تصدير
الإهداء
المقدمة
ما ليس بالمدنية
نماذج الكمال
مميزاتهم: الإحساس بالقيم
مميزاتهم: تتويج العقل
المدنية وناشروها
كيف نصنع المدنية؟
تصدير
الإهداء
المقدمة
ما ليس بالمدنية
نماذج الكمال
مميزاتهم: الإحساس بالقيم
مميزاتهم: تتويج العقل
المدنية وناشروها
كيف نصنع المدنية؟
المدنية
المدنية
تأليف
كلايف بل
ترجمة
محمود محمود
تصدير
مؤلف هذا الكتاب الذي نقدمه اليوم لقراء العربية هو الكاتب الإنجليزي كلايف بل، وهو أديب معاصر اشتهر بنقده للفنون وبتقديره للجمال. ولد في عام 1881م وتخرج في جامعة كمبردج، وله نظريات معروفة في فنون التصوير والنحت والأدب، وفي المسرحيات والموسيقى.
أخرج كتابه هذا عن المدنية عام 1928م، وأعيد طبعه عدة مرات، وقد أهداه للكاتبة العصرية «فرجينيا ولف»، واستهله بمقدمة ذكر فيها أن قادة الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) في إنجلترا كانوا يزعمون أنهم يدافعون عن الحضارة، وبهذه الدعوى دفعوا الشعوب إلى القتال، وفي سبيلها ماتت الملايين. هذه التضحية الكبرى في سبيل المدنية هي التي دفعت الكاتب لأن يتساءل عن معنى المدنية، وأن يخرج فيها هذا البحث الذي لا يطمع أن يعرف فيه الحضارة تعريفا دقيقا، وإنما يؤمل أن يقرب مدلولها إلى أفهام القارئين.
ويناقش الكاتب في الفصل الأول من الكتاب بعض تعريفات المدنية الشائعة؛ هل هي احترام حق الملكية، أو ديموقراطية الحكم، أو حب الوطن، أو الوحدة العالمية، أو التمسك بالدين، أو مكانة المرأة في المجتمع، أو الخضوع المطلق لقانون الطبيعة، أو التحلي بالفضائل الخلقية والعادات الحسنة، أو تقدم العلوم، أو توفير أسباب الراحة للجميع، إلى غير ذلك من التعريفات.
ويفندها الكاتب واحدا بعد الآخر، لأنها صفات مشتركة بين البرابرة والمتحضرين.
ويحاول بعد ذلك أن يصل إلى تعريف للحضارة يستخلصه من أهم ما يميز الجماعات المتحضرة، وهي في التاريخ ثلاث: أثينا في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، وإيطاليا في عصر النهضة، وفرنسا في القرن الثامن عشر حتى الثورة الفرنسية. والصفات المشتركة التي تنفرد بها هذه الجماعات هي: «تحكيم العقل» و«الإحساس الصحيح بالقيم» و«تقدير الفن».
وهي مقاييس للمدنية متداخلة وإن تنوعت، وتنبثق منها مميزات حضارية كثيرة : منها إعلاء شأن الفرد فوق الجماعة، وإتاحة الفرصة لكل امرئ لكي يعبر عن نفسه تعبيرا حرا كاملا بغير قيد، وتقدير المعرفة لحد ذاتها لا لما تجلبه للإنسان من منافع، وإعداد النشء للحياة العقلية دون العمل الآلي، وإعلاء الدعوة العالمية فوق الدعوة الوطنية، وسيادة روح السخرية والفكاهة. والشخص المتمدن - عنده - لا بد أن يكون متسامحا، رحيما، يجد متعة في الحياة العقلية ولا يحرم نفسه الملذات الحسية، ولا يؤمن بالخرافة، ذواقة للفن، حسن السلوك، وغير ذلك من الصفات التي يعرضها الكاتب في ثنايا كتابه في إسهاب أو إيجاز حسبما يسوقه الأسلوب والتعبير.
وهو عندما يطبق هذه المعايير على إنجلترا المعاصرة يحكم على بلاده بالتخلف في ميدان الحضارة.
يرى بل أن المدنية مطلب الإنسانية، ولا يمكن أن تتحقق إلا إذا وجدت في الأمة طبقة ممتازة يهيأ لها جو خاص تتوفر فيه أسباب العيش كي تحيا حياة نموذجية نسعى جميعا إلى احتذائها. هذه الطبقة ينبغي أن تتفرغ طيلة العمر، وألا تكلف بعمل من الأعمال، وأن تتوفر لها حرية الفكر، وألا يسند إليها الحكم لأن السلطان يفسد النفوس. ويقول الكاتب هنا: إن فرنسا كانت فيها في القرن الثامن عشر أرستقراطيتان: أرستقراطية الحكم، وأرستقراطية الحضارة، وكانت الثانية تظفر بتعضيد الأولى وتأييدها، ولا يرى الكاتب مانعا من عودة هذا النظام.
ولكي ننهض بالشعوب ينبغي لنا فوق هذا أن نكثر من استعمال الآلات حتى يتوفر الفراغ للناس عامة، وأن نعمل على قلة السكان كي يرتفع مستوى العيش، ولما كانت كل جماعة لا تخلو من السفلة الأدنياء فلا مندوحة عن وجود رجال لحفظ النظام، يكون عملهم حماية المدنية لا فرضها على الناس فرضا، لأن المدنية لا تقوم على استبداد الحاكم بمقدار ما تقوم على إرادة الشعب.
هذه بعض آراء بل في المدنية يفصلها في كتابه تفصيلا شائقا، ويضرب لها الأمثال من الحياة ومن التاريخ في أسلوب جزل يأتلف فيه اللفظ مع المعنى.
وللكاتب في غضون كتابه آراء تقدمية ممعنة في التحرر، لا نوافقه عليها، وكانت أمانة الترجمة تقتضينا أن ننقلها للقارئ كما أوردها صاحبها، غير أنا رأينا في بعض المواضع أن نخفف من غلوائها، دون أن نتحمل تبعاتها، وهي على كل حال تثير التفكير وتبعث على التأمل العميق.
محمود محمود
القاهرة - مايو 1959م
الإهداء
إلى فرجينيا وولف
عزيزتي فرجينيا:
إذا كرمت هذه الرسالة بإهدائها إليك، فإني أفعل ذلك فقط وقبل كل شيء لأني بسحر اسمك آمل أن أسحر قارئيها، ولست أخجل من أن أدين بهذا أو بغير هذا من المنافع لما بيننا من صداقة. ولكن الواقع أن ما دفعني حقا إلى ذلك باعث أكرم وأشد تشويقا، دفعني إليه أنك وحدك من بين رفاقي التي شهدت مولد هذا الابن المتخلف المنكود وتابعت تقلبات الحظ معه. أنت وحدك التي تعرفين أنه أول ثمرة لكل ما تأملت فيه، وكل ما عداه (سوى بعض مجموعات من المقالات) تفرع عنه بمعنى من المعاني. إن تاريخ التفكير في هذه الرسالة يرجع إلى عهد طفولتنا. تذكرين يا فرجينيا، أننا كنا في الأغلب اشتراكيين في تلك الأيام، وكنا نهتم بمصير البشرية، ومن ذلك الاهتمام نبعت الفكرة أولا، ثم التخطيط العام، ولما فكرت - بطبيعة الحال - أن يكون «عملي العظيم»، وهو كتاب يعالج كل أمر هام من أمور عصرنا، لا يغفل منها شيئا، كتاب أسميه «النهضة الجديدة». «وكان خيالا صبيانيا»، على حد تعبير للشاعر هود في مكان ما كما أظن. وبرغم من هذا التفكير الصبياني فقد أدركت حتى في ذلك الحين أن تفسير ما بلغناه يقتضي بيان ما صدرنا عنه. كان مقدرا «للنهضة الجديدة» أن يعرض صورة عن الفن المعاصر، والفكر، والتنظيم الاجتماعي، وذلك بتعقب تاريخ هذه المظاهر للمدنية من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر - أي حوالي عام 1909م - ولكن ما إن حل عام 1911م حتى كنت قد ازددت حكمة - أو على الأقل كبرت سني قليلا - فأدركت أن موضوعي لا تمكن معالجته. من أجل هذا، وبوحي المعرضين الأول والثاني من معارض «ما بعد التأثريين» اجتزأت من كتابي «النهضة الجديدة» فصلا نشرته في ربيع عام 1914م تحت هذا العنوان البسيط الشامل «الفن».
ثم اشتعلت نيران الحرب، فعدلت من آرائي كثيرا بما كان لها من نتائج سياسية واقتصادية - كما سوف يتبين لك بعد قليل - والواقع أن الفرق بين هذه الرسالة وبين الكتاب الذي اعتدت أن أتحدث عنه في غرفة عملك بميدان فتزروي إنما يعزى لهذا الحادث الفاصل، لأن المهزلة وإن تكن ما تزال قائمة، إلا أن ضوءا جديدا قد ألقي عليها وأقصد بالمهزلة منظر ملايين الرجال والنساء وهم يحاولون عن طريق النظام السياسي والاجتماعي أن يحصلوا على ما يعتقدون - بدرجات متفاوتة - إنهم يريدونه، ويسمون ما يعتقدون أنهم يريدونه خيرا، وما إن حل خريف عام 1918م حتى بدأت نظرتي إلى الأمور تتغير، وتحورت آرائي ومعتقداتي. إن ما كان يبدو لي قيما كغايات ما برح كذلك؛ إلا أن كثيرا مما كنت أحسبه وسائل ممكنة لهذه الغايات بدا لي خلوا من المعنى. نظرت إلى المشكلة القديمة نظرة جديدة. وكانت نظرتي جادة، وربما كانت شائقة، في لحظة من اللحظات. ولذا ففي ذلك الخريف أخرجت المخطوط القذر وشرعت أكتب من جديد.
وما برح القدر يترقبني، أو يترقب المخطوط على الأصح. ففي مستهل عام 1919م ألفيت نفسي ناقدا فنيا محترفا وأديبا محترفا - ولم يكن ذلك ذنبي - ومرة أخرى تخليت عن «العمل العظيم»، ولكني استخرجت منه فصلا آخر، ونشرته تحت عنوان «الحرية البريطانية»، وكانت رسالة صغيرة - ولكنها في رأيي تدعو إلى الإعجاب - ولم يلحظها أحد، بيد أني وددت أن أواصل الحديث؛ ومن ثم حملت إلى هذا المكان الهادئ مخطوط عام 1918م واستخلصت منه مقالا من المدنية.
لن تسمعي بعد اليوم عن «النهضة الجديدة» فإن ما تبقى من المخطوط بعد الذي استخلص منه استعمل منذ بضعة أشهر وقودا للنار. هنا تجدين خلاصة جدلنا المعروف القديم، بعد أن حورته الحرب، ولم يحوره شيء آخر، لأنه منذ الحرب، والثورة الروسية والانقلاب الإيطالي، لم يحدث شيء ولم أقرأ شيئا، مما يحولني جديا عن رأيي في المدنية أو عن الوسائل التي تتحقق بها. هنا عصارة خير أيامي وأفكاري مجموعة، وأرجو أن تكون موحدة، حسنة التغليف والطباعة بالتأكيد، يضعها عند قدميك يا عزيزتي فرجينيا صديقك المحب.
كلايف بل
كاسس - أبريل 1927م
المقدمة
لما كانت بريطانيا العظمى وحلفاؤها تقاتل فيما بين أغسطس من عام 1914م ونوفمبر من عام 1918م من أجل المدنية، فلا يمكن - فيما أعتقد - أن يكون البحث فيما عسى أن تكون المدنية غير ذي موضوع، ولقد كان الناس يحسبون أن «الحرية» و«العدالة» من الكلمات التي تكلفنا كثيرا، بيد أن كثيرا من المفكرين من دافعي الضرائب دهشوا عندما أدركوا أن «المدنية» يمكن أن تكلف في اليوم الواحد من الملايين ما لا أذكر عده، وأن قصة ظهور هذه الكلمة في قمة أغراض الحرب البريطانية عجيبة جدا، أجدني مدفوعا إلى روايتها، حتى إن كانت أقل صلة بالموضوع، والواقع أني لا أستطيع أن أشرح كيف اتخذت هذه المقالة شكلها النهائي إلا برواية هذه القصة.
إن أحكم الزعماء الذين قادونا إلى الحرب وخيرهم كانوا ينادون «إنكم تقاتلون من أجل المدنية» وتلقى الجند هذا النداء فقالوا: «التحقوا بالجيش من أجل المدنية»، وقد أفزعتني هذه الحماسة المباغتة لمبدأ لم يبد بشأنه الساسة وضباط التجنيد حتى ذلك الحين إلا قليلا من الاهتمام، أو لعلهم لم يهتموا البتة به، فناديت بدوري: «وما المدنية؟» وأؤكد لكم أن ندائي لم يكن عاليا؛ لأن النداء المرتفع بمثل هذه الأمور في ذلك الحين كان يؤدي بصاحبه إلى السجون. أما الآن - بعد أن لم يعد السؤال جريمة أو خيانة وطنية - فإني أعتزم البحث فيما عسى أن يكون ذلك الأمر الذي من أجله قاتلنا ومن أجله ندفع. وفي نيتي أن أفحص هدفنا الأساسي من القتال. وسنرى إن كان بحثي سوف ينتهي إلى اكتشاف، وإن كان بين هذا الاكتشاف - إذا انتهيت إليه - وبين معاهدة فرساي أي وجه من وجوه الشبه.
دخلت إنجلترا الحرب - إن صح ما أذكر - لأن ألمانيا انتهكت إحدى المعاهدات، والرأي السائد أن حربا أوروبية أفضل من ترك الإساءة بغير قصاص - أو كما يقول المثل: لتأخذ العدالة مجراها حتى إن أدت إلى انهيار البيت. وقبول هذا المبدأ المزعج بغير تعديل ربما أثار في العقول المفكرة إحساسا بالقلق، وهو الإحساس الذي ربما دفع المحررين والساسة - الذين كان عليهم أن يبرروا لرواد الكنائس وقراء الصحف الأحرار إعلاننا للحرب - إلى تعزيز الباعث الخلقي بالباعث الديني. وأيا كان الدافع، فذلك هو ما حدث. فأعلن أحدهم، وربما كان مستر لويد جورج نفسه، أو على الأرجح مستر هوراشيو بوتوملي، هذا النداء الجريء: «الصليب ضد كروب» ورحبت الصحف من بداية الأمر بالحرب باعتبارها أرماجدون (أي مسرحا للنضال العظيم بين الأمم)، فبات من المعقول أن يكون قيصر ولهلم الثاني من أعداء المسيح. وليس من شك في أنه كان يشبه نيرون من بعض الوجوه - ربما كان تذوقه المزعوم للموسيقى- وكانت هناك إلى جانب ذلك نبوءات، وشارات، ونذر في السماء، وملائكة تظهر في مونز، وكلها تميل إلى الدلالة على أن الله في جانبنا، وأننا على الأرجح نقف في وجه الشيطان. غير أن بعضنا لم يقنعه هذا التشبيه، وقد تذكروا ما اعتاد صاحب الجلالة الإمبراطورية من وضع كتيب صغير عنوانه «أحاديث مع يسوع» في أيدي الفتيات الصغيرات، ثم - فوق هذا - هل كان من حسن المجاملة أن نصر على أن هذا الأمر يبلغ مبلغ العقيدة، في حين أن الجمهورية الفرنسية لا تتقيد من الوجهة الرسمية بدين، والميكادو يتبع العقيدة الشنتوية؟ وهل من الحكمة أن نزج بإله المسيحيين في نزاع يتحد فيه الكفار الفرنسيون والجاحدون اليابانيون، والمسلمون والمجوس الهنود، والمتوحشون السنغاليون، ضد إمبراطور النمسا السابق، وهو تلك الدعامة من دعائم الكنيسة الكاثوليكية؟ ولذا، ففي الوقت الذي بدأنا نتساءل فيه إن كان من الجائز أن توصف هذه الحرب وصفا دقيقا بأنها حرب صليبية، اكتشف رجل حذر مثقف، أظنه من كتاب الملحق الأدبي بجريدة التايمز، بأن ما يهاجمه الحلفاء حقا هو نيتشه.
وكان هذا الاكتشاف في أول الأمر نجاحا عظيما، وأصبح نيتشه هدفا يصوب إليه كل منا حماسته وثورته البالغة، ويكفي لإدانته من جانب رجال الطبقة الحاكمة أنه كان ألمانيا وشاعرا، وقد قيل عنه أنه يحتقر التوسط ومن ثم كان لدى الطبقتين الوسطى والدنيا ما يبرر كراهيته، ليسقط نيتشه! وما أمتع الضرب في هذا السافل الدنيء! هذا الرجل الذي زعم أنه يسخر من الأحرار دون أن يعجب بالاتحاد بين الأحرار؛ فلقد كان - كما يبدو - كأنه مصاب بالصرع وداء الخنازير، ولم يكن من الرجال المهذبين. وتحدثنا عنه إلى العمال. قلنا لهم: إنه نبي الإمبريالية الجرمانية، وشاعر بروسيا، وتابع دنيء من أتباع أشراف الشبان الجرمان، وإذا كان منا من درس شيئا الأدب الألماني فخفت كراهيته وبلغت به الخيانة الوطنية أن يجادل في عقائدنا، وصمناه بالغدر وأسكتناه. تلك كانت خير أيام عام 1914م، حينما كانت فرنسا وإنجلترا تدافعان عن باريس ضد نيتشه. في حين كانت الآلات الروسية تدفعه من الخلف.
ومع ذلك، فإن هذا التحصين ضد نيتشه لم يكن كذلك باعثا على تمام الرضا: أولا لأنه مما يجلب على المرء الكآبة أن يقف موقف المدافع في كل مكان، وثانيا لأنه كان من العسير أن تحكم على نيتشه، ومن الشذوذ - فوق ذلك - أن تحارب ضد رجل لم يسمع بوجوده منذ ستة أشهر واحد في كل عشرة آلاف، وقد أردنا ألا نحارب ضد أمر من الأمور فحسب، بل أردنا شيئا نحارب من أجله، من أجل ماذا؟ كانت بلجيكا دولة صغيرة جدا، بل بقعة قذرة، والمسيحية تجافي الحكمة، وتوازن القوى فكرة عتيقة، ونحن أنفسنا سببا بعيد الاحتمال. تطلعنا إلى هدف سام له رنين، وهو برغم هذا مألوف معروف، هدف يفخر به الناس أجمعون ويسرهم أن يدفعوا غيرهم إلى الموت في سبيله، سواء منهم المسيحيون واللادينيون والأحرار، والمحافظون والاشتراكيون، من يحب الحرب دائما ومن يؤمن ببغضها، ومن يغرم منهم بماري كوريلي ومن يؤثر عليها مسترولز، ومن يحب منهم الويسكي ومن يؤثر عليه ليدي آستور، وبعبارة موجزة: سواء منهم من يستمد الرأي من «الديلي نيوز» ومن يستمده من «الديلي إكسبريس». ثم حدث أن طرأ هذا الكشف النهائي الجميل - وهو أننا نقاتل من أجل المدنية - لذهن أكثر شمولا، لذهن رجل لديه حس تاريخي وشعور بأهميته، لذهن رئيس الوزراء أو البروفسور جلبرت موري فيما أعتقد. ثم طرأ لذهني هذا السؤال العاجل: «وما هي هذه المدنية التي نقاتل من أجلها؟».
ولست آمل أن أقدم تعريفا دقيقا، فلقد كبرت الآن عن سن ذلك الوثوق الجليل الذي مكنني من أن أقول للعالم على وجه الدقة ما هو الفن في ستين ألف كلمة، ومع ذلك فكما يستطيع القائد البريطاني أن يشير اعتباطا بطرف عصاه الغليظ إلى خريطة فرنسا، ويقول مخادعا: إن هدفكم يجب أن يكون في مكان هنا على وجه التقريب، فإني كذلك ربما أستطيع أن ألوث بإشارتي مصورا للآراء العامة وأقول: «إن المدنية تقع هنا على التقريب».
