4
ولكن حتى بعد أن تقرر الحكومة، أيا كان نوعها، أن تقيم أود طبقة متفرغة، فإنه لا بد لها من تقدير التكاليف وتوزيعها. يستحيل علينا أن نقدر بكم تماما يستطيع المرء - رجلا كان أو امرأة - أن يحافظ على مدنيته؛ لأن التقدير يختلف باختلاف الظروف. لا أعتقد أن الشخص في الظروف الراهنة يستطيع أن يفعل ذلك بأقل من سبعمائة أو ثمانمائة في العام الواحد، والدولة - بطبيعة الحال - هي المسئولة عن الأطفال، وكذلك يستحيل علينا أن نقدر أية نسبة من السكان يجب أن تبلغ ذروة المدنية كي تمدن بقية السكان إلى درجة معتدلة. كل ما يعرفه المرء أن النسبة في إنجلترا غير كافية، ويبدو أن الأمر يحتاج إلى إيضاح؛ إن مقدار الدخل غير المكتسب في البلاد جسيم، وعدد المنتفعين به عديد، وقد يرجع أحد الأسباب إلى أن عددا ضخما من أولئك الذين يتناولون دخلا غير مكتسب - ويجب بناء على ذلك أن ينتموا إلى الطبقة المتفرغة الناشرة للمدنية - يؤثرون أن يضاعفوا دخلهم بالإنتاج؛ ومن ثم فإنهم يصبحون - على أحسن الفروض - نصف متمدنين، وسبب آخر هو أن مقدارا كبيرا من الدخل غير المكتسب يحشر في جيوب قليلة. هناك إذن إجراءان عمليان واضحان لا بد منهما للنهوض بالثقافة البريطانية ، قانون يرغم الأغنياء على التعطل عن العمل، وقانون يلغي تلك الظاهرة الشاذة البربرية، وهي زيادة دخل الفرد عن ثلاثة آلاف جنيه في العام.
وقد تكون هذه نصيحة سياسية طيبة، غير أني أخشى ألا تقربنا كثيرا إلى الإجابة عن سؤالنا هذا: أي نوع من أنواع الحكومة يكون أكثر ملاءمة للمدنية؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال ونحن واثقون ينبغي أن نوجه أولا سؤالا آخر، سؤالا سيكولوجيا: لما كانت الطبيعة البشرية على ما نعلم من حقد وارتياب، فهل يعقل أن يعول الناس بمحض إرادتهم وبعيون متفتحة - من أجل الخير الروحي، ولكن بما يبهظهم ماديا - هل يعولون جماعة من الناس المتفوقين في المدنية يكون لها امتياز خاص، ولكنها في ظاهر الأمر عاطلة عن العمل سعيدة؟ لا يستطيع إلا رجال السياسة وضباط البوليس أن يذكر على وجه التأكيد ما تستطيعه وما لا تستطيعه الطبيعة البشرية، ولهؤلاء أترك هذا الواجب راضيا، ولكني أعرف أمرا واحدا؛ ذلك أنه ما لم يكن الناس قادرين على بذل هذا السخاء المستنير، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تتفق والمدنية.
