إهداء
المقدمة
1 - المنهج العلمي ... لماذا؟
2 - ما المنهج؟
3 - العلم والمنهج
4 - منهج العلم أم مناهج العلوم؟
5 - تطور نظرية المنهج العلمي
6 - المنهج العلمي في التاريخ القديم
7 - من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث
8 - المنهج العلمي والحداثة
نامعلوم صفحہ
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
إهداء
المقدمة
1 - المنهج العلمي ... لماذا؟
2 - ما المنهج؟
3 - العلم والمنهج
4 - منهج العلم أم مناهج العلوم؟
5 - تطور نظرية المنهج العلمي
6 - المنهج العلمي في التاريخ القديم
7 - من الحضارة الإسلامية إلى العلم الحديث
نامعلوم صفحہ
8 - المنهج العلمي والحداثة
خاتمة: مفهوم المنهج العلمي في حاضرنا ومستقبلنا
مفهوم المنهج العلمي
مفهوم المنهج العلمي
تأليف
يمنى طريف الخولي
إهداء
إلى الجيوفيزيائي الدولي عبد الله إبراهيم أبو العلا،
عقلية علمية ومنهجية من طراز رفيع،
شخصية جادة على طريق قويم،
نامعلوم صفحہ
نفس آمنة في أفق رحيب.
المقدمة
مفهوم المنهج العلمي في طليعة المفاهيم، التي يمثل استيعابها وتوظيفها وعدا حضاريا أكيدا؛ فكان مفهوما يتبوأ موقعه المرموق في الخطاب المعرفي والثقافي معا، ويراد له عن حق التوطين والتفعيل. المنهج العلمي باختصار أنجح آلية امتلكها العقل في مواجهة الواقع والوقائع، فيما يجسد نواتجها العملاق الماثل: العلم، أروع تجليات العقلانية في الحضارة الإنسانية، وأشدها إثباتا لحضور الإنسان؛ الموجود العاقل في هذا الكون، وقد بات العلم الحديث من أقوى العوامل الفاعلة الموجهة، بل المشكلة للفكر وللواقع معا، وفي النهاية يمكن القول دائما إن العلم أنجح مشروع ينجزه الإنسان.
مفهوم «المنهج» في حد ذاته يعني الطريق الواضح والطريقة الناجزة، و«المنهج العلمي» تمثيل وتجريد للعقلية العلمية والتفكير العلمي، لطريق العلماء في بحوثهم وطريقتهم في إنجاز كشوفهم، والإضافة إلى نسق العلم طابقا فوق طابق. وكما أكدنا مرارا، مهما تمخضت مسالك العلماء في النهاية - أو في تطبيقاتها - عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، غزو الفضاء والذرة، فك شفرة الحياة ولغز الثقوب السوداء، التحكم في النانو تكنولوجي وبه، تحويل مجاري الأنهار واخضرار الصحارى، هندسة الموروثات ومقاومة الأوبئة ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية ... إلى آخره، أو بالأحرى إلى غير آخر ... مهما تحققت إنجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، سيظل المغزى الأعظم للمنهج العلمي هو أنه تجسيد لطريقة في التفكير والفعل سديدة مثمرة، يمكن تسخيرها في كل تعامل مع واقع متعين، وليس في البحث العلمي فحسب. أجل، يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه يمكن أن ينصب في الواقع الثقافي كبلورة مستصفاة للتفكير المثمر الملتزم بالواقع والوقائع، بالانتقال من المشكلة لحلها، تعقيل السير نحو الهدف، التآزر بين العقل والحواس، تكامل القوى المعرفية التحليلية والاختبارية والنقدية والإبداعية معا ...
وسبيلنا الآن إلى تنضيد وتوصيف وتعريف هذا المفهوم النابض الشامخ، في مقاربات تحليلية وتتبعات تاريخية معا، تسفر عن رحلة مع العقل العلمي تمتد بطول التاريخ، ويتحاور فيها الشرق والغرب، نستهلها في الفصل الأول بعرض إيجابيات يحملها هذا المفهوم، قد تغري بخوض رحلة تعريفه والتعرف عليه. يتناول الفصل الثاني مفهوم «المنهج» أصلا، وكيف كان هاجسا ملازما للفلسفة، وكيف توالد عنه مفهوم محدد للمنهج العلمي. وتتوالى الفصول مبينة كيف نشأت فلسفة العلم، لتكون منشغلة أساسا بمفهوم المنهج العلمي، وكيف تطورت صياغته وتسير قدما نحو المزيد من النضج والفاعلية، وكيف سار مفهوم المنهج العلمي ذاته عبر التاريخ، وما الدور الذي قام به تراثنا في هذا الصدد، ثم ما الدور الذي قام به «المنهج العلمي» في خلق وتمثيل قصة الحداثة، وكيف تصاعدت منظورات مستجدة له أكثر خصوبة في ما بعد الحداثة، تمثيلا لما صاحب المفهوم بالانتقال من زمن الثورة الصناعية وصلابتها، إلى زمن الثورة المعلوماتية وسيولتها. ونصل في الختام إلى السؤال الأهم: كيف يمكن تفعيل المنهج العلمي وتوظيفه في واقعنا الحاضر وفي مستقبلنا.
هذه بعض تساؤلات كبرى تضوي تحت لوائها تساؤلات جانبية وفرعية، تتواتر مناقشاتها ومحاولات الإجابة عنها إبان مصاحبتنا لمفهوم المنهج العلمي، ومتابعة عقلانيته التجريبية، عبر الصفحات المقبلة.
يمنى الخولي
جامعة أحمد بلو، نيجيريا
26 ديسمبر 2014م
الفصل الأول
نامعلوم صفحہ
المنهج العلمي ... لماذا؟
(1) مدى واسع ممتد
قبل الخوض في تعريف مفهوم المنهج العلمي والتعرف على أبعاده وآفاق عالمه، نسأل قبلا: لماذا هذا الخوض؟ لماذا يعد طرح مفهوم المنهج العلمي مهمة وأمانة ورسالة ؟ ولماذا يعد اكتساب هذا الطرح تنمية عقلية حقيقية ومبتغاة؟
قد يبدو للوهلة الأولى أن الإجابة على هذا، تأتي توا من حلبة المنهج العلمي؛ أي البحث العلمي ذاته كقوة عظمى امتلكها الإنسان، وأهم منتج مؤثر في واقعه، لتكون الإجابة: إن الطرح المتكامل لمفهوم المنهج العلمي، المستشرف للآفاق والمستقصي للجذور - على نهج الطرح الفلسفي - إنما يجعل العلماء أكثر ألفة بعالمهم، يضع النقاط على الحروف، فيزداد طريق التقدم العلمي وضوحا، وتزداد معدلاته صعودا.
ربما يكون هذا جانبا من الإجابة على السؤال المطروح، ولكنه ليس الإجابة كلها ولا حتى أهم ما فيها، الفلسفة حين تعمل على تعريف وتقنين مفهوم المنهج العلمي، فإنها لا تجرد محض طريقة يتبعها العلماء في بحوثهم، كأدوات فنية خاصة بأهل حرفة بعينها وإن علا شأنها، إنما تبلور أسلوبا من أساليب التفكير الملتزم والمثمر، هو أنجع طريقة امتلكها الإنسان للتعامل مع الواقع وحل مشكلاته. يقول جان فوراستيه
Jean Fourastie : «إن للمنهج العلمي مدى يمتد من العالم إلى الإنسان المتوسط، ومن الميكانيك الموجية إلى الأحداث المبتذلة في الحياة اليومية؛ فليس هناك مجالان منفصلان: مجال العلم ومجال الحياة. والمنهج العلمي ليس تقنية خاصة بذوي الاختصاص، كما يختص خبراء التأمين بنظام الاحتمالات، والقضاة بالقانون، وعلماء الآثار المصرية بالهيروغليف، بل هو أحد الوسائل المعطاة لكل إنسان، وأكثر هذه الوسائل سهولة وضمانا لمعرفة العالم، الذي انتظم فيه الإنسان: الكون والأرض والنباتات والحيوانات والأشخاص.»
