مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
نامعلوم صفحہ
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
نامعلوم صفحہ
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
نامعلوم صفحہ
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
ملك غير متوج
ملك غير متوج
تأليف
إيما أوركزي
ترجمة
م. أ. شاكر
نامعلوم صفحہ
مقدمة
ما كنت أتصور أنني سأعيش حتى اليوم الذي أستطيع منه كتابة هذه القصة عن ملك فرنسا غير المتوج، دون أن أجرح إحساسات أولئك الذين اشتبكت أسرهم بمختلف فصول هذه الفاجعة الأليمة.
لقد وقعت بين يدي تفاصيل هذه القصة بطريقة غريبة، ولما كنت قد وعدت منذ بضع سنوات بألا أنشر ما نمى إلي منها؛ فإنني وقد تحررت من وعدي هذا أخشى ألا أجد من يصدق القصة!
إنني عليمة بأن الكثيرين سوف ينكرونها، وإني أقر بأن في بعض حوادثها غرابة وطرافة تجعلانها أقرب إلى خيالات الوهم منها إلى وقائع التاريخ. ولكن على الرغم من هذا كله، فالقصة في جميع فصولها واقعية حقيقية، لا يشوبها الوهم ولا يطغى عليها الخيال.
المؤلفة
الفصل الأول
إذا كنت في باريس، وسرت في شارع كليشي الذي يمتد من شمال كنيسة الترينيتيه، فإنك تجد قبل أن تصل إلى الميدان بضعة أبنية جديدة ضخمة تبدو غريبة في هذا الحي القديم من المدينة.
على أننا إذا رجعنا إلى سنة 1860، فإنا نجد مكان هذه الأبنية ساحة مربعة تحفها مبان قليلة الارتفاع، أطلق عليها اسم «مدينة ريمور»، وكانت هذه مقرا للفنانين والشعراء، يعيشون فيها العيشة البوهيمية العجيبة المحببة لديهم.
وكان يوصل إلى هذه الساحة طريق يسير تحت قنطرة متداعية، يمتد في مواجهتها صف من الاستديوات، لها نوافذ مستطيلة أسدل خلف كل منها ستار أسود، يخيل إلى الرائي أنه مثبت في مكانه لا يرتفع ولا يهبط، غير أن تراكم الغبار فوق هذه النوافذ كان يصد عين الفضول عن النظر إلى الداخل أكثر من الستائر نفسها.
وكان يمتد على يمين القنطرة صف من المخازن والحوانيت تعرض في نوافذها نماذج بضاعتها، وإن كانت جميعها لا يكاد يرى الإنسان أحدا بداخلها.
نامعلوم صفحہ
وكان يقع في مواجهة هذه الحوانيت وعلى يسار القنطرة مطعم، أطلق على نفسه اسم «مطعم الملوك الثلاثة»، وقد اشتهر بتقديمه طبقا من أجود أنواع الطيور النورماندية، يدعى «طبق الكاسوليت» في عشاء يوم واحد من كل أسبوع، فكان يجتمع فيه مساء ذلك اليوم أئمة الأدب وكبار الشعراء والفنانين؛ فهذا أوجين ديلاكروا الرسام العظيم يأخذ مكانه إلى جانب منضدة قريبة من النافذة، وقد جلس أمامه هوراس فرنيه في ثوبه العسكري القديم ذي الصدر المزركش، وإلى جانبه جوستاف فلوبير، الذي أحدثت روايته الجديدة «مدام بوفاري» ضجة كبيرة في أنحاء فرنسا. وهناك في ركن منعزل جلس الكاتب الكبير إسكندر ديماس، جالسا وحده إلى جانب منضدة صغيرة، وفي الركن الآخر جلس ألفونس دوديه مع زولا الصغير.
لقد كان هؤلاء جميعا يأكلون ويشربون شاغلين أنفسهم بالطعام والتمتع بالحياة، فكانت اجتماعاتهم في مطعم «الملوك الثلاثة» صورة صادقة لبوهيميتهم. وكانت الأمطار تنهمر بشدة خارج مطعم «الملوك الثلاثة»، فما كاد العشاء ينتهي حتى اشتدت برودة الجو، وازدادت الرياح قوة، فتحولت إلى عاصفة ثلجية قامت تقذف نوافذ المطعم بقطع صغيرة من البرد، وصفرت الريح داخل المدخنة التقليدية القائمة في وسط القاعة، وكانت لغمات الريح القاسية تندفع بشدة من باب المطعم في كل مرة يخرج فيها أحد زبائنه. وعلى رغم ما كان في القاعة من وسائل التدفئة الكافية، فإن هذه اللغمة القاسية كانت تكفي لسريان القشعريرة في جسد الجميع.
وكان سيرل برتراند، الرسام الشاب، قد اتخذ لنفسه مكانا منعزلا في القاعة، وجلس يرتشف قهوته وهو يفكر فيما قاله أستاذه الكبير أنجر عن صورته الجديدة.
وأبرقت أسارير وجهه في ابتسامة خفيفة وهو يستعيد في سرور ونشوة كلمات أستاذه المشجعة.
ولقد كان لبرتراند هيئة جميلة جذابة رغم شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة على طريقة أهل مونتمارتر، وكان لون شعره ولحيته الكستنائي الغامق يندر وجوده بين أهل الشمال، وكان كثير من النساء يطرين حسن هيئته، ويعشقن عينيه السوداوين اللتين تفصحان - كما يقلن - عن معان أوضح من كلمات الرجال الآخرين.
لم يكن يعرف أحد عن سيرل أكثر من أنه قد بدأ حياته صبيا يشتغل في استديو الرسام الكبير أنجر؛ ينظف أدواته ويغسل الفرش في آخر كل يوم، أما الآن فقد اتخذ له استوديو خاصا في مدينة «ريمو». وكان قد أوصل صورة إلى صالة العرض فرفضت. وليس في هذا غرابة؛ فإن كثيرا من عظماء الرجال قد بدءوا حياتهم الفنية على هذا المنوال. ولقد كان يكسب بعض المال بقيامه برسم نماذج للقبعات والملابس لمحل كبير في البوليفار، وكان يرسل كل عام صورتين إلى صالة العرض، ولكنهما تعودان إلى الاستوديو ثانية مصحوبتين بعبارة الرفض المؤدبة: «اللجنة تأسف ...» على أن هذا الفشل المتكرر لم يؤثر في نفسية برتراند؛ فقد ظل رغم هذا مرحا طروبا قانعا بما قسم له مترقبا الفرصة للنجاح.
والواقع أن هذه الطباع المشرقة قد جعلته محبوبا لزمرة أولئك البوهيميين المسرفين، وكانت «فتيات الموديلات» يعجبن به، حتى إن ميمي - تلك الفتاة الشقراء اللعوب، التي اشتهرت باسم «فينوس الجيوب» - صرحت مرارا بأنها تحب مجالسة المسيو برتراند عن غير الفنانين، ولو أنها تجد في طباعه شيئا من الغرابة! والواقع أن ميمي وأمثالها كن صادقات فيما قلنه عن برتراند، وعلى الأخص بعد أن رسم صورة الآنسة كريستوف وحصل على أجر كبير في مقابل رسمه.
لقد تغيرت أحوال برتراند فعلا بعد انتهائه من رسم هذه الصورة، فكان يغرق أحيانا في صمت طويل، وأصبح ضحكه ومرحه أشبه شيء بقناع متكلف يجبر نفسه على لبسه بين الناس، حتى إذا كلمه أحد وهو يشتغل أو أثناء تناوله الطعام، وقف عن الحركة وحملق فيه بعينيه كأنما قد أوقظ بغتة من حلم عميق.
والحق أن سيرل برتراند أصبح رجلا آخر منذ أن قام بعمل صورة لفيرونيك كريستوف، لقد كان هذا حادثا عجيبا في حياته، وكان يظن أن المسألة في بادئ الأمر بعد أن أعطي الإذن بعمل الصورة لا تعدو أن تكون خطوة موفقة في سبيل نجاحه الفني، ولقد فرح بهذا كل الفرح؛ فقد وضع قدمه فوق أول درجة من سلم النجاح، وتقوى بهذا أمله في الوصول إلى القمة وتحقيق أحلامه الذهبية.
لقد عرفه ألبرت كريستوف أغنى رجال المال في أوروبا عندما كان يزور معرض الخريف، وبعد أيام ذهب السيد كريستوف إلى استديو الفنان في «مدينة ريمور»، وأعطاه أمرا بعمل صورة للآنسة فيرونيك كريستوف ابنته، وقال للفنان إنها لا تستطيع أن تجلس أمامه أكثر من ثلاث جلسات فقط؛ إذ إن معظم وقتها مشغول في شئون اجتماعية هامة. ثم عرض عليه في مقابل قيامه بالصورة مبلغ 7 آلاف فرنك! ولم يدر برتراند في البدء أيضحك أم يطرد ذلك الزائر؛ فقد ظن أنه في عرضه لهذا المبلغ الكبير إنما يسخر منه، غير أن السيد كريستوف لم يكن من ذلك الصنف من الرجال الذين يسخرون هذا النوع من السخرية، حتى إنه في مدة خمس دقائق كان قد عقد الصفقة.
