في ذكرى ولادته: مختصر سيرة ريحانة المصطفى صلى الله عليه وآله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين ،
في مفترق الحياة ، ودوامة الدنيا ، يحتاج الإنسان إلى ملاذ يلجأ إليه ويمده بالقوة ، .. لا أعني بالقوة هنا الحديد والنار ونحوهما ، بل القوة التي يتميز بها الإنسان عن سائر البهائم والحيوانات ، القوة الشفافة - إن صح التعبير - قوة الإيمان .. والصبر .. والتضحية .. والإرادة .. وسائر المثل العليا ، هذه القوة التي وإن سقط جسد صاحبها أرضا أمام القوى الحسية فإن اسمه وذكره يظل عاليا خفاقا في سماء المجد والكرامة .
مصدر هذه القوة قد يكون من القوة الخفية لله سبحانه وتعالى ، تلك القوة التي يشعر بها المقربون الذين وصلت بهم المعرفة إلى أعلى الدرجات ، وقد تكون بواسطة القوى الحسية التي تتجلى في حياة الأسوة الحسنة والتي ترفع الهمة والعزيمة عند أتباعهم ، وتهون عليهم عثرات الزمان . والقارئ لكتاب الله يعلم مدى حرص القرآن على سرد قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكأنه يواسي الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ومن بعده أمته جمعى ، ويعطيهم العزيمة ... والقوة التي تحدثنا عنها ، فكانت آيات كتاب الله من نحو : ( وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) ، هي الملاذ لرسولنا صلى الله عليه وآله وسلم .. تزيده عزيمة وإرادة وقوة إلى عظيم قوته .
فإذا كان ذلك النبي على عظمته وعلو شأنه قد اهتم رب العالمين جل ثناؤه بإعطائه الجرع المعنوية عن طريق آيات كتابه .. أفلا نكون نحن أكثر احتياجا لمثل ذلك ؟! فأين ؟! وكيف ؟!
نعم ؛ نحن محتاجون بل في أمس الحاجة إلى مصدر لتلك القوة ، ولذلك ، - ولغيره من الأسباب - اصطفى الله بيتا مباركا وضع فيه آياته وبيناته ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) وأفاض على أهله ألطافه وإنعامه ، وأسبل عليهم رحمته الظاهرة والباطنة وملأهم هدى وخصهم بالنور الزائد ، وجعلهم ملاذ هذه الأمة ، ومنار كل سالك ، جعلهم الله مصدر كل قوة ... ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) .
الإعداد الإلهي كان محركا أساسيا .. وفي زواج الزهراء عليها السلام دليل واضح على ذلك ؛ يقول أبوها خير الأولين والآخرين صلوات الله عليه وعلى آله : ( إنما أنا بشر مثلكم ،أتزوجكم وأزوجكم إلا فاطمة - عليها السلام - فإنه نزل تزويجها من السماء ) .
إذا القضية هي قضية إلهية خاضعة لقوانين خاصة البشر ليس لهم أن يتدخلوا فيها ، إنها قضية إعداد الصفوة الذين علم الله علام الغيوب استحقاقهم لأن يضع فيهم رسالته ويقرنهم بكتابه .. ، إنه إعداد للسفينة التي لا ينجو إلا من ركبها من بحور الضلال : ( مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى ) .
فمن أكرم معدن اختار الله محمدا ، واختار صنوه عليا ، ثم جمع ذريتهما بواسطة الزهراء ، فكان أول ريحانة من تلك الرياحين الحسن بن علي .. تلاه الحسين .. ( سيدا شباب أهل الجنة ) .. تلاهم أبناؤهم إلى أن تقوم الساعة ( كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ) .
وتأمل في قصة المباهلة وقصة نزول سورة الكوثر تجد دلالات واضحة على ما نقول ، ثم اقرأ قوله : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ) متأملا حديث الكساء ، ثم اقرأ سورة الإنسان ، واسأل نفسك : ما سر هذا الاهتمام الرباني الشديد بهذا البيت ؟ آية بعد آية بل سور ينزل بها جبريل عليه السلام إلى رب البيت النبوي محمد صلوات الله عليه وآله تقر عينه في أهل بيته ، إنه ولا شك قوله تعالى : ( الله أعلم حيث يجعل رسالته ) ، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المتواتر الذي لا ينكر : ( إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) .
إن السر هو القوة التي قدمناها وذكرنا احتياجنا وشدة احتياجنا إليها .. ففيهم .. في ذلك البيت النبوي وضعت القوة . وفي حياة أولئك الصادقين نستجلي تلك القوة التي تروي هواجرنا ، وتزيدنا ثباتا ويقينا .
ولنا وقفة قصيرة مع أحد أولئك الصادقين ، ننهل من مورده العذب ، ونستضيء بنوره الوضاء ، .... إنه ( سيد شباب أهل الجنة ) ، و( ريحانة الرسول من الدنيا ) و( إمام قام أم قعد ) كما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم .
بشربه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كأول مولود للزهراء فلذة كبده ، وما لبث أن نزل الروح الأمين جبريل عليه السلام في مهمة رسمية .. هي تبليغ التهاني لرسول الله بمولده الجديد ، والإعلان الإلهي لاسم هذا المولود الذي صار رابع أربعة هم بيت النبوة والرسالة ، فالعناية الإلهية كانت تحيط بذلك البيت حتى أن تسمية أبنائه تتدخل فيه الإرادة الربانية فأعظم به من بيت وأكرم ، أمر جبريل - بأمر من الله تعالى - بتسمية المولود بمثل اسم ابن هارون ( شبر ) وفي العربية ( حسن ) فكان الحسن .. وما أدراك ما الحسن !!
رضع من ثدي فاطمة الزهراء ، وتنقل بين حجر جده المصطفى وأبيه المرتضى .. يغذونه بالمكارم والفضائل ... في بيت يزوره عظيم الملائكة جبريل كل يوم .. ، كان في لسانه ثقل فقال سلمان الخير رضي الله عنه : أتته من قبل عمه موسى عليه الصلاة والسلام . ورثه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هيبته وسؤدده فنعم الوارث والموروث ، وكان يشبه جده من سرته إلى أعلاه كما أن أخاه الحسين عليه السلام يشبهه من سرته إلى أسفله ، فقد ورثا من رسول الله كل شيء حتى الصورة الرضية صلوات الله عليهم .
ونشأ نشأة نبوية علوية تتلقاه المكارم من كل جانب ، لا يدخل أذنه إلا كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولما كان ابنا لرسول الله - إذ يقول الرسول : ( كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وأنا عصبتهما ) - فقد اهتم صلوات الله عليه وآله كثيرا بتربيته ، فها هو يلقنه درر كلامه الجوامع من نحو : ( دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ) و( صل صلاة مودع ) و( إياك وما يعتذر منه ) ، كلما زاد من عمره يوما زادت العناية النبوية حياطة له .
عن زيد بن أرقم قال : خرج الحسن عليه السلام وهو صغير وعليه بردة ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يخطب ، فعثر فسقط ، فقطع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخطبة ، ونزل مسرعا إليه وقد حمله الناس ، فتسلمه وأخذه على كتفيه وقال : ( إن الولد لفتنة ، لقد نزلت إليه وما أدري ) . ثم صعد فأتم الخطبة . فما كان أشد حبه له .
وفي غمرات المرض ، وبينما الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعاني سكرات الموت .. يغشى عليه بين الفينة والأخرى من شدة المرض ، ازدادت رغبته في القرب من الحسن والحسين ، فدعاهما وضمهما إليه ليشبع رغبته منهما .. إذ كان على علم بما سيحصل بهما من بعده ، فعسى ضمهما إلى صدره يطفئ أو يقلل لهيب ألمه عليهما ، ثم أغشي عليه بأبي هو ، فجعل علي عليه السلام يرفعهما عنه ، فانتبه الرسول الكريم وقال : ( دعهما يتمتعان مني وأتمتع منهما ، فإنه سيصيبهما بعدي أثرة ) . ثم التفت إلى الحاضرين مؤكدا ما كرره مرارا على أسماعهم قائلا : ( أيها الناس ؛ إني قد خلفت فيكم كتاب الله وسنتي وعترتي أهل بيتي ، فالمضيع لكتاب الله كالمضيع لسنتي ، والمضيع لسنتي كالمضيع لعترتي ، أما إن ذلك لن يفترق حتى ألقاه على الحوض ) .
