منهم صاحبه، فلا يكادون يستقبلون الصبح حتى يجلس أبو سفيان على راحلته وينادي في القوم بالرحيل، فيتفرق الأحزاب.
تعود قريش إلى مكتها، ويعود حلفاؤهم من العرب إلى بواديهم، ويصف الله ذلك في الآية الكريمة:
ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا .
وبعد هذه الخيبة التي منيت بها قريش وحلفاؤها لم تحاول قريش غزو المدينة مرة أخرى، ولكنها مضت تبث كيدها في جزيرة العرب تحرض على النبي وأصحابه المشركين من أهل نجد والحجاز. وكان النبي وأصحابه من أجل ذلك لا يستريحون وإنما تأتيهم الأنباء بين حين وحين بأن هذه القبيلة أو تلك - من قبائل العرب القريبة منهم والبعيدة عنهم - تتهيأ لبعض الشر، فيغزوها النبي بنفسه أو يرسل إليها من يغزوها. كانت قريش تبث الكيد وكان النبي وأصحابه يبثون الهيبة لهم والخوف منهم حتى إذا كان العام السادس للهجرة خرج النبي وفريق من أصحابه قاصدين إلى مكة لا يريدون قتالا ولا يفكرون في حرب، وإنما يريدون العمرة كما كان سائر العرب يقصدون إلى مكة حاجين ومعتمرين.
ولكنهم لا يبلغون الحديبية حتى تعلم قريش بمقدمهم فتأبى أن يدخلوا عليها مكة، ويسعى السفراء بين النبي وبينهم في ذلك؛ يؤكد النبي وأصحابه أنهم لا يريدون إلا العمرة، وتأبى قريش أن يدخلوها عليهم وتنذر بالقتال وتتهيأ له، ثم يكون الصلح الذي يعرف بصلح «الحديبية» والذي امتحن الله به قلوب المسلمين وزلزل به قلوب بعض خيارهم؛ ذلك أن النبي قبل من قريش ألا يدخل عليهم مكة عامهم ذاك، وقبلت قريش أن يدخلوها من قابل لا يحملون من السلاح إلا السيوف في أغمادها، وشق ذلك على المسلمين حتى أقبل «عمر» على النبي يسأله: ألسنا على حق؟ قال النبي: «بلى.» قال عمر: أليسوا على باطل؟ قال النبي: «بلى.» قال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال النبي: «أنا عبد الله ورسوله ولن يضيعني.»
وأعاد «عمر» سؤاله هذا على أبي بكر، فأجابه أبو بكر بمثل ما أجابه النبي به، ولما عقد الصلح أمر النبي أصحابه أن يحلوا من إحرامهم فأبطئوا ولم يستجيبوا، واغتم النبي لذلك، ولكنه لم يلبث أن أحل من إحرامه حتى صنع أصحابه صنيعه.
وأنزل الله:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا * هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما * ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما * ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا * ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما .
ويقول الرواة: إن بعض المسلمين حين تليت عليهم هذه السورة سألوا النبي: أوفتح هذا؟ قال النبي: «نعم.»
وكان النبي قد أرسل من «الحديبية» عثمان - رحمه الله - سفيرا إلى قريش، فأبطأت عودته وقيل: إن قريشا قد فتنته، فبسط النبي يده للبيعة على الموت، وبايعه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، وأنزل الله في سورة الفتح:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما .
وفي يوم «الحديبية» ذاك تمت الهدنة بين النبي وبين قريش عشر سنين على أن يدخل في عقد قريش من العرب من شاء ويدخل في عقد النبي منهم من شاء، وتكف الحرب بين الفريقين، وعلى أن من جاء قريشا من أصحاب النبي لاجئا إليهم لم يردوه ومن جاء النبي من قريش مؤمنا به أو لاجئا إليه رده عليهم.
وعلى أن يأتي النبي وأصحابه من قابل معتمرين فتترك لهم قريش مكة ويدخلونها لا يحملون من السلاح إلا السيوف في أغمادها، ثم لا يقيمون فيها إلا ثلاثة أيام.
وهذه الشروط التي قامت عليها الهدنة هي التي أحفظت فريقا من المسلمين، ولكنهم لم يفطنوا لأن الهدنة بينهم وبين قريش ستكفيهم مكرها من جهة وستطلق أيديهم فيمن لم يحالف قريشا من العرب يسالمونهم إن سالموا ويحاربونهم إن حاربوا، وستريحهم إلى حين من خصومة هؤلاء الأعداء الألداء، ذلك إلى ما وعدهم الله من الفتح القريب ومن مغانم كثيرة يأخذونها.
ومهما يكن من شيء فقد طابت قلوب المسلمين آخر الأمر وعرفوا أنهم قد أسرعوا إلى الحفيظة والغضب، وأنهم لو استأنوا بأنفسهم لكان خيرا لهم وأرضى لنبيهم، ولكن الله ونبيه قد عوداهم العفو عن مثل هذه الهفوات.
15
ولم يكن أمر النبي مع اليهود أهون من أمره مع قريش؛ فهم كانوا على قلتهم في المدينة جيرانا للنبي والمسلمين. ولم يكونوا جيران خير، كان كفرهم شديدا ومكرهم أشد، وكانوا على اتصال بالمنافقين من أهل المدينة يشجعونهم ويغرونهم بالنفاق، وكانت بينهم وبين كثيرين من هؤلاء المنافقين علاقات حلف في الجاهلية فكان هذا يزيدهم كفرا وطغيانا، وكانوا بعد هذا كله أهل كتاب يقرءون التوراة أو يقرؤها أحبارهم على أقل تقدير، ويرون أنهم على شيء من الدين، وأنهم سبقوا المسلمين إلى هذا الدين، فلهم سابقة علم بشئون النبوات، وكانوا يعظمون موسى ويرون المسلمين يعظمونه ويسمعون تعظيمه في القرآن فتأخذهم الكبرياء، ويظنون أنهم أهدى سبيلا من المسلمين كما ظنوا من قبل أنهم أهدى سبيلا من النصارى، وكانوا يتيهون بدينهم وما عندهم من علم قليل على المسلمين، كما كانوا يتيهون بذلك على العرب في الجاهلية. وكانوا أصحاب جدال لا ينقضي وأصحاب عناد لا قرار له، وكانوا ذوي جرأة على الحق وافتنان في الباطل، يعلمون أن المسلمين لا يقرءون التوراة في لغتها العبرانية فيحرفونها كما يشاءون وكما تشاء أهواؤهم، لا يحفلون بما في ذلك من نكر ولا يأبهون لما له من عواقب. وكانوا يسألون النبي عن أشياء، فإذا أجابهم النبي بما كان الله يوحي إليه ماروا في ذلك وأسرفوا في المراء.
ثم كانوا لا يفون بالعهد إذا عاهدوا ولا يصدقون في القول إذا قالوا، ولا يستطيع أحد من المسلمين أن يأمن لهم في قول أو عمل.
ثم لم يلبثوا أن بينوا عن غدرهم تبيينا لا يترك سبيلا إلى الشك في أن جوارهم غير مأمون: هم فريق منهم - وهم بنو النضير - بقتل النبي، وقد أقبل عليهم ذات يوم يستعينهم على بعض الحق - كما كان الحلف يقضي بذلك - فأظهروا حسن اللقاء وهموا بالغدر وأزمعوا أن يلقوا عليه من عل صخرة تودي به لولا أن أنبأه الله بما كادوا له، فانصرف عنهم ثم أجلاهم عن المدينة ولم يرزأهم شيئا.
ونكص فريق آخر - وهم بنو قينقاع - عن الوفاء بالحلف، أهانوا امرأة واستنصرت المرأة المسلمين فكان خصام قتلوا فيه رجلا مسلما واعتلوا في ذلك بعلل لا قيام لها، فأجلاهم النبي عن المدينة لم يرزأهم إلا السلاح.
وغدر الفريق الآخر يوم الأحزاب فلم يمتنعوا عن نصر المسلمين فحسب، ولكنهم أعانوا عليهم وانضموا لحلف قريش، فحاصرهم النبي والمسلمون حتى أنزلهم على حكمه، ثم حكم فيهم سعد بن معاذ - رحمه الله - بأن تقتل المقاتلة وتحتاز الأموال وتسبى الذراري والنساء، فأنفذ النبي هذا الحكم.
ووصف الله عز وجل في القرآن ما أصاب بني قريظة هؤلاء في سورة الأحزاب حيث يقول:
وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا .
وكانت لليهود بقية قوية غنية في «خيبر» وفي «وادي القرى» فسلط الله رسوله عليهم بعد يوم «الحديبية» - وهو الفتح القريب الذي وعد به المؤمنين - فغزاهم في أصحابه ولم ينصرف عنهم حتى فتح حصونهم، وغنم أرضهم وأعملهم فيها على أن لهم نصف ما تخرج من الثمرات وللمسلمين نصفها.
وكذلك قضى على اليهود في الحجاز، خلت منهم المدينة وبقي منهم من بقي في خيبر ووادي القرى خاضعين للمسلمين يعملون في أرضهم ويعيشون من عملهم لا يملكون قوة ولا مكرا ولا كيدا.
وقد أمر الله نبيه ومن آمن معه ألا يجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، وأن يقولوا لهم آمنا بالذي أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.
لم يستثن من هذا الأمر بالرفق والجدال الرقيق مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا الذين ظلموا وبينوا بظلمهم أن الرفق والرقة لا يجديان معهم شيئا، وذلك في الآية الكريمة من سورة العنكبوت:
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون .
فلما هاجر النبي إلى المدينة واستقر فيها مع أصحابه من المهاجرين والأنصار لم يعاد اليهود ولم يبادهم بسوء، وإنما رفق بهم كل الرفق، وأراد أن تقوم الصلات بينه وبينهم على حسن الجوار وعلى التعاون والنصر عند البأس. وقبل اليهود منه ذلك ولكنهم لم يلبثوا أن أظهروا أنهم كانوا حقا من الذين ظلموا واستثناهم الله في الآية الكريمة السابقة. فاشتد الجدال بينهم وبين النبي في الدين أولا وأنزل الله فيهم قرآنا كثيرا.
يقص عليهم أحيانا سابقتهم في الكفر به والجحود له والتنكر لمن أرسل إليهم من الأنبياء. ويقص عليهم كذلك عقاب الله لهم على هذا الكفر والجحود، وأحيانا أخرى يرد عليهم ما كانوا يفترون من الكذب ويزعمون أنهم يقرءونه في التوراة. ويصفهم بأنهم لا يقرءون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون. ويصفهم مرة أخرى بأنهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه. ويصفهم مرة ثالثة بالنفاق لأنهم يلقون الذين آمنوا فيقولون: إنا معكم، فإذا خلا بعضهم ببعض قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ ومرة أخرى يوبخهم لأنهم يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب، ويذكرهم غير مرة بأنه نجاهم من آل فرعون يسومونهم سوء العذاب يذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وبأنه أغرق آل فرعون أمامهم وهم ينظرون، ثم لم يلبثوا أن جحدوا هذه النعمة وكفروا بالذي أنعمها عليهم وعبدوا العجل من بعده ظالمين لأنفسهم. ويذكرهم غير مرة أيضا بجبنهم وكراهيتهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي اختصهم الله بها وقالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.
ويحصي عليهم كثيرا من آثامهم ومن تكذيبهم للرسل وقتلهم الأنبياء وما أصابهم في سبيل هذا كله من المحن وألوان البلاء. وربما تحداهم حين كانوا يزعمون لأنفسهم من الخصائص ما ليس لهم؛ فهم كانوا يزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات فيأمر الله نبيه أن يسألهم: هل اتخذوا عند الله عهدا أم يقولون على الله ما لا يعلمون؟
ويأمر نبيه أن يقول لهم: إن كانت الدار الآخرة خالصة لكم من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين، ثم يؤكد الله عز وجل أنهم لن يتمنوا الموت أبدا؛ لأنهم يعلمون ما قدمت أيديهم من السيئات؛ فهم يكذبون على الله حين يزعمون أن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، أو أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس.
ويؤكد الله لنبيه أنهم أحرص الناس على حياة، وأن أحدهم يود لو يعمر ألف سنة، ولو أتيح له ما يتمنى من طول العمر لما زحزحه ذلك عن العذاب.
وكذلك يمضي القرآن الكريم ناعبا على اليهود تلك الخصال التي أشرنا إليها في أول هذا الفصل، ولائما لهم على تاريخهم المليء بالجحود والغدر والكفر، ورادا عليهم ما كانوا يثيرون من المشكلات أو يلقون عليه من الأسئلة التي كانوا يرون أنها ستحرجه وتقطع حجته، فيفحمهم ويلزمهم الحجة.
ولذلك كله ظهر أول انحراف عن الرفق بهم حين حولت قبلة المسلمين في الصلاة عن بيت المقدس إلى المسجد الحرام. وكان النبي يتمنى لو غيرت قبلته عن بيت المقدس انحرافا عن اليهود، أولئك الذين وصفهم الله بما وصفهم به في آيات كثيرة جدا من القرآن، والذين مضوا في العناد والجحود إلى غير غاية فأنزل الله هذه الآية من سورة البقرة:
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون .
ثم سخر الله منهم في هذه الآية من السورة نفسها:
ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين * الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون .
ثم بين بعد ذلك في نفس السورة أن البر ليس أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق والمغرب، وإنما البر خصال أخرى فصلها الله في هذه الآية:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون .
وبعد خلو «المدينة» من اليهود وفتح «خيبر» و«وادي القرى» خف الجدال بين النبي وبين اليهود وقل ذكرهم في القرآن لانقطاع الحاجة إليه؛ ولأن الله قد ذكرهم بما أخزاهم في الدنيا وبين أنه سيخزي الظالمين منهم في الآخرة.
16
ولم يكن أمر النصارى ظاهرا في جزيرة العرب، وإنما كانت لهم جماعة في نجران، وكان منهم أفراد متفرقون هنا وهناك في الجزيرة. فلم يكن الجدال بين النبي وبينهم متصلا ولم يعنف إلا حين كان النصارى ينحرفون في مقالاتهم وما يظهرون من دينهم عن التوحيد الخالص الذي جاء به النبي ودعا إليه وأمر أن يقاتل الناس حتى يعلنوه فيقولوا: «لا إله إلا الله»، فإن قالوها عصموا منه دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان.
وقد أنزل الله من القرآن ما يصور النصارى أقرب الناس مودة إلى المؤمنين، فقال في سورة المائدة:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين * وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين * فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين * والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم .
وقد قرر القرآن الكريم أن المسيح عيسى بن مريم رجل لا كالرجال، لم يلده أب وإنما هو كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم. ووصف الله تبشير الملائكة لمريم بالمسيح ومولده في سورة آل عمران وفي سورة مريم. واختصه الله بمعجزات لم يؤتها أحدا من رسله: فاختصه بإحياء الموتى، واختصه بإبراء الأكمه والأبرص، واختصه بأن يجعل من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا؛ كل ذلك بإذن الله.
وأنزل عليه وعلى أصحابه مائدة من السماء كانت لهم عيدا لأولهم ولآخرهم، واختصه قبل ذلك بتكليم الناس في المهد، وأرسله إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى الإيمان بالله وأداء حقه والخروج مما ورطوا أنفسهم فيه من السيئات والآثام، ويخفف عنهم بعض ما امتحنوا به من الأعباء الثقال، ولكن اليهود كذبوه وآذوه وهموا بصلبه وقتله، فلم يصلبوه ولم يقتلوه وإنما شبه لهم ورفعه الله إليه وطهره من الذين كفروا.
وكان مما غضب الله به على اليهود قذفهم لمريم وقولهم عليها بهتانا عظيما، وزعمهم أنهم قتلوا المسيح عيسى بن مريم رسول الله، وما كان لكلمة الله أن تقتل وما كان لروح من الله أن يصلب. وقد ذكر الله ذلك في الآيات الكريمة من سورة النساء:
وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا .
وقد شدد الله النكير على النصارى في شيئين خطيرين؛ أحدهما: تأليههم للمسيح وعبادته وذلك في قوله من سورة المائدة:
قد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير .
وقوله في السورة نفسها:
لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار .
وهو في هذه الآية يبرئ المسيح من عبادة النصارى إياه، ويقرر أن المسيح لم يدع بني إسرائيل إلا إلى عبادة الله ربه وربهم وأنه نهاهم عن الشرك.
وهو في آية أخرى من السورة نفسها يقرر هذا، ولكن في صراحة لا تدع إلى الشك سبيلا وذلك حيث يقول:
وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد .
الأمر الثاني الذي أنكره الله على النصارى أشد الإنكار تثليث المثلثين منهم وقولهم: إن الله ثالث ثلاثة. وذلك في الآيات من سورة المائدة:
لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون .
ولم يكن بين النبي والنصارى جدال - فيما نعلم - إلا ما كان بينه وبين نصارى نجران حين وفد عليه بعضهم، وعسى أن يكون الله عز وجل قد أشار إلى هذا الجدال في سورة آل عمران حين قرر أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: «كن» فيكون، يريد عز وجل - وهو أعلم بما يريد - أن ليس في مولد عيسى دون أن يكون له أب شيء من غرابة؛ فالله قد خلق آدم من تراب ثم قال له: «كن» فكان، لم يكن له أب ولم تكن له أم فمن خلق إنسانا لغير أب وأم قادر على أن يخلق إنسانا ليس له أب.
ثم قال - عز من قائل - يأمر نبيه بمباهلة الذين يجادلونه في ذلك ويصف طريق المباهلة:
فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين .
ثم أمره أن يدعو أهل الكتاب من النصارى واليهود إلى كلمة سواء بين المسلمين وبينهم وهي ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وأمره إن أبوا أن يجيبوا إلى هذه الدعوة أن يشهدهم على أنه هو وأصحابه مسلمون قد أخلصوا دينهم لله وحده، وذلك حيث يقول:
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .
وكأن النصارى حاجوا النبي في إبراهيم كما كان اليهود يحاجونه فيه فقال الله:
يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
ويقول الرواة: إن النصارى من أهل نجران نكلوا عن المباهلة التي دعاهم إليها النبي عن أمر الله وعادوا إلى بلادهم كما أقبلوا منها دون أن يعطوه الرضى من أنفسهم. ولم تكن بين النبي وبين النصارى في جزيرة العرب حرب، وإنما تسامع المسلمون العرب ذات يوم بأن نصارى العرب في مشارف الشام يتهيئون لغزو المسلمين في المدينة. يدل على ذلك ما تحدث به عمر - رحمه الله - حين اعتزل النبي نساءه، من أن صاحبا له من الأنصار جاءه بليل فطرق عليه الباب، فلما خرج إليه أنبأه الأنصاري بأن قد حدث شيء عظيم، قال عمر: أوجاء الغساني؟ وكانوا قد تسامعوا بأن غسان تتهيأ لغزوهم. قال الأنصاري: لا، بل حدث أعظم من ذلك، ثم مضى عمر في حديثه.
فهذا يدل على أن أهل الشام من نصارى العرب قد أكبروا ما بلغهم عن النبي وانتشار أمره في الجزيرة بالسلم حينا وبالحرب حينا آخر، فهموا بغزوه كراهية أن ينشأ في جزيرة العرب ملك منظم يصبح خطرا على حدود الإمبراطورية البيزنطية. وهذا في أكبر الظن هو الذي حمل النبي أن يرسل جيشا إلى «مؤتة» على حدود الشام والجزيرة العربية وهي الموقعة التي امتحن فيها المسلمون وقتل فيها ثلاثة من أصحاب اللواء. وكادت الكارثة أن تكون أخطر من ذلك لولا براعة خالد بن الوليد - رحمه الله - حين أخذ اللواء وانحاز بالمسلمين حتى أمنوا. وعسى أن يكون هذا أيضا وما انتهت إليه موقعة «مؤتة» هو الذي حمل النبي أن يغزو غزوة «تبوك» التي فصل الله ذكر ظروفها في سورة التوبة كما سترى.
17
وكان أمر النبي مع المنافقين معقدا أشد التعقيد؛ لأنه اتصل منذ هاجر النبي إلى المدينة إلى أن آثره الله بجواره، ولأن النبي والمسلمين لقوا منه شرا أي شر وبلاء أي بلاء.
كان أمر المنافقين من جهة أيسر من أمر المشركين واليهود؛ فلم تكن بينهم وبين المسلمين حرب ولم تسفك بينهم دماء، ولكنه كان من جهة أخرى أشد من أمر المسلمين مع المشركين واليهود عسرا؛ ذلك لأن المنافقين لم يصنعوا صنيع أولئك ولا صنيع هؤلاء، لم يبادوا النبي وأصحابه بالكفر، وإنما أظهروا الإسلام وأضمروا الكفر، ولم يبادوا النبي وأصحابه بالعداوة الصريحة، وإنما أظهروا المودة وأضمروا البغضة والعداء، ولم يخطئ الشاعر القديم حين قال:
فإما أن تكون أخي بحق
فأعرف منك غثي من ثميني
وإلا فاتركني واتخذني
عدوا أتقيك وتتقيني
ويوشك النفاق أن يكون أبعد من الكفر الصريح والعداء البين أثرا في إفساد حياة الناس.
وقد كان النبي والمسلمون يعرفون من كفر المشركين واليهود وعدائهم، ومن كيدهم لهم ومكرهم بهم ما يضطرهم إلى أن يحتاطوا لدينهم ولأنفسهم من أولئك وهؤلاء. وكانوا جديرين ألا يعرفوا من بغض المنافقين لهم شيئا لولا أن خبر السماء كان يأتي النبي حين ينزل القرآن بما في قلوب المنافقين من حقد عليهم وبغض لهم. وكان النبي مع ذلك قد أمر أن يقاتل الناس حتى يقولوا: «لا إله إلا الله»؛ فإذا قالوها عصموا منه دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله كما روينا آنفا. وكان المنافقون يقولون: «لا إله إلا الله» فيعصمون دماءهم وأموالهم من النبي والمسلمين ولا يجعلون لهم على أنفسهم سبيلا؛ ثم يستخفون بكفرهم وجحودهم، ولو قد اكتفوا بإخفاء الكفر والجحود بعد أن أظهروا الإسلام ثم لم يزيدوا على ذلك لكان أمرهم هينا يسيرا، ولكنهم يضيفون إلى الكفر والجحود استهزاءهم بالنبي والمسلمين حين يخلو بعضهم إلى بعض وإصرارهم على الكيد للنبي والمسلمين وتوليهم للمشركين واليهود دون النبي والذين اتبعوه، وإطلاقهم كلمة السوء في النبي والذين آمنوا معه كلما أتيح لهم إطلاقها، وكان الحسد مصدر هذا كله فيما يظهر.
فلم تكن كلمة العرب في المدينة مؤتلفة قبل هجرة النبي، وإنما كانوا فئتين مختصمتين أشد الاختصام: كانوا قبيلتين عربيتين تنتسبان إلى أصل يمني قحطاني، وتشتد المنافسة بينهما حتى تثير الخصومة دائما وتثير الحرب أحيانا.
وقد احتربت القبيلتان - الأوس والخزرج - في آخر العصر الجاهلي حربا متصلة مضنية، وكانتا جديرتين أن تستأنفا حربهما لولا أن هداهما الله إلى الإسلام بالنبي
صلى الله عليه وسلم ، فألغى ما كان بينهما من خصومة وكف أيدي بعضهم عن بعض. وكان من إحدى القبيلتين - وهي الأوس - رجل قد عظم شأنه وارتفعت مكانته في قومه حتى كادوا يتوجونه ملكا عليهم، فلما جاء الإسلام وهاجر النبي وأصحابه إلى يثرب سقط أمر هذا الرجل وأصبح كغيره من أهل المدينة رجلا من الأوس، وضاعت آماله وضاعت كذلك آمال أتباعه فيه. فليس غريبا أن يضيق هذا الرجل «عبد الله بن أبي بن سلول» والذين اتبعوه بمقدم النبي إلى المدينة وانتشار الإسلام فيها وانصراف المسلمين من الأوس والخزرج عن التفكير في الملك وفيمن يصير الملك إليه، إلى التفكير في الإسلام والنبوة وإلى الاستجابة للنبي في كل ما يدعوهم إليه ويأمرهم به والانتهاء عما كان ينهاهم عنه ويخوفهم منه.
وليس غريبا أن يمتلئ قلب هذا الرجل والذين لاذوا به حقدا وحسدا للنبي ومن جاء معه من المهاجرين ومن اتبعه من الأنصار من الأوس والخزرج جميعا.
وليس غريبا - حين ظهر الإسلام في المدينة وفشا في أهلها - أن يضطر هؤلاء الناس إلى أن يسلموا فيمن أسلم، لم يكونوا يستطيعون مقاومة؛ لأن الإسلام كان قد دخل في كل دار من دور الأوس والخزرج، ولم يكونوا يستطيعون أن يخرجوا من المدينة ويتركوها للدين الجديد ومن جاء به. تمنعهم من ذلك مصالحهم وأموالهم وتمنعهم من ذلك كبريائهم أيضا. ولم يكونوا آخر الأمر يستطيعون أن يظلوا كفارا وأن يجاهروا بذلك فيجعلوا للنبي سبيلا على أنفسهم وأموالهم. لم يشرح الله صدورهم للإسلام ولم يجرءوا على أن يظهروا الكفر فعاشوا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما وصفهم الله في الآية الكريمة من سورة النساء.
شقوا بنفاقهم هذا وآذوا به المسلمين إيذاء متصلا مختلفا. كانوا خطرا في أيام السلم يعرف النبي والمسلمون إسلامهم بأطراف ألسنتهم وكفرهم في أعماق قلوبهم. ثم يرون منهم ويسمعون ما يكرهون في أوقات كثيرة ، ولا يستطيعون أن يعرضوا لهم بسوء؛ لأن الله لم يسلطهم عليهم، بل عصمهم منهم بكلمة التوحيد التي تنطلق بها ألسنتهم وتغلق من دونها قلوبهم. وكان أحدهم ربما غلب عليه كفره وبغضه فأظهر من القول والعمل ما كان جديرا أن يحل دمه، ولكن النبي كان يسرع إلى العفو عن هذه الهفوات على خطورتها. كالذي كان - حين أعلن عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة بني المصطلق - من تلك الكلمة التي ذكرها الله في القرآن حين قال:
لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، يريد مبادأة المسلمين بالحرب إذا عادوا إلى المدينة وما يتبع ذلك من الاستعانة عليهم بأوليائه من الكفار.
وقد بلغت هذه الكلمة النبي
صلى الله عليه وسلم
واستأذنه عمر في قتل هذا الرجل؛ لأنه أحل دمه حين أعلن في صراحة عداوته للمسلمين وإزماعه على أن ينصب لهم الحرب إذا عادوا إلى المدينة. ولكن النبي أبى على «عمر» وكره أن يتحدث الناس بأن محمدا يقتل أصحابه كما جاء في الحديث الذي رواه الشيخان.
وقد وصف الله المنافقين واشتد عليهم في غير سورة من القرآن، فضح أمرهم كله وأظهر دخيلة نفوسهم في الآيات الكريمة من سورة البقرة وذلك حيث يقول:
ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين * يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون * في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون .
ثم يصف عنادهم وما ملأ قلوبهم من الكبرياء والغرور فيقول:
وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون * ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون * وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون .
ثم يصف ذلة نفوسهم واضطرابهم إلى المخادعة وإباءهم بأن يعترفوا بهذه المخادعة؛ فيقول:
وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون * الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون .
ثم يشبههم بأصحاب التجارة الذين يبذلون أغلى الأثمان وأنفسها ليشتروا بها أبخس المتاع وأشده عليهم وبالا، ثم يعودون بعد ذلك بالخسران؛ فيقول:
أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .
ثم يصورهم أروع تصوير وأبرعه حين يمثلهم مرة بالذي يبذل الجهد ويجد كل الجد ليستوقد النار فإذا اضطرمت وارتفع لهبها وأضاءت ما حوله وحول أصحابه، ذهب الله بما أتيح لهم من نور وتركهم في ظلمات لا يبصرون؛ فيقول:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون .
ثم يصور حيرتهم واضطرابهم بين الخوف والأمن وبين اليأس والأمل فيضرب لهم مثلا قوما أدركهم صيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق، فهم وجلون قد ملأ الخوف قلوبهم وخيل إليهم أنهم يرون الموت؛ فهم يضعون أصابعهم في آذانهم إشفاقا من الرعد والصواعق وحذرا من الموت. وهم يرون البرق يضيء ما حولهم فيمشون في ضوئه، فإذا انقطع البرق وعادت الظلمة قاموا في أماكنهم لا يدرون أين يذهبون، فيقول:
أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير .
وذكرهم الله في سورة النساء فصور ترددهم بين الإيمان والكفر، فهم يؤمنون ثم يكفرون ثم يرجعون إلى الإيمان، ثم يعودون إلى الكفر، ثم يزدادون كفرا، قد ملكت عليهم الحيرة أمرهم فهم لا يعرفون أي طريق يسلكون.
وذكر توليهم للكافرين من دون المؤمنين كيدا لهؤلاء والتماسا للعزة عند الكافرين.
وذكر أنهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى؛ لأن صلاتهم ليست صلاة صدق وإنما صلاة خداع ورياء؛ فهم يراءون الناس ليكفوا أيدي المسلمين عنهم، وهم يخادعون الله والله خادعهم، وهم مذبذبون بين الإيمان والكفر. ليسوا مع المؤمنين تأبى عليهم ذلك قلوبهم المدخولة وليسوا مع الكافرين صراحة يخافون أن يجعلوا للمؤمنين عليهم سبيلا، وهم يحاولون أن ينتفعوا بذبذبتهم هذه. فإذا أتيح النصر للمؤمنين قالوا: ألم نكن معكم؟ لينتفعوا بثمرة الفتح، وإن يكن شيء من النصر للكافرين قالوا: ألم نحطكم ونحمكم من المؤمنين؟ يريدون أن ينتفعوا من انتصار الكفار. وهم يستهزئون بآيات الله إذا خلوا إلى أنفسهم والله يحذر المؤمنين إن سمعوا بعض هذا الاستهزاء أن يقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره حتى لا يكونوا مثلهم ولا يلقوا مثل ما يلقى المنافقون من العذاب؛ لأن الله سيجمع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا.
والله يأمر نبيه أن يبشر المنافقين بالعذاب الأليم، ويعلن أنهم في الدرك الأسفل من النار، وأنهم لم يجدوا من ينصرهم أو يرد عنهم هذا العذاب.
والله يقول في هذا كله:
إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا * بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما * الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا * وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا * الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا * إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا * مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا * يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا * إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما * ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما .
فانظر كيف ذكر أمرهم على هذه الصورة من النكر والبشاعة ومن الكفر والغدر، وكيف أنذرهم هذا النذير الشديد بالعذاب الأليم وبأنهم في الدرك الأسفل من النار لا يجدون لهم نصيرا، ثم عاد بعد هذا الوصف القوي الموئس ففتح باب الأمل أمامهم وأعلن أن من تاب منهم وأصلح واعتصم بالله وأخلص له دينه فهؤلاء مع المؤمنين. والله يعد للمؤمنين أجرا عظيما.
وكذلك القرآن يشدد النكير على المنافقين وعلى الذين يقترفون الآثام ويجترحون الكبائر حتى يشرف بهم على اليأس، ثم يفتح لهم بعد ذلك أبواب الأمل واسعة ويجعل التوبة الخالصة الصادقة النصوح سبيلهم إلى الأمل في النجاة، بل في أكثر من النجاة في الاستمتاع بما أعد الله للمؤمنين الصادقين الناصحين من النعيم.
كان المنافقون إذن خطرا أيام السلم وكانوا أشد خطورة أيام الحرب؛ فهم كانوا أضعف إيمانا بالله والرسول والدين من أن يقاتلوا العدو على بصيرة إذا لقوه، وأن يثبتوا له إذا أغار عليهم في المدينة، وهم كانوا يظهرون هذا الضعف ولا يخفونه، وكانوا حين يجد الجد لا يجدون حرجا ولا حياء في أن يظهروا الجبن وما يستتبع الجبن من انخلاع القلوب واضطراب النفوس وضمور العزائم وفتور الهمم وانهيار الصبر على المقاومة.
وهم كانوا بذلك ينشرون الخوف ويشيعون الذعر بين ذوي قربانهم وجوارهم من المسلمين؛ وأي شر في أوقات الحرب أعظم خطرا من انقسام الجيش المحارب أمام العدو وفي أوقات الحصار خاصة إلى فريقين، فريق يستقبل العدو في ثقة بالله وإيمان بوعده، وفريق آخر يظهر الجبن ويحتال للفرار ما وجد إلى الفرار سبيلا، ثم يشكك في عواقب الحرب ويملأ قلوب المدنيين فرقا وخوفا.
وكذلك صنع المنافقون في غزو الأحزاب: خرجوا مع النبي وأصحابه لمواجهة العدو، فلما رأوا كثرته وما ظهر من قوته وبأسه، ورأوا أن المشركين لا يأتون المدينة من قبل مكة فحسب وإنما يأتونها من مكة ومن نجد، يأتونها من فوقها ومن أسفل منها، انخلعت قلوبهم وأخذ الرعب منهم كل مأخذ، وملك عليهم الهلع أمرهم كله حتى منعهم من الاحتياط في القول والعمل، فقال بعضهم - كما نقرأ في سورة الأحزاب:
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ، يذيعون الشك ويثبطون الهمم. وقال بعضهم:
يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ، يغرون المسلمين بالفرار وترك النبي وحده مع المهاجرين تجاه العدو. ثم لم يكتفوا بما قالوا وإنما أقبل بعضهم على النبي يستأذنونه في الرجوع ويعتلون بأن بيوتهم عورة مكشوفة للعدو، ويظهر الله جلية أمرهم فيرد عليهم معاذيرهم بقوله:
وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا .
ثم يفضح الله ما انطوت عليه قلوبهم من الكيد والغش والاستعداد لإجابة العدو ولما يريد، فيقول:
ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا ، وينبئهم الله بأنهم لم يريدوا أن يفروا وحدهم وإنما أغروا غيرهم بالفرار ولم ينتظروا مقدم العدو لإظهار الجبن والفرق والكيد معا، وذلك حيث يقول من سورة الأحزاب أيضا:
قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا .
وما أعرف أن الجبن والمكر معا وصفا بمثل ما وصفهم الله في القرآن حيث يقول في المنافقين في سورة الأحزاب:
أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا .
فانظر إليهم بخلاء بالنصر والتأييد على المؤمنين، جبناء يذهب الخوف إذا جاء نفوسهم وعقولهم وأفئدتهم، فهم ينظرون إلى النبي تدور أعينهم كالذي تأخذه غشية الموت قبل أن يأتيه الموت. ثم انظر إليهم ماكرين بالمؤمنين كائدين لهم، قد ملأت البغضاء قلوبهم فأطلقوا في المسلمين ألسنتهم حدادا بمقالة السوء في النبي وفي المؤمنين، حين يذهب الخوف ويعود الأمن.
وصور الله في سورة الأحزاب أيضا إفراط المنافقين في الجبن وإغراقهم في الفرق؛ فقد انصرف الأحزاب عن المدينة ولكن خوف المنافقين يخيل إليهم أنهم ما زالوا محاصرين للمدينة، وهم من أجل ذلك وجلون ، ثم ينبئ الله نبيه والمؤمنين بأن الخوف قد ملأ قلوب هؤلاء المنافقين أن جعلهم يشفقون من الأحزاب حتى بعد انصرافهم، يخافون أن يعيدوا الكرة ولو قد فعلوا لود المنافقون لو أنهم تركوا المدينة وعاشوا مع الأعراب في باديتهم، لا يرون ما يكون بين المؤمنين وبين الأحزاب من حرب ولا يرون عواقب هذه الحرب، وإنما يسألون عن أنباء المؤمنين وهم بعيدون عنهم في باديتهم تلك، قد أمنوا أن يمسهم من شر الحرب كثير أو قليل.
وقد ظهرت نيات المنافقين كأبشع ما كانت حين هم النبي بغزوة تبوك، ووصف الله نياتهم هذه وقلوبهم وأعمالهم في روعة أي روعة، وتفصيل أي تفصيل، واشتد عليهم كل الشدة من أجل نياتهم وقلوبهم وأعمالهم في سورة التوبة.
وكانت غزوة تبوك مصدر محنة عامة للمنافقين جميعا، ولفريق من المؤمنين أيضا؛ ذلك أن النبي أخذ يتجهز لها في وقت لم يكن أشد على الناس فيه من ترك المدينة والمضي إلى الحرب وإلى الحرب في مكان بعيد.
كان ذلك في أشد الصيف حين يشتد القيظ على المقيمين فكيف بالمسافرين، وحين تنضج الثمار ويود الناس لو فرغوا لاجتنائها، وكان ذلك في وقت عسرة قل فيه المال واشتدت فيه الحاجة إليه. فهذه الحرب البعيدة التي لا تعرف عواقبها، والتي لا تحمل إلى قبيلة من قبائل الأعراب قريبا من المدينة وإنما تحمل إلى عرب الشام في حدود الجزيرة العربية.
كل هذا كان يحتاج إلى النفقة الكثيرة وكان يكلف المسلمين أن يجاهدوا بأنفسهم وأموالهم، وأن ينفقوا على هذه الحرب عن سعة، ومن أجل هذا دعي المسلمون إلى الإنفاق ودعوا إلى الجهاد بأنفسهم، فأما الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فأجابوا إلى ما دعوا إليه، وأبلى عثمان في الإنفاق على هذه الحرب أحسن البلاء. وتجهز المؤمنون الصادقون للحرب وأعانوا من احتاج منهم إلى المعونة. وجاءت جماعة من المؤمنين إلى النبي متطوعين للجهاد ولكنهم لا يجدون النفقة، فأقبلوا يسألونه أن يحملهم وأجابهم النبي بأنه لا يجد ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون كما ذكر الله في سورة التوبة.
ومن أجل هذا كله شدد الله على المؤمنين في أن ينفروا مع النبي ولامهم فيما أظهر بعضهم من الفتور والتثاقل فقال:
يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل * إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير * إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم * انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون .
فإذا كان الجهاد قد ثقل على المؤمنين الصادقين الذين أخلصوا دينهم لله، وآثروا رسول الله على أنفسهم فهو على المنافقين أشد ثقلا.