نامعلوم صفحہ
وقام الرسام بعمل الصورة، وقد خيل إليه أنه كان في حلم عميق إبان الأيام الثلاثة التي جلست فيها أمامه أجمل امرأة على وجه الأرض! لقد كان يشتغل بنشاط فذ وقوة عجيبة طوال هذه المدة، لقد جلست أمامه الثلاث جلسات الموعودة، ولكنها كانت تبقى أمامه في كل جلسة أربع ساعات تتخللها فترات استراحة قصيرة. لقد خيل إليه أول مرة دخلت عنده في الاستديو أنها فتاة مدرسة خرجت أول مرة إلى الحياة، وأحس في آخر مرة تركته أنها المرأة الوحيدة التي أحبها قلبه.
لقد كانت طفلة، ولكنها امرأة، وكانت امرأة، ولكنها طفلة؛ فقد كان أشهى وأعذب ما فيها تلك الطفولة المحببة. ما كانت تتكلم معه طويلا أثناء الجلسات، لا لشيء إلا لأن برتراند لم يكن ينفرد وإياها، إذ كان في صحبتها دائما معلمها ورقيبها الذي لا يجوز لفتاة في مركزها أن تخرج من منزلها بدونه. لقد شعر أنها تفهم طريقة عمله؛ كانت تجلس بلا حراك ولكنها ممتلئة بالحياة. لقد كانت عيناها وفمها ويداها العجيبتان كلها تنطق بحيويتها، وكانت ابتسامتها تكشف عن الإشراق، ولا تتشعع نظرتها الجميلة إلى حملقة فارغة. فإذا احتاجت للراحة نزلت إليه ووقفت خلفه، بينما لا يزال مستمرا في عمله. وكان وجودها هكذا قريبا منه يسكره؛ فكانت يده ترتعش، إلا أنه ما كان لينظر خلفه؛ ويعلم الله ماذا كان يحدث لو فعل؛ فقد كان في هذا الوقت قد شغف بحبها. ولقد قالت له مرة وهي ترتشف قدحا من النبيذ في فترة استراحتها: إن فيك لفنانا عظيما يا مسيو برتراند، ولقد أحس برغبة جامحة في أن يلقي بأطباقه وفرشته ليطوقها بذراعيه قائلا لها: إن في لمحبا عظيما لو صدقتني وأعطيت نفسك لي.
لقد كان جنون سيرل برتراند بنوال فيرونيك كريستوف ابنة المليونير بعيد الاحتمال بعد الكوكب عن الأرض، ولكن اليأس في شئون الهوى قلما يلج قلب الشباب. وبدأ سيرل يحلم أحلاما جميلة؛ فقد عجل خياله بوصوله إلى قمة المجد، وتصور نفسه يدخل مطعم «الملوك الثلاثة» والناس يهمسون حوله قائلين: هل ترى ذلك الرجل الذي دخل الآن؟ إنه سيرل برتراند أعظم فناني عصره، إنه تزوج فيرونيك كريستوف ابنة المالي الكبير. غير أن كل هذا الجنون لم يكن سوى أحلام.
لقد عرضت الصورة في صالة العرض وعلق النقاد عليها مؤملين في المصور الشاب مستقبلا عظيما. واستحضر سيرل ثوبا جديدا وترقب دعوته إلى الحفلات العامة حيث يحظى برؤية فيرونيك أو ينال حظ التكلم معها ولو بضع كلمات، ولكن قلما استطاع هذا؛ فقد كان يحوطها دائما جمع من الشباب والرجال المتأنقين وأصحاب الأسماء الأرستقراطية. ولقد ذهب إلى الأوبرا وجلس في الصالة واختار مقعدا يستطيع فيه أن يراها وهي في مقصورتها، ولكم حاول أن يستجمع قواه ليصعد إليها، ويقدم احتراماته كما يفعل غيره من الرجال! ولكن مقصورة البارون كريستوف كانت دائما مزدحمة بالزوار.
وأحس سيرل بالخجل؛ فقد شعر بأنه قبيح، وجاهل بأساليب الآداب الاجتماعية، وظن أن ثوبه الجديد لا يلائمه وأن رباط رقبته غير منظم، وضايقه شعره الطويل ولحيته غير الممشوطة. غير أنه حاول بعد ذلك أن يتغلب على جبنه، فانتظر يوم تشريف الإمبراطور والإمبراطورة آخر ليلة في الأوبرا، حيث كان من المؤكد أن يؤمها في تلك الليلة جميع الأوساط الراقية في باريس، ولقد كان هذا فعلا.
غير أن أسرة كريستوف لم تكن هناك، وبحث سيرل عن فيرونيك وقت الاستراحة هنا وهناك، دون أن يعثر لها على أثر، وخرج من الملهى متجها إلى شارع دي فاريني وظل يحوم حول منزلها، ولكنها لم تعد. وأخيرا دفعته رغبته الملحة إلى أن يشد جرس الباب الكبير، ولقد كان ذهنه كله غارقا في التفكير فيها، حتى إنه لم يلاحظ أن منافذ البيت كلها مغلقة كأنما هجره أهله. وخرج إليه رجل بقميص ذي أكمام طويلة ومئزر من الجوخ الخشن، قال: لقد سافر سيدي منذ أسبوع إلى بادن بادن، أما الآنسة فسافرت إلى فينا عند بعض أقاربها، وستلحق بالسيد بعد بضعة أيام. - ومتى تكون عودتهما؟ - لا أعرف يا سيدي، وعلى كل حال فالسيد والآنسة لا يرجعان عادة إلى باريس قبل نوفمبر.
وتركه سيرل وهو يفكر، إنه الآن في يوليو، أيسافر إلى بادن بادن، ذلك المكان الذي لا يحبه قط، والذي قال عنه منذ بضعة أيام إنه يفضل أن يموت بدلا من أن يذهب إليه؟ لقد عاشت أمه هناك، وكذلك عاش أخوه غير الشقيق، الذي كان يعتبره الكثيرون ملك فرنسا، لم يكن هناك شيء يغريه بالذهاب إلى بادن بادن، ولكنه ذهب!
الفصل الثاني
بادن بادن مدينة صغيرة، جميلة؛ هي مدينة الأحلام والفخامة، مدينة الرجال المتأنقين والنساء الجميلات. لقد كانت هذه المدينة في تلك الأيام ك «مونت كارلو» الآن، كان يؤمها جميع العظماء، ورجال المال المترفين من جميع أنحاء أوروبا، فتغص بهم فنادقها الفخمة العظيمة التي كان يختلف إليها نابليون الثالث والإمبراطورة أوجيني، ثم ليوبولد الأول ملك بلجيكا، والملك وليم الأول ملك بروسيا، والملكة أوجستا، والدوق مورني، والبرنس مترنيخ، كما كان يؤمها كبار رجال الفن وملوك المال والأعمال.
وكان بين الفلات الجميلة التي اشتهرت بها المدينة فلا إليزابث ذات السقف الأحمر الذي يطل فوق أشجار الكستنا المزهرة، وكانت تستأجرها في هذا الوقت من السنة سيدة وابنها يدعيان رسميا باسم البرنس والبرنسيس دي بوربون، ولم يكن سرا أن يعرف أن هذا البرنس هو ملك فرنسا الحقيقي لويس التاسع عشر، حفيد الملك لويس السادس عشر والملكة أنطوانت، وأبوه الملك لويس السابع عشر الذي يعرف الجميع أنه قد أنقذ من السجن وهو طفل صغير وأخذ إلى أوستوريا (النمسا)، حيث تزوج سيدة إسبانية وأنجب منها ولدا يعتبر أمام معارفه وأمام الله بعد موت والده الملك الشرعي لفرنسا.
نامعلوم صفحہ
وكان البرنس دي بوربون - وكما يصمم البعض على مناداته بصاحب الجلالة ملك فرنسا - قد لاقى نجاحا كبيرا في الهيئة الاجتماعية، فكان يرى - إذا كان الجو معتدلا - في الكوراس وفي أغلب الليالي إما في الأوبرا أو في قاعة اللعب، لا يفارقه طبعه الدمث الذي حببه إلى الرجال والنساء على السواء.
