عن هذا الاستلحاق وأمثاله حين قال - فيما روى الشيخان: «ومن ادعى لغير أبيه فليتبوأ مقعده من النار.» وحين قال - فيما روى الشيخان - أيضا: «من رغب عن أبيه فهو كفر.»
ثم تتابع الخروج على الكتاب والسنة؛ لأن الإثم يدعو الإثم، ولأن حب الدنيا لا يقنع صاحبه. فالله قد حرم مكة في القرآن، وحرم النبي المدينة فيما روى الشيخان عن علي. وقد استباح بنو أمية المدينة ومكة جميعا، بدأ يزيد بن معاوية فاستباح المدينة وأنهبها ثلاثا، وثنى عبد الملك بن مروان فإذن للحجاج في أن يستبيح مكة، واستباحها الحجاج ففعل فيها الأفاعيل. كل ذلك لتخضع البلاد المقدسة لبني أبي سفيان ولبني مروان من بعدهم. واستباح ابن زياد عن أمر يزيد بن معاوية قتل الحسين وأبنائه وإخوته، وسبي بنات النبي. وكان من الممكن أن يستجيب ابن زياد للحسين حين سأله أن يسيره إلى يزيد، ولو قد فعل لعصم أحفاد النبي من هذه المذلة، ولكن الشر يدعو الشر والإثم يستتبع الإثم. وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له.
وأصبح مال المسلمين ملكا للخلفاء، ينفقونه كما يحبون لا كما يحب الله، وفيما يريدون لا فيما يريد الله من وجوه الإنفاق. فكان معاوية يشتري ضمائر كثير من أهل الكوفة والبصرة ليفسدهم على علي، ثم ظل على ذلك بعد أن استقام له الأمر، وجعل يتألف قلوب الناس حول عرشه بمال المسلمين، لا يرى بذلك بأسا ولا يرى فيه جناحا. ومضى الخلفاء من بني أمية على سنته فأسرفوا في أموال المسلمين ، وتجافوا عن سيرة النبي والشيخين من بعده وعلي رحمه الله.
وكان علي كثيرا ما يقول لأهل الكوفة: إني لأعرف ما يصلحكم ولكني لا أفسد نفسي بصلاحكم. وصدق عمر رحمه الله حين قال: لو ولوها - يريد الخلافة - ابن أبي طالب لحملهم على الجادة. وقد هم علي أن يحمل المسلمين على الجادة، ولكن المسلمين أبوا عليه، أو أبت عليه ظروف الحياة الجديدة التي أتيحت للمسلمين بعد الفتح من إحياء سنة النبي وصاحبيه. ومن أجل ذلك قال كثير من المتأخرين: إنه رحمه الله لم يكن محسنا للسياسة، وقصوره في السياسة هو الذي فرق عنه الناس وعرضه لما تعرض له من القتل.
وما أشك في أنه - رحمه الله - كان يحسن السياسة كل الإحسان، وكان جديرا لو اصطنعها أن يجمع إليه الناس ويوحد كلمتهم، ولكنه آثر الدين على الدنيا؛ فلم يشتر ضمائر الناس، ولم يستبح ما حرم الله ورسوله. وأبى أن يصلح الناس ويفسد نفسه. وذكر أنه سواء مات أو قتل فسيلقى الله وسيحاسب عما عمل في حياته، وذكر قول الله للمؤمنين في سورة المائدة:
يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ، فحرص رحمه الله على أن يهتدي، وبلغ من ذلك ما أراد، وفارق الدنيا راضيا مرضيا لم يحتمل خطيئة ولم يقترف إثما.
6
وعن انقسام المسلمين إلى هذه الأحزاب الثلاثة: الشيعة والخوارج والجماعة، لم ينشأ ما أشرنا إليه من الشر المادي في حياتهم فحسب، بل نشأ شيء آخر ليس أقل مما ذكر خطرا، وهو تفرق المسلمين في الرأي وتفرقهم في الدين نفسه؛ فقد جعل بعضهم يكفر بعضا، وجعل رأي بعضهم يسوء في بعض، حتى لم يأمن خارجي لرجل من الشيعة أو الجماعة، ولم يأمن رجل من الشيعة أو الجماعة لخارجي، ثم لم يأمن رجل من الشيعة لرجل من الجماعة، ولم يأمن رجل من الجماعة لرجل من الشيعة. فسد رأي بعضهم في بعض، وقامت الحياة بينهم على السيف أحيانا وعلى الغش والنفاق أحيانا أخرى، وأصبح شرق الدولة ينكر غربها ويثور به كلما وجد إلى الثورة طريقا، وأصبح غرب الدولة يبغض شرقها ولا يظفر بطاعته إلا بالعنف كل العنف والاستبداد كل الاستبداد وأصبح الطغيان أصلا من أصول الحكم بين الشرق والغرب. فجعل زياد وبنوه يفسدون في الأرض ليضبطوها لبني أمية، وأباح لهم بنو أمية هذا الفساد، وجاء الحجاج بعد زياد وبنيه فملأ العراق شرا ونكرا.
ولم يكف هذا كله بل فسدت الحياة العقلية للمسلمين نفسها، فهذه الأحزاب المختصمة كانت تقتتل بالسيف حين يتاح لها الاقتتال بالسيف، وكانت تختصم بالألسنة حين تضطر إلى الأمن والدعة، فنشأت المناظرات بين الجماعة والشيعة والخوارج، وجعلوا يلتقون في المساجد وفي مساجد العراق خاصة ليختصموا، ويحاج بعضهم بعضا.
وما أسرع ما نشأت الفرقة في داخل الأحزاب، فتفرقت الشيعة فرقا، وانقسم الخوارج إلى طوائف، وانشق من الجماعة من انشق وألفوا فرقا وأحزابا، حتى كان بيت الحماسة مصورا لأمرهم أبرع تصوير، وهو:
نامعلوم صفحہ