1
المنهج العلمي في جوهره آلية إيجابية فعالة، لتعامل الإنسان مع وقائع عالمه، تقوم على التآزر والتحاور بين قدرات الذهن ومعطيات الحواس، وهذه آلية كامنة في كل عقل بشري، وتبلغ أقصاها في البحث العلمي، تماما كما نقول إن القدرة الفنية كامنة في كل إنسان، وأي طفل لا بد أن يمارس الرسم، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها مع الفنانين العظام، أو أن القدرة على الكتابة كائنة لدى البشر أجمعين، وأي تلميذ لا بد أن يكتب موضوع الإنشاء، لكن هذه القدرة تبلغ أقصاها لدى الكتاب العظام. كذلك آلية الحوار الإيجابي المثمر بين الذهن ووقائع العلم كائنة في كل العقول ، في مدى واسع ممتد، وينبغي العمل على تنميتها دائما، وهذه الآلية تبلغ أقصاها وذروتها في العلم والبحث العلمي.
وإذ نستقي خلاصة طريق وطريقة العلماء في معاملهم نشدانا لتقنين هذه الآلية، نجدها تقوم على فرض أبدعه عقل الإنسان/العالم، يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدله أو يرفضه، ليكون مسير ومصير الفرض في نسق العلم وفقا لشهادة التجريب على كفاءته في حل المشكلة المطروحة للبحث، وأداء المهام المعرفية التي وضع من أجلها. إنه الحوار الخصيب والتآزر الجميل المثمر بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع؛ لذا كان المنهج العلمي صورة مثلى لما يمكن أن نسميه: العقلانية التجريبية. وفي تفعيل هذا نتعلم تكاملا بين ملكتين إدراكيتين أو القوتين المعرفيتين، فلا جنوح لطرف ولا إقصاء لآخر.
في المنهج العلمي يتجلى العقل حين يرسم سبلا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل، ملتزمة بالواقع بما تنبئ به التجربة، لتتعدل الفروض أو تقبل أو تلغى وفقا له. المنهج العلمي التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلاف لذلك الخطأ، يعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد ... وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدا. البحث العلمي فعالية مستمرة، تحمل في صلب ذاتها عوامل لتناميها وتقدمها المتواصل دوما. كل إجابة يتوصل إليها تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى. ومهما علونا في مدارج التقدم فلن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدا، بل يزداد حمية ونشاطا في سعيه الدءوب المتخطي دوما لحاضره، مغيرا إياه.
نامعلوم صفحہ
إن العلم صنيعة الإنسان، فعالية نامية باستمرار، كل خطوة قابلة للتجاوز، للتقدم؛ لذلك ليس العلم بناء مشيدا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة . كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة - تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
وفي خضم هذه الحركية التقدمية الجبارة، ينتصب مارد المنهج العلمي، بوصفه الثابت الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكل ما يتواتر من تغيرات. في رحاب هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس، لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ؛ دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ: إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع، لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي.
ولعل تفعيل المنهج العلمي في مداه الواسع الممتد، يمكن أن يأتي بأبسط نواتجه في أن نضطلع بشيء من هذه المسئولية إزاء الواقع والوقائع، مما يؤدي إلى كبح جماح الاسترسال في الإنشائيات والخطابيات، والخوض في لغو القول، والأغاليط، والمكابرة، والدفاع عن القضية ونقضيها، فضلا عن الدفاع عن قضية خاسرة، تشهد الوقائع ببطلان أسانيدها ... أو استمرار وسائل فاشلة تشهد الوقائع بعجزها عن بلوغ غاياتها؛ إنه مدى واسع ممتد. (2) تقدمية والروح نقدية
نلاحظ كيف فرضت مقولة التقدم والتقدمية ذاتها، منذ مستهل حديثنا عن المنهج العلمي، ويحق القول إن البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم في حضارة البشر، والمضمار الوحيد فيها الذي يملك ضمانات كافية، تشهد بأن غده سيكون أثرى وأقوى من يومه، مثلما جاء يومه أثرى وأقوى من أمسه.
التقدم
يعني السير قدما إلى الأمام، وهذه الكلمة الإنجليزية مأخوذة من الكلمة اللاتينية
، التي تعني قطع حيز إلى الأمام، سواء في الزمان أو في المكان؛ قطع مسافة في السير، وأيضا تقدم في العمر. وقد برز مفهوم «التقدم» كمصطلح فلسفي مهم في العقود الأخيرة من القرن السابع عشر، ليفيد قيمة إيجابية تمثلها حركة خطية، ليست دائرية وليست تراجعية. وقامت مقولة التقدم بدورها المعروف في الفكر الغربي، وكانت من مقدمات عصر التنوير في القرن التالي. وأخيرا جاء عصر ما بعد الحداثة في النصف الأخير من القرن العشرين ، وطرح مفهوم التقدم لمناقشات مستجدة في الفكر الغربي. ومن ناحية أخرى، كان الفكر الإسلامي في المشرق، قد شهد الحركة الوهابية، التي أكدت أن التقدم حركة قهقرية. ثم ظهرت تيارات فلسفية لا تمانع في أن ترى التقدم عودة إلى الوراء، إلى عصور مضت بدت لهم لا تبارى ولا تمارى. وبصرف النظر عن هذا وذاك، رب قائل إن الفن التشكيلي في عصر النهضة أفضل منه الآن، أو إن تأثيث المنازل على الطراز الكلاسيكي أجمل من تأثيثها على الطراز الحديث، أو إن طعام الأجداد أشهى من طعامنا اليوم، أو إن العمارة في مرحلة ما كانت تحمل زخما جماليا، افتقدناه الآن وكانت مريحة أكثر ... إلخ، ولكن لا يقولن أحد البتة إن العلم في أية مرحلة سابقة كان أفضل منه الآن، أو في أية مرحلة لاحقة.
من أجمل جمالات العلم والمنهج العلمي، أن قيمة التقدم فيه محسوسة تماما، ولا مجال لخلاف أو جدال بشأنها. نعم تموج فلسفة العلم بمناقشات عاصفة حول طبيعة التقدم العلمي، وهل هو تراكم متوال: كشف فوق كشف ونظرية بجوار نظرية، أم هو ثورة مستمرة: استيعاب وتجاوز مستمر لما هو كائن، انسياب دورات جديدة بمنطلقات جديدة، تتيح دائما رؤية أوسع وسيطرة أعلى ... أم إن التقدم العلمي حوار جدلي بين التراكم والثورة، بمعنى تراكم تراكم ثم ثورة ... تراكم تراكم ثم ثورة.
2
وأيضا ثمة الجدال حول معايير التقدم العلمي: هل هي معرفية نظرية أم براجماتية عملية، أم كلتاهما معا؟ ولكن التقدم في حد ذاته؛ مثوله في العلم ومثول العلم فيه، واعتماد المنهج العلمي طريقا مفضيا له، مسألة محسومة، قيمة منطقية لها مقاييسها الكمية وتحديداتها الدقيقة.