غير أنه كان في صالونه الخاص في فلا إليزابث لويس ملك فرنسا لا أقل من ذلك، وربما كان هذا راجعا إلى تأثير أمه؛ فقد كانت تعمل جهدها لكي يعامله الجميع بأصول الإتيكيت، حتى إنه كان يعقد مقابلات رسمية فيلاقي ضيوفه جالسا على مقعد مذهب مرتفع أشبه شيء بالعرش، فكانت السيدات ينحنين إذا مررن أمامه راكعات نصف ركعة، حتى تلمس أطراف أثوابهن المستديرة أرض الغرفة، كما كان يلبس الرجال في هذه الزيارات ملابسهم الرسمية الكاملة، وكان يعتبر حظا كبيرا أن ينال أحدهم يد الملك لتقبيلها. وكانت الملكة الوالدة تجلس بجانبه على كرسي أقل ارتفاعا عن عرش الملك، ولو أنها تعدت العقد الخامس من عمرها إلا أنها كانت امرأة جميلة تظهر عليها مخايل العظمة ممزوجة بالوقار.
لقد كانت نموذجا جميلا للمرأة الإسبانية؛ فقد كان شعرها المتحول إلى اللون الأبيض لا يزال يوري جمال أصله الذهبي، وكانت عيناها السوداوان تنبئان عن أنها كانت في صباها امرأة جذابة، وكانت تتكلم الفرنسية بلهجة إسبانية واضحة.
على أنه لم يكن يعرف أحد شيئا عن مولدها ولا عن أصلها، وقد ذهبت محاولات الكثيرين في البحث عن هذا سدى.
ولم يكن للبرنسيس دي بوربون إلا أصدقاء قلائل، وكان هناك شخص واحد فقط هو الذي حاز ثقتها، ويجوز أن يعتبر أقرب المقربين إليها، وهو الكونت فريزن الذي كان مديرا لسفارة أوستوريا في باريس، تحت رياسة البرنس مترنيخ، وكان يفد عادة إلى بادن بادن في فصل الصيف، فيزور فلا إليزابث دائما.
لقد كان كل هذا قبل سنة 1858، ولكن منذ هذا التاريخ تغير كل شيء؛ فقد كانت البرنسيس دي بوربون تذهب كالعادة إلى فلا إليزابث، ولكن البرنس كان يرى نادرا في بادن بادن؛ فقد قيل عنه إن صحته ليست على ما يرام، وقد نصح له الأطباء بالإقامة في سويسرا مدة طويلة، وفعلا لم يزر أمه في مدة سنتين إلا بضع زيارات قصيرة.
وكان من النادر أن يرى خارج الفلا إبان هذه الزيارات.
ولم تكن قلة ظهور البرنس دي بوربون في المجتمعات لتثير فضول الناس أكثر من حياة البرنسيس دي بوربون الخاصة؛ فقد قيل عنها إنها تسعى لاستعادة عرش فرنسا لابنها، وأخذ الناس يحسبون عليها حركاتها ويؤولونها بمختلف التأويلات. والواقع أن تلك السيدة التي يندر أن تزور أحدا قامت بزيارة البارون ألبرت كريستوف المالي العالمي الكبير في فلا تريز، وشاهدت مجموعة الصور التي عنده، والتي تعتبر أشهر مجموعة في أوروبا، كما أنها دعته لزيارتها في فلا إليزابث، وقد قال البعض إنها فعلت كل هذا بمشورة الكونت فريزن، إذ إن البارون كريستوف كان أوستوري الجنسية أيضا. وازدادت العلاقة بين السيدة والبارون وكثر تزاورهما، وشوهدت السيدة أكثر من مرة تركب إلى جانب البارون في عربته الفخمة، وتهامس الناس عن كنه هذه العلاقة ومداها، وذهبت الظنون بهم كل مذهب؛ فقد قال البعض إن السيدة تسعى للتأثير على البارون واستمالته إلى جانبها فتستفيد من أمواله لتحقيق أغراضها، وقال آخرون إن البارون نفسه يسعى لاستعادة آل بوربون العرش طمعا في أن يزوج ابنته الجميلة فيرونيك للبرنس دي بوربون، الذي سيصبح فيما بعد ملكا فعليا لفرنسا. •••
وصل سيرل برتراند إلى بادن بادن، وتساقط إليه ما دار على الألسن عن موضوع فيرونيك ومشروع زواجها للبرنس دي بوربون، وذهب فيرونيك أيضا إلى بادن بادن بعده بأسبوع، فكان يراها بعد هذا كل يوم تقريبا تسوق جوادها في طريق ليخنثال، أو في قاعة الملعب بالكوراس، أو في الأوبرا، غير أنها ما كانت تلاحظ وجوده مطلقا، ولم تلق يوما إليه نظرة واحدة وهو يتأمل وجهها بنهم وشغف.
لقد كانت عنده المرأة الوحيدة في العالم التي يفضلها أكثر من حياته، بل ويرغب فيها أكثر من كنوز العالم أجمع، ولكنه كان يدرك رغم كل هذا أنه لا قيمة له إذا قاس نفسه بها، فما هو إلا رسام مجهول قام بعمل صورة لها، ونال أجرته على عمله، وأن الثلاثة الأيام التي قضتها في الاستوديو لا بد أنها قد محيت من صفحة ذاكرتها ... كان هذا ما يدور بخلد الرسام المسكين الذي يقدس الآنسة فيرونيك، وهو ينتظرها يوميا في الطريق وقت خروجها للنزهة، رغم ما ترامى إليه عن مشروع زواجها بأخيه ملك فرنسا غير المتوج.
نامعلوم صفحہ
لقد كان يكره هذا المكان لأن أمه تعيش فيه، أمه التي تكرهه كل الكره، وكذلك أخوه غير الشقيق الذي يعتبر نفسه بالنسبة إليه كأنما هو فرد من الشعب، ولهذا فقد فكر سيرل في أن يرحل إلى باريس ليكون لنفسه مركزا في عالم الفن ليجعل اسمه علما خفاقا، أو يعمل بجد ويغرق في العمل حتى ينسى أحلامه وجنونه، ولكنه لم يفعل شيئا من هذا، بل بقي في بادن بادن ليشاهدها كل صباح ويذهب إلى الكوراس أو الأوبرا ليسمع ضحكاتها العذبة وصوتها الجميل عن قرب، ألا ما أشد جنونه! إنه يعلم أن هذا الجنون يحطم فؤاده ولكنه لا يجد في نفسه القوة الكافية لصد نفسه عنها. •••
كان أولئك الذين يعرفون فيرونيك كريستوف يسمونها «الفتاة المحظوظة»؛ فقد كان لديها كل شيء من الجمال والثروة والجاذبية والشاعرية، ولقد كانت فيرونيك في الواقع خيالية بمعنى الكلمة، إذ كانت الشاعرية والخيال في سنة 1860 من مميزات شباب ذلك الجيل، وعلى الأخص الفتيات، فكن يسبحن في تصوراتهن وأحلامهن، فكانت الحياة لديهن عبارة عن نسيج خيالي من الأماني، ولا يعتبر الحب لديهن حبا إلا إذا كان قويا لدرجة الموت، وكن يطلبن الحياة كأنها امتداد مستمر لساعة حب ونشوة بين ذراعي حبيب صادق، أمين، ولقد كان بعضهن يلاقي الفشل نتيجة لهذه النظرية الخيالية، ولكنهن رغم هذا كن يستسلمن لأحلامهن العذبة. ولقد مر على فيرونيك كريستوف وقت كانت فيه نهبا لمثل هذه الأحلام، ولو أنه لم يستمر طويلا؛ فقد كانت تحلم بالثلاثة الأيام التي قضتها في استوديو مونتمارتر، لقد أحبت تلك الغرفة القليلة الهواء وأثاثها البسيط، وكانت رائحة زيت التربنتين التي تملأ المكان تسرها، وتلك الأصوات المتعددة الغريبة التي كانت تتسرب إلى أذنها من بين أصوات منظفي المداخن وهم يسيرون في الطريق، ونداء: «أصلح الكراسي» و«أطباق ومواجير». وكانت تحب ملاحظة الرسام وهو يقوم بعمل صورتها، وتلمح عينيه وهو يرفع خصلة شعره التي تتدلى فوق جبهته، وكانت تتأمل وجهه وهي تفكر فيما يكون عليه بغير تلك اللحية وهذا الشارب المهملين اللذين يخفيان تعبير فمه وشكل ذقنه. وفكرت فيرونيك في الفنان بعد ذلك عندما تركت باريس لتقضي بضعة أيام بين أقاربها في أوستوريا، وكان لديها هناك فسحة من الوقت لتفكر وتحلم، وقد شاهدت الصورة معلقة في صالة العرض، وسمعت وقرأت أغلب ما كتبه النقاد عنها من مدح وتقريظ، غير أنها لم تشاهد الفنان بعد ذلك. ولقد حدث أكثر من مرة أن عرض حديث عن الصور والمصورين على مائدة الطعام وتساءل البارون كريستوف عن الفنان البارع وماذا جرى له، وكانت فيرونيك تسائل مثله نفسها نفس السؤال.
