مهما يكن الأمر ومهما تكن قصورات بيكون، ومهما تكن التطورات التي لحقت بمفهوم المنهج العلمي، والتي رأينا معالمها في الفصل الخامس، فالذي لا شك أنه كان في عصره تمثيل لمنهجية علم وعصر معا، قال عن نفسه إنه ليس إلا «نافخ بوق»، مهمته تقتصر على الإعلان عن الحرب، ولكنه كان مؤمنا أكثر من سواه بقوة المنهج العلمي، سبق عصره في التبشير بالعلوم الإنسانية، مؤكدا أن المنهج التجريبي سوف يمتد ليشمل كل شيء، فنرى قوائم تصنيفية للتجارب المتعلقة بالكره والخوف والغضب، واتخاذ القرارات والامتناع عنها وسائر جوانب الحياة المدنية، تماما كقوائم البرودة والحرارة والضوء والنباتات وما إليها
4 ... ووضع تصورا لمدينة فاضلة أسماها «أطلانطس الجديدة»، لا تعدو أن تكون مجتمعا علميا متكاملا، يضم أمة من العلماء في سائر التخصصات، لكي يحقق العلم المنفعة القصوى للبشر، وصف بيكون «بيت سليمان» في هذه المدينة، وهو صورة مثالية للمختبر العلمي وللأكاديميات العلمية، اقتفيت خطوطه فيما بعد. وحين تأسست الجمعية الملكية للعلوم في لندن، لتضم جهابذة العلم وتنسق بين أبحاثهم، وقف المؤسسون في حفل الافتتاح عام 1662م ليشيدوا بفضل بيكون على تيار العلم الحديث.
يرى فيلسوف التفكير العلمي فؤاد زكريا، أن بيكون ليس فقط فيلسوف الحركة العلمية ، بل أيضا فيلسوف سليلتها الثورة الصناعية، التي جاءت بعد وفاته بمائتي عام. والحق أنه فيلسوف العصر الحديث بأسره، خصوصا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حظي بالتقدير العميق من رموز لذلك العصر أمثال: ديكارت وجاسندي، وروبرت هوك، وروبرت بويل، رفعه الفيلسوف والرياضياتي الألماني ليبنتز
G. W. Leibinitz (1646-1716م) إلى المنزلة العليا، حتى فوق ديكارت، وازداد نجمه سطوعا في عصر التنوير اللاحق. الموسوعيون الفرنسيون الذين انكبوا على وضع موسوعة شاملة، تعبيرا عن علم عصر التنوير أمثال: دالمبرت ، وديدرو
D. Didrot (1713-1784م) وغيرهما، اعتبروا بيكون أبا العهد الحديث، ومجدوا اسمه في الغلاف الأمامي ل «الموسوعة» بإهدائها إليه، وقال ديدرو إننا إذا انتهينا من وضعها بنجاح نكون مدينين بالكثير لبيكون، الذي وضع خطة معجم عالمي عن العلوم والفنون في وقت خلا من العلوم والفنون. وأطلق دالمبرت على بيكون لقب «أعظم وأبلغ وأوسع الفلاسفة»، ورآه فولتير أبا الفلسفة التجريبية والتنويري الحق. وبعد إهداء الموسوعة الفرنسية، جاء شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط (1724-1804م)، ليهدي إلى بيكون كتابه الأكبر «نقد العقل الخالص» معتبرا إياه المعماري الأول للحداثة.
5
تنقش مكتبة الكونجرس الأمريكي في واشنطن اسم بيكون أعلى إحدى بواباتها المذهبة، بوصفه واحدا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث، خصوصا بفعل قولته النافذة «العلم قوة» وليس ترفا أو زينة أو دوائر مغلقة؛ فذلك القول هو ملخص قصة الحداثة والعصر الحديث. (2) المنهج العلمي معالم عصر
العلم الحديث الذي كان فرنسيس بيكون «نافخ بوقه»، ليس مجرد مرحلة أعلى شديدة التميز والتألق من مراحل العلم، بل كان أيضا نقلة حضارية شاملة للثقافة الغربية، تبدلت معها طبيعة التفكير ورؤية العالم، ونتج عنها تطبيقات وفعاليات غيرت معالم الحياة الإنسانية وتكوين طبقات المجتمع، ثم طبيعة العلاقات بين الدول والأقاليم. إنها متغيرات وتحولات صنعت العصر الحديث، والعقل الحديث والإنسان الحديث في أوروبا.
راح العلم الحديث ينمو ويتصاعد، ليمتثل نصب الأعين فعالية المنهج التجريبي شريعة العلم وناموسه، بدرجة لم تتحقق من قبل. الحديث المستحدث فعلا أن المنهج العلمي كان روح العلم، بقدر ما كان تجسيدا لروح العصر الحديث ، التي تخلقت في الأراضي الأوروبية، بعد أن امتصت الخلاصة من الحضارة الإسلامية الأسبق والمتاخمة لها. وكانت أوروبا بيئة مواتية لهذا التوقد والتفجر في نجاح العلم التجريبي؛ لأن التجريبية فيها آنذاك لم تكن محض آلية منهجية للكسب المعرفي، بل هي أيديولوجيا العصر الحديث وروحه، حاملة قيمه ومحكاته، وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة. كان العلم التجريبي في الحضارة الإسلامية دائرة من الدوائر المعرفية، التي ترسمت حول المركز الحضاري الإسلامي/النص الديني، فكان المنهج العلمي بعدا من أبعاد عدة لعطائها المعرفي. أما في الحضارة الغربية الحديثة، فلم تكن التجريبية العلمية مجرد بعد، بل هي المحور. ومفهوم المنهج العلمي هو المركز ذاته، الذي تترسم حوله الدوائر المتوالية. من هذا المركز وإليه تنبع وترتد معالم الحداثة، تترسم القيم وتتشكل أيديولوجية العصر أو إطاره المرجعي.
كان مفهوم المنهج العلمي التجريبي جوهر الحداثة، بقدر ما كان علامة وإمارة وقوة فاعلة لإغلاق العصور الوسطى وفتح بوابات العصر الحديث، طريق الانتقال من عصور مظلمة إلى مقدمات عصر التنوير. انتهت المرحلة الأوروبية الوسيطة بما حملته من كهنوت كنسي ثقيل وصل إلى محاكم تفتيش، يحمل السلطة المعرفية ويفرض الوصاية على الإنسان. ولئن كان جوهر المنهج العلمي هو التفاعل بين العقل والحواس، فقد باتت فعالياته الحديثة المتوالية إعلانا وتبيانا وبرهانا، على أن الإنسان الذي يملك العقل والحواس، جدير بأن يستقل بذاته وترفع من عليه أية وصاية، لينطلق باحثا عن الحقائق متحملا مسئولية المعرفة.
نامعلوم صفحہ