نامعلوم صفحہ
من أية زاوية التقدم في العلم غاية منشودة ومأمولة ومتحققة، ببساطة تعني حذف قصورات وأخطاء، تعني مزيدا من الاقتراب من الصدق/الحقيقة، تعني توصيفات أوفى وقوى تفسيرية أعلى وتنبؤات أدق، وبالتالي مزيدا من السيطرة على الظاهرة، ومزيدا من حلول لمشاكل وتحقيق أهداف، والأجمل أن التقدم ليس فقط غاية منشودة في العلم، ثاو في منهجه، بل هو واقع ماثل متحقق دائما . •••
وكما اتفقنا، المنهج العلمي في جوهره هو العقلانية التجريبية؛ فلا تجريبية فجة غشوم تنحصر في معطيات الحواس، تسوخ فيها بغير أن تشرئب عنها، ولا تحليق للعقل في سدم الفكر الخالص المنذرة بالتشتت والتهاويم والجنوح. إنه حوار مستمر وضابط بين الطرفين؛ بين الفكر والواقع. وكما ذكرنا لا جنوح لطرف ولا إقصاء لآخر؛ فيقي من مغبة التطرف المتصلب والمنفلت نحو حد أو طرف بعينه، تماما مثلما يقي المنهج العلمي من وبال القبول الأعمى، لمراسم جاهزة والتصلب بين أطرها، ما دام كل شيء فيه خاضعا للاختبار والنقد والتمحيص؛ خاضعا لمحكمة التجريب.
ليست التجربة معينا نغترف منه الفرض العلمي، بقدر ما هي ساحة اختبار الفرض العلمي واستنطاقه واستشهاده واستجوابه وتمحيصه؛ بعبارة: موجزة التجريبية العلمية في جوهرها هي الاختبارية والقابلية للاختبار
testability ، وأن تكون العبارة تجريبية فهذا يعني أنها قابلة للاختبار، وأن تكون العبارة التجريبية علمية، فهذا يعني أن المنهج العلمي هو اختبارها اختبارا عسيرا لأقصى درجة ممكنة. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر» مرادفا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. إن التجريبية هي الاختبارية، وهي النقدية. الاختبارية النقدية هي سر التقدم المستمر في العلم. والروح العلمية روح نقدية على الأصالة. •••
يتقدم الآن كارل بوبر
Karl R. Popper (1902-1994م) فيلسوف المنهج العلمي الأكبر، الذي قيل عنه: «إنه المفرد العلم الذي يشار إليه بالبنان، حين طرح السؤال عن المنهج العلمي.»
3
وقد مثل كارل بوبر نقطة تحول بأن استندت فلسفته على أن الخاصة المنطقية المميزة للعلم، هي القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة واكتشاف الخطأ؛ اكتشاف موطن الكذب والتعارض مع الواقع؛ لتصويبه والاقتراب أكثر من الصدق/الحقيقة، فيتأتى التقدم المستمر. وضع بوبر معالجته الشاملة للمنهج العلمي ومنطقه، على أساس الاختبارية التكذيبية، التي لا تعدو أن تكون أسلوب النقد المختص بالعلم، والذي يجعله دائم التقدم، مؤكدا أن النقد دماء الحياة للتفكير العقلاني وللتقدم في العلم، وفي الحضارة على الإجمال. إن بوبر في فلسفته الرائدة للمنهج العلمي يعول التعويل الأكبر على مفهوم النقد، وقيمة النقد والدور العلمي للنقد، حتى وضع بطاقة لفلسفته هي «العقلانية النقدية».
التفكير العلمي هو ذاته التفكير النقدي، والمنهج العلمي منهاج نقدي. النقد بمعناه الحرفي؛ أي بمعنى الحرص الدائم على تصيد الأخطاء، وتعيينها من أجل تصويبها، هو لا سواه روح العلم والأنفاس المترددة في صدره، هو معلمه. قد يتبدى التفكير العلمي بوصفه المقابل للتفكير الأسطوري، ولكن يمكن القول إن العلم له هو الآخر أساطيره. وقد يقدم تصورات يصعب على الحس المشترك، والإنسان العادي في حياته العادية، أن يتقبلها أو يتعايش معها؛ أشهر الأمثلة على هذا نظرية النسبية لآينشتين، حيث تتغير الكتلة بتغير السرعة، والزمن بعد رابع يتباطأ هو الآخر بزيادة الكتلة، ويسير بسرعات واتجاهات مختلفة. والعلم يقدم أفكارا وتصورات حاشدة ومحملة بالكثير، تقوم بدور كبير وتتحمل مسئوليات معرفية جسيمة، ثم يقلع عنها وتذوي جانبا، وأشهر الأمثلة على هذا فرض «الأثير» لتفسير انتقال الضوء والإشعاع؛ لذا أمكن القول بشكل ما إن العلم هو الآخر يصنع أساطير. يظل الفارق الحقيقي الحي بين الفكر العلمي والفكر الأسطوري، أن الأساطير تظل ثابتة على حالها دائما، وقد يضفي عليها التفكير الإيقاني المتزمت (الدوجماطيقي) مزيدا من الثبات. أما المنزع النقدي في العلم والمنهج العلمي، فيغير دوما من أساطيره في اتجاه التقدم، والاقتراب الأكثر من الصدق؛ لأن النقد يحذف الخطأ ويقلل دوما نطاقه.
إن المنهج العلمي هو أسلوب التفكير النقدي، هو عقلانية نقدية بقدر ما هو العقلانية التجريبية. وتبقى ملاحظة أنه في الآن نفسه أسلوب التفكير المبدع، ولما كان هذا الإبداع مسئولا أمام محكات المنطق وقياسات الواقع، أمكن أن نسميه أيضا العقلانية الإبداعية. (3) إبداع ومسئولية
نامعلوم صفحہ
حين يقال المنهج العلمي بألف ولام العهد كمفرد علم، يكون المقصود عادة هو المنهج التجريبي. وقد اشتهر العلم الحديث بتجريبيته، وبات القول إن العلم تجريبي يشبه القول إن الشمس تشرق في النهار والماء هو الماء. على أن التجريبية كما أشرنا ليست معينا نغترف منه الفرض العلمي، بل ساحة لاختباره. في المنهج العلمي يجتاز الفرض والتمحيصات المنطقية، والقياسات الكمية الدقيقة والاختبارات التجريبية، ليحصل على جواز المرور إلى نسق العلم، فيمثل إضافة وحصادا علميا وحصيلة معرفية. الفرض الناجح هو اللبنة والإنجاز الملموس. والسؤال الآن: من أين يجيء الفرض أصلا؟
لعل هذا السؤال يناظر السؤال: من أين يجيء الحب؟ فلا إجابة محددة على أي منهما، وإذا كان هذا سؤالا عن المصدر؛ «فليس هناك مصدر معين لا سواه للمعرفة. والمعرفة لا تتمتع بأية مصادر غير قابلة للخطأ، لا في الحواس ولا في العقل».
4
كل فرض وكل اقتراح وكل مصدر على الرحب والسعة، ما دام كل اقتراح يمكن تعريضه للنقد، للاختبار واكتشاف أخطائه وتصويبها، والانتقال إلى وضع أفضل في صيرورة التقدم المستمر. والمنهج العلمي بعقلانية النقدية، تأطير لمنطق الكشف العلمي والتقدم الدائم.
وليس المنهج العلمي في هذا خطوات محددة أو طريقا مرسوما للوصول إلى الفرض الجديد، إنه ليس طريقا للكشف، بل منطق له؛ لا يرسم طريق الوصول إلى فرض جديد، بل يرسم أسلوب التعامل مع الفرض وكيفية اختباره والتحكم في نتائج الاختبار. نظرية المنهج العلمي تبدأ من الفرض، أما ما قبله وأفضى إليه فليس من اختصاص فلسفة المعرفة (= الإبستمولوجيا) أو فلسفة المنهج (= الميثودولوجيا)، بل من اختصاص علم النفس التجريبي الذي يدرس ظاهرة الإبداع.
لا يمكن الوصول إلى الفرض العلمي الجديد عن طريق خطوات محددة. الكشف العلمي ليس عملية آلية، بل عملية خلق وإبداع، تأتي من الذكاء الإنساني في تفاعله مع الحصيلة المعرفية، الخيال الخصيب والعبقرية الخلاقة، الإطار الثقافي الملائم الذي يهب العالم محفزات للإبداع ... كل هذه عناصر فاعلة. ولا يمكن الوصول إلى الإبداع الأصيل في الفن أو في الفكر، أو في أي موقف حياتي عن طريق خطوات محددة. والعلم بدوره أكثر المناشط الإنسانية حيوية وإبداعية.