ولنبدأ برأي واضح مملول. يبدو أنه من المعقول أن نفترض أن المدنية خير. فإنها إن لم تكن كذلك لما كاد أن يتوقع أحد منا أن ندفع كل هذا من أجلها. وما دامت المدنية خيرا، فلا بد أن تكون كذلك إما كغاية أو كوسيلة. إننا عندما نتحدث عن «مجتمع عظيم المدنية» قد نقصد «مثل المدنية الأعلى» أو «الكمال المطلق» أو «السماء»، وفيما عدا ذلك فإن المدنية ليست غاية من الغايات. ولما كنا عادة نتحدث عن عيوب المدنية ورذائلها، فإن ذلك يشير إلى أنها عند أكثرنا لا تعدو أن تكون وسيلة من الوسائل. إن السماء تتخطى حدود التمدن، وقد يبلغ المجتمع قمة التمدن، ومع ذلك يقصر عن بلوغ المثل الأعلى، ويترتب على ذلك أن الأمر الذي أنا مقدم على تعريفه، أو الذي أحاول تعريفه ليس الخير المطلق، ولكنه وسيلة معينة من وسائل الخير. وسوف أهتم فيما بعد بتقدير قيمته. أما في الوقت الحاضر فيكفي أن تتفق على أنه ما دامت المدنية خيرا وما دامت حالات العقل الخيرة تعد وحدها عادة غايات خيرة، فالمفروض إذن أن تكون المدنية وسيلة كحالات العقل الخيرة، وهذا بالطبع سبب آخر يدعونا إلى الابتهاج؛ لأن أولئك الذين كانوا يقاتلون من أجلها هم أولئك الذين فازوا في المعركة.
وإذا قلنا بأن المدنية وسيلة للخير، فلنذكر أن ذلك ليس معناه أنها الوسيلة الوحيدة. وأراني مضطرا إلى ذكر ذلك؛ لأن الرأي أخيرا قد ساد بأنه ما لم تكن الوسيلة للخير هي الوسيلة الوحيدة، فإنها لن تكون البتة وسيلة، ومن أجل هذا لم يظفر العلم برضا جماعة من المفكرين. ولعلي أستطيع أن أقول جماعة من الكتاب، لغير ما سبب سوى أنه من رأيهم بل ومن رأي أكثر الناس، أن الدنيا التي لا يكون فيها إلا العلم دنيا تنقصها العاطفة وينقصها الجمال، كما أن الرأي الذي يقول بأن العاطفة والجمال والعلم قد تكون جميعها خيرا رأي - لسبب لست أدريه - يمقته العقل الخيالي الجديد المفزع، سواء في داخل البلاد أو خارجها. فالمدنية إذن ليست بالتأكيد هي الوسيلة الوحيدة للخير. وما دامت الحياة وسيلة ضرورية لحالات العقل بضروبها كافة، فهي وسيلة من وسائل الخير، وحيث إن الشمس والمطر من وسائل الحياة، فهما كذلك من وسائل الخير، وليس من شك في أن الحياة والشمس والمطر هي كذلك من وسائل المدنية، ما دامت المدنية بغيرها لا يمكن أن تظهر في حيز الوجود. ولكنها ليست هي المدنية، كما أنها ليست من وسائل الخير بمقدار ما هي من وسائل المدنية فحسب، بل إن الحياة والشمس والمطر والخبز والنبيذ والجمال والعلم والمدنية هي - في الواقع - جميعا من وسائل الخير. وما ينبغي لنا أن نذكره هو هذا: إن الجمال وسيلة مباشرة للخير، والمدنية وسيلة وسط، في حين أن الشمس والمطر والحياة نفسها وسائل بعيدة وإن تكن ضرورية.
وما كنت لأنفق المداد والورق في هذا الغرض لولا أني أدركت أنه يؤدي إلى غيره، مطابق له، ومع ذلك كثيرا ما يهمله حتى أولئك الذين يقبلونه في صيغته الأولى الجلية الواضحة، وبخاصة حينما يستحثوننا على أن نقوم بهذا العمل أو ذاك لصالح المدنية: ذلك أن المدنية لا يمكن أن تكون من وسائل الخير إلا إن كانت وسيلته الوحيدة، وبطبيعة الحال لو كانت المدنية هي الوسيلة الوحيدة للخير، لاستتبع ذلك أن يكون كل أمر يؤدي إلى الخير جانبا من جوانب المدنية، وحيث إن المدنية ليست كذلك، فحري بنا ألا نخطئ في الاختيار والانتقاء. ليس من شك في أن الجن (وهو نوع من أنواع الخمر) والكتاب المقدس من وسائل الخير إذا تناولتهما أيد ملائمة في الوقت الملائم. ومع ذلك فنحن نتساءل إلى أي مدى يبرر التجار الأوروبيون والمبشرون صحة دعواهم من أن ما يحملونه إلى البلدان المتوحشة هو من المدنية. وكثيرا ما كانت العقائد التي لا تنبني على العقل ولا تتسامح، والوطنية العمياء والولاء وسائل لحالات عقلية سامية، وللخير تبعا لذلك، بيد أنها ليست بالمدنية، بل لقد دلت على أنها في أكثر الأحيان معادية لها. المدنية وسيلة معينة للخير. ويجب أن نحذر من أن نزعم بأن كل ما نحب أو نقدر جانب منها. يجب ألا نزعم أنها تشمل كل الفظائع المحببة إلى نفوسنا. فقد نؤثر إيثارا كبيرا أكل شريحة من لحم الضأن المحمر على دراسة الميتافيزيقا. بيد أنه من حماقة الرأي أن نسلم - على هذا الأساس وحده - بأن أكل اللحم من بين هذين العملين العجيبين أقرب إلى المدنية، المدنية - وهي ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وليست مجرد وسيلة للخير - وسيلة معينة، نستطيع أن نعتبرها عظيمة الأهمية، استنادا إلى رأي ساسة الحلفاء، وإلى أسباب هي عندي أكثر متانة وأشد صلابة. ولا زلنا - برغم هذا - بعيدين عن اكتشاف ماهيتها.
إن هذه الصفة «متمدن» كما يعلم أولئك الذين قضوا خير سني حياتهم في دراسة هذه الأمور من الناحية اللغوية، مشتقة من حالة للمجتمع اسمها باللاتينية
civitas
اشتقاقا صحيحا شائعا. وحتى منتصف القرن الثامن عشر كان الفرنسيون يشتقون وصفهم «المتمدن» من الاسم اليوناني «للمدنية»، وعندما نتحدث عن عصر متمدن نقصد أن المجتمع الذي يعيش في هذا العصر مجتمع متمدن. «المدنية» - على الأعم والأصح - تنسب إلى جماعة بشرية مؤتلفة منظمة، وهي - في استعمال أقل في عمومه وفي صحته - تنسب إلى أشخاص، أو مواطنين. غير أن العقل الذي لم يتدرب على التصريف والاشتقاق - حتى هذا العقل يستطيع أن يدرك أن المدنية في الواقع لا بد أن تكون من إنتاج الأفراد المتمدنين، وأن أي محاولة لفهم طبيعة هذه الظاهرة أو لتعليل وجودها تؤدي حتما ومباشرة إلى البشر الذين يبدعونها ويحافظون عليها، والإدراك العام المجرد - فوق هذا - يدلنا على أن الفرصة أمامنا للحكم على الأفراد أجدى وأقرب إلى الاحتمال بكثير من أية فرصة نأمل أن تتاح لنا للحكم على هيئة غامضة متعددة الجوانب كالدولة أو المجتمع. الإنسان قريب التناول، وتستطيع أن تقول شيئا يقرب من التحديد عن رغبات أو ميول جون سمث أو دي سنج، ولكن أي شيء دقيق تستطيع أن تقول عن بريطانيا العظمى أو الصين؟ إذا تحدثنا عن «شرف الصين» أو «مصالح إنجلترا» فمن المستحيل أن نعني شيئا محددا، ومن غير المحتمل أن نعني البتة شيئا. فليست لجميع سكان بريطانيا العظمى نفس المصلحة، وليست لجميع أهل الصين نفس المشاعر. ولكنا نستطيع أن نعين في وثوق العاطفة التي تتحكم في رجل صيني بعينه، وأن نتابع في يقين نوعا من السلوك يكون في مصلحة سمث. ولو أن إنجلترا امتنعت عن إعلان الحرب على ألمانيا لما استطاعت أن ترفع رأسها مرة أخرى كما يعلم كل منا، ولكني أستطيع أن أقول إن سمث يستطيع أن يشمخ بأنفه.
ولما كان الأمر كذلك، فربما يتوقع مني القارئ أن أبدأ بحثي في طبيعة المدنية بأن أحاول الكشف عن العناصر التي يتكون منها الرجل المتمدن، ذلك هو الترتيب المنطقي، غير أن هناك ما يعوق اتباع هذا الطريق. ذلك أن الرأي العام قد يتفق كل الاتفاق على أن جماعات بعينها كانت متمدنة، بل وضالعة في المدنية، في حين أن الرأي لا يمكن أن يجمع بهذه الصورة على الأشخاص. ولما كان مرماي البعيد أن أكشف عن ماهية المدنية، فإن أولى محاولاتي ستتجه نحو اكتشاف الخصائص التي تتميز بها الوحدات المتمدنة باعتراف الجميع. وإذا كنت سأبحث في «الجماعة المتمدنة» قبل أن أبحث في «الفرد المتمدن» فمرد ذلك إلى أن لدينا عن الجماعة المتمدنة «نماذج» يقرها العالم بأسره.
ولكني لن أبدأ بهذا أو بذاك، بل سوف أبدأ بوحدات يعدها العالم طرا غير متمدنة؛ إذ لو صدق حكمي على خصائص هذه الوحدات لوجب أن أصل إلى نتائج معبرة سلبية لها أهمية أساسية، فسوف أعرف ما ليس بالمدنية، ولا يمكن أن تكون إحدى خصائص الجماعة المتوحشة مميزا من مميزات الجماعات المتمدنة. لا يمكن أن تكون إحدى تلك الخصائص المميزة التي أبحث عنها والتي تفرق بين المدنية والوحشية. ولا يمكن أن تكون من روح التمدن. ولن أحاول أن أكتشف ما هي المدنية بالبحث عن روحها في النماذج التي يقرها العالم طرا حتى اكتشف ما ليس بالمدنية. وعندما ألتمس - إن استطعت ذلك - صفات مشتركة في هذه النماذج لا وجود لها في الجماعات المتوحشة أكون قد انتهيت من الجانب الأول من عملي؛ عندئذ أكون قد اكتشفت الصفات المميزة للمدنية.
سوف أصوغ نظرية محكمة. وإن كنت أريد أن يشاركني قرائي فيها فلا بد أن أقيمها على فروض تبدو لهم عادلة. أعني أنه لا بد لي من أن أستخلص الخصائص المميزة للمدنية من النظر في وحدات يقر لها الجميع بالتمدن أو بعدم التمدن. والوحدات الوحيدة - كما ذكرت من قبل - التي يجمع الرأي فيها حقا على تمدنها أو وحشيتها هي المجتمعات؛ ومن ثم تحتم علي أن أبحث عن الصفات المميزة في المجتمعات لا في الأفراد، فإن وجدت هذه الصفات استطعت أن أواصل البحث في مصدرها الذي لا يمكن أن يكون إلا في عقول الرجال والنساء. وإن جماعة من هؤلاء - كما سيتبين لنا - لهي المنبع الحق. وإذا أرسلنا خيالنا إلى حد البحث فيما إذا كنا بتعزيز الأسباب نأمل أن نضاعف النتائج - أي هل نستطيع أن نزيد من المدنية - فلا شك في أننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسائل التي يمكننا أن نخرج بها أعدادا وافرة من أناس ذوي مدنية رفيعة. أما في الوقت الحاضر فلا بد لي من الاتجاه إلى المجتمعات أتلمس فيها الخصائص التي أبحث عنها، ففي المجتمعات وحدها توجد النماذج التي يجمع الرأي على توحشها والنماذج التي يجمع على تمدنها. هناك من هذه المجتمعات اثنان أو ثلاثة على الأقل لا يعارض في سمو مدنيتها أي فرد أصاب من التعليم قدرا معقولا. وسوف أتخذ هذه المجتمعات نماذج الكمال. وهناك ثلاثة أو أربعة مجتمعات أخرى كثيرا ما عدت من بين المجتمعات ذات المدنية الرفيعة، غير أن حقها في هذا الوصف محل تنازع خطير يستند إلى دواع قوية؛ ولذا فلن أتجه إليها.
وكما أن هناك مجتمعات متمدنة باعتراف الجميع، فهناك أخرى يتفق العالم كله على وصفها بالوحشية، وقد تعجب بهذه المجتمعات الوحشية. وقد تعشقها - أو تحسب أنك تعشقها - أكثر مما تعشق المجتمعات المتمدنة. غير أن الإجماع ينعقد على نعتها بالوحشية حتى إن علماء الأنثروبولوجيا يقصدونها ليتلمسوا فيها حال الإنسان البدائي خلال تلك القرون البعيدة أو العصور السحيقة حينما كان ينتقل من البهيمية أو على الأقل من العصر الباليولتك إلى العصر النيوليتك، وقد قام هؤلاء الأنثروبولوجيون العجيبون بدراسات دقيقة في عادات ومعتقدات أكثر الناس وحشية من بين هذه الأقوام المتوحشة، ومن دراساتهم آمل على الأقل أن أعرف ما ليس بالمدنية، ولنذكر أنه ما من صفة - مهما تكن شريفة - يمكن أن تكون من الخصائص المميزة للمدنية، إذا كانت مما تتصف به الجماعات المتوحشة. إن المجتمعات المتمدنة قد تشاطر الجماعات المتوحشة مثل هذه الخصائص بطبيعة الحال، وقد تتصف بها إما كصفات مشتركة بين أفراد البشر جميعا، أو كأثر من آثار البربرية، وكذلك قد تكون هذه الصفات ذات قيمة وجاذبية، وقد يتصف بها كثير من الشعوب ذات المدنية الرفيعة أو أكثرها ولا تقتصر البتة على المتوحشين. ولكن حيث إنها ليست خاصة بالمجتمعات المتمدنة، فلن تعيننا على التعريف، ومع أن بعض الخصائص التي تشاطرها الجماعات المتمدنة مع المتوحشين تشيع بين جميع المجتمعات المتمدنة، إلا أنها ليست من مميزاتها التي تختص بها. وإنما نبحث عن الصفات المميزة (أو الخصائص). نريد خصائص شائعة بين جميع المجتمعات ذات المدنية الرفيعة تخلو منها الجماعات المتوحشة. ولا نأمل أن نعرف ما هي المدنية إلا بعد أن نستخلص هذه الخصائص.
فواجبي الأول إذن هو أن أزيل الموانع من الطريق. يجب أن أستبعد تلك الخصائص التي كان من الممكن اعتبارها من علامات المدنية لولا أن أسفل القبائل المتوحشة وأشدها تأخرا تشاطر المجتمعات المتمدنة فيها، ولهذا الغرض ينبغي أن أكتب فصلا علميا، يبحث في أسفل صفحاته بعض القراء الذين لهم حق التشكك في علمي عن حشد غزير من الحواشي. بيد أنهم سيبوءون بخيبة الأمل. ففي مقالة خفيفة سطحية كهذه لا تجد الحواشي المستفيضة مكانا لها. ولا بد أن يوجد منها القليل، ولكنه القليل فحسب. وقد رجعت في أكثر ما ذكرت في الفصل الأول إلى ذلك المؤلف الثبت الذي وضعه وسترمارك تحت عنوان «أصل الآراء الخلقية وتطورها». هنا يجد القارئ المتشكك الدليل قائما على كل حقيقة مذكورة، بل أكثر من هذا، هنا يجد القارئ سردا رائعا لعقائد الشعوب المتوحشة وأخلاقها، سردا يستند إلى العلم الرصين، مؤيدا بالمراجع العديدة، وموضحا بالطرائف التي تأخذ بالألباب. أما عن الحواشي، فإن اعتراضي عليها في الأدب الخفيف هو أنها تصرف العين من جهة، وهي في أغلب الأحيان - من جهة أخرى - حيلة للتخلص من العمل البغيض الذي يتطلبه تشكيل كتل جامدة من المادة الخام في صورة مقبولة. وإذا تسامحنا في قبول عادة تكرار طبع المقالات وجب أن نتسامح كذلك في هذه الحواشي المطولة المزيدة. فهي تتمة لا مفر منها للصحافة التي تزعم لنفسها الخلود. أما في مقال خفيف ينم عن الصياغة المجملة من أول لفظ إلى آخر لفظ فيه فهي عادة دليل على الضعف وأمر يشق احتماله. ولست أكره التظاهر بالمعرفة، بل إني على النقيض من ذلك أشعر - كما يشعر غيري - بالروعة التي يسبغها على الصحيفة الاقتباس الموفق أو الاسم المهيب، وكذلك لن يفوت على القارئ المستبشر الذي يتحول إلى عقيدتي راحة الضمير وثبات العقيدة عندما يصادفه خلال النص بعض هذه الاقتباسات والأسماء الجليلة، ولكني عندما اضطر إلى الإدلاء برأي من تلك الآراء التي تنتزع من القارئ المعادي صيحة يعبر بها عن تكذيب ما أذكر - عندئذ فقط سأضطر إلى الإشارة في هامش الكتاب؛ كي أرد عن نفسي الاتهام.
من أجل هذا حاولت أن أدخل السرور على مثل هذا القارئ بوصف مقالتي هذه بالخفيفة السطحية، وأؤكد أنها ستكون خفيفة بكل ما في الكلمة من معنى، وربما كانت كذلك سطحية، ولكني عندما استخدمت هذه الكلمة كنت أفكر قبل كل شيء في أحدث دلالاتها. قصدت أنني سوف أحاول أن أكون مفهوما، وإني لأعطف على أولئك الكتاب الذين أرغمهم الفقر أو مقتضيات الخدمة الحربية على الانصراف عن التعليم، وإني لأدرك تمام الإدراك لماذا يعرضون عن أولئك الذين كان هدفهم التعبير عن الآراء في بساطة ووضوح وإيجاز بقدر الإمكان. إن أمثال هذه الأساليب اليائسة تختصر أطول الكتب التي ألفها كثير من خيار أنبيائنا إلى صفحات قلائل. فإذا لم يكن لديك الزبد الذي تكسو به الخبر، فإنك لا تستطيع أن تكسو خبزك بطبقة رقيقة منه. وفي مثل هذا القحط، لا يكون بوسعك إلا أن تغوص في الرغيف متعجبا. ويسمى هذا في الأدب تعمقا. وبالرغم من أن هناك من القراء من يغوص إلى أعمق الأعماق فلا يلاقي هناك أصغر ذرة من الزبد الصناعي فيتشجع على وصف هذه الأعماق بالفراغ - برغم هؤلاء نجد أن الأسلوب العميق يلقى التقدير عادة في أجزاء من أوروبا وأمريكا يتصف أهلها بالنشاط وخفة الحركة. وعلى أية حال، فإن صفات الفئران العمياء التي تثقب الأرض وعمال المناجم الذين يغوصون فيها هي عندي من قبيل التظاهر. ثم إن مقالا من هذا النوع - فوق هذا - يختلف عن الشعر الحديث والفلسفة والخيال الفلسفي الحديث في أنه لا يأمل أن يلقى إعجابا من ذلك الجمهور الضخم الذي يغفل - خلال بحثه عن الحياة - كل الفوارق الدقيقة بين الكلام المعقول والكلام الفارغ. إني لا أجرؤ أن أكون عميقا. وأصارحكم القول إن كاتب هذا المقال كان يود أن يدبجه بكل ما أوتي منتسكيو وهيوم وفلتير من وضوح قليل الغور لو أنه عرف سر سطحيتهم.
وسوف أحاول أن أكون مفهوما لأني أود أن يدرك القارئ ما أقول. ولنفس هذا السبب سأكرر ما أقول، وكان من الممكن أن أتعلم من لوحات الإعلانات - من زمان بعيد - أن تكرار القول هو وسيلة الإقناع، ولكني في حداثتي كنت غرا لا أفهم الناس، فكنت أعتقد أني لكي أنقل إليهم ما أريد ليس علي إلا أن أذكره مرة واحدة في وضوح، وكان في دار النشر لأصحابها السادة شاتو ووندس رجل في مثل سذاجتي، اطلع على مسودات كتابي الأول عن «الفن»، فأشار في رقة بالغة إلى أنني في نقطة من نقاطه - تعريف العمل الفني - ربما بالغت في التكرار. نعم لقد فعلت: و«القارئ» كفرد فذ كان مصيبا كل الصواب، ولكنه كان مخطئا باعتباره ناشرا، بل إني لم أكرر القول بالقدر الكافي للجمهور. وما برح النقاد والأكفاء في إنجلترا وأمريكا حتى اليوم يذكرون أني قصدت «بالعمل الفني» ما قلت على وجه الدقة مرارا أني لا أعنيه؛ ومن ثم فإني أرجو أي قارئ يلاحظ أني في هذا المقال أكرر القول مرارا أن يتفضل بنسبة ما عند المؤلف من إملال إلى خصيصة من خصائص القراء عامة (خصيصة لست بحاجة إلى أن أقول إن السيدة أو السيد الذي تسوقه المصادفة إلى مطالعة هذه الكلمات لا يتصف بها).