ومرة أخرى والرسول ما يزال على فراش المرض ، وبينما هو يوصي من في البيت واحدا واحدا ، جاءت فاطمة عليها السلام بالحسنين وقالت لهما : ادنوا من جدكما فسلما عليه . فدنوا منه وقالا : يا جداه . ثلاثا ، ثم بكيا وقال له الحسن : ألا تكلمنا كلمة وتنظر إلينا نظرة . فبكى علي عليه السلام والفضل وجميع من في البيت من النساء ، وارتفعت أصواتهم بالبكاء ، ففتح رسول الله عينه وقال : ( ما هذا الصوت ) ؟ فقالت فاطمة : يارسول الله ؛ هذان ابناك الحسن والحسين كلماك فلم تجبهما فبكيا وبكى من في البيت لبكائهما . فقال رسول الله : ( ادنوا مني ) ، فدنا منه الحسن عليه السلام فضمه إليه وقبله ودنا الحسين منه ففعل به مثل ذلك ، فبكيا ورفعا أصواتهما بالبكاء ، فزجرهما علي عليه السلام وقال : لا ترفعا أصواتكما . فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( مه ياعلي ) ثم قال : ( اللهم إني أستودعكهما وجميع المؤمنين من أمتي ) ، وغادر الرسول الأعظم صلوات الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى ، مخلفا في أمته وديعته ، عترته ؛ الحسن والحسين وذريتهما ، وما كان أسرع لحوق الزهراء صلوات الله عليها به .
وشب الحسن عليه السلام بين يدي والده ، يرفع له كل يوم من الأخلاق علما وينير له إلى أفاضلها طريقا ، فلم يدع مكرمة إلا وضرب فيها بأروع نصيب ؛ التقوى ، الشجاعة ، الكرم ، الزهد ، الورع ، الصبر ،التضحية الإيمان ، ... كيف لا وهو رضيع النبوة وربيب الرسالة ، ومن شابه أباه فما ظلم - كما يقال - !! وما ظنكم برجل له أبوان أحدهما سيد الأولين والآخرين ، وثانيهما سيد الأوصياء والمتقين ، وله أم هي سيدة نساء الدنيا والأخرى .. !!
روي أنه خرج عن ماله كله مرتين جاعلا لماله قربة لله ، وقاسم الله ماله ثلاثا .. حتى أنه كان يعطي نعلا ويمسك نعلا ، ويعطي خفا ويمسك خفا ، وحج مع أخيه بضعا وعشرين حجة ما شيين متقربين بمشيهما إلى الله وإن النجائب تقاد ، ولما كان الحجاج السائرين معهم يعرفون قدرهما العظيم كانوا يلحون في طلب ركوبهما فلا يقبلان ، وعند ذلك كان الحجاج ينزلون عن مركوباتهم تعظيما لشأنهما ، فمن الذي يركب وابنا رسول الله ما شيان على أقدامهما ، ولصعوبة ذلك على الحجاج شكوا إلى الحسنين عليه السلام ذلك ، وبأخلاق نبوية راقية ورفعا للحرج عن المؤمنين تنكبا الطريق وجعلا يمشيان على جانبها .. نعم ؛ يحق لمثلهما ذلك !!
وكان الحسن عليه السلام قوي القلب شديد الشجاعة بل كان في صفين ليثها الهصور يندفع إلى القتال بكل قوة وشجاعة لدرجة أقلقت أباه أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أملكوا علي هذا العلام لا يهدني . وذلك لأنه خاف أن يقتل وفي صلبه ذرية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، أو نصف الذرية الطاهرة .
وظل أمير المؤمنين عليه السلام يمد فلذة كبده الحسن بنصائحه ويحوطه بعنايته ، وحقا إن تلك النصائح لها أن تخط بالذهب وأن يقرأها كل طالب للشرف والمجد ، فمنها رسالة كتبها له بحاضرين عند انصرافه من صفين قال فيها :
من الوالد الفان المقر للزمان ، المدبر العمر ، المستسلم للدهر ، الذام للدنيا، السكن مساكن الموتى ، الظاعن عنها غدا . إلى المولود المؤمل ما لا يدرك ، السالك سبيل من قد هلك ... ثم جعل يسرد فيها درر المواعظ وجواهر الحكم التي لو أراد أحد شرحها بتحقيق معانيها لا حتاج - بلا مبالغة - إلى مجلدات ، وهكذا ظل أمير المؤمنين المنهل الذين يغترف منه الحسن عليه السلام عذب النصائح التي تزيده ثباتا على الصراط المستقيم .
كان آخرها تلك الوصية العظيمة التي قالها أميرالمؤمنين وهو ينازع الموت في سكراته ، وكان مما قال فيها : ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ... ثم أودع وصيته تلك نفحة ربانية ، لم يمنعه عنها جريان دم رأسه على جبينه ووجهه بعد ضربة المرادي الشقي ، والتي هي كسابقاتها تستحق أن تكتب بخالص الذهب وأن تصل إلى كل طالب للعلا ، فاطلبها أخي القارئ هي وأخواتها في نهج البلاغة وغيره من كتب الآثار .
وارتفعت روح أمير المؤمنين عليه السلام إلى الرفيق الأعلى في ليلة ( خير من ألف شهر ) وصلى عليه الحسن عليه السلام ثم دعا بعد دفنه إياه ابن ملجم فأتي به فأمر بضرب عنقه ، فقال المرادي : إن رأيت أن تأخذ علي العهود أني أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ماذا فعل صاحبي بمعاوية فإن كان قد قتله وإلا قتلته ، ثم عدت إليك فتحكم في بحكمك . فقال له الحسن عليه السلام : هيهات ، والله لا تشرب الماء البارد أو تلحق روحك بالنار . ثم ضرب عنقه .
وكان الإمام الحسن عليه السلام أحق الناس بالوقوف في موقف أبيه أمير المؤمنين - هذا إن كان لغيره وأخيه أحقية أصلا - ، ولكن كان من حظه أن يقف ذلك الموقف في وقت اشتدت فيه النزاعات وتكاثرت الفتن ، وكثر الدجالون ، وأبدى المنافقون مكنونات أنفسهم ، وكان أول موقف يقفه خطبته التي قالها عقيب وفاة أبيه سلام الله عليه ، وقال فيها : لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون ولا يدركه الآخرون بعمل . لقد كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
فيسبقه بنفسه ؛ ولقد كان يوجهه برايته ، فيكنفه جبرائيل عن يمينه ، وميكائيل عن يساره ، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه ؛ ولقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم ؛ والتي توفي فيها يوشع بن نون، وما خلف صفراء ولا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه ، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله .
ثم خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه ثم قال : أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير ، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه والسراج المنير ، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، والذين افترض الله مودتهم في كتابه ، إذ يقول : ( ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا ) ، فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت .
فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة قام عبد الله بن العباس بين يديه ، فدعا الناس إلى بيعته ، فاستجابوا وقالوا : ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة . فبايعوه ، ثم نزل من المنبر . وفي رواية أخرى أن قيس بن سعد بن عبادة قام بعد الحسن فخطب الناس ثم قال : ابسط يدك يا ابن رسول الله أبايعك . فبسطها فبايع ، ثم بايع الناس بعده ، فكان عليه السلام يقول للرجل : تبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، سلم لمن سالمت ، حرب لمن حاربت . فعلموا أنه يريد الجد في الحرب ، فكان أمير المؤمنين أوصاه بذلك عند وفاته .