لم تكن هناك قط ديمقراطية متمدنة، ولكن من الحق كذلك أنه حتى القرن العشرين لم تقم في العالم ديمقراطية، أما فيما نسميه ديمقراطية في اليونان وإيطاليا فلم تكن سوى طبقة صغيرة ممتازة هي التي تمارس السلطة. وبرغم ذلك ولأنه كانت هناك خلال القرن التاسع عشر حركة مطردة نحو الديمقراطية - ولو أن جميع السكان البالغين في أي بلد من البلاد لم يظفروا حتى القرن العشرين من النفوذ السياسي بالقدر الذي يهيئ السبيل له نظام التصويت - برغم ما ذكرت ومن أجل ذلك، فإني لو كتبت هذه المقالة عقب تخطيطها مباشرة - منذ عشرين عاما - لقلت: إن مناقشة مستقبل المدنية في ظل أي لون من ألوان الحكم غير الديمقراطية عمل علمي بحت ربما لا يعود بأي نفع؛ غير أن الحرب قد غيرت كل ذلك. إن الحرب - وما استتبعته من كوارث - قد أثبتت لأبناء هذا الجيل تلك الحقيقة المرة، وهي أن الاستبداد الحربي صورة من صور الحكم لا زالت ممكنة، بل إنها لمحتملة خلال الخمسين سنة المقبلة. ذكرتنا الحرب أن المصدر الحقيقي للسلطان لم يزل كما كان في الماضي لا إرادة الشعب، ولكن هيئة من الناس كاملة التسليح والنظام يمكن أن يوكل إليها تنفيذ أوامر الضباط دون تساؤل. وفي الفترات التي تتوفر فيها الراحة - كما حدث في أخريات القرن التاسع عشر - يميل المرء إلى التغاضي عن هذه الحقيقة؛ لأنه قلما ينشأ في أمثال هذه الفترات موقف يعقد الناس فيه العزم على أن ينفذوا إرادتهم بأكملها بأي ثمن؛ فإن بين ما يحتاج زيد من الناس وما يؤثر عمرو في فترات الهدوء مجال لضروب لا تنتهي من التسوية والتوفيق، ولكن جمال الحرب العظمى - كما عرضه ساسة الحلفاء - ينحصر في أن التوفيق أمر لا يجوز التفكير فيه؛ ومن ثم فإني أعتقد أن ساسة الحلفاء يجب أن يكونوا أقل دهشة مما يبدو عليهم حينما يجدون أن عددا كبيرا من الناس قد أدرك أخيرا أنك إن أردت أن تفرض إرادتك بأكملها على غيرك من الناس، فإن الطريق إلى ذلك هو أن تحمل الآخرين على أن يدركوا أن الأمر إما أن يكون طاعة عمياء أو عذابا وموتا. الحرب أقرت في نفس كل امرئ ما عرفه الفلاسفة السياسيون في جميع العصور السالفة، وهو أن أقوى حجة هي الخوف والقوة. أولئك الذين يستولون على أعظم قسط من القوة ويستطيعون بث الرعب الشامل في نفوس الآخرين يمكنهم دائما - إن أرادوا - أن يحكموا.
وقد رأينا الألوف من الرجال - طبقا لقانون الخدمة العسكرية - ينزعون من بيوتهم ومن أعمالهم وملاهيهم، ويدفعون إلى حياة يمقتونها يعقبها بعد وقت قصير موت يخشونه، وقد التحقوا بالجيش للأسباب عينها التي يدخل من أجلها الغنم المذابح، وأطاعوا لأنهم كانوا يخشون العصيان، وكان الأمر كذلك في كل البلدان المحاربة التي كان التجنيد فيها إجباريا، ولم أقابل قط رجلا أرغم على الالتحاق بالجيش خلال العامين الأخيرين من الحرب لم يقر بأن الدافع الوحيد له إلى القتال هو خوفه من الامتناع عنه، وعلى أية حال، فما إن حل عام 1917م حتى فقدت القضايا التي كان يحارب من أجلها الجندي العادي كل معنى لها، فإن صدر إليه الأمر أن يتقدم إلى نيران الأتون المقدس الذي كانت تضحي عنده الأطفال (نيران ملوك
Moloch ) بدلا من أن يتقدم ضد عدوه، كان الأمر لديه سواء، ولو أن هؤلاء الضحايا المروعون نودوا في تلك السنين من بين صفوفهم لخدمة الإله - وقد نودوا فعلا لذلك - لأدوا ما عهد إليهم من واجبات، وإذن فالحكومة المركزية - التي تعتمد صراحة على الصحافة الموجهة، وعلى المحاكم العسكرية، وذلك الفزع الذي تبعثه في النفوس المحاكمات وأحكام الإعدام - الحكومة المركزية التي تملك النفوذ الذي يحمل الرجال على أداء ذلك، تحمل أيضا النفوذ الذي يحملهم على أداء أي شيء - وقد وجد في روسيا وفي إيطاليا وفي غيرهما من البلدان عدد من الحكام ذوي البصائر النافذة الذين أدركوا هذه الحقيقة.