ولما حل شهر يوليو سافرت فيرونيك إلى بادن بادن لتلحق بأبيها في فصل الصيف، ولم تكن قد ذهبت إليها من قبل، ولقد سرتها تلك البلدة بما فيها من مباهج ومسرات، واجتاحت الحياة الاجتماعية ومباهج المدينة المغرية أحلام استوديو مونتمارتر وجوها الهادئ. وحتى هذا الوقت لم تكن فيرونيك تعلم شيئا عن مشروع زواجها بملك فرنسا المنتظر، رغم أن الموضوع قد سوي فعلا بين والدها والسيدة البرنسيس دي بوربون والكونت فريزن السياسي الأوستوري، وكان هذا الأخير يعمل وفقا لرغبة إمبراطوره الذي كان يود حصول هذا الزواج تبعا لما تلقاه أسرة دي بوربون من تقوية مالية نتيجة لذلك، وكانت السيدة البرنسيس تدرك تماما قيمة الجانب المالي في مشروعها الكبير، إلا أنها لم تكن قد رأت فيرونيك كريستوف بعد، وكانت رؤيتها لها لأول مرة في الأوبرا في ليلة الافتتاح لرواية «روبير الشيطان» حيث كان جميع المتفرجين من الطبقة الممتازة، وقد حضر الإمبراطور والإمبراطورة وكذلك البرنس والبرنسيس وبسمارك ملك بروسيا.
وكانت فيرونيك جالسة في مقصورة والدها، وفي الاستراحة كانت محاطة بجماعة من الشباب خلاصة البيوتات وأعراق الأسر، يحومون حول الوريثة الغنية، كما يحوم الذباب حول طبق من العسل. وأشار الكونت فريزن نحوها ليريها للسيدة الكونتيس، فأمسكت هذه بمنظارها وأطالت النظر إلى الفتاة، ولا شك أنها كانت جميلة جدا، ورائعة بشعرها الأدكن الناعم، وعينيها الزرقاوين العميقتين، وشفتيها القرمزيتين، وقوامها الرائع المتناسق، حتى إن السيدة لم تتمالك نفسها من أن تبدي إعجابها العظيم بالفتاة، وفكرت في ولدها ملك فرنسا، وكيف أنه لا بد له من أن يتزوج الفتاة لنفسه لتسنده ملايين كريستوف في السعي لنوال حقوقه؛ فقد قال لها الكونت فريزن مرارا بكل أسف إنه لا يمكن أن يتنازل البارون كريستوف عن جزء من ملايينه في مقابل شيء أقل من تاج لابنته.
وأنزلت السيدة نظارتها والتفتت لصديقها، ثم ألقت عليه نفس السؤال الذي سألته من قبل أكثر من عشر مرات: ألا يزال البارون كريستوف على رأيه؟
فأجاب بتأكيد: نعم، لا يزال على رأيه. - والفتاة ماذا قالت؟ - لا تعرف شيئا حتى الآن، ولكن بمجرد أن تتشرف بتقديمها إليك ... - ماذا تظنها قائلة؟ - لا بد أنها ستوافق على رغبات والدها، فليس من السهل لامرأة أن تنال تاجا.
تنهدت السيدة ثم قالت بجفاف: إني أخشى أن تكون طماعة. - إني لا أظن أن فيرونيك كريستوف طماعة بالمعنى الذي تقصدينه يا سيدتي، إذ إنها صغيرة جدا وخيالية بمعنى الكلمة، والمستقبل الذي يرسمه لها أبوها سوف يغريها، لا بما فيه من عظمة فحسب بل بما فيه أيضا من خيال.
ووضعت السيدة منظارها على عينيها، وأخذت تحدق النظر في فيرونيك مرة أخرى، وعلقت تعليقها الجاف قائلة إنها في الحقيقة جميلة جدا.
ورد الكونت فريزن بحرارة: سوف تكون أجمل ملكة رأتها فرنسا.
ولكن هذا التعليق لم يلائم أعصاب السيدة المتوترة فقالت بغضاضة: لا يمكنك أن تتصور يا فريزن أن يعطي ملوك فرنسا القدماء أنفسهم مقابل هذه الصفقة.
نامعلوم صفحہ
فرد الكونت باضطراب خفيف: سيدتي، إن ملوك فرنسا القدماء لم يعيشوا في عصر ديمقراطي.
فردت عليه السيدة بفرنسية حادة مكسرة: أنا أكره الديمقراطيين، ولو أن عمنا لويس فيليب كان يظن أنه سيكسب حب الشعب بخروجه في باريس بلا حراس وهو يحمل مظلته فوق رأسه، إلا أن الباريسيين قابلوه على هذا بإعادته إلى إنجلترا، ولا شك أنه وجد أن مظلته هناك أفيد له.
وقطعت حديثها وعادت إلى الموضوع الذي يشغلها: ألا ترى أنه شيء مروع، أقصد هذا الزواج يا فريزن؟
فأردف السياسي بتحفظ: إن للضرورة أحكاما يا سيدتي، بل ما أكثر الزيجات الملكية التي حكمتها الضرورة، ولكن لماذا تعتبرينه شيئا مروعا؟ - ملك فرنسا وابنة ألبرت كريستوف!
فرد الكونت فريزن بتأكيد: إنه رجل لا غبار عليه، وتعم شهرته جميع أنحاء أوروبا، وفوق ذلك ...
وتوقف عن الكلام ثم ضغط شفتيه على بعضهما، فإن الكلمات التي قالها ما كان يجب أن يتلفظ بها؛ فقد كان سيقول: «وفوق ذلك فإن لويس السابع عشر ملك فرنسا تزوجك أنت انيزدي جامبا الممرضة المجهولة الأصل، أرملة ضابط بالجيش الإنجليزي، فلماذا لا يتزوج لويس التاسع عشر بفيرونيك كريستوف ابنة أحد أصحاب الملايين؟» إلا أن فريزن كان أكثر سياسة من أن يترك مثل هذه الكلمات تخرج من فمه.
وتنهدت السيدة بنفاد صبر وقالت: لو يساعدنا إمبراطوركم أو قداسة البابا، فإنا لا نكون في حاجة إلى معاناة أمر هذا الزواج.
فأردف الأوستوري برزانة: إن إمبراطوري وقداسة البابا مشغولان بمتاعبهما الخاصة، ولا يمكنهما الإقدام على هذا ونذير الحرب يملأ الجو في كل مكان.
وردت السيدة باندفاع وحمية: ولكن نداء الدم، دم إمبراطورتكم العظيمة ماري تريز وماري أنطوانت الجميلة الذي يجري في عروق ولدي.
وعادت الابتسامة الساخرة تتراقص على شفتي الدبلوماسي الماهر، وقال: للأسف يا سيدتي! إن نداء الدم ليس أقوى من نداء المال، إن الإمبراطور يساعدك أدبيا، وتأكدي أن كل شيء يمكن عمله من الناحية السياسية سيعمل، وإذا نجح ملك فرنسا في استعادة عرشه، فسنعمل بكل الطرق الدبلوماسية للاحتفاظ به، ولكن لا شك أنك في حاجة إلى المال لتحقيق هذا، إلى مبالغ عظيمة من المال وألبرت كريستوف راغب في تقديمها تحت شرط تستطيعين القيام به، بل ويجب عليك القيام به.
نامعلوم صفحہ
فقالت السيدة بتصميم: ولكن هل أنت متأكد تماما من أن البارون كريستوف لا يكفيه أن يعقد الملك لويس زواجه على ابنته بشرط أن يسقط حقها وحق أولادها منه من الإرث والملك شرعا؟
فهز الكونت رأسه بصبر نافد وهو يقول: لا شيء يكفي كريستوف سوى التاج لابنته، فإذا استوثق من هذا فإنه ... - ماذا؟ - في اليوم الذي يوقع فيه عقد قران الآنسة كريستوف بلويس التاسع عشر ملك فرنسا، فإن البارون كريستوف سيضع بين يديك نصف مليار فرنك. - أواثق من هذا يا فريزن؟
فرد الأوستوري مؤكدا: كما أنا واثق من أني حي يا سيدتي، ورجائي ألا تشكي في هذا مطلقا، إن كريستوف رجل يوثق بكلامه، وإلا فما كان له أن يصل إلى هذا المركز الذي يحتله.
وابتسم السياسي ابتسامة ذات معنى وتمتم: وعلى كل حال، فمن الناس من يتأخر عن أن يرى ابنته وهي تتوج ملكة على فرنسا في مقابل بضعة ملايين، في حين أن لديه منها الكثير!
