3
لقد كان النموذج العلمي المنهجي في الحضارة العربية الإسلامية «عالميا بمنابعه ومصادره، عالميا بتطوراته وامتداداته»،
4
امتلك وسائل التأثر والتأثير، لغته العربية وحدت العلم ولم تعد لغة شعب أو أمة تضم شعوبا ولغات، بل هي لغة المعارف العقلية، كأول لغة علمية عالمية.
حمل النموذج الإسلامي للبشرية درسا ثمينا في فضائل النزعة الإنسانية، والتكامل والتفتح والتسامح المعرفي، وهي قيم أساسية للمنهج العلمي كمنهج بحث. في العلم الغربي الحديث انفصل المنهج انفصالا بائنا عن القيم والأخلاق، وفي العقود الأخيرة ألحت «أخلاقيات العلم»
5
والبحث العلمي، وباتت في صدر الأولويات، بينما تميز منهج البحث العلمي في الإطار الإسلامي، بأنه تأتى في إطار توجه أخلاقي مثالي عام، ولم ينفصل العلم عن القيمة. •••
لم يكن للعرب قبل الإسلام باع في العلوم الرياضية والتجريبية، إنها ليست كالشعر بل كالفلسفة؛ أي نتيجة لمعلول مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى، التي أحدثها الإسلام، ثم تعاظمت بفعل العوامل السوسيولوجية؛ فشهدت الرياضيات والعلوم في الحضارة الإسلامية، المرحلتين التاريخيتين اللتين مرت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية؛ أي مرحلة الترجمة والنقل، ومرحلة الإسهام والإبداع، ولم تكونا مرحلتين منفصلتين متعاقبتين آليا، بل - بالأحرى - قوتين علميتين متفاعلتين، فيما سمي جدلية البحث والترجمة.
في الترجمة مثل النموذج الإسلامي درسا منهجيا في التفاعل الخلاق المبدع حين نقل المشترك الإنساني العام، الترحيب بالعلم استحسانا للحق حيثما كان أو - كما يقول الكندي - «من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة». لم يبدأ رفض الآخر مثل رفض بعض الأصوليين للمنطق واعتبار العلم دخيلا، إلا في فترات الانهيار تحت وطأة غزو الآخر وسقوط بغداد العام 656ه. وفي طلب الحق دأب الإسلاميون على ترجمة النص الواحد المهم مرة واثنتين وثلاثا، تنقيحا وتجويدا وتطويرا لمفردات اللغة العلمية. المترجمون الأوائل هم الذين قاموا ببناء اللغة العلمية العربية. كانت الترجمة إلى العربية تتقصى نقل أكثر الأبحاث تقدما في ذلك العصر، وكما يقول رشدي راشد، وهو الحجة في تاريخ الرياضيات الوسيطة، لم يكن هذا «نقل نسخ وتقليد واستيعاب، لكنه كان نقل إصلاح وتجديد، أدى إلى خلق فكر علمي وفلسفي مبتكر»، كانت أسسه العقائدية واللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية قد ترسخت. سرعان ما أصبحت الترجمة مهنة علمية ومؤسسة شهدت المترجم الهاوي والمترجم المحترف والمترجم-العالم، ثم العالم- المترجم، إنها «جدلية البحث والترجمة»؛ فكان ثمة ترجمة مرافقة للبحث وفي عين حقله، والترجمة التي لحقت بالبحث مع مثول مسافة زمنية بينهما، وتنتهي إلى دمج النص المترجم في تقليد مختلف عن مجاله الأساسي، مثل ترجمة «كتاب المسائل لديوفانطس السكندري» بمصطلحات الخوارزمي الجبرية . بدأ التخصص وزاد عدد المتخصصين، مما أدى إلى تكوين مجتمع من العلماء والمثقفين، في حاجة إلى معارف جديدة في الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك وعلوم الهندسة والزراعة، ترافق مع هذا توحيد وتعريب وأسلمة الإمبراطورية وأجهزتها الإدارية، منذ عصر الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قام بتعريب الديوان، وصك العملة العربية بدلا من العملة اليونانية. ولدت متطلبات إدارة السلطة وظائف الكاتب والمحتسب وغيرهما التي تتطلب ثقافة عامة. تزايد الطلب على علوم الأوائل، وتزايدت الحاجة إلى الترجمة.
6
نامعلوم صفحہ