غير أنه لحسن حظه استطاع أن يلج إلى صالة الفلا واختبأ خلف أحد أبوابها حتى نزل رئيس الخدم وعبر الصالة ثم أخذ موقفه المعتاد عند مدخل الفلا، وخرج سيرل من مخبئه وقفز صاعدا درجات السلم، وفي اللحظة التالية كان يدق باب مخدع أمه، ووصل إلى سمعه همهمة من الداخل ثم كان صوت إغلاق أبواب، وسمع صوتا مألوفا يقول في خشونة: ادخل.
ودفع سيرل الباب ودخل إلى الغرفة، فرأى السيدة البرنسيس وحدها جالسة أمام مكتبها، وقد تظاهرت بأنها كانت تحرر خطابا، وإن كان من الواضح أنها لم تمسك القلم إلا من لحظة مضت، وكانت الحمرة قد غمرت خديها وارتعشت أصابعها وهي ممسكة بالقلم، وكانت هذه الدلائل كلها تنم عن أن مقابلتها لولدها المحبوب لم تكن على ما تروم. وبمجرد أن رأت سيرل قفزت من كرسيها كالسهم وأفلتت ممن شفتيها المرتعشتين كلمة واحدة: أنت؟!
وقد بدت في صوتها رنة خوف واضطراب، وأغلق سيرل الباب خلفه وظل واقفا موليا ظهره إليه، فقالت السيدة في تساؤل: حسنا، ماذا تريد؟
فأجاب سيرل في اقتضاب: أين لويس؟
فردت السيدة في برود: إن مكان جلالته لا يهمك في شيء، وإني أحب أن تخبرني بأي حق أنت هنا؟ - ليس لي أي حق مطلقا، وغاية ما أريد هو أن أرى لويس، إنه كان هنا من لحظة فلماذا هرب؟! - ماذا تريد منه؟ - سوف أخبره حالما أراه. - ولكني لن أدعك تراه قبل أن أعرف ماذا تريد منه، أم تتصور أنك تستطيع أن تحشر نفسك في حضرة جلالته؟
فقاطعها سيرل بجفاف: أوه! بحق السماء أوقفي هذا العمل، إنني لا أطيق كل هذا السخف.
فردت السيدة بغطرسة: والآن أراك متطفلا، إنني لا أعرف لماذا لا تريد أن تقول لي ما تبغي قوله لجلالته! هل أنت خائف؟ - إنني لست خائفا من شيء. - إذن لماذا هذا التكتم؟!
فقال سيرل بنفاد صبر متزايد: ليس هناك تكتم، فما أريد سوى أن أعطي لويس أخي الشيك الذي تسلمته من البارون كريستوف في تلك الليلة. - حسنا، يمكنك أن تعطيني هذا الشيك. - لن أعطيه لأحد سوى جلالته.
وقبل أن تنطق السيدة بكلمة أخرى انفتح باب في آخر الغرفة وظهر منه لويس نفسه، وكانت هيئته غريبة شيئا ما؛ فقد بان في عينيه أثر إجهاد وتعب، وكسا خديه احمرار طفيف، وكانت يده التي لا تزال تمسك بمقبض الباب ترتعش قليلا، وقال في ضحكة قصيرة جوفاء: هذا حسن، إن الملكة الوالدة مخطئة، وعليك أن تسلم تلك الورقة الصغيرة اللطيفة لجلالة ملك فرنسا، إنها مكتوبة باسمنا الجليل على ما أظن؟
وألقى سيرل بنظرة نحو والدته، وكانت لا تزال واقفة في مكانها مصفرة الوجه، وقد بان عليها أنها قد بوغتت وأنها تخشى شيئا لا تدري كنهه، وكانت عيناها الجميلتان تنتقل في تساؤل من وجه لآخر، وكانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ولديها منذ أصبحا رجلين يقف كل منهما في مواجهة الآخر، ولقد كان التشابه بينهما ملحوظا بشكل واضح؛ في الوجه والصوت، غير أن الخلاف كان شاسعا بينهما في ناحية لم يكن يعرفها أكثر من السيدة نفسها. وعضت شفتيها بمرارة ثم مرت بمنديلها فوق جبهتها.
نامعلوم صفحہ