والمنافقون لا يجاهدون ابتغاء مرضاة الله؛ لأن قلوبهم لم تؤمن به، ولا يجاهدون إيثارا للنبي على أنفسهم؛ لأنهم لم يحبوا النبي ولم يخلصوا له، وإنما يجاهدون إن جاهدوا ابتغاء للغنيمة واتقاء لعاقبة القعود، ولذلك قال الله فيهم:
لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون .
فهم إذن كارهون للخروج يؤثرون الراحة والأمن وإحراز أموالهم، وهم يحلفون للنبي والمؤمنين لو استطاعوا لخرجوا معهم، ولكن الله ينبئ نبيه بأنه يعلم أنهم كاذبون، وأنهم لو صح إيمانهم لم يستأذنوا. وقد أذن النبي لهم في القعود فعفا الله عنه وسأله في شيء من العتاب:
عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين .
ثم بين له أن المؤمنين لا يستأذنون وإنما ينفرون للجهاد إذا دعوا إليه، وأن الذين لم يصح إيمانهم هم الذين يتكلفون الإذن يتخذونه تعلة لقعودهم عن الجهاد.
ويبين الله كذب المنافقين حين زعموا أنهم كانوا يودون لو يخرجون مع النبي وأصحابه ولكنهم لا يستطيعون الخروج؛ فهم لم يتهيئوا للخروج ولم يحاولوا أن يعدوا له عدة وإنما كانوا مزمعين على القعود حين دعوا ولم يكن استئذانهم واعتذارهم إلا تكلفا. ومع ذلك فقد كان الله كارها لخروجهم فثبطهم وحبب إليهم التخلف؛ لأنه كان يعلم من أمرهم ما يخفى على المؤمنين. كان يعلم أنهم لو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم بالغش والكيد والخيانة ولسعوا بينهم بالفتنة يحرجون صدور بعضهم على بعض ومن المؤمنين من كان يسمع لهم لمكانهم من قومهم.
وقد عرف الله وعرف النبي والمؤمنون ما كان من أمرهم قبل هذه الغزوة، وكيف كانوا يكيدون للنبي وأصحابه، وكيف كانوا يقلبون الأمور ابتغاء للإساءة إليهم والإيقاع بهم حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.
وفي ذلك يقول الله عز وجل:
ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين * لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين * قد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون .
ويمضي القرآن في تعديد سيئاتهم وآثامهم حتى ينبئ النبي بأن منهم من يلمزه في الصدقات إذا لم ينله حظ منها؛ فيقول:
ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون .
ويبين الله بعد ذلك أن ما يجتمع للنبي من الزكاة لا ينبغي أن يعطى للأغنياء الذين لا يحتاجون إليه، وإنما يوضع في المواضع التي بينت في القرآن، فينفق منه على الفقراء والمساكين والذين يعملون على جمعها وإحصائها والذين يريد النبي أن يتألف قلوبهم، وعلى تحرير الرقيق الذين يسلمون ولا يجدون ما يشترون به حريتهم من سادتهم، وعلى الذين تقع عليهم المغارم فلا يستطيعون النهوض بها، وتنفق على الجهاد في سبيل الله، وعلى الذين تتقطع بهم الطريق من أبناء السبيل، فأما القارون في المدينة العاملون في أموالهم والمنتفعون بثمراتها فليس لهم من الصدقات حظ.
وقد كان النبي يضع الصدقات في المواضع التي بينها الله ولا يعطي منها الأغنياء والقادرين على أن يكسبوا ما يغنيهم عن المسألة. فأما المؤمنون الصادقون فيرضون عن ذلك ويرون أنه الحق، ويستعفون عما يعلمون أن غيرهم أشد حاجة إليه، وأما المنافقون الذين في قلوبهم مرض فكانوا يرون أن ما يجتمع للنبي من الصدقات مال وأن لهم فيه نصيبا. وكانوا من أجل ذلك يلمزون النبي في هذه الصدقات، وكانوا كذلك يلمزون المتطوعين فيها من الأغنياء، يقولون: إن صدقتهم رياء. ومن الفقراء، يقولون: إن الله غني عما تصدقوا به.
وفضح الله في القرآن هذا كله من أمرهم، وفضح من أمرهم شيئا آخر وهو أن منهم من كانوا يؤذون النبي ويقولون: هو أذن؛ أي يسمع لما ينقل إليه. ورد الله عليهم ذلك بأن النبي أذن خير لهم، ثم أنذرهم بأن الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم.
فقال:
ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم .
وبعد أن أحصى الله من سوء أعمالهم وفضح من ذات نفوسهم ما تستطيع أن تقرأه فيما بعد هذه الآية من سورة التوبة أظهر من غضبه عليهم شيئا عظيما؛ فقال:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين .
ويقول المحدثون - وفيهم الشيخان - إن عبد الله بن أبي بن سلول لما مات جاء ابنه إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فأنبأه بموته وسأله الصلاة عليه فأجابه النبي إلى ما سأل. وكان عمر حاضرا فراجع النبي في ذلك وذكر هذه الآية، فقال النبي: «إن ربي خيرني وأختار الصلاة عليه.» فأنزل الله بعد ذلك نهيه عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم فقال:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون .
ثم نهى الله نبيه عن أن يقبل منهم عذرا بعد عودته إلى المدينة وبعد أن بين الله له من أمرهم ما بين:
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
ونهى الله نبيه كذلك عن إخراجهم معه وإشراكهم في قتال العدو، فقال:
فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين .
وعلى ما في سورة البقرة والنساء والتوبة من وصف المنافقين وتشديد النكير عليهم والوعيد بالتغليظ عليهم في العذاب، وصفهم الله في سورة أخرى سميت باسمهم فعرفهم أصدق تعريف.
وصف هيئتهم حين يسكتون وحين يتكلمون، وذكر من أقوالهم وأعمالهم ما يبين في وضوح أنهم عادوا إلى جاهليتهم الأولى ولم ينتفعوا بالإسلام الذي قبلوه ثم كفروا به، فقال:
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون .
يريد عز وجل أنهم كذبوا على النبي فيما زعموا له من إيمانهم برسالته؛ لأنهم لا يؤمنون بها فيما بينهم وبين أنفسهم وإنما يضمرون الكفر ويستخفون به ويتخذون إيمانهم دريئة يتقون بها غضب النبي والمؤمنين عليهم وبطشهم بهم، ويسترون بها كيدهم للمسلمين وصدهم عن سبيل الله كما يقول عز وجل:
اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون * ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون .
ثم وصف هيئتهم حين يرون لأول وهلة وحين يتكلمون بعد ذلك أبرع وصف؛ فمنظرهم معجب ومخبرهم مكذب لمنظرهم، ومن أجل ذلك قال الله:
وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة .
أي؛ لأنهم حين يتكلمون لا يصدر كلامهم عن قلوبهم وإنما هو شيء تنطق به ألسنتهم نطقا آليا لا يصور ذات نفوسهم. وهم إلى ذلك جبناء يرهبون كل شيء ويحسبون كل صيحة عليهم، وهم إلى هذا كله خطرون بما يكيدون ويمكرون حين يخلون إلى أنفسهم وإلى شياطينهم ومن أجل ذلك يأمر الله نبيه أن يحذرهم.
ثم هم بعد ذلك مستكبرون، إذا دعوا إلى التوبة وإلى رسول الله ليستغفر لهم لووا رءوسهم واستجابوا لكبرياء نفوسهم كما يقول الله:
وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون .
وهم ينهون من يسمع لهم عن أن يعينوا النبي على نفقة من يحتاج إلى النفقة من أصحابه، لعلهم يستيئسون منه فينفضوا عنه، ويأمر الله نبيه أن يقول: إن لله خزائن السموات والأرض وهو جدير أن يغني نبيه وأصحابه عن معونتهم، وذلك حيث يقول الله:
هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون .
وكذلك كانت حياة النبي
صلى الله عليه وسلم
في المدينة جهادا كلها، فهو يجاهد المشركين من قريش والمشركين من العرب ويجاهد اليهود في المدينة وخارج المدينة، ثم يجاهد المنافقين الذين يظهرون أنهم له أولياء وليسوا من ولايته في شيء، وإنما هم أولياء أعدائه من المشركين واليهود. وهو يجاهد المنافقين بالصبر على ما يقترفون في ذاته وفي ذات المؤمنين وفي ذات الله عز وجل من السيئات والآثام وبالاحتياط لكيدهم ومكرهم وإغرائهم به وتأليبهم عليه. وهذا الجهاد المتصل المختلف كان جديرا أن يستغرق حياة النبي كلها وأن يشغله عن كل شيء غيره. ولكنك سترى مما يأتي في هذا الحديث أنه لم يستغرق من حياة النبي إلا بعضها بل أقلها، وأنه أنفق سائرها ناشرا للدين معلما للمؤمنين والمسلمين مبينا لهم حقائق دينهم، ومرشدا لهم إلى ما يجب عليهم وما لا ينبغي لهم في سيرتهم من خطير الأمر ويسيره.
ولا بد بعد هذا الحديث الطويل الموجز على ذلك عن المنافقين من أن نعود مرة أخرى إلى جهاد النبي للمشركين.
18
ذلك أن الهدنة التي عقدت بين النبي وقريش يوم الحديبية لم ترح النبي والمؤمنين من الجهاد، ولم تتح لهم سلما كاملة قد كف الله أيدي قريش عن المؤمنين، وكف أيدي المؤمنين عن قريش بهذه الهدنة إلى حين، ولكن مكر قريش ما زال كما هو ينبث في قبائل العرب مغريا ومحرضا. ونحن لم نذكر لك من الجهاد بين النبي وبين مشركي العرب من غير قريش شيئا، وإنما أشرنا إليه إشارة لا تصوره ولا تحققه، لأننا لا نكتب السيرة في هذا الحديث وإنما نصور في إيجاز شديد ما ليس بد من تصويره لنعرض عليك مرآة صادقة للعصر والبيئة اللذين عاش فيهما النبي وأصحابه ولنشأة الإسلام وانتشاره قليلا قليلا حتى شمل جزيرة العرب كلها قبل أن يختار الله نبيه الكريم لجواره.
والواقع أن الجهاد بين النبي وبين المشركين من العرب كان متصلا وكان شاقا، كان النبي يريد أن ينشر الإسلام من جهة وكان أعداؤه المشركون يحاولون أن يمنعوه من ذلك ما استطاعوا إلى منعه سبيلا، يغيرون على المدينة حينا ويتهيئون للإغارة عليها حينا آخر.
ولم يكن بد للنبي وأصحابه من أن يردوهم إن أغاروا ومن أن يسبقوهم ليكفوهم إن هموا بالإغارة. وكان في أهل البادية من العرب مكر وكان فيهم غدر أيضا وكانوا يؤثرون المال على كل شيء. وكان كيد قريش وإغراؤها يصبان عليهم في كل وقت يغرونهم بالمال أحيانا وبغير المال أحيانا أخرى، فكان منهم من يأتي النبي يزعم أنه قد أسلم وأن قومه من ورائه قد أسلموا، وأنهم في حاجة إلى من يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، فكان النبي يرسل إليهم النفر من أصحابه فلا يكادون يبعدون بهم عن المدينة حتى يظهروا ما أضمروا من الغدر ويوقعوا بمن أرسل النبي معهم من المسلمين، فيقتلون بعضهم ويأسرون بعضهم يتقربون بأسره إلى قريش ويقدمونه إليها ويأخذون جائزتهم على هذا الغدر كالذي كان من «لحيان» يوم «الرجيع» حين أرسل النبي معهم مفقهين لهم في الدين فلما بعدوا بهم عن المدينة أظهروا الغدر . فقاتلهم المسلمون حتى قتل منهم من قتل وأسر منهم من حملوه إلى قريش فقتلته.
ولم يحدث هذا مرة واحدة وإنما حدث غير مرة، ذلك إلى ما كان يحدث من تجمع وتهيؤ لغزو النبي، فيعلم النبي علمهم ويضطر إلى أن يسبقهم إلى الغزو ليوقع بهم مرة وليشعرهم بقوته وتأهبه ويقذف في قلوبهم الرعب مرة أخرى.
فكانت حياة النبي والمسلمين جهادا كلها، واضطر النبي أحيانا إلى أن يرسل السرايا، وأحيانا أخرى إلى أن يخرج بنفسه لهذه الأغراض التي بيناها، أضف إلى ذلك أن قريشا لم تقم على هدنتها تلك إلا قليلا، ثم نكثت عهدها وأغارت على بعض حلفاء النبي من خزاعة فلم يكن بد من أن تعود الحرب بينها وبين النبي والمؤمنين جذعة.
وأحست قريش أن النبي قد غضب لحلفائه واعتبر الهدنة بينه وبينها منقوضة، فأرسلت أبا سفيان إلى المدينة ليعلم علم النبي وأصحابه من جهة، وليشد أمر الهدنة ويقويه من جهة أخرى. ولكن أبا سفيان جاء إلى المدينة وعاد إلى مكة فارغ اليدين لم يبلغ مما أراد شيئا. وجعل النبي يتهيأ لعقاب قريش حتى كان العام الثامن للهجرة فخرج النبي إلى مكة في جيش لم يجتمع له مثله من قبل قوة وكثرة عدد، حتى إذا كان غير بعيد من مكة خرج أبو سفيان في نفر من قريش يتحسسون الأخبار، فلما رأوا نيران الجيش راعهم ما رأوا وعرفوا أن قد حاق بهم مكرهم السيئ. وأخذ أبو سفيان إلى النبي، أخذه العباس بن عبد المطلب الذي جعل ينصح له في الطريق ويحثه على الإسلام حتى أدخله على النبي
صلى الله عليه وسلم
فشهد بين يديه: لا إله إلا الله، وأظهر التردد في الشهادة بأن محمدا رسول الله، ولكنه اضطر آخر الأمر إلى أن يعلن الشهادة. فأمنه النبي على نفسه وعلى كل من دخل داره من قريش، وعلى كل من دخل المسجد الحرام منها، وعلى كل من لزم داره وأغلق بابه منها أيضا.
وعاد أبو سفيان إلى قريش بهذا الأمان فلم يسعها إلا الإذعان ؛ فقوم دخلوا دار أبي سفيان وقوم دخلوا المسجد الحرام وآخرون لزموا دورهم وغلقوا أبوابهم وأصبح النبي فدخل مكة بعد أن أمر قواده ألا يقاتلوا أحدا إلا من عرض لهم بسوء. ولم يخالف عن هذا الأمر من القواد إلا خالد بن الوليد - رحمه الله - كان فيه شيء من عنف فأعمل السيف فيمن لقيه ورفع ذلك إلى النبي فتبرأ مما صنع خالد وأرسل من أصحابه من كفه عن القتل والقتال ودخل النبي والمسلمون مكة، فأقبل النبي على المسجد الحرام فحطم ما كان حول الكعبة من الأوثان وهو يقول: «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.»
ثم أمر «بلالا» فأذن فوق الكعبة إعلانا للإسلام وإعلاء لكلمة الله، واجتمعت قريش - فيما يقول الرواة - للنبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم فيما قال: «يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «فإني أقول لكم ما قال يوسف لإخوته:
لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين
اذهبوا فأنتم الطلقاء.»
وأسلمت قريش: منهم من أسلم طائعا، ومنهم من أسلم لأنه لم يجد من الإسلام بدا.
وكذلك استقر الإسلام في مكة بعد أن خرج منها، هاجر به النبي والمسلمون اتقاء للفتنة وابتغاء للأمن والعافية ونشر الدين، لا خائفين ولا وجلين.
عاد الإسلام إلى مكة واستقر فيها ظافرا منصورا موفورا، ودخلت قريش فيه طوعا أو كرها وصدق وعد الله في قوله الكريم:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
ولكن النبي ومن هاجر معه من أصحابه لم يقيموا بمكة ولم يستقروا فيها وإنما آثروا مهاجرهم في المدينة وكرهوا أشد الكره أن يستبدلوا به مكانا غيره مهما يكن وأن يخرجوا من المدينة إلا وفي نيتهم أن يعودوا إليها إن أذن الله لهم بالعودة إليها.
ويقول الرواة: إن سعد بن أبي وقاص - رحمه الله - مرض بمكة وثقل المرض عليه حتى هم بالوصية واستشار النبي في ذلك، فدعا له النبي وكان يشفق من أن يدركه الموت بعيدا عن الأرض التي هاجر إليها، وصارت هذه سنة بين المهاجرين من أصحاب النبي حتى كانوا يكرهون إن ألموا بمكة أن يصنعوا فيها صنيع المقيمين: كانوا يرون أنفسهم على سفر - وإن نزلوا بين عشائرهم من أهل مكة - فيقصرون الصلاة، ومن أجل ذلك راجعوا عثمان رحمه الله حين أتم الصلاة بمنى؛ لأنهم كانوا يرونه مسافرا يجب عليه قصر الصلاة - وإن كان أهله بمكة - لأن دار إقامته في المدينة لا في غيرها.
ولم يعد النبي بعد الفتح إلى المدينة وإنما بلغه أن «هوازن» تجمع له جموعها فخرج للقائهم في الجيش الذي أقبل معه إلى مكة وفيمن انضم إليه من طلقاء قريش أو مسلمة الفتح كما كان يقال إذ ذاك. والتقى الجمعان يوم «حنين» فامتحن المسلمون امتحانا شديدا وجالوا جولة حتى قام النبي وحده في الموقعة على ظهر بغلته. والعباس آخذ بزمامها والنبي يدعو أصحاب سورة البقرة ويقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب.»
ثم ثاب إليه الأنصار وثاب إليه بعدهم سائر المسلمين وأنزل الله نصره على نبيه وعلى المؤمنين فانهزم المشركون هزيمة منكرة قتل منهم من قتل وأسر منهم من أسر، وسبيت النساء والذراري، وعاد النبي وأصحابه موفورين، ولكن «هوازن» عادوا إليه بعد هزيمتهم يسألونه أن يمن على سبيهم ويذكرونه بأنهم أخواله؛ لأنه أرضع فيهم إذ كانت حليمة منهم.
وقد أطلق النبي من السبي من كان في أيدي رهطه الأدنين من بني عبد المطلب ووعدهم إذا صلى بالناس من غد أن يسألوه في ذلك ويذكروا خئولتهم له. فلما فعلوا شفع النبي لهم عند المسلمين فلم يبق أحد منهم إلا أطلق من كان عنده من السبي ورده على قومه.
وكان آخر حرب للنبي مع المشركين حين حاصر الطائف بجيشه ذاك، وقد أطال الحصار ولكن الله لم يسلطه على هذه المدينة، فرفع الحصار وعاد بجيشه إلى دار هجرته ثم لم تلبث ثقيف أن أرسلوا إليه وفدهم يطلبون الصلح، فقبله منهم على أن يدخلوا في الإسلام ويرفضوا الشرك ويمحقوا آثاره.
ومنذ ذلك الوقت جعل العرب يتسامعون في قلب الجزيرة وأطرافها بالإسلام وما أتيح للنبي وأصحابه من نصر، فجعلت وفودهم تفد عليه يعرضون إسلامهم وإسلام قومهم، فيقبل النبي منهم ويعلمهم دينهم. وربما أرسل معهم من يعلم قومهم شرائع الإسلام.
وكذلك عظم أمر الإسلام وانتشر في الجزيرة العربية كلها. ونظرة سريعة إلى ما بدأ الإسلام عليه في مكة وما انتهى إليه في المدينة في هذا الوقت القصير تبين في جلاء أن قوة عليا أرادت لهذا الدين أن يقوى وينتشر أولا وأن يجمع كلمة العرب ويوحد أهواءهم ويجعلهم أمة واحدة مؤتلفة تتعاون على البر والتقوى ولا تتعاون على الإثم والعدوان بعد الذي كان بينهم من اختلاف أي اختلاف واختصام أي اختصام، ومن حرب بالألسنة دائما وبالسيف والسنان في أكثر الأحيان.
وأرادت كذلك أن تغير من أخلاقهم وعاداتهم وسننهم الموروثة، فتحل الوفاء في نفوسهم محل الغدر، والأمانة محل الخيانة، والبر مكان الجحود، والرقة والرحمة مكان الغلظة والقسوة.
وأرادت أن تبين لهم الخير فيسلكوا إليه سبلهم وتدلهم على الشر فيتنكبوا طرقه، وأن تبين كبائر الآثام فيجتنبوها ومحاسن الأعمال فيجدوا فيها.
كل ذلك وأكثر جدا من كل ذلك أتيح للإسلام في أقل من ربع قرن، في ثلاثة وعشرين عاما، أنفق النبي منها ثلاثة عشر عاما بمكة لا يكاد ينشر الإسلام إلا قليلا، وعشرة أعوام في المدينة أتم الله فيها على يده جل هذه المعجزة الكبرى. فخلق العرب خلقا جديدا وجعل منها أمة بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها، أنشأها إنشاء جديدا وهيأها للنهوض بالمهمة الكبرى التي تتجاوز حدود جزيرتها وتحول وجهة التاريخ وتغير وجه الأرض في أقل من نصف قرن.
وكان النبي على هذا كله لا يدعي لنفسه معجزة إلا القرآن، وقد صدق النبي وبر في ذلك؛ فقد كان القرآن معجزة أي معجزة، كان معجزا بألفاظه ومعانيه ونظمه، لم يستطع أحد من العرب أن يحاكيه أيسر المحاكاة، وكان معجزا بآثاره التي ظهرت في حياة النبي والتي أشرنا إليها آنفا، وبآثاره التي ظهرت بعد وفاة النبي والتي لا يزال كثير منها باقيا إلى الآن وإلى آخر الدهر. وصدق الله حين قال في سورة النور:
وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون .
وصدق الله كذلك حين قال في سورة الحشر:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
فقد خشعت قلوب العرب للقرآن آخر الأمر؛ نفذ إلى قلوبهم واستأثر بضمائرهم وفتح لهم آفاقا كانت مغلقة أمامهم قبل أن يتلى عليهم، وحررهم بعد الرق: رق النفوس للشهوات، وطهرهم بعد الرجس: رجس الخطايا والآثام، ووحدهم بعد الفرقة، وأعزهم بعد الذلة، وملأ قلوبهم نورا فانبثوا في الأرض ينشرون نور الله ما وجدوا إلى نشره سبيلا.
وزاد إقبال العرب على الإسلام وإذاعتهم له بعد الحجة التي حجها أبو بكر - رحمه الله - بالناس عن أمر النبي سنة تسع؛ ففي هذه الحجة أرسل النبي عليا ليلحق بأبي بكر ويتلو على الناس قرآنا أنزل فكان فصلا بين عهدين: عهد الإسلام يقوى فيه شيئا فشيئا وكان للشرك مع ذلك بقاء في بعض قبائل العرب، وعهد آخر خلصت فيه الجزيرة كلها للإسلام.
وهذا القرآن الذي فرق الله به بين هذين العهدين هو الآيات الكريمة الأولى من سورة التوبة، فأعلن فيها براءة الله ورسوله من المشركين، وحرم فيها أن يقرب المشركون البيت أو يلموا به أو يطوف به عريان.
وأمر فيها نبيه والمؤمنين معه أن يلغوا ما كان بينهم وبين المشركين من العرب من عهود الهدنة، وألا يتموا من هذه العهود إلا ما كان بينهم وبين قوم لم يظهر منهم غدر ولا نقض للعهد، فهؤلاء أمر الله أن يتم المؤمنون لهم عهدهم إلى مدته ثم لا يجددوا لهم عهدا آخر، وأجل الناس أربعة أشهر يأمنون أثناءها، فإذا انقضت فعلى المسلمين أن يقتلوهم حيثما وجدوهم وأن يقعدوا لهم كل مرصد؛ لأنهم أهل غدر لا يؤمن لهم. وأمر ألا يكف المؤمنون عن قتلهم وعداوتهم حتى يتوبوا من شركهم ويدخلوا في الإسلام كما دخلت كثرة العرب.
ومعنى ذلك أن الله حرم الشرك في جزيرة العرب، وأمر النبي أن يقاتل المشركين من أهل الجزيرة حتى يثوبوا إلى الحق ويدخلوا فيما دخل فيه الناس. لم يأمر الله بذلك إلا لأنه علم أن هؤلاء المشركين إن أتيح لهم أن يظهروا على المسلمين بما في قلوبهم من الغدر والكيد وما يسلط عليهم من الإغراء لم يرعوا فيهم إلا ولا ذمة ولم يحفظوا عهدا ولا وفاء.
وهذه الآيات الكريمة هي قول الله عز وجل في أول سورة التوبة:
براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين * فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين * وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم * إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين * فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم * وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون * كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين * كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون * اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون * لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون * فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون * ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين * قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين * ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب الله على من يشاء والله عليم حكيم * أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون * ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون * إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين .
ثم يشدد الله عز وجل في رد المشركين عن المسجد الحرام بعد ذلك العام الذي حج فيه أبو بكر بالناس فيقول في الآية الكريمة من السورة نفسها:
يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم .
وكذلك حج النبي
صلى الله عليه وسلم
حجة الوداع فلم يلق في الموسم مشركا ولم ير عند البيت عريانا، وألقى في هذه الحجة خطبته المشهورة التي توشك أن تكون وصيته إلى المسلمين، والتي حرص فيها بعد كل أمر أو نهي على أن يردد جملته الخالدة «ألا هل بلغت اللهم اشهد.»
وقد أتم النبي رسالته كأكمل ما تتم الرسالات وأدى أمانته كأحسن ما تؤدى الأمانات.
وصدق الله حين أنزل على نبيه في الآية الكريمة من سورة المائدة أثناء حجة الوداع:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وصدق الله كذلك حين أنزل عليه بمنى في حجة الوداع هذه السورة الكريمة يشعره فيها بأن رسالته قد تمت ، وأن مهمته في الدنيا قد بلغت غايتها ويهيئه لما أعد له عنده من النعيم المقيم في أرفع الدرجات:
إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا .
وقد تحدث النبي ذات يوم على المنبر إلى أصحابه، فقال - فيما روى الشيخان: «إن عبدا قد خيره الله بين زهرة الدنيا وما عنده، فاختار ما عند الله.» فلم يفهم عنه من أصحابه إلا أبو بكر، فقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا. فعجب الناس لمقالة أبي بكر ولم يحققوا مغزاها إلا حين اختار الله رسوله للرفيق الأعلى.
ولم يلبث النبي بعد حديثه ذاك أن أحس الوجع، فكان يمرض في بيت عائشة رحمها الله، وكان يخرج للصلاة كلما وجد خفة، فلما ثقل عليه المرض أمر أبا بكر أن يصلي بالناس.
وتوفي
صلى الله عليه وسلم
في نفس الشهر الذي وصل فيه إلى المدينة مهاجرا في ربيع الأول لعشر سنين مضين منذ هجرته.
وقد ارتاب المسلمون حين نبئوا بوفاة النبي، لم يصدقوا ذلك، بل شكوا فيه وماج بعضهم في بعض. وكان عمر أشدهم شكا حتى أنذر - فيما يقول الرواة - من قال إن النبي قد مات، ولكن أبا بكر تلا عليهم الآية الكريمة من سورة آل عمران:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين .
هنالك ثاب إلى المسلمين صوابهم فرجعوا إلى الحق وآمنوا لما لم يكن بد من أن يؤمنوا له وذكروا قول الله لنبيه:
إنك ميت وإنهم ميتون .
19
ولم يكد النبي
صلى الله عليه وسلم
يفارق أصحابه حتى ظهر بينهم خلاف أوشك أن يكون عظيم الخطر على وحدتهم؛ ذلك أنهم أحسوا الحاجة إلى من يخلف النبي في سياستهم وتدبير أمورهم.
فأما الأنصار فظنوا أن الأمر ينبغي أن يكون فيهم وأن شئون الحكم يجب أن تصير إليهم؛ لأنهم أصحاب المدينة وليس المهاجرون إلا ضيفا عليهم طرءوا على المدينة منذ عشر سنين. وهم قد آووا النبي والذين هاجروا معه من قريش والذين هاجروا إليه بعد ذلك من قريش ومن سائر العرب. وهم قد خاضوا في سبيل النبي وفي سبيل الدين ما خاضوا من الحروب، واحتملوا من مشقة الجهاد؛ فهم أولى الناس بأن يكون منهم خليفة النبي، وقد اجتمعوا بالفعل وأزمعوا أن يبايعوا بالخلافة رجلا، ورشحوا «سعد بن عبادة» زعيم الخزرج لهذا المنصب.
ولكن الأمر انتهى إلى زعماء المهاجرين فأسرع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح إلى الأنصار ليعلموا علمهم وليصرفوهم عما أزمعوا، فكانت محاورة وشيء من جدال ثم عرضوا أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير، فأبى ذلك أبو بكر وقال لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء. واحتج عليهم بأن النبي من قريش فيجب أن يلي أمره بعده أولو قرابته. وروى لهم عن النبي أنه قال: «الأئمة من قريش.» فثاب الأنصار إلى سماحة نفوسهم وكرهوا أن يأخذوا الخلافة أجرا على ما أبلوا في ذات الله ورسوله من البلاء.
وأذعنوا آخر الأمر لما حدثهم به أبو بكر عن النبي من أن الأئمة من قريش، ثم اقترح عليهم عمر أن يبايعوا أبا بكر وأسرع هو إلى بيعته فتبعه الأنصار ولم يخالف عنهم إلا سعد بن عبادة؛ لم يقتنع بقول أبي بكر ولا بإسراع القوم إلى بيعته، بل اعتزل الأنصار والمهاجرين جميعا وعاش في عزلته حتى قتل في الشام أصابه سهم لم يعرف من رماه به.
وتحدث الناس بعد ذلك بأن الجن هم الذين قتلوه، وأضافوا إلى واحد من الجن بيتين من الشعر زعموا أنهم سمعوهما ولم يروا قائلهما:
قد قتلنا سيد الخز
رج سعد بن عباده
ورميناه بسهمين
فلم نخطئ فؤاده
وبايع سائر المسلمين في المدينة أبا بكر واستقام له الأمر.
ولكن خلافا آخر شجر، وكان أشد على أبي بكر من خلاف الأنصار ذاك، وكان هذا الخلاف بينه وبين فاطمة - رحمها الله - بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جاءته تطلب إليه ميراثها من أبيها، فأبى عليها ذلك وقال لها إنه سمع النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة.» ثم قال: إنه لن يخالف أبدا عن قول رسول الله.
فغضبت فاطمة وشاركها زوجها في غضبها وتأخرت من أجل ذلك بيعة «علي» - رحمه الله - لأبي بكر، على أن فاطمة - رحمها الله - لم تعمر بل توفيت بعد أبيها بستة أشهر، فأقبل «علي» فبايع كما بايع الناس.
ويقال: إن بني هاشم كانوا يرون لأنفسهم الحق في خلافة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهم رهطه الأدنون وهم أقرب إليه من تيم قوم أبي بكر ومن عدي قوم عمر ومن أمية قوم عثمان. ولكنهم رأوا إجماع الناس على أبي بكر كما رأوا إجماع الناس على عمر من بعده وعلى عثمان من بعد عمر فكرهوا أن يثيروا الفتنة أو أن يحدثوا في الإسلام حدثا وأذعنوا لإجماع المسلمين.
ويقال كذلك: إن النبي قال لبعض أصحابه في مرضه الذي توفي فيه: «إيتوني بصحيفة أكتب لكم ما لا تضلون بعده أبدا.» فاختلفوا وتنازعوا، يقول بعضهم: إن النبي قد اشتد عليه الوجع وعندنا كتاب الله، ويقول بعضهم الآخر: بل دعوا رسول الله يكتب. فلما أكثروا قال لهم النبي
صلى الله عليه وسلم : «قوموا عني.» قالوا: فكان ابن عباس يرى أن الرزية كل الرزية أنهم لم يخلوا بين رسول الله وبين ما أراد.
وأكاد أقطع بأن هذا الحديث - مهما يكن سنده - غير صحيح، فما كان للمسلمين أن يخالفوا عن أمر رسول الله. وما كان لرسول الله نفسه أن يخلي بينهم وبين هذا الخلاف وهو الذي لبث فيهم ثلاثة وعشرين عاما يتلو عليهم القرآن ويعلمهم شرائع الدين ويأمرهم وينهاهم وينبئهم بخبر السماء. وأكبر الظن أن هذا الحديث وضع بأخرة حين تفرق المسلمون شيعا وأحزابا.
20
ومهما يكن من شيء فقد تمت بيعة أبي بكر وصحت وإن كان المسلمون لم يتشاورا فيها حتى كان عمر رحمه الله يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها.
ولكن أبا بكر واجه خلافا كاد شره أن يستطير ويصبح خطرا على الإسلام نفسه لولا أن الله عز وجل تأذن أنه هو الذي نزل الذكر وأنه حافظ له، فقال في سورة الحجر:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ، ولولا أن أبا بكر قد ثبت لهذا الخلاف أروع الثبات وصمم على حسمه تصميما أذعن له المهاجرون والأنصار ومسلمة الفتح من قريش؛ فقد انتقض العرب على أبي بكر انتقاضا مختلفا. قال كثير منهم: نقيم الصلاة ولا نؤتي الزكاة. رأوا أن الزكاة نوع من الإتاوة ولم يتعودوه بل كانوا يأنفون منه أشد الأنفة ويرون أنه ضرب من الذلة والخضوع، ولم يقبل منهم أبو بكر ذلك بل صمم على أن يؤدي الناس إليه ما كانوا يؤدونه لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقال: إن هؤلاء يفرقون بين الصلاة والزكاة مع أن الله لم يفرق بينهما بل ذكرهما معا في القرآن مرات كثيرة. فهم يؤمنون ببعض القرآن ويكفرون ببعضه، وكان عمر قد قال له: كيف تقاتل العرب وهم يقولون «لا إله إلا الله»، فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.»
كأن أبا بكر أراد أن قول لا إله إلا الله بطرف اللسان ليس إيمانا ولا إسلاما، وإنما يجب أن تقال باللسان ترجمة عما في القلب من الإيمان بالله والتصديق للنبي والائتمار بما أمر الله ورسوله به، والانتهاء عما نهى الله ورسوله عنه، وقد أمر الله رسوله بإيتاء الزكاة؛ فالنكول عن أدائها كفر والالتواء بها جحود، وليس للكفار الجاحدين إلا القتال.
وقوم آخرون من العرب ظهر فيهم كذابون زعموا لأنفسهم النبوة وتلوا على قومهم كلاما زعموا أنه وحي من الله.
ظهر الأسود العنسي في اليمن، وظهر مسيلمة في بني حنيفة باليمامة، وظهر طلحة في بني أسد، وظهرت سجاح في أحياء من بني تميم؛ وتبعهم خلق كثير من العرب الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم. وصدق الله حين قال في الآية الكريمة من سورة الحجرات:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
ولم يشك أحد من المهاجرين والأنصار والذين استقاموا على الإسلام في أن قتال هؤلاء واجب لا منصرف عنه. والمهم أن أبا بكر نظر فإذا جزيرة العرب قد انتقضت عليه إلا أقلها، فلم ير بدا من أن يجاهد المرتدين كما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقاتل المشركين من قبل.
وقد جد أبو بكر في الحرب واستجاب له المسلمون استجابة صادقة فقاتلوا المرتدين عن إيمانهم وعلى بصائرهم، صادقين مستبسلين لا يبخلون بأموالهم ولا بأنفسهم حتى قتل كثير من خيارهم ولا سيما في حرب مسيلمة. وأنزل الله نصره عليهم وعادت الجزيرة خالصة للإسلام، واستطاع أبو بكر أن يجند من أصحابه ومن الذين عادوا إلى الإسلام بعد الردة تلك الجيوش التي رمى ببعضها العراق ورمى ببعضها الشام.
الكتاب الثاني
1
يقول الله عز وجل في أول سورة الكهف:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
ويقول في سورة المدثر:
يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن تستكثر * ولربك فاصبر .
ثم يقول في سورة الأحزاب:
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا * ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا .
ويقول في سورة الجمعة:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين * وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم * ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .
فمن هذه الآيات وآيات أخرى كثيرة في القرآن الكريم نفهم أن الله أرسل رسوله لينذر الذين لا يؤمنون به بما أعد لهم من بأس شديد عنده، ويبشر الذين يؤمنون به بما لهم عنده من أجر كريم خالدين فيه أبدا.
والله يفصل هذا البأس الشديد في القرآن حين يصف البعث وما يكون بعده من حساب عسير للكافرين به. وما يكون بعد هذا الحساب العسير من عذاب شديد متصل لا انقطاع له.
والله يفصل كذلك في القرآن هذا الأجر الكريم الذي أعده للمؤمنين به حين يصف الجنة ونعيمها وخلود المؤمنين في هذا النعيم المقيم.
والنبي حين ينذر ويبشر يعلم أوسع العلم وأعمقه وأدقه ما ينذر به وما يبشر، يعلمه من ربه من طريق الوحي حين ينزل عليه القرآن ليتلوه على الناس، وحين يلهمه من العلم والحكمة ما يتحدث به إلى الناس حديث الواعظ المخوف وحديث المؤدب المعلم. فهو بشير ونذير ومعلم أيضا.
وتعليمه نوعان؛ أحدهما: كلام أوحاه الله إليه وأمره أن يبلغ نصه للناس وأن يتلوه عليهم ليسمعوه أولا ويفقهوه بعد ذلك، وعليه أن يفسر لهم بالقول أو بالعمل - أو بهما جميعا - ما قد يقصرون عن فهمه من هذا النص.
والثاني: علم ألهمه الله إياه ألقاه في قلبه لينتفع به هو أولا وليعلم الناس منه ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم جميعا.
وقد أنفق النبي ثلاثة وعشرين عاما منذ بعثه الله إلى أن اختاره لجواره، أنفق هاته السنين مبشرا ومنذرا ومعلما لم يقصر في ذلك ولم يكف عنه يوما؛ فكان معلما لا كالمعلمين، كان تعليمه متصلا نهاره كله وجزءا غير قليل من ليله. كان يعلم الناس حين يلقاهم ويعلمهم بالأمر والنهي والتبشير والإنذار وبكل ما كان يقوله لهم، وكان يعلمهم بسيرته فيهم وسيرته في غيرهم، وبكل ما يأتي من الأمر أو يدع. فهو لهم قدوة وهو لهم أسوة وعليهم أن ينظروا إليه وأن يعملوا مثل ما يعمل ويجتنبوا مثل ما يجتنب وأن يسمعوا منه ويطيعوا. وقد أمرهم الله في سورة الحشر أن يأخذوا كل ما يؤتيهم وأن يدعوا كل ما ينهاهم عنه:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
كذلك هو حين يبرز للناس وهو حين يروح إلى أهله معلم أيضا؛ يقول فيحفظ عنه أزواجه، ويعمل فيحفظن عنه أيضا، ويصنعن من صنيعه كل ما ينبغي لهن.