ولم تزد السيدة شيئا في ذلك الوقت، وحولت عينيها الجميلتين عن مقصورة البارون كريستوف إلى أسفل الصالة، ودق الجرس مناديا المتفرجين، فبدءوا يعودون إلى أماكنهم، فقام الكونت فريز مستأذنا، فمدت السيدة إليه يدها بجلال فقبلها وهو ينحني انحناءة كبيرة، ثم سألها: متى يكون لي الشرف بتقديم الآنسة كريستوف لسموك؟
وكان في نغمة صوته رنة التصميم والعزم، فارتعدت السيدة قليلا وسحبت يدها وهي تتنهد، وكانت أمهر من أن يخفى عليها أنها سوف تقبل في النهاية؛ فلقد كان الكونت فريزن صديقها، ولكنه فوق كل شيء كان يخدم إمبراطوره الذي كان يرغب حقا في هذا الزواج لتتدعم مالية آل بوربون. إنه على حق، ولا بد لها وهي تحلم بقصر «التويلري» لولدها وتتويجه في ريمس من أن تخضع لهذه الظروف، وأخيرا قالت: سأستقبل الآنسة فيرونيك غدا. ولكن نبه كريستوف بألا يذكر لابنته شيئا عن الموضوع قبل أن تخبره.
واكتفى الكونت بذلك، فخرج وكان الأوركسترا قد بدأ في عزف أول قطعة من افتتاحية الفصل الثاني، وشعر بالرضا عن نتيجة مهمته السياسية.
وقال بارتياح: سوف تدق أجراس الزواج قريبا. •••
وفي اليوم الثاني دعا البارون كريستوف وابنته فيرونيك لتناول الشاي في فلا إليزابث، ونال البارون شرف تقديم ابنته للسيدة البرنسيس دي بوربون، ولما كانت فيرونيك أوستورية الجنس وفرنسية المولد وفوق ذلك فقد كانت من أشياع الملكية وتدين بمذهبها وتؤمن بالحق الشرعي للملوك؛ فقد كان الملك الشرعي الوحيد لفرنسا في نظرها هو حفيد الملك لويس السادس عشر.
ولقد كانت التحية والبشاشة اللتان قدمتهما للسيدة البرنسيس أعمق بكثير مما عملته من قبل للإمبراطورة أوجيني؛ فقد كانت تلك التحية وذلك التظرف أشياء لا يستطيع الشخص الذي يريد أن يجعل لنفسه مركزا في باريس أن يستغني عنها، إلا أن هذا الذي عملته أمام والدة ملك فرنسا كان منبعثا عن إخلاص صادق، حتى إن السيدة سرعان ما تغير رأيها في الفتاة وفكرت في أن فيرونيك بجمالها وصحتها وشبابها فوق ما فيها من حيوية وقوة؛ تخلق الحياة والنشاط في ولدها الضعيف المخنث، ولقد حمدت الله على توفر هذا الجانب فيها.
نامعلوم صفحہ
وارتاح الكونت فريزن لمجرى الحوادث في ذلك الوقت؛ فقد اغتبط بما لاحظه من دلائل الألفة التي تمت بين السيدة البرنسيس دي بوربون والآنسة فيرونيك كريستوف بعد مقابلتهما الأولى، وسرعان ما أحست السيدة بالارتياح والثقة بالفتاة ودار بينهما الحديث، فذكرت السيدة لها أحلامها وأمانيها وصورت لها ما سوف يحدث عند تتويج ملك فرنسا، وما سيكون عليه قصر التويلري وفرسايل، وقالت: إن قداسة البابا سوف يحضر ليضع تاج القديس لويس على رأس الملك ويباركه، كما سيحضر إمبراطور أوستوريا أيضا، والواقع أنه سيجتمع في الحفل كل الرءوس المتوجة في أوروبا.
وأنصتت فيرونيك لكل هذا وهي مطرقة، وكان فؤادها يرتجف إذ وجد خيالها في كل هذا مادة مشبعة له، ولكن حتى هذا الوقت لم تكن السيدة ولا البارون قد ذكرا شيئا عن مشروع الزواج للفتاة.
وحدث بعد ذلك أن زارت الفتاة فلا إليزابث وجلست مع السيدة في الشرفة، حيث تطل على منظر جميل فوق الطريق المؤدي إلى ليخنثال، وكانت السيدة كعادتها تتحدث عن فرسايل والتويلري، فقالت: ألا ترين يا عزيزتي أن الإنسان يستطيع أن يعقد استقبالات رائعة في فرسايل؟ إنه مكان مدهش للحفلات مع ذلك المدرج العظيم.
وقالت الفتاة ملاطفة: إنني لم أشاهده مطلقا يا سيدتي.
وأقرت السيدة: ولا أنا أيضا، غير أنه يمكنني أن أتصور كم يكون جميلا بأولئك العظماء الذين يجتمعون فيه ليؤدوا التحية للويس! بل وما أعظم حضور البابا خصيصا إلى ريمس ليضع التاج على رأس ولدي!
وقالت السيدة بغصة: وعلى كل حال فقد توج بيوس السابع ذلك البونابرتي المحدث الذي لا يمكن أن يكون جديرا حتى يلعق حذاء لويس.
فغمغمت الفتاة بلهفة: لا بد أن أذهب إلى ريمس، إنها حتما ستكون رائعة. - إنني أكاد أسمع هتافات الشعب القوية، هل تسمعينها يا فيرونيك؟ - وأجابت الفتاة بابتسامة: إنها تطن في أذني.
وفي ذلك الوقت ملأت الجو هتافات بعيدة ظلت ترتفع شيئا فشيئا، حتى إذا اقتربت امتزجت بها جلجلة الخيل وقرقعة العجلات، فقفزت فيرونيك على قدميها وجرت إلى طرف الشرفة حيث أمكنها أن تكشف بالنظر طول الطريق، وقالت السيدة: إنه نابليون وأوجيني.
لقد كان الازدحام عظيما وكانت الأصوات والهتافات ترتفع إلى عنان السماء مرحبة بنابليون الثالث وهو في أوج مجده وأوجيني في عز جمالها.
وتنهدت فيرونيك ثم التفتت إلى السيدة التي نمت عيناها الجاحظتان وشفتاها المطبقتان عما يضطرم في نفسها من مرارة قاسية، وكانت أصابعها المرتعشة تمزق أطراف منديلها المطرز، وعادت فيرونيك إليها ثم ركعت على ركبتيها ورفعت أناملها الرقيقة فوق يدي السيدة المرتعشتين وهمست: سوف لا يبقى هذا طويلا.
نامعلوم صفحہ
وأردفت السيدة بحرارة: يا إلهي، لا تجعله يبقى طويلا!
وكانت السيدة تجاهد في ضبط عواطفها وتحاول إخفاء اضطرابها، ولقد أفلحت في هذا إلى حد ما، فأمسكت بيدي فيرونيك كأنها تستمد منهما السلوى، ونظرت في عيني الفتاة الصغيرة وقد امتلأت بالدهشة والإشفاق، ثم تمتمت: أيمكن أن أثق بك يا فيرونيك؟
فاحتجت الفتاة بلطف: سيدتي!
فأتمت السيدة وقد تخلل صوتها الأجش نبرة حنان تحرك القلب: ترين أن أصدقائي الذين أثق بهم قليلون، فليس لدي في الواقع غير فريزن، الذي يسير معنا في مشروعاتنا برغبة لا تقل عن رغبتي فيها، ولكن الواحدة تود في بعض الأحيان لو تتحدث مع امرأة مثلها.
فقالت الفتاة برقة: إن هذه الثقة التي تضعينها في توليني فخرا عظيما.
ولكن السيدة لم تبدأ الحديث مباشرة، بل بقيت جالسة وقتا ما تنظر إلى الفضاء بعينين ذاهبتين، وبدأت تتكلم بعد لحظة دون أن يقع نظرها على الفتاة التي لم تزل راكعة تحت قدميها، وكأنما كان صوتها لنفسها أكثر منه إلى الفتاة؛ فقد تحركت شفتاها ولكن أفكارها كانت بعيدة عما تتفوه به. - لم تكن الحالة السياسية في أي وقت بعد موت زوجي العزيز أصلح لنا منها الآن، فإن البونابرتيين يفقدون أتباعهم في وطنهم، وقد أصبحوا مكروهين في كل مكان خارج البلاد، فقد أصبح الإنجليز لا يطيقونهم، وكان ملك بروسيا يترقب الفرص ليعلن عليهم الحرب.
وتوقفت بغتة ثم ألقت بنظرة فاحصة إلى فيرونيك، ثم تمتمت وهي تتنهد تنهدا طويلا: آه لو كان لدينا المال!
فبدأت فيرونيك بانفعال: أنا واثقة من أن والدي ...
ولكن السيدة لم تدعها تذهب إلى أبعد من هذا؛ فقد استأنفت الحديث كأنما تكلم نفسها: يمكننا أن ننجح، ويجب أن ننجح.
وتمتمت مرة أخرى: سوف يلتف الجيش حول العلم القديم الذي قاد فرنسا إلى النصر، ورجال حصن ستراسبورج جميعهم يتبعوننا ، إن ما نحتاج إليه هو المال، المال الذي يجعلنا نبدأ عملنا.