لا يأتي الفرض العلمي الجديد إلا بعد إلمام بالحصيلة المعرفية السابقة، وهذا هو ما نسميه: الدرس الجاد، ويجسد الطابع الجمعي التعاوني، الذي يميز عالم العلم. ثم يقدح العالم ذهنه ليتوصل إلى حل للمشكلة المطروحة للبحث. هذا الحل حدس، تنبته الموهبة العلمية الفردية والعبقرية الخلاقة في انشغالها العميق بالمشكلة المطروحة، وإحاطتها بهذه المشكلة درسا وبحثا. لقد أكد هنري بيرجسون
H. Bergson (1859-1941م) على الجهد العقلي العظيم المبذول في كل إبداع، فما بالنا بالإبداع العلمي!
عني العالم/الفيلسوف هنري بوانكاريه
H. Pioncaré (1854-1912م) بالطبيعة الإبداعية الحدسية للكشف العلمي، وأضفى عليه طابع المفاجأة والتركيز، وأنه يأتي إلى ذهن العالم كومضة. وقد كانت أبحاث بوانكاريه من الخطوط التمهيدية، والمقدمات العامة التي تأدت إلى نظرية النسبية الخاصة مع آينشتين. ويظل فرض الكوانتم العبقري، وقد نما وتطور في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، بفعل رعيل من العلماء المبدعين هم بحق فرسان الكوانتم؛ يظل هذا الفرض مكمن الجمر، وهيكل النور في التعملق الراهن للعلم، واقتحامه الواثق المقتدر الفعال لعالم ما دون الذرة. الأب الشرعي لفرض الكوانتم هو العالم الألماني ماكس بلانك
نامعلوم صفحہ
M. Plank (1858-1947م)، طرح عام 1900م فرض اعتبار الأجسام تكتسب الطاقة أو تعطيها، لا باستمرار كسيل، بل على «كوانتمات»، و«كوانتم» وهو المصطلح الذي اختاره، كلمة لاتينية تعني مقدارا أو كمية أو وجبة.
5
كشهادة حاسمة يقول ماكس بلانك: «كل فرضية تظهر في عالم العلم تعرض نوعا من الانفجار المفاجئ، وقفزة في الظلام لا يمكن تفسيرها منطقيا، ثم تدق ساعة ميلاد نظرية جديدة، وبعد أن ترى نور العالم تسعى جاهدة إلى النمو والتقدم باستمرار، ويتوقف مصيرها أخيرا على المقاييس.»
6
كل كشف علمي يحوي عنصرا إبداعيا حدسيا قائما على الحب العقلاني لموضوع البحث. تتواتر سير وأقاصيص العلماء أنفسهم، وهم يقررون أنهم توصلوا إلى النظريات العلمية، بالعديد من الطرق المختلفة وليس بأية خطوات محددة، قد تظهر النظرية العلمية كومضة إلهام، في حالات الحلم أو ما يشبه الحلم. أثناء النوم رأى كيكوليه تخطيطه لجزيء البنزين، ورأى مندليف ملامح الجدول الذري، ورأى نيلز بور النظام الشمسي كنموذج للذرة. تشرق النظرية العلمية في الذهن كما يشرق أي إبداع إنساني آخر؛ فقد تومض فجأة، وقد تهبط رويدا كضياء الفجر.
لذلك نجد مماثلة بين روح العلم وروح الفن، شاعت في فلسفة العلم في العقود الأخيرة من القرن العشرين. وعمل شيخ فلاسفة العلم في فرنسا جاستون باشلار
G. Bachelard (1884-1962م) بالذات على أن يفلسف العلم والفن معا من المنطلقات القيمية نفسها. عالم الفن من خلق الإنسان، جميع الأعمال الفنية صنعها الإنسان الفنان، وكذلك عالم العلم من خلق الإنسان، وجميع النظريات العلمية من صنع الإنسان العالم، يخلقها ثم يحاول فرضها على العالم لتفسره، فهي «شباك يحاول بها اصطياد الواقع التجريبي، والجهود مستمرة دائما لجعل ثقوبها أضيق وأضيق».
7
ولا يمكن وجود منطق ومنهج لعملية الخلق والإضافة في العلوم أكثر من إمكانية وجوده في الفنون. وكما قيل عن حق: «كعبقرية خلاقة يقف جاليليو ونيوتن وآينشتين على قدم المساواة مع مايكل أنجلو وشكسبير وبيتهوفن.»
وكشأن الإبداع في الفن، نجد الإبداع في العلم يشترط هو الآخر الخيال الخصيب، بدون الخيال لا إبداع علمي، ولن تكون المحصلة أكثر من بيانات إحصائية. الفنان مبدع والعالم مبدع، الخيال شرط الإبداعية، هو الفارق بين الإنسان المبدع القادر على إضافة تصورات مستجدة، وبين الإنسان العادي الذي يظل محصورا فيما هو كائن، دون قدرة على الارتفاع عنه والإضافة إليه. الفنان والعالم كلاهما قادر على الإبداع؛ لأنه مسلح بالخيال، كلاهما ينطلق مع خياله الخصيب إلى أقصى الآفاق، ولكن الفنان يظل وعمله أو إبداعه الفني هنالك في آفاق الخيال، التي مكنته موهبته من الصعود إليها، بل إن الفنان القدير ينتزع المتذوق من عالمه ويجذبه هو الآخر هنالك. أما العالم فسوف ينطلق مع خياله أقصى انطلاقة، تتيح له التوصل إلى فرض جسور. وبقدر جرأة وقوة الخيال، تكون جرأة وقوة الفرض العلمي. وعلى خلاف موقف الفنان نجد العالم عليه أن يعود مجددا إلى عالم الواقع والوقائع، ليختبر الفرض ويحدد مسيره ومصيره. ولن يدخل فرضه عالم العلم أصلا إلا إذا كان قابلا للاختبار التجريبي الجاد، الذي يحكم بكذبه حال تناقضه مع وقائع. بتعبير كارل بوبر، الفرض العلمي لا بد أن يكون قابلا للتكذيب، يحمل في تضاعيفه تنبؤات منطبقة على العالم الذي نحيا فيه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، قد تقوم المحكات المنطقية والرياضية في العلم بدور يناظر دور المحكات الجمالية في الفن، ولكن استشهاد الوقائع والالتزام بهذه الشهادة ينفرد بها العلم التجريبي، وتميز الإبداع العلمي. المسئولية إزاء الواقع هي التي تميز انطلاقة الخيال الإبداعي العلمي عن أية انطلاقة سواها. •••
نامعلوم صفحہ
القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب كخاصة منطقية مميزة للقضية العلمية، تبرز لنا أيضا كيف يتميز المنهج العلمي بدور كبير للأمثلة النافية والوقائع المكذبة. إن مواجهتها والتصويب بهديها وجه من وجوه قصة التقدم العلمي المتواصلة دوما. المنهج العلمي ملتزم بالبحث عن وقائع مكذبة وأمثلة معارضة إن وجدت، مقابل أنماط التفكير الأخرى التي لا تبحث إلا عن الأمثلة المؤيدة والشواهد على صدقها، إن لم تلو عنق الوقائع لتكون شاهدة في كل حال.
مجمل القول، إن التجريبية هي القابلية للاختبار، هي القابلية للتكذيب ... والتقدم المستمر، هي استشهاد الواقع والالتزام بهذه الشهادة، هي الخاصة المنطقية المميزة للعلم التجريبي ومنهجه. إنها المسئولية إزاء الواقع والوقائع، التي تتجلى بوصفها جوهر التجريبية العلمية. ويمكن القول إن هذه المسئولية هي رسالة المنهج العلمي.
