وفي كل هذه المراحل الجدلية يظل جوهر المنهج العلمي التجريبي، وأساس الآليات الإجرائية في كل بحث علمي، هو التفاعل بين الفرض والملاحظة، النظرية والتجربة، العقل والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، فلا حسية فجة غشوم أو مفككة، وأيضا لا تحليقات في جنوحات العقل الخالص أو تهاويم في سدم الفكر المطلق. وبالمثل تنفذ نظرية المنهج التجريبي المعاصرة من ذلك الخيار العصيب بين الاستقراء والاستنباط؛ فهي تجمع المجد من طرفيه وتظفر بالمغنمة من الجهتين. هنا في مفهوم المنهج العلمي آية توظيف كل ملكات الإنسان وقواه، وسبله الإبستمولوجية في عملية معرفية متكاملة، ولعلها الأكثر تكاملا من غيرها، لا سيما إذا نظرنا إليها في حدود طبيعة موضوعاتها ومجالاتها. إنه التآزر بين قوى العقل المنطقية والرياضية وبين شهادة الحواس أو استشهاد الواقع والوقائع، مع التسليم بأسبقة العقل وريادته. •••
بهذه الرؤية الجدلية نتفهم بشيء من العمق آلية العقل العلمي التجريبي. والعقل ملك للبشر أجمعين، قال عنه ديكارت إنه أعدل الأشياء قسمة بين الناس، وبتعبير معاصر نقول إنه مشترك إنساني عام، بين الثقافات جميعها، وأن يمتلك الإنسان عقلا، وأن تكون الحواس شواهد ومنافذ للمعرفة بالعالم، فهذه مسألة من أوليات الموقف الطبيعي للإنسان؛ لذا فالمنهج العلمي بدوره هكذا. بعبارة أخرى إذا كان قد اتضح لنا الآن أن جوهر مفهوم المنهج العلمي في تطوراته الشتى، لا يعدو أن يكون التفاعل بين العقل والحواس، فهو إذن - وكما صادرنا منذ البداية أو منذ المقدمة - آلية مفطورة في الإنسان، منذ أن انتصبت قامته واستقام وجوده في هذا الكون؛ لذلك كان العلم نفسه مشروعا ملازما لوجود الإنسان، يسير بدرجات متفاوتة في مراحله الحضارية المتتالية، حتى باتت تتصاعد بمعدل أسي في المرحلة الحديثة والمعاصرة. كل مرحلة أسهمت بما استطاعته، وتفاوتت في هذا تفاوتا كبيرا، وبات سباق التفاوت في عصرنا هذا محموما، وقدر الظفر فيه هو قدر الظفر من الحياة ... أو الموت، التقدم ... أو التخلف.
ليس العلم صنيعة الشرق أو الغرب، العلم أعظم قدرا وأجل خطرا من أن تنفرد بصنعه حضارة معينة، لا الحضارة الغربية بجلال شأنها، ولا الحضارة العربية الإسلامية بعزيز قدرها. ولئن كان العلم الحديث مرحلة متميزة، وتميزت بها الحضارة الحديثة، فإنه لم ينشأ في رحابها فجأة أو من فراغ، بل هو تطور لمراحل العلم الأسبق. وبطبيعة الحال يقترن العلم - في كل صوره ومراحله ودرجاته - بمنهاجه الذي هو في جوهره التفاعل بين العقل والحواس. وفي هذا يتجلى لنا تاريخ المفهوم العلمي عبر تاريخ العلم ذاته، ومن حقنا - نحن المعنيين بفلسفة العلم ومفهوم المنهج العلمي - التأكيد أن تاريخ العلم وليس تاريخ العروش والتيجان والحروب والمؤامرات، هو التاريخ الحقيقي للإنسان وصلب قصة الحضارة في تطورها الصاعد، والسجل الموثق على تطور الإنسان وخطاه التقدمية في استجابته للعالم المحيط ، الذي يحيا فيه عبر امتلاكه العقل المتفاعل مع الحواس كسلاح أكيد، جعل الإنسان بطل الرواية الكونية وخليفة الله على الأرض.