وكانت بيعته عليه السلام يوم الأحد الثاني والعشرين من رمضان سنة أربعين ، ووردت عليه بيعة أهل البصرة والعراقين والحجاز ومكة والمدينة واليمامة والبحرين ، وأقر عمال أبيه عليه السلام على أعمالهم وبسط فيهم العدل ، وكان أول شيء أحدثه عليه السلام أنه زاد المقاتلة مائة مائة ، واستقامت له النواحي إلا الشام والجزيرة ومصر . وكانت نيته عليه السلام مجابهة الخارجين عن الطاعة .
وقبل أن يبدأ بقتال أولئك القاسطين على لسان جده المصطفى صلوات الله عليه وآله والفئة الباغية على لسانه أيضا ، أرسل إلى زعيمهم كتابا عله يرجع إلى رشده ، قال فيه : من الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان ، سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين ، ومنة للمؤمنين ، وكافة للناس أجمعين ، ( لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين ) ، فبلغ رسالات الله ، وقام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان ، وبعد أن أظهر الله به الحق ، ومحق به الشرك ، وخص به قريشا خاصة فقال له : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) . فلما توفي تنازعت سلطانه العرب ، فقالت قريش : نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه ، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد وحقه ، فرأت العرب أن القول ما قالت قريش ، وأن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد ، فأنعمت لهم ، وسلمت إليهم . ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب ، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها ، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج ، فلما صرنا أهل بيت محمد وأولياءه إلى محاجتهم ، وطلب النصف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا ، فالموعد الله ، وهو الولي النصير .
ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا وسلطان نبينا ، وإن كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام ، وأمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به ، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده ، فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله ، لا بفضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، وأنت ابن حزب من الأحزاب ، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكتابه ، والله حسيبك ، فسترد فتعلم لمن عقبى الدار، وبالله لتلقين عن قليل ربك ، ثم ليجزينك بما قدمت يداك ، وما الله بظلام للعبيد . إن عليا لما مضى لسبيله - رحمة الله عليه يوم قبض ويوم من الله عليه بالإسلام ، ويوم يبعث حيا - ولاني المسلمون الأمر بعده ، فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة ، وإنما حملني على الكتاب إليك الاعذار فيما بيني وبين الله عز وجل في أمرك ، ولك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم ، والصلاح للمسلمين ، فدع التمادي في الباطل ، وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي ، فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله وعند كل أواب حفيظ ، ومن له قلب منيب . واتق الله ودع البغي ، واحقن دماء المسلمين ، فو الله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به ، وادخل في السلم والطاعة ، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحق به منك ، ليطفئ الله النائرة [ العداوة ] بذلك ، ويجمع الكلمة ، ويصلح ذات البين ، وإن أنت أبيت ،إلا التمادي في غيك سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك ، حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين .
فلما قدم رسولا الحسن إلى معاوية دعواه إلى البيعة فلم يجبهما ، وكان جوابه على كتاب الحسن عليه السلام : من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي ، سلام الله عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد ، فقد بلغني كتابك ، وفهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل ، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل كله قديمه وحديثه ، وصغيره وكبيره . وقد والله بلغ وأدى ، ونصح وهدى ؛ حتى أنقذ الله به من الهلكة ، وأنار به من العمى ، وهدى به من الجهالة والضلالة ، فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته ؛ وصلوات الله عليه يوم ولد ، ويوم بعث ، ويوم قبض ، ويوم يبعث حيا !
وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتنازع المسلمين الأمر بعده ، وتغلبهم على أبيك ، فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وأبي عبيدة الأمين وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصلحاء المهاجرين والأنصار ، فكرهت ذلك لك ؛ إنك امرؤ عندنا وعند الناس غير الظنين [ المتهم ] ولا المسيء ، ولا اللئيم ، وأنا أحب لك القول السديد ، والذكر الجميل .
إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم ولا سابقتكم ، ولا قرابتكم من نبيكم ، ولا مكانكم في الإسلام وأهله ، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها ، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعوامهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما ، وأعلمها بالله ، وأحبها له ، وأقواها على أمر الله ، فاختاروا أبا بكر ، وكان ذلك رأي ذوي الدين والفضل ، والناظرين للأمة ، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة ، ولم يكونوا متهمين ، ولا فيما أتوا بالمخظئين ، ولو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه ، ويقوم مقامه ، ويذب عن حريم الإسلام ذبه ، ما عدلوا بالأمر إلى غيره عنه ، ولكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام وأهله ، والله يجزيهم عن الإسلام وأهله خيرا .
وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح ، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو علمت أنك أضبط مني للرعية ، وأحوط على هذه الأمة ، وأحسن سياسة ، وأقوى على جمع الأموال ، وأكيد للعدو ، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه ، ورأيتك لذلك أهلا ، ولكن قد علمت أني أطول منك ولاية ، وأقدم منك بهذه الأمة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ ، تحمله إلى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت ؛ معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها إليك في كل سنة ، ولك ألا نستولي عليك بالإساءة ، ولا نقضي دونك الأمور ، ولا نعصي في أمر أردت به طاعة الله . أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء ، والسلام .
ثم قال للرسولين :ارجعا .. فليس بيني وبينكم إلا السيف .
والمتأمل لرسالة معاوية يعرف مدى المغالطة التي كان يحيكها فاللف والدوران في كلامه واضح ، لكن الأعجب هو الألقاب التي كان يستعملها لبعض من سماهم ، ... ربما تلك الألقاب كانت إحدى ابتداعاته .. والمتأمل لكلام الحسن مقارنة بكلام معاوية يعلم لماذا أقول هذا ، والله أعلم !
نعم ؛ أقبل معاوية في ستين ألفا قاصدا العراق ، وبلغ الحسن عليه السلام خبره ومسيره نحوه وأنه بلغ جسرا يدعى جسر منبج ، فتحرك عند ذلك ، وبعث حجر بن عدي فأمر العمال والناس بالتهيؤ للمسير ، ونادى المنادي : الصلاة جامعة ! فأقبل الناس يثوبون ويجتمعون . وقال الحسن : إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني . وجاء سعيد بن قيس الهمداني ، فقال له : اخرج . فخرج الحسن عليه السلام ، وصعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد ؛ فإن الله كتب الجهاد على خلقه ، وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون .
بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه ؛ فتحرك لذلك ، أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظروا ، ونرى وتروا .
وإنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له ، قال : فسكتوا فما تكلم منهم أحد ، ولا أجابه بحرف .
فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال : أنا ابن حاتم ! ما أقبح هذا المقام ! ألا تجيبون إمامكم وابن بنت نبيكم ! أين خطباء مضر أين المسلمون ؟ أين الخواضون من أهل المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ولا عيبها وعارها .
ثم استقبل الحسن بوجهه ، فقال : أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا إلى أمرك ، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت وما رأيت ، وهذا وجهي إلى معسكري ، فمن أحب أن يوافيني فليوافه .
ثم مضى لوجهه ، فخرج من المسجد ودابته بالباب ، فركبها ومضى إلى النخيلة ، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه . وكان عدي بن حاتم أول الناس عسكر .
وقام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري ومعقل بن قيس الرياحي وزياد بن صعصعة التيمي ، فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم ، وكلموا الحسن عليه السلام بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة والقبول ، فقال لهم الحسن عليه السلام : صدقتم رحمكم الله ! ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والقبول والمودة الصحيحة ، فجزاكم الله خيرا ثم نزل .
وخرج الناس فعسكروا ، ونشطوا للخروج ، وخرج الحسن إلى العسكر ، واستخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب ، وأمره باستحثاث الناس وإشخاصهم إليه ، فجعل يستحثهم ويستخرجهم حتى يلتئم العسكر .
وسار الحسن عليه السلام في عسكر عظيم وعدة حسنة . حتى نزل دير عبد الرحمن ، فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس ، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، فقال له : يا بن عم ، إني باعث إليك اثني عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وأدنهم من مجلسك ، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ، ثم تصير إلى مسكن ، ثم امض حتى تستقبل بهم بعاوية ، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك ، فإني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس - وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك ، فإن فعل ، فقاتله ، وإن أصبت فقيس بن سعد على الناس ، وإن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس .
فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور ( صقع بالعراق ) ، حتى خرج إلى شاهي - اسم مكان قريب من القادسية - ثم لزم الفرات والفلوجة - اسم قرية من سواد بغداد والكوفة قريبة من عين التمر - ؛ حتى أتى مسكن - اسم مكان على نهر دجيل - ، وأخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب ، ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة ، فلما أصبح نادى في الناس : الصلاة جامعة ! فاجتمعوا ، فصعد المنبر فخطبهم فقال : الحمد لله كلما حمده حامد ، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، أرسله بالحق ، وائتمنه على الوحي ، صلى الله عليه وآله وسلم . أما بعد ، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلقه لخلقه ، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة ، ولا مريدا له بسؤء ولا غائلة . ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة ، ألا وإني ناظر لكم خيرا من نظركم لأنفسكم ، فلا تخالفوا أمري ، ولا تردوا علي رأيي . غفر الله لي ولكم ، وأرشدني وإياكم لما فيه محبته ورضاه ، إن شاء الله ! ثم نزل .
وهنا تكرر ما حدث يوم رفع المصاحف ، إذ نجمت فرقة جديدة من أولئك الذين ملأ الجهل صدورهم ، والذين يسهل على ألسنتهم نبز أي إنسان بأنه كافر حتى ولو كان ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أولئك الذين قتلوا أمير المؤمنين بعد أن جرعوه الألم والغصص ، أولئك يأتون من جديد ليسقوا الإمام الحسن عليه السلام من نفس الكأس الذي سقوا منه أباه عليه السلام .
فما أن نزل إلا ونظر الناس بعضهم إلى بعض ، وقالوا : ما ترونه يريد بما قال ؟ قالوا : نظنه يريد أن يصالح معاوية ويكل الأمر إليه ، كفر والله الرجل ! ثم شدوا على فسطاطه ، فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ؛ ثم شد عليه رجل اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي ، فنزع مطرفه عن عاتقه ، فبقي جالسا متقلدا سيفا بغير رداء ، فدعا بفرسه فركبه ، وأحدق به طوائف من خاصته ومنعوا منه من أراده ، ولاموه وضعفوه لما تكلم به ، فقال : ادعوا إلي ربيعة وهمدان . فدعوا له ، فأطافوا به ، ودفعوا الناس عنه ، ومعهم شوب [ أخلاط ] من غيرهم ، فلما مر في مظلم ساباط - اسم مكان قرب المدائن - ، قام إليه رجل من بني أسد ، ثم من بني نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان ، وبيده معول ، فأخذ بلجام فرسه ، وقال : الله أكبر ! يا حسن أشرك أبوك ، ثم أشركت أنت . وطعنه بالمعول ، فوقعت في فخذه ، فشقته حتى بلغت أربيته [ أصل الفخذ ] ، وسقط الحسن عليه السلام إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده ، واعتنقه ، فخرا جميعا إلى الأرض ؛ فوثب عبد الله بن الأخطل الطائي ، ونزع المعول من يد جراح بن سنان ، فخضخضه به ، وأكب ظبيان بن عمارة عليه ، فقطع أنفه ، ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه ، ووجهه حتى قتلوه .
وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن ، وبها سعيد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله ، وقد كان علي عليه السلام ولاه المدائن فأقره الحسن عليه السلام عليها ، فأقام عنده يعالج نفسه .
فأما معاوية فإنه وافى حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية بمسكن ، وأقبل عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه ، فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم ؛ فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس أن الحسن قد راسلني في الصلح ، وهو مسلم الأمر إلي ، فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا ، وإلا دخلت وأنت تابع ، ولك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم ، أعجل لك في هذا الوقت نصفها ؛ وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر ؛ فانسل عبيد الله إليه ليلا ، فدخل عسكر معاوية ، فوفى له وعده ، وأصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلي بهم ؛ فلم يخرج حتى أصبحوا ، فطلبوه فلم يجدوه ، فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ، ثم خطبهم فثبتهم ، وذكر عبيد الله فنال منه ، ثم أمرهم بالصبر والنهوض إلى العدو ، فأجابوه بالطاعة وقالوا له : انهض بنا إلى عدونا على اسم الله ، فنزل فنهض بهم .
وخرج إليه بسر بن أرطأة فصاح إلى أهل العراق : ويحكم ! هذا أميركم عندنا قد بايع وإمامكم الحسن قد صالح ، فعلام تقتلون أنفسكم !
فقال لهم قيس بن سعد : اختاروا إحدى اثنتين : إما القتال مع غير إمام ، وإما أن تبايعوا بيعة ضلال . فقالوا : بل نقاتل بلا إمام . فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم .
فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنيه ، فكتب إليه قيس : لا والله لا تلقاني أبدا إلا بيني وبينك الرمح .
فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه : أما بعد ؛ فإنك يهودي ابن يهودي ، تشقي نفسك وتقتلها فيما ليس لك ؛ فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وغدرك ، وإن ظهر أبغضهم إليك نكل بك وقتلك ؛ وقد كان أبوك أوتر غير قوسه ، ورمى غير غرضه ؛ فأكثر الحز وأخطأ المفصل ، فخذله قومه ، وأدركه يومه ، فمات بحوران طريدا غريبا ، والسلام .
فكتب إليه قيس بن سعد : أما بعد ؛ فإنما أنت وثن ابن وثن ، دخلت الإسلام كرها ، وأقمت فيه فرقا ، وخرجت منه طوعا ؛ ولم يجعل الله لك فيه نصيبا ، لم يقدم إسلامك ، ولم يحدث نفاقك ؛ ولم تزل حربا لله ولرسوله ، وحزبا من أحزاب المشركين ، وعدوا لله ولنبيه وللمؤمنين من عباده ، وذكرت أبي ؛ فلعمري ما أوتر إلا قوسه ، ولا رمى إلا غرضه ، فشغب عليه من لا يشق غباره ، ولا يبلغ كعبه ؛ وزعمت أني يهودي ابن يهودي ، وقد علمت وعلم الناس أني وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه ، وأنصار الدين الذي دخلت فيه ، وصرت إليه ، والسلام .
فلما قرأ معاوية كتابه غاظه ، وأراد إجابته ، فقال له عمرو : مهلا ، فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا ؛ وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه .
وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح ، فدعواه إليه ، فزهداه في الأمر ، وأعطياه ما شرط له معاوية ، وألا يتبع أحد بما مضى ، ولا ينال أحد من شيعة علي بمكروه ، ولا يذكر علي إلا بخير ، وأشياء شرطها الحسن . فأجاب إلى ذلك ، وانصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة ، وانصرف الحسن أيضا إليها ، وأقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة ، واجتمع إلى الحسن عليه السلام وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام يلومونه ، ويبكون إليه جزعا مما فعله .
إن صلح الإمام الحسن عليه السلام لم يكن ناتجا عن جبن كما قد يتوهم البعض ، بل سببه تخاذل الناس وطلبهم حطام الدنيا الزائل وخوفهم وجبنهم وغدرهم ، يؤكد هذا قوله عليه السلام لأهل الكوفة بعد الصلح - في المدائن - : يا أهل الكوفة ؛ والله لو لم تذهل نفسي عنكم إلا لثلاث لذهلت ؛ لقتلكم أبي ، ولطعنكم فخذي ، وانتهابكم ثقلي . فكيف يقاتل وبمن ينتصر إن كان من بايعه على أن يكون سلما لمن سالم وحربا لمن حارب أول الناكثين !!!
بلى ؛ كان هناك الرجال الذين صدقوا ماعاهدوا الله عليه من أمثال قيس بن سعد رضوان الله عليه ، لكن وما عساه تغير هذه القلة المؤمنة من حال ألوف .. بعضهم قد أفزعهم تطبيل معاوية ، وبلغت قلوبهم الحناجر من دعاياته الكاذبة ، وبعضهم جهلة خباطو عمايات ، ينقدح الشك في قلوبهم عند أدنى عارض من شبهة .