ما ليس بالمدنية
ليس احترام حقوق الملكية من خصائص المجتمعات المتمدنة وحدها. حقا إن الحيوان ليس لديه هذا الاحترام، كما أنه ليس لديه آلات من حجر الصوان. وعند الإنسان المتوحش هذا وذاك، وهذا ما يميزه من الحيوان، ولكن لا يجعله إنسانا متمدنا. إن آلات الصوان واحترام حقوق الملكية قد تكون من وسائل المدنية، غير أن الإحساس بهذه الحقوق لا يمكن أن يعد خصيصة من خصائص المدنية، شأنه في ذلك شأن آلات الصوان، بل إن كثيرا من الأغنياء والمفكرين اعتنقوا رأيا يناقض هذا الرأي. غير أن وسترمارك يقول لنا إن قبائل متوحشة عديدة عندها من دقة التفرقة بين «مالي» و«مالك» ما عند قاض إنجليزي، وتكاد السرقة أن تكون مجهولة بين هنود أمريكا الشمالية حتى جاء الجنس الأبيض الذين من الإنصاف أن نذكر أنهم بذلوا قصارى جهدهم في موازنة أي ضرب من ضروب الانحلال الخلقي ربما أدخلوه معهم بإرسال المبشرين يذكرون الأهالي بأن العقوبة الأزلية تنتظر أولئك الذين يخالفون الوصية الثامنة. وعلى أية حال، يجب ألا نظن أن الاعتقاد في الله والحياة الآخرة مقصورة على المتمدنين - وليس هذا الاعتقاد هو خاصيتهم الأولى، بل على نقيض ذلك، نجد أن لدى معظم الأجناس المتوحشة عقيدة حية في الإله، وكثير منها يأكله. وأحط سكان الغابات بأستراليا - وربما كانوا أشد المتوحشين توحشا - يعتقدون في وجود كائن أعلى يضع القوانين الخلقية ويحكم بينهم، بل إنهم ليسمونه «الأب» ويعبدونه في صورة سيد عجوز. إن المتوحشين قلما ينكرون وجود الله. وهم مثلنا يتطلعون إلى مستقبل أعظم.
وفي المجتمعات العامة سمعت السيدات يقلن: إن مقياس مدنية الشعوب هو المكانة التي تخص المرأة بها. ترتفع المدنية أو تنخفض بارتفاع مكانتها أو انخفاضها، غير أن هذا يخالف الواقع، فإن للمرأة عند سكان جزر أندمان، وعند البوشمان والفيدا - وليس بين الناس من هم أقرب منهم إلى الحيوانية، كما يقول وسترمارك - اعتبارا أكبر مما كان لها عند الأثينيين لعهد أرسطو. وبينما نجد أن الذكور في كثير من القبائل المتوحشة - برغم حيوانيتهم يستكينون لزوجاتهم ويضعونهن في مستوى يدنو من مستواهم، كان الصينيون في عصر تانج وعصر سونج - وهما العصران اللذان اشتهرا بالمدنية - لا يرفعون زوجاتهم فوق قدر الماشية إلا قليلا، ومن الواضح حقا أن كثيرا من أكلة لحوم البشر يمتلكون عددا لا يحصى من الفضائل العائلية؛ إذ يتصفون بالرفق والأمانة والجد، والكرم مع أفراد قبيلتهم، والجود مع الأغراب. ويترتب على ذلك فيما يبدو أن ما عند عامة البريطانيين من فضائل ليس خاصا بالجماعات المتمدنة. وكثيرا ما أذهل المكتشفين صدق المتوحشين. ويقال: إن الفيدا من أهل سيلان نماذج تحتذى في الصدق، والأندامان الجزريون والبوشمان «يعتبرون الكذب إثما كبيرا»، في حين أن سمعة الإغريق وأهل كريت سيئة في هذا الصدد، وفي حين أن سكان قارة أوروبا يصفون بريطانيا العظمى بصفة خاصة؛ إذ يطلقون عليها «الغادرة». وكثير من المتوحشين لا يتصفون بالصدق فحسب، بل يتصفون كذلك بالنظافة. فالميجي، وهم شعب ساحل الذهب البائس، الذين يخضعون لأولئك المتوحشين المعروفين باسم منتبي «يغتسلون مرتين أو ثلاث مرات في اليوم» ويغتسلون اغتسالا كاملا، فكم أوروبي من نهاية الإمبراطورية الرومانية حتى اعتلت الملكة فكتوريا العرش اغتسل اغتسالا كاملا مرة في كل عام؟
كما أن عادات كثير من الشعوب المتأخرة فيما يتعلق بذلك الموضوع الهام - موضوع الأخلاق الجنسية - ليثير فينا الحقد إزاءهم. إن شأنهم في ذلك شأن بزول «ينظرون إلى الزنا بعين الفزع»، فالقبائل التي تقطن غابات البرازيل - على سبيل المثال - تتزمت في التزام الزواج من واحدة، وكذلك يفعل الكثير من قبائل كلفورنيا، ومن المؤلم بل ومن العجيب أن البروفسور وسترمارك - برغم هذا يصف هذه القبائل بقوله: «إنها من جنس منحط وضيع .. وهي من أحط القبائل على وجه الأرض» «والكاردوك لا يسمحون بتعدد الزوجات حتى لزعمائهم، وقد يمتلك الرجل ما يستطيع شراءه من إماء، إلا إنه يجلب على نفسه العار لو أنه عاشر أكثر من واحدة». فإن ذلك يشبه عندهم أن يضاجع الرجل المتزوج طاهيته. ولست على ثقة تامة بما يعني الأستاذ وسترمارك بقوله بأن الزواج من واحدة بين قبائل الفيدا والأندمان الجزريين قاعدة يصر الرجال على التزامها بصرامة إصرار الرجال في أية بقعة من بقاع أوروبا، ولكن الأهالي في كارنيكوبار - على الأقل - لا يجلبون اللوم على أنفسهم في هذا. فالرجل من هؤلاء المتوحشين المحترمين له زوجة واحدة، ويعتبر انعدام العفة إثما مميتا، ويعاقب عندهم - وعند كثير من القبائل المتوحشة الأخرى - من يخالف هذه القاعدة بالنفي أو بالموت. يقول وسترمارك: «مما يستحق الذكر أنه ينتمي إلى هذه المجموعة من الشعوب (المجموعة ذات الإحساس الرقيق في هذه الأمور) متوحشون من طراز منحط كالفيدا من أهل سيلان، والإيجوروت من أهل لوزون، وبعض القبائل الأسترالية». وكان يحق له أن يضيف إلى ذلك أنه مما يستحق الذكر أنه بينما يعتبر أسفل المتوحشين انعدام العفة جريمة شنيعة، فإنها كانت تعتبر في أزهى عصور التاريخ زلة صغيرة على أسوأ تقدير. وخلافا لما كان عليه أهالي كارنيكوبار كان أعمق الناس فكرا وأشدهم حساسية في ألمع العصور التاريخية يغضون الطرف عن خطيئة الزنا الشنيعة، بل لقد نادى أفلاطون بشيوعية النساء. وكان للعفة وزن خفيف في حلقة القبياديس، وبلاد هادريان ، وحدائق مديشي، وفي الصالونات التي صاغ فيها فولتير وهلفيشيس وديدرو نمطا عقليا جديدا بشروا فيه بفلسفة اللذة. ويبدو أن سقراط وشيكسبير ورفائيل وتيتيان وقيصر ونابليون ودوق ولنجتون وجورج إليت ذاتها قد عاشوا حياة تجعلهم غير صالحين لأحسن مجتمعات إيجوردت في لوزن. ولم تكن الحال خيرا من هذا في العصور العظيمة من تاريخ الصين. ولذا، فحيث إن أهالي كارنيكوبار يعتبرون انعدام العفة إثما مميتا، فنحن مرغمون على الحكم بأن العفة ليست خصيصة من الخصائص المميزة للمدنية.
ودعنا لا نداهن أنفسنا فنحسب أن حب الوطن فضيلة من فضائل المدنية المميزة لها. فقد عرف بها هنود أمريكا الشمالية، حتى لقد قال كارفر عن النودواسيس: «إن أول عاطفة وأقواها تملكا لقلوبهم هي الشعور بشرف قبيلتهم، وسعادة أمتهم»، وكتب ماك جريجور عن اليوروباس في غربي أفريقيا يقول: «ليس بين البشر جنس أشد منهم إخلاصا لبلده»، ومع ذلك فهذه القبيلة - إن صح ظني - قد اتهمت بأكل المبشرين، وكذلك «كثيرا ما يموت السلومون الجزريون من الحنين إلى الوطن وهم في طريقهم إلى مزارع فيجي أو كوينزلاند» وطبقا لما يقول مستر وليامز أخذ أحد أهل فيجي عند زيارته للولايات المتحدة - بناء على أمر من سيده - يعدد الأوجه التي تتفوق فيها هذه البلاد على بلده، فأسكته على الفور المستمعون من أهل وطنه، وصاحوا قائلين: «إنه رجل ثرثار وقح: اقتلوه» ومهما يكن من الأمر في موضوع العفة، فإنه من الواضح أن شعلة الوطنية تتأجج ناصعة في جزر فيجي كما تتأجج في أي جزء من أجزاء أوروبا. وبالرغم من أنه قل من الأمم الحديثة من يتعلم منهم الكثير، فإن كثيرا من الشعوب المشهورة من قديم ربما أفادت من مثالهم. فأهل الصين مثلا سرعان ما تعلموا - بعد عهد كنفيوشس - من فلاسفتهم أنه يجب علينا أن نحب الناس جميعا على السواء. «وطبقا للكتاب الهندي المسمى بانشا تنترا أنه لا يعتبر الرجل واحدا منا أو غريبا عنا إلا ذوو العقول الضيقة». وقد قال ديموقريطس الأبدري: «إن كل بلد مطروق عند الرجل الحكيم، وأن الأرض بأسرها وطن كل من كان له قلب كريم». كما أن القورنيائيين والكلبيين الأواخر عدوا الوطنية سخرية من السخريات، وتطورت عقيدتهم إلى تلك العالمية الرواقية المتسامحة التي اعتنقها سنيكا وابكتيتس وماركس أوريليس. وكان حكم فلتير النهائي وهو يتكلم عن الحرب: «وأنه من الجلي أن بلدا من البلاد لا يكسب إلا إذا خسر الآخر، ولا يستطيع أن ينتصر دون أن يخلف كثيرا من البائسين».
وأعتقد أنه يجب أن نقر أن الإحساس بحقوق الملكية، والصدق، والنظافة، والاعتقاد في الله والحياة الآخرة والعدالة الأبدية، والشهامة، والعفة، بل والوطنية، ليست جميعا بين الصفات المميزة للمدنية، وإن تكن - برغم هذا - من وسائل المدنية، بل ومن وسائلها القوية الفعالة. ومن الواضح أن روح المدنية شيء لم يحققه المتوحشون؛ ومن ثم فلا يمكن أن يتوقف على الفضائل البدائية، وأن المفارقة بين المتوحش النبيل والرجل المتمدن التي جرت على الألسن في المائتي سنة الماضية لتدل على إجماع الرأي على أن المدنية ليست إنتاجا طبيعيا. ويجب أن نتوقع أن يكون لها شأن بالصفات التي اكتسبتها الإنسانية أخيرا - الشعور بالذات وروح النقد. يجب أن نتوقع أن تكون نتيجة من نتائج التربية، فالمدنية شيء مصطنع.
غير أن هناك رأيا متخلفا يستند أساسا إلى علم ناقص يتمشدق به المدعون وأنصاف المتعلمين. والمدنية بناء على هذا الرأي تتوقف على الخضوع المطلق لقانون الطبيعة.
1
والشعار الذي ينادي به أصحاب هذا الرأي هو «خل الطبيعة وشأنها»: إن مملكة الحيوان ومملكة النبات هما مثال التمدن. وهم يقولون بأن الإنسان قد أفسد الأمور؛ لأنه لم يسمح للأصلح بالبقاء، ولن نكون حقا متمدنين حتى نترك الضعيف للموت، وحتى نقر بصفة رسمية أن القوة هي الحق. عندئذ يرث الأرض الصالحون. وهنا يتبادر إلى الذهن بالطبع هذا السؤال: ومن هم الصالحون؟ إذا كان الناقصون من الناحية الجسمانية قد نجحوا في تنظيم المجتمع بحيث أصبح طلبة جامعة لندن لا يخشون بأس رجال الشرطة الذين يحدقون بهم، أفلا يجوز أن يكون ذلك لأن الناقصين من الناحية الجسمانية هم المتفوقون في الناحية العقلية؟ وإذا وثقنا فيما روته كتب المراجع، فقد كان التطور نتيجة للمكر كما كان نتيجة لقوة الأعصاب. ألم يكسب الإنسان ذلك الحيوان الثديي الضعيف في معركة البقاء ما لم يكسب الماموث الضخم العظيم، وحتى بين بني الإنسان ربما لم يبق إلا من كان أصلح للبقاء. يبدو لي أن حجة الطبيعيين متناقضة، إذا كان بقاء الأصلح من قوانين الطبيعة، فإنا نستطيع أن نفترض أن الأصلح للبقاء هم الباقون فعلا. وليس من غير المحتمل أن تصبح الحرب الحالة الطبيعة للبشر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المستقبل سوف يكون مع أولئك الضعفاء الماكرين الذين يكيفون أنفسهم لظروفهم بابتداع الوسائل التي يتحاشون بها الخدمة العسكرية، كما حدث في العصر الجليدي أن بقيت تلك الأنواع التي عرفت كيف تحمي نفسها من حدة المناخ. يقول طلاب العلم: «لقد تدخلتم مع قانون الطبيعة»، ونجيبهم بقولنا: «هذه هي طبيعتنا».
وأخشى أن يطرق أذن العالم البيولوجي المتحمس كلامي هذا كما لو كان سفسطة وشرا. وإذا ما أدرك أنه ينهزم في الجدل فالأرجح أن يلجأ إلى قواعد الأخلاق. وقل من يستطيع أن يتكلم بنغمة خلقية عالية مثل رجل العلم الذي لم يتم نضوجه. فهو يصم - وضميره مطمئن - بالميوعة والتقلب والخيانة والجبن والوضاعة والسخف والاندفاع وراء العاطفة. والشر المطلق - يصم بهذا كل من يعتقد أن من واجبنا ألا نهمل الكسيحين من الأطفال حتى الموت، وألا نخنق الفنانين المصابين بالدرن، وألا نكل إلى البروفسور راي لانكستر اختيار حبيباتنا. يقول هؤلاء العلماء ساخطين: «ينبغي لنا» ولكني أتساءل: أليسوا في هذا أيضا متناقضين؟ ليس في الطبيعة ما «ينبغي» وإنما فيها ما «يكون». حينما يقول العالم البيلوجي: إنه لا ينبغي لنا ألا نتدخل مع الطبيعة، فهو يزن الرأي وزنا خلقيا لا طبيعيا. وإذا كانت المعايير الخلقية تتخذ أدلة في صالح قانون الطبيعة، فهي يمكن أن تتخذ أدلة ضدها بنفس القوة، فنستطيع أن نقول: إنه مما يؤذي حسنا الخلقي أن نقتل الأطفال والشعراء والمصابين وكل من يفقد الأمل في بلوغ المستوى (ب-1) من الكفاية، فإن مثل هذا العمل لا يؤدي في حكمنا إلى حالات عقلية طيبة. ويقول طالب العلم عابسا: «حسنا، ولكن ثقوا أن الإنسان إذا رفض أن يطيع قانون الطبيعة لا بد أن يهلك»، فنجيب قائلين: وإذا كانت الغاية والغرض الوحيد من وجود الإنسان ليس إلا أن يحافظ على نوعه، وإذا لم تكن للفرد قيمة إلا أن يكون وسيلة لهذه الغاية، فهل يكون ذلك أمرا ذا بال؟ إنه إذا تحتم على أي نوع من أنواع القردة أن يفنى فإن ذلك لا يعني البتة شيئا، وإذا كان الإنسان لا يعيش لأي غرض سوى ما يعيش من أجله القردة، فإن استمرار بقائه يصبح كذلك عديم الأهمية. أما إذا سلمنا بأن الإنسان يعيش من أجل غرض آخر غير الاحتفاظ بنوعه انهار البناء الشامخ كله من أساسه. إذ ربما كانت من أجل هذه الأغراض الأخرى عينها حمايتنا للضعيف واحترامنا للفرد.
إن المشكلة التي أردت أن أجلوها لمصلحة طالب العلم في ساوث كنزنجتين هي هذه: إما أن يكون الحق فيما هو كائن، أو أن الإنسان أوسع معرفة من الطبيعة، وليس في الحالة الأولى ما يدعو إلى الاعتراض، أما في الحالة الثانية فإن لدى العالم البيولوجي مجالا أوسع للاعتراض. فالماستدون (حيوان منقرض يشبه الفيل) بعدما فشل في نضاله من أجل البقاء، تلاشى من الوجود، وأخذ مكانه نوع آخر يحمل رسالته، رسالة الاحتفاظ بالجنس، وهكذا سارت الأمور سيرا حسنا. وكذلك إذا فني جنس علماء سوث كنزنجتين، وحل محله جنس آخر أقدر منه كفاية من الناحية البيولوجية، فماذا يكون الضرر من ذلك؟ إن الأمور هكذا تسير كذلك سيرا حسنا، ويتحقق غرض الطبيعة. لماذا نأخذ على عواتقنا الاحتفاظ بعلماء سوث كنزنجتين ما لم نعتقد أن هدفهم يختلف عن هدف الطبيعة ويدق عنه؟ هنا يقاطعني القارئ متسائلا: «لماذا تفضح نفسك بهذا الانفعال وتلك الإطالة؟ لا شك أن عبارتين اثنتين كانتا تكفيان لإقناع أي فرد بأننا لا نعني بالجماعة المتمدينة نوعا كامل التنظيم لمجرد الاحتفاظ بنفسه؟ أليست النمال كذلك؟».
بقي أمر أو أمران آخران يصح أن نشير إلى أنهما ليسا من المدنية. فهناك مثلا الحيل الميكانيكية المعقدة، إنها ليست من روح المدنية كما ظن بعضهم، ومن الغباء والخيانة الوطنية أن نحسب أن ألمانيا قبيل الحرب كانت أرقى مدنية من فرنسا برغم أن الألمان في تطبيق العلوم على الصناعة كانوا يفوقون كل الأمم، ربما باستثناء شعب الولايات المتحدة، ولا يتصور أحد أن ملبورن تبلغ اليوم ما بلغت أثينا في عصر بركليز. ونحن على ثقة من أن آخر من يقع في مثل هذا الخطأ هم أرقى المتعلمين من أهل هذه المدينة العظيمة المضاءة بالكهرباء، والتي يسير فيها القطار والترام. إن كثيرا من الفرنسيين يقرون مرغمين أن باريس نفسها في الوقت الحاضر أقل مدنية من أثينا لعهد بركليز، والفرنسيون جميعا، بل وكل المتعلمين من الأمريكان، يتفقون على أن باريس الحديثة أرقى مدنية من نيويورك في حين أن أحدا لا ينكر أن باريس متخلفة في طرق النقل والمواصلات، وفي الإضاءة والتنظيمات الصحية.
