وتفرقوا شيعا فكل جزيرة
فيها أمير المؤمنين ومنبر
وعن هذه المناظرات نشأت الفرق الكلامية؛ فللشيعة فرقها، وللخوارج فرقهم، ومن الجماعة نشأت المرجئة ونشأت المعتزلة، ولم تلبث المعتزلة أن انقسمت فرقا أيضا، وأهل السنة أنفسهم لم يعصموا من هذا التفرق، فذهب بهم الجدل مذاهبه، وإذا نحن أمام فرق المتكلمين تتجاوز السبعين، كلها يقول: لا إله إلا الله، فيعصم دمه ونفسه وماله، وحسابه بعد ذلك على الله، كما قال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأصحابه في بعض الحديث. ولكنهم على ذلك يكفر بعضهم بعضا، ويستبيح بعضهم دم بعض، ويستبيح السلطان امتحان المخالفين له في المذهب بالفتنة العظيمة والبلاء الشديد، وليس من شك في أن هذا الجدل والاختلاف وتفرق الرأي قد ملأ الدنيا علما، وجعل للأمة الإسلامية تاريخا فكريا رائعا خصبا.
ولكن ليس من شك أيضا في أن هذا كله قد ضر الدين أكثر مما نفعه، وأساء إلى الإسلام أكثر مما أحسن إليه.
وتستطيع أن تتصور هذا في وضوح حين توازن بين أصحاب النبي، الذين كانوا يسمعون القرآن وحديث النبي فتصدق عقولهم وتؤمن قلوبهم، ولا يخطر لهم أن يجادلوا فيما سمعوا ؛ لأن القرآن واضح كل الوضوح، ولأن الحديث الصحيح الذي يثبت عن النبي واضح كل الوضوح أيضا، ولأن من سفه النفس وسخف الرأي أن يقول الله أو يقول رسوله فيختصم الناس فيما قال الله ورسوله.
تستطيع أن توازن بين أصحاب النبي الذين سمعوا القرآن ينبئهم بأن الله سميع بصير، وبأنه عليم حكيم، وبأنه واحد، وبأنه قدير، فلم يخطر لواحد منهم أن يسأل عن هذه الصفات التي وصف الله بها نفسه: أهي زائدة على ذاته أم هي عين ذاته، كما اختلف المسلمون حين جعل المعتزلة ينكرون أن تكون لله صفات تقوم بذاته، وإنما صفاته هي ذاته، وسموا أنفسهم من أجل ذلك أصحاب التوحيد، وحين جادلهم خصومهم في ذلك فأكثروا وأسرفوا وسموهم معطلين. وكما اختصموا في قول الله:
يد الله فوق أيديهم ، وجعلوا يتساءلون عن هذه اليد التي أضافها الله إلى نفسه، استعملت في القرآن مجازا أم حقيقة؟ كذلك في السمع والبصر وما إليهما من الصفات التي ذكرت في القرآن، وتستطيع كذلك أن توازن بين أصحاب النبي حين سمعوا الله يوعد الكافرين بالعذاب الخالد المقيم. ويعد المؤمنين بالنعيم الخالد المقيم، ويخوف المذنبين من المسلمين عقابه الشديد ولا يوئسهم مع ذلك من عفوه ومغفرته، ويعدهم عفوه ومغفرته إن تابوا وأصلحوا.
سمع أصحاب النبي هذا كله فلم ينكروا ولم يسرفوا في السؤال ولم يتورطوا في الجدال، وسمع المتكلمون ذلك فجعلوا يسألون، أو جعل فريق منهم يسأل عن مقترف الكبيرة: أمؤمن هو أم كافر؟ ثم لم يستطيعوا أن يقولوا إنه كافر؛ لأنه يعلن أن لا إله إلا الله، ولم يستطيعوا أن يقولوا إنه مؤمن؛ لأنه خالف عن أمر الله باقتراف الكبيرة، فزعموا أنه ليس مؤمنا ولا كافرا، وإنما هو في منزلة بين المنزلتين، وقالوا: إنه فاسق. وحظروا على الله العفو عن مقترف الكبيرة؛ لأنه إن عفا لم يكن عادلا والعدل واجب لله. كما حظروا على الله عقاب المؤمن الذي لم يذنب؛ لأنه إن عاقبه لم يكن عدلا. ولجوا في هذه المقالات حتى أسرفوا على أنفسهم وعلى الناس، وحتى أغروا بأنفسهم شاعرا كأبي نواس الذي قال لبعض المعتزلة:
نامعلوم صفحہ