كل هذا ومعاوية وأصحابه يعملون بكل جدية في نخر قوى الإمام الحسن عليه السلام ، فمعاوية لم يأل جهدا في دس الجواسيس والكذب والإغراء والترهيب والترغيب طلبا للتسلط ، وأنى لابن رسول الله استخدام تلك الوسائل القذرة التي لا تليق إلا بالحثالة من الناس الذين لا مكانة أوشرف لهم !
وفعلا كانت هذه الوسائل لائقة بمثل معاوية المتبجح بأفعاله ، الذي لا يبالي بهتك عرضه وخدش كرامته في سبيل الوصول إلى رغباته ، فهو الذي استلحق زياد بن سمية إلى أبيه طلبا لاستمالته ، لأن أباه أبا سفيان - كما يزعم - قد زنى بتلك العاهرة فأتت له - كما يدعون - بزياد ، متجاهلا قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( الولد للفراش ) ، وما أحسن قول الشاعر في ذلك :
ألا أبلع معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عف وترضى أن يقال أبوك زاني
ومعاوية هذا هو الذي وقف متبجحا عندما خطب في أهل الكوفة قائلا : يا أهل الكوفة ؛ أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول - أي مهدور - وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين ، ولا يصلح الناس إلا ثلاث : إخراج العطاء عند محله ، وإقفال الجنود لوقتها ، وغزو العدو في داره ، فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم .
ومعاوية هو الذي قتل الصحابي حجر بن عدي - رضي الله عنه - وأصحابه صبرا ، فويل له من حجر ومن أصحاب حجر ، ومعاوية هو الذي ولى ابنه السكير العربيد يزيد على رقاب المسلمين وقتل في سبيل ذلك سيد شباب أهل الجنة غدرا ، وسيأتي ذلك .
ونقول لمعاوية : أبشر يا ابن هند ؛ فولدك البار قد حفظ أعمالك من الانقطاع ، قد أنجبت يا معاوية إذ ذاك الشبل من ذاك الأسد - كما يقال - ، ولا تقلق .. فآثام وموبقات جريمة كربلاء الفاجعة ، ووقعة الحرة ، واستحلال الحرم المحرم ، وضرب الكعبة بالمنجنيق ، كلها ستصل إلى قبرك وتكتب في صحيفة أعمالك دون أن ينقص من فاعليها شيء من ذلك !!
وإذا استعجب أحد القراء من هذا أو استنكره ، فما عليه إلا أن يفتح كتب التاريخ ويقرأ ... ، اقرأوا ماذا حدث في كربلاء ، وماذا صنع في المدينة ، وماذا فعل في مكة ... حتى تعذروني !!
ولنعد إلى حديثنا عن الإمام الحسن عليه السلام والذي خرجنا عنه ليعلم القارئ - بعد علمه من هو الحسن بن علي - من هو خصمه ، وكما قيل : وبضدها تتمايز الأشياء .
خذلان الأصحاب وغدر الأعداء ، والخوف على دماء المسلمين من الهدر بلا نتيجة ، ودماء المسلمين - التي حرص الإسلام على حمايتها بل على حماية دم كل ذي دم ، ناهيك عن دم مسلم - كانت قد صارت في منتهى الرخص وصارت أكثر من الماء ،... نعم ؛ كل هذه الأمور جعلت الإمام الحسن عليه السلام يقرر الصلح وهو لا يزال يتألم من الضربة التي برت لحم فخذه والتي تلقاها من أحد المبايعين الذين نكثوا عهد الله ، فصبر الإمام عليه السلام على صلح ذلك العدو الفاجر لما يراه من المصلحة وإن كان أسخى بنفسه من الريح المرسلة .
قال له حجر بن عدي بعد الصلح : لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم ، ولم يكن ما كان ، إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا . فتغير وجه الحسن عليه السلام ، وغمز الحسين عليه السلام حجر فسكت ، فقال الحسن عليه السلام : يا حجر ؛ ليس كل إنسان يحب ما تحب ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت إلا إبقاء عليك والله كل يوم في شأن .
وكم كان يتجرع الألم عندما يعاتبه أحد على قراره ، لكن صدره الواسع الرحب ووراثة النبوة يأبيان عليه إلا أن يحافظ على هيبته وسؤدده ؛ روى أبو الفرج الأصفهاني أن معاوية أمر الحسن عليه السلام أن يخطب فظن أنه ، سيحصر ، فقام فخطب فقال في خطبته : إنما الخليفة من سار بكتاب إليه وسنة نبيه ، وليس الخليفة من سار بالجور ؛ ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا ثم تنخمه ، تنقطع لذته ، وتبقى تبعته ، ( وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين ) . فما أعظمه من إمام ورثه رسول الله فورث ماجدا .. ، أليس رابع أهل الكساء وخدين الهدى وربيب التقوى .. ! فيحق لنا ونحن نقرأ سيرته أن نمتلئ عزيمة وإصرارا مهما قهرنا الزمان .
وحين دخل معاوية الكوفة خطب بها - والحسن والحسين عليهما السلام جالسان تحت المنبر - فذكر عليا عليه السلام فنال منه ، ثم نال من الحسن ، فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه فأخذ الحسن بيده فأجلسه ، ثم قام فقال : أيها الذاكر عليا ؛ أنا الحسن ، وأبي علي ، وأنت معاوية وأبوك صخر ، وأمي فاطمة وأمك هند ، وجدي رسول الله وجدك عتبة بن ربيعة ، وجدتي خديجة ، وجدتك قتيلة ، فلعن الله أخملنا ذكرا ، وألأمنا حسبا ، وشرنا قديما وحديثا ، وأقدمنا كفرا ونفاقا . فقال طوائف من أهل المسجد : آمين .
قال يحيى بن معين - وهو أحد الرواة لهذا الخبر - : وأنا أقول آمين . وقال الفضل - وهو كذلك الراوي عن يحيى بن معين - : وأنا أقول آمين . قال أبو الفرج الأصفهاني صاحب مقاتل الطالبيين - : آمين . وقال عبد الحميد بن أبي الحديد - شارح نهج البلاغة - : آمين . ويقول كاتب هذه الأسطر ياسر الوزير : وأنا أقول آمين اللهم آمين .
وأزيدك أيها القارئ في هيبة وثبات الإمام الحسن عليه السلام هذه الرواية : سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح أن يخطب الناس فامتنع ، فناشده أن يفعل ، فوضع له كرسي ، فجلس عليه ، ثم قال : الحمد لله الذي توحد في ملكه ، وتفرد في ربوبيته ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزعه عمن يشاء . والحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم ، وأخرج من الشرك أولكم ، وحقن دماء آخركم ، فبلاؤنا عندكم قديما وحديثا أحسن البلاء ، إن شكرتم أو كفرتم . أيها الناس ، إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه ، ولقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله ، ولم تجدوا مثل سابقته ، فهيهات هيهات ! طالما قلبتم له الأمور حتى أعلاه الله عليكم وهو صاحبكم ، وعدوكم في بدر وأخواتها ، جرعكم رنقا ، وسقاكم علقا ، وأذل رقابكم ، وأشرقكم بريقكم ، فلستم بملومين على بغضه . وايم الله لا ترى أمة محمد خفضا ما كانت سادتهم وقادتهم في بني أمية ، ولقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا ؛ لطاعتكم طواغيتكم ، وانضوائكم إلى شياطينكم ، فعند الله أحتسب ما مضى وما ينتظر من سوء دعتكم ، وحيف حكمكم .
ثم قال : يا أهل الكوفة ؛ لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله ، صائب على أعداء الله ، نكال على فجار قريش ، لم يزل آخذا بحناجرها ، جاثما على أنفاسها ، ليس بالملومة في أمر الله ، ولا بالسروقة لمال الله ، ولا بالفروقة في حرب أعداء الله ، أعطى الكتاب خواتمه وعزائمه ، دعاه فأجابه ، وقاده فاتبعه ، لا تأخذه في الله لومة لا ئم ، فصلوات الله عليه ورحمته . ثم نزل .