ولأمر ما أخذ المسلمون كثيرا من العلم عن أزواجه بعد وفاته، ولا سيما عائشة وحفصة وأم سلمة. ثم هو معلم في السفر والحضر جميعا لا يأتي شيئا إلا وفي نفسه أن الناس سيصنعون صنيعه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ومن أجل ذلك كان يرعى فيهم الرفق بهم والنصح لهم، كان يطيق من العبادة في الصلاة والصوم أكثر مما يطيقون؛ فكان يستخفي ببعض عبادته حتى لا يراها الناس فيكلفوا أنفسهم فوق ما يطيقون.
ولم يكن له من حياة المعلم هذه بد فالله يقول له:
فاصدع بما تؤمر ، فلا يسعه إلا أن يذعن لأمر الله. والله ينزل عليه من القرآن ما هو مجمل ويترك له تفصيله بما يلهمه من العلم؛ فهو يأمر بالصلاة والزكاة مثلا، ولكنه لا يبين كيف تكون الصلاة ولا كيف تكون الزكاة، لا يفعل ذلك في القرآن، وإنما يلهم نبيه من العلم ما يبين به للناس كيف يصلون وكيف يؤدون الزكاة في أموالهم.
والقرآن يذكر الركوع والسجود ولكنه لا يحدد الركوع والسجود في القرآن تحديدا دقيقا؛ فليس بد للنبي من بيان ذلك كله بالعمل والقول جميعا. فهو يقيم الصلاة للمسلمين ويأمرهم أن يصنعوا صنيعه وأن يقوموا حين يقوم ويركعوا ويسجدوا ويجلسوا حين يركع ويسجد ويجلس. وهو علمهم ما يقرءون في صلاتهم وما يقولون في السجود والركوع والجلوس، وقل مثل ذلك في مجملات القرآن كلها، وهي كثيرة، فكان النبي إذن مفسرا للقرآن بقوله وعمله، وكان منبئا للناس بما يلقي الله في قلبه من العلم بما ينبغي لهم وما يجب عليهم وما يجب أن ينتهوا عنه.
ومن هنا نتبين أن السنة التي تثبت عن النبي ثبوتا قاطعا أو راجحا هي الأصل الثاني من أصول الدين بعد القرآن الكريم.
فليس بد إذن من أن نقف وقفة عند كل واحد من هذين الأصلين.
2
أما القرآن الكريم فهو المعجزة الكبرى التي آتاها الله رسوله الكريم، آية على صدقه فيما يبلغ عن ربه.
والقول في إعجاز القرآن يكثر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضا؛ فالقرآن كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبي، فهو في صورته الظاهرة ليس شعرا لأنه لم يجر في الأوزان والقوافي والخيال على ما جرى عليه الشعر، ثم هو لم يشارك الشعر الذي ألفه العرب في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه؛ فهو لا يصف الأطلال والربوع، ولا يصف الحنين إلى الأحبة، ولا يصف الإبل في أسفارها الطوال والقصار، ولا يغرق فيما كان الشعراء يغرقون فيه من تشبيهات للإبل والصحراء والرياض والأشجار والحيوان والصيد وأدواته؛ لا يعرض لشيء من هذا كله. وليس فيه غزل ولا فخر ولا مدح ولا هجاء ولا رثاء، وهو لا يصف الحرب وما يكون فيها من الكر والفر، وهو لا يبالغ ولا يغلو ولا يعدو الحق. لا يعرض من هذا كله لشيء وإنما يتحدث إلى الناس عن أشياء لم يتحدث إليهم بها أحد من قبله، يتحدث عن التوحيد فيحمده ويدعو إليه، ويتحدث عن الشرك فيذمه وينهى عنه، ويتحدث عن الله فيعظمه ويصف قدرته التي لا حد لها، وعلمه الذي لا غاية له، وإرادته التي لا ترد وخلقه للسموات والأرض وما فيهن من يسير الأشياء وخطيرها ومن صغير الأشياء وكبيرها. ويدعو الناس إلى عبادة الله والائتمار بما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه، والتنزه عما لا يليق بكرام الناس. ثم يصف ما أعد الله من النعيم المقيم للذين يؤمنون به وحده ويخلصون له دينهم، ويصف ما ادخر من العذاب الأليم الخالد للذين يشركون معه إلها آخر ويجعلون له أندادا ويكفرون بآياته ويجحدون نعمه عليهم. وهو يبشر المؤمنين بما أعد لهم من نعيم وينذر الكافرين ما ادخر لهم من جحيم. وهو يصف قيام الساعة وما يكون فيه من هول يذهل المرضعة عما ترضع، ويضطر ذات الحمل إلى أن تضع حملها، ويجعل الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، وهو يعظ الناس ليطهر أنفسهم ويزكيها ويتلو عليهم من أنباء الغيب ما يثبت به قلوب المؤمنين ويخلع به قلوب الكافرين؛ فيقص عليهم أنباء الرسل الذين أرسلوا قبل محمد
صلى الله عليه وسلم
وجاءوا قومهم بالآيات البينات، فأعرض عنهم أكثر قومهم ولم يؤمن منهم إلا قليل. فعذب الذين أعرضوا وأخزاهم في الدنيا والآخرة ونجى الذين آمنوا وأرضاهم في الدنيا والآخرة أيضا.
كل هذا وأكثر جدا من هذا يتحدث به القرآن إلى الناس على لسان رجل من قريش لم يتعلم قط كتابة ولا قراءة ولا حسابا، ولم يجلس قط إلى أحبار اليهود ولا رهبان النصارى ولا أصحاب الفلسفة، وإنما هو رجل عربي أمي كأكثر العرب لا يعلم من أمر الدنيا إلا مثل ما كان أوساط العرب يعلمون. وهو مع ذلك يجادل اليهود في التوراة ويجادل النصارى في الإنجيل، ويصفهم بأنهم يكذبون على موسى ويقولون على المسيح غير الحق، ويحرفون ما عندهم من التوراة والإنجيل. كل ذلك وهو لا يقرأ التوراة ولا الإنجيل، وإنما ينبئه الله نبأ الحق بما في كليهما. وهو لم يأت لنسخ التوراة ولا لنسخ الإنجيل وإنما جاء مصدقا لما بين يديه منهما ومضيفا إليهما ما أمره الله أن يضيف من العلم والدين. وهو يحاج المشركين في آلهتهم تلك التي كانوا يعبدونها ويجعلونها لله أندادا ويتخذونها عنده شفعاء، والتي لا تجيبهم إن دعوها ولا تسمع لهم إن تحدثوا إليها، ولا تنفعهم ولا تضرهم ولا تغني عنهم من الله شيئا إن أراد بهم سوءا، ولا تمسك عنهم رحمة الله إن أراد بهم رحمة، وإنما هي أشياء صنعوها بأيديهم أو صنعت لهم من قبل بأيدي الرجال، ثم خلعوا عليها ما ليس لها من القوة والبأس والسلطان.
ثم هو يشرع لهم من الدين والشرائع ما ينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة إن استمسكوا به وأنفذوه على وجهه؛ فيشرع لهم في أمر الزواج والطلاق والميراث والوصية والبيع والشراء وغير ذلك مما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وحياتهم الفردية أيضا. ثم هو يفرض عليهم من أنواع العبادة ما يطهر نفوسهم ويزكي قلوبهم ويحضر في ضمائرهم حب الله والإخلاص له وخوف الله والإشفاق منه. ويبين لهم ألا سبيل إلى أن يستخفوا من الله بكبيرة أو صغيرة؛ فهو يسمع كل شيء ويرى كل شيء ويعلم كل شيء، وهو معهم حين يجتمعون وحين يخلو كل واحد منهم إلى نفسه، وهو يعلم ما يثور في قلب الإنسان من عاطفة وما يضطرب فيه من هوى وما يخطر في ضميره من خير أو شر. بل هو يعلم أكثر من ذلك: يعلم كل ما كان وكل ما هو كائن وكل ما سيكون، وهو يحصي عليهم أعمالهم وكل ما تحدثهم به أنفسهم من الخير والشر ومن الفجور والبر ومن الطاعة والمعصية. وهو يسجل كل هذا في كتاب مدخر عنده، فيعرض على كل إنسان كتابه يوم الحساب ويجزيه عما سجل في هذا الكتاب من أعماله الظاهرة والباطنة إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
ثم ينبئ الناس في الدنيا بما تقول ألسنتهم وما تعمل جوارحهم وما تضمر نفوسهم. نجد هذا كله في القرآن الذي يتلوه هذا الرجل الأمي والذي أخذ في تلاوته فجاءة ذات يوم بعد أن بلغ الأربعين وأنفق ثلثي عمره في الدنيا يحيا كما يحيا غيره من قريش. فلا غرابة في أن يبهر قريشا وسائر العرب هذا العلم الذي جاءه فجاءة، ولا غرابة في أن يعجزهم فهم هذا كله؛ فهم في حيرة من أمر هذا الرجل وما يتلو عليهم من الآيات.
يقولون إنه شاعر ثم يستبين لهم أنه لا ينشدهم شعرا. ويقولون إنه كاهن ثم يتبين لهم أنه لا يسجع لهم سجع الكهان. ويقولون إنه ساحر ثم يستبين لهم أنه ليس من السحر في شيء. وإنما هو رجل مثلهم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يسعى في الأرض كما يسعون ويكسب قوته كما يكسبون أقواتهم، ويصارحهم بأنه لا يعلم من أمر الغيب إلا ما يعلمه الله حين يوحي إليه القرآن. فيريحون أنفسهم كما يريح الباحث المجد نفسه بعد الكد والعناء اللذين لا يغنيان عنه شيئا؛ فيقولون إنه مجنون. ولكن هذا لا يريحهم فهم يقولون له ويسمعون منه ويرقبونه مصبحين وممسين فلا ينكرون منه شيئا إلا هذا الكلام الذي يتلوه عليهم. فتخشع له قلوب فريق منهم ويعرض عنه أكثرهم، فلا يجدون لهم مخرجا إلا أن يجاهروه بالعداء وينصبوا له حربا منكرة. ولكن القرآن ينزل عليه وهو مضطر إلى أن يتلوه عليهم.
قد أعياهم أمره كل الإعياء؛ أرادوا أن يأخذوه باللين فلم يفلحوا، وأرادوا أن يأخذوه بالشدة فلم يفلحوا، وأكثر من هذا أنه يتلو عليهم من القرآن ما يتحداهم ويسألهم أن يأتوا بمثله، وهم يحاولون فلا يستطيعون، ولكنهم مصرون على العناد فيطالبونه بالآيات العظام، يسألونه أن يغني نفسه من فقر فينشئ لنفسه جنة من نخيل وعنب ويفجر فيها الأنهار والينابيع، ويسألونه أن يأتيهم بالله والملائكة، ويسألونه أن يسقط السماء عليهم كسفا، ويسألونه أن يرقى في السماء ويأتيهم منها بكتاب يقرءونه، ويسألونه أن يبتكر لنفسه بيتا من زخرف أو أن ينزل عليهم من السماء كنزا. فلا يسمعون منه إلا ردا واحدا وهو أنه لا يملك أن يأتيهم من هذه الآيات بشيء؛ لأنه بشر مثلهم لا يمتاز منهم إلا بأن الله اختصه برسالته وأرسله إلى الناس بشيرا ونذيرا.
فهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن لا سبيل إلى الجدال فيه؛ فقد جادل فيه العرب من قبل فلم يفلحوا ولم يبلغوا شيئا، وإذا عجز العرب الذين عاصروه عن أن يأتوا بقليل مثل ما جاء به فالذين جاءوا بعدهم أعجز وغيرهم من الأمم أشد عجزا.
ولكن للقرآن وجها آخر من وجوه الإعجاز لم يستطع العرب أن يحاكوه أيام النبي ولا بعده، ذلك هو نظم القرآن أي أسلوبه في أداء المعاني التي أراد الله أن تؤدى إلى الناس. لم يؤد إليهم هذه المعاني شعرا كما قدمنا ولم يؤدها إليهم نثرا أيضا، وإنما أداها على مذهب مقصور عليه وفي أسلوب خاص به لم يسبق إليه ولم يلحق فيه. ليس شعرا لأنه لا يتقيد بأوزان الشعر وقوافيه، وليس نثرا لأنه لا يطلق إطلاق النثر ولا يقيد بهذه القيود التي عرفها الكتاب في الإسلام، وإنما هو آيات مفصلة لها مزاجها الخاص في الاتصال والانفصال وفي الطول والقصر، وفيما يظهر من الائتلاف والاختلاف، تتلو بعض سوره فإذا أنت مضطر في تلاوتها إلى الأناة والتمهل؛ لأنها فصلت في ريث ومهل لأداء معان تحتاج إلى البسط والريث، كالتشريع مثلا ووصف ما كان يثار بين المسلمين والمشركين من الحروب والمواقع. وتتلو بعض سوره الأخرى فإذا أنت مضطر إلى شيء من السرع؛ لأنها تؤدي معاني يحتاج أداؤها إلى القوة والعنف، قد فصلت آياتها قصارا ملتئمة الفواصل تقرؤها فكأنك تنحدر من عل، وذلك حين يخوف الله عباده ويشتد في تخويفهم فيأخذهم من جميع أقطارهم ويقطع عليهم طريق الجدال والحجاج.
وربما يقص من أنباء الرسل فيمضي القصص في هدوء ومهل؛ لأنه يتجه إلى إثارة التفكير والاعتبار والتروية فيما جرى على الأمم من قبل والحذر من أن يجري عليهم مثله.
ثم يقص في سورة أخرى نفس الأنباء فتقصر الآيات وتسرع وتتسق الفواصل وتنسجم وتتكرر عبارات بعينها في آخر كل قصة؛ لأنه يتجه إلى الإرهاب والإثارة والإحاطة بالسامعين والقارئين وإعجالهم عن التفكر والتدبر، كأنما أخذتهم من كل مكان ريح عاصفة لا يجدون منها مهربا ولا يرون لأنفسهم عنها مصرفا؛ فهي تصب عليهم العبر والعظات والمثلات صبا، أو كأنهم يمطرون من السماء صخورا متتابعة فهم لا يملكون إلا أن يذعنوا لما يصب عليهم لا يجدون من الوقت ولا من القوة ما يتيح لهم رجع الجواب أو الجدال في بعض ما يصب عليهم. وإنما هي الآيات تتابع قصارا أشد القصر متسقة أروع الاتساق والعبر القاصمة تستنبط منها في سرع سريع أيضا. وهم لا يكادون يفرغون من قصة حتى تتبعها قصة أخرى، تأتي في إثرها في سرعة خاطفة وقوة مذهلة.
واقرأ إن شئت سورتين كسورة الشعراء وسورة القصص فستجد السرعة كل السرعة والقوة كل القوة في السورة الأولى، وستجد الأناة والمهل في السورة الثانية، ولكنك ستجد الروعة في السورتين جميعا، تروع أولاهما بما اختصت به من هذه السرعة وتروع الأخرى بما امتازت به من الأناة، وذلك في القرآن كثير.
وسواء قرأت السور السريعة أو السور المستأنية فسترى من جمال اللفظ وروعة الأسلوب واتساق النظام ما يسحرك ويبهرك ويملك عليك أمرك كله؛ فإذا أنت خاشع لما تسمع أو تقرأ معجب به مستزيد منه حتى حين يستأثر بك العناد وتتكلف ما تتكلف من إظهار الإصرار والاستكبار والإعراض والإباء.
وأخص مزايا القرآن أن الذين يقرءونه أو يسمعونه دون أن يؤمنوا به يكذبون على أنفسهم، فقلوبهم خاشعة وأذواقهم راضية وعقولهم هي المعارضة المكذبة؛ فهم حين يقرءونه أو يسمعونه يناقضون أنفسهم، يظهرون الإباء ويضمرون الاستجابة، قد اختلفت قلوبهم وألسنتهم ووجوههم؛ فقلوبهم تذعن وألسنتهم تنكر ووجوههم تعرض إلا أن يطبع الله على قلوبهم ويطمس على عقولهم ويجعل في آذانهم وقرا.
ووجه آخر من وجوه إعجاز القرآن وهو هذا الأثر الباقي الذي يتركه في قلوب الناس وعقولهم وأذواقهم على تتابع القرون واختلاف الأجيال.
فالعربي القديم من أهل الفصاحة واللسن والبراعة في تصريف القول قد سمع القرآن فراعه منه ما راعه واستجاب له هذه الاستجابة التي يعرفها التاريخ، ولكن أجيالا أخرى لا تحكم ولا تصرف القول ولا تذوق روعة البيان قد جاءت بعد أولئك القدماء من العرب فسمعت القرآن وقرأته، فإذا هو يستأثر بعقولها وقلوبها، وإذا هي لا تقرؤه أو تسمعه إلا خشعت له واستيقنت أنه كلام لا كالكلام، بل له شأن آخر يختلف أشد الاختلاف عما يكتبه الناثرون وينظمه الشعراء ويقوله الخطباء. وأغرب من ذلك أن أمما أخرى ليس بينها وبين العرب سبب قد قرأت القرآن وسمعته في القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة فدانت له وآمنت به واستحبت قراءته والاستماع له على كل شيء غيره يقرأ ويسمع أو يمتع الأسماع والقلوب والعقول معا.
ونحن نعلم أن أروع البيان وأبرعه وأعلاه درجة في الحسن إنما يروع من يقرؤه أو يسمعه من أصحاب اللغة التي أنشئ فيها، فإذا تجاوزهم إلى غيرهم من الأمم فقد كثيرا من روعته، ولا كذلك القرآن حين يقرؤه أو يسمعه من لم ينشأ تنشيئا عربيا، بل هو يحتفظ بروعته على اختلاف الأزمنة والأمكنة وأجيال الناس.
ولست أذكر هنا تأثير القرآن في تغيير التاريخ وتحويله أمة جاهلة غافلة أمية شديدة التنافر والتدابر يضرب بعضها رقاب بعض، وينهب بعضها أموال بعض، فإذا هي تصبح أمة قد خلقت خلقا جديدا فألفت النظام والأمن والعدل، وطمحت إلى الرقي وظفرت منه بحظ موفور ونشرت هذه الخصال كلها في أمم كثيرة في الأرض ثم مزجتها وجعلت منها أمة واحدة تتعاون على الخير والبر وترقية الحضارة. لا أذكر هذا كله ولا أطيل فيه؛ لأنه أظهر من أن يحتاج إلى ذلك. والقرآن وحده مصدر هذا كله فلولاه لظلت الأمة العربية على جهلها وغلظتها وانقسامها، ولطمع فيها غيرها من الأمم المتحضرة فاستذلها واستغلها وبسط عليها سلطانه.
وقد ألفت كتب قديمة وحديثة في إعجاز القرآن، ولكنها على كثرتها لم تقل في إعجازه كل ما يمكن أن يقال؛ لأنه أروع روعة وأبهر جمالا من أن يستنفد فيه القول.
وقد نزل القرآن منجما ولم يوح إلى النبي جملة، وإنما كان ينزل بين وقت ووقت يتتابع أحيانا ويبطئ أحيانا أخرى. وقد تساءل المشركون من قريش لماذا لم ينزل القرآن جملة؟ ولو قد أنزل عليه مرة واحدة لما أطاقوه، وإنما أراد الله أن ينزله منجما ليتابع به حياة النبي والعرب وما اختلف عليهم من الأطوار في هذا الأمد الذي قضاه النبي بينهم مبشرا ومنذرا.
وكان ما ينزل منه يكتب في إثر تنزيله، ثم جمع القرآن أيام أبي بكر ثم نسخ في المصاحف وأرسل إلى الأمصار أيام عثمان. وجعل المسلمون يروونه سماعا ويقرءونه في المصاحف حتى وصل إلينا كاملا كما هو الآن؛ فهو متواتر لا يجد الشك إلى شيء منه سبيلا لم يختلف فيه المسلمون وإنما تناقلوه مجمعين عليه. وتناقلوه مسموعا ومكتوبا فجملته وتفصيله فوق الشك وفوق الجدال.
وقد تختلف قراءة المسلمين لبعض ألفاظه مدا وقصرا وإمالة وإطلاقا، ولكن سبعا من هذه القراءات وصلت إلينا متواترة وأجمعت عليها الأمة ولا بأس منها على النص لا في لفظه ولا في معناه.
وقد رتب القرآن - كما هو بين أيدينا - سورا منذ أيام النبي وقدمت في المصحف طوال السور على أوساطها، وأوساطها على قصارها.
ولم يراع في هذا الترتيل نزول السور والآيات في مكة أو في المدينة ولا تاريخ نزول الآيات، وإنما وضعت الآيات حيث كان النبي يأمر أن توضع من السور.
ونحن نجد البقرة وآل عمران والنساء والمائدة في أول المصحف بعد الفاتحة مع أنها مدنية، ونجد الأنفال والتوبة - وهما مدنيتان - بين سور مكية، وربما وجدنا في السورة المدنية آيات أنزلت بمكة وفي السور المكية آيات أنزلت بالمدينة؛ ذلك أن هذا الترتيب حسب مكان النزول وزمانه لم يراع. وإنما القرآن واحد جاء كله من عند الله وتلاه النبي على المسلمين كله كما أنزل.
وقد بين الرواة الأولون والعلماء من بعدهم أماكن نزول الآيات والسور وتاريخها، وحاول بعض المستشرقين أن يرتب القرآن حسب تاريخ نزول السور، فلم يصنعوا شيئا، وترجم القرآن إلى بعض اللغات الأجنبية أحيانا على هذا الترتيب التاريخي، فكان هذا النحو من الترجمة والترتيب عبثا لا يدل على شيء، وإنما ينأى عما ألف المسلمون من الترتيب المعروف في المصحف.
وما أكثر العلم الذي استنبطه المسلمون من القرآن، فهم استنبطوا منه شرائع الدين وجزءا غير قليل من تاريخ المسلمين بمكة والمدينة، وهم جعلوا من تفسير ألفاظه وتوضيح معانيه علما مستقلا هو علم التفسير، وهم درسوا لهجات القراء كما تظهر في القراءات المختلفة، وجدوا في توجيه هذه القراءات توجيها نحويا، وهم استخرجوا علم تلاوة القرآن كما سمع من القراء الأولين ونظموا قواعد المد والقصر واللغة وإخراج الحروف حسب القراءات المختلفة. وهم اعتمدوا عليه اعتمادا شديدا في تسجيل اللغة العربية في المعجمات ووضع الأصول التي يقوم عليها النحو والصرف. وهم اعتبروه مثلا أعلى لروعة البيان، وعسى أن يكونوا قد اعتمدوا عليه أشد الاعتماد فيما وضعوا من علوم البلاغة ولا سيما البيان والمعاني، إلى آخر العلوم الكثيرة التي استنبطت منه، وألفت فيها وما زالت تؤلف فيها كتب لا تحصى.
ومع أن علم الكلام قد اعتمد على الفلسفة، والفلسفة اليونانية خاصة، فإنه يعتمد اعتمادا شديدا على القرآن في قسم السمعيات من أقسامه وفي أبوابه النظرية.
والمتجنبون من المتكلمين للتأويل والإغراق فيه قد اعتمدوا على القرآن والسنة وحدهما في تفصيل العقائد الإسلامية، واتخذوا الفلسلفة خادما له يدافعون بها عن نصوصه ويخاصمون بها المؤولين والمتكلفين، ويردون بها على الذين قصروا جهدهم على الفلسفة الخالصة، ولم يعرضوا للنصوص وإنما اعتمدوا في إثبات الله ووجوده على النظر وحده يذهبون في ذلك مذهب القدماء من فلاسفة اليونان.
وربما أثارت العناية بالقرآن بعض الخصومات بين المسلمين، كالذي كان حين ذهب المعتزلة إلى أن القرآن مخلوق، وتابعهم على ذلك بعض الخلفاء من بني العباس، فأثاروا بين الناس شرا عظيما وامتحنوا خيار العلماء بألوان من البلاء شداد.
على أن هذه الخصومات الخطيرة لم تلبث أن صارت إلى ما ينبغي أن تصير إليه الخصومات من الجدل الخالص بين العلماء، وذلك حين انصرفت السياسة لما يسرت له، ولم تدخل في شئون ما يكون بين العلماء من اتفاق واختلاف.
وما أكثر ما توارثت الإنسانية من آيات الأدب وروائع البيان في اللغات المختلفة منذ العصور القديمة، لكنا لا نعرف شيئا من هذا التراث عني به الناس على نحو ما عني الناس بالقرآن؛ فهم يقرءون روائع البيان هذه ويشرحونها، ويكثرون البحث والدوران حولها، ولكن هذا كله لا يتجاوز الخاصة الذين يقفون أنفسهم على هذا النحو من الدرس.
فأما القرآن فالعناية به لا تشبهها عناية، فليس من المسلمين - على كثرتهم واختلاف أجناسهم وتعاقب أجيالهم - من لا يحفظ من القرآن قليلا أو كثيرا؛ لأن أداء الصلاة لا يتم ولا يستقيم إلا بقراءة شيء من القرآن فيها.
فليس بد للمسلم من أن يحفظ منه ما يؤدي به صلاته، وما نعرف أحدا يحفظ أثرا من الآثار البيانية عن ظهر قلب كما يحفظ كثير من المسلمين القرآن، يحفظه كثير منهم حفظا يصاحبه فهم النصوص ، ويحفظه أكثرهم حفظا دون أن يفهموه فهما واضحا؛ أولئك وهؤلاء يرون حفظه تعبدا وقربى إلى الله. وما أكثر المسلمين الذين يحفظون القرآن ليتخذوا تلاوته مهنة يكسبون بها قوتهم! ولولا أن المسلمين جميعا يحرصون على أن يسمعوا القرآن تتلى عليهم آياته في كل يوم وفي بعض الظروف الخاصة لما وجدت هذه الصناعة ولما نفقت سوقها، ولما كثر أولئك الذين يدخلون بالقرآن كثيرا من البيوت يصبحون الناس بآيات منه ويمسونهم، ولما كثر المصوتون به أولئك الذين يجتمع لهم الناس ليسمعوهم ويعجبوا بأصواتهم وتلاوتهم في ظروف الحزن والفرح.
وجاء اختراع الإذاعة فكثرت إذاعة القرآن يصوت به أصحاب الأصوات الحسان في البلاد الإسلامية وفي البلاد الأجنبية التي توجه الإذاعة إلى المسلمين لأسباب سياسية وغير سياسية.
فالقرآن يتلى في الإذاعات الأوربية والأمريكية، وهو يتلى على أنه إمتاع للمستمعين بحسن الأصوات، ولكن كثيرا من المستمعين يسمعونه لنفسه أولا وللأصوات التي تتلوه ثانيا وما يكون فيها من التطريب. وقد تذاع بعض روائع البيان في اللغات الحية، ولكنها لا تذاع في نظام واضطراد كما يذاع القرآن.
وجملة القول أن القرآن لحياة المسلمين يرضون به ربهم حين يأتون ما أمر به ويجتنبون ما نهى عنه، وحين يقيمون صلاتهم مجتمعين أو متفرقين يقرءونه أو يسمعونه متعبدين بقراءته أو سماعه، وحين يستنبطون منه العلم ويلتمسون فيه الروعة والجمال ويستمتعون بقراءته أو سماعه بالأصوات العذاب.
وليس في التراث الإنساني كله شيء يشبه القرآن في تقويم الألسنة العربية حين تلتوي باللهجات العامية المختلفة، والأجنبية حين تلتوي بلغاتها المتباينة؛ فالذين يحفظون القرآن في الصبا، ويكثرون قراءته ويجودونها أصح الناس نطقا بالعربية وأقلهم تخليطا فيها. ومن أجل ذلك كانت الأجيال السابقة إلى عهد قريب تأخذ الصبية حين يتعلمون الكتابة والقراءة بحفظ القرآن كله أو بعضه وتجويد قراءته؛ يرون في ذلك محافظة على الدين وتقويما لألسنة الصبية والشباب. وكان الذين يحفظون القرآن أو شيئا منه أجود نطقا بالعربية حين يتكلمون، وأجدر أن يفقهوا دقائق اللغة حين يتعلمونها. وقد أهمل حفظ القرآن وتمرين الصبية على قراءته وتجويده في المدارس الحديثة حينا؛ فالتوت ألسنة الشباب وفسد نطقهم وضاقوا بدروس اللغة في مدارسهم، ثم أعرضوا عنها بعد الخروج من المدارس، ثم مال كثير منهم إلى العامية فآثروها على الفصحى وحاولوا أن يجعلوها لغة الكتابة فلم تستقم لهم، ولأمر ما عاد القائمون على شئون التعليم فراجعوا مناهج المدارس وبرامجها وجعلوا لقراءة القرآن وحفظه مكانا مرموقا.
والقرآن بعد هذا كله هو الذي حفظ اللغة العربية أن تذوب في اللغات الأجنبية التي تغلبت على اللغة العربية بحكم السياسة في عصور كثيرة وظروف مختلفة؛ فقد تفرقت كلمة المسلمين في السياسة وانحلت الخلافة العربية القديمة وخضع العرب لاستعمار الأعاجم، حكمهم الفرس في دار الخلافة نفسها أولا، وحكمهم الترك بعد ذلك قرونا متصلة، وجاء العصر الحديث فخضع العرب لسلطان الأجنبي الأوروبي يقهرهم مرة بالاستعمار والحكم المباشر لهم، ويقهرهم مرة أخرى بالتفوق في الحضارة المادية والمعنوية جميعا، ويضطرهم إلى أن يتعلموا اللغات الأوروبية إرضاء لحكامهم من الأوروبيين، والتماسا لما في هذه اللغات من علم وأدب وفلسفة وفن. وكان هذا كله جديرا أن يمحق اللغة العربية محقا ويذهب شخصية الشعوب العربية، ولكن القرآن عصم هذه اللغة من الضياع وحال بين الخطوب الجسام وبين التأثير فيها. حرص العرب على القرآن لأنه يحفظ عليهم دينهم ولأنه قوام حياتهم، فقرأه عامتهم وخاصتهم وحفظوا منه القليل والكثير، ودرسه علماؤهم في المساجد والمدارس واختلف إليهم ألوف كثيرة من الطلاب على تباعد الأمكنة والأزمنة، واضطروا من أجل فهم القرآن ودرسه في تعمق أن يدرسوا اللغة التي أنزل بها.
وأكثر من ذلك أن بعض الأمم الإسلامية التي خضعت لسلطان العرب في وقت مضى طوت قلوبها على بغض العرب والعروبة وآذتهم حين استطاعت إيذاء شديدا، ولكنها على رغمها احتفظت بالقرآن لمكان الإسلام منها أو لمكانها من الإسلام فدرست القرآن ودرست لغته العربية.
وإذا كانت هناك الآن وحدة إسلامية عامة أو شيء يشبه هذه الوحدة فبفضل القرآن وجدت وبفضل القرآن ستبقى مهما تختلف الظروف وتدلهم الخطوب. وإذا كانت هناك وحدة يحاول العرب أن يعودوا إليها ويقيموا عليها أمرهم في الحياة الحديثة كما قامت عليها حياتهم القديمة، فالقرآن هو أساس هذه الوحدة الجديدة كما كان أساسا للوحدة القديمة.
وليقرأ العرب إن شاءوا قول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة آل عمران:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
فهذه الآية التي أنزلت وتلاها النبي
صلى الله عليه وسلم
على قوم من العرب كانوا يخرجون من جاهليتهم ويدخلون في الإسلام؛ فهم حديثو عهد بالكفر وحديثو عهد بالعصبية القديمة وحديثو عهد بتفرق القبائل واختصامها واحترابها لأيسر الأمور وأهونها شأنا. هذه الآية الكريمة ما زالت قائمة بعد قريب من أربعة عشر قرنا وستظل قائمة. وهذا الأمر للمسلمين بأن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا لم ينقض بانقضاء عهد الخروج من الجاهلية والدخول في الإسلام، وإنما هو قائم دائما ما دام في الأرض مسلمون. فمثل هذا الأمر في القرآن لا يخص قوما بأعينهم ولا عهدا بعينه ولا مكانا بعينه، وإنما هو أمر شامل عام واجب الاحترام في كل زمان وفي كل مكان. والعرب أجدر الناس أن يفهموه وينفذوه؛ فهو أنزل فيهم وأنزل في لغتهم واتجه إليهم أول ما أنزل.
ولو مضينا نعدد آثار القرآن الباقية في المسلمين عامة وفي العرب خاصة لما قضينا الحديث ولا فرغنا، فحسبنا ما أشرنا إليه منها على قلته.
ولنعد إلى نص القرآن فنقف عند بعض سوره ونحاول - إن أتيحت لنا المحاولة - أن نبين بعض المظاهر المختلفة لما امتاز به القرآن من روعة البيان، وما اختص به من هذه الملاءمة بين المعاني والألفاظ والأساليب. وقد أشرنا في هذا الفصل إلى ما يكون من اختلاف بين بعض السور في أداء المعاني الواحدة أو المتقاربة أشد التقارب بالآيات الطوال المبسوطة حينا وبالآيات الخاطفة حينا آخر.
فلنقرأ معا قصة نوح وقومه وما جرى عليهم من الآيات الكريمة من سورة هود؛ فسنرى هذه القصة قد فصلت تفصيلا كاملا في غير تزيد ولا إسراف، وأديت معانيها في آيات ليست بالطوال ولا بالقصار، ولكنها تؤدي المعاني في دعة وهدوء؛ يكون فيها الإطناب حين يحتاج المقام إلى الإطناب، ويكون فيها الإيجاز حين يكون الإيجاز آخذا للقلب وأدل على ما أريدت الدلالة عليه من الهول الذي يصوره الإيجاز أكثر مما يصوره الإطناب ومن الأمر الذي يصدر فينفذ إثر صدوره في غير تردد أو إبطاء. وانظر إلى أول القصة كيف أدي فيه الحوار أداء يسيرا يصور ما يكون بين رجل ينذر قومه وقومه ينكرون عليه ويجادلونه، ثم يشتدون في الإنكار وينتهون إلى إنذاره كما كان ينذرهم. واقرأ هذه الآيات في أول القصة:
ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين * أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم .
فانظر إلى نوح كيف أدى رسالته في إيجاز فأنبأ قومه بأنه نذير لهم في الآية الأولى وأظهر الرفق بهم والإشفاق عليهم فدعاهم إلى أن يعبدوا الله؛ لأنه يخاف عليهم عذاب يوم أليم في الآية الثانية:
فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين .
ورد عليه الملأ من قومه فأنكروا دعوته لهم وأنبئوه بأنهم لا يرونه إلا بشرا مثلهم، لا يمتاز منهم بشيء فكثير عليه أن يزعم لنفسه التحدث عن الله والدعوة إليه والإنذار لهم باسمه. ثم أضافوا إلى ذلك بأنهم لا يستطيعون أن يتبعوه؛ لأن الذين اتبعوه هم أراذلهم وأهونهم شأنا، وهم أكبر في أنفسهم من أن يؤمنوا بما آمن به الأرذلون. أعلنوا إليه أنهم يكذبونه ويكذبون من اتبعه.
وانظر كيف رد عليهم نوح في الآيات الثلاث التالية، فسألهم في الأولى: ماذا يصنع إذا كان الله قد آتاه بينة من عنده وآتاه رحمة منه فلم يعقلوها؟ وبين لهم أنه لا يستطيع أن يلزمهم رحمة الله وهم كارهون لها. فالإيمان لا يكون بالإكراه وإنما يكون باستجابة القلب ورضى الضمير وأنبأهم في الآية التي تليها بأنه لا يسألهم مالا جزاء على دعوته لهم إلى الحق وإنما أجره على الله، فليس لهم أن يعتلوا عليه ولا أن يشفقوا من دعوته على أموالهم.
وجادلهم في الذين اتبعوه فقال إنه لا يستطيع أن يطردهم؛ لأن ذلك ليس إليه وإنما هو إلى الله الذي يعلم دخائل نفوسهم وسرائر ضمائرهم. وأفهمهم بأنهم إنما يستجيبون لحميتهم وكبريائهم حين يعتلون عليه بازدراء الذين آمنوا معه، ثم أنبأهم في الآية التالية بأنهم لا يستطيعون نصره ولا يستطيع غيرهم نصره من الله إن طرد الذين آمنوا معه؛ لأنهم ليسوا من الطبقة الممتازة.
ثم تبرأ من كل الغرور فأنبأهم بأنه لا يزعم لنفسه السيطرة على خزائن الله ولا علم الغيب ولا أنه ملك، وإنما هو رجل مثلهم ولا يستطيع أن يزعم أن الذين اتبعوه لن يؤتيهم الله خيرا لأن الممتازين من قومه يزدرونهم:
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون * ويا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون * ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرا الله أعلم بما في أنفسهم إني إذا لمن الظالمين .
وقد ضاق به قومه بعد هذا الحوار فأنبئوه بأنه قد جادلهم فأكثر وأطال، وسألوه إن كان صادقا أن يأتيهم بما خوفهم منه؛ فرد عليهم بأن الله وحده قادر على أن يأتيهم به إن شاء وأنهم أهون من أن يكونوا معجزين لله، واستيأس منهم أو كاد فقال لهم: إن نصحه لن ينفعهم إن كان الله قد كتب عليهم الغواية وهو ربهم وهم صائرون إليه آخر الأمر:
قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين * قال إنما يأتيكم به الله إن شاء وما أنتم بمعجزين * ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون .
وهنا تعترض آية ليست من القصة ولكنها تمت إليها بسبب كأن المشركين من قريش قد ارتابوا حين تليت عليهم هذه الآيات في صدق النبي وفي أن ما يتلوه عليهم قد أتاه من عند الله فأمره الله أن يقول لهم: لا عليكم إن كنت مفتريا فعلي وحدي تبعة ما أفتري، وأنا على كل حال بريء من جرائمكم:
أم يقولون افتراه قل إن افتريته فعلي إجرامي وأنا بريء مما تجرمون .
وينبئ الله نوحا بما يشعره في وضوح بأنه لم يعجل حين استيأس من قومه، فهم لن يثوبوا إليه ولن يقبلوا منه دعوته، ويعزيه الله عن هذا الإعراض، فيقول:
وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون .
ثم يأمره الله أن يتهيأ لما كتب له من النجاة هو وأهله والذين آمنوا معه فيأمره أن يصنع الفلك برعايته وعن أمره، وينهاه أن يتوسل إليه في الذين ظلموا أنفسهم من قومه وأعرضوا عن دعوته فيقول:
واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون .
ثم ينبئ الله نبيه بما كان بين قوم نوح وبينه أثناء صنعه للفلك، فهم كلما مروا به سخروا منه، قد أوغلوا في الشك بل وثقوا بأنهم آمنون من عذاب الله وبطشه، وبأن نوحا يصنع فلكه عبثا أو إمعانا في تخويفهم من هول موهوم، ويرد نوح عليهم ساخرا أيضا متوعدا؛ لأنه واثق بما أنبأه به ربه:
ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون * فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم .
ثم أتى أمر الله وآن للظالمين من قوم نوح أن يعلموا حين لا ينفعهم العلم، بأن نوحا لم يكذب عليهم ولم ينذرهم عبثا؛ فقد فار التنور وأخذ الماء يغمر الأرض، وأمر الله نوحا أن يحمل في سفينته من كل زوجين اثنين وأن يحمل أهله إلا من كتبت عليه الشقوة منهم، وأن يحمل تلك العصبة القليلة التي آمنت معه:
حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل .
وهذا نوح يأمر الناجين من أهله وأصحابه أن يركبوا في السفينة، وهو يسمي الله على مجرى السفينة ومرساها:
وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم .
وهنا ينبغي أن نقف عند هذا الإعجاز الرائع المألوف كثيرا في القرآن، والذي يقتضي أن يحذف من القصة كل ما يمكن أن يستحضره السامع والقارئ من أحداثها؛ لأنه طبيعي لازم لما تلي من القصة؛ فهذا الماء قد غمر الأرض ولقي الظالمون من قوم نوح ما لقوا من الجهد وحاولوا كل محاولة ممكنة لينقذوا أنفسهم من الغرق فلم ينفع جهدهم ولم تغن عنهم محاولاتهم من الله شيئا؛ ذلك لأن الله إذا أراد بقوم سوءا فلا مرد له ولا سبيل إلى اتقائه، ولكن القرآن هنا يهمل هذا كله فلا يتحدث عن المغرقين ولا عن جهودهم ومحاولاتهم ولا عما لقوا من الألم في أنفسهم ولا عما أحسوا من الندم لإعراضهم عن نوح ودعوته. لا يتحدث الله عن هذا وإنما يستأنف الحديث عن السفينة فإذا هي تجري بأصحابها في موج كالجبال، وإذا نوح يفتقد ابنه فيراه مع الكافرين، وإذا ابنه قد حق عليه العذاب فهو لا يستجيب لأبيه، وإنما يزعم أنه سيأوي إلى جبل يعتصم به من الماء. ونوح يحاول أن يقنعه بألا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم. ولكن الموج يحول بين الابن وأبيه فيصير ابنه إلى الغرق مع المغرقين:
وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين * قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين .
كم من يوم ظل الماء غامرا للأرض؟! وكم من يوم جرت السفينة في هذه الأمواج المتلاطمة قبل أن تستقر على الجودي؟ هذه أشياء لا يتحدث الله بها في هذا الموضع من القصة، وإنما يتركها لفهم السامع والقارئ وتقديرهما. وفي هذا الإيجاز المعجز ما يصور هول القصة، وربما صور الهول بالإعراض عن وصفه تصويرا أروع وأشد من وصفه.
وانظر إلى فعلي الأمر هذين اللذين يوجه أحدهما إلى الأرض بأن تبتلع ماءها ووجه ثانيهما إلى السماء بأن تكف عن صب الماء. وإذا الماء يغيض وإذا الأمر كله قد قضي وإذا السفينة قد استقرت على الجودي وإذا نداء ببعد القوم الظالمين. فعلا أمر في أول الآية، ثم أنباء قصار أشد القصر موجزة أروع الإيجاز قاطعة لا معقب لها تلقى في أفعال بني أكثرها لما لم يسم فاعله.
وتنتهي بهذه الأنباء قصة ما أصاب قوم نوح من العذاب:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين .
على أن قصة نوح نفسه لم تنته بعد؛ فهو محزون على ابنه الذي أغرق وكأنه يعاتب ربه فيه ولكن في إيمان به وإذعان لحكمه فيقول:
إن ابني من أهلي .
كأنه يذكر أن الله قد أمره أن يحمل أهله في السفينة، ولكن ربه يرد عليه ردا فيه الشدة والرفق جميعا. فينبئه بأن ابنه ليس من أهله؛ لأنه عمل غير صالح، ويعظه ناهيا له عن أن يسأله ما ليس له به علم. وإذا نوح يثوب إلى نفسه ويتوب إلى ربه ويعوذ به من أن يسأله ما ليس له به علم ويلتمس منه الرحمة والمغفرة:
ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين * قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين .
ثم يأمر نوح أن يهبط إلى الأرض بسلام من الله عليه وعلى فريق ممن معه وينبأ بأن فريقا آخر ممن معه يستمتعون في الحياة الدنيا ثم يضطرون إلى عذاب أليم. آمنوا بدعوة نوح فنجوا من الغرق ولكنهم محتاجون إلى أن يمتحنوا في الدنيا فإن أحسنوا نجوا وإن أساءوا فعذاب الله مدخر للذين يخالفون عن أمره ويظلمون أنفسهم:
قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم .
وهنا تنتهي قصة نوح في هذه السورة الكريمة وينبئ الله نبيه بأن أحداث هذه القصة إنما هي بالقياس إليه وإلى قومه من الغيب لم يعلمها النبي ولم تعلمها قريش إلا بعد أن أوحيت إليه من هذه الآيات. ثم يأمر الله نبيه أن يصبر على ما يلقى من إعراض قومه عنه وإيذائهم له كما صبر نوح على ما لقي من قومه فكانت له العاقبة؛ لأن العاقبة دائما للمتقين:
تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين .
وما أشك في أنك حين قرأت هذه الآيات لم تعجل في قراءتها؛ لأنها مبسوطة قد اطمأنت وتتابعت في رفق وفي مهل أيضا، فأنت تقرؤها مفكرا فيها معتبرا في أحداثها لا يعجلك عن ذلك شيء، وأنت معجب بانبساط الحديث ومضي القصة في أناة تؤدي المعاني مستوية، ويأتي الإيجاز حين يجب أن يأتي، فلا يضيع عليك شيئا من تمهلك ولا يعجلك عن التأمل والتدبر.
ولكن لنقرأ معا هذه القصة نفسها في سورة أخرى هي سورة الشعراء، ولنوازن بين الأناة هنا والسرع هناك، وسنرى أن من العسير أن نقف عند كل آية من آيات القصة في سورة الشعراء كما وقفنا بإزاء الآية والآيات في القصة نفسها من سورة هود، وسترى سبب ما يكون بين القصتين من فرق في السورتين.
وسورة الشعراء كلها تروع وتبهر بقصر آياتها وانسجامها في هذا القصر وفي اتساق الفواصل في الآيات كلها حتى الآيات الأخيرة التي يقال إنها أنزلت في المدينة. وإن كانت الآية الأخيرة من السورة أطول شيئا من سائر الآيات، وهي منسجمة كذلك بآيتين تأتيان بنصهما في آخر كل قصة، بل في آخر كل حديث ما عدا آخر السورة وهما قول الله عز وجل:
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
فهما تأتيان ختاما لكل حديث، وتوطئة للانتقال إلى حديث آخر أو قصة أخرى، وقد فصلت آيات السورة على قدر واحد حتى كأن إحداهما لا تزيد على الأخرى أو تنقص عنها.
وهذا الأسلوب مألوف في القرآن تراه في سورة الصافات مثلا، وترى شيئا منه في قصار السور التي أنزلت بمكة والتي تقرؤها في آخر المصحف.
وفي سورة الشعراء هذه يتجه الحديث أولا إلى المشركين من العرب وإلى قريش منها خاصة، فيذكرون بآيات الله ويعاب جحودهم وإصرارهم على العناد والكفر، ويختم هذا القسم من الحديث بالآيتين اللتين تلوناهما آنفا. ثم تأتي قصة موسى وإرساله إلى فرعون وما كان من حديث موسى مع السحرة وما كان من إخراج موسى لبني إسرائيل من مصر عن أمر الله، واتباع فرعون لهم وإنجاء الله لموسى وقومه، وإغراقه فرعون ومن معه، وتختم القصة بالآيتين نفسهما، ثم تأتي قصة إبراهيم ومن بعدها قصة نوح ثم قصة ثمود فقصة قوم لوط فقصة شعيب وقومه. ثم يعود الحديث فيتجه إلى قريش، حتى توشك السورة أن تنتهي فتختم بالآيات المدنية التي يذكر فيها الشعراء.
وقصة نوح هنا موجزة أشد الإيجاز، لا يذكر فيها تفصيل العذاب الذي أخذ الله به الظالمين من قوم نوح، وإنما يكتفي بذكر إغراق الله لهم، ولا يذكر فيها صنع الفلك وحمل من حمل نوح فيه، ولا وصف الموج الذي جرت فيه السفينة ولا قصة ما أصاب ابن نوح من العذاب ولا الحديث بين نوح وبين ربه؛ لا يذكر من هذا كله شيء وإنما يقص الحوار بين نوح وقومه وإعراض قومه عن دعوته وإنذارهم نوحا بالرجم إن لن ينته عن دعوته، ودعاء الله نوحا أن ينجيه، وما كان من نجاته في الفلك المشحون ونجاة من آمن معه وإغراق الظالمين. فقد اختصرت القصة هنا؛ لأن ما قصد إليه من القصص كلها في هذه السورة إنما أريد به إلى تذكير المشركين بآيات الله فيمن سبقهم من الأمم وتخويفهم أن يصيبهم مثل ما أصاب تلك الأمم وإظهارهم على بطش الله بالظالمين، وعلى الآيات الكبرى التي آتاها الأنبياء قبل محمد
صلى الله عليه وسلم .
ومن أجل هذا اكتفى بما يؤدي هذه الأغراض في قوة وعنف يملكان على السامعين والقارئين أمرهم كله، ومن أجل هذا أيضا أديت هذه الأغراض في هذه الآيات القصار المتتابعة في نسق واحد كأنها السيل المندفع الذي يغمر كل ما يلقاه أو كأنها الريح العاصفة التي لا تدع شيئا تأتي عليه إلا دمرته تدميرا.
واقرأ إن شئت هذه الآيات التي صورت فيها قصة نوح وقومه وقسها إلى الآيات التي أثبتناها من سورة هود فسترى أنك حين تأخذ في قراءة الآيات هنا ستجد نفسك منساقا، بل مدفوعا إلى المضي في القراءة حتى تبلغ آخر القصة لا تقف بين آية وأخرى، وإنما تقف حين تبلغ ختام القصة لتتدبر وتتفكر. وأكاد أقطع بأنك إذا بدأت السورة من أولها فستمضي فيها إلى آخرها ثم تراجع نفسك بعد ذلك في جملتها وتفصيلها وفي روعتها وإعجازها:
كذبت قوم نوح المرسلين * إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون * إني لكم رسول أمين * فاتقوا الله وأطيعون * وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين * فاتقوا الله وأطيعون * قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون * قال وما علمي بما كانوا يعملون * إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون * وما أنا بطارد المؤمنين * إن أنا إلا نذير مبين * قالوا لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين * قال رب إن قومي كذبون * فافتح بيني وبينهم فتحا ونجني ومن معي من المؤمنين * فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم .
وهذا الأسلوب الرائع مألوف في القرآن الكريم كما قدمناه يلتزم فيه تكرار آية بعينها أو غير آية للانتقال من حديث إلى حديث، كما في سورة الصافات وسورة القمر، وأحيانا لا يلتزم هذا التكرار، وإنما يرسل نظام الآيات إرسالا مع اتحاد الفواصل، كما في سور كثيرة من المفصل.
وفي القرآن أسلوب آخر من التكرار للتخويف حينا وللتعجيز حينا آخر كما ترى في سورة المرسلات من ختام الآيات دائما يقول الله عز وجل:
ويل يومئذ للمكذبين ، والسورة كلها تخويف، وكما في سورة الرحمن حيث تنتهي الآيات كلها بهذا الاستفهام الرائع:
فبأي آلاء ربكما تكذبان ، والسورة كلها تصف قدرة الله وتعدد آلائه على الناس.
وأسلوب آخر في القرآن تتسق فيه فواصل الآيات ويلتزم فيها أو في أكثرها نسق بعينه كالذي تراه في سورة مريم من ختام الآيات أو أكثرها بكلمات تنتهي بالياء المشددة المفتوحة:
كهيعص * ذكر رحمت ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا * قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا * وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا .
وعلى هذا النسق تمضي آيات السورة حتى تذكر قصة يحيى ومريم والمسيح وطائفة أخرى من الأنبياء لا تخالف عنه إلا في آيات قليلة.
والتزمت في قصة يحيى والمسيح آية بعينها مع شيء من الخلاف بين آخر القصتين، كان الحديث عن يحيى حديثا عن الغائب فقيل في آخر قصته:
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا ، وكان المسيح يكلم في المهد بني إسرائيل فقيل في آخر كلامه:
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
وأسلوب آخر من الفواصل لا يلتزم فيه حرف بعينه كما التزمت الياء في مريم، أو حرفان كما التزمت الياء والنون في الشعراء مثلا، وإنما تلتزم حركة بعينها هي الفتحة، وإن اختلفت الحروف في أواخر الكلمات، كالذي ترى في سورة الكهف من التزام الكلمات المنصوبة أو المفتوحة الآخر:
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا * فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا * إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا * وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا * أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا * نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى .
وتمضي السورة على هذا النحو إلى آخرها.
وكذلك التزمت الفتحة في سورة الإسراء، وكادت الراء أن تلتزم معها في أكثر فواصل السورة.
والتزمت الفواصل المقصورة في أكثر سورة طه والنجم والأعلى والضحى. وحديث الفواصل في القرآن أطول وأكثر تنوعا من أن نحصيه في هذا الفصل، وربما كان من الممكن أن يخص لها كتاب كامل.
وما نجده فيها من التنوع إن دل على شيء فإنما يدل على أن القرآن قد أنزل ليتلى، ويتلى في صوت يسمع، ذلك يظهر تنوع الآيات في خواتيمها وفواصلها، ويظهر ألوانا مختلفة تروع باختلافها من الموسيقى، فإذا أضيف ذلك إلى عذوبة الألفاظ واتساق النظم واختلاف الأسلوب باختلاف المقامات شدة ولينا وترغيبا وترهيبا وتبشيرا وإنذارا، لم يشك سامع أو قارئ في أن فنون الإعجاز في القرآن أكثر وأروع من أن تحصى أو يحاط بها.
وأكبر الظن أن التزام هذه الفواصل المتسقة إنما يكون حين يتحد موضوع السورة أو يأتلف ائتلافا شديدا؛ فسورة الشعراء مثلا قد اختلفت فيها قصص الأمم التي كذبت رسلها، ولكن موضوعها واحد هو التخويف والإرهاب وإنذار قريش وغيرها من مشركي العرب بأن ما أصاب تلك الأمم التي أصرت على تكذيب الرسل قد يصيبهم إن أصروا على تكذيب النبي
صلى الله عليه وسلم .
وسورة طه توشك قصة موسى أن تستغرقها، وفي سورة مريم تمجيد للأنبياء وتخويف للجاحدين.
وأكبر الظن أيضا أن الفواصل حين تلتزم على هذا النحو يدل التزامها على أن السورة أنزلت مرة واحدة ولم تنجم آياتها كما تكون الحال في سور أخرى لم تلتزم فيها الفواصل على هذا النحو ولم يتحد موضوعها أو يشتد الائتلاف بين موضوعاتها إن تعددت. واتحاد الموضوع نفسه وشدة ائتلاف الموضوعات حين تتعدد قد يشعر بأن السورة أنزلت جملة واحدة وإن لم يلتزم في فواصلها ما نراه قد التزم في السور التي أشرنا إليها.
فسورة يوسف مثلا قد اتحد موضوعها اتحادا لا شك فيه، قد قصرت على قصة يوسف، وما أرى إلا أنها أنزلت جملة.
وقل مثل ذلك في سورة هود، أو فيما اشتمل عليه أكثرها من قصص الأمم التي كذبت رسلها، فبعد أن بدئت بآيات فيها الإنذار والتخويف وضرب الأمثال للموعظة قصت فيها قصة نوح في الآيات التي أثبتناها منذ حين. وعند الفراغ من قصة نوح عطفت عليها قصة عاد وبدئت هذه القصة بالآية الكريمة:
وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون .
ثم عطفت عليها قصة ثمود بنفس الأسلوب:
وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب .
ثم عرض طرف من حديث إبراهيم وقصة لوط وقومه ثم قصة شعيب وقومه أهل مدين في قوله عز وجل:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط .
ويلاحظ أن قصة قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب ختمت كلها بخواتم متشابهة، فنرى في آخر قصة المغرقين من قوم نوح:
وقيل بعدا للقوم الظالمين ، وفي آخر قصة عاد وقوم هود نقرأ:
وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود .
وفي آخر قصة ثمود قوم صالح نقرأ:
كأن لم يغنوا فيها ألا إن ثمود كفروا ربهم ألا بعدا لثمود .
ونقرأ في آخر قصة أهل مدين:
كأن لم يغنوا فيها ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود .
وبعد هذا القصص، الذي يحدث أخبار الأمم التي كذبت نوحا وهودا وصالحا ولوطا وشعيبا وموسى، تختم السورة بالتذكير بآيات الله وإثبات أن النبي صادق فيما يحدث به لأنه يتلو أنباء لم يكن يعلمها ولم يكن قومه يعلمونها:
ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد .
وتنتهي السورة بتثبيت النبي
صلى الله عليه وسلم
بكل ما قص عليه في السورة وتخويف الذين لا يصدقونه من المشركين، وإعلان أن الله مستأثر بغيب السموات والأرض، وأن مصير كل شيء وكل إنسان إليه:
وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين * وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون * وانتظروا إنا منتظرون * ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون .
وسور أخرى في القرآن تشبه سورة هود في خصائصها هذه وفي أنها أنزلت جملة واحدة كسورة الأنفال التي أنزلت في غزوة بدر ولم تتجاوزها إلا إلى ما يتصل بقريش وكفرها ومكرها بالنبي بما كانت وقعة بدر نتيجة له.
وكذلك سور أخرى في القرآن تكثر موضوعاتها وتتباعد الصلة بين هذه الموضوعات ولا يلتزم في فواصلها ولا في أسلوبها نسق بعينه منذ تبدأ إلى أن تنتهي. فسورة البقرة مثلا كثرت فيها الموضوعات وتباينت فدل هذا على أن السورة لم تنزل مرة واحدة وإنما نجمت تنجيما؛ فهي تبدأ بذكر المؤمنين الذين يتقون الله ويؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، ويؤمنون بما أنزل على النبي وما أنزل على الأنبياء من قبله، ويوقنون بالآخرة وما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب:
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
ثم تتحدث عن الذين كفروا والذين لا يجدي إنذارهم أو إمهالهم والذين لا يؤمنون على كل حال، وقد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشيت أبصارهم وكتب عليهم عذاب عظيم. ثم تتحدث عن المنافقين الذين يقولون آمنا وليسوا بمؤمنين والذين يريدون أن يخادعوا الله والذين آمنوا فلا يخدعون إلا أنفسهم والذين في قلوبهم مرض فيزيدهم الله مرضا ويدخر لهم عذابا أليما عقابا على كذبهم بإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر. ثم تصف بدء الخلق وخلق آدم وتذكر قصة إبليس حين أبى أن يسجد مع الملائكة إعظاما لخلق آدم، وطرده من الجنة، وإغوائه آدم وزوجه حتى أكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن أن يقرباها، وإخراجهما من الجنة وتوبة الله على آدم آخر الأمر.
ثم تذكر اليهود فتطيل في ذكرهم وتفصل من أنبائهم وسيرتهم مع المسلمين ومحاجتهم للنبي شيئا كثيرا.
ثم تذكر طرفا من قصة إبراهيم حين أنزل من ذريته بواد غير ذي زرع وحين بنى البيت بمكة. وتذكر طرفا من حديث الأنبياء. ثم تذكر تحويل القبلة عن بيت المقدس إلى المسجد الحرام. ثم تذكر الصفا والمروة وأنهما من شعائر الله. وتذكر طرفا من حساب الكافرين يوم القيامة. ثم تذكر البر وتبين حقائقه. ثم يشرع فيها القصاص وبعض أحكام الوصية ويشرع الصيام وصيام رمضان خاصة. ثم يجاب فيها عن الذين يسألون عن الأهلة، ويذكر فيها شيء من أمر القتال ومن أمر الحج ومن أمر المعاندين من مشركة قريش. ثم يذكر فيها إثم الخمر والميسر، ويبين فيها للناس ما ينبغي لهم أن ينفقوا في صدقاتهم، ثم تشرع فيها طائفة من أحكام الزواج والطلاق والعلاقة بين الأزواج وعدة المرأة إذا طلقت وإرضاع الوالدات أولادهن وما لهن على أزواجهن من حق في ذلك، واسترضاع الأولاد عند غير أمهاتهن وحق المرضعات على آباء من يرضعن من الطفل.
ثم يرجع الحديث إلى اليهود ويقص ما كان بين طالوت وجالوت من القتال وقتل داود لجالوت وإيتائه الملك والحكم والنبوة. ثم تعظ المؤمنين وتذم الكافرين وتعلن ألا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي. وتذكر طرفا من حديث إبراهيم حين حاج الملك الذي كفر فحجه، وحين سأل الله أن يريه كيف يحيي الموتى، فأراه الله من ذلك ما أراد. ثم تأمر المؤمنين بالصدقة ملحة عليهم فيها مبينة لهم أحكامها ومرشدة لهم إلى خيرها وأكملها ومواضعها.
ثم تحرم الربا وتشدد في تحريمه، ثم تأمر المؤمنين إذا تداينوا وتبايعوا أن يكتبوا ما تداينوا عليه أو ما تبايعوه وأن يستشهدوا على ذلك رجلين أو رجلا وامرأتين ممن يرضون من الشهداء، وتحظر كتمان الشهادة وتبين أن من يكتمها فإنه آثم قلبه، ثم تختم السورة بإعلان ما اجتمع عليه النبي والمؤمنون من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، غير مفرقين بين أحد من رسله، ومن إذعانهم لربهم وإنابتهم إليه وسمعهم وطاعتهم لأمره حين يأمرهم ونهيه حين ينهاهم، وتضرعهم إليه في ألا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطئوا، وألا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم، وألا يحملهم ما لا طاقة لهم به، وأن يعفو عنهم ويغفر لهم ويرحمهم وينصرهم على الكافرين.
وواضح أن كل هذه الموضوعات إنما فصلت آياتها للناس في إبانها وحين اقتضت حياتهم وظروفهم أن تتلى عليهم وتبصرهم بما يحتاجون إلى أن يبصروا به حين تنوب النوائب وتعرض الأحداث.
ومثل هذا يقال في سورة آل عمران التي لم تكثر فيها الموضوعات كما كثرت في سورة البقرة، ولكنها اختلفت وتباعدت.
فالسورة تبدأ بإثبات التوحيد، وأن الله الذي لا إله إلا هو نزل على رسوله الكتاب بالحق وجعل فيه آيات محكمات وأخر متشابهات؛ فالذين زاغت قلوبهم يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، مع أن الله وحده هو العالم بتأويله، وأما الراسخون في العلم من المؤمنين فيؤمنون بالكتاب كله محكمه ومتشابهه، وبأنه جاء من عند الله، يفهمون منه ما يستطيعون ويكلون ما تشابه منه إلى الله.
ثم أخذت السورة في ذم الكافرين وتخويفهم، وبينت ما يفتن الناس في الحياة الدنيا ويوبق بعضهم في الكفر وبعضهم في المعصية.
وذكرت اليهود وذمت بعض أعمالهم ونهت المؤمنين أن يتولوا الكافرين ورغبتهم في اتباع النبي؛ لأنه دليل على حبهم لله، وحذرهم الله نفسه فيها، وعلم نبيه والمؤمنين ما يدعون الله به من أنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ومن أن بيده الخير ومن أنه على كل شيء قدير، ومن أنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويرزق من يشاء بغير حساب.
ثم قص الله فيها ما كان من استجابته لزكريا حين وهب له يحيى، وما جعل له من آية على ذلك، ثم قص أنباء مريم والمسيح في شيء من التفصيل واسع، ثم جادل أهل الكتاب من النصارى وأمر النبي أن يباهلهم إن حاجوه فيما جاءه من عند الله في أمر المسيح، وأن يدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ألا يعبدوا إلا الله وألا يشركوا به شيئا وألا يتخذ بعضهم أربابا من دون الله، وأن يشهدهم - إن أبوا - أنه وأصحابه مسلمون لله.
ثم مضى في حديث أهل الكتاب من النصارى واليهود، فذكر شيئا من أخلاقهم وسيرتهم، وفرق بين الأمناء منهم والخائنين، ثم ذكر إسرائيل وأنه أحل له الطعام كله إلا ما حرم هو على نفسه من قبل أن تنزل التوراة. ثم فرض الحج على المسلمين من استطاع إليه سبيلا، وذكر أن فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأن من دخله كان آمنا وأنه أول بيت وضع للناس.
ثم أمر المؤمنين أن يعتصموا بحبل الله جميعا ولا يتفرقوا، وأن يذكروا ما كانوا عليه من القلة والضعف قبل أن يكثرهم ويؤمنهم. وكلفهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وذكر المؤمنين والكافرين بيوم القيامة وما يكون فيه من نجح للمؤمنين وخزي للكافرين.
كل هذا يأتي أثناء محاجة اليهود. ثم يفرق بين أهل الكتاب فمنهم المؤمنون الصالحون الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات. ومنهم الكافرون الذين يجحدون الحق وينسون نعمة الله عليهم ويشاقون الله ورسوله. ثم يحذر المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين الذين يبغضونهم، ويعضون عليهم الأنامل من الغيظ، ولا يألونهم خبالا، يفرحون إن أصابت المؤمنين سيئة، ويستاءون إن أصابتهم حسنة، ويودون لو استطاعوا أن يردوا المؤمنين بعد إيمانهم كفارا، وهم مع ذلك يعلنون الإيمان ويجهرون به. ثم ينهى الله المؤمنين أن يأكلوا الربا أضعافا مضاعفة، ويحذرهم النار، ويأمرهم بطاعة الله ورسوله والمسارعة إلى مغفرة من ربهم وإلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ثم يذكر وقعة أحد ويلوم المنهزمين فيها من المسلمين ويعفو عنهم. ويمضي في أنباء هذه الوقعة وما كان بعدها وتثبيت قلوب المؤمنين وتهيئتهم لما سيبلون به في أنفسهم وأموالهم ولما سيسمعون من أذى المشركين واليهود، ويبشرهم بما أعد الله للشهداء عنده من حياة راضية. ويذكرهم بآياته ثم يرغبهم في الصبر ويأمرهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويتقوا الله لعلهم يفلحون.
فهذه السورة اشتملت فيما عدا الوعظ والتخويف على ما قص الله من أمر المسيح وأمه وعلى محاجة النصارى واليهود وعلى قصة أحد. فمن البين أن هذه الموضوعات لم تنزل آياتها جملة، وإنما نزلت منجمة حسب الظروف والأحداث، وقل مثل هذا في سائر سور القرآن الكريم.
فكل سورة يتحد موضوعها أو تتداعى موضوعاتها تداعيا شديدا ويلتزم فيها نسق بعينه فيرجح أنها نزلت جملة.
وكل سورة تختلف موضوعاتها وتتباعد ولا تتداعى ولا يلتزم في آياتها نسق بعينه فيرجح أنها نزلت منجمة.
والقرآن كله من عند الله، وهو وحدة في روحه وفي إعجازه مهما يختلف تنزيل سوره، ومهما تختلف موضوعات السور ومذاهب القول فيها.
واختلاف مذاهب القول في القرآن دليل قوي من دلائل الإعجاز؛ فللقرآن وحدته من حيث إنه يدعو دائما إلى أصول معينة: إلى توحيد الله، ونبذ الشرك على اختلاف صوره، والإيمان بمحمد
صلى الله عليه وسلم
وما جاء به من القرآن، والإيمان بالرسل الذين جاءوا قبل محمد وما أنزل عليهم من الكتب، والإيمان بالبعث وبالحياة الآخرة بعد هذه الحياة الأولى وما يكون فيها من ثواب ونعيم لمن أجابوا دعوة الله، ومن عذاب وجحيم لمن أعرضوا عن هذه الدعوة ونفروا منها واستكبروا على الله ورسوله. ثم هو يأمر الناس بأن يقيموا حياتهم على هذه الأسس، حياتهم فيما بينهم وبين نفوسهم بحيث يبرءون من الرذائل كلها كبارها وصغارها فلا يضمرون في أنفسهم منها شيئا، وحياتهم الظاهرة فيما يكون بينهم وبين غيرهم من الناس فلا يظلمون ولا يستعلون ولا يؤثرون الشر، وإنما ينبذونه ما استطاعوا إلى نبذه سبيلا ويؤثرون عليه الخير وحده فيحسنون إلى الوالدين ويتجنبون الإساءة إليهما حتى ولو كانا مشركين. ففي هذه الحال يخالفونهما إلى الإيمان ويعاشرونهما في الدنيا معروفا. ويبرون أولي القربى ويرحمون اليتامى والمساكين ويعطفون على الفقراء وأولي الحاجة ويعدلون فيما بينهم وبين نظرائهم من صلة. والناس جميعا نظراؤهم مهما تكن منزلتهم الاجتماعية؛ فالفقير نظير الغني والضعيف نظير القوي والرقيق نظير الحر، لكل حقوق يجب أن تؤدى إليه وعلى كل واجبات يجب أن يؤديها. والمهم أن يلائم الإنسان بين إيمانه بالله الواحد القوي العالم بكل شيء القادر على كل شيء وما أعد من خير للمحسنين وما أعد من شر للمسيئين، أن يلائم بين إيمانه الصادق بهذا كله وبين ما يخفي وما يظهر من ذات نفسه وما يأتي من الأعمال وما يدع منها. ومن أجل هذا يشرع الله للناس في القرآن من الأحكام والأصول ما يبين لهم السبيل إلى هذه الملاءمة ويمهد لهم الطريق إلى أن يقيموا حياتهم على السلم الكاملة بينهم وبين الله ما عاشوا في هذه الدنيا.
والنفس المطمئنة التي ذكرها الله في سورة الفجر ودعاها إلى أن ترجع إلى ربها راضية مرضية، وإلى أن تدخل في عباده وتدخل جنته إنما هي هذه النفس التي صدقت في إيمانها بالله ورسله وكتبه وثوابه وعقابه، وأخلصت هذا الإيمان واطمأنت إليه فعاشت في سلم مع الله لا تحاربه بالمعصية حربا ظاهرة أو باطنة.
وأما النفوس الأخرى التي لم تطمئن إلى إيمان ولم تستقم على ما أمرت به، وإنما جارت عن القصد والتوت بها السبل فهي تظهر السلم وتضمر الحرب فتعلن الإسلام وتضمر الكفر أو تضمر الإيمان ولكنها لا تثبت له ولا تقوى عليه، وإنما تقترف الآثام وتجترح السيئات وتستجيب لشهواتها فتجور وقد أمرت بالعدل، وتفجر وقد أمرت بالبر، وتعصي وقد أمرت بالطاعة.
كل هذه النفوس محاربة لله حربا خفية أو ظاهرة بالقياس إلى الناس، ولكنها جلية بينة بالقياس إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور. وفي بيان ذلك يقول النبي
صلى الله عليه وسلم
فيما روى الشيخان: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن.» يريد أن ارتكاب الكبائر لا يكون من الإنسان وهو مستحضر إيمانه بالله ورسوله وما أعد من ثواب وعقاب. فلو قد استحضر الإنسان هذا الإيمان لصده عن الفواحش، ولكن غرائزه تطغى على نفسه كلها فتجور بها عن الطريق، ثم يثوب الإنسان إلى نفسه أحيانا فيندم ويأسى ويتوب إلى الله ويسأله العفو والمغفرة.
إلى هذا كله وإلى أكثر من هذا كله، دعا الله في القرآن في تفصيل أي تفصيل، وفي ترغيب للراغبين وترهيب للراهبين، وتخويف للذين تغرهم أنفسهم وتزدان في أعينهم زهرة الحياة الدنيا فيفتنون بها. فلا غرابة في أن تختلف مذاهب القوم في القرآن باختلاف الموضوعات وباختلاف المقامات أيضا، وإنما الغرابة في التزام مذهب واحد من مذاهب القول في التشريع والقصص والتبشير والإنذار والموعظة اللينة واللوم العنيف. وهذا التنوع في مذاهب القول بتنوع الموضوعات والمقامات هو الذي يسميه أصحاب البيان في اللغة العربية وفي غيرها أيضا مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فالإنذار بقيام الساعة وما يكون فيه من الهول، وبيوم الحساب وما يكون فيه من الشدة يقتضي أن يكون القول من القوة والأيد بحيث يملأ القلوب رعبا، ولا سيما حين يكون النذير متجها إلى الملحين في الإنكار والعناد والمكابرة. وأنت تقرأ من هذا الإنذار الشديد المروع في القرآن شيئا كثيرا. واقرأ إن شئت طائفة من السور القصار في آخر المصحف فسترى تصوير الهول قد بلغ من القوة ما يملأ النفوس رهبا ورعبا.
واقرأ إن شئت ما جاء في سورة التكوير والانفطار والانشقاق، وانظر إلى ما فيها من هذه الآيات القصار المتلاحقة التي تنصب على السامعين كأنها الصواعق المتتابعة. واقرأ إن شئت في السور الطوال والقصار جميعا بعض الآيات التي يستحضر فيها يوم الحساب وما يكون فيه من الهول المروع للمجرمين ومن الأمن الآمن للمؤمنين، فسترى الشدة كل الشدة واللين كل اللين وستراهما متجاورين، وستحس كأنك تشهد ما أعد للمجرمين من هول وما أعد للمؤمنين من أمن فتضطرب نفسك أشد الاضطراب بين الرهب والرغب وبين الخوف والأمن. وقلما يفترق الترهيب والترغيب في القرآن وإنما يوشكان أن يجتمعا دائما. ولأمر ما كان هذا الاجتماع، فالله لا يوئس الكافرين من رحمته حتى يفتح لهم باب الأمل فيها ويمد لهم أسبابه إليها. فليس بين الكافر الجاحد المعاند الذي يرى عذابه كأنه حاضر بين يديه وبين الجنة ونعيمها إلا أن يؤمن.
فالكافر بين شيئين يكاد يراهما رأي العين حين يتلى عليه القرآن: عن يمينه جنة فيها الأمن والرضى والنعيم، وعن شماله النار فيها الهول والروع والعذاب وما عليه إلا أن يختار. والله لا يوئس المؤمن العاصي وإنما يجعل بين يديه خطيئته التي تكبه على وجهه في النار وتوبته التي تسعى به إلى الجنة. والله يبين للكافرين وللعصاة من المؤمنين أنه غفور رحيم وأن رحمته وسعت كل شيء، وأن السبيل إلى رحمته هو أن يؤمن الكافر وأن يتوب المؤمن ويصلح، وكلاهما مختار بين ما يدخله الجنة وما يوقعه في النار.
وقف إن شئت عند كل موضوع عرض له القرآن فسترى من ملاءمة القول للموضوع وللمقام مثل ما بينت لك آنفا.
ولو ذهبت أصف فنون الإعجاز في القرآن وملاءمة كل مذهب من مذاهب القول فيه لما فرغت من هذا الحديث. والقرآن بعد ذلك بين يدي كل ذي بصيرة يستطيع أن يقرأه وأن يقف عند سوره وآياته متدبرا متأملا مستبصرا، فسيرى من غير شك أني لم أبلغ من وصف القرآن وإعجازه بعض ما أريد، وإعجاز القرآن شيء يشعر به القلب وتمتلئ به النفس ويذعن له الضمير ويعجز عن وصفه القلم واللسان.
وواضح أني لم أرد في هذا الحديث إلا أن أصور تصويرا مقاربا موقع القرآن من قلوب الذين سمعوه حين كان النبي يتلوه على الذين استجابوا له والذين امتنعوا عليه، ولم يكن امتناعهم عليه إلا إمعانا في العناد ولجاجا في المراء.
ولننتقل الآن إلى الأصل الثاني من أصول الإسلام وهي السنة.
3
أشرت في أول الكتاب الثاني أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد أرسل بشيرا ونذيرا وشاهدا على أمته وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا؛ كما نص الله عز وجل ذلك في سورة الأحزاب.
وأريد أن أبين في هذا الفصل أن ما ثبت من سنة النبي قولا وعملا إنما هو خلاصة تبشيره وإنذاره وشهادته ودعوته إلى الله، وأن أبين أيضا أن النبي كان كما أشرت إلى ذلك في أول هذا الكتاب معلما حياته كلها منذ بعث إلى أن آثره الله بجواره. كان يتلو القرآن على المسلمين ويفسر لهم منه ما يحتاج إلى تفسير، ويفصل لهم منه ما كان مجملا يحتاج إلى التفصيل، وكان يعلم أحيانا عن أمر الله له في القرآن نصا. فالله يأمره أن ينبئ عباده بأنه هو الغفور الرحيم وبأن عذابه هو العذاب الأليم، وذلك في قوله من سورة الحجر:
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم .
ويأمره أن يقول لعباده إن سألوه عن الله إنه قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ويأمرهم أن يستجيبوا له ويؤمنوا به لعلهم أن يرشدوا، وذلك في قوله من سورة البقرة:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون .
ويأمره أن يقول لعباده الذين يسرفون على أنفسهم باقتراف الذنوب: لا تقنطوا من رحمة الله؛ لأنه يغفر الذنوب جميعا، ولأنه هو الغفور الرحيم. وذلك في قوله من سورة الزمر:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
وفي غير آية من القرآن الكريم يأمر الله النبي أن يعلم عباده أشياء كثيرة مما يريد أن يعلموها، سواء في ذلك ما كان أمرا لهم بالخير، أو نهيا لهم عن الشر، أو تثبيتا لقلوبهم، أو عصمة لهم من اليأس والقنوط.
وأحيانا يأمره أن يقول لهم أشياء ليس فيها أمر ولا نهي ولا تثبيت للقلوب، وإنما فيها مجرد العلم، مثل قوله في سوره الكهف:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا .
فهو في هذه الآية لا يأمرهم ولا ينهاهم، ولا يثبت قلوبهم ولا يذود عنهم اليأس، وإنما يعلمهم أن كلامه أزلي خالد لا سبيل إلى إحصائه ولا إلى انقضائه، حتى ولو حاول الناس كتابته بمداد يشبه في كثرته ما في البحر من الماء، حتى ولو مد هذا البحر ببحر آخر مثله.
وفي موضع آخر من القرآن يذكر الله هذا المعنى في تفصيل أكبر وأشمل، ويتحدث هو إلى الناس في الآية الكريمة من سورة لقمان:
ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم .
وأحيانا أخرى يوجه الله عز وجل الحديث إلى الناس ولا ينص أمره بتكليف النبي أن يعلمهم كذا أو كذا. ولكنه على ذلك قد اختاره لرسالته وأمره أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه وأن يبلغه كاملا كما أنزل إليه لا يزيد فيه ولا ينقص منه.
وهذا الأمر نفسه يقتضي أن يبلغ النبي نص ما أنزل إليه كما ألقي في قلبه، وأن يبينه للناس حين يحتاجون إلى بيانه، وهو بينه للناس بما يلقي الله في قلبه من العلم.
فالله يأمر المؤمنين أن يقيموا الصلاة، ويأمرهم أن يؤتوا الزكاة، ولكنه لا يبين لهم في القرآن كيف تؤدى الصلاة، ولا يبين لهم مواقيتها في تفصيل ولا يبين لهم عدد الركعات في كل صلاة، وإنما يعلم نبيه هذا كله بما يلقي في قلبه من المعرفة. وعلى النبي أن يعلم الناس مما علمه الله، ولا يخفي عليهم منه شيئا يمكن أن ينفعهم في الدنيا والآخرة إن فعلوه، أو يمكن أن يضرهم في الدنيا أو الآخرة إن اقترفوه. فالنبي حين يصلي الصبح ركعتين بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس إنما يفعل ذلك عن أمر ربه، ويفعله لأداء واجب عليه، ثم ليعلم الناس كيف يؤدون ما يجب عليهم من الصلاة لله تعالى.
وقل مثل ذلك في سائر الصلوات المكتوبة. وهو حين يصلي بعض النوافل قبل أداء المكتوبة أو بعدها إنما يفعل ذلك عن تعليم الله له، وليعلمه للناس على أنه ليس حتما عليهم، بل هو مستحب منهم. وهو حين يبين النصاب الذي تجب فيه الزكاة من المال، ومقدار ما يطلب في هذه الزكاة، إنما يبين ذلك للناس عن أمر ربه أيضا.
وقل مثل ذلك في كل ما أجمله القرآن وفصله النبي بتعليمه للناس بالقول أحيانا وبالعمل أحيانا وبهما جميعا أحيانا أخرى.
وقد بين الله للناس كيف يؤدون إليه حقه عليهم من صيام رمضان، فأمرهم أن يحيوا حياتهم المألوفة ليلا حتى إذا تبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر صاموا عن الطعام وعن أشياء أخرى مما ألفوا إلى الليل.
ولكن هذا الصيام الذي بينه الله وبين ما رخص فيه لمن كان مريضا أو على سفر لم يفصل في القرآن كل التفصيل، فالناس يألفون أشياء كثيرة في حياتهم كلها مباح لهم ولم يحظر الله على الناس من هذه الأشياء في القرآن إلا الطعام والشراب والرفث. وفصل النبي للمؤمنين سائر ما يجب عليهم أو يحسن بهم أن يجتنبوه وما لا حرج في أن يأتوه، وقل مثل ذلك في الحج وفي كل ما أمر الله به أو نهى عنه إجمالا أو تفصيلا.
فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
إذن أول مفسر للقرآن، وهو فسر القرآن بالقول وبالعمل، ولأمر ما جعلت كتب الحديث بين أبوابها بابا نقلت فيه ما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
من قول أو عمل بمناسبة سورة أو آية من القرآن. والله قد طلب إلى الناس في القرآن أن يؤمنوا به وبرسوله محمد
صلى الله عليه وسلم
وبالأنبياء والرسل الذين جاءوا قبل محمد وبما أنزل من كتب قبل القرآن، وأن يؤمنوا باليوم الآخر وما يكون فيه من الحساب والثواب والعقاب وأن يؤمنوا بالملائكة، فقال في الآية الكريمة من سورة البقرة:
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير .
وقال في أول السورة نفسها في بيان المتقين:
الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون * أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون .
والله ذكر الإسلام فقال في سورة آل عمران:
إن الدين عند الله الإسلام .
وقال في سورة الأنعام:
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون .
وذكر الله في غير موضع من القرآن أن إبراهيم قد أسلم وجهه لله، وأنه لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين، قال في سورة آل عمران:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
وقال في سورة البقرة على لسان إبراهيم:
ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم * ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون * تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون * وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين * قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم .
فالله يثبت في هذه الآيات دعاء إبراهيم وإسماعيل أثناء رفعهما القواعد من البيت أن يجعلهما الله مسلمين له، وأن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة له، وأن يبعث في هذه الأمة رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، وينبئنا بعد ذلك بأن أبناءه وأحفاده ظلوا مسلمين من بعده، وأن يعقوب قد وصى بنيه بالإسلام وامتحنهم فيه حين حضره الموت.
ثم ينبئنا بأن أهل الكتاب يزعمون أن من أراد الهدى فعليه أن يكون يهوديا أو نصرانيا، ثم يأمر الله نبيه أن يرد عليهم بقوله:
بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .
ويأمر المؤمنين بأن يعلنوا إيمانهم بالرسل والنبيين من قبلهم، وبما آتاهم ربهم من كتاب وعلم ودين وأنهم مسلمون لله.
ويقول الله في سورة الحج:
يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير .
فإبراهيم إذن هو الذي سمى المؤمنين مسلمين، وهو أبوهم، وقد كان مسلما. وقد قرأت آنفا ما قص الله من دعائه في سورة البقرة، ودعاء إسماعيل معه، حين سألا ربهما أن يجعلهما مسلمين له ويجعل من ذريتهما أمة مسلمة له.
فالله إذن قد ذكر الإيمان والإسلام في هذه الآيات التي تلوناها ولم يفرق بينهما. كلاهما فيه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد في سبيل الله وفعل الخير، وأداء كل ما يأمر الله به، واجتناب كل ما نهى الله عنه. والله قد ذكر الإيمان والإسلام في آيات أخرى كثيرة من القرآن ولم يفرق بينهما. فقال في سورة «المؤمنون» بصف الذين آمنوا حق الإيمان وهو بذلك يعرف الإيمان تعريفا عمليا بأنه أداء ما أمر الله به واجتناب ما نهى عنه:
قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون * والذين هم عن اللغو معرضون * والذين هم للزكاة فاعلون * والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون * والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون * والذين هم على صلواتهم يحافظون * أولئك هم الوارثون * الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون .
ويقول الله في سورة الأحزاب:
إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما .
فهو في هذه الآية يعطف المؤمنين على المسلمين، وفي هذا العطف إشارة إلى أن بين الإسلام والإيمان شيئا من الاختلاف. وليس من الضروري أن يكون هذا الاختلاف تناقضا أو تغايرا بين اللفظين، وإنما يمكن أن يأتي الاختلاف من أن بين معنى هاتين الكلمتين شيئا من الافتراق في الزيادة والنقص. فمعنى إحدى الكلمتين أكمل من معنى الكلمة الأخرى. ثم يعدد الله في هذه الآية الكريمة صفات كلها يدخل في معنى الإيمان وفي معنى الإسلام، فهي تدل على أوامر من الله يجب أن تؤدى ونواه من الله يجب أن يجتنب ما تنهى عنه.
على أن الله يوضح الفرق بين الإسلام والإيمان توضيحا لا يحتمل نزاعا في قوله من سورة الحجرات:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم .
فأولئك الأعراب الذين أعلنوا أنهم آمنوا، يأمر الله نبيه أن يرد عليهم بأنهم لم يؤمنوا، ويأذن لهم في أن يقولوا أسلمنا، وإن كان الإيمان لم يدخل في قلوبهم بعد. ثم يعلن إليهم أنهم إن يطيعوا الله ورسوله لا ينقصهم الله من أعمالهم شيئا، وإنما يوفيهم أجر ما عملوا كاملا يوم القيامة؛ ذلك أن الله غفور رحيم.
وإذن فقد كان في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
مؤمنون ومسلمون، فما عسى أن يكون الفرق بين الإيمان والإسلام؟ فأما الإيمان فالظاهر من هذه الآية الكريمة نفسها أنه شيء في القلوب قوامه إخلاص الدين لله من دخيلة النفس واستقرار التصديق بوجوده وبإرساله النبي وبكل ما أوحي إليه في أعماق الضمير. ونتيجة هذا الإيمان الاستجابة لله ولرسوله في كل ما يدعوان إليه، من غير جمجمة ولا لجلجة ولا تردد مهما تكن الظروف والخطوب والكوارث والأحداث على نحو ما ذكر الله من أمر المؤمنين الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح يوم أحد، فخرجوا مع النبي في أعقاب المشركين من قريش، على ما أصابهم من حزن، وما بذلوا في الموقعة من جهد وما كانوا عليه من قلة وضعف، والذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم هذا القول إيمانا، وصمموا على اتباع النبي وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذلك في قول الله في سورة آل عمران، بعد أن ذكر حياة الشهداء عنده:
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين * الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم * الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم .
ولازمة أخرى من لوازم هذا الإيمان ذكرها الله في سورة الأنفال، هي الخوف العميق من الله إذا ذكر اسمه، والثقة العميقة بالله إذا جد الجد، وازدياد التصديق إذا تليت آيات الله، وذلك في قوله:
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون .
فهذا هو الإيمان صورناه تصويرا مقاربا. فأما الإسلام فهو الطاعة الظاهرة لما يأمر الله ورسوله به وما ينهيان عنه، بأداء الواجبات واجتناب المحظورات، وإن لم يبلغ الإيمان الصادق من القلب المبلغ الذي وصفه الله في الآيات الكريمة التي أثبتناها آنفا. فمن الناس من يسلمون خوفا من البأس، كما أسلم الطلقاء من قريش يوم فتح مكة، ومنهم من يسلم خوفا وطمعا كالأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الحجرات، وجائز أن يصير هذا الإسلام إلى الإيمان على مر الزمن؛ ومن أجل ذلك اصطنع الله لفظ «لما» في قوله في الآية التي أثبتناها آنفا بشأن هؤلاء الأعراب:
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، فكل مؤمن مسلم؛ لأنه يصدق تصديقا عميقا ويطيع الطاعة الظاهرة والباطنة. وليس كل مسلم مؤمنا. والإسلام كما شرحناه آنفا هو الذي يعصم نفوس أصحابه وأموالهم من النبي ومن أولي الأمر بعده إلا بحقها وحسابهم على الله.
ذلك أن النبي كان كثيرا ما يستأذن في قتل المنافقين أو من يظهر منهم الشك فيأبى ويقول: إني لم أومر بالتنقيب عما في قلوب الناس.
والإيمان يزيد وينقص ولا داعي لتكلف الدليل على ذلك، فقد نص الله ذلك في القرآن في الآية التي أثبتناها آنفا من سورة الأنفال حيث يقول:
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ، وفي الآية التي أثبتناها أيضا من سورة آل عمران حيث يقول الله:
الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل .
وما تجوز عليه الزيادة يجوز عليه النقص، ومن أجل هذا يذكر في حديث الشفاعة أن الله يقول لنبيه حين يشفع عنده في أمته: اذهب فأخرج من النار من كان في قلبه مقدار حبة من إيمان. ثم يقول له آخر الأمر: اذهب فأخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان.
والإسلام كذلك يضيق ويتسع، فإسلام إبراهيم عليه السلام لم يكن طاعة ظاهرة تؤديها الجوارح وإنما كان طاعة واسعة عميقة تملأ القلب وتمتزج بالنفس وتسخر لها الجوارح ويقدم لها على ما لا يقدم الناس عليه إلا بالجهد كل الجهد واستكراه النفس عليه أشد الاستكراه. ومن أجل ذلك قدم إبراهيم ابنه ضحية، وكاد يبلغ من ذلك غايته لولا أن كفه الله عن ذلك فناداه: أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. ثم فداه بذبح عظيم.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
مسلما وكان سائر الأنبياء مسلمين كما رأيت منذ حين. فلم يكن إسلام الأنبياء جميعا طاعة ظاهرة، وإنما كان إسلامهم أوسع وأعمق وأصدق ما يمكن أن يكون الإسلام.
وإسلام الصالحين من أصحاب النبي كذلك لم يكن كإسلام الأعراب ضيقا يقف عند الطاعة الظاهرة وإنما كان أوسع وأعمق من هذا.
ومن أجل ذلك تحدث الله عنهم في القرآن حين قال في سورة الفتح:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ؛ فهم قد كانوا بايعوا رسول الله على الموت، طابت أنفسهم عن ذلك استجابة لله ورسوله. وتحدث الله عنهم أيضا بأنه رضي عنهم ورضوا عنه.
وللإسلام بعد ذلك معنى آخر أخص جدا من هذا، فهو علم على الدين الذي يرضاه الله لعباده.
وقد نص الله ذلك في قوله من سورة المائدة:
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وفي قوله من سورة آل عمران:
إن الدين عند الله الإسلام .
وقد ذكر الله شيئا ثالثا في القرآن وهو الإحسان وذلك في قوله من سورة النحل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
وفي الآية التي أثبتناها من سورة آل عمران حيث يقول:
الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم .
وفي كل آية ذكر الله فيها:
لا يضيع أجر المحسنين ، أو أنه «يجزي المحسنين» أو أنه
يحب المحسنين
كل هذا يدل على الإحسان؛ لأن لفظه مشتق منه ولأن معناه يلائم ما أمر الله به.
والإحسان هو أن يبلغ الإنسان في الطاعة حتى يصل منها إلى أقصى ما يطيق لا يفتر ولا يكسل ولا يقصر، بل يجتهد بقلبه ونفسه وجوارحه ما وجد إلى الاجتهاد سبيلا.
فهذه كلمات ثلاث في القرآن: الإيمان والإسلام والإحسان، يكثر استعمالها وتتقارب معانيها، وقد عرفها النبي
صلى الله عليه وسلم
فلم يجعل في واحدة منها شكا. وذلك في الحديث الذي رواه الشيخان عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : خمس صلوات في اليوم والليلة. فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تتطوع. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : وصيام رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تتطوع. قال: وذكر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الزكاة. قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تتطوع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أفلح إن صدق.»
فهذا الحديث يفسر الإسلام الذي كان عليه الأعراب، وهو هذه الطاعة الظاهرة في أداء الفرائض واجتناب المحظورات.
ولكن لأبي هريرة حديثا أجمع من حديث طلحة وإن كنت أخشى أن يكون في آخره شيء من تزيد وقد رواه الشيخان أيضا، قال أبو هريرة: كان النبي
صلى الله عليه وسلم
بارزا يوما للناس فأتاه رجل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه وبرسله وتؤمن بالبعث. قال: وما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها: إذا ولدت الأمة ربها، وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان، في خمس لا يعلمهن إلا الله. ثم تلا النبي
صلى الله عليه وسلم :
إن الله عنده علم الساعة
الآية. ثم أدبر. فقال: ردوه. فلم يروا شيئا، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم.
والقسم الأول من الحديث هو الذي يعنينا؛ لأنه مطابق للقرآن فالإيمان - كما وصفه النبي
صلى الله عليه وسلم - هو الذي ذكره الله في الآية المتقدمة من سورة البقرة، وكذلك الإسلام والإحسان. والله عنده علم الساعة - ما في ذلك شك - لأنه منصوص في القرآن، فأما أشراطها التي جاءت في الحديث، وأن الرجل الذي جاء يسأل النبي كان جبريل أقبل يعلم الناس دينهم فإنا نتركه لأبي هريرة ولمن روى عنه يحملون تبعته.
وفي حديث آخر - يرويه الشيخان عن عبد الله بن عمر - يذكر النبي الأركان الخمسة للإسلام فيقول: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان.
وهذه الأركان كغيرها من الأعمال التي أمر الله بها أو ندب إليها. والتي علمها النبي لأصحابه لا تقبل من أصحابها إلا إذا حسنت نيتهم وصدق إيمانهم حين يؤدونها. ومن أجل ذلك قال النبي في الحديث الذي يروى عن عمر، والذي يوشك ثقاة المحدثين أن يجمعوا على صحته حتى قال بعضهم إنه متواتر: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه.» ومعنى هذا أن إخلاص النية لله فيما يؤدي الإنسان من الفرائض وما يأتي من أعمال الخير والبر شرط لصحة ما يأتي وما يدع، وقبول ذلك من الله عز وجل. والنية لا تكون بالألسنة وحدها، وإنما يجب أن تكون في أعماق القلوب سواء أنطق بها الإنسان أم لم ينطق.
ومن أجل هذا كله تأذن الله أن أعمال المنافقين لا تقبل وأنبأ بأنهم في الدرك الأسفل من النار وقال لنبيه:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .
ونهاه آخر الأمر عن أن يصلي على أحد منهم مات أبدا أو يقوم على قبره؛ ذلك لأنهم كانوا يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر. وكانوا إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى لا ينشطون لها ولا يقبلون عليها من قلوبهم، كأنما كانوا يستكرهون عليها استكراها.
ولم يكتف النبي بتعليم الناس حقائق الإيمان والإسلام والإحسان، وإنما كان يعلمهم خصائص هذه الخصال الثلاث، وما ينبغي لأصحابها من العمل وما يجب عليه أن يجتنب في خاصة حياته وفي صلاته بالناس. فكان يعلمهم أن الإنسان لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكان يعلمهم أن من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينبغي له أن يؤذي جاره ولا أن يقصر في إكرام ضيفه، وكان يعلمهم أن جائزة الضيف يوم وليلة، وأن الضيافة ثلاثة أيام وأن ما زاد على هذه الأيام الثلاثة من القرى فهو صدقة على الضيف.
وكان يعلمهم حتى الأشياء التي بينها الله في القرآن بيانا لا لبس فيه؛ فالله قد بين الوضوء في الآية الكريمة من سورة المائدة:
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون .
فالله قد بين للناس في هذه الآية كيف يتوضئون للصلاة وأن عليهم أن يغتسلوا إن كانوا جنبا فإن لم يجدوا الماء للوضوء أو للاغتسال أو كان الماء يؤذيهم إن اصطنعوه لمرض يمنعهم من اصطناعه أو كانوا مسافرين فلهم أن يمسوا صعيدا طيبا وأن يمسحوا منه وجوههم وأيديهم إلى المرافق فذلك يجزئهم عن الوضوء والغسل جميعا. ثم بين الله تعالى في آخر الآية أنه لا يريد أن يشق على عباده وإنما يريد منهم أن يطهروا.
وعلى رغم ما في هذا كله من الوضوح فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يتوضأ للناس ليريهم كيف يتوضئون، وكان يتيمم لهم أيضا ليريهم كيف يتيممون. وكان يذكر لهم كيف يغتسلون، كل هذا ليكون المسلمون على ثقة مما يأتون ويدعون، وليكون النبي مؤديا لرسالته على أتم وجه وأحسنه، وكان يلح عليهم في النظافة؛ نظافة أجسامهم وثيابهم ومجالسهم، بل نظافتهم في حياتهم مع الناس، فكان ينهى الذين يأكلون البصل أو الثوم أو أي شيء تؤذي رائحته أن يدخلوا المسجد ويشهدوا صلاة الجماعة؛ حتى لا يؤذي بعضهم بعضا. وكان يرخص لهم في الصلاة فرادى في بيوتهم حتى يذهب عنهم ما يمكن أن يؤذي جلساءهم. وكان يلح عليهم أن تكون طرقهم التي يمشون فيها نظيفة، وينبئهم بأن إماطة الأذى عن الطريق فضيلة يكمل بها الإيمان.
وكان يكره لمن عنده فضل من الماء أن يمنعه ابن السبيل ومن تشتد حاجته إليه.
ثم كان يحثهم على الأمانة في معاملاتهم كلها في حفظ الودائع وأدائها إلى أصحابها وفي البيع والشراء وفي جميع أقوالهم وأعمالهم، وكان يشدد عليهم في العدل في صلاتهم كلها ويحرج على المختصمين بين يديه أن يجور بعضهم على بعض ولو بفصاحة الألسنة والبراعة في الجدل، وكان ينبئهم بأن من غلب خصمه باللسن أو قوة العارضة ثم قضي له بغير ما يستحق فإنما قضي له بقطعة من النار.
وكان بهذا كله ينفذ فيهم قول الله تعالى في سورة النساء:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا .
وكان يشدد في تخويف الحكام من الأئمة والولاة والقضاة بالعذاب الشديد إن جاروا في الرعية ولم يرفقوا بها ولم يرعوا العدل في أحكامهم؛ تنفيذا لقول الله في الآية الكريمة من سورة النحل:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .
ولم يكن شيء أبغض إليه من نقض العهود والحنث في الأيمان، يبين للناس قول الله من سورة النحل:
وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون * ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون .
وكان شديد الحياء جدا وكان شديدا فيه على أصحابه، وكان يقول لهم إن الحياء شعبة من الإيمان، ثم كان لا يدع صغيرة أو كبيرة من أعمال الناس في حياتهم العامة والخاصة إلا بين لهم ما يحسن أن يأتوا منها وما يحسن أن يتركوا، وكان يعظهم فيبلغ في الموعظة حتى يوشك أن يشرف بهم على اليأس. ثم يبشرهم فيبلغ في تبشيرهم حتى يفتح لهم أبواب الرجاء على مصاريعها. وكان كثيرا ما يقول لأصحابه: لو تعلمون ما أعلم لضحكتكم قليلا ولبكيتم كثيرا.
ثم كان يحب اليسر في الأمر كله لا يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وكان يقول لأصحابه: إنما بعثتم ميسرين لا معسرين. وكان يكره الغلو في الدين وتجاوز القصد في العبادة، بلغه أن رجلا من أصحابه ومن خيارهم هو عبد الله بن عمرو بن العاص أزمع أن يصوم الدهر ويقوم الليل فراجعه في ذلك أشد المراجعة، وذكره بأن لجسمه عليه حقا ولأهله عليه حقا، وما زال به حتى ألزمه بعدما رأى من تشدده أن يصوم يوما ويفطر يوما، وأنبأه أن ذلك كان صيام نبي الله داود.
وأبى على رجل من كرام أصحابه - هو عثمان بن مظعون - أن يترهب ويعتزل أهله.
وكان هو يشتد على نفسه في العبادة فيقوم كثيرا من الليل وربما واصل بين الليل والنهار في صيامه، وكان أصحابه يريدون أن يصنعوا صنيعه فينهاهم عن ذلك أشد النهي كراهة أن يشددوا على أنفسهم فيشدد الله عليهم. ويقول لهم في مواصلة الصوم: إني لست كهيئتكم إني أظل يطعمني ربي ويسقيني. يريد أن الله يمنحه من الصبر والجلد وحسن الاحتمال ما لا يمنح غيره من أصحابه.
ونحن نروي لك شيئا من موعظته لأصحابه لترى كيف كان يبلغ بوعظه أعماق النفوس ودخائل الضمائر.
قال لأصحابه ذات غداة: إنه أتاني الليلة آتيان وإنهما ابتعثاني وإنهما قالا لي: انطلق. وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتهدهد الحجر هاهنا، فيتبع الحجر، فيأخذه، فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان. ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل المرة الأولى.
قال: قلت لهما: سبحان الله! ما هذان؟
قال: قالا لي: انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه.
قال: ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى.
قال: قلت: سبحان الله! ما هذان؟
قال: قالا لي: انطلق. فانطلقنا، فأتينا على مثل التنور، فإذا فيه لغط وأصوات.
قال: فاطلعنا فيه، فإذا فيه رجال ونساء عراة، وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم، فإذا أتاهم ذلك اللهب ضوضوا.
1
قال: قلت لهما: ما هؤلاء؟
قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على نهر أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما يسبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا، فينطلق يسبح ثم يرجع إليه، وكلما رجع إليه فغر له فاه فألقمه حجرا.
قال: قلت لهما: ما هذان؟
قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على رجل كريه المرآة، كأكره ما أنت راء رجلا، مرآة، وإذا عنده نار يحشها ويسعى حولها.
قال: قلت لهما: ما هذا؟
قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
قال: فانطلقنا، فأتينا على روضة معتمة، فيها من كل نور الربيع، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط.
قال: قلت لهما: ما هذا؟ ما هؤلاء؟
قال: قالا لي: انطلق، انطلق.
قال: فانطلقنا فانتهينا إلى روضة عظيمة، لم أر روضة قط أعظم منها ولا أحسن.
قال: قالا لي: ارق فيها.
قال: فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة، فأتينا باب المدينة فاستفتحنا، ففتح لنا، فدخلناها فتلقانا فيها رجال، شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء، وشطر كأقبح ما أنت راء.
قال: قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر.
قال: وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض فذهبوا فوقعوا فيه، ثم رجعوا إلينا وقد ذهب ذلك السوء عنهم، فصاروا في أحسن صورة.
قال: قالا لي: هذه جنة عدن وهذا منزلك.
قال: فسما بصري صعدا، فإذا قصر مثل الربابة البيضاء.
قال: قالا لي: هذاك منزلك.
قال: قلت لهما: بارك الله فيكما، ذراني فأدخله. قالا: أما الآن فلا، وأنت داخله.
قال: قلت لهما: فإني قد رأيت الليلة عجبا، فما هذا الذي رأيت؟
قال: قالا لي: أما إنا سنخبرك: أما الرجل الأول الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر، فإنه الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة. وأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق. وأما الرجال والنساء العراة الذين في مثل بناء التنور فإنهم الزناة والزواني. وأما الرجل الذي أتيت عليه يسبح في النهر ويلقم الحجر، فإنه آكل الربا. وأما الرجل الكريه المرآة الذي عند النار يحشها ويسعى حولها فإنه مالك خازن جهنم. وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم
صلى الله عليه وسلم ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة.
قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله أوأولاد المشركين!
فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين.
وأما القوم الذين كانوا: شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم.
وهذا الحديث يرويه البخاري بالنص الذي رويناه ويوافقه عليه مسلم وتظهر فيه الصحة؛ لأنه لا يعدو ما أنذر الله به المذنبين من ألوان العذاب إلا أن يتوبوا ويصلحوا، ولأن قوة لفظه وحسن تمثيله وإشراق عبارته كل ذلك يلائم ما نعرف من فصاحة النبي وروعة بيانه.
ففكر في موقع هذا الكلام من قلوب أصحاب النبي حين سمعوه، وكيف خوف حتى ملأ القلوب رعبا، وكيف رغب حتى ملأ النفوس أملا.
وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
ربما عاقب بعض أصحابه فأبلغ في عقابهم عن أمر الله له بذلك إمعانا في تأديبهم وضنا بهم أن يشبهوا المنافقين في قليل أو كثير.
فهؤلاء الثلاثة الذين كانوا من خيار أصحابه والذين تخلفوا عن النبي ولم يخرجوا معه في غزوة تبوك، وإنما أقاموا في المدينة وانتظروا فيها عودة النبي إليها فصنعوا صنيعا يشبه صنيع المنافقين من أهل المدينة وممن حولها من الأعراب، أولئك الذين رغبوا بأنفسهم عن رسول الله واستحبوا الراحة على العناء والجهد وأشفقوا على أنفسهم من عواقب الحرب، وأولئك الذين ذكرهم الله في آيات كثيرة من سورة التوبة يلومهم ويعنفهم ويأمر نبيه ألا يصلي عليهم إن ماتوا ولا يقوم على قبورهم، ويأمره كذلك ألا يقبل منهم الخروج معه بعد هذا الذنب.
وقد كره الله ورسوله لهؤلاء الثلاثة من المؤمنين الصادقين أن يظهر من صنيعهم شيء يشبه قليلا أو كثيرا صنيع المنافقين.
وقد ذكر الله توبته على هؤلاء الثلاثة، ولكن بعد أن أدبهم النبي فأبلغ في تأديبهم نصحا لهم أولا وموعظة للمؤمنين الصادقين بعد ذلك.
والآيتان اللتان ذكرت فيهما توبة الله على هؤلاء الثلاثة هما قول الله عز وجل:
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم * وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم .
وكان كعب بن مالك الأنصاري وأحد المنافحين عن النبي بشعره أحد هؤلاء الثلاثة، وقد حفظ لنا الشيخان قصة تخلفه، كما تحدث هو بها، وليس أبلغ منها في بيان تأديب النبي لأصحابه، فنرويها لك هنا لترى كيف كان النبي يشتد على الصادقين من أصحابه حين تجب الشدة عليهم؛ تمحيصا لقلوبهم وتنقية لضمائرهم.
قال كعب: لم أتخلف عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتب أحدا تخلف عنها. إنما خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يريد عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. ولقد شهدت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام. وما أحب أن لي بها مشهد بدر وإن كانت بدر أذكر في الناس منها. كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة. والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، يريد غزوة إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفازا وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم. فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان.
قال كعب: فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن يستخفي له، ما لم ينزل فيه وحي الله. وغزا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تلك الغزوة، حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، فأقول في نفسي: أنا قادر عليه. فلم يزل يتمادى بي، حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم. فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز، فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم. وليتني فعلت! فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلا مغموصا عليه النفاق، أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: «ما فعل كعب؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله! حبسه برداه ونظره في عطفه. فقال معاذ بن جبل، بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرا. فسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك: فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني همي، وطفقت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخطه غدا؟ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أظل قادما زاح عني الباطل وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه، وأصبح رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فيركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فقبل منهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علانيتهم، وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. فجئته، فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب، ثم قال: تعال. فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ فقلت: بلى، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أن سأخرج من سخطه بعذر. ولقد أعطيت جدلا، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني، ليوشكن الله أن يسخطك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله. لا والله، ما كان لي من عذر، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت ألا تكون اعتذرت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بما اعتذر إليه المتخلفون. قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لك. فوالله ما زالوا يؤمنونني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي.
ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي أحد؟ قالوا: نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. فقلت: من هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي. فذكروا لي رجلين صالحين، قد شهدا بدرا، فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي.
ونهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس، وتغيروا لنا، حتى تنكرت في نفسي الأرض فما هي التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة.
فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فأسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا! ثم أصلي قريبا منه فأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة وهو ابن عمي وأحب الناس إلي فسلمت عليه، فوالله ما رد علي السلام، فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلمني أحب الله ورسوله؟ فسكت فعدت له فنشدته فسكت. فعدت له فنشدته، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسورت الجدار.
قال: فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول: من يدل على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له، حتى إذا جاءني، دفع إلي كتابا من ملك غسان، فإذا فيه: «أما بعد، فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحق بنا نواسك.» فقلت لما قرأتها: وهذا أيضا من البلاء. فتيممت بها التنور فسجرته بها، حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين، إذا رسول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يأتيني، فقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يأمرك أن تعتزل امرأتك. فقلت: أطلقها؟ أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي مثل ذلك، فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر.
قال كعب: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربك. قالت: إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان، إلى يومه هذا. فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه! فقلت: والله لا أستأذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وما يدريني ما يقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا استأذنته فيها. وأنا رجل شاب؟ فلبثت بعد ذلك عشر ليال حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن كلامنا، فلما صليت صلاة الفجر، صبح خمسين ليلة وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقت علي نفسي وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صوت صارخ أوفى على جبل سلع، بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدا وعرفت أن قد جاء فرج. وآذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر. فذهب الناس يبشروننا وذهب قبل صاحبي مبشرون وركض إلي رجل فرسا وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل وكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعت له ثوبي، فكسوته إياهما ببشراه، والله ما أملك غيرهما يومئذ واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فيتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة يقولون: لتهنك توبة الله عليك.
قال كعب: حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جالس حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة.
قال كعب: فلما سلمت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك. قال: قلت أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله.» وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر. وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت، يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر.
فقلت: يا رسول الله! إن الله إنما نجاني بالصدق وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت. فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت.
وأنزل الله على رسوله
صلى الله عليه وسلم :
لقد تاب الله على النبي والمهاجرين
إلى قوله:
وكونوا مع الصادقين ، فوالله ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد أن هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد، فقال تبارك وتعالى:
سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم
إلى قوله:
فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين .
قال كعب: وكنا قد تخلفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حين حلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمرنا حتى قضى الله فيه.
فبذلك قال الله:
وعلى الثلاثة الذين خلفوا
وليس الذي ذكر الله مما خلفنا عن الغزو، إنما هو تخليفه إيانا وإرجاؤه أمرنا عمن حلف واعتذر إليه، فقبل منه.
فانظر إلى هذه القصة الرائعة وإلى ما فيها من العبر والموعظة، وإلى تأديب النبي لمن يحب من أصحابه الصادقين حين يحتاجون إلى التأديب؛ فهؤلاء الثلاثة قد تخلفوا ولم يكن لهم عذر من ضعف أو فقر أو عجز عن السفر، وإنما امتحنهم الله ببعض أعمالهم ليبلوهم ويطهر قلوبهم، وكان كثير من الناس قد تخلفوا عن هذه الغزوة، يعدهم كعب نيفا وثمانين رجلا. فلما عاد النبي إلى المدينة أقبل المتخلفون فجعلوا يتكلفون المعاذير ويقولون للنبي غير الحق، وجعل النبي يقبل معاذيرهم ويستغفر لهم؛ لأنه - كما كان يقول دائما - لم يؤمر بالتنقيب عما في قلوب الناس، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا أشد إيمانا بالله ورسوله، وأصدق حبا لهما من أن يضيفا إلى تخلفهم خطيئة الكذب على النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهم يعلمون حق العلم أن ضمائر المتخلفين المنافقين لم تكن لتخفى على الله، وأن الله جدير أن ينبئ رسوله بسرائرهم، فآثروا الصدق وفاء لدينهم، وإشفاقا أن يفضح الله كذبهم وتخلفهم فاعترفوا بذنوبهم، وسمع النبي منهم وأعلن أنهم صدقوه ولم يعف عنهم مع ذلك. ترك أمرهم إلى الله يقضي فيه بما يشاء، ثم لم يلبث أن أمعن في عقابهم فأمر المؤمنين ألا يكلموهم. وينظر هؤلاء الثلاثة فإذا هم قد اقتطعوا من الناس اقتطاعا، وإذا هم في عزلة بغيضة إلى نفوسهم كان السجن أهون منها. ومن أجل ذلك لزم اثنان منهم بيوتهما فلم يخرجا منها ولم يتعرضا لجفوة الناس، وإنما أقاما يؤديان الصلاة في بيوتهما ولا يشهدان جماعة المسلمين، ثم يبكيان أكثر وقتهما، وأما كعب فقد كان جلدا يحسن الاحتمال، فجعل يخرج ويغدو على الأسواق ويحتمل جفوة الناس متأذيا بها، كأنه يبالغ في تأديب نفسه بالعقاب الذي فرض عليه. وهو يذهب إلى ابن عم له من أصحاب النبي فينشده الله ثلاثا: أيعلم من أمره أنه محب لله ورسوله؟ فيسكت عنه ابن عمه حتى إذا ألح عليه كعب في المسألة أجابه بهذا الجواب اللاذع الممض: «الله ورسوله أعلم.» وما كان له أن يجيب بغير هذا فالنبي غاضب على هؤلاء الثلاثة وغضبه من غضب الله، ثم كان كعب يذهب إلى المسجد ويشهد صلاة المسلمين ويصلي بعض النوافل قريبا من مجلس النبي، ليرى أينظر النبي إليه أم يعرض عنه، وإذا هو يستكشف أن النبي ينظر إليه حين يقبل على صلاته، فإذا نظر إلى النبي أعرض عنه، ولكن النبي يرسل إليه ذات يوم وإلى صاحبيه من يبلغهم أن النبي يأمرهم أن يعتزلوا نساءهم.
وليس في هذا شيء من الغرابة، فنساؤهم مؤمنات وقد صدر الأمر إلى المؤمنين باعتزالهم، فليعتزلهم نساؤهم أيضا. فأما كعب فقد أرسل زوجه إلى أهلها حتى يقضي الله في أمرهم، وبعد أن مضت عليهم خمسون ليلة في هذه العزلة، وقد أخذ الندم من قلوبهم أقوي مأخذ، أنزل الله توبته عليهم في الآيتين الكريمتين اللتين أثبتناهما منذ حين، وابتهج المؤمنون كلهم لذلك، فكانوا يهنئون هؤلاء الثلاثة بتوبة الله عليهم، وقد فرح كعب بهذه التوبة فرحا لم يفرح مثله لشيء قبلها، وهم أن يتصدق بماله كله، فانظر إلى النبي يرفق به ويقبل منه الصدقة في وقت واحد، فيأمره أن يمسك بعض ماله ليعيش منه وينفق على أهله، وأن يتصدق بسائره. فأمسك سهمه من خيبر وتصدق بما عداه.
وعاهد النبي على ألا يتكلف ولا يكذب متعمدا في حديث حتى يموت.
وتبلغ روعة هذه القصة أقصاها حين تقرأ في سورة التوبة تعذير الله للمتخلفين من المنافقين، بين أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فترى شدة هذا التعذير وعنفه، وتقرأ قصة هؤلاء الثلاثة فترى كيف نزلت عليهم رحمة الله كما ينزل الغيث على الأرض الميتة فيحييها بعد موتها.
وقد صورنا لك في كثير جدا من الإيجاز مكان النبي بين أصحابه بشيرا ونذيرا، وشاهدا وداعيا إلى الله بإذنه، ومفقها للمؤمنين في دينهم، ومعلما لهم في عظائم أمورهم ودقائقها.
