مکائد الحب فی قصور الملوک
مكايد الحب في قصور الملوك
اصناف
وكانت الكونتس بلاتن مختبئة وراء الباب وشاهدت فريستها مطروحا مضرجا بدمائه، فبرزت إليه تجرعه غصص التشفي والشماتة، وكان لم يزل فيه بقية رمق، فلما رآها حانية عليه تلحظه بعين الفرح والسرور شرع وهو يلفظ النفس الآخر يمطرها بوابل اللعنات حتى أسعر نار غيظها وحنقها، فرفعت رجلها ووطئت فاه بأخمص قدمها.
وبعد دقائق معدودة قضى كونغسمارك نحبه واسم الأميرة التي بذل حياته في سبيل محبتها ملفوظ مع آخر نفس خرج من فمه. وقبل طلوع الفجر جروا جثته إلى حفرة مملوءة بالجير، فألقوها فيها وأخفوها عن الأنظار.
وبعد أيام قضتها الأميرة متقلبة على جمر الانتظار علمت بمصرع حبيبها، فبلغ منها الحزن واليأس مبلغا يفوق حد التصور. وكانت منذ سنوات قد كتبت إليه تقول: «إن حياتي مرتبطة أشد الارتباط بحياتك؛ فلن أعيش دقيقة بعدك.» والآن لم يبق لها بعد موته سوى أمنية واحدة؛ وهي أن تموت وتدفن بجانبه. ولكن المراقبة الشديدة التي أحيطت بها من كل جانب حالت دون مرامها، وغادرتها تتجرع مرارة اليأس. •••
وبعد مقتل كونغسمارك فتشوا منزله وأخذوا أوراقه التي أعلنت مطالعتهم لها خفايا علاقات الأميرة بعاشقها، وشدة كراهيتها لآل هنوفر عموما وزوجها خصوصا، فلم يبق عند أحد أقل ريب في خيانتها، فنقلوها إلى قرية أهلدن البعيدة حيث شددوا عليها المراقبة، وبعد قليل صدر الحكم بطلاقها من زوجها. ومن ذلك الحين عدت ميتة في صورة حية، فانقطع ذكر اسمها في بلاد هنوفر، وحذف من صلوات الكنيسة، ومحي من السجلات الرسمية، وأوصدت دونها أبواب بلاط أبيها، فقضت اثنتين وثلاثين سنة رهينة أسر ذاقت فيه أمر صنوف الإرهاق والإذلال، ولم يكن يرجى لها الخلاص منه إلا بالموت، ولم يؤذن حتى لوالدتها أن تراها. وهذا الحرمان كان أمر جرعة في كأس عذابها وعقابها.
وفي سنة 1714 ارتقى زوجها إلى عرش بريطانيا باسم جورج الأول على أثر وفاة الملكة حنة. ولما بلغها هذا الخبر لم يبد منها أقل زفرة حزن أو أسف على ما أضاعته من العظمة والمجد في حرمانها حق التمتع بلقب ملكة إنكلترة، ولم تطلب سوى منحها حق حرية الحياة. وهذا الحق أباه زوجها عليها ولم يسمح لها به، وبعد ثلاث عشرة سنة أجاب الموت ملتمسها وأراحها من عذابها، والتابوت الذي ضم رفاتها ألقي في قبو القلعة بما لا مزيد عليه من الازدراء والاحتقار ريثما يصدر أمر زوجها الملك بدفنها. ثم نقلت جثتها ليلا إلى كنيسة سل؛ حيث دفنت تحت المذبح من غير أن يصلى عليها.
وبعد شهر برح جورج الأول لندن إلى هنوفر، فلما وصل إلى تخوم هولندة، وكان الوقت نصف الليل ألقيت إليه رسالة من نافذة المركبة وسقطت على ركبتيه، وكانت هذه الرسالة من زوجته المتوفاة تعنفه فيها على شدة إساءته إليها وجوره عليها، وتدعوه إلى الحضور معها في غضون سنة، ويوم للمحاكمة أمام كرسي الديان العظيم، فلم يفرغ من تلاوة الرسالة إلا سقط مغشيا عليه. ولم يعتم أن أسلم الروح ومضى ليقف أمام محكمة الله العادلة. وكانت وفاته في المكان الذي ولد فيه - قصر أونسبروك - منذ سبع وستين سنة.
سيدة فرسايل المجهولة
في يوم من شهر مايو سنة 1858 احتشد جمهور غفير أمام منزل عليه رقم 11 من شارع مارشه الجديد في حي سنت لويس من فرسايل يتلون بمزيد الدهشة والاستغراب ورقة كبيرة مكتوبا عليها بيان تركة رجل معدة للبيع، وهذا الرجل كان في حياته كلها معروفا باسم الآنسة هنريت جني سافليت دي لانج. وقد أمعنوا في القهقهة والضجيج ساخرين من الأشياء المعروضة للبيع، «بينها أدوات زينة امرأة وثلاثين حلة معظمها من الحرير وغيرها.»
ولو أن صاعقة انقضت على فرسايل لكان ذعر سكانها أقل جدا من ذعرهم حين علموا أن الآنسة دي لنج كانت رجلا! ولم يكن في فرسايل من يجهل هذه الآنسة العجوز الهرمة الطويلة القامة الضاوية العجفاء، التي كانت في أواخر أيامها كالخيال من شدة النحول والهزال، وكانوا يرونها كل يوم في الأسواق والشوارع إما لشراء ما تروم ابتياعه وإما للتطوف والتجوال، ووراءها زرافات من الصبيان يزعجونها بصخبهم وضوضائهم.
فمن كانت هذه المرأة المجهولة التي جالت بينهم كل يوم غير ملتفتة إلى أحد ولا حافلة بأحد؟ هذا سؤال ظل سنين طويلة ملء الأفواه تردده الألسنة والشفاه، ولم يستطع أحد أن يجيب عنه، وكانوا يعلمون أن لها أصدقاء كثيرين من ذوي المقامات الرفيعة والمناصب السامية.
نامعلوم صفحہ