ولم يستطع «بيتهوفن» أن يصبر طويلا على هذه المظلمة، وضاق ذرعه بتلك النظرات المؤلمة التي أصبح الناس ينظرون بها إليه كلما مشى في طريق، أو ظهر في مجتمع، فلم يطق المقام بينهم، ولا العيش فيهم، فظل يتنقل في أنحاء البلاد غدوا ورواحا، لا يهبط بلدة حتى يطير به الضجر إلى غيرها، ولا تطلع عليه الشمس في مكان حتى تغرب عنه في مكان آخر، وكان له في مبدإ أمره ثروة صالحة يعود بها على نفسه وذوي قرباه، ولكنه كان من أصحاب الملكات الشعرية، والشعر والحزم لا يجتمعان في رأس واحد، فلم يزل به إسرافه وتخرقه حتى أضاعها، فأصبح لا يملك أداة من أدوات الرزق غير قيثارته، وقيثارته سلعة كاسدة في سوق الفنون لا يبتاعها منه أحد، فزهد المجامع والمحافل، وعاف المدائن والقرى، وفر بنفسه إلى الغابات والأحراش وقلل الجبال وضفاف الأنهار، وهنالك في خلواته ومعتزلاته حيث لا يسمع صوتا غير صوت الطبيعة، ولا يرى وجها غير وجه الله، أخذ يبث قيثارته آلامه وأحزانه، ويسكب مدامعه الغزيرة بين مثانيها ومثالثها، ويضع وهو جائع طاو صفر اليد والأحشاء تلك الموسيقى العظيمة التي يعيش الموسيقيون اليوم ببركتها عيش السعداء، وينعمون في ظلالها بنعمة العيش الرغيد.
وكثيرا ما كان يستمر به المسير حتى يصل إلى «جزر الدانوب»، فيهيم إلى ضفاف ذلك النهر أياما طوالا لا يفترش إلا العشب، ولا يلتحف غير الظل، ولا يطعم إلا ما يقذف به إليه النهر من أحيائه، حتى يعثر به صديقه «هومل» فيعود به إلى العمران.
ولم يقنع الدهر منه بذلك حتى رماه في آخر أيامه بالصمم، فلم يأسف لهذه النكبة كثيرا، بل قال في نفسه: إني أحمد الله على ذلك، فقد كفاني نصف شرور الناس فلعله يكفيني نصفها الآخر، فلا أرى وجوههم، ولا أسمع أصواتهم، ولقد صدق فيما قال، فقد أخذ الناس يسمونه بعد نزول تلك الكارثة به بالموسيقي المجنون، فلم يسمع شيئا مما يقولون.
وأصبح منذ ذلك اليوم هادئا ساكنا لا يشكو ولا يتضجر، بل لا يشعر ولا يتألم، وذهب إلى غابة قريبة من مدينة «بادن» فعاش فيها وحيدا منفردا لا يسمع إلا صوت قلبه، ولا يصغي إلا لتلك النغمات الداخلية التي تتردد بدون انقطاع في أعماق نفسه، ولا يرى أحدا من الناس غير صديقه «هومل» من حين إلى حين، فإذا جاءه طرح عليه ما وضعه من الألحان فيحمله عنه إلى الناس من حيث لا يشعر، وهو باق في مكانه لا يفارقه.
وكان الناس قد أصبحوا يألفون أنغامه بعض الشيء ويصغون إليها، لا لأن حساده قد هدءوا عنه، أو انقطعوا عن مناوأته والغض منه، بل لأن للطبيعة سلطانا فوق سلطان الضغائن والأحقاد، ولأن السحب المتبلدة في آفاق السماء لا تستطيع أن تطفئ نور الشمس، بل تحجب ضياءها عن العيون لحظة من الزمان ثم لا تلبث أن تنقشع عنها، فإذا هي ملء العيون والأنظار.
ولم يقض في عزلته هذه زمنا طويلا حتى ورد عليه كتاب من ابن اخت له في «فينا» كان قد تبناه في صغره وأحبه حبا كثيرا يقول له فيه: إنني متهم بتهمة عظيمة لا سبيل لي إلى الخلاص منها إلا بحضورك، فسافر إليه دون أن يقابل صديقه «هومل»، ولم يكن معه من المال ما يقوم بنفقات سفره، فكان يمشي على قدمه حينا ويركب عجلات النقل أحيانا، حتى نال منه الجهد، وأصبح عاجزا عن المسير.