فلا غرابة في أن تكون السنة هي الأصل الثاني بعد القرآن الكريم، من الأصول التي تبنى عليها حياة المسلمين، فكل ما يعرض للمسلمين من الأمر في حياتهم من المشكلات يجب عليهم أن يردوه إلى الله ورسوله. يلتمسون له الحل في القرآن، فإن وجدوا هذا الحل فهو حسبهم، وإن لم يجدوه فعليهم أن يلتمسوه في سنة النبي، فيما صحت به الرواية عنه من قول أو عمل؛ ذلك أن النبي لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما كان يعلم الناس مما علمه الله، ويعلمهم في أكثر الأحيان عن أمر الله له بتعليمهم ويستشيرهم فيما لم يعلمه الله من الأمر ويقبل مشورتهم. فإذا التمس حل المشكلات في القرآن الكريم فلم يوجد، والتمس في السنة فلم يوجد، فالمسلمون يرجعون إلى أصل ثالث من أصول الأحكام في الدين، وهو إجماع أصحاب النبي؛ ذلك أن أصحاب النبي إن أجمعوا على شيء فأكبر الظن أنهم لم يجمعوا عليه إلا لأحد أمرين: فإما أن يكونوا قد عرفوا من قول النبي أو عمله ما لم يصل إلينا، وإما أن يكونوا قد اجتهدوا رأيهم واختاروا لأنفسهم، وهم خيار المسلمين وهم قدوة لهم، ولا سيما قبل أن ينجم بينهم الخلاف وتفسد الفتنة عليهم كثيرا من أمرهم. فإن لم يجد المسلمون في القرآن ولا في السنة، ولا فيما أجمع عليه أصحاب النبي حلا لبعض مشكلاتهم فعليهم أن يجتهدوا رأيهم، ناصحين لله ورسوله وللمسلمين.
4
وأمر السنة بعد ذلك مختلف عن أمر القرآن أشد الاختلاف؛ ذلك أن القرآن قد وصل إلينا متواترا مجمعا عليه، من أجيال المسلمين منذ حياة النبي إلى الآن، وإلى آخر الدهر ما بقي في الأرض مسلمون. توارثته الأجيال كما تلاه النبي، وكما كتبه عنه كتاب الوحي وكما جمع أيام أبي بكر، وكما نسخ في المصاحف أيام عثمان، وعلى ما كان بين المسلمين من اختلاف وانقسام وافتراق إلى فرق متباينة في الرأي، من خوارج وشيعة وجماعة، ثم على ما كان من الاختلاف بعد ذلك بين المسلمين في أصول الدين وفروعه وانقسام المتكلمين في الأصول إلى الكثرة المعروفة، وانقسام الفقهاء وأصحاب الفروع كذلك إلى شيع تتباعد حينا وتتقارب حينا، وعلى ما نزل بالمسلمين من الأحداث وما تتابع عليهم من الخطوب، وما كان من تنقل الحكم فيهم بين الأحزاب أولا وبين الأمم والأوطان ثانيا.
على هذا كله ظل القرآن كما هو، لم يختلف المسلمون في نصه، فهو باق على الدهر لا يضره أن يختلف المسلمون في فهم نصوصه وفي تأويلها، ولا كذلك السنة لأن النبي لم يأمر بكتابتها، بل يروى أنه كان يكره ذلك؛ فالاعتماد في روايتها على الذاكرة، وعلى ذاكرة الصالحين من المؤمنين. وكان أصحاب النبي يتشدد أكثرهم في رواية الحديث عن النبي، بل كانوا لا يقبلون حديثا عن النبي إلا أن يشهد اثنان من عدول المسلمين أنهما سمعاه من النبي أو رأياه يعمله. وكان عمر رحمه الله أشد الخلفاء في ذلك، فكان ينذر من يتحدث عن النبي بالعقاب إلا أن يأتي بعدل من المسلمين، يشهد معه بأنه سمع من النبي أو رأى منه مثل ما يروي المتحدث؛ هنالك كان عمر يقبل الحديث ويعمل به.
ولكن الأمور لم تمض على ذلك دهرا طويلا، فلم تكد الفتنة تظل المسلمين حتى اشتد الخلاف بينهم، وجعل بعضهم يكفر بعضا وجعلت الأحزاب على مر الزمن تكثر الحديث عن النبي؛ يريد كل حزب أن يثبت أنه أشد استمساكا بسنة النبي من غيره، ونشأ القصاص الذين كانوا يجلسون لوعظ الناس مرغبين ومرهبين، فأكثروا من الحديث وأضاف كثير منهم إلى النبي ما لم يقل، يرغبون في فضائل الأعمال وينفرون من سيئاتها ولا يجدون حرجا في أن يضيفوا إلى النبي ما لم يقل ما داموا لا يريدون إلا النصح للمسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنبي أول ناصح للمسلمين، وأول آمر بالمعروف وناه عن المنكر، فكل أمر بالخير أو نهي عن الشر يمكن عند كثير من القصاص أن يحمل على النبي. ثم نشأ الأشرار من المتكلفين وذوي النيات السيئة فأسرفوا في رواية الحديث وأكثروا من الكذب وعرف ذلك خيار المسلمين فأخلصوا أنفسهم لتصحيح الحديث، وتنقيته من كل مكذوب أو مشكوك في كذبه. وذهبوا في ذلك مذاهبهم المعروفة، فجعلوا يتتبعون رواة الحديث ينقدون حياتهم ويتحرون أمرهم، فمن وجدوا فيه مطعنا بالكذب، أو الانحراف عن العدالة في السيرة، أو ضعف الذاكرة أو قلة التثبت مما يروي، أو الأخذ عمن لا يصح الأخذ عنه، أعرضوا عنه ونبذوا حديثه، ونبهوا على ما فيه من علة، حتى نشأ عند المحدثين علم خاص بتصحيح الحديث.
وعلى رغم هذا كله ظل من الواجب على كل مسلم - حين يروى له الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم - أن يحتاط قبل الأخذ به، وأن يعرضه على القرآن، فإن كان لا يناقض القرآن في قليل ولا كثير، ولا يناقض المألوف من سيرة النبي وعمله، أخذ به وإلا وقف فيه.
وكذلك يفعل الصالحون من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد قيل لعائشة - رحمها الله - إن بعض أصحاب النبي يروي عنه أنه قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه. فأنكرت هذا الحديث وقالت: اقرءوا قول الله عز وجل:
ولا تزر وازرة وزر أخرى . وقيل لها: إن بعض أصحاب النبي يزعمون أن النبي رأى ربه، فأنكرت هذا أشد الإنكار وقالت لمحدثها: اقرأ قول الله عز وجل:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .
وقد رأيت كيف كان عمر يتشدد في رواية الحديث، فليس بد إذن كما قدمنا من الاحتياط في قبول الحديث، حتى حين يرويه المصححون من المحدثين.
ولا بد من أن نلاحظ أن بعض أعمال النبي قد وصلت إلينا متواترة لا معنى للشك فيها، فقد علمنا بالتواتر أنه
صلى الله عليه وسلم
كان يصلي الصبح ركعتين، والظهر والعصر والعشاء كل منها أربع ركعات، والمغرب ثلاث ركعات.
وعلمنا أنه كان يركع مرة في كل ركعة، ويسجد مرتين في كل ركعة، ويجلس بعد كل ركعتين. كل هذا في الفرائض المكتوبة، فلا معنى للجدال في ذلك. وعلمنا كذلك ما بين من نصاب الزكاة وما فرض فيها، وعلمنا من القرآن ومن السنة العملية كيف كان يصوم، وكيف اعتمر وكيف حج؛ فجملة أركان الإسلام ثابتة بالقرآن أولا، وببيان النبي العملي لها ثانيا.
وكثير من أعمال النبي وصل إلينا على نحو يقطع الشك؛ فقد عرفنا كيف كان يصلي صلاة العيدين، وكيف كان يصلي للاستسقاء، ولما يعرض من كسوف الشمس وخسوف القمر.
فجملة الأصول وتفصيلها بمعزل عن الشك، وإنما يكثر الشك ويختلف قوة وضعفا في بعض الفروع، وفيما يتصل بالترغيب في الفضائل وفي التنفير من الشر، ولا سيما أن بعض أئمة الحديث - كأحمد بن حنبل رحمه الله - كانوا لا يرون بأسا برواية الحديث الضعيف، إذا كان متصلا بالفضائل.
ومهما يكن من شيء فالقرآن جامع لما يحتاج إليه المسلمون من أصل الدين وأكثر فروعه، والسنة الثابتة تفصل مجمله وتبين ما يحتاج منه إلى البيان. فليس على خلاصة الإسلام وأصوله بأس من ضعف الضعفاء، وكذب الكذابين، وزيغ الزائغين.
5
وكذلك استقامت للمسلمين حياتهم صافية نقية مبرأة من الاختلاف والتنازع، كأصفى وأنقى وأصدق ما تكون الحياة، كان النبي بين أظهرهم يردون إليه أمرهم كله؛ فيعلمهم مما علمه الله، فإذا جاءه من أمرهم ما ليس عنده علم فيه رده هو إلى الله عز وجل، فلا يلبث أن يأتيه الخبر اليقين من السماء. فلم تتصل الأرض بالسماء قط كما كانت متصلة أثناء حياة النبي، ومن أجل ذلك كان كعب بن مالك وصاحباه مشفقين من أن يعتذروا إلى النبي بغير الحق، فيكذبهم الله بقرآن يتلى على الناس، أو بوحي يلقى إلى النبي فيتحدث به إلى أصحابه. ومن أجل ذلك أيضا أنبأ الله نبيه أثناء غيبته عن المدينة بكل ما كان المنافقون يعملون ويقولون. وأنبأه كذلك بأنهم سيعتذرون إليه وإلى أصحابه من تخلفهم حين يرجعون إليهم، وأمره أن يقول لهم: لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم. وذلك في قوله عز وجل في سورة التوبة:
يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم وسيرى الله عملكم ورسوله ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون .
وكثيرا ما كان المسلمون يعرضون على النبي بعض أمرهم، فيقول لهم أحيانا: ما عندي في هذا شيء. ثم لا يلبث أن يدعو من عرضوا عليه الأمر فينبئهم بحكم الله فيه. وأحيانا يظهر الإعراض عن سائليه بأنه لم يأته علم من الله بما سألوه عنه، ثم ينزل القرآن فيقضي فيهم بحكم الله، كما كان من أمر ذلك الرجل الذي زعم لرجل من أصحاب النبي أنه وجد عند أهله غيره ولم يدر ماذا يصنع، وأشفق أن يقتله فيقتل به. فكلف صاحبه ذاك أن يسأل النبي في أمره، وذهب صاحبه فسأل النبي، فأعرض عنه وأظهر الكراهة للسؤال. وقص الرجل على صاحبه ما رأى من كراهية النبي للمسألة فأبى الرجل إلا أن يسأل النبي ففعل، وأجابه النبي بأن الله قد أنزل فيه وفي صاحبته قرآنا، وأمره أن يدعو صاحبته، فأنفذ فيهما ما قضى الله بالآية الكريمة من سورة النور:
والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين * والخامسة أن لعنت الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .
ولست أعرف أبلغ من قول أم أيمن، حين كلمت في بكائها بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقالت إنها إنما تبكي لانقطاع خبر السماء. ذلك أن وفاة النبي قطعت عن المسلمين هذا الخبر حقا، فلم يكن وحي بعده. ولم يكن للذين قاموا بأمر المسلمين من الخلفاء إلا أن يصرفوا الأمور بما نزل من القرآن، وبما ثبت لهم من حديث النبي، بسماعهم هم أو بسماع العدول من أصحابهم.
وقد ظلت حياة المسلمين نقية صافية أيام أبي بكر - رحمه الله - كدرتها ردة العرب، فلما قمعت ثورتهم وعادوا إلى ما كانوا عليه أيام النبي من الطاعة في كل ما أمر الله، برئت حياة المسلمين من الشوائب، ورمى بهم أبو بكر الشام والعراق، ثم جاء عمر - رحمه الله - بعد أبي بكر فاشتد إلى أقصى حدود الشدة في المحافظة على صفاء الحياة الإسلامية ونقائها، على نحو ما كانت عليه أيام النبي وأبي بكر، وبذل في ذلك من الجهد في دقيق الأمور وجسامها ما لم ينسه التاريخ بعد، وما أرى أنه سينساه آخر الدهر؛ ذلك أن المشكلات الجسام التي عرضت للمسلمين في حياة عمر كانت جديدة كل الجدة، لم يعرض مثلها ولا شيء قريب منها أيام النبي وأيام أبي بكر، فقد كانت غزوات النبي على خطرها يسيرة بالقياس إلى فتح بلاد الفرس، واقتطاع الشام ومصر من بلاد الروم. وكانت الغنائم التي تتاح للمسلمين أيام النبي شيئا لا يكاد يقاس إلى ما أتيح لهم من الغنائم أيام عمر، فكان من أيسر الأشياء أن ينفذ النبي فيها حكم الله الذي بينه في سورة الأنفال:
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير .
فكانت الغنائم تجمع للنبي فيحتجز منها الخمس، ينفق منه على ما بين الله في الآية الكريمة، ويقسم سائرها على المسلمين للراجل سهم وللفارس سهمان.
ومع أن الأمانة أيام النبي كانت كأقوى ما يمكن أن تكون في قلوب المسلمين، فقد كان النبي
صلى الله عليه وسلم
كثيرا ما ينهى عن الغلول، ويخوف منه أشد التخويف وأهوله، وأنزل الله في الغلول قرآنا، فقال في سورة الأعراف:
وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون * أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
ومع هذا كله فقد غل بعض الناس من الغنائم أيام النبي، فذكر الرواة أمر ذلك الذي قتل بخيبر، فجعل الناس يتباشرون له بالشهادة أمام النبي، وقال
صلى الله عليه وسلم
إن الشملة التي غلها لتشتعل حوله نارا. أو شيئا بمعنى ذلك.
قال الرواة فقام رجل فجاء بشراكين فألقاهما وكان قد احتجزهما، فلما سمع ما سمع من النبي خاف فردهما.
كذلك كانت أمور الجهاد والغنائم أيام النبي، وأين هذا مما عرف المسلمون في حروبهم مع الفرس والروم، وفيما ملئوا به أيديهم من الغنائم التي لا يكاد المؤرخون يحسنون تصويرها ولا إحصاءها.
وجيوش المسلمين بعيدة عن مركز الخلافة بعدا شديدا، والخليفة قار بالمدينة لا يرى ما يصنع المسلمون بعد أن ينزل الله نصره عليهم، وإنما تأتيه أنباء النصر وترسل إليه أخماس الغنائم، فيقسمها على من حضره من المسلمين، وينفق منها على نوائب الأمة.
والمسلمون في تلك الأيام لا يغنمون الأموال التي تنقل فحسب، وإنما يغنمون الأرض التي تفتح وما عليها من العقار، وكل ذلك بعيد عن الخليفة، وأموره معقدة أشد التعقيد. فالغنائم التي تنقل يمكن أن تخمس ويرسل خمسها إلى الخليفة، ويقسم سائر أخماسها على الجند. ولكن الغنائم الثابتة ماذا يصنع بها قائد الجيش، لا يستطيع أن ينقلها ولا أن يقسمها، ولا يستطيع الجند إن قسمت فيهم أن يقوموا عليها؛ فهم لم يرسلوا ليكونوا زراعا، وإنما أرسلوا للحركة المتصلة، لا تفتح عليهم مدينة إلا تجاوزوها إلى غيرها، فكل هذا كان جديدا بالقياس إلى الخلفاء.
ولم يكن بد لعمر من أن يضع نظاما يحصر هذه الغنائم ويكفل القيام عليها، ويكفل حقوق الجند فيها، وهذه الجيوش التي ترسل تباعا إلى الأرض البعيدة في الشرق والغرب، لم يكن بد من تهيئتها للحرب قبل أن ترسل، ولم يكن بد من إمدادها بكل ما تحتاج إليه بعد إرسالها. ولم يكن بد من حكم المدن والأقاليم التي تفتح، ومن نشر الإسلام فيها، وأن يجرى الحكم فيها على ما أمر الله أن تجرى عليه الأحكام إلى غير ذلك من المشكلات التي لا تحصى، والتي جعلت تظهر ويتبع بعضها بعضا كلما أمعن المسلمون في الغزو وأبعدوا في الأرض، وقد جد عمر - رحمه الله - في حل هذه المشكلات وتدبر أمور هذه الدولة الناشئة، التي كانت تكبر وتتسع رقعتها، وتزداد مشكلاتها يوما بعد يوم.
وقد وفق عمر إلى كل ما حاول من حل المشكلات وتدبير الأمور، وحكم الأقطار البعيدة عنه والقريبة منه؛ توفيقا لم يكن ينتظر من رجل من أهل مكة لم يعرف من أمور الدنيا إلا أيسرها، ولم يبل شئون الحكم قبل خلافته، وهو بعد ذلك يحكم أمما ليست على حال العرب من البداوة، وإنما هي متحضرة ممعنة في الحضارة، قد عرفت من أنظمة الحكم ضروبا وألوانا.
وما رأيك في خليفة ينبئه أحد عماله بأنه قد حمل إليه خمسمائة ألف من الدراهم، فلا يصدقه وإنما يظن به الجهد والإعياء، ويأمره أن يذهب فيستريح، ثم يأتيه من غد، فإذا جاءه من الغد وأنبأه بما حمل إليه من المال صعد المنبر وأعلن إلى الناس: أن قد جاءه مال كثير، فإن شاءوا كاله لهم كيلا، وإن شاءوا هاله لهم هيلا، كل ذلك لنصف مليون من الدراهم؛ فكيف به حين جاءته الملايين الكثيرة والعروض المختلفة التي لا تكاد تحصى! وإذا كان النجح قد أتيح لعمر لما آتاه الله من عبقرية، فهو كذلك قد أتيح لقواده الذين فتحوا الأرض، وعماله الذين حكموا الأقاليم، وكلهم كان كهيئة عمر لم يبل من الحرب إلا أيسرها وأهونها شأنا، ولم يعرف من شئون الحكم إلا أدناها إلى السذاجة البدوية، فكيف بهم حين حكموا الشام ومصر والعراق وفارس! وأتيح هذا النجح أيضا للجند الذين قهروا أعظم دولتين في الأرض حين ذاك: دولة الفرس ودولة الروم. وهم لم يعرفوا قط من شئون الحرب إلا ما كانوا يألفون من هذه الحرب الأولية، التي كانت تثار بين القبائل. لم يعرفوا الجيوش الضخمة، ولا أداة الحرب التي ابتكرتها الحضارة، ولا حصار المدن ولا اقتحامها، وهم مع ذلك قد انتصروا أي انتصار، ونشروا لواء الإسلام في أقطار الأرض شرقا وغربا، وأزالوا من الأرض دولة عظيمة لم تستطع جيوش روما ولا جيوش قسطنطينية أن تزعزعها، وهي دولة الفرس الساسانيين.
وقد عرفت أن أكثر هؤلاء الجند كانوا قد ارتدوا بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
عن الإسلام مع قبائلهم، وأبوا أن يؤدوا الزكاة حتى قاتلهم عليها أبو بكر، فانظر إليهم بعد أن عادوا إلى الإسلام كيف أحسنوا في سبيله البلاء، وكيف جاهدوا فأمعنوا في الجهاد، وكيف صبروا فأبلغوا في الصبر، وكيف جنوا نتيجة هذا كله نصرا مؤزرا.
وما أشك أن القرآن هو المؤثر الأول في هذا كله، كانوا يقرءونه أو يقرأ عليهم فيملأ نفوسهم روعة، وقلوبهم إيمانا، ويدفعهم هذا كله إلى أن يفعلوا الأعاجيب، وإلى أن يتيحوا لقائد من قوادهم - هو خالد بن الوليد - أن يكتب إلى بعض محاربيه حين دعاهم إلى الإسلام أو إلى الخضوع وأداء الجزية، ثم قال لهم بعد ذلك: «فإن أبيتم فإني جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» واقرأ إن شئت حديث الفتح في كتب التاريخ، وفي تاريخ الطبري خاصة، فسترى فيما تقرأ من العبر والعظات والأعاجيب ما يقنعك بأن بلاء المسلمين في تلك الحروب ، وما أتيح لهم من الظفر، إنما كان نتيجة لأثر الإسلام والقرآن خاصة في نفوس أولئك المجاهدين.
وانظر إليهم حين يتلو عليهم القاص الذي كان يطوف على الجنود، فيعظهم ويحمسهم للحرب حين يتهيئون للقاء العدو.
انظر إليهم حين يتلو عليهم هذه الآية الكريمة، من سورة التوبة مثلا:
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين .
فأي غرابة في أن تملأهم هذه الآية وأمثالها من آيات القرآن الكريم ثقة وأمنا وأملا واطمئنانا إلى أنهم من غير شك ظافرون بإحدى الحسنيين، فإما الانتصار على العدو، والفوز بما في أيديهم من الملك وزهرة الحياة الدنيا، مع الأجر العظيم عند الله، وهو خير من كل ما ظفروا به، وإما الفوز بنعمة الشهادة والحياة عن الله، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ومستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما يقول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة آل عمران.
وانظر إليهم حين يقرءون أو يتلى عليهم قول الله من سورة الأنفال:
يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار * ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير .
كيف تمتلئ قلوبهم ثقة بأنهم حين أزمعوا الخروج للجهاد، قد باعوا الله أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون، وعدا على الله حقا في التوراة والإنجيل والقرآن، كما يقول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة التوبة:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .
فهم يقبلون على الجهاد وهم مطمئنون إلى أنهم قد باعوا نفوسهم وأموالهم لله بالجنة؛ فالموت أحب إلى الصادقين منهم من الحياة لأن نعيم الحياة زائل ونعيم الله باق خالد. وكلهم يرهب الفرار من العدو، أكثر مما يرهب الموت، فهم واثقون بأن أمام الفارين منهم جهنم يضطرون إليها وبئس المصير. هم بذلك يصدقون ما كتب خالد - رحمه الله - من أن جنوده يحبون الموت كما يحب عدوهم الحياة.
ومن أجل ذلك أقبل بعض قواد المسلمين، وهو أبو عبيد بن مسعود، أيام عمر بجنده متعرضا لعدوه من الفرس فعبر إلى العدو بجيشه نهرا، وغامر فإذا العدو أكثر منه قوة وأعظم منه بأسا، وكان يستطيع حين رأى ذلك أن يعبر النهر ويرجع بجنده إلى مواقعهم، ويلتزم خطة الدفاع أو ينتظر المدد، ولكنه ذكر الآية الكريمة من سورة الأنفال فكره الفرار، وأقدم فقاتل حتى قتل رحمه الله، وامتحن المسلمون في تلك الوقعة محنة عظيمة ولم ينج من نجا منهم إلا بعد الجهد كل الجهد. وبلغت قصة هذا الجيش عمر - رحمه الله - بالمدينة فبكى واسترحم لقائده وقال: لو انحاز لكنت فئته. يريد أنه لو رجع واستمد الخليفة لما كان ذلك فرارا، وإنما هو التحرف للقتال والتحيز إلى من وراءه من المسلمين، ينصرونه ويمدونه بالقوة والعتاد.
والله قد أذن للمسلمين في الآية الكريمة، التي أثبتناها آنفا من سورة الأنفال، أن يرجعوا عن العدو متحرفين للقتال أو متحيزين إلى فئة تنصرهم. كذلك كان بلاء المسلمين في الفتوح؛ لا يقبلون بلاء أقل منه حتى عاب بعضهم سعد بن أبي وقاص لما عجز عن القتال مع جيشه يوم القادسية، فأدار الموقعة من حصن كان فيه، لما أعجزه المرض عن الحركة والخروج، فقال قائلهم:
ألم تر أن الله أنزل نصره
وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس فيهم أيم
وكذلك استقامت حياة المسلمين أيام الشيخين أبي بكر وعمر، كلاهما ساس الناس كما كان النبي
صلى الله عليه وسلم
يسوسهم أثناء حياته، والتزم عمر القرآن وسيرة النبي وأبي بكر ورأي الصالحين من الصحابة، في حل ما عرض له من المشكلات التي نشأت عن الفتوح واتساع الدولة وانتشار الجيوش وكثرة الغنائم والفيء، وتنظيم أمور الأرض التي ظهر عليها المسلمون في البلاد المفتوحة، فكان كلما عرضت له مشكلة التمس حلها في كتاب الله، فإن لم يجد ففي سنة رسول الله وسيرة الخليفة من قبله، فإن لم يجد دعا أولي الرأي من المهاجرين والأنصار فشاورهم حتى يجد الحل للمشكلة أو المشكلات التي عرضت له.
وكان تفوق عمر في جهاده نفسه حتى قهرها وذللها، وألزمها سيرة النبي وأبي بكر، من الزهد والقناعة، ومن الصبر والاحتمال، ومن إيثار المسلمين على نفسه والاكتفاء بما يقيم الأود، على رغم ما كان يجبى إليه من كرائم الأموال ونفائسها، وعلى رغم ما كان يغري الناس من زهرة الدنيا ونعيمها، كان تفوق عمر في جهاد نفسه وقهرها على هذا النحو أروع من تفوقه فيما حاول من إقامة الدولة الناشئة. ثم كان يشتد على الناس ولا سيما الذين رأوا النبي وصاحبوه، وعرفوا كيف رفض الدنيا، وكيف آثر عليها الآخرة، فكان يمسك كبار الصحابة في المدينة ولا يأذن لهم بالخروج منها، فإذا هم أحدهم بالجهاد أبى عليه، وقال: قد كان في جهادك مع رسول الله ما يجزئك. كان يخاف عليهم أن يفتتنوا إذا رأوا الأقاليم التي فتحت على المسلمين، وكان يخاف منهم أن يفتتن الناس بهم في الأمصار والأقاليم، فكان يمسكهم في المدينة حماية لهم ولعامة الناس من الفتنة. وكان في هذا موفقا أشد التوفيق. وسترى الدليل على ذلك واضحا حين أذن عثمان لكبار الصحابة بالتفرق في الأرض، فكان ذلك من مصادر الفتنة التي حادت بالمسلمين عن الجادة، وضربت بعضهم ببعض، وجعلت بأسهم بينهم شديدا، ثم كان شديدا على قريش خاصة، وعلى مسلمة الفتح منهم بنوع أخص. كان يعرف ذكاءهم ومهارتهم في اكتساب المال وإيثارهم للثراء ورغد العيش، فكان يحميهم من أنفسهم ومن أن يتهافتوا في النار كما كان يقول.
وكان شديدا على أسرته من آل الخطاب، يكره أن يغتروا أو أن يغتر الناس بأنهم رهط أمير المؤمنين. ثم كان شديد المراقبة لأهل المدينة ومن حولها، يريد أن يعرف من قرب حاجاتهم وأن يبلغ من رضاهم ما يستطيع، ولم يعرف المسلمون خليفة كان أشد منه على ولاته في الأقاليم يدعوهم إلى لقائه في الموسم من كل عام، ويدعو مع كل واحد منهم ذوي الرأي في إقليمه. فإذا التقوا في موسم الحج سأل الولاة عن رعيتهم وسأل الرعية عن ولاتها. وكان كثيرا ما يبرأ إلى الله مما يمكن أن يتورط الولاة فيه من جور أو خطأ أو تقصير؛ ولذلك كانت نكبة المسلمين بقتله حين قتل أعظم وأكبر من أن توصف. وما أشك في أن عمر - رحمه الله - لو مدت له أسباب الحياة لأقام الدولة الإسلامية على أسس تعصمها من التفرق والانقسام. ولكن الله بالغ أمره قد جعل لكل شيء قدرا.
وولي أمور المسلمين من بعده عثمان، فاستقامت له الأمور أعواما فيها رضي عن الناس ورضي الناس عنه، ومضت جيوش المسلمين في الفتح شرقا وغربا، ولكنه وسع على الناس فأسرف الناس على أنفسهم، ولان لقريش فطمعت فيه قريش. ووصل بني أمية رهطه فأغراهم بالغنى، وفتح أمامهم أبواب الطمع واسعة حتى طمعوا فيه هو فاستأثروا به. وتسلطوا عليه حتى غلبوا على أمره كله، فجعلوا يولون ويعزلون والخليفة يقر ما يفعلون.
وكان عثمان حين ولي الأمر قد تقدمت به السن فبلغ السبعين أو جاوزها، فلم يلبث أن ضعفت مقاومته للطامعين من قريش عامة، ومن بني أمية خاصة.
وما هي إلا أن تنتشر في الأقاليم كلمة السوء، فيفتن الناس بمن رأوا من كبار الصحابة، كطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام. ويعسف الولاة فتظهر الفتنة ولا تلبث الأقاليم والأمصار أن تنكر من أمور الحكم أشياء، وتنتهي أمور الأقاليم إلى الثورة، وإذا الجنود تأتي من البصرة والكوفة ومصر، فيشكون، ويحتال بعض الصحابة - وعلي خاصة - في أن يأخذ لهم الرضى من عثمان، وتوشك الأزمة أن تنحل، ولكن البطانة من بني أمية ينقضون ما أبرم الخليفة ويغرون بعض الولاة برعيتهم سرا، ويستكشف الثائرون هذا الإغراء الذي ختم بخاتم الخليفة عن غير علم منه، فيرجعون إلى المدينة ويحتلونها ثم يحاصرون الخليفة في داره، وما يزالون على حصارهم حتى يتسوروا الدار ويقتلوا الخليفة في النهار المبصر.
وبمقتل عثمان - رحمه الله - تفتح أبواب الفتنة على مصاريعها، وليس من شك في أن السخط على حكم عثمان لم يكن مقصورا على الأمصار والأقاليم، بل كان في المدينة نفسها منكرون لنظام الحكم ضائقون بغلبة بني أمية للخليفة على أمره. وكان من أهل المدينة مشنعون على عثمان ومشهرون به، فلما قتل عثمان حكم الثوار المدينة حكما عسكريا أياما حتى دفن الخليفة سرا بليل.
ثم أقبل الناس على علي رحمه الله فبايعوه، بايعه أكثرهم عن رضى، وبايعه بعضهم عن كره، وأبى معاوية في الشام أن يؤمن لهذه البيعة، وذهب فريق من أصحاب النبي إلى البصرة مغاضبين، على رأسهم أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وكلاهما من كبار الصحابة ومن رجال الشورى الذين اختارهم عثمان للخلافة، ومن العشرة الذين توفي النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو عنهم راض وبشرهم بالجنة. واعتزل فريق من المهاجرين والأنصار أمر الناس فلم يشاركوا في الفتنة، وكان منهم سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر من أكابر قريش، وكان سعد من العشرة الذين بشروا بالجنة، وهو القائد المظفر الذي أبلى أحسن البلاء في فتح بلاد الفرس. وقد جيء به ليبايع عليا فأبى البيعة وقال لعلي: ما عليك مني من بأس. فأمر علي بتخليته وكفله هو. وجيء كذلك بعبد الله بن عمر فأبى أن يبايع فأمر علي بتخليته وقال له بين الجاد والمازح: ما علمتك إلا سيئ الخلق.
ولم تتم البيعة لعلي حتى نظر فإذا هو بين عدوين: أحدهما بالبصرة يرأسهم طلحة والزبير وعائشة، والآخر بالشام يرأسهم معاوية بن أبي سفيان. فلم ير بدا من أن يقاتل هذين الفريقين ليردهما إلى الطاعة ولتجتمع كلمة المسلمين بعد أن تفرقت؛ فيعودوا أمة واحدة كما كانوا أيام النبي وأيام الشيخين أبي بكر وعمر. ولا بد من الاعتراف هنا بأن عليا - رحمه الله - لم يبدأ بحرب قط إلا بعد أن دعا إلى الصلح ورغب فيه وألح في الدعوة وحاج مخاصميه حتى أظهر عليهم حجته وأثبت في وضوح لا لبس فيه أنه لم يشارك في قتل عثمان ولم يظاهر عليه، وإنما نصح له ما استطاع النصح، ورد الثائرين عن المدينة وكاد يحسم الفتنة لولا غدر بني أمية من بطانة الخليفة، وأنه كذلك حاول أن يعين عثمان وأن يحميه من الثائرين به والذين ظاهروهم عليه. ولكن خصوم علي كانوا حراصا على الحرب يظهرون المطالبة بدم عثمان ويطلبون أن يسلم إليهم علي من قتل عثمان أو شارك في قتله، وكان علي يأبى إلا أن ينفذ حكم الله على وجهه، فيخضع الناس قبل كل شيء لإمام واحد ثم يحتكمون إليه في قتل الخليفة المقتول، فيقيم حد الله كما ينبغي أن تقام الحدود، في ظل النظام والأمن لا في ظلمة الفتنة والانقسام.
وكذلك لم يجد علي بدا من الحرب بعد أن بذل الجهد كل الجهد في الإصلاح بينه وبين طلحة والزبير وعائشة ومن تابعهم من أهل البصرة، فكان يوم الجمل الذي عظمت فيه المحنة على المسلمين، وقد اقتنع الزبير بن العوام - رحمه الله - بخطئه فرجع عن الحرب، ولكنه قتل غيلة في طريقه إلى الحجاز.
ومضى طلحة في القتال حتى قتل غيلة هو الآخر أثناء الموقعة، رماه رجل من بني أمية هو مروان بن الحكم الذي أفسد على عثمان أمره كله فقتله.
ويقول الرواة: إن طلحة نقل من مصرعه ودمه ينزف، وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى. فقد اعترف هو أيضا بخطئه قبل أن يموت، وثبتت عائشة في هودجها على جملها ذاك الذي قتل حوله من المسلمين عدد غير قليل، وكان من خيارهم محمد بن طلحة بن عبيد الله، قتل وهو آخذ بزمام الجمل، وقال قاتله:
وأشعث قوام بآيات ربه
قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
شققت له بالرمح جيب قميصه
فخر صريعا لليدين وللفم
يذكرني حاميم والرمح غير شاجر
فهلا تلا حاميم قبل التقدم
على غير شيء غير أن ليس تابعا
عليا ومن لا يتبع الحق يندم
وصرع عبد الله بن الزبير فلم ينج إلا بعد مشقة وجهد، وكان المسلمون يقتتلون حول الجمل وعائشة تحمس أهل البصرة للقتال، حتى أشار علي بعقر الجمل، فلما عقر تفرق الناس وانهزم أهل البصرة ونقلت عائشة في هودجها لم يمسها أذى. وبعد أيام ردها علي مكرمة إلى المدينة فقرت في بيتها الذي ما كان لها أن تفارقه، بعد أن قال الله لنساء النبي في الآيتين الكريمتين من سورة الأحزاب:
وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا * واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفا خبيرا .
وأقام علي بالبصرة حتى ضبط أمرها، ثم عاد إلى الكوفة فأقام فيها وجعلها عاصمة للخلافة، وأكبر الظن أنه نقل عاصمة الخلافة إلى الكوفة ليعصم المدينة من أن تكون دار حرب، فهو قد كان يروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وأعلن أن من أحدث في المدينة حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا.
وجعل علي يسفر إلى معاوية من الكوفة، يعرض عليه الطاعة ويدعوه إلى الصلح، وإلى جمع كلمة المسلمين وحقن دمائهم والدخول فيما دخل فيه الناس. وكان المسلمون قد قبلوا بيعة علي في جميع أقطار الأرض الإسلامية شرقا وغربا، إلا الشام فقد أقام معاوية في دمشق يطالب بدم عثمان ويرفض كل صلح يعرض عليه.
فلم يجد علي بدا من حربه، فسار بجيشه حتى بلغ صفين، فوجد معاوية قد سبقه في أهل الشام إلى الماء. يريد أن يظمئ عليا وجيشه، فاقتتل القوم على الماء حتى غلب أصحاب علي عليه. ولكن عليا رحمه الله أبى أن يظمئ معاوية وأهل الشام، فتركهم يشربون ويسقون أنعامهم، ويأخذون من الماء حاجتهم، وسعى السفراء بين الفريقين وعلي يعرض الصلح دائما ويظهر حجته وحجة من معه على أهل الشام، ولكن معاوية وعمرو بن العاص أبيا إلا القتال فكان القتال، وجعل المسلمون من الفريقين يتفانون، وكانت الحرب سجالا تدور الدائرة على أهل الشام يوما وعلى أصحاب علي يوما آخر. ولكن عاقبة الحرب كادت تكون لعلي، وكاد جيش الشام يهزم، وزعم الرواة أن معاوية هم أن يركب فرسه للهرب، لولا أنه ذكر شعرا فثبت هذا الشعر قلبه، وهو هذه الأبيات:
أبت لي عفتي وأبى بلائي
وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإجشامي على المكروه نفسي
وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
وأحمي بعد عن عرض صحيح
وقد وجد له عمرو بن العاص مخرجا من هذا الحرج، فاقترح أن ترفع المصاحف على الأسنة، وأن يدعى علي وأصحابه إلى كتاب الله يحتكمون إليه، فيحقون ما أحق ويبطلون ما أبطل. وجازت الحيلة على كثير من أصحاب علي، وعلى أهل اليمن منهم خاصة فاستكرهوا عليا على الهدنة. وحاول علي أن يمتنع عليهم وعرف أنها خدعة، ولكن أهل اليمن أبوا إلا قبول الهدنة وأنذروا عليا؛ فاضطر كارها إلى الإذعان لرأي الكثرة من أصحابه، وتقررت الهدنة بين الفريقين، على أن يرسل كل فريق منهم حكما يرضاه، وعلى أن يجتمع هذان الحكمان فيقضيان بما قضى به القرآن بين الفريقين المختصمين. واشتد معاوية وأصحابه في كتاب الهدنة، فأبوا أن يلقب علي نفسه أمير المؤمنين، واضطر علي إلى أن يمحوها، وذكر صلح الحديبية حين أبت قريش على النبي في كتاب الهدنة أن يسمي نفسه رسول الله، فمحا هذا الوصف واكتفى باسمه. ولست أدري أتفاءل علي حين ذكر يوم الحديبية أم لا. ولكن عاقبة الهدنة على كل حال لم تشبه عاقبة الهدنة التي أمضاها النبي
صلى الله عليه وسلم
مع أهل مكة، كانت عاقبة هدنة الحديبية فتحا قريبا ونصرا مؤزرا، وكانت عاقبة الهدنة في صفين فرقة واختلافا على علي أي اختلاف. وفي هذه المواقع التي كانت بصفين قتلت ألوف كثيرة من المسلمين من أهل العراق وأهل الشام.
وكان بين قتلى أصحاب علي عمار بن ياسر الذي كان يقاتل في حماسة أي حماسة، وهو شيخ قد بلغ التسعين أو جاوزها. وكان يقاتل عن إيمان أي إيمان بأنه يدافع عن الحق، وكان يرتجز:
نحن ضربناكم على تنزيله
واليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله
وكان يوم قتل يحرض الناس ويقول: من رائح إلى الجنة؟ اليوم ألقى الأحبة: محمدا وحزبه.
