مکائد الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
اصناف
والآن قد توفيت وزاد سر حياتها غموضا وخفاء. كانت الآنسة دي لانج رجلا قضى هذه السنين كلها متنكرا في زي امرأة، وتمكن من حفظ سر التنكر مكتوما. ولما ذاع بعد وفاته اتسع للناس مجال التكهن والتقول والبحث عن حقيقة الرجل وأسباب تنكره، فزعم بعضهم أن هذه السيدة المجهولة لم تكن سوى دوفين (لقب ولي العهد في فرنسا سابقا) الذي كان منذ سنين بعيدة قد فر من سجنه، وذهب إلى حيث لا يعلم أحد عنه شيئا، فلا يبعد والحالة هذه أن تكون الآنسة دي لانج لويس السابع عشر صاحب الحق الشرعي في عرش فرنسا؛ لأنها بالغة السن التي كان يجب أن يبلغها هو لو بقي حيا. وعلاوة على هذا كله تذكروا المشابهة التي كانت بينها وبين والد دوفين أي لويس السادس عشر - الملك المقتول. وهذا الزعم تناقلته الألسنة، وسمع به سكان فرسايل فرسخ في أذهانهم كلهم أن السيدة الخفية هي دوفين الضائع، الذي عاش بينهم عيشة الذل والشقاء وغيره - الذي اغتصبه عرشه - تمتع بما شاء من العظمة والمجد والرغد والصفاء.
ولكن هذا يخالف ما روته الآنسة عن نفسها؛ فإنها منذ خمسين سنة جاءت إلى باريس مدعية بأنها ابنة م. سافلت دي لانج الذي كان أمين الخزانة الملكية في عهد لويس الخامس عشر. وقالت إن أباها جر الخراب على نفسه بأن أقرض الكونت دارتوي خمسة ملايين فرنك ومات فقيرا متربا، وغادرها بائسة تعيش على أبواب أهل النجدة والمرحمة. وبعد زوال عهد الذعر والإرهاب جعلت لها الحكومة راتبا سنويا جزاء إخلاص أبيها وأمانته. وأعدت لها مسكنا في قصر فرسايل. وهذا وذاك تعويض حقير عن ملايين الفرنكات، ولكن إذا كان الكثير خيرا من القليل، فالقليل خير من العدم.
وكثيرون من عظماء رجال فرنسا وشريفات نسائها عطفوا على الآنسة دي لانج المنكودة الحظ، ومدوا إليها أيدي المساعدة ورحبوا بها في قصورهم وأنديتهم. وكان صوانها مفعما بالهدايا النفيسة الفاخرة من الأمراء والأميرات، وشملتها الملكة إميليا والأمير لويس نبوليون برعايتهما وجعلاها تحت حمايتهما.
ومع هذا كله لم يلح على وجهها أقل شيء من علامات طيب النفس ونعيم البال، بل كانت على الدوام عرضة للقلق والانزعاج مذعورة مروعة ومسلوبة الراحة والطمأنينة، ولا تستطيع القرار في مكان واحد، بل كانت تنتقل من محل إلى آخر في باريس وفرسايل كالحركة الدائمة التي لا تعرف السكون حتى أحصي عدد عنواناتها المتغيرة بالمئات، وفيها كلها ظلت محاطة من كل جانب بحجب الغموض والخفاء بين الذين تساكنهم وتجاورهم، فلا يستطيعون أن يعرفوا عنها شيئا على الإطلاق. ولا بد أنها كانت على شيء من المحاسن الشائقة الجذابة، فقد عرض لها في حياتها حادثتا عشق وغرام كانتا كلتاهما موضوع حديث الخاص والعام، وفي إحداهما استعدت للزواج حتى باتت منه قاب قوسين أو أدنى. وكان أحد الخطيبين كاتبا في الحكومة والآخر ضابطا في الجيش. وهذا الأخير ظل ست عشرة سنة مقيما على ولائه لها وغرامه بها، ويقال إنه مات متجرعا غصة تركها له وفصمها لعقد خطبته.
ومن رسائل هذا الضابط يستدل على أن حبيبته نغصت عيشه وكدرت صفاء هنائه بنشوزها وغرابة أطوارها. وقد كتب إليها سنة 1831 يقول: «لم يستطع مرور الزمن أن يغير شيئا من شعوري نحوك. وهذا الشعور أنت التي أنشأته في منذ سنين عديدة. ومع ذلك أراك لا تزالين تسرين بعذابي، تروعيني كل يوم بالتهديد والتعنيف والازدراء. وعلى رغم هذا كله لا أنفك مستعدا لعمل ما تأمرينني به.» ولكنه بعد ثماني سنوات يحطم نير استعبادها، ويكتب إليها قائلا: «يخيل إلي أنه لا سبيل إلى ترضيك. ففي كل يوم أذرف دموع الأسف والندامة على معرفتي لك، وألعن اليوم الذي لقيتك فيه.»