وكان الطريق إلى «فينا» لا يزال بعيدا فمر ذات ليلة ببيت صغير منفرد في ظاهر إحدى القرى فوقف ببابه وأخذ يقرعه قرعا خفيفا، فخرج إليه صاحب البيت وسأله: ما شأنه؟ فقال له: إنني شيخ أصم، غريب عن هذه الديار، وقد أظلني الليل وعجزت عن المسير فلا أستطيع المضي في سبيلي، فائذن لي بمضجع آوي إليه بقية ليلتي، وإن شئت فأمر لي بكسرة خبز أسد بها رمقي، فأشفق عليه الرجل وأوى له، وأحله من بيته أكرم محل وأسماه، وكان للرجل ابنتان في سن الشباب فقامتا بين يديه تخدمانه حتى رجعت إليه نفسه، فدعوه إلى المائدة فأكل معهم، ثم مشى إلى مصطلى في أحد أركان القاعة، فجلس إليه يصطلي ويجفف ثيابه، وكان صاحب البيت من المولعين بالموسيقي والمغرمين بتوقيعها ليلهم ونهارهم، فما فرغ من الطعام حتى جلس أمام «البيانو» وأخذ يقلب دفتر الموسيقى الذي بين يديه حتى وقع على ما يريد منه، فأشار إلى ابنتيه أن تأخذا قيثارتيهما، وأخذوا يعزفون جميعا بنغمة واحدة، فاغتبط «بيتهوفن» بمنظرهم، وإن لم يسمع من غنائهم شيئا وكل ما استطاع أن يفهمه من شأنهم أن لذلك اللحن الذين يوقعونه سلطانا عظيما على نفوسهم، فقد رآهم متأثرين عند توقيعه تأثرا شديدا، ورأى صاحبة البيت وخادمتها قد تركتا ما كانتا تشتغلان به من شئون البيت وأعماله ووقفتا للاستماع، وقد سكنت أطرافهما، وتهلل وجهاهما، وذهبتا ببصرهما في السماء كأنما تتبعان أثر تلك النغمات في طريقها إلى الملأ الأعلى، حتى انتهت القطعة، فاغرورقت عينا الفتاة الصغرى بالدموع، وألقت بنفسها بين ذراعي أمها، وبكت بكاء شديدا، فنهض بيتهوفن من مكانه ومشى إليهم وقال لهم: إنني لم أستطع أن أسمع شيئا من ألحانكم أيها الأصدقاء، ولكنني استطعت أن أفهم أنها ألحان جميلة مؤثرة فتأثرت معكم، وطربت لطربكم ، ولقد كنت قبل أن تحل بي هذه النكبة التي ترونها أحب الموسيقى حبا شديدا، ولا يلذ لي في الحياة شيء مثل استماعها، فهل تأذنون لي أن أنظر في دفتر الموسيقى لأقرأ تلك القطعة التي كنتم توقعونها؟ فأومأ إليه بالإيجاب، فأكب على الصحيفة، فما وقع نظره على القطعة ورأى اسم صاحبها في رأسها حتى اصفر لونه، وارتعدت يده وارفض جبينه عرقا، ثم أخذ يبكي بكاء شديدا، فانتبه القوم إليه، ونهضوا من مكانهم مذعورين، وأحاطوا به يسألونه ما خطبه، فأشار بأصبعه إلى عنوان القطعة، فلم يفهموا ما يريد، فقال لهم: إنها قطعتي أيها الأصدقاء، وأنا الموسيقي «بيتهوفن»! فدهشوا جميعا، وظلوا ينظروا إليه باهتين مذهولين، ثم رفعوا قبعاتهم عن رءوسهم، وجثوا بين يديه خاضعين متخشعين، وتناولوا يده وأخذوا يقبلونها واحدا بعد آخر، فكانت هذه الساعة هي الساعة الوحيدة التي ذاق فيها لذة الاحترام في حياته، وكانت هي بعينها الساعة التي رفرف على رأسه فيها طائر الموت، فقد شعر في تلك اللحظة بوخزة مؤلمة في جنبه، فتساقط في مكانه، فتلقوه على أيديهم، واحتملوه إلى سريره، وسهروا بجانبه الليل كله يعللونه ويستشفون له، فيستفيق مرة، ويستغرق في غشيته أخرى، حتى الصباح.
وكان صديقه «هومل» قد عرف أمر سفره فتبعه في الطريق التي سلكها، وظل يسائل عنه في كل مكان حتى عرف القرية التي وصل إليها، والبيت الذي نزله، فصعد إليه فرآه في سكرته التي يعالجها، فجلس بجانبه يبكيه ويتوجع له، حتى انتبه له «بيتهوفن» بعد حين، فابتسم له إذ رآه وقال له: هل جئتني بقيثارتي يا «هومل»؟ قال: نعم يا سيدي، وها هي ذي، فتناولها منه وتناهض متكئا على إحدى يديه حتى تمكن من الجلوس، وأنشأ يوقع على مسمع من القوم لحنه المحزن المشهور «رب لم أشقيتني وما أشقيت أحدا من عبادك»، فما أتمه حتى ارتعدت يداه، وجحظت عيناه، وسال العرق من جبينه متحدرا، فسقط على وسادته وقد غشيته غشية الموت، ثم فتح عينيه بعد لحظة فرأى صديقه «هومل» بجانبه، فأمسك بيده ونظر إليه نظرة طويلة وقال: «ألم أكن في حياتي عظيما يا هومل؟» قال: بلى وأكبر من عظيم، فتهلل وجهه بالبشر، وأسبل عينيه وهو يقول: «الآن أموت سعيدا!» ثم قضى.
وفي اليوم الثاني حمل ذلك الرجل العظيم إلى مقبرة تلك القرية الحقيرة فدفن فيها، ولم يشيع جنازته غير صديقه «هومل» وأفراد تلك الأسرة التي مات بينها، وكان هذا كل حظه من الحياة. (98) لحن الموت
ما وصل «استيفن» في حديثه إلى هذا الحد حتى اصفر لونه، وتغضن جبينه وأطرق برأسه إلى الأرض، فانتبه إليه القوم فإذا هو واضع يده على قلبه، وإذا دموعه تنحدر على خديه متتابعة، فقال له أحدهم: ما بك يا «استيفن»؟ فرفع رأسه بعد هنيهة وقال: إنما أبكي على هذا الرجل المسكين الذي عاش في حياته شقيا ومات مسكينا، ولم يبتسم له الدهر في يوم من أيام حياته ابتسامة واحدة يكافئه بها على يده التي أسداها إلى هذا المجتمع، كأنما قد كتب للعاملين على وجه الأرض جميعا أن يعيشوا فيها عيش الأشجار العظيمة في الصحاري المحرقة، تظلل الناس بوارف ظلها وهي تصطلي حر الهاجرة وأوارها، ولو أن القدر أنصفهم ووفاهم أجورهم لما سعد أحد في الحياة سعادتهم، ولا هنئ فيها هناءهم.
نامعلوم صفحہ