المنهج العلمي يستحث العزم على السير في طريق الإبداع واستغلال قوى الخيال المنطلق، ولكنه الإبداع المسئول وخيال تحاسب سبحاته حسابا دقيقا. المنهج العلمي إبداع ومسئولية، عقلانية تجريبية تتآزر فيها الملكات المعرفية، روح نقدية تقدمية تحمل بين شطآنها قيما منشودة من قبيل التخطيط والتفكير الملتزم، والتنافس لحل المشكلات في تعددية الرأي والرأي الآخر، ثم الالتجاء إلى محك الواقع المشترك بين الذوات أجمعين للفصل بين المتنافسين. والأهم من هذا كله البحث الدءوب عن الأخطاء والقصورات الكائنة في كل محاولة إنسانية، والمجال المفتوح دوما للمحاولة أو النظرية الأقدر والأجدر والتقدم الأعلى، وبالتالي الاحتمالية والنسبوية؛ فلا شيء مطلق أو يقيني. نعم هناك التزام ولكن ليس ثمة حقيقة نهائية، تتخذ مبررا لكبح انطلاق العقول والسيطرة، وفرض الوصاية على العقل.
هذه بعض ملامح ناضرة للمنهج العلمي، لاحت لتغري بمزيد من التعريف به والتعرف على عالمه. وطريق التعارف المترسم يقتضي أن نطرح الآن التساؤل: ما «المنهج» أصلا؟
الفصل الثاني
ما المنهج؟
(1) مفهوم «المنهج»: تعريف وتحليل
بادئ ذي بدء نلاحظ أن الدور الاستراتيجي لمفهوم «المنهج العلمي» خصوصا، تكمن من ورائه أهمية استراتيجية أكثر شيوعا لمفهوم «المنهج » عموما، وللمنهجية في كل فكر وفي كل فعل نظاميين. إن المنهج بشكل عام آية دقة، ومفهوم محوري ومرتكز أساسي في كل ما ينزع إلى الجدوى والجدية والانضباط.
وبإزاء هذا الرصيد الهائل، لا بد أن نصل إلى «المنهج العلمي» عبر تعريف مفهوم «المنهج» في حد ذاته، وتحليل دلالته وتطوراته ومتغيراته؛ لكي ننتقل من هذا انتقالا مشروعا إلى مفهوم «المنهج العلمي» تحديدا. إنها تحليلات أولية، تعمل على تمهيد الطريق وتحديد معالمه.
نبدأ بتحليل الدلالة اللغوية والاشتقاقية للفظة «منهج» من حيث الأصول في اللغة العربية والمقابل في اللغات الأوروبية، ثم ننتقل من «المنهج» كلفظة إلى «المنهج» كمصطلح.
نامعلوم صفحہ
وإذا كانت الإتيمولوجيا
Etymology
هي علم البحث في الأصول اللغوية للفظة، فإن التحليل الإتيمولوجي للفظة «المنهج»، على سبيل استكناه الأصول وعمق الدلالات، يقودنا توا إلى صلب في اللغة العربية، وذلك قبل المراسي الشائعة الذائعة في اللغات الأوروبية، التي درجنا على أن نتعلم منها حديث المنهجية!
وقد كانت اللغة العربية وعلومها أولى الدوائر المعرفية في البنية العقلية، التي حملها التراث العربي الإسلامي، وكان لها الدور الفخيم، فلا غرو أن تحمل أصول الألفاظ فيها، وفي مقدمتها لفظة «المنهج»، الكثير الجم من كنوزنا الحضارية المذخورة، التي تنتظر البحث والتنقيب والسبر ... أوليست اللغة العربية هي البحر في أحشائه الدر كامن؟ على أية حال، فإن أصول وتطورات لفظة «المنهج» في اللغة العربية وفي اللغات الأوروبية، معا، تلقي الضوء الكثيف على طبيعة المفهوم ودلالاته ودوره، وكيفية الاستفادة منه.
لفظة المنهج والمنهاج ومرادفاتهما معروفة في لغة العرب، وهي من ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن المنهج لفظ قرآني، ومصطلح تراثي بامتياز. «المنهج» في اللغة العربية هو الطريق الواضح المستقيم، الذي يفضي بصحيح السير فيه إلى غاية مقصودة،
1
بسهولة ويسر. ومن هذا الأصل جرى استعمال لفظ المنهج، لتعني بوجه عام «وسيلة محددة توصل إلى غاية معينة».
2
نهج نهجا تعني اتخذ منهاجا أو طريقا للوصول إلى غاية.
3
نامعلوم صفحہ
ومن عبقرية اللغة العربية نجد اللفظة «نهج»؛ أي تلاحقت أنفاسه من سرعة الحركة لوضوح الطريق ويسره (ومن هذا الأصل تستعمل اللفظة أيضا على عمومها، فيقال نهج من السمنة، أو من سواها). هكذا تتضمن أصول لفظة «المنهج» الإسراع في السير في الطريق لوضوحه، أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته، ويأتي أصل هذه الألفاظ لغة من الجذر نهج وأنهج، ونهج الطريق نهوجا بمعنى وضح واستبان، وصار نهجا واضحا بينا، ونهجته وأنهجته أوضحته، وأيضا سلكته. الطرق الناهجة هي الطرق الواضحة. النهج والمنهج: الطريق المستقيم، والمنهاج: الطريق المستمر.
4
وخير مفتتح لورود اللفظة في تراثنا قوله تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (سورة المائدة: الآية: 48)، وفي حديث ابن عباس، رضي الله عنه: «لم يمت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حتى ترككم على طرق ناهجة.» وقال يزيد بن الخذاق العبدي:
ولقد أضاء لك الطريق وأنهجت
سبل المكارم والهدى تعدي
تعدي معناها أن تعين وتقوي،
5
نامعلوم صفحہ
أما «أنهجت أو أنهج» فتعني الاتضاح، وشق الطريق الواضح: اتخذه وسلكه.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن المنهج - كما ذكرنا - هو الطريق والطريقة، لكان بنظرة أعمق أكثر ظهورا في القرآن الكريم؛ إذ ورد عشرات المرات لفظ الطريق والطريقة، وأيضا السبيل والصراط، «كما ارتبط السياق الذي وردت فيه هذه الألفاظ بالهدى والضلال؛ فالله يهدي إلى سواء السبيل؛ أي الطريق المستقيم، والمؤمنون يدعون الله أن يهديهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم فاهتدوا إلى الطريق، غير المغضوب عليهم، الذين عرفوا الطريق وتنكبوه، ولا الضالين الذين ضلوا وتاهوا فلم يعرفوا الطريق».
6
اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (سورة الفاتحة، الآيتان: 6-7)،
يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم (سورة الأحقاف، الآية: 30)، الضلال يحمل الزلل المنطقي والزلل الأخلاقي معا، المعرفي والقيمي.
والسنة أيضا لفظ قرآني تبوأ موقعا فريدا في الدين الإسلامي وفي التراث العربي، لارتباطه بالدلالة النبوية أو الطريق النبوي، وهو الآخر يعني في أصله اللغوي الطريق، والسنن هي الطرائق، وبالتالي يقترب في دلالاته من لفظة المنهج. والخلاصة أن ثمة دلالات مشتركة في ألفاظ المنهج والمنهاج والطريق والسبيل والصراط والسنة،
7
جميعها تشير إلى طريق مستقيم واضح ميسر لسعي الإنسان ليبلغ به غاية مقصودة، تقع في مستويات مختلفة تبعا للمقاصد المختلفة، ومساعي الإنسان الشتى نحو الغاية النهائية وهي حسن المآل، في الدنيا وفي الآخرة، وتظل «قيمة المنهاج هي اتخاذه طريقا إلى المقصد، والحركة في اتجاه ذلك المقصد».
