لقد كان يكره هذا المكان لأن أمه تعيش فيه، أمه التي تكرهه كل الكره، وكذلك أخوه غير الشقيق الذي يعتبر نفسه بالنسبة إليه كأنما هو فرد من الشعب، ولهذا فقد فكر سيرل في أن يرحل إلى باريس ليكون لنفسه مركزا في عالم الفن ليجعل اسمه علما خفاقا، أو يعمل بجد ويغرق في العمل حتى ينسى أحلامه وجنونه، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا، بل بقي في بادن بادن ليشاهدها كل صباح ويذهب إلى الكوراس أو الأوبرا ليسمع ضحكاتها العذبة وصوتها الجميل عن قرب، ألا ما أشد جنونه! إنه يعلم أن هذا الجنون يحطم فؤاده ولكنه لا يجد في نفسه القوة الكافية لصد نفسه عنها. •••
كان أولئك الذين يعرفون فيرونيك كريستوف يسمونها «الفتاة المحظوظة»؛ فقد كان لديها كل شيء من الجمال والثروة والجاذبية والشاعرية، ولقد كانت فيرونيك في الواقع خيالية بمعنى الكلمة، إذ كانت الشاعرية والخيال في سنة 1860 من مميزات شباب ذلك الجيل، وعلى الأخص الفتيات، فكن يسبحن في تصوراتهن وأحلامهن، فكانت الحياة لديهن عبارة عن نسيج خيالي من الأماني، ولا يعتبر الحب لديهن حبا إلا إذا كان قويا لدرجة الموت، وكن يطلبن الحياة كأنها امتداد مستمر لساعة حب ونشوة بين ذراعي حبيب صادق، أمين، ولقد كان بعضهن يلاقي الفشل نتيجة لهذه النظرية الخيالية، ولكنهن رغم هذا كن يستسلمن لأحلامهن العذبة. ولقد مر على فيرونيك كريستوف وقت كانت فيه نهبا لمثل هذه الأحلام، ولو أنه لم يستمر طويلا؛ فقد كانت تحلم بالثلاثة الأيام التي قضتها في استوديو مونتمارتر، لقد أحبت تلك الغرفة القليلة الهواء وأثاثها البسيط، وكانت رائحة زيت التربنتين التي تملأ المكان تسرها، وتلك الأصوات المتعددة الغريبة التي كانت تتسرب إلى أذنها من بين أصوات منظفي المداخن وهم يسيرون في الطريق، ونداء: «أصلح الكراسي» و«أطباق ومواجير». وكانت تحب ملاحظة الرسام وهو يقوم بعمل صورتها، وتلمح عينيه وهو يرفع خصلة شعره التي تتدلى فوق جبهته، وكانت تتأمل وجهه وهي تفكر فيما يكون عليه بغير تلك اللحية وهذا الشارب المهملين اللذين يخفيان تعبير فمه وشكل ذقنه. وفكرت فيرونيك في الفنان بعد ذلك عندما تركت باريس لتقضي بضعة أيام بين أقاربها في أوستوريا، وكان لديها هناك فسحة من الوقت لتفكر وتحلم، وقد شاهدت الصورة معلقة في صالة العرض، وسمعت وقرأت أغلب ما كتبه النقاد عنها من مدح وتقريظ، غير أنها لم تشاهد الفنان بعد ذلك. ولقد حدث أكثر من مرة أن عرض حديث عن الصور والمصورين على مائدة الطعام وتساءل البارون كريستوف عن الفنان البارع وماذا جرى له، وكانت فيرونيك تسائل مثله نفسها نفس السؤال.