اعتدت بعد الحرب الروسية اليابانية مباشرة أن أتناول عشائي في مطعم بحي سوهو، حيث اعتادت فئة من صغار الشبان المثقفين أن تجتمع مرة كل أسبوع بأحد الضباط البريطانيين الجذابين المتواضعين الذين عاشوا طويلا في عالم من واجبهم أن يتغابوا فيه حتى ينسوا تماما مبلغ ما لديهم من ذكاء. وأذكر أننا شرعنا نناقش موضوع هذه المقالة «ما هي المدنية؟» وكانت الفابية متقدمة جدا في ذلك الحين، وأكد بعضنا أنه لا يجوز أن يوصف المجتمع بالمدنية إلا إن عني بالفقراء والمرضى والمجانين، ورأى بعضنا (وكانت الجماعة تضم بعض السيدات) أنه ينبغي أن يكون في الجماعة المتمدنة صوت لكل من يبلغ سن الرشد. ورأى آخرون أن الشعب المتمدن حقا يجب أن يمنح كل شاعر وفنان خمسمائة جنيه في العام، وأن ينشئ معارض للصور في مدن الأقاليم - ورأى آخرون غير هذا وذاك، ولكن ربما لم تعد لآرائهم من الأهمية اليوم ما كان لها في ذلك الحين. وأما الضابط فقد قال : «لا أستطيع أن أقول لكم ما هي المدنية، ولكني أستطيع أن أقول لكم متى يقال عن الدولة إنها متمدنة. إن أولئك الذين يتفقهون في هذه الأمور يؤكدون لي أن اليابان كان لها خلال مئات السنين فن رائع وأدب عظيم، ولكن الصحف لم تذكر البتة أن اليابان متقدمة في المدنية حتى اشتبكت في حرب انتصرت فيها على دولة أوروبية كبرى». وكان لهذه السخرية موضعها، ولكن الضابط الهمام نفسه ربما كان آخر من يعتقد أن الكفاية في التسليح هي في الواقع مقياس للمدنية. وإني واثق من أنه يستنكر أشد الاستنكار أن يكون البرابرة الذين اجتاحوا الإمبراطورية الرومانية قوما متمدنين، أو أن التتر الذين قهروا أسرة سنج وهدموا في أواسط آسيا الثقافة الإسلامية كانوا أكثر من زمرة من الوحوش الضارية. وكنت أستطيع أن أقنعه ببعض الأمثلة. وكنت أستطيع أن أجابه أولئك المحبين للبشرية بهذه الأمثلة التي تحير اليوم - أو ينبغي أن تحير - كل من يقيس التمدن بالتقدم الآلي، أما ذلك الذي (أو تلك التي) يعتقد أن المجتمع المتمدن هو المجتمع الذي يكون لكل بالغ فيه صوت فإنه (أو فإنها) إنما يتحدث كلاما خلوا من المعنى بشكل جلي. إن النظم السياسية قد تكون من وسائل المدنية وقد لا تكون. ولكنها ليست من روحها. وكثير من القبائل المتوحشة يحكمها زعماء مستبدون في حين أن غيرها يبدو ديمقراطيا، وقد كانت أثينا في أزهى عصورها أوليجاركية من المواطنين الأحرار يعيشون على كدح عبيد ليس لهم حق التصويت. وكادت فرنسا في القرن الثامن عشر أن تكون ملكية مطلقة. فنحن على ثقة من أن المدنية تتعلق بشيء أبعد غورا من أشكال الحكومات.
لقد نجحت الآن - بدرجة أرتاح إليها - في أن أبين أن بعض الصفات التي يظن في بعض الأحيان خطأ أنها من خصائص المدنية ليست - في الواقع - منها في شيء. وقد حاولت أن أستبعد كل ما ليس بالضروري. ورأينا أن الفضائل البدائية لا تتنافى وحالة الهمجية، وأن الأسماك الهلامية تطاوع قانون الطبيعة. ورأينا أن المجتمعات المتمدنة - أو المجتمعات الهمجية - لا يسودها نظام معين من النظم السياسية، كما رأينا أن القبائل المتوحشة قد أحرزت انتصارات عظيمة وتغلبت على دول قوية. ورأينا أن تلك الجماعات التي يقر لها الرأي العام بين المتعلمين في العالم طرا برقي المدنية لم تبلغ فيها جميعا المخترعات الميكانيكية أو النظم التي تؤدي لخير الإنسانية درجة من الكفاية المرموقة، وإن كنت في هذا أمس موضوعا يتعلق بفصل آت من فصول الكتاب. وسأبحث في الفصل الآتي عن الصفات المميزة المشتركة التي تتصف بها الجماعات التي يقر لها الرأي العام المثقف في العالم طرا برقي المدنية، وسوف أعتبر هذه الصفات أسس المدنية، ولذا فإن كل من لا يشاطر الرأي العام المثقف الاعتقاد في المدنية الرفيعة لدى هذه المجتمعات لن يجد ضرورة لما أصل إليه من نتائج ما دام ينكر ما ابتدأت به من مقدمات. ولن تكون لهذه المقالة عنده قيمة أكثر من أهميتها من الناحية العلمية. وإني لأزعم - بناء على إجماع الرأي العام المثقف الذي يكاد أن يكون شاملا - رقي المدنية في مجتمعات ثلاثة مختلفة.
ولست أزعم، بل ولا أحلم أني أزعم، أن هذه المجتمعات وحدها هي المتمدنة. إنما اخترت المجتمعات الثلاثة التي يبدو لي أنه ليس على رقي مدنيتها أي نزاع، والتي تصادف أني أعرف عنها بعض الشيء. هناك مجتمعات لها حق قوي في أن تعد من المجتمعات المتقدمة في المدنية، غير أن هناك من يدلي إزاء هذا الحق بحجج قوية تنافيه، ومن الواضح أنه لا ينبغي لي أن أتجه إلى هذه المجتمعات باحثا عن مميزات المدنية، كما أن هناك مجتمعات أخرى، نسلم جميعا بتمدنها، بيد أنه عند البحث يتبين لنا أنا لا نعلم عنها إلا القليل حتى إنا لا نكاد نستطيع أن ننسب إليها صفات معينة ونحن واثقون. وإني لأشعر - رغم هذا - أن كثيرا من الناس يصرون على الإضافة إلى القائمة التي تخيرتها. وإني لأرجو هؤلاء الناس ألا يعارضوني فيما وصلت إليه من نتائج حتى يتثبتوا من أن الصفات المشتركة بين المدنيات الثلاث النموذجية التي تخيرتها لا تشاطرها المدنيات التي يودون إضافتها. ولست أرى داعيا لأن نعتبر ما بيننا خلافا أساسيا ، حتى إن هم رأوا من الضروري أن يدخلوا بالإضافة أو بالنقصان تعديلا في القائمة التي قدمتها عن صفات المدنية. فسوف يظل بيننا ميدان مشترك يكفي لتدعيم تعريفي، وسوف نرى.
نماذج الكمال
اعتاد المؤرخون الذين ينهجون النهج القديم، والذين يتميزون بأسلوب منمق ممتع في معالجة الماضي أن يحددوا في بيداء التاريخ أربعة عصور من المدنية الرفيعة: العصر الأثيني (بل يجب أن أقول العصر الأيوني، إذا أردت الدقة، ولكني لا أعتزم أن أكون دقيقا) من موقعة ماراتون في عام 480ق.م. حتى وفاة الإسكندر في عام 323ق.م. والقرنين الأول والثاني من الإمبراطورية الرومانية، وإيطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وفرنسا من نهاية الفروند (1653م) حتى عصر الكاتب، إن كان الكاتب - مثل فلتير - يكتب في القرن الثامن عشر، وحتى الثورة إن كان يكتب في القرن التاسع عشر. ولا أحسب أن شخصا متعلما من الأحياء - رجلا كان أو امرأة - ينكر رقي المدنية في ثلاثة من هذه العصور الأربعة. ولكن كثيرين يترددون عند ذكر اسم روما، وآخرون يحبون أن يضيفوا تانج وسنج، وما يعرف معرفة غامضة، أو يتحدث عنه باسم المدنية الفارسية. ويكاد الكل أن يجمع على أن يضع المدنية الأثينية على رأس القائمة، غير أن بعضهم يحدد هذه التحفة الاجتماعية بذلك المدى الضيق الذي يمتد خلال ستين عاما مشرقا ما بين 480 وعام 420، ويطلق عليه عصر بركليز، في حين أن بعضهم الآخر يطيل المدى حتى أرسطو والإسكندر، ويمده إلى الوراء حتى سولون. إنني لا أرضخ لأحد في إعجابي بالقرن السادس فيما بلغ من فن النحت الذي أعده أعلى مظهر من مظاهر عبقرية الفنون التشكيلية عند الإغريق، وإعجابي بالحركة العقلية القوية التي منها ينحدر كل تفكير حديث جدي، وبرغم هذا فإني أشاطر الرأي العام عزوفه عن وصف القرن السادس بالمدنية الرفيعة. في حين أني أخلع هذه الصفة دون تردد على القرن الخامس، وبغير تردد شديد على القرن الرابع. وينطوي هذا الاحساس - الذي أعتقد أن أكثر المتعلمين يشاطرونني إياه - على أهمية كبيرة؛ ذلك أننا نحس أن مدنية عصر من العصور لا تقاس كلية بجمال فنها أو بروعة فكرها. إنا نشعر - أو أنا على الأقل أشعر - أن عصر المدنية الأثينية الرفيعة لا يبدأ قبل ماراتون، في حين أني لا أستطيع بأن أقر بأن هذا العصر ينتهي قبل موت أرسطو في عام 322ق.م. وإن كان يؤلمني أن أعرف انحطاط الفترة التي تلت الحرب في يقظتها العامة، وفي المذاهب الخاصة وإن يكن ذلك بدرجة أقل. أما الفترة التي تقع بين سولون واندحار الفرس نهائيا، فهي تبدو لي - كما تبدو لأكثر الناس - فترة عظيمة، ولكنها ليست كاملة التمدن. في حين أن الفترة التي تقع بين سقوط الديمقراطية الأثينية وغزوات الإسكندر فهي أقل عظمة، ولكنها أرقى في سلم المدنية. ومهما يكن من أمر، فإنه لا يحتمل الآن أن ينكر أحد ذلك الشرف الذي قد تخلعه هذه العبارة «المدنية الرفيعة» على عصر أفلاطون، وما تلاه من عصر أرستوفان وبراكسيتيلس وأرسطو. وقل من ينكر أن هذه الفترة جزء لا يتجزأ من المدنية الأثينية العظيمة التي سوف أعود إليها بين الحين والحين، والتي لا بد بحق أن يدرسها في تعمق وبعقل متفتح كل من يأمل أن يكتشف طبيعة المدنية.
ومن المؤكد أن حق أي فترة من فترات التاريخ الروماني في احتلال مكانة بين عصور المدنية الكبرى - من المؤكد أن هذا الحق يلقى اليوم اعتراضا حارا ذا أثر بالغ. ولن تجد بين النماذج الكاملة للمدنية التي أقدمها فترة رومانية. ولو أني لخصت هنا الحجج التي أقنعتني أنه لا يجوز قبول إحدى هذه الفترات، فمن الواضح أني أتعجل بذلك في ذكر نتائج أرجو أن أبلغها بعد قليل. وما دمنا لم نقرر بعد ما هي صفات المدنية فلا أستطيع أن أزعم أن روما كانت تخلو من هذه الصفات، وكل ما أستطيعه أن أشير إلى الدليل الذي حدا بي إلى إساءة الظن بالعقل الروماني والإحساس الروماني. ولنذكر أن ذلك كله لا يقوم دليلا - ولا ينبغي حقا أن يكون - ضد حق روما في المدنية الرفيعة. ولا يصرفني عن النظر في تاريخها إلا أن كثيرين ممن لا يمكن أن نغفل إنكارهم للمدنية في روما ينازعون نزاعا جديا حق الرومان فيها، وعلى أية حال فلن تبلغ بي قلة الصراحة أن أزعم أني لا أشاطرهم سوء الظن بتاريخ الرومان. وسوف أبادر إلى ذكر الأسباب أو بعضها التي تدعوني إلى ذلك. أما لماذا - على وجه الدقة - أحسب أن روما لم تكن قط رفيعة المدنية فلن يتضح تماما إلا خلال مقالتي.
يعتقد فلتير أن الثقافة الرومانية بلغت أوجها في القرن الأول من الإمبراطورية. غير أن المعجبين بالرومان اليوم يؤثرون فيها أحسب أن يقفوا عند القرن الثاني. وقد اتضحت للمؤرخين منذ زمان بعيد البربرية والهمجية والوحشية التي اتصفت بها الجمهورية، وبلغ من وضوحها أن بدأ الطلاب الأذكياء يرتابون في العصور المتأخرة. وما إن بدأ الباحثون يتساءلون إن كان من المحتمل أن تكون مغامرات قيصر أو مروءات كاتو قد غيرت نوع الحياة تغيرا أساسيا، ما إن بدءوا يتساءلون في هذا حتى اكتشفوا أن المجتمع الروماني بقي - إلى حد كبير - تحت حكم الأباطرة الرومان الأوائل على ما كان عليه في أيام الجمهورية. من أجل هذا تعتقد الأقلية الصغرى - التي ما زالت تؤمن بعظمة روما - أن القرن الثاني، في السنوات التي تقع بين اعتلاء نرفا العرش وموت ماركس أورينيس، كان عصر نور وعذوبة. وهناك مدرسة أكبر وأحدث، أزعم لنفسي فيها مكانة متواضعة على مقعد التلميذ، تعتقد أن روما في كل تقلباتها السياسية بقيت همجية تافهة في أساسها. لا نجد في آدابها وفنونها وفكرها وثقافتها العامة شيئا ذا قيمة ليس صدى مملا للإغريق، ويبدو لنا أن الغالبية العظمى من الكتاب اللاتينيين لم تعتقد قط أن لغتها تصلح وسيلة للتعبير الذاتي، وإنما استخدموها كما يستخدمها طلاب الصف السادس في المدارس إلى حد كبير، يترجمون إليها بدلا من أن يعبروا بها عن أنفسهم. إنك تلمس في أكثر الأدب اللاتيني طابع التمرين الذي لا يخطئ. وقد كان الكتاب الرومان في أكثر الأحيان يأملون أن يصدروا كتبا تشبه الكتب. أما أن يكتب المرء ليعبر عن رأيه أو إحساسه الخاص فقد كان بالنسبة إليهم أمرا غير طبيعي. ومن ثم كان الانتقال من هومر إلى فرجيل، أو من سوفوكليز إلى سنكا، كالانتقال من كتاب «رحلة الحاج» إلى موعظة من مواعظ الكنائس الصغرى، فقد كتب هومر وسوفوكليز لأن لديهما ما يقولان، أما فيرجيل وسنكا فقد كتبا لأنه بدا لهما من الصواب أن يقولا شيئا ما، وإذا استثنينا كانلس ولوكريشس، فمن من المؤلفين اللاتينيين حمل إلينا معنى يدل على خبرة حقة؟ هناك - ولا شك - واحد أو اثنان، وهل هناك نحات روماني واحد عبر عن أي معنى من المعاني؟ ليس هناك من أعرفه، وأن الفلسفة الرومانية لتذكر المرء بنقاش مرتفع المستوى بدرجة استثنائية في مجلس العموم. مثل هذا النقاش - بصفة عامة - يتجه وجهة طيبة، ولكنه لن يقرب المرء من قلب الموضوع، والفلسفة التي لا تحاول حتى أن تبلغ اللب قمينة بأن تكون تافهة، وإذا كانت فلسفة الرومان (مثل دي اميكاتيا، أودى بروفد نشيا لسنكا) تذكر المرء بالمناقشات البرلمانية، فإن رسائلهم الخاصة تذكر بأحاديث شيوخ عهد فكتوريا في حجرات التدخين، فهي ودية، معقولة، طريفة، ولكنها ليست البتة قلبية، أو فطنة، أو خيالية، ومن أن تاستس كانت له أمثال، ومع أن هجاء جوفنال صادر من صميم القلب، وفيه فطنة وخيال، إلا إن الرومانيين عامة كانوا لا يدرون شيئا. كانوا يستطيعون أن يتكلموا كلاما معقولا عن الأمور العملية، ولكنه ككلام العرفاء في المدارس الخاصة. كانت لهم نكات، وآراء، وضروب من السخط، وكانت لهم شهوات، وكانوا يحترمون - كما يفعل خيار رجال الأعمال الإنجليز - تلك الواجبات الودية النبيلة التي تربط الإنسان بالإنسان في المكاتب والمحاكم وفي عربات القطارات وفي الملاعب، ولكنهم لم يقتربوا البتة من أي أمر ذي بال، ومن أجل هذا كانت رائحة روما النفاذة تذكرني - وهي تخترق العصور - في أحسن حالاتها بمجلس العموم وحفلات العشاء السياسية، وفي أسوأ حالاتها بالبترول وبرائحة النبات والنسيج والجلد الجديد .
كان الرومانيون فيما أرى عاجزون عن الحب العنيف لأي شيء، وعن الإحساس العميق بالجمال، وعن التفكير الدقيق، والحديث الساحر، أو الرذائل الجذابة. لم يكن لديهم إحساس بحقيقة عالم الفكر والشعور، وما استطاعوا أن يحصلوا من ثقافة حصلوه في القرن الثاني، وكان إغريقيا خالصا، وأن حفنة من الكتاب والمفكرين الإغريق لتمثل هذا العصر تمثيلا غامضا، ونستطيع أن ندرك كيف أن هذا التفكير لم يتغلغل في كتلة الشعب الروماني لو علمنا أن الخرافة بلغت في ذلك الحين مبلغا عظيما حتى إن خير العقول - كما يقول رينان - مالت قبل كل شيء إلى المسيحية نظرا للأساس العقلي الذي تقوم عليه نسبيا. ولم يتخذ القانون الروماني - وهو أعظم وأنفع ما أخرجته الإمبراطورية - صبغته المألوفة إلا في القرن الثاني - وهو لم ينسق في شكل قانون بطبيعة الحال إلا بعد أكثر من ثلاثمائة عام. والقانون الروماني - كما نعرفه - إغريقي أساسا، ذلك أن الفقهاء البارزين، لم يكونوا سوى رواقيين، يعدلون ويطورون النظريات الرومانية القديمة على الأسس التي يشير إليها مذهبهم الفلسفي، ويستبدلون قانون الشعوب بالقانون الجمهوري.
أما من ناحية الذوق الروماني، فإن مما يعلمه كل إنسان عابر أن هادريان - وهو من أكثر الحكام الرومانيين تهذيبا وتشبعا بالروح الهلينية - شيد لنفسه في تفولى فلا من عجب تذكر المرء بوصفها بأسوأ ما شيد لنفسه مليونير حديث من مأوى، وقد كان ذلك مما يدعو إلى تحمس جريجور فيس، ذلك الرجل الطيب، فهو يقول: «... إن هذه الفلا التي بناها هادريان وفقا لتصميمه، ليست سوى صورة وانعكاس لأجمل ما أعجب به في هذه الدنيا». وقد أطلق على أجزاء معينة من الفلا أسماء بعض المباني في أثينا. فاشتملت على ليسيوم، وأكادمي، وبريتانيم، وبوسيل، بل وعلى وادي تمبى يتدفق في ثناياه بينيس، وكذلك اليزيم وترتارس. كما خصص جزءا لعجائب النيل وأطلق عليه اسم كانوبس وهو اسم ملاعب اللهو الساحرة للإسكندريين .. وبإشارة من الإمبراطور كانت هذه الكهوف والأودية والقاعات تنبض بميثولوجيا أولمبس، وتحج مواكب الكهان إلى كانوبس، وتسكن تارتارس واليزيم صور من هومر، وقد تتجول زرافات من المعربدين خلال وادي تمبي، وربما سمعت جوقات من يوربديز في المسرح الإغريقي، وقد تعيد الأساطيل معركة زركيس في قتال صوري، ولو أن الكهرباء سرت في كل الأرجاء لبلغت حد الكمال.
ولا ينكر أحد أن تأثير روما على العالم كان بالغا. ولا ينكر أحد أيضا أنه كان كذلك تأثيرا نافعا من وجوه كثيرة. غير أن هذا لا يدل على أن الرومانيين كانوا على مستوى عال من المدنية، إذا أدركنا أنا نستطيع أن نحكم على البرابرة الجرمان الذين اجتاحوا الإمبراطورية وخربوها حكمنا عليهم. إن ما ندين به لروما على وجه الدقة لا يزال موضع نزاع. غير أنه مما لا جدال فيه أن كثيرا من ذوي الرأي الأكفاء ينكرون عليها رقيها في المدنية. ومن ثم فإني لا أستطيع - إن أردت - أن أستخلص من تاريخها حقائق يقبلها الجميع.