8
وفضلا عن هذا يحفل القرآن - كما أشار طه جابر العلواني - بألفاظ منهجية في المقام الأول، لا تنفصل عن نمط ومهام وسبل التفكير المنتج، من قبيل: التعقل، التفكر، التفقه، التبصر، الاعتبار، التدبر، النظر، التذكر ... ولكن مقصدنا الآن لفظة «المنهج» تحديدا وتعيينا. •••
نامعلوم صفحہ
وفي خطابنا العربي المعرفي المعاصر توضع لفظة منهج كمقابل سديد للفظة
Method
في الإنجليزية، و
méthode
في الفرنسية و
die Methode
في الألمانية، وسائر البدائل في اللغات الهندوأوروبية، وهي تعني الطريقة والمنهج، وتعود أصولها إلى الكلمة الإغريقية
μεθ0δ05 ، وهي كلمة يستعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر، كما نجدها كذلك عند أرسطو أحيانا كثيرة بمعنى بحث، والمعنى الاشتقاقي الأصلي لها يدل على الطريق، أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.
9
إن المنهج هو الطريق والطريقة، الأسلوب والوتيرة، الديدن والسبيل، المسار والشرعة، الطبع والناموس ... وهو كمفهوم مقنن في الخطاب المعرفي، يراد به تجسيد أسلوب سديد منظم ومثمر، ملتزم بالانتقال من المشكلة إلى حلها ومن المقدمات إلى الغاية.
نامعلوم صفحہ
وقد بات «منهج البحث» هو الاستعمال الأكثر للفظة المنهج في سياق اللغة التداولية المعاصرة في خطابها المعرفي، حيث يفيد «عموم الطريقة، وتتولد منه الإجراءات والأدوات، وتتعلق به الغايات أو المقاصد والقيم الحاكمة».
10
وإذ يغدو المنهج هو «منهج البحث» أو مناهج البحث، فقد بتنا بإزاء مبتغانا ومقصدنا الذي هو؛ أي منهج البحث، منجم أو مناجم نستخرج منها فرائد العلم والمعرفة. دلالة لفظة «المنهج» هنا تشير إلى استراتيجيات العمل العقلي وأركانه وأداته الكبرى، القوة الحقيقية والمجد الحقيقي للإنسان، الذي جعله تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، فهل لحكمته - سبحانه وتعالى - أن ورد الجذر «نهج» في القرآن مرة واحدة، وورد الجذر «بحث» أيضا مرة واحدة، وكلاهما في سورة واحدة هي سورة المائدة؟! رأينا «المنهج»:
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا (سورة المائدة، الآية: 48)، وسبيلنا الآن إلى «البحث ».
في القرآن الكريم:
فبعث الله غرابا يبحث في الأرض (سورة المائدة، الآية: 31) بمعنى حفرها وطلب شيئا فيها. وفي «المعجم الوسيط»: «البحث» لغة هو الحفر والتنقيب، ويأتي بمعنى الاجتهاد وبذل الجهد في موضوع ما، وجمع المسائل التي تتصل به. وفي «المعجم الوجيز»: بحث عن الشيء؛ أي طلبه وفتش عنه أو سأل عنه واستقصى، وبحث الأمر وبحث في الأمر: اجتهد فيه ليعرف حقيقته، وباحثه: أي بحث معه فيه، وتباحثا: أي تبادلا البحث. والبحث في اللغة التداولية المعرفية هو بذل الجهد في موضوع ما وجمع مادته، وهو ثمرة هذا الجهد ونتيجته، ليشمل الاستعلام والاستقصاء، الذي يقوم به الباحث بغرض الوصول إلى نتيجة جديدة، أو تطوير وتصحيح أو تنقيح أو تحقيق نتائج كائنة بالفعل. والخلاصة في «كتاب التعريفات» للجرجاني، حيث: «البحث لغة هو التفحص والتفتيش، واصطلاحا هو إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين الشيئين بطريق الاستدلال.»
11
يفيد «منهج البحث» طريق الدرس والمعرفة والتفكير، ويعني طريقا محددا منظما، وهو مفهوم محوري والمرتكز في أية دراسات مقننة، ومقدمة أولية للجهد المعرفي الرصين الجدير بالاعتبار. منهج البحث يلفت الأنظار إلى مفهوم «المنهج» من حيث هو أكثر من مجرد لفظة؛ إنه مصطلح.
ولئن كان المنهج
Method
نامعلوم صفحہ
كلفظ يعني «الطريق والطريقة»، فإن المنهج كمصطلح في أشد معانيه عمومية يعني طريقة تحقيق الهدف، والطريق المحدد لتنظيم الجهد والنشاط.
واللافت حقا هو دور كبير لعبه «المنهج»، كمفهوم وكمصطلح في تراثنا، أو بالأحرى دور لعبه تراثنا في مضمار المنهج والمنهجية، وبالوقوف على هذا نخرج بأساس لنظرة أكثر شمولا وإطلالة على التاريخ المعرفي لمفهوم المنهج، في التراث العربي، وفي التراث الغربي؛ أي لدن الأنا ولدن الآخر. (2) مفهوم المنهج في التراث الإسلامي
لم يغب عن أعلام التراث الإسلامي في عصره الذهبي، أن طريق البحث والمعرفة على رأس الطرق طرا؛ فورد مفهوم «المنهج» كمصطلح؛ أي كطريق للبحث والنظر والعمل. وجاء في «كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي ليعني: «ما يكون في حد ذاته آلة لتحصيل غيره، ولا بد أن يكون متعلقا بكيفية تحصيله، فهو متعلق بكيفية عمل.»
12
وتصدر مصطلح المنهج عناوين مصنفات عديدة رائدة في تراثنا، ونضرب مثالا بواحد من غلاة العقليين هو ابن رشد وكتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة»، وواحد من غلاة النقليين هو الإمام ابن تيمية، لنجد مثلا كتابه «منهج السنة النبوية في نقد كلام الشيعة القدرية» وسواهما. وليس الأمر مجرد ورود لفظة أو مصطلح؛ فقد شهدت الحضارة الإسلامية منذ بواكير نهضتها نشأة واعدة للمنهجية والفكر المنهجي والممنهج، وفي هذا أهم عوامل تفسير الدور المعرفي الناهض، الذي لعبته في مرحلتها التاريخية.
ولا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتت في مجال المنهج والإنجازات المنهجية. وبخلاف مناهج المتكلمين الجدلية، ومناهج الفلسفة الإسلامية الأفلاطونية المحدثة من ناحية، والبرهانية من الناحية الأخرى، ومناهج المتصوفة الذوقية العرفانية، ومن قبل ومن بعد مناهج العلوم الرياضية والتجريبية عند العرب، التي كانت المقدمة الشرطية المفضية منطقيا وتاريخيا وجغرافيا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا، بخلاف كل هذا الرصيد المنهجي يتقدم علم أصول الفقه بموقعه الفريد في منظومة علومنا النقلية/العقلية، لنجده في جوهره لا يعدو أن يكون علما لمناهج البحث.
كان موضوع هذا العلم رسم الطريق المؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية من الأدلة التي نصبها الشارع؛ أي منهج استنباط الأحكام الشرعية، فأخرج مدرسة كبرى في منهجية الاستنباط، تجعل علم أصول الفقه يتقدم كعلم منهجي بامتياز، يمثل في تراثنا جذرا للعقلية المنهجية ذاتها، وأصول روحها المنبثة في أعطاف حضارة، أنتجت تلك المناهج العلمية وممارساتها.