وكان قتل عمار تثبيتا لعلي والصالحين من أصحابه وتشكيكا لمعاوية ومن معه، ذلك أن كثيرا من المهاجرين والأنصار قد سمعوا النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول وهو يمسح رأس عمار أثناء بناء المسجد: «ويحك يابن سمية! تقتلك الفئة الباغية.»
وكان رجل من صالح الأنصار، هو خزيمة بن ثابت يشهد صفين مع علي، ولكنه لم يكن يقاتل كأن قلبه لم يخل من بعض الشك، فلما رأى مقتل عمار بسيوف أهل الشام قال: الآن ظهر الحق. وقاتل حتى قتل.
فأما معاوية وعمرو بن العاص فما أسرع ما وجدا مخرجا من هذا الحرج، فقالا: لم نقتله وإنما قتله الذين جاءوا به إلى الحرب. وأذاعا مقالتهما هذه في أهل الشام؛ تثبيتا لقلوب الذين أدركهم شيء من الشك والقلق.
ورجع علي إلى الكوفة مرجعا لم يكن ينتظره؛ ذلك أن جيشه اختلف عليه، رضيت كثرة الجيش بالهدنة وفرضت على علي أن يقبل اختيار أبي موسى الأشعري حكما، وقد اختار معاوية عمرو بن العاص، وأبت قلة من جيش علي هذه الهدنة ورأتها مخالفة للقرآن، فكان الناس يقتتلون ويتضاربون ويتشاتمون في طريقهم إلى الكوفة. ثم وصل علي إلى الكوفة فلم ير فيها إلا مظاهر الحزن والحداد؛ لكثرة من ذهب معه من أهل الكوفة ثم لم يعد بعد أن لقي مصرعه بصفين.
ولم يلبث المنكرون لأمر الهدنة أن نظموا أمرهم وخرجوا من الكوفة أرسالا ، وكتبوا إلى إخوانهم في البصرة فانضموا إليهم وأعلنوا العصيان، بل أعلنوا أكثر من العصيان، أعلنوا أن عليا وأصحابه الذين قبلوا الهدنة قد كفروا؛ لأنهم خالفوا عن أمر الله حين قال في الآيتين الكريمتين من سورة الحجرات:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
ولما كان علي قد عرض الصلح غير مرة على معاوية وأصحابه فرفضوه، ثم كانت الحرب بينهم، فكان يجب على علي وأصحابه فيما رأى الخوارج أن يمضوا في الحرب حتى يقضي الله أمره، فيحق الحق ويبطل الباطل. ولكنهم لم يمضوا في الحرب وإنما قبلوا التحكيم فحكموا الرجال في دين الله، والله وحده هو أحكم الحاكمين. وما كان ينبغي لعلي وأصحابه أن يضعوا السيوف حتى يفيء معاوية وأهل الشام إلى أمر الله.
ومن هنا اتخذ الخوارج لأنفسهم شعارا من هذه الكلمة: «لا حكم إلا لله.» أي لا حكم إلا لله بواسطة الحرب ينصر الحق ويهزم الباطل. وكانوا كثيرا ما يجهرون بدعوتهم هذه في مسجد الكوفة، وربما قاطعوا بها عليا أثناء خطبته، وكان علي يقول: «كلمة حق أريد بها باطل.» ثم قوي أمر هذه الفئة حين التقى الحكمان فلم يصنعا شيئا، إنما اختلفا وتشاتما وافترقا كما التقيا؛ لأن عمرا أعلن خلعه لعلي وإثباته لمعاوية، ولأن أبا موسى زعم أنه اتفق مع عمرو على خلع الرجلين جميعا وجعل الخلافة شورى بين المسلمين. فلم يتحرج عمرو بن العاص من أن يخالف عما تراضى عليه الحكمان، وقد رفض علي هذا الحكم طبعا وقبله معاوية، وعادت الحرب بينهما سيرتها الأولى.
هنالك ازداد الخوارج ثقة بأنهم على الحق، وبألا حكم إلا لله، وكثر خروجهم من الكوفة سرا حتى أصبح لهم شيء من قوة.
وقد تجهز علي مرة أخرى للقاء أهل الشام، ولكن أشير عليه أن يفرغ من هذه الفئة التي خرجت عليه ، وجعلت تفسد في الأرض وتسفك الدماء، ترى كل من تبع عليا ومعاوية كافرا حلال الدم والمال.
وقد أرسل علي إلى الخوارج عبد الله بن العباس ليحاورهم ويحاول إقناعهم بالرجوع إلى الجماعة، ولكن ابن عباس لم يصنع شيئا. فذهب إليهم علي بنفسه فناظرهم وأقنع كثيرا منهم بالرجوع، ولكن آلافا منهم أبوا عليه فاضطر إلى قتالهم، فقاتلهم وظهر عليهم، وهم بعد ذلك بالمضي إلى الشام، ولكن المنافقين من أصحابه أشاروا عليه بالعودة إلى الكوفة ليصلحوا من أمرهم بعد هذه الموقعة، وليذهبوا إلى عدوهم بما ينبغي لهم من العدة والعدد. فعاد بهم إلى الكوفة ولكنه لم يخرج منها: تفرق أصحابه إلى أهلهم وأقبلوا على أعمالهم، وزهدوا في الحرب حتى أيئسوا عليا منهم، فجعل يدعوهم ويلح في دعائهم، ولكنهم لا يسمعون منه ولا يستجيبون لدعائه، حتى قال ذات يوم في خطبة له: «لقد أفسدتم علي رأيي بالعصيان حتى قالت قريش: ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم! ومن يكون أعلم بها مني؟» ثم أنشد - فيما زعم الرواة - هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني
فلا وربك ما بروا وما ظفروا
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم
بذات ودقين لا يعفو لها أثر
وكثيرا ما كان علي - رحمه الله - يحرض أصحابه على القتال ويثيرهم إليه ويتهمهم بالجبن تحميسا لهم حتى أنشدهم ذات يوم البيت القديم:
القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا
ولكنه - رحمه الله - لم يبلغ من أصحابه شيئا حتى طمع معاوية وأهل الشام في العراق وفي جزيرة العرب نفسها. فكان معاوية يرسل الكتائب تغير على أطراف العراق فتقتل وتنهب، وكان علي يرسل في إثر هذه الكتائب قطعا من جيشه تردهم عن أطراف دولته.
وقد أسرف معاوية في ذلك فأرسل بسر بن أرطاة في جيش إلى الحجاز، فأفسد فيه كثيرا وأفسد في اليمن أيضا واقترف من القسوة ما لم يكن للمسلمين به عهد.
ثم ما زال معاوية بمصر حتى أخذها وقتل والي علي محمد بن أبي بكر، وأهداها إلى عمرو بن العاص حياته، وقد جعل أمر علي يضعف شيئا فشيئا ويقوى أمر معاوية بما يتتابع على علي من هذا الضعف. ثم كانت الكارثة التي امتحن بها علي - رحمه الله - حين خالف عن أمره ابن عمه عبد الله بن العباس والي البصرة، فأخذ كل ما في بيت المال وفر به إلى الحجاز، فأقام بمكة آمنا مغاضبا لابن عمه لعرض من أعراض الدنيا، وأطمع ذلك معاوية فأرسل رسله إلى البصرة فأثاروا أكثر أهلها، واضطر علي إلى أن يرسل إلى البصرة جيشا يخضعها ويردها إلى الطاعة.
وفي أثناء ذلك عظم أمر الخوارج فأتمر نفر منهم بقتل هؤلاء الثلاثة الذين ملئوا الأرض شرا بزعمهم، وهم: علي، ومعاوية، وعمرو بن العاص. ولم يبلغ أربه من هؤلاء الثلاثة إلا صاحب علي عبد الرحمن بن ملجم قتله في المسجد وهو خارج للصلاة.
وكذلك أصبحت هذه الأمة الإسلامية التي تركها النبي
صلى الله عليه وسلم
مجتمعة الكلمة، والتي همت أن تتفرق فردها أبو بكر إلى الوحدة ووجهها إلى الفتح، والتي قهر بها عمر أعظم دول العصر القديم وتركها مجتمعة الكلمة متحدة الرأي، أصبحت هذه الأمة منقسمة أشنع انقسام وأبغضه إلى الله ورسوله؛ نسيت قول الله عز وجل في سورة آل عمران:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، ونسيت قول الله عز وجل في سورة الأنفال أيضا:
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ، ثم نسيت قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.»
نسيت كل هذا واستجابت لفتنة المال وحب السلطان والاستئثار بخيرات الدنيا فضرب بعضها رقاب بعض يوم الجمل، ويوم صفين، ويوم حروراء، وفي تلك الأيام التي كان معاوية يرسل فيها كتائبه لتغير على الآمنين في المدن والقرى والبوادي أيضا على نحو ما كانت العرب تفعل في جاهليتها. وقد صدق علي - رحمه الله - في البيتين اللذين أنشدهما ذات يوم على منبر الكوفة ورويناهما آنفا وفي الثاني منهما بنوع خاص:
فإن قتلت فرهن ذمتي لهم
بذات ودقين لا يعفو لها أثر
فقد قتل رحمه الله، ومنذ قتله أظل المسلمين شر لم تنقشع سحبه إلى الآن، فقد انقسمت الأمة إلى فريقين عظيمين: فريق يرى أن عليا هو الإمام الشرعي للأمة وأن الإمامة يجب أن تكون في ولده، وفريق آخر يذهب إلى ما ذهبت إليه جماعة المسلمين بعد وفاة النبي حين اختاروا أبا بكر للخلافة، وحين بايعوا بعده عمر لا يرون أن الخلافة تورث في أهل البيت، وإنما يليها من كان كفئا لولايتها من صالحي المؤمنين. واشتد العداء بين هذين الفريقين وجعل بعضهما يكفر بعضا، ونجم بينهما فريق ثالث، وهو فريق الخوارج الذين ذهبت ريحهم الآن، والذين كانوا يكفرون الشيعة والجماعة معا ويستبيحون دماءهم وأموالهم.
صدق علي في بيته ذاك، وصدق عثمان - رحمه الله من قبله - حين قال لمحاصريه: «إن تقتلوني لا تصلوا جميعا أبدا.» وقد قتلوه فلم يصلوا جميعا أبدا، انقسموا شيعا وأحزابا، وكان كل فريق منهم لا يستحل الصلاة مع الفريق الآخر. وكانت الدنيا وزهرتها مصدر هذا الخلاف، ومصدر ما جرى من دماء، ومصدر ما بقي من آثاره إلى اليوم.
فلولا أن بني أمية طمعوا في الدنيا وغلبوا ذلك الشيخ على أمره لما كانت الفتنة بقتل عثمان. ولولا أن معاوية قد كان رجلا من بني أمية، طمع كما طمعوا وألف حكم الشام فكره أن يتركه، ثم طمع في أن يضم إليه سائر أقطار المسلمين، لما كانت الحرب بينه وبين علي، ولولا أن طلحة والزبير طمعا في الخلافة، أو في أن يشاركا عليا فيها، ولولا أن عائشة كانت تكره عليا منذ قصة الإفك، لما كانت الفتنة يوم الجمل.
وقد اجتمعت لمعاوية أقطار البلاد الإسلامية كلها بعد أن صالحه الحسن بن علي رحمه الله، فسمى نفسه أمير المؤمنين، ولكنه لم يسر سيرة من عرفنا من أمراء المؤمنين، وإنما جعل الخلافة ملكا وأورثها ابنه من بعده، واستباح أشياء حرمها الله في القرآن، فاستلحق زيادا ورغب به عن أبيه، والله ينهى أشد النهي في القرآن عن هذا الاستلحاق وأمثاله في قوله من سورة الأحزاب :
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل * ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما .
وكان زياد يعرف أباه عبيدا الرومي حين قبل هذا الاستلحاق، وفرح به، وقد نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن هذا الاستلحاق وأمثاله حين قال - فيما روى الشيخان: «ومن ادعى لغير أبيه فليتبوأ مقعده من النار.» وحين قال - فيما روى الشيخان - أيضا: «من رغب عن أبيه فهو كفر.»
ثم تتابع الخروج على الكتاب والسنة؛ لأن الإثم يدعو الإثم، ولأن حب الدنيا لا يقنع صاحبه. فالله قد حرم مكة في القرآن، وحرم النبي المدينة فيما روى الشيخان عن علي. وقد استباح بنو أمية المدينة ومكة جميعا، بدأ يزيد بن معاوية فاستباح المدينة وأنهبها ثلاثا، وثنى عبد الملك بن مروان فإذن للحجاج في أن يستبيح مكة، واستباحها الحجاج ففعل فيها الأفاعيل. كل ذلك لتخضع البلاد المقدسة لبني أبي سفيان ولبني مروان من بعدهم. واستباح ابن زياد عن أمر يزيد بن معاوية قتل الحسين وأبنائه وإخوته، وسبي بنات النبي. وكان من الممكن أن يستجيب ابن زياد للحسين حين سأله أن يسيره إلى يزيد، ولو قد فعل لعصم أحفاد النبي من هذه المذلة، ولكن الشر يدعو الشر والإثم يستتبع الإثم. وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له.
وأصبح مال المسلمين ملكا للخلفاء، ينفقونه كما يحبون لا كما يحب الله، وفيما يريدون لا فيما يريد الله من وجوه الإنفاق. فكان معاوية يشتري ضمائر كثير من أهل الكوفة والبصرة ليفسدهم على علي، ثم ظل على ذلك بعد أن استقام له الأمر، وجعل يتألف قلوب الناس حول عرشه بمال المسلمين، لا يرى بذلك بأسا ولا يرى فيه جناحا. ومضى الخلفاء من بني أمية على سنته فأسرفوا في أموال المسلمين ، وتجافوا عن سيرة النبي والشيخين من بعده وعلي رحمه الله.
وكان علي كثيرا ما يقول لأهل الكوفة: إني لأعرف ما يصلحكم ولكني لا أفسد نفسي بصلاحكم. وصدق عمر رحمه الله حين قال: لو ولوها - يريد الخلافة - ابن أبي طالب لحملهم على الجادة. وقد هم علي أن يحمل المسلمين على الجادة، ولكن المسلمين أبوا عليه، أو أبت عليه ظروف الحياة الجديدة التي أتيحت للمسلمين بعد الفتح من إحياء سنة النبي وصاحبيه. ومن أجل ذلك قال كثير من المتأخرين: إنه رحمه الله لم يكن محسنا للسياسة، وقصوره في السياسة هو الذي فرق عنه الناس وعرضه لما تعرض له من القتل.
وما أشك في أنه - رحمه الله - كان يحسن السياسة كل الإحسان، وكان جديرا لو اصطنعها أن يجمع إليه الناس ويوحد كلمتهم، ولكنه آثر الدين على الدنيا؛ فلم يشتر ضمائر الناس، ولم يستبح ما حرم الله ورسوله. وأبى أن يصلح الناس ويفسد نفسه. وذكر أنه سواء مات أو قتل فسيلقى الله وسيحاسب عما عمل في حياته، وذكر قول الله للمؤمنين في سورة المائدة:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، فحرص رحمه الله على أن يهتدي، وبلغ من ذلك ما أراد، وفارق الدنيا راضيا مرضيا لم يحتمل خطيئة ولم يقترف إثما.
6
وعن انقسام المسلمين إلى هذه الأحزاب الثلاثة: الشيعة والخوارج والجماعة، لم ينشأ ما أشرنا إليه من الشر المادي في حياتهم فحسب، بل نشأ شيء آخر ليس أقل مما ذكر خطرا، وهو تفرق المسلمين في الرأي وتفرقهم في الدين نفسه؛ فقد جعل بعضهم يكفر بعضا، وجعل رأي بعضهم يسوء في بعض، حتى لم يأمن خارجي لرجل من الشيعة أو الجماعة، ولم يأمن رجل من الشيعة أو الجماعة لخارجي، ثم لم يأمن رجل من الشيعة لرجل من الجماعة، ولم يأمن رجل من الجماعة لرجل من الشيعة. فسد رأي بعضهم في بعض، وقامت الحياة بينهم على السيف أحيانا وعلى الغش والنفاق أحيانا أخرى، وأصبح شرق الدولة ينكر غربها ويثور به كلما وجد إلى الثورة طريقا، وأصبح غرب الدولة يبغض شرقها ولا يظفر بطاعته إلا بالعنف كل العنف والاستبداد كل الاستبداد وأصبح الطغيان أصلا من أصول الحكم بين الشرق والغرب. فجعل زياد وبنوه يفسدون في الأرض ليضبطوها لبني أمية، وأباح لهم بنو أمية هذا الفساد، وجاء الحجاج بعد زياد وبنيه فملأ العراق شرا ونكرا.
ولم يكف هذا كله بل فسدت الحياة العقلية للمسلمين نفسها، فهذه الأحزاب المختصمة كانت تقتتل بالسيف حين يتاح لها الاقتتال بالسيف، وكانت تختصم بالألسنة حين تضطر إلى الأمن والدعة، فنشأت المناظرات بين الجماعة والشيعة والخوارج، وجعلوا يلتقون في المساجد وفي مساجد العراق خاصة ليختصموا، ويحاج بعضهم بعضا.
وما أسرع ما نشأت الفرقة في داخل الأحزاب، فتفرقت الشيعة فرقا، وانقسم الخوارج إلى طوائف، وانشق من الجماعة من انشق وألفوا فرقا وأحزابا، حتى كان بيت الحماسة مصورا لأمرهم أبرع تصوير، وهو:
وتفرقوا شيعا فكل جزيرة
فيها أمير المؤمنين ومنبر
وعن هذه المناظرات نشأت الفرق الكلامية؛ فللشيعة فرقها، وللخوارج فرقهم، ومن الجماعة نشأت المرجئة ونشأت المعتزلة، ولم تلبث المعتزلة أن انقسمت فرقا أيضا، وأهل السنة أنفسهم لم يعصموا من هذا التفرق، فذهب بهم الجدل مذاهبه، وإذا نحن أمام فرق المتكلمين تتجاوز السبعين، كلها يقول: لا إله إلا الله، فيعصم دمه ونفسه وماله، وحسابه بعد ذلك على الله، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأصحابه في بعض الحديث. ولكنهم على ذلك يكفر بعضهم بعضا، ويستبيح بعضهم دم بعض، ويستبيح السلطان امتحان المخالفين له في المذهب بالفتنة العظيمة والبلاء الشديد، وليس من شك في أن هذا الجدل والاختلاف وتفرق الرأي قد ملأ الدنيا علما، وجعل للأمة الإسلامية تاريخا فكريا رائعا خصبا.
ولكن ليس من شك أيضا في أن هذا كله قد ضر الدين أكثر مما نفعه، وأساء إلى الإسلام أكثر مما أحسن إليه.
وتستطيع أن تتصور هذا في وضوح حين توازن بين أصحاب النبي، الذين كانوا يسمعون القرآن وحديث النبي فتصدق عقولهم وتؤمن قلوبهم، ولا يخطر لهم أن يجادلوا فيما سمعوا ؛ لأن القرآن واضح كل الوضوح، ولأن الحديث الصحيح الذي يثبت عن النبي واضح كل الوضوح أيضا، ولأن من سفه النفس وسخف الرأي أن يقول الله أو يقول رسوله فيختصم الناس فيما قال الله ورسوله.
تستطيع أن توازن بين أصحاب النبي الذين سمعوا القرآن ينبئهم بأن الله سميع بصير، وبأنه عليم حكيم، وبأنه واحد، وبأنه قدير، فلم يخطر لواحد منهم أن يسأل عن هذه الصفات التي وصف الله بها نفسه: أهي زائدة على ذاته أم هي عين ذاته، كما اختلف المسلمون حين جعل المعتزلة ينكرون أن تكون لله صفات تقوم بذاته، وإنما صفاته هي ذاته، وسموا أنفسهم من أجل ذلك أصحاب التوحيد، وحين جادلهم خصومهم في ذلك فأكثروا وأسرفوا وسموهم معطلين. وكما اختصموا في قول الله:
يد الله فوق أيديهم ، وجعلوا يتساءلون عن هذه اليد التي أضافها الله إلى نفسه، استعملت في القرآن مجازا أم حقيقة؟ كذلك في السمع والبصر وما إليهما من الصفات التي ذكرت في القرآن، وتستطيع كذلك أن توازن بين أصحاب النبي حين سمعوا الله يوعد الكافرين بالعذاب الخالد المقيم. ويعد المؤمنين بالنعيم الخالد المقيم، ويخوف المذنبين من المسلمين عقابه الشديد ولا يوئسهم مع ذلك من عفوه ومغفرته، ويعدهم عفوه ومغفرته إن تابوا وأصلحوا.
سمع أصحاب النبي هذا كله فلم ينكروا ولم يسرفوا في السؤال ولم يتورطوا في الجدال، وسمع المتكلمون ذلك فجعلوا يسألون، أو جعل فريق منهم يسأل عن مقترف الكبيرة: أمؤمن هو أم كافر؟ ثم لم يستطيعوا أن يقولوا إنه كافر؛ لأنه يعلن أن لا إله إلا الله، ولم يستطيعوا أن يقولوا إنه مؤمن؛ لأنه خالف عن أمر الله باقتراف الكبيرة، فزعموا أنه ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وقالوا: إنه فاسق. وحظروا على الله العفو عن مقترف الكبيرة؛ لأنه إن عفا لم يكن عادلا والعدل واجب لله. كما حظروا على الله عقاب المؤمن الذي لم يذنب؛ لأنه إن عاقبه لم يكن عدلا. ولجوا في هذه المقالات حتى أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس، وحتى أغروا بأنفسهم شاعرا كأبي نواس الذي قال لبعض المعتزلة:
فقل لمن يدعي في العلم فلسفة
حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأ فطنا
فإنه حظر له بالدين إزراء
وقال قائلهم: إنه لا تقبل شهادة طلحة والزبير - رحمهما الله - في باقة بقل؛ لأنهما في زعمه قد خالفا عن أمر الله. ولم ينسوا إلا شيئا واحدا وهو أن الله عز وجل يقول في سورة النساء:
إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا .
ويقول في سورة الزمر:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
فهؤلاء الوعيدية ييأسون ويوئسون الناس من عفو الله ورحمته ومغفرته إذا أذنبوا، على حين أن الله في هاتين الآيتين، وفي آيات أخرى من القرآن، يفتح لهم أبواب الأمل واسعة. وقد بينا فيما مضى من هذا الحديث أن الله عز وجل يوعد الناس إن اقترفوا الذنوب حتى يشرف بهم على اليأس، ثم يفتح لهم باب الأمل حتى يعصمهم من هذا اليأس، ويغريهم بالتوبة والإقلاع عن الذنوب، وما أكثر ما يقرن الله وعده بوعيده، كما قال في سورة الحجر:
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم .
وهذا الاختلاف بين الفرق الإسلامية يرجع قبل كل شيء إلى الفتنة التي سادت بقتل عثمان - رحمه الله - وبما كان من الحرب بين أصحاب النبي بعد مقتله. فالفرق الأولى التي نشأت عن هذه الفتنة اختصمت فيما بينها أشد الاختصام، حتى قالت الخوارج بكفر علي وأصحابه، وكفر معاوية وأصحابه. وقالت الشيعة بكفر معاوية ومن ناصره من أهل الشام. وجعلت هذه الفرق تتقاذف بالكفر، وأبى المعتزلة من أصحاب النبي، كسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة أن يشاركوا في شيء من هذه الفتنة وأبوا كذلك أن يكفروا أحدا من المسلمين حتى كان بعضهم يقول: لا أقاتل حتى تأتوني بسيف ينطق فيقول : هذا مؤمن وهذا كافر. وكره قوم هذا التقاذف بالكفر، والحكم فيما لا ينبغي أن يحكم فيه إلا الله وحده فوقفوا موقف الإرجاء، وتركوا أمر هؤلاء المختصمين إلى الله يقضي بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه، فيحسن ثواب البر ويشدد عقاب الفاجر إن شاء أو يخففه أو يعفو عنه.
وتجاوزت المعتزلة التي نجمت فيما بعد ما ألف الصالحون من القصد فأغرقوا في تحكيم العقل فيما لا يستطيع العقل أن يحكم فيه. تكلموا أولا فيما تكلمت فيه الفرق القديمة من هذا التقاذف بالكفر، فاخترعوا المنزلة بين المنزلتين وقرروا أن مقترف الكبيرة ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو فاسق خالف عن أمر الله فلم يعد مؤمنا، وأظهر الإسلام واعترف بوحدة الله وصدق نبيه فلم يصر إلى الكفر، ورتبوا على هذا المذهب أن مقترف الكبيرة لا تقبل شهادته في الدنيا وأنه مخلد في النار بعد الموت.
وبينما كان المسلمون يختصمون في هذه المسائل لقوا اليهود والنصارى وغيرهم من الفرس والهند، وجادلوهم في دياناتهم كما جادلهم أولئك في الإسلام، فعرفوا من مذاهبهم في الدفاع عن دياناتهم أشياء لم يكونوا يعرفونها، ثم لم يلبثوا أن عرفوا ألوانا من الثقافات الأجنبية، والثقافة اليونانية خاصة، والفلسفة اليونانية على وجه أخص. فتأثروا بهذا كله واتخذوه وسيلة إلى الدفاع عن دينهم كما فعل النصارى واليهود، ثم مضوا إلى أبعد من ذلك فآمنوا بالعقل وحكموه في كل شيء، وزعموا أنه وحده مصدر المعرفة، وأنه هو الذي يحسن ويقبح من أعمال الناس حسنها وقبيحها، وأنه يستطيع أن يعرف الله، وأن يعرفه بقوته، سواء جاءته الأنبياء الهداة إلى الله أو لم يجيئوا. وقد غرهم إيمانهم بالعقل فدفعهم إلى شطط بعيد، ولم يخطر لهم أن العقل الإنساني ملكة من ملكات الإنسان، وأن هذه الملكة كغيرها من ملكات الإنسان محدودة القوة، تستطيع أن تعرف أشياء وتقصر عن معرفة أشياء لم تهيأ لمعرفتها. وهذا هو الذي فتح عليهم أبواب هذا الاختلاف الذي لا ينقضي، وجعلهم فرقا نيفت على السبعين.
ثم لم يكفهم هذا كله فزعم الزاعمون منهم أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قد نبأ بهذا الاختلاف، ونبأ بعدد الفرق التي ستنشأ في الإسلام، ونبأ بأن فرقة واحدة منها هي الناجية - في الحديث الذي رواه رواتهم - وأن سائرها هالك، وذلك كله في الحديث الذي رواه رواتهم، والذي أكاد أقطع بأنه اخترع بأخرة، مهما يكن السند أو الأسانيد التي ركبت له، هو قولهم عن النبي: ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، الناجية منهم واحدة والباقون هلكى. قيل: ومن الناجية؟ قال: أهل السنة والجماعة. قيل: ومن أهل السنة والجماعة؟ قال: «ما أنا عليه اليوم وأصحابي.»
والشيء الذي لا شك فيه أن كثرة هذه الفرق، وما يضاف إليها من المقالات، إنما نشأت عما كان من التقاء الإسلام بالديانات والثقافات الأجنبية على اختلافها، ونحن نعلم كيف فتن كثير من المسلمين بالفلسفة اليونانية، وبما رأوه من أن فلاسفة اليونان قد استكشفوا ألوانا من المعرفة لم تكن تخطر للعرب على بال، في شئون الرياضة والطبيعة والطب. وهم قد رأوا فلاسفة اليونان قد تجاوزوا بعقولهم ما تستطيع أن تعلم إلى ما لا تستطيع أن تعلم، فبحثوا عن الله وعن صفاته وخصائصه، وذهبوا في ذلك مذاهبهم المعروفة، فما يمنع المفلسفين من المسلمين أن يذهبوا مذهب هؤلاء الفلاسفة من اليونان، وأن يحاولوا أن يستكشفوا بعقلهم الطبيعة، وما وراء الطبيعة، وما يمنع المتكلمين من أن يذهبوا مذهب الفلاسفة فيعملوا العقل فيما لا يحسن العقل أن يعمل فيه من البحث والنظر، ويتخذوا وسائل الفلسفة سبيلا إلى محاجة غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، فيعود عليهم هذا كله بالاختلاف فيما بينهم، كما اختلف غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى حين عرفوا الفلسفة وأقحموها في شئون الدين. وهذا هو الذي جعل المعتزلة مثلا يقرءون القرآن والسنة فيرون أن الله قد وصف نفسه بصفات فيبحثون عن هذه الصفات، ويأبون إلا أن يصلوا فيها إلى ما يرون أنه الحق، وهم قد قرءوا في القرآن أمر الله للناس أن يتفكروا ويتدبروا، ليعلموا أن هذا العالم بما فيه من العجائب والنظام الدقيق لا يمكن أن يوجد من غير موجد له، فظنوا أن العقل يستطيع أن يعرف كل شيء، وأن يعرف الله ذاته، وحقائق ما يصف به نفسه من الصفات. فتورطوا في أشياء أساغتها عقولهم ولا تستطيع عقولنا نحن أن تسيغها، ولسنا في حاجة إليها لنحسن الإيمان بالله والعلم بقدرته، وبما وصف نفسه به من الصفات؛ لأننا قد عرفنا أن العقل الإنساني ليس من القوة والنفوذ بحيث ظن فلاسفة اليونان ومن تبعهم من متفلسفي النصارى واليهود والمسلمين، وإنما هو كما يقول أبو نواس: قد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء.
وانظر إلى رجل حكيم كأبي العلاء، كيف غره الإيمان بالعقل فظن أنه هو الإمام ولا إمام غيره، وأنه وحده يهدي الناس في المسير والإرساء، فقال في الرد على بعض غلاة الشيعة:
كذب الظن لا إمام سوى العق
ل مشيرا في صبحه والمساء
فإذا ما أطعته جلب الرح
مة عند المسير والإرساء
وكيف انتهى به إيمانه بالعقل إلى مقالة لا يسيغها الدين ولا يقرها الإسلام في قوله:
قلتم لنا خالق حكيم
قلنا صدقتم كذا نقول
زعمتموه بلا مكان
ولا زمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء
معناه ليست لنا عقول
فعقله لم يستطع أن يتصور الخالق الحكيم في غير زمان ولا مكان.
فاضطره ذلك إلى أن يصف الخالق الحكيم بما يصف به سائر المخلوقات من الخضوع للزمان والمكان، وهذا سخف لا يقول به مؤمن.
وأكبر الظن أن أبا العلاء نفسه لم يثبت عليه؛ فهو يقول في قصيدة أخرى:
أما ترى الشهب في أفلاكها انتقلت
بقدرة من مليك غير منتقل
وما يجوز عليه التحيز في مكان يجوز عليه الانتقال منه إلى مكان غيره، ولا يجوز أن يقضي أبو العلاء على الخالق الحكيم القادر الذي يؤمن به بالعجز، وبالتزامه مكانا واحدا لا يريمه، إن كان مستقرا في مكان.
وكل هذا وأمثاله عند أبي العلاء وغيره، من الذين غرهم العقل فأسرفوا في الإيمان به، وحكموه فيما لا يستطيع أن يحكم فيه، لا يدل إلا على الحيرة والعجز، والقصور عن بلوغ الحقيقة التي حاولوا أن يبلغوها.
ومثل ذلك يقال في المجسمة والمشبهة وكل الذين حاولوا أن يعرفوا الله بعقولهم معرفة دقيقة. ولم يكتفوا بما اكتفى به النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه - رحمهم الله - من قبول نص القرآن وفهمه في يسر وإسماح، وفي غير تكلف ولا إسراف في التأويل، والله عز وجل ينبئنا في القرآن بأنه أنزل الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، وبأن الذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، مع أن العلم بتأويله موقوف على الله عز وجل، وبأن الراسخين في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وذلك في قوله عز وجل من سورة آل عمران:
هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب * ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
وهذه هي المقالة التي يجب على كل مؤمن أن يقول بها ويتخذها دينا، ولست أدري أيصل العقل يوما إلى أن يبلغ ما لم يبلغه إلى الآن من القوة أم لا؟ ولكن الشيء المحقق هو أن عقل القدماء وعقل المحدثين من أصحاب الفلسفة والعلم ما زالا أضعف وأقصر باعا من أن يصلا إلى استكشاف حقيقة الله، أو البحث عن صفاته وإصدار هذه الأحكام التي أصدرها الفلاسفة والمتكلمون؛ اغترارا بالعقل واستجابة لما لا تنبغي الاستجابة له.
ومن أجل هذا أقول: إن المؤولين من المحدثين كالمؤولين من القدماء قد استجابوا لعقولهم القاصرة واغتروا بها، وقالوا فيما ليس لهم أن يقولوا فيه، وطمعوا فيما ليس لهم أن يطمعوا فيه. ولو قد تواضع أولئك وهؤلاء، ووقفوا أنفسهم حيث تنتهي قوتهم، لكان خيرا لهم وللذين افتتنوا بهم من الناس.
فهؤلاء الذين يزعمون أن الطير الأبابيل، وما رمت به جيش الحبشة أمام مكة، إنما كانت وباء من الأوبئة، وكانت الحجارة ضربا من الميكروبات. إنما يقولون هذا من عند أنفسهم، وهم يعلمون حق العلم أن النبي وأصحابه لم يفهموا هذه السورة على هذا النحو، وما كان لهم أن يفهموها على هذا النحو، فهم لم يكونوا يعرفون الميكروب، وما كان لهم أن يعرفوه. والذين يقولون إن السموات السبع التي تذكر في القرآن هي الكواكب السيارة، إنما يرجمون بالغيب ويقولون ما لم يقله النبي وأصحابه. ومصدر هذا أنهم يريدون أن يلائموا بين القرآن ومستكشفات العلم الحديث، فيضطرهم ذلك إلى تكليف النصوص من التأويل ما لا تحتمل. وليس على الدين بأس أن يلائم العلم الحديث أو لا يلائمه، فالدين من علم الله الذي لا حد له، والعلم الحديث كالعلم القديم محدود بطاقة العقل الإنساني، وبهذا العالم الذي يعيش الإنسان فيه.
ومن أسخف السخف أن نحاول الملاءمة بين ما لا حد له وما هو محدود بطبعه، وصدق الله حين أنبأ بأن الراسخين في العلم يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
وشر آخر نشأ عن اختلاف هذه الفرق فملأ حياة المسلمين فسادا أي فساد، وهو الغلو في التأويل إلى أبعد ما يتصور العقل، وإلى غير ما يفهم صراحة من نصوص القرآن. وذلك حين اضطرت بعض الأحزاب إلى أن تسر دعواتها، وتستخفي بمذهبها في السياسة أولا وفي الدين بعد ذلك كهؤلاء الباطنية الذين زعموا أن العلم بالدين علمان: علم الظاهر وهو ما عليه الناس في كثرتهم، وعلم الباطن وهو ما هم عليه. وجعلوا يتركون ظاهر النص؛ لأنه لا يليق إلا بعامة الناس ولا يلائم خاصتهم، ثم يلتمسون للنص تأويلا يخالف كل المخالفة ما يفهم منه لغة، وما فهمته جماعة المسلمين حين سمعوا النبي يتلو عليهم القرآن ويبين لهم ما أنزل إليهم، وغلوا في ذلك كل الغلو حتى أحدثوا لأنفسهم دينا لا يدين به غيرهم من المسلمين فأفسدوا الدين والعقل معا، ثم نشأ التصوف ونشأ في أول أمره زهدا غلا فيه أصحابه وأنكره النبي
صلى الله عليه وسلم ، فهو قد رد على عثمان بن مظعون - رحمه الله - رهبانيته، وشدد على عبد الله بن عمرو بن العاص حين أزمع أن يصوم الدهر وحين غلا في قراءة القرآن، وأراد أصحابه على أن يأخذوا دينهم بالرفق وبالإسماح، وذكرهم بما أنبأهم به القرآن من أنه يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، ومن أنه لم يجعل عليهم في الدين من حرج، وأمر الغلاة منهم في الصيام والقيام أن يصوموا ويفطروا وأن يقوموا ويناموا، ولا يحرموا على أنفسهم ما أحل الله لهم، بل بالغ النبي
صلى الله عليه وسلم
في ذلك حتى استخفى من أصحابه ببعض عبادته مخافة أن يشق عليهم، وأن يتقيدوا به فيتكلفوا ما لا يطيقون، ونهاهم عن أن يواصلوا في صومهم فيصوموا الليل والنهار جميعا. فلما قالوا له: إنك تواصل! قال: «إني لست كهيئتكم، إني أظل يطعمني ربي ويسقيني.» يريد أن الله قد منحه من القوة والجلد على عبادته ما لم يمنحهم.
وعلى رغم هذا ظهر الزهد، وأبى فريق من صالحي المسلمين إلا أن يرفضوا لين الحياة، ويشددوا على أنفسهم في العبادة والتقشف والإعراض عن اللذات، وليس بهذا كبير بأس، فالناس أحرار في أن يزهدوا إن أطاقوا الزهد ولم يسوءوا به أحدا، ولكن هذا الزهد لم يلبث أن تطور حين نشأت الفرق وجعل أمره يتعقد شيئا فشيئا، حتى نشأ عنه التصوف الذي عرف في أواخر القرن الأول وازداد تعقيدا حين اشتد اتصال المسلمين بالثقافات الأجنبية، فلم يلبث التصوف أن تأثر بما عرف المسلمون من ثقافة الهند والفرس، ومن ثقافة اليونان خاصة، وتحول الزهد من تفرغ للعبادة وإمعان فيها إلى محاولة الاتحاد بالله أو الاتصال به، أو معرفته من طريق الإشراق. ثم اختلط التصوف بمذاهب الباطنية فازداد تعقيدا إلى تعقيد، وانحرف عما عرف الناس من شئون الدين، وأصبح مذهبا بعينه، بل أصبح مذاهب يختلف فيها المختلفون، وتكلم المتصوفون بأشياء أنكرها الفقهاء والمحدثون والمتكلمون، وامتحن فيها بعضهم محنة شديدة انتهت أحيانا إلى القتل والصلب كما جرى على الحلاج.
وليس التصوف مقصورا على الإسلام بل هو معروف في الديانات الأخرى وفي المسيحية خاصة، ولكن متصوفة الإسلام أسرفوا على أنفسهم، ثم أسرفوا بعد ذلك على الناس، فصار أمر التصوف بعد أن فشا الجهل والجمود إلى ألوان من الشعوذة والدجل حتى أصاب عامة الناس منه شر كثير، لو رآه أئمة الصوفية الأولون لضاقوا به أشد الضيق وأنكروه أعظم الإنكار.