ولما حل شهر يوليو سافرت فيرونيك إلى بادن بادن لتلحق بأبيها في فصل الصيف، ولم تكن قد ذهبت إليها من قبل، ولقد سرتها تلك البلدة بما فيها من مباهج ومسرات، واجتاحت الحياة الاجتماعية ومباهج المدينة المغرية أحلام استوديو مونتمارتر وجوها الهادئ. وحتى هذا الوقت لم تكن فيرونيك تعلم شيئا عن مشروع زواجها بملك فرنسا المنتظر، رغم أن الموضوع قد سوي فعلا بين والدها والسيدة البرنسيس دي بوربون والكونت فريزن السياسي الأوستوري، وكان هذا الأخير يعمل وفقا لرغبة إمبراطوره الذي كان يود حصول هذا الزواج تبعا لما تلقاه أسرة دي بوربون من تقوية مالية نتيجة لذلك، وكانت السيدة البرنسيس تدرك تماما قيمة الجانب المالي في مشروعها الكبير، إلا أنها لم تكن قد رأت فيرونيك كريستوف بعد، وكانت رؤيتها لها لأول مرة في الأوبرا في ليلة الافتتاح لرواية «روبير الشيطان» حيث كان جميع المتفرجين من الطبقة الممتازة، وقد حضر الإمبراطور والإمبراطورة وكذلك البرنس والبرنسيس وبسمارك ملك بروسيا.
وكانت فيرونيك جالسة في مقصورة والدها، وفي الاستراحة كانت محاطة بجماعة من الشباب خلاصة البيوتات وأعراق الأسر، يحومون حول الوريثة الغنية، كما يحوم الذباب حول طبق من العسل. وأشار الكونت فريزن نحوها ليريها للسيدة الكونتيس، فأمسكت هذه بمنظارها وأطالت النظر إلى الفتاة، ولا شك أنها كانت جميلة جدا، ورائعة بشعرها الأدكن الناعم، وعينيها الزرقاوين العميقتين، وشفتيها القرمزيتين، وقوامها الرائع المتناسق، حتى إن السيدة لم تتمالك نفسها من أن تبدي إعجابها العظيم بالفتاة، وفكرت في ولدها ملك فرنسا، وكيف أنه لا بد له من أن يتزوج الفتاة لنفسه لتسنده ملايين كريستوف في السعي لنوال حقوقه؛ فقد قال لها الكونت فريزن مرارا بكل أسف إنه لا يمكن أن يتنازل البارون كريستوف عن جزء من ملايينه في مقابل شيء أقل من تاج لابنته.
وأنزلت السيدة نظارتها والتفتت لصديقها، ثم ألقت عليه نفس السؤال الذي سألته من قبل أكثر من عشر مرات: ألا يزال البارون كريستوف على رأيه؟
فأجاب بتأكيد: نعم، لا يزال على رأيه. - والفتاة ماذا قالت؟ - لا تعرف شيئا حتى الآن، ولكن بمجرد أن تتشرف بتقديمها إليك ... - ماذا تظنها قائلة؟ - لا بد أنها ستوافق على رغبات والدها، فليس من السهل لامرأة أن تنال تاجا.
تنهدت السيدة ثم قالت بجفاف: إني أخشى أن تكون طماعة. - إني لا أظن أن فيرونيك كريستوف طماعة بالمعنى الذي تقصدينه يا سيدتي، إذ إنها صغيرة جدا وخيالية بمعنى الكلمة، والمستقبل الذي يرسمه لها أبوها سوف يغريها، لا بما فيه من عظمة فحسب بل بما فيه أيضا من خيال.
ووضعت السيدة منظارها على عينيها، وأخذت تحدق النظر في فيرونيك مرة أخرى، وعلقت تعليقها الجاف قائلة إنها في الحقيقة جميلة جدا.
ورد الكونت فريزن بحرارة: سوف تكون أجمل ملكة رأتها فرنسا.
ولكن هذا التعليق لم يلائم أعصاب السيدة المتوترة فقالت بغضاضة: لا يمكنك أن تتصور يا فريزن أن يعطي ملوك فرنسا القدماء أنفسهم مقابل هذه الصفقة.
نامعلوم صفحہ