وأجاب قائلا: «يوجد من أريد أن تقابلاه، من أصدقائي المقربين، واسمها بيجي سو، وهي تتطلع إلى لقائكما، وقلت لها كل شيء عنكما.»
ونظرت والدتي إلي مقطبة الجبين في حيرة، لكنني لم أكن أعرف أكثر مما تعرفه. ولم أكن متأكدا إلا من أنه يتعمد الغموض والإلغاز.
وسرنا ونحن ننوء بحمل الحقائب في الطريق، وطيور النورس تصيح فوق رءوسنا، وأشرعة اليخوت الراسية المطوية تصفق حولنا، والكلبة ستلا تثرثر عما يجري، حتى وقفنا أخيرا أمام مطلع خشبي يؤدي إلى يخت لونه أزرق أدكن براق. ووضع أبي الحقائب على الأرض والتفت إلينا وهو يبتسم ابتسامة عريضة.
وقال: «ها هي ذي! فلنبدأ التعارف. هذه هي بيجي سو، منزلنا الجديد. ما رأيكما؟»
وبدا أن والدتي متماسكة رغم كل شيء، فلم تصرخ في وجهه، بل لزمت الصمت التام، وظلت صامتة طيلة استغراقه في الشرح ونحن نحتسي الشاي في مطبخ السفينة السفلي. قال والدي: «لم تكن هذه فكرة خطرت لي فجأة، بل لقد فكرت في الأمر طويلا، على مدى السنوات التي عملت فيها في المصنع. نعم! ربما كنت أحلم بذلك وحسب في تلك الأيام. والأمر غريب عندما أتأمله، فلولا أنني فقدت وظيفتي ما جرؤت قط على فعل ذلك» وتوقف والدي، إذ أدرك أنه لم يشرح شيئا ثم عاد يقول: «لا بأس، إذن! سأقول لكما ما فكرت فيه. ما أحب عمل إلى قلوبنا؟ الإبحار؟ صحيح؟ وهكذا قلت في نفسي ألن يكون رائعا أن ننطلق وحسب فنبحر حول العالم؟ لقد فعلها غيرنا. ويسمى ذلك الإبحار في المياه الزرقاء. وقرأت عنه في المجلات.» «كانت الفكرة حلما وحسب في البداية، كما ذكرت. ثم أتى فقدان العمل وفقدان الفرصة في الحصول على عمل. ماذا يقول المرء في هذه الحالة؟ اركب الدراجة. إذن لم لا نركب سفينة؟ لقد حصلنا على نقود التعويض عن الفصل من العمل، مهما تكن قليلة. ولدينا بعض المدخرات، وثمن بيع السيارة. ليست ثروة كبيرة ولكنها تكفي. ماذا نفعل بها؟ لي أن أضعها في البنك كلها، مثلما فعل الآخرون. ولكن لماذا؟ حتى أشهدها تتناقص يوما بعد يوم حتى تنفد؟ قلت في نفسي ربما استطعت أن أفعل شيئا جميلا حقا بها، شيئا لا يحدث إلا مرة واحدة في العمر، إذ لنا أن نبحر حول العالم. أفريقيا وأمريكا الجنوبية وأستراليا والمحيط الهادئ. لنا أن نشاهد أماكن لم نعرفها إلا في الأحلام.»
وجلسنا صامتين من الصدمة، وعاد والدي يقول: «أعرف ما يجول بخاطركما. أنتما تقولان إننا لم نعرف من قبل إلا الإبحار في مياه الخزان، في الزورق الصغير. وتقولان إنني مجنون، فقدت عقلي، وتقولان إنه أمر خطر، وتقولان إنني سوف أفلس تماما بعدها، ولكنني فكرت ودبرت كل شيء، بل حتى فكرت في أمر جدتك يا مايكل - مثلا. فنحن لن نختفي إلى الأبد. وسوف تكون في انتظارنا عندما نعود. فهي في أتم صحة وعافية.» «ولدينا النقود الكافية. لقد حسبت حساباتي: سوف نقضي ستة أشهر في التدريب، ثم نقطع الرحلة في عام أو في ثمانية عشر شهرا، وفق ما تكفي النقود. وسوف نحرص على السلامة في الرحلة، ونقوم بها على الوجه الصحيح. وسوف تحصلين يا «ماما» على شهادة قيادة اليخت. آه! ألم أذكر لكما ذلك؟ لا لم أذكره من قبل: سوف تكونين ربان السفينة يا «ماما»! وسوف أكون ضابط السفينة الأول والقائم بالأعمال اليدوية. وأنت يا مايكل سوف تكون غلام السفينة. وأما ستلا؛ الواقع أن ستلا يمكن أن تلعب دور «قطة السفينة»!» كان والدي مفعما بالحماس، يلهث من فرط الانفعال. «سوف نتقن التدريب، ونقوم بعدة رحلات عبر القنال الإنجليزي إلى فرنسا، وربما أيضا إلى إيرلندا. وسوف نعرف كل صغيرة وكبيرة عن هذه السفينة كأنها فرد من أفراد الأسرة. طولها أربعة عشر مترا، وأماكن المجاديف محكمة الصنع والتصميم، بل أفضل ما يمكن العثور عليه وأكثرها أمانا. لقد درست الأمر جيدا. ستة أشهر من التدريب ثم نقوم برحلة حول العالم. ستكون مغامرة العمر. فرصتنا الوحيدة. لن تتاح لنا فرصة أخرى. ماذا تقولان إذن؟»
وقلت في حماس: «مم .. تاز»، وكان ذلك حقا رأيي.
وسألته والدتي: «تقول إنني سأصبح قائد السفينة؟» وقال والدي وهو يضحك ويحييها تحية البحارة: «نعم، نعم أيها الربان!»
فعادت تقول: «وماذا نفعل في مدرسة مايكل؟»
وقال والدي: «فكرت في هذا أيضا. سألت في المدرسة المحلية هنا. لقد رتبنا كل شيء. سوف نصحب جميع الكتب التي يحتاجها. وسوف أتولى تعليمه. وكذلك أنت. وسوف يعلم نفسه. ودعيني أؤكد لك بالمناسبة أنه سوف يتعلم في عامين بالبحر أكثر مما يمكنه أن يتعلم على الإطلاق في مدرسة القرود التي يذهب إليها. هذا وعد مني.»
نامعلوم صفحہ