إن أصدق أصدقاء البلشفية لا يزعمون أنها تقوم على أساس من الرأي العام والعطف، كما أن شعبية الفاشية أمر يبعث على الشك، ومع ذلك فالحكومة الروسية والحكومة الإيطالية تستطيع أن تمنع الإضراب وترغم العمال العصاة على الإنتاج، وهو ما لا تستطيعه أية حكومة ديمقراطية. إنها تستطيع ذلك لأن لينين وموسوليني يملكان الجرأة على تنظيم الحرس البريتوري واستخدامهم دوما استخداما معقولا. وإن النجاح الذي على أساسه أقامت قلة من الرجال القادرين من ذوي العزم والتصميم السلطان المطلق في روسيا وفي إيطاليا - وما يزالون يمارسون هذا السلطان - هذا النجاح لا بد أن يثير الحقد ويجتذب خيال الحكام في البلدان الأخرى ممن لم يصيبوا مثل هذا الحظ، ومن الممكن أن يحتذى في العالم أجمع مثالهم بأية طريقة من الطرق، ولست أعرف أن المدنية تفقد شيئا من قيمتها في نهاية الأمر من جراء هذا التبديل؛ فإن الثورة في أول مراحلها قد تكون هدامة؛ لأن الطبقة الصغيرة المتفرغة التي تنشر المدنية هي عادة أول من يهلك، ومن الطبيعي أن من يبقى من المجاهدين يحس إحساسا قويا بهاتين الحقيقتين: أولاهما أنهم متمدنون، وثانيتهما أن الدمار قد لحق بهم ، فنراهم لهذا يشكون مر الشكوى من وحشية النظام الجديد، ومهما يكن ما تنتهي إليه التجربة فيما بعد، فإن نتائجها المباشرة سيئة بالنسبة إليهم. وهؤلاء المنبوذون المحطمون المجردون من تراثهم لا يمكن أن نتوقع منهم أن ينظروا إلى الموضوع نظرة فلسفية، أما نحن الذين لم يمسسنا سوء تقريبا فليس بوسعنا - إن كنا حقا على شيء من المدنية - أن ننظر إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى. وعند النظر إلى الموضوع نظرة فلسفية لا نملك إلا أن نعترف بأنه ليس هناك مبرر قوي يحملنا على الاعتقاد بأن الاستبداد العسكري الروسي سيسير في اتجاهات تختلف كثيرا عن الاتجاهات التي سارت فيها حكومات أخرى عسكرية مستبدة، ويبدو أن إعادة تنظيم الطغمة الحاكمة هو النتيجة المحتمة للثورة في نهاية الأمر؛ فإن رأس الدولة - سواء كان أغسطس أو لينين أو موسوليني أو نابليون - لا بد له لكي يحكم ويدير أن يجمع حوله جماعة من الزعماء المدنيين والعسكريين، ولهؤلاء نفوذ ورغبات، وما يرغبون فيه هو بعينه ما كان يستمتع به المنبوذون والمحكوم عليهم بالإعدام، ولما كان لديهم من النفوذ ما يمكنهم من إشباع رغباتهم، فلا مفر من أن يشبعوها، وتنشأ طبقة جديدة من الملاك، تتفرع منهم الطبقة المتفرغة، ومن هؤلاء قد تنبثق مدنية جديدة.
ويحتمل جدا أن تتم العودة من الرحلة عن طريق أقصر. قل من الأمور ما تشتهيه الحكومة الناشئة أكثر من الجاه، وباستثناء السلطان الحربي ليس هناك ما يضفي عليها تلك الجاذبية الغامضة ما هو أنصع من الثقافة (ولنذكر عرضا أن تكاليف الإنفاق على الثقافة الرفيعة لا تقاس إلى ما ينفق على بضع حملات صغيرة)، ومن أجل هذا كان من أولى الأمور التي تشغل أذهان أكثر الطغاة الغاصبين رعاية الفنون والعلوم وتشجيع نمو الجماعة المثقفة. ومثل نابليون الأول ونابليون الثالث ماثل في جميع الأذهان، وأكثر الأذهان تعلق بها ذكرى عصر أغسطس وزعيمه الذي منحه هذا الاسم التاريخي. إن تلك المدنية التي حققتها روما، إنما حققتها تحت حكم الأباطرة الأوائل، ومن بين هؤلاء كان أكفأهم - كوسيلة من الوسائل - ذلك الحاكم العسكري المستبد النموذجي هادريان. ويظهر أن كبار الغزاة، كورش والإسكندر وشرلمان وتيمور وأكبر، كانوا جميعا يتعالون بإيمانهم بالثقافة، ولم يكن الأمر يقتضي إلا فترة يسيرة من النضوج حتى يحقق خلفاء جنكيز خان ما حققه الأمراء الرومان، أو أن يبلغوا ما بلغه مديشي في حكم الإمبراطورية الرومانية، ومن المؤكد أن العذوبة والضياء كثيرا ما شعت من بلاط الطغاة والغاصبين؛ لأن الحكام - وإن كانوا لا يستطيعون أن يخدموا الفنانين المبدعين خدمة مباشرة أكثر من توفير النظام والأمن لهم ثم يتركون حبلهم بعد ذلك على غاربه - بوسعهم أن يقدموا للمدنية خدمة كبرى؛ فهم يستطيعون أن ينعموا على طبقة تنشر المدنية ويدفعوا عنها، ومن أجل هذا أفكر في إرسال نسخ من هذا المقال للرؤساء الروس، وللسنيور موسوليني ولمستر ونستن تشرشل.