فقال معاوية : أخطأ عجل أوكاد ؛ وأصاب مثبت أوكاد ، ماذا أردت من خطبة الحسن !
إن الإمام الحسن عليه السلام لما يتنازل عن أي مبادئه لا قبل الصلح ولا بعده ، بل ظل كلامه وخطابه كما كان عليه من قبل ، وإليك نموذجا من خطبه قبل الصلح ؛ فذات يوم اعتل أمير المؤمنين عليه السلام فأمر ابنه الحسن عليه السلام أن يصلي بالناس يوم الجمعة ، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله لم يبعث نبيا إلا اختار له نقيبا ورهطا وبيتا ، فوالذي بعث محمدا بالحق نبيا لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عمله مثله ، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة ، ولتعلمن نبأه بعد حين .
ومن خطبه في بعض أيامه أنه قال : نحن حزب الله المفلحون ، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأقربون ، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شيء ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) ، والمعول عليه في كل شيء ، لا يخطؤنا تأويله ، بل نتيقن حقائقه ، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة ، ( فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول ) ،( ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وأحذركم الإصغاء لهتاف الشيطان إنه لكم عدو مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم : ( لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص عل عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون ) ، فتلقون للرماح أزرا ، وللسيوف جزرا ، وللعمد حظا ،وللسهام غرضا ، ثم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا .
والمتأمل لكتب التاريخ يعلم كيف كانت السياسات الأموية المضللة تبث أكاذيبها وتلفيقاتها بين العامة بأنهم قد عمروا ما خربه بنو هاشم - أعداء الدين بزعمهم - ونحو ذلك ، وإلا فما يصبر الناس على سماع سب أمير المؤمنين عليه السلام على المنابر إن كانوا علموا من هو ، لكن حال أولئك هو حال من سئل عن أبي تراب ؛ من هو ؟ فقال : ما أظنه إلا لصا من لصوص العرب !!
ومثله تلك المرأة التي سمع زوجها أبو بكرة ضجيج الناس حين ورد نعي الإمام الحسن عليه السلام فقال : ما هذا ؟ فقالت : مات الحسن بن علي ، فالحمد لله الذي أراح الناس منه . فقال : اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير ، وفقد الناس بموته خيرا كثيرا ، يرحم الله حسنا . ..
لكن الكاذب نفسه ربما صدق كذبته ، فأتى إلى أحد الراسخين في الحق ليبثه سمومه ظنا منه أنه - كغيره - سيخضع لأكاذيبه ، وهيهات ، .. من ذلك حوار دار بين عمرو بن العاص والإمام الحسن عليه السلام عندما التقيا في الطواف ، فقال عمرو : يا حسن ؛ زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك وبأبيك ، فقد رأيت الله أقامه بمعاوية ، فجعله راسيا بعد ميله ، وبينا بعد خفائه ، أفرضي الله بقتل عثمان ؛ أومن الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين ، عليك ثياب كغرقئ البيض [ قشرتها الرقيقة ] ، وأنت قاتل عثمان ، والله إنه لألم للشعث ، وأسهل للوعث ، أن يوردك معاوية حياض أبيك .
فقال الحسن عليه السلام : إن لأهل النار علامات يعرفون بها ، إلحادا لأولياء الله ؛ وموالاة لأعداء الله ، والله إنك لتعلم إن عليا لم يرتب في الدين ، ولا يشك في الله ساعة ولا طرفة عين قط ، وايم الله لتنتهين يا بن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية [ الأسنة المنسوبة إلى قعضب ، رجل جاهلي ] ، فإياك والتهجم علي ، فإني من قد عرفت ؛ لست بضعيف الغمزة ، ولا هش المشاشة ؛ ولا مريء المأكلة ، وإني من قريش كواسطة القلادة ، يعرف حسبي ، ولا أدعى لغير أبي ، وأنت من تعلم ويعلم الناس ، تحاكمت فيك رجال قريش ، فغلب عليك جزارها ، ألأمهم حسبا ، وأعظمهم لؤما ، فإياك عني ، فإنك رجس ، ونحن أهل بيت الطهارة ، أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا .
فأفحم عمرو وانصرف كئيبا .
ولقد كان معاوية ومن معه يعلمون من الحسن ومن هم ، ويعرفون مواضع الحق والباطل ، ولكنه الملك ، والملك عقيم ، وإني لا أعجب من أولئك على فعلهم فإنما أرادوا به إصلاح شأنهم وتثبيت سلطانهم ، ولكن العجب كل العجب ممن يدافع عنهم بكل بسالة وليس له من ذلك نقير ولا قطمير جاهل خباط جهالات ، لا يقرأ ولا يريد أن يقرأ .. فحسبنا الله ونعم الوكيل .
وكثيرة هي الروايات التي تبين معرفتهم للحق وأهله ، ولو لم يكن إلا قصه عمار - رضي الله عنه - المشهورة المعروفة بأن قاتليه هم الفئة الباغية ودعاة النار ، ثم ما لمعاوية وللتسلط على رقاب الناس وإنما هو طليق بن طليق ( دخل في الإسلام كرها ) .. كما قال قيس بن سعد وغيره .. !!
ومما يدل على ذلك أيضا كثير من الروايات ؛ منها قول معاوية ليزيد - وقد استنكر إعطائه الحسن عليه السلام مالا بعد أن أغلظ الحسن في خطابه - : يا بني ، إن الحق حقهم ، فمن أتاك منهم فاحث له .
بل إن معاوية كما يروى - والروايات كثير - خطب حين بويع له فقال : ما اختلفت أمه بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها . ثم إنه انتبه ، فقال : إلا هذه الأمة .. فإنها وإنها !!!
ونحن عندما نقول ( بويع ) لا يذهب بذهن القارئ الكريم أن الإمام الحسن عليه السلام وأهل بيته وأصحابه الصادقين بايعوا ، إنما هم صالحوا ، وهناك فرق ، ولإن كانوا قد بايعوا فتحت شفار السيوف وليس على مكره يمين . وإلا ما كان هناك معنى لكلامهم الذي يستنكرون فيه خذلان الناس واتباع الشهوات ونحو ذلك .
لقي الحسن عليه السلام يوما حبيب بن مسلمة فقال له : يا حبيب ، رب مسير لك في غير طاعة الله . فقال : أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك . قال : بلى والله ؛ ولكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة ، فلئن قام بك في دنياك ، لقد قعد بك في آخرتك ، ولو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا ، كان ذلك كما قال عز وجل : ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ) ، ولكنك كما قال سبحانه : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) .
نعم ؛ وقد سعى معاوية للوصول إلى السلطة بكل الوسائل التي أمكنته حتى وصل به الحد إلى التجرؤ على استمالة الإمام الحسن عليه السلام نفسه , فقد كان أرسل إليه رسالة جاء فيها : أما بعد ؛ فإن الله يفعل في عباده ما يشاء ، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس ، وايئس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت ، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
وإن أحد أسدى إليك أمانة فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى ولا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها ، والسلام .
فأجاب الحسن : أما بعد فقد وصل إلي كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، فتركت جوابك خشية البغي مني عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني من أهله ، وعلي إثم أن أقول فأكذب ، والسلام .
وكانت المصالحة والأمان من معاوية للحسن وأصحابه ، لكن لا أمان لمثل معاوية ، ولإن كان معاوية هادئا في مص الغضب والدماء ، فغيره من أصحابه المغرورين كان همجيا ووحشيا في سفك الدماء حتى دماء من شملهم الأمان ، ومن أولئك زياد ابن أبيه الذي طلب رجلا من أصحاب الحسن ممن كان في كتاب الأمان ، فكتب إليه الحسن : من الحسن بن علي إلى زياد ، أما بعد ؛ فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا ، وقد ذكر لي فلان أنك تعرضت له ، فأحب ألا تعرض له إلا بخير . والسلام .
فلما أتاه الكتاب ، وذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان ، فكتب إليه : من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن ؛ أما بعد ؛ فإنه أتاني كتابك في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك وشيعة أبيك ، وايم الله لأطلبنه بين جلدك ولحمك ، وإن أحب الناس إلي لحما أن آكله للحم أنت منه ، والسلام .