وفيما بين وفاة بوكاشيو في عام 1375م وغزو روما في عام 1527م يقر الباحثون عامة أن الإيطاليين بلغوا قنة عالية من قنن المدنية، وإني لا أجد في هذا الرأي بالتأكيد أي مأخذ. نعم هناك من يشكو أساليب السياسة في هذا العصر، ولكني أقول لهؤلاء أولا أننا لسنا على ثقة بعد بأن الأخلاق السياسية ظاهرة ضرورية من ظواهر المدنية الرفيعة، وأقول لهم ثانيا إن الاغتيال السياسي قد يحل محل الحرية، وإن قتل الفرد أفضل عادة من قتل الألوف. وليس من شك في أن الأذكياء والمثقفين من الإيطاليين لعهد النهضة كانوا أشد من الإيطاليين لعهدنا الحاضر ازدراء للقوة الوحشية، وهي مقارنة لا تمت فيما أحسب إلى موضوعنا بسبب كبير.
ولا ننكر أن الكتابة الإيطالية في القرن الخامس عشر - ولا يزال جانب كبير منها باللاتينية - كانت تعاني من تلك العيوب عينها التي أخذناها على الرومان. فبدلا من أن تكون وسيلة للتعبير أمست عملا ثقافيا، وأداء علميا، بينها وبين الأدب نفس العلاقة تقريبا التي بين قراءة الصلوات في الأسرة وبين الدين، ويقول العارفون: «القرن الثالث عشر يتكلم والرابع عشر يهذر»، ومن المؤكد أن من كتاب القرن الخامس عشر من قصد نفس المعنى من أمثالي بيداردو، وبوتشي، وساشتي، بل ولورنزو نفسه.
أما الفنون البصرية لعهد النهضة، فأظن أنها لا تحتاج إلى تبرير. غير أن الناس ينسون في سهولة جدية محاولة العصر أن يعطي العلوم أساسا في الواقع، وقد عاد الأوروبيون إلى دراسة الطبيعة والطب والتشريح، وعندما قارب العصر الانتهاء كادت العلوم أن تبلغ الحد الذي أوصلها الإغريق إليه. درس العلماء الطبيعة والهندسة إلى الحد الذي بلغه هذان العلمان، ثم تابعا تقدمهما، وقد فهمت كذلك أن علم الحيوان وعلم النبات أخذا مرة أخرى مأخذا جديا، وإذا وازنا بين النهضة والعصور الوسطى رجحت الأولى رجحانا كبيرا، ولكنك إذا امتلكت الشجاعة لكي تدرس محاولة الأفلاطونيين الميديشيين التوفيق بين مختلف المذاهب الفلسفية وجدت أنهم - برغم سخافاتهم - يخفون تحت الحجب الكثيفة من دخان الميتافيزيقا تشبثا صبيانيا بالحق يميزهم عن مجهودات الفلاسفة الرومانيين الذين يكتفون بتكرار المغالطات المألوفة بروح الرجل الذي يؤدي واجبا خلقيا يجد في أدائه مشقة كبرى وراحة للضمير. ولم يكن لوكريشس نفسه مبتكرا، غير أنه كان رجلا استثنائيا. ومن الحق إجمالا أن رجال النهضة ونساءها كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بالأمور التي لها وجود حقيقي في عالم الفكر والشعور السامي الذي نسميه عالم الروح. في حين أن كل ما كان ذا أهمية في الفكر الروماني يكاد أن يكون جميعه متعلقا بالأمور العملية. وإذا استبعدنا الاستثناءات النادرة، فإن مغامرات العقل الروماني في الآفاق البعيدة كانت في إمتاعها تشبه ما يشعر به السائحون عند زيارتهم لمعارض الصور من نشوة روحية.
وقد يعترض معترض فيقول: إن عصر النهضة كان عصر خرافة، يؤمن بالتنجيم وبكلام لا معنى له من هذا القبيل، وفي هذا من الحق ما في القول بأن الروح العلمية كانت في ذلك الحين أشد يقظة مما كانت عليه في أوروبا منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وقد وقف أصحاب العقول الممتازة - فوق هذا - موقف المقاومة. ففي القرن الرابع عشر وقف بترارك موقفا له أثره، وفي القرن الخامس عشر حمل بيكودلا ميراندولا الرأي العام على متابعته في هجومه المشهور على مروجي الأباطيل. أما الروائيون، وفي مقدمتهم الأمير فرانكو شاستي، فقد سخروا من العرافين والدجالين. يقول جيوفاني فلاني: «لا تستطيع مجموعة من النجوم أن تخضع حرية الإرادة عند الإنسان أو ما يقضي به الله». ويقول جوكسبارديني: «ما أسعد المنجمين الذين يصدقون إذا هم قالوا صدقا واحدا إزاء مائة أكذوبة، في حين أن غيرهم من الناس يفقدون كل تقدير إذا هم قالوا أكذوبة واحدة إزاء مائة خبر صادق». واضح إذن أن أثر النهضة بوجه عام كان إثارة «الشك»، والصعوبة هي تحديد مبلغ هذا «الشك» على وجه الدقة. وكانت محاكم التفتيش تسميه «إلحادا». وقد استبعدته بغير مبالاة بعد عام 1527م بمساعدة الإسبانيين السود. ولو أمكنني أن أصدر حكما عاما من الحوادث الفردية التي أعرف عنها شيئا ما (غير أنها حوادث جميعها فرنسية بطريق المصادفة) قلت: إن هناك ضربين من التشكك في عصر النهضة: مذهب فولتيري وهمي لا يتعارض وقدر من الخرافة الخفيفة التي يصلح بونافنتير دى برييه أن يكون مثالا له، ومذهب إلحادي جاف جامد، يخلو خلوا تاما من الاعتقاد في كل ما ليس بالأمر الطبيعي، وإن كان لا يخلو من الخرافة التي تحث على حب البشر. ويصلح أتين دولية - وهو من شهداء الحق، لو كان للحق شهداء - أن يكون نموذجا لهذا المذهب. وكان دولية - طبقا لما يقول كالفن - يعلن احتقاره للإنجيل وقد صرح بأن «حياة الروح لا تختلف في شيء عن حياة الكلب أو الخنزير». ولكن برغم الخرافة أو الرذائل الأخرى فإن حق النهضة الإيطالية في الحضارة الرفيعة ليس عليه - في الواقع - اعتراض جدي. ويستطيع مسيو دي جوبنو - الذي لم يفهم أحد الحياة العقلية لهذه النهضة مثله - أن يضع على لسان لوكريزيا بورجيا الحكم التالي: «ليس في هذه الدنيا ما هو أعظم من حب الفنون، ومن حب ما يتعلق بالروح، حب هؤلاء الذين نحبهم»، وكانت لوكريزيا في هذا تعبر عن عصرها.
والمثل الآخر الذي أستطيع أن أسوقه دون أن أخشى كثيرا أن يعترض على هو المدنية التي انتعشت في فرنسا خلال «القرن العظيم» والقرن الثامن عشر. إن الفترة التي تقع بين عام 1660م وعام 1789م عصر من التاريخ أقل مجدا من عصر بركليز ، ولكنه لا يكاد يقل عنه شهرة. ويجمع الرأي - ولهذا الإجماع دلالته - أن النصف الثاني من القرن السابع عشر وطلائع القرن الثامن عشر أعظم من بقية العصر، فإن النصف الثاني من القرن الثامن عشر (الذي ينتهي في عام 1789م) أرقى مدنية. وهنا نجد دليلا آخر أن المتعلمين يميزون بين عصر عظيم وعصر متمدن، أو يدركون - على الأقل - أن العظمة والمدنية ليسا مترادفين، وإن لم يكن بينها تعارض. وفوق هذا، فمن المحتمل أن تكون إنجلترا قد لعبت في العالم دورا عظيما كما لعبت فرنسا خلال النصف الأول من هذه الفترة - ما بين عودة الملكية ووفاة جورج الأول - ولكن برغم هذا، وبرغم أنه من المؤكد أن انتصاراتها العقلية وإنتاجها الأدبي كانت على الأقل في مستوى واحد مع ما كان يتحقق في أي مكان آخر، وبرغم أن ما حققته من الوجهة الحربية كان جليلا، فإن أحدا لا يحلم بحسبان إنجلترا في ذلك الحين قد بلغت من رقي المدنية ما بلغته جارتها. ويمكنني أن أذكر عرضا حقيقة لا تمس الموضوع، ولكنها لا تخلو من الطرافة، وهي أن إنجلترا لم تكن مثلما كانت فرنسا قوة استعمارية كبرى، خلال الجزء الأول من هذه الفترة، حينما كانت إنجلترا من ناحية الابتكار والتفكير أكثر من صنو لمنافستها فرنسا. إن فرنسا لم تتفوق فكريا إلا بعد صلح باريس في عام 1763م، بالرغم من أن إمبراطوريتها قد سقطت في أيدي الإنجليز الذين استولوا على الهند وأمريكا فكانتا لهم عوضا عن فقدان ملتن ودريدن وكنجريف ومارفل وبرير وبوب وسوفت ونيوتن وبوبل وبنتلي ولوك.
وهناك فترتان أو ثلاث عرفت بالمدنية الرفيعة، لم يذكر عنها المؤرخون الأوروبيون إلا قليلا لأنهم لا يعرفون شيئا عنها. فالظاهر أن الصينيين قد بلغوا مستوى رفيعا من التهذيب تحت حكم أسرة تانج (فيما بين عامي 600-900م تقريبا) بل وأكثر من ذلك تحت حكم سنج (960-1279م). غير أن علمنا بهذين العهدين ضعيف، يخلو من التفصيل خلوا شنيعا، فلا يحاول أن يستنبط منهما الخصائص المميزة للمدنية إلا صحافي نصف متعلم يزعم أنه مؤرخ فيجرؤ على ذلك. فلدينا الفن الصيني - التصوير والنحت وصناعة الخزف - وفي الحق أنه من الإنصاف أن نفرض أن الرجال الذين أبدعوا هذا الفن - بل وأكثر منهم الرجال والنساء الذين قدروه - بلغوا أقصى درجات المدنية؛ لأن الفن الصيني، وبخاصة في عهد سنج، لم يكن فنا رائعا فحسب، بل كان كذلك متمدنا - وهي تفرقة سوف تنال جانبا من اهتمامي بعد حين. ولدينا نصوص مترجمة من الشعر الصيني وشيء من النثر. بيد أني - من ناحيتي - لا أود أن أبني أحكاما على مترجمات؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يعرف مقدار ما أدخله المترجم الحديث من نفسه على النص القديم بطريق لا شعوري. والواقع أن تاريخ الصين الاجتماعي والسياسي قد أهمله العلماء الأوروبيون، ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نؤمل في تكوين فكرة واضحة من نتف المعارف التي تلاقينا عن الأسلوب الذي كان يفكر به الرجل الصيني أو السيدة الصينية لعهد تانج أو سنج، أو كيف كان - أو كانت - يحس إزاء الأمور التي لها مساس أو اهتمام، وذلك لأن زواج أهل الصين ونظرتهم التي لا نألفها البتة تحيرنا وتضللنا، ومن الطفولة أن نزعم أنا نستطيع من قليل من الأواني الخزفية والصور والقصائد وقصص الرحالة والكتابات التاريخية (وهي أيضا مترجمة) أن نكون رأيا صحيحا عن أسلوب الحياة وعن العادات العقلية عند الرجل الصيني أو المرأة الصينية. أما عن حياة المواطنين في أثينا لعهد بركليز، وحياة أهل فلورنسة لعهد النهضة، وأهل باريس في القرن الثامن عشر، أما عن هؤلاء فمعرفتنا تمكننا - مع بذل الجهد في التصور - من أن نكون لأنفسنا صورة، بل إنا لنستطيع أن نكون فكرة عامة كيف كانت تكون حياتنا لو عشنا بين ظهرانيهم. نستطيع أن نتصور بيئتنا. وربما استطعنا أن نتصور كيف يتحدث أصدقاؤنا وكيف يسلكون، وكيف كنا نستجيب لما يفعلون وما يقولون. إن مثل هذا الخيال ليس بالمستحيل برغم مشقته، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن الرجل من أهل الغرب في العصر الحديث يكلف خياله ما لا يطيق لكي يتصور نفسه - في دقة وفي ثقة - وهو يحتسي الشاي ويتبادل الحديث مع جماعة من الموظفين الصينيين وزوجاتهم الشابات في نحو عام 1150م في مدينة هانجشاو المقدسة.
ومثل هذه الاعتبارات تحول بيني وبين البحث عن أمثلة في تاريخ الفرس، ومن الجائز بل ومن المحتمل أن يكون فيما نسميه على وجه التقريب بالفرس عصر أو عصران من المدنية الرفيعة. غير أن تكوين صورة محددة عن الحياة في أصفهان أو الري أو بغداد (وأود أن أذكر عرضا أنها ليست في بلاد فارس) أبعد من محيط معرفتي وفوق قوة خيالي. وقد لاحظت أيضا أن أولئك الذين يستخفون بهذا العمل ليست لديهم أحيانا فكرة دقيقة عن المكان الذي تقع فيه أو الزمان الذي عاشت خلاله بلاد فارس هذه التي يحلمون بها. إن الدولة العباسية كانت في أوج مجدها تمتد من بخارى إلى البحر الأبيض ومن القوقاز إلى أقصى حدود البلاد العربية. وهذه الدولة التي كانت تتركز في بغداد والتي حكمها هارون الرشيد حوالي عام 800م قامت بها مدنية لها شأنها. وهذا أمر واضح جدا عند المدرسة التي تؤمن بمجد الشرق، وربما لا يكون أقل وضوحا عند أولئك المدققين الذين يميزون بينها وبين مدنية أخرى تختلف عنها كل الاختلاف انتعشت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر وعملت على ازدهارها مدرسة الفردوسي وعمر الخيام. وماذا نعرف عن هذه أو تلك؟ هناك أدب غزير، ترجم بعض منه. بيد أني أعتقد أن الترجمات التي اطلعت عليها لا يمكن أن تطابق النص، ما دامت سمعة الشعر الفارسي عظيمة عند أولئك الذين يعرفون الفارسية. وقد وضع جونز - ذلك الرجل الذي يستحق الإعجاب - في القرن الثامن عشر أساسا يمكن أن يستند إليه التاريخ الفارسي، ولكني لا أعرف كاتبا حديثا كتب في تاريخ الفرس الوسيط ونجح في جعل الموضوع حقيقة واقعة حتى لنفسه. وأستطيع أن أقول: إن المرء يكون فكرة عن سير الأمور في القرنين العاشر والحادي عشر في بغداد أو أصفهان من كتاب «تاريخ المسلمين في إسبانيا» لمؤلفه مسيو دويزي أصح من الفكرة التي يخرج بها من أي كتاب حديث يزعم أنه يعالج شئون آسيا. هل كان هناك فن عظيم؟ أجل، ولكنه لسوء الحظ إنتاج عصور وثقافات مختلفة. هنالك الفن الساساني في القرنين الخامس والسادس، الذي استمر في منسوجاته الرائعة بعد الغزو العربي في القرن العاشر بزمن طويل. وهناك صور قليلة رائعة من القرن الثالث عشر - عصر جنكيز خان - يبدو فيها أثر سنج وساسان وكذلك كانت طلائع القرن الثامن عشر عصر الخزف خزف الري المعروف، وفي القرن الرابع عشر نجد فنون تيمور وحافظ وسلطان أباد. غير أن الفن الفارسي العادي الذي يعرفه حق المعرفة أكثر الناس هو الفن الصفوي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولهذا الفن ولبلاط شاه عباس في القرن السابع عشر يتجه أولا مؤلفونا الفنيون ومصورونا ومديرو المسارح لتصوير الحياة الفارسية. ويخلط هؤلاء بين فارس والخلافة، ويمزجون بين منسوجات ساسان في القرن السادس عشر وشعر سامان في القرن الحادي عشر، ويزجون بصناع الخزف من الري وحافظ في بلاط شاه عباس، ويخلطون بين الشاه والمغولي الكبير. ومن هذا الخليط يحصلون على مركب حلو مائع يسعدهم أن يطلقوا عليه المدنية الفارسة. ويودون لو استطاعوا أن يعودوا إلى ديارهم من الليفانت ببعض الملاءات التركية والسراويل يرتديها زوجاتهم في حفلات العشاء، كأنهن أميرات من فارس، ولكني لجهلي بالفارسية، ولعلمي بهذه الأشياء، يتعذر علي بل يستحيل أن أكون فكرة عن المدنية الفارسية، ومن ثم فإني خلال بحثي عن صفات المدنية المميزة لن أذكر شيئا عن شجر اللوز في سمرقند أو عن البلابل التي لا تفتأ تترنم فوقها.
وبناء على ما قدمنا، سنتخذ أثينا في القرنين الخامس والرابع، وإيطاليا لعهد النهضة، وفرنسا من الفروند حتى الثورة نماذج للكمال، فإن حقها في المدنية الرفيعة غير منازع، كما أنا نعرف عنها لحسن الحظ بعض الشيء، وما أهدف إليه أولا هو اكتشاف الصفات المشتركة بينها والتي لا تتصف بها القبائل التي عرفت بالهمجية والتوحش، وإن كنت لا أبوء في بحثي هذا بالفشل فذلك لأني مهدت لرأيي تمهيدا كافيا. وقد ذكرت عند مناقشة مميزات المتوحشين الأدنياء - ولم يعترض علي أحد فيما أحسب - أن الخطوة الأولى التي يتخذها الهمجي نحو المدنية - وكنت بطبيعة الحال أتحدث عن المميزات الخلقية - هي اكتساب الشعور بالذات وعادة التأمل، وليست هاتان المميزتان هما الصفتان المميزتان للمدنية الرفيعة بطبيعة الحال. فقد شاعتا شيوعا كبيرا. ومن الحق أن نقول: إن انعدام الشعور بالذات انعداما يكاد يكون تاما - ولا أقصد ذلك الشعور بالذات الحيواني الذي يبديه الكلب أحيانا حينما يدرك أنك تحملق فيه - بل وانعدام روح النقد الساذجة هو ما يميز أسفل البرابرة عن بقية الجنس البشري. وهو تمييز أنثروبولوجي عريض الخطوط يوازي ذلك التمييز الذي يقيمه علماء الحياة بين النبات والحيوان، ولا يعنينا إلا كنقطة ابتداء، ولكنا لو هذبنا هذه الصفات وجدنا أن الشعور بالذات - الذي يؤدي إلى فحص الحالات العقلية والموازنة بينها - ينتقل بنا إلى الإحساس بالقيم، في حين أن روح النقد إذا طبقت في كافة الميادين تؤدي إلى تحكيم العقل باعتباره الحكم النهائي في المسائل التي تمس الواقع. هاتان صفتان لا يتصف بهما المتوحشون، بل ولا تتصف بهما جميع المجتمعات المختلفة، وعند بحثي في نماذج كمال المدنية التي تخيرتها للعثور على صفات مشتركة خاصة أتوقع أن أجدها جميعا منبثقة من هذه الصفة أو تلك.
ومن رأيي أن «الإحساس بالقيم» و«تحكيم العقل» هما الصفتان الأساسيتان للمدنية الرفيعة، والبحث عن المميزات الذي أنا مقدم عليه سوف ينتهي بي إلى البحث عما تتمخض عنه هاتان الصفتان. ومن المحتمل جدا أن يكتشف أحد من الناس أني - رغم التزامي الطريق القويم فيما سرت إليه - لم أتابع المسير بعيدا، فهناك صفات أساسية أخرى تتولد عنها صفات ثانوية جديدة؛ بيد أن ذلك لا يدحض حتما ما بلغت من نتائج. إن المعترض يبرهن بذلك على أن مقالتي ناقصة، ولكنه لا يبرهن حتما على خطأ ما فيها، ولو أن أحدا من الناس - بعد دراسته لما قدمت من مميزات - يكتشف غيرها من مميزات تشترك فيها المدنيات الراقية وتختص بها، فمن الواضح أن يكون من واجبي ضمها إلى قائمتي، ولن يدفعني إلى تغيير موقفي إلا البرهان على أن بعض ما تشتمل عليه قائمتي من مميزات تشترك فيها الشعوب المتبربرة.