نامعلوم صفحہ
ورفعت يديها ببطء وهي تشير نحو العربة الفخمة التي اختفت عن الأنظار تتبعها الهتافات المتعددة، ثم قالت: انظري إلى هذا البونابرتي كيف دبر الخطط ونظمها للوصول إلى العرش وقد نجح في النهاية، ومن يكون هذا إن لم يكن سوى شحاذ اعتلى أعظم عرش في أوروبا، ذلك العرش الذي يجب أن يختص به ولدي لويس التاسع عشر ملك فرنسا؟
فلما ازداد انفعال السيدة البرنسيس ازداد صوتها قوة واتضحت فيه لهجتها الإسبانية، وإذا بها تسير جيئة وذهابا في الشرفة لتهدئ من حدة اضطرابها.
وقامت فيرونيك تتبعها وهي لا تقل عنها انفعالا، وقد حرك الجو الذي أثارته شتائم السيدة المنفعلة الدم حارا إلى خدي الفتاة، وكان ذهنها يشتغل باحثا عما يجب أن تفعله لتساعدها وما سوف يفعله والدها عندما تستعطفه وتتعطفه؛ أن سوف يمد يد المساعدة إليها، إنها واثقة من هذا، لو كان يعلم كيف أنها تأثرت منه، إن والدها لا يمكن أن يرفض لها طلبا ما دامت تطلب منه وتستعطفه بإلحاح.
وضمت فيرونيك يدها إلى صدرها ودعت ربها بحرارة وقوة لم تصدر من قلبها من قبل: يا إله السماء، يا ملك الملوك، سدد خطوات لويس التاسع عشر ملك فرنسا في استعادة عرشه! •••
بعد ذلك بأيام قلائل أذنت السيدة للبارون بإخبار ابنته بمشروع الزواج المنتظر بلويس التاسع عشر، وانعقد لسان فيرونيك لدى سماعها هذه الأخبار، أتكون ملكة فرنسا؟! إن هذا لا يمكن أن يصدق أحد وقوعه لامرأة، وأغمضت عينيها وحاولت أن تتصور ما يقصد بكل هذا، وعاد إلى ذهنها ما قالته السيدة البرنسيس عن كل تلك الأشياء الجميلة العجيبة الرائعة، التي ستحدث عندما يصبح لويس ملكا على فرنسا، وتصورت قداسة البابا وهو يرفع بين يديه تاج ماري أنطوانت!
لا يمكن أن يكون هذا حقيقة، لا بد أنه حلم وأن والدها كان يسخر منها، وأنها سوف تستيقظ حالا وتتحقق من أن كل هذا لم يكن سوى حلم.
وأمسك أبوها بيدها وأخذها على ركبته ، وفتحت عينيها وهي تنظر إلى وجهه مسددة نظرها في عينيه، فرأت فيهما بريقا لم تشاهده من قبل، حب، انفعال، نصر، كل هذه كانت تتلألأ في تينك العينين الشفوقتين اللتين تفيضان حنانا ورقة. - صغيرتي فيرونيك، ملكة فرنسا!
واغرورقت عيناها: أهذا حقيقي؟ فأطرق مؤكدا.
وأحست برغبة في الصياح؛ فقد كانت أصغر بكثير من أن تتحمل أعصابها مثل هذه الصدمة العنيفة، وألقت برأسها على كتف والدها وصرخت، وضحكت، بينما كانت يده تمر برفق على رأسها الصغير.
الفصل الثالث
نامعلوم صفحہ
ومرت على سيرل برتراند أيام تعسة كتلك التي مرت عليه أيام أن كان في باريس، فكان يذهب في كل مكان ينتظر أن يجدها فيه، ولكنه لم يرها لا في الكوراس ولا في الأوبرا ولا في أي مطعم حديث ولا في الكنيسة أيام الآحاد. لقد عادت أيامه السوداء التي عاناها في باريس مرة أخرى، بل إنها كانت أسوأ بكثير، إذ إنه في أي مكان يسير فيه كان يسمع اسمها على الألسن مرتبطا باسم أخيه غير الشقيق.
غير أن سيرل لم يكن ليعير هذه الشائعات أذنا صاغية، وكان يرجو ألا يخرج هذا عن أن يكون أراجيف لا صحة لها.
أيمكن أن تكون فيرونيك المعبودة لأخيه الهزيل الضعيف؟! إن فيرونيك له وحده، وتربطه بها قوة الحب العظيمة.
ولكم فكر في جنون أن يقتحم فلا ماري تريز ثم يلقي بذراعيه حولها ويحملها بعيدا إلى جزيرة نائية، حيث لا يسمع شيئا عن هذا الزواج المفزع الذي كان في نظره عبارة عن حياة طويلة تعسة لها.
على أنه لم يكن هناك فائدة من اقتحامه فلا ماري تريز، إذ إنها لم تكن هناك فقد أرسلها البارون كريستوف إلى أقاربها في أوستريا، إذ رأى أن الأصوب لها أن تكون بعيدة عن دكان بادن لمدة قصيرة؛ فقد أدرك من اختباراته أن السيدة البرنسيس متقلبة الأهواء ذات طبع شاذ، وعلى كل حال فقد بان من الأصوب أن تبتعد الفتاة لوقت قصير ثم ترتب مقابلة رسمية بينها وبين خطيبها. والواقع أن السيدة نفسها لم تكن تثق في ولدها، حتى إنها رأت هي وكريستوف أن من الخير ألا يتقابل الصغيران إلا حينما يتقرر نهائيا أمر مستقبلهما. •••
وأرسلت السيدة بعد سفر فيرونيك إلى ابنها تطلب إليه الحضور إلى بادن بادن، وحضر إليها وإن كان في الواقع قد حضر بسبب قوي آخر لم يكن ليخطر على بال السيدة حتى ذلك الوقت، لم يكن هذا السبب سوى إلين سان أماند التي عقدت اتفاقا مع أوبرا بادن بادن، حيث تقوم بالدور الأول في «الباربير» إحدى روايات روسيني الخالدة.
وازدحمت الأوبرا بالمتفرجين، وكان معظمهم من أعلى الأوساط وأرقاها، وكان الإمبراطور نابليون والإمبراطورة قد غادرا بادن، فحضر في تلك الليلة البرنس بسمارك وزوجته والسيدة البرنسيس دي بوربون وكذلك البرنسيس مترنيخ والدوقة موشي والبارون كريستوف مع بعض أصدقائه، ثم البرنس دي بوربون في مقصورة أخرى، وقد حضر أيضا روسيني نفسه وحوله جماعة من المتملقين، كل منهم مستعد لخلع قفازه الأبيض ليصفق أعلى تصفيق.
وصاح المؤلف الكبير العجوز بأعلى صوته فى آخر المشهد الكبير من الفصل الثاني: برافو إلينا، برافو! وتدلى نصف جسمه من المقصورة وهو يلقي بباقة عظيمة من الزهور إلى الممثلة الصغيرة الأولى.
وعندما نزل الستار تقدمت الآنسة سان أماند لتتلقى تحيات المتفرجين، فتساقطت على قدميها باقات من الزهور، كان بينها واحدة مكونة من الزنبق الأبيض ألقيت من مقصورة البرنس دي بوربون أو بالأحرى لويس التاسع عشر ملك فرنسا. وعندما رأته السيدة والدته وهي جالسة في مقصورتها ضغطت على مروحتها بعنف، فانكسرت أحد قضبانها المطعمة بالجواهر الثمينة، وقال صوت مشفق من جانب المقصورة: يا للأسف، لقد كانت مروحة جميلة! وكان هذا صوت الكونت فريزن حيث كان يؤدي واجب التحية للسيدة إبان الاستراحة، قال هذا وأردف كلامه بابتسامته الساخرة على وجهه الجميل، وقد لاحظ توتر أعصاب السيدة وانفعالها، وأشارت بمروحتها المتكسرة إلى مقصورة ابنها ملك فرنسا، وقد وقف على قدميه بعد أن خلع قفازه متجها مع الجمهور حيث كانت الآنسة سان أماند، ثم قالت بغصة: إنه ذاهب إليها!
فهز فريزن كتفيه كأنما يقول: ولم لا؟
نامعلوم صفحہ
فغمغمت السيدة: ملك فرنسا!
فقال الأوستوري وعلى شفتيه ابتسامته المعروفة: إن ملوك فرنسا يا سيدتي لا يختلفون عن باقي الرجال، بل إن بعض الملوك العظام مثل لويس الرابع عشر ...
فاحتجت السيدة: ولكن ليس أمام الجمهور يا فريزن؟
وأردف السياسي بجفاف: لا، إني أظن أن الأسلوب الذي كان متبعا في تلك الأيام هو أن يطلب صاحب الجلالة السيدة التي يرغب في مصافحتها لتكون بين خاصته، غير أني لا أظن أن هذا يحفظ الكرامة أكثر من هذا الأسلوب الديمقراطي الحديث. - لا تكلمني عن الديمقراطية يا فريزن وأنت تعلم أني أكرهها، إن لويس ما كان يجب أن يحضر هنا مطلقا، لقد اعتذر لي عن عدم مجيئه إلى مقصورتي، ولا يعلم إلا الله من يتمسح بكتفه الآن في ذلك الزحام.
