إنكم تأبون يا أهل المدن إلا أن تشتروا سعادة الحياة بدمائكم وأرواحكم، والسعادة حاضر بين أيديكم لا ثمن لها ولا قيمة، ولكنكم تجهلونها وتعرضون عنها، وتظنون ألا وجود لها إلا في أحضان النساء، وبين أستارهن وأرائكهن، فتبذلون في سبيلها من دموعكم وآلامكم ما لا قبل لكم باحتماله، فلا تلبثون أن تذبل حياتكم، وتضوى أجسامكم، وتنطفئ جذوة نفوسكم قبل أوانها، فتموتوا أضيع ميتة وأخسرها، لا أملا أفدتم، ولا حياة حفظتم.
إنما يشقى في هذا العالم أحد ثلاثة: حاسد يتألم لمنظر النعم التي يسبغها الله على عباده، ونعم الله لا تنفد ولا تفنى، وطماع لا يستريح إلى غاية من الغايات حتى تنبعث نفسه وراء غاية غيرها فلا تفنى مطامعه، ولا تنتهي متاعبه، ومقترف جريمة من جرائم العرض والشرف لا يفارقه خيالها حيثما حل وأينما سار، وما أنت يا سيدي بواحد من هؤلاء، فمن أي باب من الأبواب يتسرب الشقاء إلى قلبك؟
أنت شاعر يا مولاي، وقلب الشاعر مرآة تتراءى فيها صور الكائنات صغيرها وكبيرها، دقيقها وجليلها، فإن أعوزتك السعادة ففتش عنها في أعماق قلبك، فقلبك الصورة الصغرى للعالم الأكبر وما فيه.
السماء جميلة، والشاعر هو الذي يستطيع أن يدرك سر جمالها، ويخترق بنظراته أديمها الأزرق الصافي، فيرى في ذلك العالم العلوي النائي ما لا تراه عين، ولا يمتد إليه نظر.
والبحر عظيم، والشاعر هو الذي يشعر بعظمته وجلاله، ويرى في صفحته الرجراجة المترجحة صور الأمم التي طواها، والمدن التي محاها، والدول التي أبادها، وهو باق على صورته لا يتغير ولا يتبدل، ولا يبلى على العصور والأيام.
والليل موحش، والشاعر هو الذي يسمع في سكونه وهدوئه أنين الباكين، وزفرات المتألمين، وأصوات الدعاء المتصاعدة إلى آفاق السماء، ويرى صور الأحلام الطائفة بمضاجع النائمين، وخيالات السعادة والشقاء الهائمة في رءوس المجدودين والمحدودين.
الشاعر يرى الجمال في كل شيء يتناوله سمعه وبصره، حتى في الزهرة الذابلة، والنبتة الحائلة، والمحلة الطائرة، والفراشة الحائمة، وفي مدارج النمال، وأفاحيص القطا، والنؤي المتهدم، والجدث البالي، والشبح المخيف، والخيال الرائع، وفي الضفدعة الملقاة على شاطئ البحر، والدودة الممتدة في باطن الصهر، فهو من خياله الواسع في نعمة دائمة لا تنفد ولا تبلى.
أنت كالطائر السجين في قفصه، فمزق عن نفسك هذا السجن الذي يحيط بك، وطر بجناحيك في أجواء هذا العالم المنبسط الفسيح، وتنقل ما شئت في جنباته وأكنافه، واهتف بأغاريدك الجميلة فوق قمم جباله، ورءوس أشجاره، وضفاف أنهاره، فأنت لم تخلق للسجن والقيد، بل للهتاف والتغريد.
فأطرق «استيفن» ساعة ذهبت فيها نفسه كل مذهب، ثم رفع رأسه وقال: إني أحاول ذلك يا «فرتز» منذ أيام طوال فلا أستطيعه، ولو كان لي فيما قضى الله حيلة لسحقت قلبي بقدمي سحقا، ثم أسلمت ذراته إلى الرياح الأربع تذهب بها حيث تشاء، ولكن لا سبيل لي إلى ذلك، وإنما هو بلاء قد بليت به لحين قد أريد لي، على أني أعاهدك منذ الساعة عهدا لا أخيس به ألا تراني بعد اليوم ذاكرا لها، ولا باكيا عليها، أما ما يضمره القلب من ثكل ولوعة فأسأل الله أن يعينني عليه، فقال له «فرتز»: ذلك كل ما أريده منك، والله يتولى شأنك ويعينك على بقية أمرك . (73) الهدوء
الحب قطرة غيث صافية تنزل بالتربة الطيبة فتثمر الرحمة والشفقة والبر والمعروف، وبالتربة الخبيثة فتثمر الحقد والغضب والشر والانتقام، وكان «استيفن» طيب القلب، طاهر السريرة، فاستحالت تلك الآلام التي كانت تعتلج في نفسه إلى وجدان طاهر شريف، يشعر ببؤس البائسين فيرثى لهم، وفجيعة المتفجعين فيبكي عليهم، ولقد وفى بعهده الذي عاهد عليه صديقه «فرتز»، فأمسك عن ذكر ماجدولين والتفكير فيها، وأخذ نفسه بنسيانها ونسيان ماضيها معه، فاستقام له بعض الذي أراد، وتراجعت آلام نفسه وأحزانها إلى زاوية منفردة من زوايا قلبه فكمنت فيها فلم يعد يشعر بها إلا في الفينة بعد الفينة، ولا يذكرها إلا كما يذكر المستيقظ حلما ضئيلا من أحلامه المزعجة ساعة ثم يمضي لسبيله.
نامعلوم صفحہ