إن الإحساس بالقيم - كما أفهم هذا التعبير - لا يكون إلا عند أولئك الذين يستطيعون أن يضحوا بالخير الواضح العاجل في سبيل الخير الخفي الآجل، فالأفراد الذين ضحوا بالراحة قصدا في سبيل الجمال - دون أن تكون أمامهم غاية عملية أو خرافية - يبدو لي أن لديهم إحساسا بالقيم، وإيثار التربية الحرة على التربية الفنية العملية، إيثار التربية التي تعلمنا كيف نعيش على التربية التي تعلمنا كيف نكسب، هذا الإيثار ظاهرة أخرى من ظواهر هذا الحس المتمدن الرفيع، والعقل عندي تكون له السيادة إذا شاع الرأي بأن كل أمر يتطلب تفسيرا وتبريرا من العقل، ولا بد في النهاية أن يسمح بهذا التفسير وذلك التبرير. ولكن يجب ألا نفترض أني حينما أصف بالعقل مجتمعا من المجتمعات، أو حينما أقول إن لديه إحساسا بالقيم، أقصد أن كل الأفراد الذين يتألف منهم هذا المجتمع يعملون ويفكرون عادة على أساس من العقل، أو يحسون إحساسا دقيقا؛ فقد يسود العقل في مجتمع تؤمن فيه مئات الألوف بأشنع الخرافات. إن وصف شعب من الشعوب بالعقل أو القدرة على التمييز حكم عام لا يزيد دقة على وصفه بالبياض أو بالسواد. كما أن سيادة العقل تؤدي إلى نتائج تختلف باختلاف الظروف. فقد أدت في أثينا إلى تأمل مبدئي في معنى الخير وطبيعة المادة، وأدت في القرن الثامن عشر إلى الشك الديني وإلى تذوق الاقتصاد السياسي. وإن ما نحن مقدمون على الخوض فيه هو ما تتصف به بعض الوحدات - أو المجتمعات - غير المحدودة من ميول واتجاهات؛ ولذا فإنا لا نأمل أن نصدر أحكاما عامة لا تسمح بالاستثناء.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه لم تنشأ في التاريخ مدنية كاملة، وإذا تصورنا أن الإحساس بالقيم وتحكيم العقل هما الصفتان الأساسيتان اللتان انبثقت منهما مميزات المدنية، وجب علينا أن نشبه هذه المميزات بسلة مليئة بالكور المرمرية الزلقة الصغيرة تغترف منها كل مدنية ما استطاعت. وقد تولدت عن الإحساس بالقيم وروح النقد إمكانيات كثيرة: بعضها لم يمكن قط أن ينال وبعضها نالته كل جماعة ارتفعت بنفسها قليلا فوق مستوى الهمجية المجردة، وقليل منها - وهي في أكثر الأحيان تهذيب للصفات التي تشبثت بها كل المجتمعات المتمدنة - مصقول مراوغ إلى حد يجعلها تنزلق بين أكثر الأصابع، ولو أن أياد قليلة ممتازة قد أمسكت بها على درجات متفاوتة من الثبات. هذه الأيدي الممتازة القابضة هي الجماعات، أو المجتمعات، التي اتفقنا على أن نصفها «بالمدنية الرفيعة»، وأنا مقبل على التحدث عن الكشف عن الصفات النادرة المراوغة التي تمسكوا بها، وتملكوها لفترة من الزمن، وتحليل هذه الصفات، ولنذكر هنا أن القبائل الممعنة في الهمجية لم تتمسك بأية صفة من هذه الصفات.
إن إعلاء العقل حتى يصبح الحكم الأول في الحياة أمر مستحيل في الجماعات الهمجية لأسباب عدة، لعل من أوضحها أن الظروف في الجماعات الهمجية شديدة التقلب، وتنازع البقاء - على وجه العموم - جاد جدا لا يسمح بصورة إخضاع غريزتي الاحتفاظ بالذات والاحتفاظ بالأسرة. والواقع أن الرجل الذي يحمل البندقية أحسن إعدادا - إلى درجة كبيرة - لحفظ الذات من الرجل الذي يحمل الهراوة. غير أن الرجل الهمجي لم يعش قط في تلك الظروف التي تشجع على ذلك التأمل المتواصل النافذ الذي يستطيع وحده أن يؤدي إلى مخترعات ميكانيكية معقدة كالبندقية. والهمجي الذي يقف لكي يفكر يتعرض بدرجة قصوى إلى خطر الوقوف الأبدي. ولذا فإن شأنه شأن الطيور وشأن سيرجون فولستاف، يعمل بإملاء الغريزة. وهو يعتمد على الغريزة إلى حد لا يجعل للعقل سوى فرصة يسيرة جدا لكي يكون ذا أثر فعال. إن إعلاء الغرائز قاتل للعقل، وكذلك لا يمكن للمتوحشين أن يتصفوا بإحساس رقيق للقيم، فإنك لن تجد رجلا من الإسكيمو يمكنه أن يدرك أن القيمة البعيدة للأنشودة أكبر من قيمة البيضة المحمرة؛ لأن القيمة المباشرة عنده للبيضة المحمرة محسوسة جدا وضرورة ماسة. ومن العبث أن تبين لرجل يعيش معرضا في حاضره للموت جوعا أو من برد الصقيع أن التربية الحرة أرقى من التربية العملية البحت؛ إذ لا بد له قبل أن يقدر لبعض الحالات العقلية قدرها أن يكون على درجة من الأمان لشخصه. ومن ثم كانت أحكام المتوحشين غريزية جدا، وعقائدهم تقليدية، وأذواقهم تستند إلى تجارب معدودة لا تسمح بدقة التمييز. والرجل الهمجي الذي يبدأ في نقد عادات قبيلته وتقاليدها نقدا عقليا سرعان ما يقضي على وجوده ويقضي على همجيته، فقد خطا نحو المدنية خطوة كبيرة. وكذلك يخطو نحو المدنية خطوة كبيرة من يبدأ في إدراك أن قيمة الأشياء الحقيقية في قيمتها كوسائل لحالات معينة من العقل، حتى إن كان إدراكه هذا على كثير من الغموض. ولكن طالما بقي الإنسان على الطبيعة، يسير وراء غرائزه، فلن يتقدم نحو المدنية. إن المدنية وليدة التأمل والتربية. إنها مصطنعة.
مميزاتهم: الإحساس بالقيم
لو سألت اثني عشر رجلا متعلما تعليما كافيا (ولعلي أصبحت مملا بعض الشيء في استعمال هذه الصفة «متعلم»، ولكني إن تخليت عنها أضعفت حجتي) لو سألتهم أن يعينوا لك أبرز صفة في العقل الأثيني، فمن المحتمل أن يجيبك منهم أحد عشر بأنها «حب المعرفة» أو «الحق» أو «الاستطلاع» أو «الإيمان بالعقل» أو المعقولية أو ما يشبه ذلك. أما الثاني عشر فبروح المدقق المتعالي ربما أكد لك أن ما يجعل الأثيني أثينيا (من أتكا) هو إحساسه بالقيم إحساسا دقيقا، بل إن الأحد عشر رجلا - بعد أن تهدأ غضبتهم التي نلتمس لهم فيها المعذرة - يكادون أن يتفقوا قطعا أنهم جميعا محقون، وأن التعقل والإحساس بالقيم صفتان توأمان لأثينا في مجدها. والكلمتان اليونانيتان اللتان تعنيان «التعقل الحلو» و«الجد الملائم» كانتا هما الصفتين اللتين تميزتا بهما الحياة والفكر والفن الإغريقي - كما يتعلم ذلك كل صبي يبدأ في تعلم المواد الكلاسيكية- والصفة الأولى هي العقل يحليه الإحساس بالقيم، والثانية هي الإحساس بالقيم يثبته العقل ويحدده، بل إن كلمة كلاسيكي ذاتها ومعناها الأول في قاموسي: «ما يتعلق باليونان القديمة أو روما (التي تحاكيها)»، هذه الكلمة تؤدي معنى التعقل والتذوق، وهاتان الصفتان، وما تولد عنهما، اللتان كانتا الصفتين المميزتين لأثينا، سوف نجد أنهما كذلك - ما لم أكن مخطئا - ميزتا كل عصر من عصور المدنية الراقية.
إنا جميعا نتحدث عن تقدير أثينا للفن والفكر، وقصة النحات الذي اتهم بتعذيب شاب - والتعذيب في أعين الأثينيين كان جريمة شنيعة - وأقر على نفسه الاتهام، ولكنه قدم دفاعا عن نفسه التمثال الرائع الذي عاونه في إخراجه ما عاناه نموذجه الحي، فحكم عليه بالبراءة، أقول: إن هذه القصة - وإن تكن خرافية - توضح الأثر الذي تركه على مر العصور حب الأثينيين للجمال. وفي لزبس كانت صورة سافو - وهو الاسم الذي يذكر بالاشمئزاز في أرفع البيوت الإنجليزية - تزين قطع العملة؛ لأن أهل لزبس كانوا يعدون «أعلى رأس في الغناء» أسمى أمجاد الدولة. وأذكر عرضا أن رأس سلفاتور روزا - المصور الوحيد، لا أقول الذي كان ممتازا، بل أقول الذي كان معروفا، ممن أنجبتهم نابلي - لا يزال يزين العملة الورقية التي يصدرها بنك نابلي، وهذا أثر جميل للمدنية الإيطالية نتبينه في جلاء. وتقدير أثينا للأمور العقلية ظاهرة معروفة ساءت سمعتها. فقد كان من أعمالهم الرئيسية أن يناقشوا أية مشكلة تدور برءوسهم نقاشا عقليا عنيفا حرا. يقول ميشليه: «إن هذا الشعب الضاحك المتطلع يقدر السخرية السقراطية أكثر مما يقدر أي لعبة رياضية». ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى ذلك الأمر العجيب الذي وقع في أثينا عام 404ق.م. وهو تمثيل لسستراتا على مسرح الدولة وعلى حساب الشعب؟ لم تكن أثينا في ألم مما يمكن وصفه الآن وصفا صادقا بالنضال في سبيل الحياة أو الموت فحسب، بل كانت كذلك تعاني الكارثة الساحقة التي لحقتها من سرقسطة مما أدى إلى انهيارها فيما بعد نهائيا. وكانت حمى الحرب على أشدها. وبرغم ذلك قدمت الدولة في أثينا على مسرح الشعب وعلى حساب الشعب هذه المسرحية المتطرفة في معارضتها للروح الحربية والروح الوطنية. ولم يكترث أحد بالسخرية من الجيش والاستهتار بالعواطف الوطنية والاستهزاء بمن يتعقبون الجواسيس ويلتهمون الأسبرطيين، ونقد زعماء الديمقراطية نقدا لا هوادة فيه. وإنما كان الناس يتساءلون: هل لسستراتا أفضل كوميديا في هذا العام؟ إن كانت كذلك فينبغي أن تظفر بالجائزة وأن يشهد الجمهور تمثيلها، وقد مثلت. ولا أستطيع أن أذكر حادثا في التاريخ يدل على الإحساس العام بالقيم أكثر من هذا جلاء.
وفي أثينا كانت الأموال التي تخصص للمسرح مقدسة لا يجوز المساس بها. وربما لم يكن من غير الطبيعي لشعب يستطيع أن يقدر أعمق المآسي وأدق الملاهي أن يجعل للفن النصيب الأول من خزانة الدولة. ولم يبخل المواطن الذي كان يعيش في بيئة ساذجة، يعتبرها عامل المناجم في إنجلترا محطة بكرامته الإنسانية، لم يبخل بشيء ينفق على إخراج المسرحيات، وإقامة التماثيل، أو إنشاء المعابد. ويذكرني هذا بشيء كان ينبغي لي أن أذكره في الفصل الأول. وذلك أن الراحة من بين الأشياء الكثيرة التي ليست بالمدنية. إن عيشة المتوحشين حياة لا راحة فيها لا تدل على شيء. ولست أقول إن انعدام الراحة دليل على المدنية، ولكني أقول إن الراحة ليست من مميزاتها، فقد كانت حياة الأثيني - برغم غزارتها وتعقيدها في الفكر والشعور - في أكثر النعم المادية - ناقصة بدرجة مشينة. إن المدنية - كما يفهمها رجل السوق - لم يحقق الأثينيون منها شيئا. ويسرني أن أعرف أن المستر ولز بلغ به الصدق أن يقر باحتقاره لهذا الشعب الذي لم يتهذب. إن أغنى المواطنين كثيرا ما كانوا ينامون فوق مقاعد حجرة الطعام - وكانت في الكثير الغالب مقاعد خشبية - لا يتلفعون إلا في معاطفهم كالكثيرين من ركاب الدرجة الثالثة. وكانت بيوت الأثينيين صغيرة، مبسطة، تخلو من أدوات توفير العمل اليدوي. ولم تكن هناك أسباب للراحة المنزلية. والأثاث والأدوات المنزلية شحيحة ساذجة، تثير الإشفاق وحب الرعاية والحنق عند جامع القمامات الذي يحس إحساسا طبقيا. ولم يكن عدم الاكتراث بالراحة هذا خاصا بالمواطنين أصحاب المدنية الرفيعة في أثينا. فمن ذا الذي لم يسمع السائحين الإنجليز والأمريكان يعيبون على القصور الإيطالية ما فيها من أسباب انعدام الراحة ووجود التيارات الهوائية في الحجرات وقلة وسائل التستر؟ كانت النهضة تتميز بالترف والفخار، ولكنها لا تعني إلا قليلا بالراحة. ولم تصبح للراحة أهميتها إلا بظهور الطبقة المتوسطة. وفي القرن الثامن عشر احتفظت الأرستقراطية الفرنسية بتقليد العناية بالطراز مع إهمال ما كانوا يسمونه «بالراحة الإنجليزية». وقد عمت الشكوى منذ ثلاثين عاما من أن السياحة في فرنسا كان يفسد متعتها انعدام أسباب الراحة المنزلية. أنهم يغيرون كل ذلك الآن، وليس هذا - على أية حال - من شأني في الوقت الحاضر. وما يهمني أن أذكره هو أن عدم الرغبة عند المتحضرين في تضحية الطراز في سبيل الراحة نتيجة لا مفر منها للإحساس بالقيم.
وليس ما كان يضفيه الإيطاليون لعهد النهضة من شرف زائد على الشعراء والمصورين والفلاسفة والعلماء بأقل اشتهارا من حب الأثينيين للجمال وللتعقل. وكان أهل فلورنسة - وهم في ذلك الوقت أشد الأوروبيين تحمسا للسياسة - يحسون أن فنهم هو أعظم مجد من أمجاد دولتهم. وفي تسكانيا كان القوم يتجادلون في مزايا المصورين والنحاتين كما يفعل أهل يوركشير بالنسبة للاعبي الكرة وراكبي الخيول. ولا تستطيع إيطاليا بأسرها أن تقدم لبترارك وبوكاشيو وبرونليشي ومانتجنا وبمبو وببيينا وبوليتان وأريستو ورفائيل وميشيل أنجلو وتيتان ما يستحقون من تقدير. وليس من المبالغة - حقا - أن نقول: إن الايطاليين في أوائل القرن السادس عشر - على الأقل في روما وفلورنسة - قد اعتبروا رفائيل وميشيل أنجلو أرقى مظهر من مظاهر العبقرية في بلادهم، وذلك برغم معرفتهم وتقديرهم لشخصيات ممتازة مثل لورنزو العظيم، وسافو نارولا، وقيصر بورجيا، ويوليوس الثاني، وليو العاشر. كان الرجال من أمثال رفائيل وميشيل أنجلو يفوقون الملوك والأمراء في تقديرهم. وأهم من ذلك أن الفن - وأقول الفن ولا أقول الفنانين - كان يتفوق على التجارة والسياسة والحرب في التقدير، ودعني أقرر توا أن الولاء للأفراد كان مفرطا، في حين أن تقدير الفن والفكر كان عادلا كما كان عظيما. فكيف لا يمكن لعصر كان من إحدى خصائصه المبالغة في تقدير الفرد أن يؤله عظماء رجاله؟ ولم تكن المبالغة في تقدير الشخصية كذلك أمرا لا محل له بين قوم لم ينقض عليهم طويل وقت منذ تخلصهم من ظلم العصور الوسطى ومعرفتهم - في عبارة ليون باتستا البرتي - أن «الناس يستطيعون القيام بأي عمل إن أرادوا» وقد رزحت أوروبا خلال ألف عام ثقيلة تحت عقيدة تحتم على الإنسان أن يعتبر نفسه مخلوقا مرذولا بائسا يعجز بطبيعته عن التفكير أو الإحساس أو العمل السليم. كان الإنسان يلقن في غضون ألف عام أن إنسانيته ممقوتة، وتقرير شخصيته جريمة كبرى. أما الآن فبعد اكتشاف الفن والفكر الإغريقي بغتة، فقد أدرك أن الإنسان هو مقياس كل شيء، وأنه يستطيع - بل ينبغي - أن يفكر وأن يشعر وأن يعمل لنفسه، وأن عليه أن يخلق لنفسه، ظروفه، وأن يتسلط على الطبيعة بابتداع التجارب الواسعة والأخذ بها. فأي عجب إذن إذا كان المرء بعد أن أدرك بغتة أن الإنسان في العالم القديم كان سيد مصيره، وأن بوسعه أن يكون كذلك في العالم الجديد، وأن العقل البشري هو وحده الفيصل فما هو حق، وأن إرادة الإنسان تستطيع أن تصنع القوانين والتقاليد كما تستطيع أن تتحلل منها، وأن تغير ما كان يبدو أنه نظام الكون الذي سبق تقديره - أقول أي عجب إذا كان الإيطاليون لعهد النهضة، بعد أن أثملهم ما كشفوا من أن الإنسان هو سيد كل شيء ومعيار كل شيء، يكرمون إلى حد يقرب من التقديس تلك المثل الرائعة من بني جلدتهم الذين تقع عليهم أعينهم، وهم يخلقون الجمال، ويشتتون الجهالة، وتفيض بهم القوة، فيغيروا ظروف الحياة نفسها ويزيدون من خصب مشتملاتها.
إن إيطاليا لعهد النهضة - في إحساسها بالأهمية القصوى للفن والفكر، وهي أولى النتائج وأصدقها للإحساس بالقيم - تكاد لا تقل في ذلك عن أثينا شأنا. وسيبقى شعارها أبدأ «أن ليس في هذه الدنيا ما هو أعظم من حب الفنون، ومن حب ما يتعلق بالروح، ومن حب هؤلاء الذين نحبهم». ومع أن الاتجاه العقلي في القرن الثامن عشر لم يختلف عن هذا الاتجاه في أساسه، إلا أن هذا العصر كان على خلاف مع النهضة أو عصر بركليز في ناحية واحدة هامة. لم يكن القرن الثامن عشر عصر ابتكار إلى درجة كبيرة. وإنما جاء الدافع إلى الخلق قبل ذلك - في القرن السابع عشر . أما الفترة المتأخرة حينما بلغت المدنية أوجها فقد كانت أميل في اتجاهها إلى ناحية التأمل والتدبر. وهنا دليل آخر على أن الصفة الأساسية للمجتمع المتمدن مدنية رفيعة ليست في القدرة على الابتكار، وإنما هي حسن التقدير. فالشعوب الهمجية تبتكر في عنف شديد. ولقد كان القرن الثامن عشر يدرك أهمية الفن. وكان ذوقه نقيا، وإن يكن محدودا. وكان يستطيع دقة التمييز في الفنون الصغرى والفنون المنزلية. والأغنياء يقبلون على أداء ما يكلفه الجمال لا بالمال فحسب، ولكن بالوقت وتحمل المشقات كذلك. وكان الموسرون من الرجال والنساء في القرن الثامن عشر يهذبون أذواقهم. أما الفقراء - كما سوف أبين فيما بعد - فيسهمون إيجابا في بناء صرح المدنية بما يؤدون من عمل، ويسهمون فيها سلبا بمقدار ما تتلون آدابهم وعاداتهم وآراؤهم وعواطفهم بآثارها - وذلك لأن الفقر معناه عدم التحرر وعدم التعلم. ولو أردنا أن نتلمس الصفات الإيجابية الأكيدة للمدنية، فمن العبث أن نبحث عنها عند العبيد الأثينيين أو الفلاحين الفرنسيين. وإلى أي حد يمكن في المستقبل لمجموع السكان أن يتمدحوا موضوعا لا بد لي أن أستبقيه للفصل الأخير.