13
وعن طريق بحث واستخلاص الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسس لها علم أصول الفقه، يكشف هذا العلم عن منهجيات مقننة، استنباطية وتجريبية واختبارية نقدية، تشهد بتوطن الروح المنهجية في ثقافتنا؛ هذا بخلاف المناهج الفرعية التي قام بصياغتها، أو بنقلها من العلوم الأخرى أو بتشغيلها وتطويرها، من قبيل الكلام على التواتر والآحاد، والقراءة الشاذة وحكمها، والأحوال الراجعة إلى متن الحديث أو طريقه، والجرح والتعديل، والناسخ والمنسوخ ... إنها تعطينا تمثيلات لمناهج بحث وطرق استدلالية دقيقة، وتبقى واسطة العقد المنهجي فيما أسماه الأصوليون مناهج الاستدلال على العلة، فضلا عن المنهجية الاختبارية في «السبر والتقسيم» وفي مبحث القوادح، والألية التقنينية في تقسيمات الأحكام ... إلخ. على الإجمال يكشف علم أصول الفقه كما يقول حسن حنفي عن «قدرة العقل الإسلامي على تحويل الدين إلى علم، والوحي إلى منطق، والنص إلى منهج».
14
نامعلوم صفحہ
وكان التطور اللافت في علم أصول الفقه وصورته العامة، بعد مرحلة التأسيس على يد الإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204ه/820م)، إنما في استفادته من العلم الوافد: المنطق الإغريقي الذي أسهم في أن يكتمل أصول الفقه كمنظومة ممنهجة، يعنى بالترتيب والتقديم والتأخير، وتحديد الأصول والفروع، وفي أن يبدأ بجهاز مفاهيمي يتحدد بالتعريفات الدقيقة، اللغوية والمنطقية معا. وشبيه بهذا ما حدث في علم الكلام/علم أصول الدين، أواصر القربى وثيقة بين هذين العلمين أو الأصولين اللذين تشاركا في كثير من الطرق، وقد التقيا على الطريق المنطقي المفضي إلى الفلسفة.
كان مبحث الألفاظ والتعريفات، أو المفاهيم بمصطلحاتنا، هو الذي استفاد فعلا من المنطق وتأثر به، أكثر من مبحث القياس؛ لأن القياس الأصولي يختلف عن القياس المنطقي، مهما استفاد منه وسخره، وفي هذا نستطيع القول إن الإسلاميين لم يتعلموا المنهجية من المنطق الإغريقي، بل إن منهجيتهم الخاصة بهم - والتي تتبلور في علم أصول الفقه - استفادت منه، فألقوا درسا في كيفية الاستفادة من الوافد، وتوظيفه وتشغيله في إطار حضارتهم. •••
لقد كان المنطق الأرسطي أول ما نقله العرب من علوم اليونان، وظل حاضرا في الحضارة الإسلامية في استيعابه وتطويره ونقده. يزدهر المنطق في الأوساط المعنية باللغة، وعناية الحضارة الإسلامية باللغة العربية كانت غير مسبوقة، بسبب لغوية الحدث القرآني؛ الحدث الأكبر في تاريخها. وقديما قالوا المنطق هو نحو العقل، والنحو هو منطق اللغة.
15
ويظل المنطق في مراحله وتطوراته المختلفة هو الظهير المتين، وركن ركين لمناهج البحث في تطوراتها وتحولاتها.
وفي رحاب الحضارة العربية الإسلامية قام المسيحيون السريان في سوريا والعراق، في أواسط القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري بترجمة الكتب الأربعة لأرسطو في المنطق إلى اللغة العربية، راجعها على الأصل اليوناني ونقحها وهذبها الجيل الثاني من المترجمين، وعلى رأسهم حنين بن إسحاق وولده إسحاق بن حنين، وترجموا أيضا شروحا وتعليقات. أصبح المنطق الأرسطي مطروحا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وانفتح المجال لتوالي جهود العرب وإسهاماتهم المنطقية، دشنتها دراسات الكندي - أول الفلاسفة العرب - وتوالت إنجازات المناطقة العرب من فرق شتى، ونذكر في هذا الصدد الجهود المتحمسة لابن رشد في شرح منطق أرسطو. ومنذ البداية أرسي هذا العلم في الحضارة العربية تحت اسم «المنطق»، وهو علم الميزان إذ به توزن الحجج والبراهين، يقول التهانوي: «إنما سمي بالمنطق لأن النطق يطلق على اللفظ، وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة، ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ويسلك بالثاني مسلك السداد، ويحصل بسببه كمالات الثالث، اشتق له اسم منه وهو المنطق، وهو علم بقوانين تفيد معرفة طرق الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها، بحيث لا يعرض الغلط في الفكر.»
16
وهكذا فإنه في إطار انفتاح الثقافة العربية الإسلامية النادر على منجزات الآخر، على ميراث الحضارات والثقافات الأخرى، جاءت العناية المشهورة لأعلام التراث العربي آنذاك بنقل المنطق الأرسطي، الذي يمكن اعتباره أول محاولة متكاملة لمنهجة الاستدلال والتفكير. وأيضا انفتح أسلافنا على ما طرحه المنهج الأرسطي في أخص خصائص العرب؛ أي فن القول في مجالي الشعر والخطابة. الخلاصة ومن المنظور التاريخي الإنساني بشكل عام، أو من حيث المشترك العام، أن مثل المنطق العربي مدرسة كبرى في تاريخ المنطق،
17
وانعكست محصلة هذا الوعي المنطقي في مزيد من تقنين المنهجية في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، وانتظمت في تراثنا مفاهيم ومصادرات وفروض أولية وقواعد وأصول استدلالية وسواها من عناصر فاعلة في منهج البحث، فاكتملت لديهم آليات للبحث وطرائق للتفكير، وكان التراث الرائع الذي خلفوه في شتى مجالات الدرس النظامي، مرة أخرى بسبب هذا الدور الكبير ل «المنهج» في حضارتهم كمفهوم وكمصطلح.
نامعلوم صفحہ
يكتسب هذا المصطلح - وأي مصطلح - موقعا متميزا ويناط به أدوار مترامية النطاق، حين يغدو مصطلحا فلسفيا. (3) المنهج كمصطلح فلسفي
كانت الفلسفة قد نشأت وتطورت في منطقة حوض البحر المتوسط وأقاليم متاخمة، على مدى ما يربو على خمسة وعشرين قرنا من الزمان، ومثلت الفلسفة الإسلامية حقبة هامة من حقبها وجانبا متينا من جوانبها. إن الفلسفة في جملتها تجريد وتجسيد لمسار الحضارة الإنسانية، وفي مراحلها المتعاقبة هي دائما الانعكاس المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية. وقد عنيت الفلسفة أيما عناية بمصطلح المنهج، ومنهج البحث تحديدا. هذا من حيث إن الفلسفة معنية دائما بالمعرفة وطرائقها، وذلك في واحد من أهم مباحثها وهو مبحث الإبستمولوجيا (= نظرية المعرفة)، وكما هو معروف يمكن اعتبار المباحث الكبرى الثلاثة للفلسفة بجملتها، هي نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيمة (أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا والأكسيولوجيا). «المنهج» كمصطلح فلسفي على وجه الخصوص يعني: وسيلة المعرفة، طريقة الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، والطريقة المتبعة في دراسة موضوع ما للتوصل إلى قانون أو نتائج أو محصلة عامة. والمنهج في الفلسفة هو أيضا فن ترتيب الأفكار ترتيبا دقيقا، بحيث تؤدي إلى الكشف عن حقيقة مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقة معلومة.
18
هكذا نجد التعريف الفلسفي لمصطلح المنهج، لا يخرج عن التعريف المعمول به في شتى العلوم، أوليست تنعت الفلسفة بأنها أم العلوم.