ومما يدل على شدة تمكنها من استمالة العشاق إليها وإغرائهم بها ما كتبه إليها خاطب آخر، قال: «لم أجسر على أن أرجع إليك نقابك بنفسي. وإني لآسف على تحميلك مئونة انتظاره، فأرده إليك الآن مصحوبا بألوف من القبلات.» ثم كتب إليها بعد ذلك يقول: «كم يمكنني أن أمتع نفسي بمشاهدتك هذه الليلة؟ ولك أن تكتبي إلي بأن تربطي حجرا صغيرا بالرسالة وترميها من النافذة، فإذا كنت في منزلك حين رجوعي الساعة التاسعة، فإني أقف في النافذة وأشير لك بعزمي على الخروج فتخرجين أنت أيضا، وستكون الإشارة ما تسمعينه من إيقاعي على كمنجتي.»
هذا ما فعلته في أيام صباها؛ إذ كانت قادرة - مع أنها رجل - على اجتذاب قلوب الشبان واصطيادهم بحبل المغازلة والمراودة. وظلت نصف قرن تمثل هذا الفصل؛ فصل ادعاء كونها فتاة بما لا مزيد عليه من النجاح، حتى إنه لم يخامر أحدا قط أقل شك في جنسها. واستمرت تقبض الراتب من الحكومة بادعاء كاذب وباسم مزور، وتنعم بمجالسة ومعاشرة أشرف الأسر في فرنسا. ولما أصابها المرض الأخير الذي ذهب بحياتها في شارع مارشه الجديد عنيت اثنتان من جاراتها بتمريضها والسهر عليها. وفي صباح أحد الأيام دخلتا غرفتها فوجدتاها ميتة على فراشها، وجيء بطبيب يكتب شهادة الوفاة والإذن في الدفن. وفيما كان الاستعداد جاريا في تكفينها ووضعها في التابوت اهتز المكان بضجيج الدهشة والاستغراب، وتناقلت الألسنة بسرعة البرق خبر كشف السر المكتوم؛ أي كون الآنسة المتوفاة رجلا. وبعد يومين صدر أمر الحكومة بدفن «الآنسة» في مقبرة سنت لويس بنفقة فرنكين وخمسين سنتيما!
ولما فتحوا المنزل الحقير الذي كان سفليت مقيما فيه في شارع مارشه الجديد وجدوا فيه من الأمتعة والأعلاق والعروض التي لن يخطر على بال إنسان الاهتمام بجمعها، فمن كراسي متباينة الحجم متغايرة الطرز إلى موائد مختلفة الأشكال، وآنية طبخ متنوعة وحلل من حرير مبعثرة، وآنية خزف مكسرة، وزجاجات فارغة وبراميل محطمة، وعشرات من النقب (التنانير) المختلفة الألوان، وقبعات ونمارق ووسائد وأطر صور (براويز) وطاقة زهر في أصيص من خشب ومحقنة زنك. ووجدوا في صوان مقدارا كبيرا من المنسوجات الحريرية الفاخرة وأوراق بنك بقيمة 21000 فرنك. وفي صندوق كبير عدة أردية من المخمل النفيس وتسعة آلاف فرنك ذهبا. وفي صندوق صغير سندات مالية على الحكومة بقيمة ألوف من الفرنكات، ويقول المسيو لينوتر الذي لخصت عن كتابه تفاصيل هذه القصة: «من العجيب أنه لم يرد ذكر المواسي بين المتروكات!»
ولم يعثروا بين هذه المتروكات على أقل شيء يستعان به على معرفة شخصية صاحبها الذي اتخذ كل ما استطاع من الحيطة والحذر لكتمان سره في صدره ودفنه معه في قبره. والقبس الوحيد الذي ألقى بعض الإيضاح على ظلام الإبهام الحالك إنما هو البيان الآتي، وقد وجدوه مكتوبا على قصاصة ورق بحروف غامضة مطموسة:
لقد جاء اليوم الذي فيه أهتك سر الخفاء عن خطاياك الفظيعة. أفلا ترى أن جميع الذين حولك أخذوا يستشفون سر ريائك ونفاقك؟ فعليك الإسراع في تطهير نفسك من أرجاس الشر وأدناس الإثم ... الوداع أيها الوحش الضاري الذي تقيأته الأبالسة. عد إلى أورليان لبيع الجبن والتوابل. الوداع يا ميشيل!
نامعلوم صفحہ