فلما قرأ الحسن عليه السلام الكتاب ، بعث به إلى معاوية ، فلما قرأه غضب وكتب : من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد ، أما بعد ، فإن لك رأيين : رأيا من أبي سفيان ورأيا من سمية ، فأما رأيك من أبي سفيان فحلم وحزم ، وأما رأيك من سمية فما يكون من مثلها . إن الحسن بن علي عليه السلام كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه ، فلا تعرض له ، فإني لم أجعل لك عليه سبيلا ؛ وإن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان ، والعجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه ، فالآن حين اخترت له ، والسلام .
وهكذا بدهائه وخبثه استطاع معاوية أن يبسط نفوذه وسيطرته دون أن يتعب نفسه بالالتزام بعهد واحد ، وقد كان الحصين بن المنذ رالرقاشي يقول : والله ما وفى معاوية للحسن بشيء مما أعطاه ؛ فقتل حجرا وأصحاب حجر ، وبايع لا بنه يزيد ، وسم الحسن . ونحن نقول ذلك وكتب التاريخ كلها تقول ذلك ، وقد كان مما شمله الصلح أن يعود الأمر من بعد معاوية للحسن ومن ثم للحسين ، ولذلك كانت تولية يزيد نقضا للصلح .
وعاد الإمام الحسن عليه السلام مع أخيه وأهل بيته وأصحابه إلى مدينة جده صلى الله عليه وآله وسلم ليجاوره ويتمتعوا بقربه صلوات الله عليه وآله ، وكان محبوهم يقصدونهم بالزيارة محبة فيهم وفي جدهم ، ومن هؤلاء سفيان بن أبي ليلى ؛ قال أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية ، فوجدته بفناء داره وعنده رهط ، فقلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين ؛ قال : وعليك السلام يا سفيان . ونزلت فعقلت راحلتي ، ثم أتيته فجلست إليه ، فقال : كيف قلت يا سفيان ؟ قلت : السلام عليك يا مذل المؤمنين ! فقال : لم جرى هذا منك إلينا ؟ قلت : أنت والله بأبي وأمي أذللت رقابنا حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة ، وسلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك ، فقد جمع الله عليك أمر الناس . فقال : يا سفيان ، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به ، وإني سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ضخم البلعوم ، يأكل ولا يشبع ، لا ينظر الله إليه ، ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ، ولا في الأرض ناصر ) ، وإنه لمعاوية ، وإني عرفت أن الله بالغ أمره .
ثم أذن المؤذن ، فقمنا على حالب نحلب ناقته ، فتناول الإناء ، فشرب قائما ، ثم سقاني ، وخرجنا نمشي إلى المسجد ، فقال لي : ما جاء بك يا سفيان ؟ قلت : حبكم والذي بعث محمدا بالهدى ودين الحق ! قال : فأبشر يا سفيان ، فإني سمعت عليا يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : يرد علي الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين - يعني السبابتين - أو كهاتين - يعني السبابة والوسطى - إحداهما تفضل على الأخرى ، أبشر يا سفيان ؛ فإن الدنيا تسع البر والفاجر ؛ حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم .
وكلام الإمام الحسن عليه السلام يذكرنا بحديث لجده يبين فيه شدة حبه للحسن ، فكانت محبة الحسن موافقة للرسول في محبته ولذلك يردون الحوض معا ، هذا الحديث هو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سابق بين الحسن والحسين فسبق الحسن ، فأجلسه على فخذه اليمنى ، ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى ، فقيل له : يا رسول الله ؛ أيهما أحب إليك ؟ فقال : أقول كما قال إبراهيم أبونا وقيل له : أي ابنيك أحب إليك ؟ قال : أكبرهما ، وهو الذي يلد ابني محمدا . فصلوات الله عليهم أجمعين .
وظل الإمام الحسن عليه السلام يتجرع الألم والغم والحسرة على هذه الأمة الظالمة نفسها قبل الحسرة على حاله ، وكل ذلك الألم كان يغيب في آفاق صدره الواسعة ، حتى أعداؤه كانوا يعلمون ذلك ، ولكن ... الملك عقيم ، فعند ما أخرجت جنازته عليه السلام حمل مروان بن الحكم سريره ، فقال له الحسين عليه السلام : تحمل اليوم جنازته وكنت بالأمس تجرعه الغيظ ؟! قال مروان : نعم ؛ كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال .
وظل الإمام الحسن عليه السلام يدافع عن حقه بالكلمة الصادقة الجريئة غير مبال بأحد .. ، قال يوما لمولى له : أتعرف معاوية بن خديج ؟ قال : نعم . قال : إذا رأيته فأعلمني . فرآه خارجا من دار أحدهم فقال : هو هذا . فدعاه فقال : هل أنت الشاتم عليا عند ابن آكلة الأكباد ! أما والله لئن وردت الحوض - ولن ترده - لترينه مشمرا عن ساقيه حاسرا عن ذراعيه ، يذود عنه المنافقين .
وفاته عليه السلام :
وعندما أراد معاوية أن يقلد ابنه يزيد أمر الإسلام ورقاب المسلمين دس إلى الحسن عليه السلام وإلى سعد بن أبي وقاص سما إذ كان يخاف من أن يفشلا تدبيره فهما المنظور إليه آنذاك ، وكان الذي تولى ذلك من الحسن عليه السلام زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس ، ومن هنا ندرك مدى امتداد أذرع معاوية ( الأخطبوطية ) التي وصلت إلى داخل دار الإمام الحسن عليه السلام .
وكان معاوية أرسل إليها فقال لها : إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف ، وأزوجك يزيد ابني . فلما مات عليه السلام وفي لها بالمال ولم يزوجها يزيد ، وقال : أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وفعلا ؛ إن لم تؤمن هذه المرأة على ابن رسول الله فعلى من تؤمن!! وقد لحق عار فعلها ذلك الخبيث بأبنائها إذ خلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها فكان إذا وقع بينهم وبين بطون قريش كلام عيروهم ، وقالوا : يا بني مسمة الأزواج .
وسقي الإمام الحسن عليه السلام السم ، وبدأ رحلة الألم إلى الموت ، فظل أربعين نهارا يقاسي شدة الألم ، ويذوق الموت ألوانا ، ويلفظ أحشائه قطعة قطعة .... ، أربعين نهارا وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتجرع آلام الموت .. ويعتصره الألم ليخرج كبده وأعضائه أوصالا ، فجزى الله يدا سمته ولسانا أمر بما هما أهله ... ، ماذا لو رآه المصطفى ، وماذا لو أبصره المرتضى ، بل ماذا لو شاهدته أمه البتول الزهراء ... ، يا ويل من عاداه ويا ويل من سعى في قتله وهو الذي نطق القرآن بتطهيره وتزكيته ، أهكذا يفعل بابن المصطفى ! أهذا جزاء أبيه أحمد ! أهذا ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) !
عن عمير بن إسحاق قال دخلت أنا ورجلان على الحسن بن علي عليه السلام نعوده ، وجعل يقول لصاحبي : سلني قبل أن لا تسألني . فقال : يعافيك الله . فقام عليه السلام فدخل ثم خرج إلينا وقال : ما خرجت إليكم حتى لفظت طائفة من كبدي أقلبها بهذا العود ، ولقد سقيت السم مرات فما لقيت شيئا أشد من هذه المرة .
وغدونا إليه من الغد فإذا هو في السوق - أي لحظات الاحتضار - ، وجاء الحسين عليه السلام فجلس عند رأسه فقال : يا أخي من صاحبك ؟ فقال : لم أتريد قتله ؟ قال : نعم . قال : لا ؛ إن كان الذي أظن فالله أشد نقمة له ، وإن كان بريئا فما أحب أن يقتل بي بريء .
فيا لله ما أعظمه من إمام ، ظل يدافع عن الدماء والأرواح التي احتقرها الناس وصارت بلا قيمة ، حتى وإن كان ذلك قاتله .