ثم لم يقف أمر الاختلاف بين المسلمين عندما وصفنا، ولكنهم اختلفوا في استنباط الأحكام التي يحتاج إليها الناس في حياتهم الاجتماعية، بل في عباداتهم أيضا اختلافا كثيرا نشأ عنه جدل لا يحصى بين الفقهاء. فكان أهل الحجاز في القرن الأول والثاني يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة، وما أجمع عليه أصحاب النبي، وما عمل به الممتازون منهم، يرون أن أصحاب النبي لا يجمعون على شيء إلا أن يكونوا قد استندوا في إجماعهم على سنة من النبي، ويرون أن الممتازين من الصحابة قد اشتد اتصالهم بالنبي حتى فقهوا الدين حق فقهه وتحروا سنته في أحكامهم، وكان أهل العراق يستنبطون الأحكام من القرآن والسنة والإجماع، ولكنهم لا يكرهون أن يلجئوا إلى الرأي إذا أعوزتهم هذه الأصول، واشتد الجدال بين أولئك وهؤلاء، وكثر الخلاف بين أصحاب الرأي أنفسهم، فكثر الكلام في الفقه، كما كثر الكلام بين الذين اشتغلوا بأصول الدين إلى اختلاف الفرق القديمة في استنباط الأحكام. فللشيعة فقههم، وللخوارج فقههم. كل يقيم مذهبه في استنباط الحكام على مذهبه في السياسة وفي أصول الدين أيضا.
وكذلك بلغ الخلاف بين المسلمين في الأصول والفروع أقصى ما يمكن أن يبلغ، ثم أدركهم ما يدرك الأمم قبلهم وبعدهم من الضعف والجهل والانحطاط، فصار أمرهم إلى شر عظيم.
وقبل الحديث عن الجهل وما ترك في حياة المسلمين من شر يشقون به إلى الآن، لا بد من وقفة قصيرة عند ألوان من التعصب نشأت عن كثرة الفرق في الأصول والفروع جميعا، فكما كانت الأحزاب السياسية في أول الأمر تتقاذف بالكفر، ويستبيح بعضها دم بعض حين تمكنه الفرصة، أو يتاح له الخروج على السلطان، جعلت فرق المتكلمين تتقاذف بالكفر أحيانا وبالفسق غالبا، وتستبيح امتحان الناس بالسجن والضرب والقتل، إن أتيح لها الاتصال بالسياسة والاستيلاء على عقول الحكام وقلوبهم، كالذي كان حين غلب المعتزلة على عقل المأمون، وألقوا في قلبه مقالتهم هذه السخيفة، التي لا تقدم ولا تؤخر في فقه أصول الدين وفروعه، والتي لم يدفع إليها إلا الغلو في البحث والإمعان في الجدل، وهي مقالتهم في خلق القرآن؛ فهم قد أنكروا أن تكون لله صفات تقوم بذاته، وقرروا أن الله عالم بذاته وقادر بذاته إلى آخر ما قرروا فيما يسمونه التوحيد، ونظرا لأن الله قد أنبأ في القرآن بأنه كلم موسى تكليما وبأنه أنزل القرآن على محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأمر النبي أمرا مباشرا بأن يبلغ الناس عنه ما أنزل إليه، وأمره أمرا مباشرا غير مرة بأن يقول لهم أشياء مختلفة، يوجه بعضها إلى المسلمين ويوجه بعضها إلى الكافرين ويوجه بعضها إلى الناس جميعا؛ فقد استنبطوا من كل هذا أن كلام الله مخلوق محدث قد أنشأه الله بعد أن لم يكن وأنزله على أنبيائه فهو كغيره من الكتب التي ينشئها الناس إلا أنه هنا قد أنشأه الله كما أنشأ غيره من المخلوقات. ولو قد قالوا مقالتهم هذه ولم يفتنوا بها الناس لكان حسابهم إلى الله وحده، ولكنهم سيطروا على المأمون وأقنعوه بمقالتهم هذه، وأقنعوه أيضا بأن القول بغيرها إشراك بالله وخروج من الدين؛ لأن قدم القرآن معناه أن يكون هناك قديمان، مع أن القديم واحد لا شريك له ولا نظير له في القدم، وهو الله عز وجل. ثم لم يكفهم ذلك فحملوا المأمون على أن يفرض رأيهم هذا على المسلمين، ويبدأ بعلمائهم وفقهائهم ومحدثيهم. واستجاب لهم المأمون بعد تردد وجعل يمتحن علماء المسلمين ويفرض هذه المقالة على كل من يعمل في خدمة الدولة، بل في خدمة الأمة من القضاة والعمال والشهود، وقرر أنه ليس في حاجة إلى أن يستعين على خدمة الدولة الإسلامية بالمشركين. وألزم العمال أن يمتحنوا القضاة في ذلك فمن أجاب إلى رأيه أقر على عمله ومن أبى صار إلى العزل. وأمر القضاة أن يمتحنوا الشهود ولا يقبلوا إلا شهادة من يقول برأيه ويعلن إيمانه بأن القرآن مخلوق. ثم جعل يمتحن الفقهاء والمحدثين، فمنهم من أجاب إلى رأيه تقية وتجنبا لاحتمال المكروه، ومنهم من أبى فتعرض للسجن وتعرض للضرب، ولو قد عاش المأمون لتعرض خصومه من العلماء للقتل، فهو قد أمر عامله على بغداد أن يمتحن جماعة من العلماء، فمن أجاب إلى رأيه أطلقه ومن خالف عن رأيه ضرب عنقه وأرسل إليه رأسه.
وكان حين أصدر هذا الأمر إلى عامله على بغداد قد خرج من العراق محاربا للروم. والناس جميعا يعرفون أن أحمد بن حنبل - رحمه الله - لقي في هذه المحنة بلاء عظيما فصبر صبر الأبطال واحتمل السجن الطويل والحرمان الشديد والضرب المبرح الذي أضعفه إلى أن توفي. وأكبر الظن أن المعتزلة صاروا بالمأمون في هذه المقالة إلى شيء يشبه الجنون، ولولا أنه قد مات في سفره ذاك لملأ الأرض شرا ونكرا، ولكن الواثق والمعتصم سارا في هذه المسألة سيرة المأمون مع شيء من القصد، فلم يصلا بالممتحنين إلى القتل كما هم المأمون أن يفعل، وإنما اكتفيا بالسجن والضرب والحرمان. ولولا أن المتوكل ألغى هذه المحنة وعاد إلى القصد في حكم المسلمين لتعرض أمر الخلافة العباسية لخطر أي خطر.
وكذلك الأمر كلما اتصل رجال الدين - والغلاة منهم في الرأي - بالسلطان وسيطروا عليه. فقد أشرنا آنفا إلى الحلاج وقتله وصلبه. وقد حدث شيء من هذا الامتحان لبعض العلماء في الغرب الإسلامي؛ فمنهم من سجن كابن رشد، ومنهم من حرقت كتبه كابن حزم. وليس لهذا كله مصدر إلا أن الغلاة من الأحرار كالمعتزلة في المشرق، والغلاة من المحافظين كالفقهاء في المغرب الإسلامي، قد استطاعوا أن يستأثروا ببعض الحكام ويفرضوا عليهم غلوهم في الرأي، وأخذهم الناس بما لم يعرف عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، والذين يقرءون القرآن والسنة يعرفون ما لقي النبي وأصحابه المؤمنون من المنافقين في المدينة وفي باديتها، ويعرفون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يعرض لأحد منهم بسوء، وإنما احتملهم صابرا عليهم مطاولا لهم، طامعا في أن يثوبوا يوما إلى الرشد، أو أن تمسهم رحمة من الله فتخلص قلوبهم للدين، وكان يستغفر لأحيائهم ويصلي على موتاهم، حتى قال الله له:
استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم .
وقال له:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ، وربما عرض عليه عمر بن الخطاب أو غيره من أصحابه أن يقتلوا بعض المنافقين فلم يأذن لأحد منهم في ذلك.
وقد روى الشيخان أن شيئا من الخصومة وقع بين رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار في غزوة بني المصطلق، وتعصب لكل واحد منهما نفر من أصحابه، فبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين من أهل المدينة، فقال: لئن رجعنا المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وارتفعت القصة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فسأله عمر بن الخطاب أن يأذن في قتل هذا المنافق، فأبى وقال: «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.» وذكر الله هذه المقالة التي قالها عبد الله بن أبي بن سلول فقال في سورة المنافقون:
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .
واعترض رجل على إعطاء النبي من غنائم حنين لبعض المؤلفة قلوبهم، وواجه النبي باعتراضه، فقال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. فلم يزد النبي في جوابه على أن قال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!» واستأذنه بعض أصحابه في قتل هذا الرجل فأبى.
وإذن فقد علم الله ما أضمر المنافقون من الكفر في قلوبهم فلم يحرض النبي عليهم، ولم يأذن له في قتل أحد منهم، وإنما نهاه أن يصلي عليهم إن ماتوا أو يقوم على قبورهم.
ولم ينطق النبي عن الهوى حين قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله.»
وحين قال: «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.»
وكان الفقهاء والمحدثون الذين هم المأمون بقتلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيعصمون بها دماءهم وأموالهم، ثم لم يكونوا يقولون هذه الكلمة بألسنتهم وإنما كانوا من صالحي المؤمنين وأصحاب الورع والزهد فيهم. ومن الخلفاء العباسيين من غلا في امتحان بعض الناس وأسرف في قتلهم. يأخذ بعضهم بالشبهة والوشاية وسوء القالة، كالذي صنع المهدي حين تتبع الزنادقة، فقتل منهم أفرادا لم يتثبت من كفرهم وإنما أخذهم بسوء القالة وسعي بعض الناس فيهم بالسوء. وغلا في ذلك حتى أمر بعض وزرائه أن يقتل ابنه بيده. وقال له: قم فتقرب إلى الله بدمه.
وكل هذا إسراف لم يأته النبي ولا نعرف أن خلفاءه الراشدين قاتلوا أو قتلوا المسلمين، إلا حين جاهروا بالخروج من الدين وأظهروا له العداوة ولم يعصموا دماءهم وأموالهم بالإسلام.
ولست في حاجة إلى أن أذكر زيادا، ذلك الذي أعلن في خطبته المشهورة أنه سيأخذ البريء بالمسيء والصحيح في دينه بالسقيم. ولا أذكر الحجاج الذي أسرف في القتل بغير الحق؛ فقد كان زياد والحجاج طاغيتين أطلق خلفاء بني أمية أيديهما وأيدي غيرهما من ولاة العراق في دماء الناس وأموالهم فأفسدوا وأمعنوا في الفساد.
وجملة القول أن الغلو في الرأي، حمل الناس على ما لا يؤمنون به، وأخذ الناس بالشبهة وقتلهم أو تعذيبهم بالظنة، كل هذه أشياء ينكرها الإسلام ويأباها أشد الإباء ويبرأ الله ورسوله منها. ولا يعمد إليها من حكام المسلمين إلا الذين يطيعون الهوى ويمتنعون على العقل ويخالفون عن القوانين الصريحة للدين.
وعن اختلاف الأحزاب واختصامها بالسيف أحيانا، وباللسان غالبا في القرن الأول وصدر من القرن الثاني، وعن اختلاف الفرق بعد ذلك ولجاجها في الخصومة، نشأت الدعوة السرية لبعض المذاهب السياسية، وكان هذا مصدر اضطرابات كثيرة زعزعت أحيانا مركز الخلافة في دمشق أولا، وفي بغداد بعد ذلك.
كانت قوة السلطة المركزية في العصر العباسي خاصة تمنع الناس من الجهر بآرائهم السياسية والنضال عنها، فلم يكن لهم بد من أن يسروا آراءهم، ويستخفوا بدعوتهم، ويدبروا ثوراتهم من وراء الحجب الصفاق. أضف إلى هذا أن الثقافة في العصر العباسي تجاوزت طبقة العلماء المتخصصين وطبقة الأغنياء الذين كانوا يستطيعون أن يأخذوا منها بحظوظ مختلفة، وتغلغلت في بعض طبقات الشعب؛ فلم يلبث الناس أن عرفوا حقوقهم، وشعروا بما كان يفرض عليهم من ظلم السلطان، واستئثار الأغنياء دونهم بطيبات الحياة، واستذلالهم للفقراء، واستغلال الأقوياء للضعفاء؛ فنشأت عن ذلك الدعوة إلى لون من الثورة، لم يخلص للسياسة ولم يخلص للدين أيضا، وإنما كان مطالبة بالحقوق الاجتماعية، وجهادا في سبيل تحقيق العدل وشيء من المساواة. فكانت ثورة الزنج في البصرة، تلك التي ثار فيها الرقيق بالسادة، والتي عرضت مركز الخلافة لخطر عظيم، واضطر أولو الأمر في بغداد إلى أن ينفقوا في مقاومتها جهدا مضنيا ومالا مبهظا، ولم يستطيعوا إخمادها إلا بعد حرب عنيفة شديدة العنف، طويلة مسرفة في الطول.
ولم تكد هذه الثورة تخمد حتى نشأت ثورة اجتماعية أخرى، كانت أشد منها خطرا وأعظم منها انتشارا، وهي ثورة القرامطة التي دعت إلى شيء من العدل والمساواة، يوشك أن يكون هدما للنظام الاجتماعي الذي كان قائما. وقد ملأت الدنيا شرا في العراق والشام وبلاد العرب، وكادت ترد كل شيء إلى الفوضى، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل عمل الشيعة العلويون سرا وجهدوا واجتهدوا، وأتقنوا الكتمان والاستخفاء بدعوتهم، حتى أتيح لهم أن ينشئوا لحزبهم دولة في شمال أفريقيا، لم تلبث أن انتشرت وقوي أمرها، حتى سيطرت على مصر والشام وبلاد العرب.
ونظر المسلمون ذات يوم فإذا هم خاضعون لثلاثة من الخلفاء، أضعفهم الخليفة العباسي في بغداد، ذلك الذي لم يكن له من الحكم إلا ظاهره. وكان الخليفة الثاني في مصر، بعد أن أنشأ الفاطميون مدينة القاهرة واستقروا فيها، وكان الخليفة الثالث في قرطبة بالأندلس، حيث أوت سلالة الأمويين التي فرت حين نشأت الدولة العباسية في المشرق، فأنشأت دولتها في الأندلس ضعيفة أول الأمر قوية بعد ذلك.
وكانت هذه الدول الثلاث تتنافس أشد التنافس، ويبغض بعضها بعضا أعظم البغض، قد انقسم بنو هاشم إلى خلافة عباسية في بغداد وخلافة علوية في القاهرة، وقام بنو أمية في قرطبة يبغضون العباسيين والعلويين جميعا، وظهر بين علماء الأندلس رجل كابن حزم لم يتردد في الجهر بأن تعدد الخلفاء جائز لا بأس به. وقد رأيت من قبل أن الله أمر المسلمين أن يعتصموا بحبله جميعا ولا يتفرقوا.
فانظر إلى ما صار إليه اعتصامهم بحبل الله من الفرقة والانقسام، واستباحة الحرب بينهم، مع أن النبي والصالحين من أصحابه لم يكونوا يبغضون شيئا كما كانوا يبغضون الفرقة والانقسام، حتى روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قوله: «من حمل علينا السلاح فليس منا.» وقد روينا لك غير مرة قوله
صلى الله عليه وسلم : «ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض.» وليس لشيء من هذا كله مصدر إلا افتتان الناس بزهرة الحياة الدنيا، وانحرافهم عما أراد الله للمسلمين من أن يقيموا أمرهم كله على العدل والمساواة والإنصاف. واختلافهم في فهم القرآن تأثرا بالأهواء، واستجابة لما كان يملأ نفوسهم من الطموح.
7
على أن هذا كله لم يلبث أن صار إلى شر عظيم حين غلبت العناصر الأجنبية على شئون الحكم، فأقامت هذه الشئون على المنافع، غير حافلة بما يأمر به الله من العدل والإنصاف والمساواة، والشعور المتصل بهذه الرقابة الرهيبة التي فرضها الله على الناس، فراقب أعمالهم الظاهرة ونياتهم الباطنة، وأنبأ بأنه سيسأل الناس عما تعمل جوارحهم وما تضمر قلوبهم. أعرضوا عن هذا كله وأقاموا أمور الحكم على المنافع العاجلة، وعلى المنافع العاجلة لأنفسهم ولأعوانهم وذوي خاصتهم، ولم يحفلوا بالعامة، ولم يفكروا في أن للأمة حقوقا يجب أن تؤدى إليها، وعليها واجبات يجب أن تحمل على أدائها. بل نظروا إلى الأمة على أنها وسيلة لإرضاء المطامع، وأداة لتحقيق المآرب، والأصل الديني في كل حكم صالح أن تكون الأمة غاية وتكون الحكومة وسيلة، وتكون الغاية الكبرى التي تشترك فيها الحكومة والأمة هي إرضاء الله بتحقيق العدل ومحو الجور حيثما وجد، وشعور الحاكمين والمحكومين جميعا بأنهم لم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى، لم يستخلفوا في الأرض ليفسدوا فيها ويسفكوا الدماء، ويطغى بعضهم على بعض ويستغل بعضهم نشاط بعض. وإنما خلقوا ليصلحوا ويحسنوا ويعملوا على أن يلقوا ربهم كما يجب أن يلقوه أتقياء أنقياء مبرئين من الذنوب والآثام، التي تعرضهم لها الفتنة، وإيثار المنافع العاجلة الفانية على المنافع الآجلة الباقية.
ثم لم يكتف الحكام الأجانب بهذا كله، ولكنهم جهلوا اللغة العربية فلم يقدروها حق قدرها، ولم يلتفتوا إلى أنها لغة القرآن والسنة والثقافة، وأن إهمالها إهمال لهذا كله، وأن عاقبة هذا الإهمال إنما هي الجهل؛ جهل الدين أولا، وجهل الثقافة والعلم ثانيا، والانتهاء آخر الأمر إلى أن تقوم أمور الناس على الجهل الذي يناقض العلم، وعلى الجهل الآخر الذي يناقض الحلم والأناة وكبح الشهوة وقهر النفس، وأخذها في أمرها كله بالحق والعدل والمساواة بين الناس، وأداء الواجبات مهما تثقل.
وإلى الجهل بهذين المعنيين صارت أمور المسلمين آخر الأمر، جهل الحكام شئون الدين وشئون الثقافة والعلم فلم يحفلوا بنشر الدين والثقافة والعلم، فانتهى أمر الأمة نفسها إلى الجهل العام. وعن هذا الجهل العام نشأ الشر الذي يحاول المسلمون في هذا العصر الحديث أن يخلصوا منه، فلا يبلغون من ذلك بعض ما يريدون إلا بأشق المشقة وأعظم الجهد. وإذا أهملت الحكومة شئون الدين فلم تشجع العلماء على أن ينشروه بين أصحابه، وبين الذين لم تصل إليهم دعوته بعد، ولم تشجع الناس على أن يتعلموا دينهم؛ هان أمر العلماء بالدين على الحكومة أولا، وعلى الأمة ثانيا، وعلى أنفسهم آخر الأمر. فأهملوا ما كان يجب عليهم أن يعنوا به من الدرس والبحث وتعمق الأصول، واستخراج فروع الأحكام التي تلائم حياة الناس على مر الأيام وتطور الظروف.
ومن أجل هذا كله غاضت تلك الينابيع الغزيرة التي كانت تمد عقول الفقهاء بهذا الإنتاج الخصب الرائع، الذي لا نعرف أنه أتيح لأمة قديمة قبل الأمة الإسلامية، حتى الأمة الرومانية التي برعت في الفقه وتعمقته. وقد كان فقهاء المسلمين في أول أمرهم يجتهدون في فهم القرآن والسنة وسيرة الصالحين من أصحاب النبي، ويستنبطون الأحكام من هذا كله، لا يصدهم عن ذلك شيء، ولا يردهم عنه رضى السلطان عنهم أو سخطه عليهم، ولا التفاف الناس حولهم أو انصرافهم عنهم، فأنشئوا هذا العلم الخصب وذهبوا فيه المذاهب. وكان اختلاف مذاهبهم نافعا للناس في حياتهم العامة، وفي حياتهم الخاصة كان مذكيا لعقولهم وقلوبهم أولا، وكان بعد ذلك يوسع عليهم ألوان الحل لما كان يعرض لهم من المشكلات.
وكان الناس يجدون حين يطلبون العلم في العناية بالفقه وتعمقه، والتصرف في معضلاته، حتى إذا أهمل العلم والدين وجمد العقل وانقطع التفكير الخاص؛ صار الناس إلى هذا التقليد البغيض، يتحرج علماؤهم من الاجتهاد، ويطمئن عامتهم إلى هذا التقليد، وفرضت على الأمصار والأقاليم مذاهب هؤلاء الأئمة الأربعة: مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل - رحمهم الله.
وفرغ الفقهاء لدرس مذهب من هذه المذاهب يجادلون عنها ويتكلفون التعمق لها، يقلد كل جماعة منهم إماما من هؤلاء الأئمة ويضعون مذهبه موضع التقديس، لا ينحرفون عنه ولا يغيرون فيه. ثم انتهى أمرهم إلى التعصب لأئمتهم والتنكر لغيرهم من المجتهدين، حتى أضاعوا علما كثيرا ذهب مع الزمن لشدة الانصراف عنه وقلة التفكير فيه، ثم تعصب أصحاب الأئمة الأربعة لأئمتهم فثارت بينهم الخصومات السخيفة التي لا تغني عنهم ولا عن عامة الناس شيئا. ثم صار العقل الفقهي إلى شيء من التحجر، وجعل الفقهاء يبدئون ويعيدون فيما قال قدماؤهم، لا يزيد متأخر على متقدم شيئا، ثم صار الفقه إلى كتب تقليدية مختصرة توضع لها الشروح وتضاف إليها الحواشي. وجعل شباب الطلاب يحفظون المختصرات عن ظهر قلب، ويختلفون إلى أساتذتهم ليسمعوا منهم شروحا وحواشي، يفهمون منها ما يستطيعون ويتركون منها ما لا يحسنون فهمه، وأتيح لبعض البلاد الإسلامية حكام يقلدون مذهبا من المذاهب، فيفرضونه على المحكومين، ويختارون القضاة من فقهاء هذا المذهب لا يتجاوزونه إلى غيره. وجمدت العامة مع الفقهاء فأصبح هذا الشعب يدين بمذهب أبي حنيفة، لا يستبيح أن تحل مشكلاته بحكم مذهب آخر. وشعب آخر يدين بمذهب مالك لا يعدوه إلى غيره، وأتيح لبعض الشعوب أن يكون من أبنائه الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة، ولم يحفل الحكام بذلك ولم يهتموا له، وإنما اكتفوا بأن يختاروا لكل أصحاب مذهب قضاة من أهل مذهبهم.
وكذلك كان في مدينة كالقاهرة قاض للحنفية، وآخر للشافعية وثالث للمالكية، وعلى هذا النحو. وأي شر أعظم أثرا في حياة الناس من ألا يجمعهم قانون واحد تقوم عليه الأحكام فيهم، وتحل به المشكلات التي تعرض لهم.
ولم يكن الكلام أحسن حظا من الفقه. فقد انتهى أمره إلى الجمود والعقم. وفرض على الناس مذهب بعينه من مذاهب المتكلمين، يراه علماؤهم دينا ويرون ما عداه من المذاهب انحرافا عن الجادة وجورا عن الطريق. وأصابه ما أصاب الفقه من اختصار الكتب ووضع الشروح والتعقيب عليها بالحواشي، حتى أصبحت العقول أدوات لا عمل لها إلا أن تبدئ وتعيد، وتهذي في غير انقطاع كما يهذي المحمومون.
وصار أمر العلوم كلها إلى ما صار إليه أمر الفقه والكلام، مختصرات تحفظ عن ظهر قلب، وشروح تفسر هذه المختصرات، وحواشي وتقارير تردها إلى الغموض والتعقيد بعد اليسر والإسماح. وإذا جمدت عقول العلماء على هذا النحو جمدت عقول تلاميذهم، وأصبح الجمود شيئا تتوارثه الأجيال جيلا عن جيل.
ثم تعرضت العقول للخرافات والسخافات والأساطير، التي يتراكم بعضها إلى بعض ويتراكب بعضها فوق بعض، وصار العلم إلى شيء من الإعجام، وأغلق بابه على أوساط الناس فضلا عمن هم أقل منهم، وأطبق على علماء الأمة وعامتها سحب متكاثفة من الجهل والتواء التفكير، ثم الاستسلام والإذعان لكل ما يقال لهم وكل ما يراد بهم. وبعد الأمد إلى أقصى حدود البعد بينهم وبين قديمهم، فنسوا تاريخهم ونسوا علومهم وما ترك الأولون فيها من الكنوز التي لا تقدر ولا تحصى، والتزموا كتبا بعينها تتوارثها أجيالهم يفهمونها أو لا يفهمونها، فليس الفهم هو الشيء المهم وإنما المهم هو أن تقرأ الكتب الطوال في مجالس الدرس، وتحفظ الكتب القصار قبل الاختلاف إلى مجالس الأساتذة.
والأستاذ مقيد بما يقرأ من ألفاظ الشراح وأصحاب الحواشي لا يضيف إليها شيئا. قد وقف عقله عن التفكير واقتصر جهده كله على قراءة النص المختصر وتفسيره بالشرح المكتوب والتعقيب عليه بالحواشي المكتوبة أيضا على هذه الشروح.
وأصبح الأساتذة والطلاب أشبه شيء بالببغاء يحكي كل واحد ما سمع من شيخه ويحيكه بلفظه ما وجد إلى ذلك سبيلا. وقد أتيح للمسلمين لحسن حظهم أفراد من العلماء في عصور مختلفة لم يجحدوا التقليد جماعة، وإنما حاولوا أن يعملوا عقولهم ويثبتوا شخصيتهم وينشروا النور من حولهم، وينظروا من علم القدماء فيما أعرض الناس عن النظر فيه.
وكان هؤلاء العلماء يجدون نفورا منهم وإعراضا عنهم، وربما وجدوا تشهيرا بهم ومقاومة لهم، وربما أصابهم أذى يكثر ويقل باعتبار الظروف التي تحيط بهم وتحيط بالناس من حولهم.
وانظر إن شئت إلى سيرة ابن تيمية وما أصابه من إنكار العلماء الجامدين عليه، وبطش الحكام المستبدين به.
وكذلك صار أمر المسلمين إلى هذا النكر الذي عرضهم لألوان من المكروه ما كانوا ليتعرضوا لها لو سلكوا طريق قدمائهم. فلم يتركوا عقولهم تصير إلى هذا الجمود والخمود.
والكوارث السياسية بالطبع هي مصدر هذه المحنة التي امتحن بها المسلمون قرونا طوالا، والتي أطمعت فيهم دولا أجنبية لم تكن من الإسلام في شيء، رأتهم جاهلين غافلين مذعنين للظلم راضين بما كان يصب عليهم من الجور والهضم والاستذلال. وإذا بلغت الشعوب هذا الحد من الضعف ضعفت حكوماتها فلم تجد من القوة إلا ما يمكنها من ظلم الرعية واستذلالها واستغلالها. ولم تستطع أن ترد عن نفسها ولا عن شعوبها طمع الطامعين فيها، وكيد الكائدين لها ومكر الماكرين بها، واعتداء المعتدين عليها، بل ربما وجدت الشعوب شيئا من السرور والرضى بسقوط حكوماتها وانهزامها أمام العدو المغير، يئست من عدل هذه الحكومات ونظرت إليها على أنها شر سلط عليها، فتمنت أن يزول عنها هذا الشر، فهي طامعة في شيء من العدل قليل أو كثير عند المغيرين عليها والمحتلين لبلادها، نسيت كرامتها وجهلت هذه الكرامة وغفلت عن حقوقها وعن واجباتها أيضا، وطمعت في شيء واحد هو أن تخلص من هذا الشر الجاثم عليها.
وكذلك كثر المغامرون أولا، وكثر معهم الاضطراب والفساد، ثم جاء المستعمرون فوجدوا كل شيء قد مهد للاستعمار، ففتحوا واستعمروا وفتحوا أبوابا من الآمال الكاذبة أمام هذه الشعوب اليائسة، حتى إذا استقرت لهم الأمور تبين اليائسون البائسون أنهم لم يخرجوا من بؤسهم ذاك إلا ليفرض عليهم بؤس أشد منه. وأي بؤس أشد نكرا من أن يتحكم الأجنبي في حياة الناس وأرزاقهم ومصالحهم، وفي آمالهم ومستقبلهم.
كانوا عبيدا أو كالعبيد لقوم يمتون لهم ببعض الأسباب، فأصبحوا عبيدا أو كالعبيد لقوم ليسوا منهم في قليل ولا كثير، يختلفون عنهم في كل شيء ولا يقاربونهم في شيء.
وإذا هم يعودون إلى شر مما كانوا فيه من البؤس والقنوط.
ولم يصر شأن علوم اللغة العربية والعلوم العقلية إلى خير مما صارت إليه أمور الفقه والكلام، تقليد في هذه كالتقليد في تلك، وجمود مطبق في هذه كالجمود المطبق في تلك. شمل القصور ملكات العقول كلها، فلم تبتكر شيئا ولم تحسن التفكير في شيء، بل لم تحتفظ بقديمها نفسه، وإنما خلت بينه وبين الجهل يلقى من دونه حجبا كثافا وأستارا صفاقا.
ولو أن هذا الجهل المطبق رد عقول الناس إلى فطرتها الأولى، وجعلها متهيئة لتلقي ما يمكن أن ينقل إليها من علم جديد، لكان قليل هذا العلم الجديد جديرا أن يذكرها بكثير علمها القديم. ولكن الناس أحبوا الجمود واطمأنوا إليه، وحرصوا على الاستمساك به، ورأوا كل جديد بدعة أي بدعة وإثما أي إثم، بل رأوا إحياء التراث القديم نفسه شرا يجب اجتنابه وينبغي للرجل الكريم أن يتقي شره، ووصفوا إحياء القديم العربي في الأدب واللغة والفلسفة بأنه عناية بالقشور وإهمال اللباب، واللباب بالطبع هو ما يبدئون وما يعيدون فيه من الكلام المعقد الذي لا يغني عنهم ولا عن غيرهم شيئا. ولم يقصر هذا الجمود على وطن بعينه من الأقطار العربية والإسلامية، ولكنه جثم على العالم الإسلامي كله كما تجثم ظلمة الليل على الأرض، وأبطأ إسفار الشمس التي تذود هذه الظلمة عن القلوب والعقول جميعا، حتى أصبح العالم الإسلامي نهبا للطامعين فيه والمعتدين عليه من المستعمرين الغربيين.
ثم كان الاتصال بهؤلاء الغربيين حين أقبلوا عليهم مستعمرين لهم، فنبههم أو نبه أقلهم من هذا النوم العميق، وإذا هم يشعرون على مر الزمن بما تتابع عليهم من الكوارث وما أطبق عليهم من الجهل، حتى ناموا واستيقظ الناس، وسكنوا وتحرك الناس. وإذا هؤلاء الأقلون يحاولون إيقاظ الكثرة النائمة، ويبلون في ذلك أحسن البلاء، ويحتملون في سبيله فنونا من النكير والتشهير والأذى.
وما أظن المصريين نسوا جهاد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده - رحمهما الله - في هذه السبيل، وما لقيا من السخط عليهما والمكر بهما، والتنكر لمن ذهب مذهبهما أو اختلف إلى دروسهما. وليس لهذا مصدر إلا أن النائمين يكرهون اليقظة، ويكرهون بالطبع من يدعوهم إليها، كما أن الذين استراحوا إلى الجمود لا يبغضون شيئا كما يبغضون الحركة والداعين إليها.
ومع ذلك فقد نامت الأمة الإسلامية قرونا طوالا، ولكنها حين استيقظ بعض الممتازين منها ودعوها إلى اليقظة في إلحاح، أتيح لها في الوقت القصير شيء لا بأس به من التنبه، بل شيء لا بأس به من التقدم وإن لم تزل بعيدة أشد البعد عن أن تكون جديرة بتاريخها الإسلامي البعيد.
وما أحب أن أثبط الهمم، ولا أن أفل العزائم، ولا أن أشيع اليأس، ولكني أقول تقوية للأمل وتمضية للعزم وإلحاحا مع الملحين في أن يثوب الناس إلى أنفسهم، ويتمثلوا هذه الآماد البعيدة أشد البعد بينهم وبين قدمائهم من جهة، وبينهم وبين الأمم الحديثة المتحضرة المسيطرة على العالم الحديث من جهة أخرى. ليعلموا أن الطريق بينهم وبين الرقي الصحيح طويلة شديدة الطول، شاقة عظيمة المشقة، وأنهم قد أتيح لهم الآن شيء من يقظة تمكنهم من أن يختاروا بين اثنتين: إحداهما أن يظلوا كما هم الآن أيقاظا كالنيام، ونياما كالأيقاظ؛ فيتعرضوا لخطوب أشد هولا وأعظم أثرا من الخطوب التي تتابعت عليهم. والثانية أن يستيقظوا حقا ويستدركوا ما فاتهم حين وقفوا ومشى الناس، ليصبحوا أكفاء لقدمائهم من جهة، وأندادا للذين يحاولون أن يستذلوهم من جهة أخرى. ويجب عليهم أن يذكروا أن حكامهم من الأجانب في العصور الماضية كانوا جهالا ففرضوا عليهم الجهل، وأن الطامعين فيهم الآن بعيدون كل البعد عن الجهل، فسيكون ظلمهم لهم أقوى وأعنف من ظلم حكامهم الأجانب فيما مضى.
والمستعمرون في هذا العصر الحديث يوشكون أن يفرضوا عليهم ضروبا من العلم قد تخرجهم من الجهل، ولكنها ستقطع الأسباب حتما بينهم وبين تاريخهم وتفنيهم في الأمم المستعمرة إفناء.
فلينظروا بين هاتين الخطتين وليختاروا إحداهما، وما أرى إلا أنهم سيختارون، بل عسى أن يكون كثير منهم قد اختار بالفعل، خطة اليقظة والنهوض.
8
وسبيلهم إلى هذه اليقظة الخصبة واحدة لا ثانية لها، وهي أن يذكروا ما نسوا من تراثهم القديم، لا ليقولوا إنهم يذكرونه، بل ليعرفوه حق معرفته، ويفقهوه جد الفقه، ويحسن المتخصصون منهم العلم بدقائقه وتيسيره لغير المتخصصين.
هذه واحدة، والثانية أن يستدركوا ما فاتهم من العلم الحديث، ويبتغوا إليه الوسائل التي تتيح لهم أن يتحققوه كما يتحققه أصحابه، وأن يوطنوه في بلادهم ويجعلوه ملكا لهم، وأن يبذلوا من الجهد ما يمكنهم في يوم قريب من ألا يكونوا عيالا على المستأثرين به، بل من أن يشاركوا فيه مشاركة الأنداد الأكفاء.
بهذه الخطة وحدها يستطيعون أن يسلكوا سبيل قدمائهم، الذين عرفوا حق المعرفة كيف يحافظون على ما ورثوا من العرب القدماء: الجاهليين والمسلمين الأولين. وكيف يدرسونه أحسن الدرس وأوسعه وأعمقه. وعرفوا في الوقت نفسه كيف يأخذون الثقافات الأجنبية، وكيف يسيغونها ويتمثلونها ويضيفون إليها من عند أنفسهم، وكيف ينشرون نور المعرفة بهذا كله في البلاد التي تستأثر بالعلم الآن، وتريد أن تفرض عليهم سيطرتها.
وواضح أن هذا الحديث لا يطمع في أن يرسم للمسلمين خطة دقيقة للرقي، وإنما يطمع في شيء هو أهون من ذلك، ولكنه عظيم الخطر إلى أبعد ما يمكن أن يعظم الخطر لأمر من الأمور، وهذا الشيء متصل بالإسلام وحده، فالقرآن بين أيدي المسلمين يقرءونه ويسمعونه ويتعبدون به، ولكن الذين يفهمونه حق فهمه من بينهم يمكن إحصاؤهم، ويجب أن يكونوا من الكثرة فوق الإحصاء، ويجب أن يتجاوزا به أنفسهم، وأن ينشروا العلم الصحيح به بين الناس.
والثابت من سنة النبي
صلى الله عليه وسلم
محفوظ قد نشر في الكتب، وجعل كثير من الناس ينظرون فيه، ولكن الذين يفقهونه أقل من القليل. ويجب أن يكثروا وأن ينشروا منها على الناس ما يبين لهم حقائق القرآن أولا، ويفقههم في أمور دينهم ثانيا.
وسيرة الخلفاء الصالحين من المسلمين معروفة منشورة يقرؤها المؤرخون، ولكن العلم بها لا ينبغي أن يقصر بها على المؤرخين، وإنما يجب أن يشيع بين الناس، وأن تيسر لهم قراءته وفهمه. علم العلماء سجل في الكتب ينشر قليله، وأكثره ما زال نائما كما نامت الأمة الإسلامية، فيجب أن يفيق من نومه، وأن يكون قريب التناول للذين يحسنون درسه وفقهه من العلماء.
وهذا كله لا يكفي؛ لأنه لا يزيد على أنه ترقية للعقول وتزكية للأفهام، وويل للعلم بشئون الدين وحقائقه إذا لم يتجاوز العقول والأفهام إلى القلوب والأمزجة، ويؤثر في الضمائر أعمق التأثير، ويؤثر في السيرة الظاهرة لهم أعمق التأثير أيضا.
وقد عرضت في هذا الحديث صورة إن تكن شديدة الإيجاز، فإنها شديدة الوضوح لحياة النبي
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رحمهم الله.
فلو لم يكن لهذا الحديث أثر إلا أن يقرأه الناس، ويجتهدوا ما استطاعوا في أن يحملوا أنفسهم على أن يسيروا في أمور دينهم ودنياهم سيرة النبي وأصحابه والصالحين من المسلمين، وينفوا عن أنفسهم وعقولهم وقلوبهم ما أصابها من التقليد والجمود، وما استقر فيها من السخف والأوهام. لو لم يكن لهذا الحديث أثر إلا هذا لكان قد بلغ بعض ما أردت، حين أخذت في إملائه، وصدق الشاعر القديم حين قال:
وما أدري إذا يممت أمرا
أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه
أم الشر الذي هو يبتغيني
والله يعصمنا من الشر ويوفقنا إلى الخير، وهو قد قال في كتابه العزيز:
وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فعسى أن يجيبنا إلى هذه الدعوة، وله الحمد أولا وآخرا.
نامعلوم صفحہ