ولم يجب السياسي عن هذا بشيء لأنه كان يعلم أن التحدث في الموضوع أكثر من هذا لا يجدي، وعلى ذلك فإنه بعد لحظات قلائل تحدث عن أشياء أخرى. وعند ذلك علا صوت الجرس وتوافد المتفرجون إلى أماكنهم، وطافت عينا السيدة الجميلة بين جماعات الشبان ذوي الملابس الحديثة الأنيقة، ولكن صاحب الجلالة ملك فرنسا لم يكن بينهم، ولكنها قبل أن تتمكن من إلقاء الكلمات الحادة التي تبادرت إلى شفتيها، كان مدير المسرح قد أعطى إشارة البدء وضرب الأوركسترا أول لحن لمقدمة الفصل الثالث، فقام الأوستوري ليذهب، فقالت السيدة: أريد أن أراك ثانية يا فريزن.
فأردف قائلا: في خدمتك يا سيدتي.
ثم قبل يدها، فأتمت السيدة: إذن بعد انتهاء الرواية في الفلا، أريد أن أخبرك عن الخطة التي اعتزمت تنفيذها. •••
ولكن ما كاد الكونت فريزن يفد إلى فلا إليزابث، حتى وجدها لا تزال في درجة شديدة من الانفعال، فما كاد يدخل إلى الغرفة حتى بادرته قبل أن تقدم له يدها ليقبلها بقولها: إنه لم يأت حتى الآن يا فريزن، لقد خبلته ابنة سان أماند.
ولم يفعل الأوستوري أكثر من أن هز كتفيه كأنما يقول: وماذا لو فعل؟ ثم قال بعد ذلك: ولكن أين قابلها جلالته أول مرة؟
وكان السياسي الماهر يدرك أن أعصاب السيدة يمكن أن تهدأ دائما بالكناية عن لويس دي بوربون ب «جلالته»، ولكنها في هذه المرة لم تهدأ ثائرتها، بل أجابت بحدة: في ستراسبورج، لقد كانت تغني في قهوة هناك، لم يكن يفكر أحد فيها، ولكن لويس عمل المستحيل لتوقع عقدا هنا، ولست أدري كيف تمكن من ذلك، وعلى كل حال فها هي النتيجة.
نامعلوم صفحہ
وكان الخادم قد أحضر القهوة وبعض المشروبات، فجلست السيدة وأخذت قدحا من القهوة، ولاحظ فريزن أنه يهتز في يدها اهتزازا ضعيفا، وأخذت رشفة من فنجانها، وكانت عيناها الداكنتان تتبع حركات الخادم في الغرفة كأنما تريد أن تخلص منه، حتى لقد كانت تتراقص على شفتيها كلمة الأمر له بالخروج.
وفكر فريزن وهو يأخذ رشفة كبيرة من فنجانه أنها امرأة لطيفة، ولو أنها متقلبة الأهواء إلا أنها طموحة، ولكن هل تستطيع أن تعمل بتعقل إذا واجهت الفشل؟
وأخيرا خرج الخادم.
وتنهدت السيدة لتخلصها وقالت بهدوء: اجلس يا فريزن، ولا تدعنا نتكلم بعد عن هذا الموضوع المتعب، اجلس واصغ إلي، خذ شيئا من هذا الشارتريز، إنه طيب جدا، اسمع، أريد أن أخبرك عما قررناه وإن كان لديك اعتراض ...
وجلس فريزن وفنجان القهوة لا يزال في يده، وأخذ يرتشف منه وهو يفكر مترقبا، واضطجعت السيدة على مخدة الأريكة وقالت: إنك تعلم أن لويس قد قضى في هذا الصيف وقتا طويلا في ستراسبورج، وكنت أرجو أن يتعرف موقفه بين رجال الحصن.
وأومأ فريزن برأسه مشيرا إلى أنه يعرف هذا. فاستمرت السيدة: حسنا! لقد عرفنا الآن أن رجال الحصن عن آخرهم من أتباعنا، ولا شك في هذا يا فريزن، فإني واثقة تماما مما أتحدث عنه، إن هؤلاء الرجال ليسوا ملكيين فقط، بل إنهم متحمسون للملكية، إنهم يتكونون من فصيلتين؛ إحداهما فصيلة فرسان والأخرى هي الفصيلة الثالثة من الطوبجية، ولقد جهزنا علم الزنبقة الجميلة، ومن المؤكد تماما أن هذه الفصائل ستلتف حول هذا العلم القديم، وعندما يتم كل شيء فإن لويس سيعود إلى ستراسبورج حيث يخطب في الرجال، وستسمع فرنسا كلها صدى هتافاتهم «يعيش الملك».
وتنهدت في تمن وأمل قائلة: إنني أرجو أن أكون هناك لأسمع هذه الهتافات.
وارتشف الأوستوري قهوته ثم وضع الفنجان فوق المنضدة وسأل: لم لا تفكرين في الذهاب بنفسك؟
فردت السيدة: لا، ليس هذا من الصواب، فربما تشك السلطات، إذ يجب أن تبقى حركات لويس مستورة، وليس من السهل لسيدة أن تعبر الحدود دون أن تستلفت الأنظار.
وتمتم الكونت فريزن: أهذا حق؟
نامعلوم صفحہ
وفكر ولكنه لم يقل: وعلى الأخص سيدة مثلك.
واستأنفت قائلة: كثيرا ما عبر لويس نهر الرين عند كيل فوق الجسر العائم، فليس عليه خطر كبير هناك.
ثم توقفت، ولقد يظن الإنسان أنها بذلك كانت تقيس مدى تأثير كلامها عليه، غير أنها لم تكن تلقي الكلام على عواهنه، بل كانت تعني كل كلمة تقولها، ولا يشغل فؤادها سوى غرض واحد، وهو الحصول على التاج لولدها. وعلى هذا فإنها لم تلاحظ إعجاب الكونت بجسدها في ذلك الوقت، فقد كانت ترغب في أن تبعث فيه حماسا لمشروع لويس الذي يشغلها، حتى إذا تشيع لفكرتها استطاع أن ينقلها لإمبراطوره ثم لقداسة البابا وفي كل أنحاء أوروبا.
ولقد مر زمن بعيد لم يخطر على بالها فيه أنها ما زالت جميلة وهي في منتصف عمرها، وقد صقل انفعالها نضرة عينيها السوداوين، وبعث في صوتها رنة امرأة غريبة واستأنفت قائلة: في ستراسبورج سيقابل لويس الجنرال ريوفو والكولونيل دي بروك ونوايانت، وأملنا كبير في أن الجنرال أفيلين الذي يقود الفصيلة الثالثة سوف يعلن انضمامه إلينا.
فقال فريزن: إن رجلا مثل هذا سوف يكون ذخرا عظيما عندما تنجح خطتك. - سوف تنجح يا فريزن، لا تشك في هذه الخطة مطلقا، إن لدي عزيمة تحرك الجبان.
وأخذ الكونت فريزن قدحا من الشارتريز وشربه ووضعه ثانية، ثم قال بجفاف: ومتى إذن تتحرك الفصيلة الثالثة من الجيش؟
وأدركت السيدة ملاحظته، وكانت تعلم أن صديقا مخلصا شفوقا مثل فريزن لا بد أن تكون هذه الكلمات القاسية قد بدرت منه رغم إرادته، فأجابت في برود: بعد أن يخطب لويس في رجال الحصن، وسيذهب الكولونيل نوايانت إلى مجلس القرية ومعه شرذمة من جنوده في الصباح المبكر، فيجدون شيخ البلد عندما يكون قد نهض من نومه ليشرب قهوته، وبعد ذلك يكون تحت رحمتهم فيطلبون منه أن يسلم نفسه، وبمجرد أن يتم لهم هذا فإن نوايانت سيتجه بفرقته إلى مقر العمدة ويقبض عليه. - وبعد ذلك؟
وأردفت السيدة بحدة: وبعد ذلك! وبعد ذلك! إنك تثير سخطي يا فريزن، ألا ترى أنه بالاستيلاء على ستراسبورج يكون مفتاح باريس بل فرنسا أيضا تحت يدنا؟
ورد السياسي القديم وهو يفكر: بالاستيلاء على ستراسبورج، نعم.