حتى وصيته عليه السلام رصعها بدعوته على الحفاظ على الدماء والأرواح ، ففعلا آنذاك صار قتل الإنسان المسلم تحت سياسة الحكم الأموي أهون من قتل الدجاجة ، قال في وصيته إلى الحسين عليه السلام : هذا ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين ؛ أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنه يعبده حق عبادته لا شريك له في الملك ولا ولي له من الذل وأنه خلق كل شيء فقدره تقديرا ، وأنه أولى من عبد وأحق من حمد ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه غوى ، ومن تاب إليه اهتدى ، فإني أوصيك يا حسين بمن خلفت من أهلي وولدي وأهل بيتك ؛ أن تصفح عن مسيئهم ، وتقبل من محسنهم ، وتكون لهم خلفا ووالدا ، وأن تدفنني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أحق به وببيته ، فإن أبوا عليك فأنشدك الله بالقرابة إلى قرب الله عز وجل منك ، والرحم الماسة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا تهريق في أمري محجمة من دم حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنختصم إليه ونخبره بما كان من الناس إلينا .
وكان الملأ الأعلى على موعد مع قادم جديد ، بعد أرببعين عاما من وفاة سيد المرسلين ، تصعد روح نجله ووريثه لتحل محلها بين أحبتها في الفردوس الأعلى ، حيث لا غدر ، لا خيانة ، لا كذب ، لا نفاق ، بل ( ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخوانا على سرر متقابلين ) .
مات الإمام الحسن عليه السلام .. مات شهيدا معليا للحق والصدق ومنارا للهدى والمجد ، مات بعد حياة حافلة .. بالسرور يوما .. والأحزان أياما وأياما ... ، أقول مات جسدا ، وارتفع روحا ليلحق بجده وأبيه وأمه صلوات الله عليهم ، وما كان أسرع لحاق خامسهم بهم .
مات الحسن وترك لنا شخصا لا معا .. ورثه الرسول هيبته وسؤدده ، فظل في حياته شامخا شموخ الجبال ، تخضع أعاصير الزمان لهيبته وشموخه .
مات الحسن عليه السلام فبكته لذلك وجوه ، وسرت وجوه ، وشتان ، بينما البعض يقول : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) وابن عباس يقول : أول ذل دخل على العرب موت الحسن عليه السلام . إذا بمعاوية وأذناب معاوية يكبرون ، وكأنما مات شيطان مارد أو فرعون من الجبابرة ، لا ريحانة الرسول من الدنيا وسيد شباب أهل الجنة .
وفد عبد الله بن عباس - رضى الله عنهما - على معاوية يوم ورود خبر موت الحسن عليه السلام ، قال : فو الله إني لفي المسجد إذ كبر معاوية في الخضراء فكبر أهل الخضراء ، ثم كبر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء ، فخرجت فاختة بنت قرظة من خوخة لها ، فقالت : سرك الله يا أمير المؤمنين ؛ ما هذا الذي بلغك فسررت به ؟ قال : موت الحسن بن علي . فقالت : إنا لله وإنا إليه راجعون . ثم بكت وقالت : مات سيد المسلمين وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ثم بلغ الخبر ابن عباس رضى الله عنهما ، فراح فدخل على معاوية ، قال : علمت يا ابن عباس أن الحسن توفي . قال : ألذلك كبرت ؟ قال : نعم . قال : أما والله ما موته بالذي يؤخر أجلك ، ولا حفرته بسادة حفرتك ، ولئن أصبنا به فقد أصبنا قبله بسيد المرسلين وإمام المتقين ورسول رب العالمين ، ثم بعده بسيد الأوصياء فجبر الله تلك المصيبة ، ورفع تلك العثرة . فقال : ويحك يا ابن عباس ؛ ما كلمتك قط إلا وجدتك معدا .
وجهز الإمام الحسن عليه السلام ، فلما أرادوا دفنه قال مروان بن الحكم : لا يدفن عثمان في حش كوكب ، ويدفن الحسن ههنا . فاجتمع بنو هاشم وبنوا أمية ، وأعان هؤلاء قوم وهؤلاء قوم ، وجاؤوا بالسلاح ، وأبى الحسين عليه السلام أن يدفنه إلا مع جده ، فقال له محمد بن الحنفية : يا أخي ؛ إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك ، ولكنه قد استثنى وقال : إلا أن تخافوا الشر . فأي شر يرى أشد مما نحن فيه !
فدفن في البقيع إلى جانت الزهراء صلوات الله عليها ، وهكذا صارت مصيبة أهل البيت مصيبتين مصيبة الموت ومصيبة القهر ، أيبعد الابن عن أبيه ، أم يبعد الحبيب عن حبيبه .. ما هذا بالإنصاف ، وتجرعها الحسين عليه السلام يومئذ غصصا أمر من طعم العلقم ... لكن الله الشاهد ، والحسين عليه السلام هو قائل الكلمة الخالدة يوم المصيبة الكبرى : هون علي ما نزل بي أن ذلك بعين الله !
ووارى التراب جسد الإمام الشريف ، ووقف على تلك التربة الطاهرة أخوه محمد بن الحنفية ، فقال : لئن عزت حياتك لقد هدت وفاتك ، ولنعم الروح روح تضمنه كفنك ، ولنعم الكفن كفن تضمن بدنك ، وكيف لا تكون هكذا وأنت عقبة الهدى وخلف أهل التقوى ، وخامس أصحاب الكساء ، غذتك بالتقوى أكف الحق ، وأرضعتك ثدي الإيمان ، وربيت في حجر الإسلام ، فطبت حيا وميتا وإن كانت أنفسنا غير سخية بفراقك ، رحمك الله أبا محمد !
وفي رواية أخرى أنه وقف على قبره فقال : أبا محمد ؛ لئن طابت حياتك لقد فجع مماتك ، وكيف لا تكون كذلك وأنت خامس أهل الكساء ، وابن محمد المصطفى ، وابن علي المرتضى ، وابن فاطمة الزهراء ، وابن شجرة طوبى ؟ ثم أنشأ يقول - رضي الله عنه :
أأدهن رأسي أم تطيب مجالسي وخدك معفور وأنت سليب
أأشرب ماء المزن من غير مائه وقد ضمن الأحشاء منك لهيب
سأبكيك ما ناحت حمامة أيكة وما اخضر في دوح الحجاز قضيب
غريب وأكفان الحجاز تحوطه ألا كل من تحت التراب غريب
ويحق لنا أن نختم هذا المقام بأبيات لسمي الإمام .. شاعر أهل البيت عليهم السلام ؛ الحسن بن علي الهبل رحمه الله هي :
وأفض إلى نجل النبي محمد والسبط من ريحانتيه الأكبرا
من طلق الدنيا ثلاثا واغتدى للضرة الأخرى عليها مؤثرا
مستسلما إذ خانه أصحابه وعراه من خذلانهم ما قد عرا
واستعجل الرجس ابن هند موته فسقاه كأسا للمنية أعفرا
وقل التحية من سميك من غدا بكم يرجي ذنبه أن يغفرا
وقل التحية أيضا مني ومن كل عاشق للخير والكرم والعزة ... السلام عليك يا أبا محمد .. السلام عليك يا ابن رسول الله .. السلام عليك وعلى الأرواح التي حلت بجوارك .. اللهم أبلغ روحه الطاهرة مني السلام كل السلام ، ولا تقفني يا رب موقف خزي أمامه .. ، أبلغه وأبلغ أخاه وأمه وأباه وحبيب القلوب جده مني كل السلام ،يا أهل السلام ، ويا أهلة الإسلام .
( إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا )
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله
ياسر عبد الوهاب الوزير
ليلة الخميس 13 / محرم / 1425 ه
المراجع :
- شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - مؤسسة الأعلمي
- مقابل الطالبيين - أبو الفرج الأصفهاني - موسسة الأعلمي
- المصابيح - أبو العباس الحسني - مؤسسة الإمام زيد بن علي عليهم السلام
- مروج الذهب - المسعودي - دار إحياء التراث العربي
صفحہ 25