هكذا يبدو مفيدا أن نردف ونكمل تحليلنا العرضي السابق لماهية المنهج العلمي، بإلقاء نظرة رأسية طولية تتتبع تطور العقل العلمي، وفعالية المنهج عبر التاريخ الإنساني وتطوره في المراحل الحضارية المتتابعة، لتكون الإحاطة بمفهوم المنهج العلمي إحاطة أكمل وأشمل.
الفصل السادس
المنهج العلمي في التاريخ القديم
(1) في عصور ما قبل التاريخ
لما كان المنهج العلمي يعود إلى فعالية مفطورة في صلب العقل البشري من حيث هو عقل بشري؛ فقد كان نجيبه الأثير؛ أي العلم ذاته، صلبا من أصلاب الحضارة الإنسانية بأسرها، وأبرز جوانبها إثباتا لحضور الإنسان، الموجود العاقل في هذا الكون. بدأت أصول العلم أو بدأت بواكير ممارسات الإنسان للمنهج العلمي، ببدايات وجوده والتفاعل بين العقل والحواس في استكشاف، وتفهم العالم التجريبي الذي يحيا فيه، لينمو هذا ويتطور عبر الحضارات المتعاقبة، طبعا بمعدلات تتفاوت تفاوتا كبيرا.
ومن ثم يبدأ استقصاء تاريخ المنهج العلمي مما قبل التاريخ، منذ إنسان نياندرتال. إن العلم أقدم عهدا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية - كما يؤكد مؤرخ العلم ج. ج. كراوثر - كانت أول ما تأمله الإنسان حين استقامت قامته، وتحررت يداه منذ قرابة نصف مليون سنة مضت، فبدأ التفاعل بين اليد والدماغ أو بين العقل والحواس. وراح الإنسان يتعامل مع البيئة المحيطة به، في أولى المواقع التي شهدت ظهوره على ضفاف الأنهار الكبرى وموارد المياه الغزيرة، في الصين وجزيرة جاوة بإندونسيا وفي العراق ومصر والجزائر، هدته فطرته العاقلة إلى صنع أدوات من الحجر الصوان تعينه في خوض ملحمة الوجود، ثم استخدام هذا الحجر في توليد الشرر وتسخير النيران في التدفئة والإضاءة والطهو، مثل هذه الأنشطة البدائية أو المبدئية التي تحمل طيفا من أولى ممارسات المنهج العلمي، تعني أن الإنسان بدأ يدرك ارتباطات أولية بين ظواهر الطبيعة وقوانين مبدئية تحكمها، وبدأت تتحدد ملامحه ككائن عاقل.
علاوة على هذا، إذا كانت الرياضيات أقنوم العلم الحديث ورمزه المبجل، وروح المنهج العلمي المحدث تقوم على التحاور بين الرياضيات والتجريب، فإن نقوشا بدائية على جدران كهوف أثرية متوغلة في أعماق التاريخ، قد دلت على أن رموز الأعداد اخترعت قبل اختراع حروف الكتابة، ربما كانت هذه الرموز القديمة التي عثر عليها علماء الآثار في جزيرة جاوة، لا تتجاوز الإشارة إلى عدد أصابع اليد، إلا أنها تدل بشكل ما على أن المنهج العلمي متأصل في صلب أقدم مناحي الإنسان وفي بنية توجهه العقلي. يقول ج. كراوثر: «محاولات أسلافنا الساذجة في استخدام الحجارة هي التي قادت عبر مئات الآلاف من السنين إلى ما يتصف به علمنا اليوم من كمال؛ فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصرية وحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان في صورة بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحول الإنسان تدريجيا من الحيوانية إلى الإنسانية، إذن العلم - بمعنى ما - أقدم من الإنسان.»
نامعلوم صفحہ