فأتمت السيدة: وسيترك لويس هناك أفليس قائدا لحامية الحصن، ثم يتخلف مع ضباطه وهيئة أركان حربه إلى الحدود حيث ينتظر رجاله عودته، وسيتخفي ضباطه في ملابس ملكية ويتخطون الحدود معه، وفي ذلك الوقت أكون أنا هنا قد جهزت كل شيء لإتمام عقد القران ولاستقبال صاحب الجلالة ملك فرنسا وحاشيته بما يليق بهم، وبعد عقد القران يعود صاحب الجلالة إلى ستراسبورج ثانية وفي جيبه مليار كريستوف، فيعقد لنفسه قيادة الفصيلة الثالثة، ويزحف إلى باريس مصحوبا بالابتهال والفرح بعودة ملك فرنسا الشرعي إلى مقر ملكه.
نامعلوم صفحہ
وكان انفعال السيدة يزداد شيئا فشيئا وهي تتكلم، وقد كانت معتقدة كل الاعتقاد بنجاح خطتها حتى النهاية، وكان صوتها يعلو شيئا فشيئا، واللهجة الإسبانية تتضح فيه بجلاء، وقد ظهر في عينيها السوداوين بريق عجيب، وكانت تقوم من مكانها تذرع الغرفة جيئة وذهابا، ثم تعود ثانية فتجلس منتصبة القامة وتعدل كتفيها، فيرتفع صدرها الجميل إلى الأمام، وكانت تتلألأ تحت أضواء القناديل خواتمها الثمينة وسوارها المرصع وهي تحرك يدها مؤكدة ما يصدر عنها من أقوال.
وجلس فريزن صامتا يفكر وقد كان سياسيا من المدرسة القديمة، صادق الفراسة واسع الحيلة، فكان من المستحيل أن يتصور تماما ما تخفيه الطلاقة التي تكسو دائما وجهه الجميل، والتي حبته بها تربيته العالية. غير أنه لم يسأل السيدة عن الوقت الذي تظن أنها ستبدأ فيه بتنفيذ مشروعها، إلا بعد أن رأى أن السيدة تنتظر منه أن يقول شيئا وأجابت: إنني لا أعرف الآن، وطبعا لا بد أن يبدأ بأسرع ما يمكن، ولو أن هناك أشياء ما زالت تحتاج للتفكير فيها وتنظيمها، ولكني أريد أن أعجل بتنفيذ ما تم لنا فيها حتى الآن؛ فلقد سارت الأمور على ما يرام مع كريستوف والفتاة، ويجب أن يسافر لويس غدا أو بعد غد إلى ستراسبورج، فأنا لا أريد أن يسير أبعد من هذا مع فتاة سان أماند هذه.
وانفجرت بصبر نافد وهي تبحث بعينيها في وجه صديقها، كأنما تريد إجباره على أن يفصح لها عن حقيقة رأيه: إن ما أخبرتك به يا فريزن ليس إلا مجمل لخطتنا، ولكن أترى أن لويس سيتبع هذه الخطة حتى النهاية؟ يجب أن تنفذ الخطة حالا بتوقيع عقد الزواج، فإن مليار كريستوف يساعدنا في بدء التنفيذ حالا! هل فهمت؟ ويمكن أن يكون الزفاف بعد ذلك في باريس، والتتويج سيكون بعده بمشيئة الله مباشرة.
وتنهدت تنهدا عميقا ثم قالت: وعلى كل يا صديقي، فلن يمضي هذا العام حتى تذهب دولة هذا الإمبراطور وتقام في ريمس حفلة تتويج الملك لويس التاسع عشر.
فقال الأوستوري في حرارة: ليحقق الله هذا!
وتغيرت حالة السيدة بعد هذا مباشرة؛ فقد كانت هكذا دائما حامية الطبع في لحظة باردة في الأخرى، متحمسة متقلبة حتى ليستحيل أن تعرف كيف تأخذها، وقد عراها في هذا الوقت شعور بالمرارة، حتى إنها تنهدت بصبر نافد وقالت: إن ما نحتاجه هو النشاط والحزم.
وكررت هذا مرتين أو ثلاثا، الحزم والنشاط والتصميم على النجاح.
واحتج فريزن: ولكن جلالته ...
وانفجرت السيدة فقاطعته بسخرية مريرة: شاب جذاب، هه؟ يتقن فنون الرقص ويغرم بالسحر، إنه جميل الطلعة ومحبوب ولكنه ...
وكانت تعبيرات وجهها تشتد حتى أصبحت قاسية، وباتت لا تستطيع أن تستقر على حال، فقفزت مرة أخرى على قدميها وذهبت إلى النافذة ففتحتها بعنف، وكان فريزن لا يزال جالسا وهو يضغط يديه المشتبكتين بين ركبتيه. وبغتة تحولت السيدة عن النافذة وعادت إليه، ثم جلست ثانية على الأريكة ، وعدلت طيات ثوبها ثم أخذت مروحة من فوق المنضدة القريبة، وأخذت تعبث بها بحالة مضطربة؛ فقد كانت عصبية تماما، وكانت تجري في ذهنها أفكار غريبة، وانطلقت قائلة: إنك لم تر ولدي الأكبر يا فريزن، أليس كذلك؟
نامعلوم صفحہ
فقال الأوستوري في دهشة محتشمة: إنني لا أعرف ...
فقاطعته بخشونة: إن لي ولدا آخر، لقد كان زوجي الأول إنجليزيا كما تعلم، كان جميلا كأنما هو تمثال صنعه فيدباس، غير أنه كانت له صلابة التمثال وبروده، وكان يقدس ولنجتون ويتخذه مثلا أعلى، ولست في حاجة لأن أخبرك ماذا نحمل نحن الإسبانيين لولنجتون هذا. لقد كان مارك متغطرسا مستبدا برأيه، ولم يكن ينظر إلى المرأة أكثر من نظرته إلى كلبه أو حصانه، ولما دفعتني أعماله إلى الثورة عليه، ساقني كما يسوق العبد العاصي بالسوط في يده، ولست أعرف الآن إذا كنت قد أحببته أو كرهته، غير أني أنجبت منه أجمل ولد يمكنك أن تتصوره يا فريزن، ولكني أكرهه!
واكتسى وجه السيدة الباهت الجامد بأفظع تعبير عن الحقد والضغينة، وأحس الكونت فريزن بضيق شديد ولم يعرف ماذا يفعل أو يقول، فإنه لم ير طول حياته السياسية امرأة يشتعل بنفسها غضب شديد كهذا.
واستأنفت السيدة: إنه فر من المنزل منذ اثني عشر عاما، بعد أن أخذ معه من نقودي ما استطاع أن يحمله، وما تصور أنه سيكفي حاجته، ثم عاد إلي بعد ثلاث سنوات وقدم إلي المال الذي سرقه، أو الذي اقترضه كما كان يقول.
وأتمت السيدة وهي تحاول محاولة واضحة أن تجرد نبرات صوتها من الخشونة: لقد كان أجمل ولد رأته عيناي، كانت سنه وقتذاك تسعة عشر عاما، وكان يشبهني كل الشبه، كما كان يشبه جلالته كثيرا، إلا أنه يختلف عنه في القوام؛ فقد كان له قوام أبيه الممشوق، وكان له بروده وغروره واعتداده برأيه، ولكنه رجل يا فريزن، إنه رجل حقا.
وسكتت السيدة مرة أخرى، وكان الأوستوري حتى الآن لا يدري ماذا يراد به، حتى إنه ود لو استطاع أن يستأذن ويهرب، ولكن يظهر أن السيدة في ذلك الوقت لم تكن تشعر بوجوده، وأخيرا تجاسر وسأل قائلا: ألم تري الفتى منذ ذلك الحين يا سيدتي؟
فأجابت بحدة: لا. - ألم تعلمي ماذا جرى له؟ - لا أعلم بالضبط، ولكن الكاردينال بنفنتي، وأظنك تعرفه، لا يزال على ما يظهر له اتصال به؛ فلقد سألته عن سيرل يوما فقال نيافته إنه درس الرسم في باريس، وإنه يسعى بجد للحصول على شهرة عظيمة في عالم الفن.
فسأل فريزن: أتقولين سيرل يا سيدتي؟ أيكون ولدك سيرل برتراند؟ أهو ذلك الشاب الرسام الذي قام بعمل صورة جميلة للآنسة كريستوف وعلقت في صالة العرض هذا العام؟!
فسألت السيدة ببرود: أهو يرسم صورا؟ إنني لم أعلم؟ - أؤكد لك يا سيدتي أن شهرة سيرل برتراند قد طبقت الآفاق في عالم الفن في باريس. إنني وإن لم أكن قد رأيته فإن النقاد يقولون عنه إنه يرجى منه الخير الكثير؛ لم يكن مادحوه أقل من جان أوجست وأنجر نفسهما، بيد أن فكرة أن سيرل برتراند هو أخو جلالته ...
فقالت السيدة بجفاف: إنه أخ غير شقيق لا أكثر، كما لا تنسى أنه إنجليزي وأنا عليمة بأن في هذا خسارة لي.
نامعلوم صفحہ