والواقع أن سبل الفلسفة خير السبل لتحديد المفاهيم والمصطلحات، هذا من حيث إن وظيفة الفلسفة أصلا هي توضيح وتقنين المفاهيم، حتى قيل إن الفلسفة ليست «حب الحكمة»
19
بقدر ما هي «صداقة المفاهيم». وهذا تعبير أثير في الفلسفة الفرنسية الراهنة على وجه الخصوص. وفي عصرنا الثائر المضطرب، الملبد بالغيوم والضباب الكثيف، لم تعد الفلسفة تستطيع مواصلة الزعم بأنها حب الحكمة، أين هي الحكمة التي يتجلى حسنها وبهاؤها وضياؤها؟ لنتبتل في محرابها ونتصبب بوجدها، ونحن نحيا في عصر التعددية والنسبوية وانهيار المطلقيات. انهار مطلق نيوتن والمطلق في المعرفة إجمالا، والمطلق في الفن وفي الأخلاق وفي السياسة ... وفي أعقاب انهيار المطلق انهارت يقينيات عديدة. إننا في عصر اللايقين واللاحتمي واللاتعين والاحتمالية والشواش ... في مثل هذه الأجواء حري بالفلسفة أن تكتفي بصداقة المفاهيم.
إن الفلسفة كمبحث نظامي ومنشط دراسي محدد وتخصص أكاديمي، إنما ينصب موضوعها ومجالها على المفاهيم تاركة الوقائع للعلوم التجريبية؛
20
فلئن كانت الفلسفة بشكل عام تعبيرا عن مجمل قصة الفكر البشري، في سعيه الدءوب المتواصل نحو المعرفة، وكانت الفلسفة هي الانعكاس المجرد الواعي لسيرورة وصيرورة الحضارة الإنسانية، فإن «المفاهيم» هي لبنات هذه القصة ومرتكزات هذا الانعكاس المجرد ووحداته الأولية.
نامعلوم صفحہ
وقد بات مفهوم المنهج على العموم، ومفهوم المنهج العلمي على أخص الخصوص، في صدارة هذه المفاهيم أو اللبنات، منذ القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وذلك حين أنجبت أم العلوم/الفلسفة مؤخرا، أو في مرحلة حديثة نسبيا من تاريخها الطويل، واحدا من أعز بنيها، المعبر عن روح التقدم المعرفي التي نحياها الآن؛ أي «فلسفة العلوم».
والمبحث الذي يتصدر مباحث فلسفة العلوم, وهو علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا
Methodology ، إنه المبحث الفلسفي المعني بالمنهج العلمي على وجه التحديد، ويمكن اعتباره من أهم فروع الفلسفة المعاصرة، وفي الآن نفسه يمكن أن يفيد شتى العلوم.
لقد بات السبيل ممهدا لأن ندخل في صلب الموضوع: العلم ومنهجه.
الفصل الثالث
العلم والمنهج
(1) تعريف العلم الحديث ومعالمه
الرياضيات ملكة العلوم وهدية الله للعقل العلمي، وكان التآزر بين دقة لغة الرياضيات وصرامة وقائع التجريب، مفتاحا من مفاتيح النجاح المتوالي للعلم الحديث. على أن مفهوم «المنهج العلمي» حين يرد كمفرد علم بألف ولام العهد، يكون المقصود عادة هو المنهج التجريبي؛ منهج العلم التجريبي أو العلوم التجريبية. فهل يمكن قبلا تحديد مفهوم «العلم التجريبي» ذاته؟ ليس المنشود تعدادا وحصرا لفروعه ولشتى العلوم التجريبية، بل تحديدا للمفهوم يبلور طبيعته ويعكس ماهيته.
يمكن وضع تعريف للعلم التجريبي الحديث بأنه: منظومة ممنهجة من الأبحاث، التي تنتج وتعيد إنتاج وتطور وتعمم وتدقق وتنقح، قضايا ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري، ومقدرة توصيفية وقوة تفسيرية وطاقة تنبؤية، منصبة على ظواهر العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، كمتمايز عن عالم الغيب، وأيضا عن عالم الفن وعالم الأيديولوجيا، وعالم التجارب العاطفية والشخصية ... إلخ.
1
نامعلوم صفحہ
وفقا لهذا التعريف، نجد العلم منظومة؛ أي نسق، و«النسق»
system
كل متكامل، يتميز بأن لكل جزء من أجزائه موضعه المحدد، وعلاقاته المنطقية المحددة التي تربطه بالأجزاء الأخرى. وبهذا نتفهم لماذا يمكن أن نستخدم مصطلح العلم كمفرد علم، ليدل على مجموعة هائلة من العلوم الرياضية والفيزيائية، والكيميائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية ... تعد فروعها بالآلاف (وكذلك يقال فلسفة العلم أو فلسفة العلوم). أما أنه منظومة ممنهجة أو نسق ممنهج، فذلك يعني ببساطة أن العلم في تكونه وتناميه المطرد، يشكل كيانا مستقلا يحمل في صلب ذاته حيثياته، وإمكانيات تناميه وفاعلية عوامل تقدمه المطرد. النسقية تعني إحكام المشروع العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصوليات ومحكات وقياسات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدد لظاهرة العلم تخوما تخصصية واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلا صاعدا، يواصل تقدمه باستمرار. البحث العلمي يتبع طرقا وأساليب مترسمة لإنتاج معرفة لها خصائصها المنطقية. وإنتاج معرفة هو إنتاج قضايا إخبارية؛ أي وضع عبارات تعطينا خبرا عن ظواهر العالم وتوصيفا لها، ثم تفسيرا، فتمكننا من التنبؤ بالوقائع المقبلة، وبالتالي السيطرة التقانية (التكنولوجية) عليها وعلى مسارها، أو على الأقل توجيهها وفقا لما يعظم المنافع ويقلل المضار والخسائر.
على أن العلم لا ينتج معرفة أو قضايا فحسب، بل الأهم أنه دائما يعيد الإنتاج. معنى إعادة الإنتاج
prolification
أن كل قضية علمية أو معرفة علمية محرزة، يمكن دائما تصويبها وتعديلها، ولا إنجاز أو إنتاج معرفيا علميا يعني أن البحث في موضوعه قد انتهى، ومهما كان الإنجاز رائعا يظل الباب مفتوحا دوما لمواصلة البحث العلمي، والوصول إلى ما هو أفضل؛ أي إعادة الإنتاج، بعبارة أخرى إعادة الإنتاج هي قابلية العلم المستمرة للتقدم، لإنتاج معرفة أفضل. إنه التقدم المتقد الجبار الذي لم يعد ممكنا تفسيره، كمحض تراكم ونظرية تلو نظرية وكشف بجوار كشف، بل احتل مفهوم الثورة الميدان، وتصدر الواجهة في تفسير طبيعة التقدم العلمي، وأصبحت فلسفة العلم تدور حول التقدم والثورة منذ كارل بوبر
K. Popper (1902-1994م) وتوماس كون
T. Kuhn (1922-1996م) وخلفاء لهما.
والمعرفة العلمية في كل هذا تنصب فقط على العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، العالم المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالم الشهادة، كمتمايز عن عالم الغيب المطلق، الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويؤتى من مصادر معرفية مختلفة عن المنهج العلمي. إن عالم الشهادة بظواهره ووقائعه، وأحداثه الشتى العديدة المتكثرة والمتداخلة، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، هو فقط مجال العلم ومنهجه، وهو العالم الأولي الذي ينبغي فهمه والسيطرة عليه لكي يتيسر وجود الإنسان، فيستطيع الانطلاق إلى العوالم الأخرى أو المستويات المختلفة للتجربة الحضارية والوجودية: العاطفية والشخصية والقومية والفنية ... إلخ. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بتعدد الأبعاد والمستويات والعوالم، ربما لا يكون العالم المادي التجريبي، هو أهم العوالم، ولكنه بلا جدال مستوى أولي مهم، التمكن منه والسيطرة عليه مقدمة ضرورية شرطية، للانطلاق إلى ما هو أعلى وأبعد. والعلم التجريبي هو سبيل العقل البشري لمثل هذا التمكن والسيطرة. •••
العلم
نامعلوم صفحہ