إني لا أحب الاستبداد، فليس فيه خير أو جمال؛ بيد أني أدهش لتفاهة أولئك القوم الجادين الذين يفترضون - دون أن يفكروا في الأمر لحظة - إنه لا يمكن أن يكون وسيلة للخير، وإذا كان الاستبداد وما يلازمه من استرقاق دائما وفي وقت من الأوقات وسيلة للخير الأعظم - أي إلى الذروة من حالات العقل الطيبة - فلست أعتقد إلا أن الأشرار من الرجال هم الذين ينفرون من استخدام الاستبداد والرق، والواقع أن ما يميل أولئك المحبون للإنسانية الذين لا يفكرون - إن ما يميلون إلى القول به هو أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون خيرا، ولا يمكن لمدنية أن تكون جديرة بهذا الاسم، ما لم تقم على أساس من الحرية والعدالة والديمقراطية ... إلى آخر ذلك. إنهم يجعلون هذه الصفات غايات في حد ذاتها، فيضعون أنفسهم موضعا يثير الضحك؛ لأن الديمقراطية والعدالة وما إليهما ليست لها قيمة إلا كوسائل. إن العالم الذي تسوده الحرية الشاملة أو العدالة الكاملة ولا يتصف بشيء غير ذلك يكون في تفاهة العالم الذي يتلون كله باللون القرنفلي أو اللون الأزرق، ولكي نحكم على مدنية من المدنيات بالتجرد من المزايا لا يكفي أن نبين أنها تقوم على الرق أو الظلم ، بل ينبغي أن نبين أن الحرية والعدالة لا بد أن يتمخضا عن شيء أفضل من هذا.
إذا تساوت جميع الظروف فإني أفضل مدنية تقوم على الحرية والعدالة، من ناحية لأنه يبدو لي أن وجود الرقيق قد يكون هادما لتلك الطبقة الممتازة نفسها التي تنبثق منها المدنية، ومن ناحية أخرى؛ لأن العبيد إذا انحطوا إلى درجة كبرى يصبحون عاجزين عن تقبل أدنى لون من الألوان التي تحاول الطبقة الممتازة أن تضفيه عليهم. إن الرجل الحساس الذكي لا يسعه إلا أن يدرك الظروف الاجتماعية التي يتعين عليه أن يعيش فيها، فإن أدرك أن المجتمع يتوقف في وجوده على رقيق غير طائع فلا بد أن يعود عليه ذلك بإحدى نتيجتين: إما إحساس بالقلق، أو برودة تامة، وإنه ليبدو لي أن الفتور العقلي الذي يؤدي إما إلى الانصراف عن جانب من جوانب الحياة الهامة أو إلى جمود العقل، لا بد أن ينتهي بانخفاض قيمة الإنسان المتمدن كغاية وإضعاف كفاءته كوسيلة، وأنا أعلم أن أحسن الآراء الدينية لا تتفق معي في هذا، فإن قداسة لا تكمل دون تلك النشوة التي تصدر عن التأمل في آلام الآثمين، وكان القديس أغسطين يؤمن بأن من الشر المطلق عند النخبة المختارة أن تشفق على من يلحق بهم غضب الله، ولكن معدتي أضعف من معدة الأسقف: وإنه ليزعج فؤادي في الواقع أن أضطر إلى إلقاء اللوم على الطاهي؛ ومن ثم فإني أوثر ديمقراطية اجتماعية تسند وسائل المدنية من تلقاء نفسها على حكم الاستبداد الذي يكفل وجود طبقة متمدنة بتنظيم الرق، وعلى حكومة الأغنياء التي تخشى أن تعرض مصالحها للخطر فتلقي على زملائهم في المدنية درعا واقيا من رجال الشرطة لحمايتهم؛ بيد أن الديمقراطية المستنيرة التي أوثرها لم نسمع بها بعد.
نامعلوم صفحہ