والآن أعالج القرن الثامن عشر، وهو عصر ومضت فيه النار في الطبقات العليا وأرسلت أشعتها إلى المتقدمين من الطبقة الوسطى وربما ألقت شيئا من دفئها على من دونهم من تلك الطبقة، ولا أحسب أنها سرت إلى أبعد من ذلك وإن كان بكل - الذي يمكن أن نعده حكما عدلا لم يتحيز لعصر غير عصره - يرى «أن إحدى الصفات الأساسية للقرن الثامن عشر، وهي صفة ميزته قبل كل شيء عن كل ما سبقه، تعطش للمعرفة من جانب تلك الطبقات التي حبست عنها المعرفة حتى ذلك الحين».
1
كانت المعرفة هي أكبر الأماني: كان القرن الثامن عشر يقدر الفن، بيد أنه - برغم هذا - توجه بأقصى حماسته نحو ما يتصل بالعقل من أمور. لقد تفوقت أثينا في الأدب، وفي الفنون التشكيلية، والعلوم، والفلسفة. وكانت حماستها لكل ذلك لا تحد. أما النهضة التي تفوقت في الفن المنظور وفي الدراسات فقد وجهت أشد إعجابها إليهما. في حين أن قلب القرن الثامن عشر السمح خضع لنفس الغريزة، وكان أشد ما اهتز له ما حققه العقل المتأمل، فبرزت في الصدارة البحوث الرياضية والفلسفية والعلمية، وفي عصر كان يفخر بحب البشرية تعمق هذا القرن بطبيعة الحال في علوم السياسة والاقتصاد - وهي دراسات ما عتمت في طفولتها الغضة الجذابة - إذ اعتقدوا - وربما لم يكن ذلك على غير أساس من العقل - إن في ثنايا هذه العلوم تكمن المفاتيح التي سوف تفتح أبواب العالم المثالي في يوم من الأيام. إن قصة شهرة دافيد هيوم في باريس تعطينا فكرة عن تهذيب المجتمع، فإن تعيينه سكرتيرا للسفارة البريطانية كان حدثا دوليا. باريس بأسرها كانت عند قدميه، وربما أغضب ذلك مستر والبول قليلا، الذي يبدو أنه أحس أن هذا المجتمع الرفيع المدنية ربما لم يقدر جودة النطق والعلاقات الأرستقراطية حق قدرها. ولن أؤكد هنا التكريم الذي ناله فلتير وبفون أو ذكرى نيوتن. غير أني لا أتردد في أن أذكر قرائي بأن هؤلاء السيدات والسادة الفرنسيين كانوا بالفعل يقرءون للمؤلفين الذين يعجبون بهم.
ومن هذا الإحساس بالقيم، ومن التطلع العقلي عند الطبقة الراقية، نجمت نتيجة حببت الشعوب المتمدنة دائما في القرن الثامن عشر. ذلك أن هؤلاء السيدات والسادة المهذبين لم يخضعوا لتهديد أو إملال. لم يكونوا من ذلك النوع الذي يحتمل الأساليب التي يسلكها خفاف العقول أو الثرثارون المتشدقون بالعلم، وأصروا على أن يعبر أساتذتهم عن أنفسهم في لغة واضحة شائقة - وكانت كاترين العظمى تغرم بتلقيب نفسها بتلميذة فلتير - وكان الناس يتوقعون أن ينقاد العلم للجمال، أو على الأقل للذوق السائد. كان للقرن الثامن عشر مقاييس يود أن تنال حقها من التقدير، ولم تكن هذه المقاييس قاصرة على كتابة النثر، وإنما كانت للقرن الثامن عشر مقاييس في الحياة. وفي الحق أن مما يميز العصور المتمدنة أنها تتمسك بمقاييس لا ينبغي أن تهبط عن مستواها الأمور، ويرجع ذلك إلى وجود الإحساس بالقيم.
2
ألم تستمع قط إلى رجل فكه عظيم، وقد امتلأت معدته بعشاء باهظ التكاليف في مطعم يسترعي النظر بسوء تأثيثه وشدة إضاءته وقد أثمله النبيذ (الذي اشتهر باسم برييه جويه في عام 1911م)، وحديث تافه طويل لا يقرع سمعك إلا بعض كلماته وقد أغرقته موسيقى أعلى منه في ضوضائها، ألم تستمع إلى مثل هذا الرجل يقول وقد سمح للمناول المشعث أن يختار له أطول سيجار «هذه تناسبني يا بني، وإني ليرضيني دائما أغلى السجائر»؟ إن مثل هذا يحدث حينما يفقد الناس مقاييسهم، وليس في لندن - كذلك - سوى مطعم أو مطعمين العشاء فيهما متعة غير مشوبة. إن الرجل الذي يحمل ميزان المقاييس لا يرضيه دائما أحسن الموجود. إن هذا الرجل يعرف تماما ما يريد ويصر على الحصول عليه. والظاهر أن الرجل الإنجليزي الحديث ليست لديه معايير، وكل ما يستطيع عمله أن يتوجه إلى أحسن المحلات مظهرا ليشتري منه أغلى ما فيه. أما منذ خمسين عاما فقد كانت ربة البيت الرقيقة تفخر بأنها تعرف المكان الصحيح لكل شيء. ففي شارع خلفي رجل صغير يستورد صنف البن الذي تحبه، وهناك آخر يخلط الشاي خلطا هو أكمل ما يكون، وثالث يعرف سر لحم الخنزير المدخن. كل ذلك اختفى اليوم. ولا تفعل ربة البيت سوى أن تذهب إلى المخازن. ولم يعد لغز «مارش هير» لغزا غامضا. ولم نعد نصر على الحصول على ما نحب، وإنما نحن نحب ما نحصل عليه. وربما كان من توافه الأمور أنك قد تتناول عشاءك في أحد المطاعم الستة الأنيقة في لندن، وأن تدفع جنيهين ثمنا لوجبتك، وأنت تعلم عن يقين أن وكيلا من وكلاء التجار المتجولين الفرنسيين نشأ على المعايير القديمة لما ألف في الريف، ربما أرسل في طلب الطاهي ووجه إليه قارص الكلام. ولكن فكر في الدوافع. إنها لا ترجع إلى أن أغلى المطاعم الإنجليزية تقصر في استخدام أعلى الطهاة الفرنسيين أجورا . إنهم يستخدمونهم ولكنهم سرعان ما يهبطون عن المستوى لأن المطعم لا يتردد عليه أحد ممن يرفعهم دائما إلى هذا المستوى. إن الزبائن ليست لهم معايير. تقول هذا أمر تافه، وأقول ذلك ما يؤدى إلى الهمجية.
إني حينما أقول: إن المدنية تحتم قيام المقاييس لا أقع في ذلك الخطأ القديم الذي يفرض أن المدنية شيء يفرض على الفرد التشابه البغيض. كان النقاد والعلماء لعهد فكتوريا من الخشونة وانعدام الحس بحيث لا يقدرون راسين وبوسان، ويعللون انحطاط شأن هذين الفنانين عن تنيسون وتيرنر بأنهما من ثمرات المبالغة في المدنية التي جعلت التعبير الشخصي الحر أمرا مستحيلا وعارضت معارضة مطلقة في التجريب والتطوير. ويزعم الزاعمون أن العصور ذات المدنية الرفيعة تحتم التشابه المطلق، فتصبح جافة جامدة، والواقع أن الفنانين كانوا أحرارا في تجاربهم في العصور المتمدنة كما كانوا في غيرها من العصور. وتستطيع أن تجد الأمثلة أنى شئت، ففي أثينا فيما يزيد قليلا عن مائة عام حدث انقلاب من الأسلوب العتيق في النحت إلى الأسلوب الفديائي، ومن الفديائي إلى البراكسيتيلي. وفي الأدب من إيسكلس إلى سوفوكليز، ومن سوفوكليز إلى الكوميديا الجديدة. وفي إيطاليا شهد مطلع القرن الخامس عشر ثورة في التصوير - نهاية حركة جيرتو واكتشافات ماساشيو وجاستانيو ومانتنيا، في حين أن رفائيل وميشيل أنجلو كانا قد أدخلا تعديلا على تقاليد الفن وأسسا مدرسة جديدة قبل نهب روما، وكل طالب للأدب الفرنسي يعلم أن المعجبين بكورني قد أدهشهم، بل أغضبهم، أسلوب راسين، كما يعلم أن تطور النثر من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر أمر لا يرضي المحاضر (لغير طلاب الجامعة) الذي يستعرض تاريخ الأدب أن يجهله ضحاياه الطلاب. كما أن ظهور مدرسة عاطفية طبيعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر موضوع يستفيض فيه عادة - بدافع من الغرور الوطني فيما أظن - أولئك النقاد أنفسهم الذين يعيبون على ذلك العصر ما فيه من تشابه ثابت. أنهم ربما لم يكونوا على علم أن جلك (
Gluck ) وأتباعه كانوا في نفس الوقت يطورون التقاليد الموسيقية تطويرا بالغا مثلما فعل فاجنر بعد ذلك بمائة عام.
إن العصور المتمدنة تميل من غير شك إلى احترام التقاليد في الفن وفي غيره من الأمور. وهناك ما ينذر بالخطر من أن يتدهور احترام التقاليد إلى عبادة العرف، وهو لا يعدو أن يكون الحيل والعادات لماض قريب توحدت لتعميم استعمالها - مخالفة في ذلك التقاليد، وهي التعبير عن التجارب المتجمعة. وهناك من ناحية أخرى في العصور المتمدنة جمهور حساس مثقف، يعطف على الفنان، ويميل إلى أن يهيئ له أن يعرف على خير وجه خير الأمور بالنسبة إليه. ومثل هذا الجمهور لا يخدع في سهولة فيظن خطأ أن الصيغة المقبولة هي التقليد العظيم. إن ماساشيو وأتباعه، وكذلك مدرسة الكتاب الثائرين في مطلع القرن الثامن عشر، والرومانتيكيين الأوائل في أخريات هذا القرن، إن هؤلاء لم يضطروا إلى الاشتباك في معارك حامية كالتي نشبت حول أسماء هوجو وفاجنر وروزتي وما لرمي وسيزان؛ ذلك لأن الجمهور في العصور المتمدنة يتفوق في حسه كثيرا عن الجمهور في القرن التاسع عشر؛ لأن الظروف كانت أشد مواتاة وأقل ضيقا، وقلما كان الفنان يندفع في احتجاج عالي الضجيج أو مضيع للوقت والجهد. إن الفنان الحق لا يكون بطبعه محتجا، ولا يلعب هذا الدور إلا بضغط من حقد معاصريه. والاحتجاج آفة الفن؛ لأن من يشرع فيه يتعرض لخطر الوقوع في الهاوية. المدنية تميل إلى أن تجعل الاحتجاج أمرا لا ضرورة منه.
والتشابه كما هو في العصور ذات المدنية الرفيعة ربما كانت له مثالبه التي لا بد لي أن أتعرض لها بعد قليل، ولكنه ليس تهلكة للفن، وهو من ناحية - ولا ريب - نتيجة لرأي عام متنور له خطره ولا يقبل أن يستخف به. وهو ينتج - إلى حد كبير - من أن الفنانين بعدما وجدوا أنفسهم في عالم متزن قد تخلصوا من ضرورة القيام باحتجاجات يتظاهرون بها - وبين الفنان والجمهور في المجتمع ذي الحضارة الرفيعة مجال مشترك لا يجد الفنان لديه مبررا لأن يرتاب في خيانته أو لأن يحتقره لاحتمال عقمه، بل على العكس من ذلك نراه يفترض العطف وحسن الإدراك. ولأن الجمهور المتمدن أقل من غيره احتمالا لأن يحسب بقايا حركة تحتضر تقليدا من التقاليد، نراه لا يحس بالخوف الشديد الذي لا يحتمل من أن يغل العرف يديه. ففي العصر ذي الحضارة الرفيعة لا يعادي الفنان التقاليد ولا يعدم الثقة فيها، وإنما يتناول منها في حرية كل ما يستطيع أن تقدمه. ومن أسباب التشابه الظاهرة في العصور ذات المدنية الرفيعة خصيصة أخرى من خصائص المجتمع ذي الحضارة الرفيعة، وهي خصيصة تنشأ من ناحية عن الإحساس بالقيم - ومن ناحية أخرى، تنشأ عن التعقل، وترتبط ارتباطا وثيقا بإصرار المدنية على المعايير؛ وتلك هي أن المجتمعات ذات المدنية الرفيعة مجتمعات مهذبة.
إن آداب السلوك نعمة لا يغض من قيمتها قوم عندهم إحساس بالقيم. غير أن آداب السلوك تترتب كذلك على التعقل، وهو الصفة الأولية الأخرى من صفات المدنية؛ لأن التعقل يؤدي إلى تفتح الذهن، وإلى الرغبة في الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، وإلى النفور من الوسائل الدكتاتورية. وحيث إني الآن أحاول أن أصف العوامل التي تتفرع من الإحساس بالقيم، فلن أعتدي على الموضوع الذي أعتزم أن أتعرض له في فصل آخر. وإن شئتم تركنا التعقل وما يتولد عنه وشأنه. ومن الواضح أن الإحساس بالقيم الذي يسعى لأن يستخلص من الحياة خير ما تعطيه - هذا وحده يكفل أدب المعاشرة أو التهذيب - والخير هنا ما لا يتخلى عنه الفرد لما هو دونه.
3
وكذلك تجد أن من يملك الإحساس بالقيم لا يقصر في تقدير التفوق الجوهري المجرد الذي تتميز به المجاملة في السلوك على الوقاحة السليطة. أما كيف يؤثر هذا الذوق المتمدن الذي يؤثر دماثة الأخلاق في الفنانين الناشئين المبتكرين المبتدعين فيتوقف إلى حد ما على أمزجتهم. غير أن هنالك دائما طريقتين لإحداث أي تغيير، إحداهما فطنة لبقة، والأخرى سافلة صخابة. والمتمدنون يؤثرون الطريقة الأولى.
ولم يبلغ بي السخف بطبيعة الحال أن أزعم أن الفنانين في العصور المتمدنة يتفوقون على الفنانين في العصور غير المتمدنة، فالفن قد يزدهر في هذه العصور أو تلك. وقد يستفيد من هذه أو من تلك، وإنا لنشعر أن بعض الفنانين متقدمون في المدنية، مثل فدياس وسوفوكليس، وأريستوفان، ورفائيل، وراسين، وموليير، وبوسان، وملتن، ورن، وجين أوستن، وموزار، وإنا لنشعر أن غير هؤلاء لم يضربوا في المدنية بسهم وافر، مثل مشيدي الكاتدرائيات الغوطية، وفيلون، وشيكسبير، ورمبرانت، وبليك، ووردزورث، وأميلي بروتني، وهويتمان، وتيرنر، وفاجنر، وصانعي الأوثان في الكنغو. إننا لا نستطيع أن نقول: إن إحدى المجموعتين أرقى من الأخرى، والواقع أن الفرق بينهما ليس أساسيا. إنه فرق في الوسائل وليس في الغايات. إن غاية الفن هي بعينها في كل مكان وزمان - هي التعبير الكامل عن حالة معينة من الإحساس الجمالي - أو لعلي أستطيع أن أقول: إنها خلق صورة لها دلالتها. ولا يختلف الفنانون المتمدنون عن الفنانين غير المتمدنين إلا في الوسيلة التي يحققون بها هذه الغاية، أو في موقفهم من المشكلة أو معالجتهم لها. الفن أحد أمرين في هذه الدنيا لهما صفة ذاتية جدا، ومن ثم فإنه لكي نقدر خصائص الفن المتحضر قدرا كاملا، يجب أن ننظر في خصائص الفرد المتحضر، وحيث إنا سنفرد لهذا الفرد فصلا بأسره بعد قليل أرى أن نسمح للفنان المتحضر بانتظار دوره. ويكفيني الآن أن أذكر أنه من الحماقة أن نفترض أن الفنانين المتحضرين أرقى أو أحط من الفنانين غير المتحضرين. وليس أحكم من ذلك أن نقرر أن المدنية تلائم أو لا تلائم نهوض الفنون. ومن المجتمعات الثلاثة المثالية اخترناها، اثنان مبدعان إبداعا استثنائيا، وثالث مبدع إبداعا عاديا. المدنية لا تشجع ولا تثبط، ولكن، لما كانت الأمزجة المختلفة تنتعش في الأجواء المختلفة، فيبدو أن المدنية - على الأرجح - إما مشجعة أو مثبطة لبعض الفنانين المعينين. كم من أمثال ملتن ورفائيل وموزار، ممن لم يرتفع لهم صوت، ولم يجر على اللسان لهم ذكر، ما كانوا ليفقدوا الأمل أو يهملون في جو الفزع والهمجية الذي ساد العصور المظلمة؟ وهل لم يكن من الجائز أن يسحق القرن الثامن عشر - الذي قص جناحي بليك - الأمل المرفرف لعدد من العباقرة ذوي العقول الغوطية، وأن يسخر من فنان مثل فاجنر أو وبستر ولا يقدر البتة فكرة تنادي بالتعبير الذاتي؟
إن النظرية الشائعة التي تقول بأن المدنيات الرفيعة تفرض على الأفراد بالضرورة التشابه والمساواة، هذه النظرية هي ما تقول به عادة النظريات الشائعة: وانظر إلى عهد النهضة تجد الدليل، ومن الواضح - برغم هذا - أن الشخص الشاذ يكون في الوسط الذي يرتقي فيه معيار الثقافة والذكاء أقل ميلا وأبعد احتمالا لتمييز نفسه عن الجموع منه في الوسط الذي ينحط فيه هذا المعيار؛ ومن ثم فربما ظهر الميل إلى التشابه، وهذا خطر من أخطار المدنية، غير أن مجرد نظرة إلى التاريخ تكفي لأن تبين لنا أن هذا الميل إلى التشابه ليس خصيصة من خصائص المدنية. ولكن الخطر قائم على كل حال. وحيث إني أحب الإنصاف، وحيث إني قد أكدت منذ البداية أن المدنية ليست هي المثل الأعلى، فإني أستميحكم العذر في أن أخصص بضع صفحات أحاول فيها أن أبين بالمثال مبلغ هذا الخطر على وجه الدقة. ولنبحث في حالة فرنسا وإنجلترا.
إن الرجل الإنجليزي إذا كان على جانب من الاستعلاء يجب أن يقف على قدميه؛ إذ إنه لا يجد حوله ما يستطيع أن يتفضل بالاستناد إليه.
4
لا بد له أن يشق طريقه الخاص؛ لأن الطرق العامة جميعا تسير خلال أرض كئيبة لا تطاق وتؤدي إلى مناطق مقفرة من الحياة العقلية وإلى قرى الضواحي. إن حياة الرجل الإنجليزي أو المرأة الإنجليزية من ذوي المواهب تأكيد مستمر متواصل لشخصيته أو شخصيتها في وجه ظروف لا تعطف عليه، بل تعاديه معاداة إيجابية. الطفل الإنجليزي الذي يولد بشعور رقيق، أو إحساس خاص بالفنون، أو ذكاء خارق مطلق، يجد نفسه منذ البداية في خصومة مع العالم الذي ينبغي له أن يعيش فيه. فهو لا يفكر في قبول تلك المواضعات القومية التي تعبر عن أحقر ما في مجتمع كريه. وهو منذ البداية لا يتوجه أيام الآحاد الى الكنائس أو المعابد. وربما اختلف الأمر لو كان التوجه الى القداس الكاثوليكي. كما أن المواضعات القومية التي تحدد الحياة العائلية والتي تكاد أن تجعل من المستحيل قيام علاقة وثيقة أو دقيقة، هذه المواضعات لا تثير فيه سوى التشوق إلى الفرار. إنه ربما ينشأ في جو تزدرى فيه كل فكرة لا تؤدي إلى غاية عملية، أو لا تظفر على أحسن تقدير بأكثر من إطراء متكلف. وذلك حينما يشتهر عظيم من العظماء في أوروبا بأسرها برغم المعارضة الشديدة التي يلاقيها، فيكافأ بحق بلقب من الألقاب أو بعمود من أعمدة النعي في صحيفة «التيمس». أما الفنانون فما لم ينجحوا نجاحا تجاريا أو يظفروا باعتراف معرض عام من معارض الصور، فمن المؤكد أن يصبحوا سخرية أسراتهم. وهكذا يثار دائما كل ما لديه من إحساس رقيق، فيحيا حياة شاذة مستوحشة خجلة، و«جون بول» تحت أنفه و«بنش» في زاوية غرفته، حتى يلتحق بمدرسة خاصة، وعندئذ إما أن تحطم روحه الألعاب الإجبارية وتقاليد أرنولد أو أن تجعل منه ثائرا مدى الحياة.
