وقد وفق عمر إلى كل ما حاول من حل المشكلات وتدبير الأمور، وحكم الأقطار البعيدة عنه والقريبة منه؛ توفيقا لم يكن ينتظر من رجل من أهل مكة لم يعرف من أمور الدنيا إلا أيسرها، ولم يبل شئون الحكم قبل خلافته، وهو بعد ذلك يحكم أمما ليست على حال العرب من البداوة، وإنما هي متحضرة ممعنة في الحضارة، قد عرفت من أنظمة الحكم ضروبا وألوانا.
وما رأيك في خليفة ينبئه أحد عماله بأنه قد حمل إليه خمسمائة ألف من الدراهم، فلا يصدقه وإنما يظن به الجهد والإعياء، ويأمره أن يذهب فيستريح، ثم يأتيه من غد، فإذا جاءه من الغد وأنبأه بما حمل إليه من المال صعد المنبر وأعلن إلى الناس: أن قد جاءه مال كثير، فإن شاءوا كاله لهم كيلا، وإن شاءوا هاله لهم هيلا، كل ذلك لنصف مليون من الدراهم؛ فكيف به حين جاءته الملايين الكثيرة والعروض المختلفة التي لا تكاد تحصى! وإذا كان النجح قد أتيح لعمر لما آتاه الله من عبقرية، فهو كذلك قد أتيح لقواده الذين فتحوا الأرض، وعماله الذين حكموا الأقاليم، وكلهم كان كهيئة عمر لم يبل من الحرب إلا أيسرها وأهونها شأنا، ولم يعرف من شئون الحكم إلا أدناها إلى السذاجة البدوية، فكيف بهم حين حكموا الشام ومصر والعراق وفارس! وأتيح هذا النجح أيضا للجند الذين قهروا أعظم دولتين في الأرض حين ذاك: دولة الفرس ودولة الروم. وهم لم يعرفوا قط من شئون الحرب إلا ما كانوا يألفون من هذه الحرب الأولية، التي كانت تثار بين القبائل. لم يعرفوا الجيوش الضخمة، ولا أداة الحرب التي ابتكرتها الحضارة، ولا حصار المدن ولا اقتحامها، وهم مع ذلك قد انتصروا أي انتصار، ونشروا لواء الإسلام في أقطار الأرض شرقا وغربا، وأزالوا من الأرض دولة عظيمة لم تستطع جيوش روما ولا جيوش قسطنطينية أن تزعزعها، وهي دولة الفرس الساسانيين.
وقد عرفت أن أكثر هؤلاء الجند كانوا قد ارتدوا بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
عن الإسلام مع قبائلهم، وأبوا أن يؤدوا الزكاة حتى قاتلهم عليها أبو بكر، فانظر إليهم بعد أن عادوا إلى الإسلام كيف أحسنوا في سبيله البلاء، وكيف جاهدوا فأمعنوا في الجهاد، وكيف صبروا فأبلغوا في الصبر، وكيف جنوا نتيجة هذا كله نصرا مؤزرا.
وما أشك أن القرآن هو المؤثر الأول في هذا كله، كانوا يقرءونه أو يقرأ عليهم فيملأ نفوسهم روعة، وقلوبهم إيمانا، ويدفعهم هذا كله إلى أن يفعلوا الأعاجيب، وإلى أن يتيحوا لقائد من قوادهم - هو خالد بن الوليد - أن يكتب إلى بعض محاربيه حين دعاهم إلى الإسلام أو إلى الخضوع وأداء الجزية، ثم قال لهم بعد ذلك: «فإن أبيتم فإني جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» واقرأ إن شئت حديث الفتح في كتب التاريخ، وفي تاريخ الطبري خاصة، فسترى فيما تقرأ من العبر والعظات والأعاجيب ما يقنعك بأن بلاء المسلمين في تلك الحروب ، وما أتيح لهم من الظفر، إنما كان نتيجة لأثر الإسلام والقرآن خاصة في نفوس أولئك المجاهدين.
وانظر إليهم حين يتلو عليهم القاص الذي كان يطوف على الجنود، فيعظهم ويحمسهم للحرب حين يتهيئون للقاء العدو.
انظر إليهم حين يتلو عليهم هذه الآية الكريمة، من سورة التوبة مثلا:
ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين .
فأي غرابة في أن تملأهم هذه الآية وأمثالها من آيات القرآن الكريم ثقة وأمنا وأملا واطمئنانا إلى أنهم من غير شك ظافرون بإحدى الحسنيين، فإما الانتصار على العدو، والفوز بما في أيديهم من الملك وزهرة الحياة الدنيا، مع الأجر العظيم عند الله، وهو خير من كل ما ظفروا به، وإما الفوز بنعمة الشهادة والحياة عن الله، فرحين بما أتاهم الله من فضله، ومستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما يقول الله عز وجل في الآية الكريمة من سورة آل عمران.
نامعلوم صفحہ