إن أي شاب إنجليزي موهوب جدا، صلب الرأي في معارضته العنيفة لأكثر ما يحيط به، يحتمل أن يزداد تنبهه إلى نفسه وإلى عزلته. في حين أن زميله الفرنسي يمحو شذوذه برفق عن طريق اتصال ميسر، وهو يزداد إحساسا يوما بعد يوم بتماسكه مع شركائه في سر عجيب جليل. إن فرنسا - في الواقع - ما زالت لها مدنية. أما الفتى الإنجليزي فهو يزداد إحساسا بفرديته. يزداد شذوذا يوما بعد يوم، كما يزداد حبا في المغامرة، وتزداد شخصيته وضوحا إنه يقصم كل روابط العرف في يسر وسهولة، ويتعلم أن يعتمد على نفسه اعتمادا كليا، فلا يثق إلا في تقديره الخاص لما هو خير وما هو حق أو جميل. هذا التقدير الشخصي هو كل ما يتعقبه. وفي غضون تعقبه لا يلتقي بعقبة من العرف يحتاج لحظة واحدة إلى التردد في هدمها. المدنية الإنجليزية، أو ما يسمى بالمدنية الإنجليزية، متكلفة منافقة، أبعد ما تكون عن التهذيب، وهي في أعماقها وحشية، حتى إن كل إنجليزي من ذوي المواهب يصبح حتما من الخارجين على العرف والقانون. إنه ينمو برفض ما يحيط به، وتترعرع شخصيته، لا يراعي عرفا ولا يتمسك به، ولا يعوقه كثيرا - وهذه نقطة هامة أيضا - عسف الحكومة وتعقبها له. لأن الرجل الإنجليزي - حتى بداية الحرب على الأقل - الذي كان يجرؤ على تحدي العرف كان أقل من الفرنسي خشية من القوانين. من أجل هذا كله، كانت إنجلترا بلدا لا يسر العيش فيه رجلا لديه إحساس بالجمال أو بالفكاهة، أو يتذوق الملذات الاجتماعية، أو ذو حس رقيق. ومن ناحية أخرى لدينا تلك الفردية العظيمة التي لا تحد، وذلك الاستقلال، الذي مكن لبعض أفراد من الإنجليز ذوي العبقريات أن يبدعوا أعظم أدب في التاريخ بأسره، وينشئوا أكثر الأفكار الحديثة ابتكارا وعمقا وجرأة.
وإذا كان التشاجر لا يتم إلا بين اثنين، فكذلك التبادل لا يتم إلا بين اثنين، وحتى إذا كان خير الفرنسيين يرغب في الاتفاق مع المجتمع، فلا بد أن يكون ذلك لأن المجتمع لديه ما يقدمه لهم مما يستحق القبول، وما عند المجتمع الفرنسي للتقديم هو المدنية الفرنسية. العرف قيد للفكر والشعور والعمل. ولما كان كذلك، فهو عدو الابتكار والشخصية، ومن ثم كان مقيتا عند الرجال ذوي المواهب الممتازة في الابتكار أو الشخصية؛ غير أن العرف الفرنسي يسوده جو بهيج من التحرر، وتقدم فرنسا لأولئك الذين يتقيدون به المشاركة في أقرب المدنيات الحديثة إلى الكمال، وهي رشوة مغرية. كما أن جرعة الدواء نفسها مشوبة بالحلاوة بدرجة مقبولة. تقول التقاليد الفرنسية: هكذا تشعر، وهكذا تفكر، وهكذا تعمل، وليس ذلك لأسباب خلقية، وأبعد من ذلك أن يكون لأسباب نفعية، إنما هو لأسباب جمالية. ألزم القاعدة، لا لأنها صواب أو لأنها نافعة، ولكن لأنها لائقة - بل جميلة. إننا لا نقول لك كن محترما، وإنما ندعوك ألا تكون فظا غليظا. إننا نقدم لك بغير مقابل علامة لها قدرها في أنحاء العالم بأسره. كم من أجنبي يود لو يقدم عينيه لقاء أن يقال له أو لها: «كم أنت - أو أنت - فرنسية!».
وعند ذكر ما ينجم عن احترام الفرنسيين هذا للقاعدة، يجب علينا أن نسجل ما له من مزايا وما عليه من مثالب. إن ما فقدته فرنسا في اللون ربحته في الخصوبة، وإذا سجلنا قائمة عالمية للشرف للتفوق العقلي والفني وجدنا عدد الأسماء الفرنسية يزيد كثيرا عما يتناسب مع مساحة البلاد ومقدار ثروتها. ثم إن هذا الأساس من التقاليد هو الذي رفع الثقافة الفرنسية إلى مستوى الامتياز. إن فرنسا لم تكن قط بغير معايير. ومن ثم تطلعت بقية القارة الأوروبية إلى فرنسا دائما تلتمس مقياسا للتفكير الدقيق، والحس الرقيق، وما يستمتع به الناس كافة من ملذات. ولولا العرف الفرنسي لكان بقاء فرنسا هذا الأمد الطويل مركزا للمدنية أمرا مشكوكا فيه. بيد أنه من الحق - من ناحية أخرى - أن الصورة التي يعرضها التاريخ الفرنسي لا يظهر فيها نسبيا إلا القليل من الأعمال الضخمة أو الشخصيات الهائلة. وليس من شك في أن فرنسا كانت شحيحة في هذه الشخصيات. وقد كان أكثر العظماء - وكثير من الطبقة الثانية - من الكتاب والمفكرين والفنانين الإنجليز «شخصيات» عظيمة، في حين أن الحياة الأدبية والفنية في فرنسا كانت تتسم بإدراك صحيح وتهذيب مشوب بشيء من الملل الخفيف، ولا يشذ عن ذلك سوى القليل من الشخصيات الضخمة المدهشة. ولست أشك في أن بعض الفرنسيين يولدون بموهبة تبشر بالقدرة على الابتكار العظيم، ولكنهم لا ينجحون البتة في أن يحيوا حياتهم أو يعبروا عن أنفسهم تعبيرا كاملا؛ لأن التقاليد الفرنسية تستميلهم إلى قبول العرف واتباع القاعدة. وسرعان ما تقفز إلى ألسنة الفرنسيين من ذوي المواهب العقلية والمتفوقين في الثقافة عبارات مثل هذه «ذلك هو العرف» أو «هذا غير مقبول»، وذلك لأنهم لم يرغموا قط، كزملائهم الإنجليز، على أن يفكروا ويشعروا ويشقوا لأنفسهم طريقا محتملين في سبيل ذلك أن يقضوا حياتهم محبوسين - كالمذنبين من أهل الصين - في صندوق لا يستطيعون فيه أن يرقدوا أو يجلسوا أو يقفوا أو يميلوا أو يرتعوا أو يفعلوا أي شيء آخر سوى أن يتمرغوا؛ ولذا فإني أقر بأن الموهوبين من الشبان الفرنسيين يقبلون العرف وقواعد الحياة؛ لأن هذا العرف وتلك القواعد ليست - في فرنسا - مخيفة أو فظيعة بدرجة كبرى، وهي ليست كذلك - في يقيني - لأنها بقايا تقاليد متمدنة، أما ما لست أقره فهو أن يكون ذلك من عيوب المدنية الكبرى.
وإذا انتقلنا من فرنسا الحديثة وتدبرنا عصر اليونان العظيم وجدنا أنه لا يقل في خصوبته عن إنجلترا في القرن السابع عشر في الشخصيات الحية المبتكرة، وكذلك لم تكن إيطاليا لعهد النهضة مثلا واضحا لاتباع القواعد الخلقية والعقلية. وإذا كانت فرنسا - التي كانت خلال الثلاثمائة سنة الأخيرة - أرقى أقطار أوروبا مدنية تبهرنا بالوفرة في العقول الممتازة وانتشار الثقافة أكثر مما تبهرنا بالعقول النابغة والشخصيات الباهرة، فربما كان مرد ذلك إلى مزاج الجنس وإلى غير ذلك من الأسباب. ومن المحتمل ألا تكون زيادة المدنية في فرنسا سببا في تخلفها في هذا الاتجاه أقوى من أن نقص المدنية في إنجلترا كان سببا في تفوقها فيه. فالهمجية لا تحث من تلقاء نفسها على ظهور العبقرية وقوة الشخصية والاتجاه نحو التعبير الذاتي في اللغة. ولكن إنجلترا - حتى ذلك الحين - شجعت صفة من الصفات ربما كانت هي أقوى الأسباب في ذلك، وتلك هي احترام الحياة الخاصة احتراما يفوق كثيرا ما كان يتمتع به الناس في أقطار القارة الأوروبية. إن الرجل الإنجليزي الشاذ، أو النابغ، أو العبقري، الذي يقذف به الجو السائد إلى الكهوف والأركان المنزوية، كان في تلك الكهوف والأركان يجد مجالا للبقاء والتطور إلى أي حد يريد. ومن هنا كان اشتهار إنجلترا كدار لاحتضان روح الابتكار والشخصيات الفذة، ومن هنا كان حقها في أن تكون بعيدة الصيت في هذا الاتجاه، ولا تزال إنجلترا تشتهر بذلك، ولكنها ربما لا تكتسب هذه الشهرة بعد هذا، فهناك حركة تميل إلى الغض منها؛ لأن الاعتراف بالشذوذ خاصية أرستقراطية، وعلى الإنجليز أن يتعلموا اتباع القواعد، وعليهم وجوب التطور بحكمة في أخاديد مرسومة. وقد باتت الطاعة والخضوع والانصياع أكثر قبولا في إنجلترا منذ أن قبلت الخدمة الإجبارية مستخفة في ذلك بتقاليدها القديمة. ومن المحتمل - إذا ما بلغ حاملو تذاكر الاشتراك من ناحية، ونقابات العمال من ناحية أخرى، أقصى آثارهم السيئة - أن تفقد إنجلترا - خلال بضعة عقود من السنين - من فوق هامتها العباقرة، والشخصيات، وروح الابتكار، فتبدو عارية في همجيتها المعهودة، وأن تصبح موضع السخرية والازدراء في العالم طرا. إنها بذلك تستبعد فرديتها، دون أن ترتفع في سلم المدنية.
إن من يملك الإحساس بالقيم لا يمكن أن يكون من السوقة؛ إنه يقدر الفن والفكر والمعرفة من أجل ذاتها لا من أجل احتمال نفعها، وحينما أقول من أجل ذاتها أقصد بطبيعة الحال أن تكون وسائل مباشرة لحالات عقلية طيبة هي وحدها الغايات الطيبة. فإن أحدا لا يتصور اليوم أن قطعة فنية ملقاة في جزيرة غير مأهولة لها قيمة مطلقة، أو يشك في أن قيمتها الحقيقية تنحصر في أنها تستطيع في أية لحظة أن تصبح وسيلة لحالة عقلية تتفوق في امتيازها. ولما كانت الأعمال الفنية وسائل مباشرة لمتعة جمالية فهي وسائل مباشرة للخير. والبحث وراء الحقائق العلمية والفلسفية وإدراكها، بحثا وإدراكا مجردا عن الغرض، هذا البحث وذلك الإدراك يمكن اعتبارهما كذلك وسائل مباشرة للخير؛ لأنهما يثيران حالات عقلية مشابهة تتصف بعمق الشعور. بيد أن قيمة المعرفة تختلف عن ذلك. فالمعرفة ليست وسيلة مباشرة للخير، وعملها بعيد عن هذا المحيط. فالمعرفة الدقيقة بتواريخ ملوك إنجلترا وملكاتها لا تستثير النشوة في أحد. المعرفة غذاء له قيمة كامنة لا حد لها، ويجب أن يتمثلها العقل والخيال قبل أن تكون لها قيمة إيجابية. ولن تصبح المعرفة وسيلة مباشرة لحالات عقلية طيبة إلا بعد تمثلها. إلا أنه بغير هذا الغذاء يميل العقل والخيال كلاهما إلى الضمور والالتواء، بل يتعرضان لخطر القحط المميت.
ليس في المعرفة عند أصحاب الإحساس بالقيم ما يستحق التقدير إلا دسامتها، وإن يكن من الواضح أن لها كذلك أهمية عملية. المعرفة تمكننا من صنع السيارات وإصلاح السيقان. وإنما يميز الشعوب المتمدنة أولا أنها قادرة على أن تدرك قيمة المعرفة كوسيلة لبلوغ حالات نفسية رائعة، وأنها تقدر هذه القيمة ثانيا قدرا يفوق أية فائدة بعيدة نفعية أخرى. والجمال بطبيعة الحال ليست له البتة قيمة عملية، والصورة الحسنة قد تحث على سلوك نافع، ولكن الصورة السيئة كذلك - بل وأكثر من ذلك - تؤدي إلى نفس هذه النتيجة . ومن علامات الرجل الهمجي - أو السوقي - أنه لا يملك الإحساس بالقيم، ولا يستطيع أن يميز بين الغايات والوسائل، وبين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة، فهو لذلك يريد أن يعرف ما للفن والتأمل والعلم البحت من فائدة، فإن أجبته أنها وسائل مباشرة - أو تكاد أن تكون كذلك - لحالات وجدانية لها أكبر القيمة وأعمق الغور لأسباب واضحة جلية، لم تقنعه ولم تبعث في نفسه رضا، ما لم تقل له إنها المفاتيح التي يفتح بها أبواب الجنة، وما لم تستطع بطريقة ما أن تقدم له ثمار الفردوس، وكيف تستطيع أن تقدم له هذه الثمار؟ إن ذلك لا يكون - فيما أحسب - إلا بتمكينه من مشاهدة الفردوس، وأؤكد لكم أنني لا أعرف كيف تستطيع أن تمكنه من هذه المشاهدة، بيد أني أتصور أن هذا ما ينبغي أن تقوم به التربية إذا استطاع المعلمون بطريقة ما أن يجعلوا البنين والبنات العاديين يدركون هذه الحقيقة البسيطة، وهي أن الدنيا ربما لا تقدم له (أو لها) شيئا أفضل من المال اليسير والعمل الكثير، إلا أن كلا منهم يستطيع إن أراد أن يحيا حياة مليئة بالملذات المستساغة إذا استطاع المعلمون أن يجعلوهم يدركون أن المتعة التي يظفر بها المرء وهو وحيد في غرفة متواضعة، هي غرفة نومه وغرفة جلوسه في آن واحد، بعقل متنبه مدرب مزود بالمعرفة ومعه كتاب أكبر من متعته بامتلاك اليخوت وجياد السباق، وأن النشوة التي يحسها من صورة عظيمة أو رباعية من رباعيات موزار أشد من نشوته من الجرعة الأولى من زجاجة الشمبانيا (وأن يصدر ذلك عن ذواقة مخلص). إذا استطاع المعلمون هذا، لحلوا - فيما أظن - عقدة المشكلة الإنسانية. أنا لا أستطيع أن أحل هذه العقدة، ولا أستطيع إلا القول بأن الشعب الوحيد الذي يملك مفتاح قصر الملذات هذا هو الشعب الذي يعرف كيف يقدر الفن والفكر لذاتهما والمعرفة كأداة للثقافة.
إن السوقة يعيبون على الإغريق في بحثهم وراء الحقيقة خلوهم من الغرض. لقد دفع الإغريق التأمل الرياضي ودراسة الهندسة إلى حد لا يزال يدهش له أولئك الذين يقدرون على قياس الأرض المحسوسة، وهم أساتذتنا في التفكير الميتافيزيقي والخلقي والسياسي؛ في حين أنهم بلغوا في النظريات الميكانيكية حدا مكنهم من أن يخرجوا بطريقة غير مباشرة نموذجا للآلة البخارية، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة استغلال هذا الاختراع، مما أذهل العصور التالية. إنهم لم يصنعوا إطلاقا قاطرة، أو بارودا، أو حتى دولابا للغزل. إنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة لذاتها، وبوصفها وسيلة للثقافة لا وسيلة للسلطان والراحة، وأهم من ذلك أنهم كانوا يزدرون أولئك الذين يبحثون عنها لفائدة مادية أو لكسب شخصي، لاعتقادهم أن هذه البواعث الدنيئة أحط من كرامة الأحرار ولا تتفق والحياة المهذبة، بل ربما أدهش بعض العلماء أن يعرفوا أن الأثينيين كانوا يحسبون الاشتغال بالتجارة مخلا بالشرف، ومع ذلك فإن أفلاطون وأرسطو كليهما يؤكدان ذلك. كان الأثيني يؤثر أن يحيا حياة غنية على أن يكون غنيا، ومن أجل هذا نعد الأثينيين أرقى الشعوب حضارة في التاريخ.
كان يمر بخاطر الأثينيين أحيانا أن الشيء الجميل يحتاج إلى مبرر آخر غير جماله، وربما يرجع السبب في ذلك أولا إلى أنه قل من الأفكار ما لم يخطر للعقل الأثيني.
أما الإيطاليون لعهد النهضة، فكانوا أقل من الأثينيين تفكيرا في الأمر، بيد أنه ينبغي لنا أن نعترف أن الفرنسيين في أخريات القرن الثامن عشر أساءوا استخدام فن التصوير بغير خجل. فكانت صور جروز مثلا توصف دون حياء لإنهاض الروح المعنوية، فهي تنبه الحس، وتثير الشفقة، وترتب على ذلك أنك تجد حتى اليوم بعض ذوي الأذواق ممن لا يستطيع أن يدرك أي مصور بارع كان جروز حقا. إن القرن الثامن عشر - كما قررت آنفا - كان أصح موقفا فيما يتعلق بالحق منه فيما يتعلق بالجمال، كما كانت النهضة أصح موقفا فيما يتعلق بالجمال منها فيما يتعلق بالحق، ومع هذا فإن تقدير النهضة للدراسة الخالصة التي لا تهدف إلى غرض كان تقديرا صادقا، وقد جعل ذلك براوننج حقيقة مسلما بها في شعره الخيالي الذي قال فيه:
هذا الرجل الوضيع يبحث عن عمل قليل يؤديه
فيلقاه وينهيه
وهذا الرجل الرفيع، يتابع أمرا جليلا
فيموت قبل إدراكه
هذا الرجل الوضيع يجمع واحدا إلى واحد
فسرعان ما يبلغ المائة
وهذا الرجل الرفيع يهدف إلى المليون
فلا يبلغ غايته
هذا عالمه هنا - فهل يحتاج إلى العالم الآخر؟
إن هذه الدنيا ترعى شئونه
وذاك يتوجه إلى الله، ودون أن يساوره قلق
يبحث عنه حتى يلقاه
وفي نضاله، تهبط عليه أيدي الموت الخانقة
وتزهقه وهو وراء قواعد النحو يعدو.
ووسط الضجيج، يبحث في أنواع الكلام
إنه يضع قواعد النحو وهو في نطقه يتعثر
بعدما يصيبه في نصفه الأسفل الشلل المميت.
ومهما يكن من الأمر فذلك اتجاه لا يسير فيه السوقة. إنها حياة ينفقها صاحبها في متابعة «العلم الذي لا ينفع». إن النحوي يروعنا ويثير فينا قليلا من السخرية في آن واحد. وهو لا يثير سخريتنا لإهماله للقيم العامة، وإنما يثيرها فينا تركيزه الجنوني على موضوع واحد قيم مع إهمال كل موضوع آخر. إن المتخصص لن يكون إنسانا كامل المدنية. وربما كان القرن الثامن عشر عصرا غير عملي كعصر النهضة. ولا يزال من المألوف بين أبناء الطبقة الدنيا من أصحاب الاتجاهات العقلية أن يعتبوا على ذلك العصر الساحر انكبابه كله على علوم تأملية بحت مثل الرياضيات والهندسة واهتمامه بها أكثر من اهتمامه بعلوم نافعة كعلم الحياة والكيمياء. لقد تمت في عصر العقل مكتشفات ميكانيكية هامة، غير أن أحسن العقول لم تهتم بها إلا قليلا، والعلوم «النافعة» التي حظيت باهتمام شديد هي علوم السياسة وعلم الاقتصاد وحدها، ولا زلت من الطراز القديم الذي يعدها نافعة. وقل من المؤرخين من لا يعزو إلى اشتغال هذا القرن بالمعنويات ما اتصفت به الثورة الفرنسية من الاهتمام بالأمور النظرية، وهم يرون أن جيلا نشأ على آراء دارون وسبنسر لا يمكن أن يطمئن إلى التحيز العلمي أو إلى الدراسات النظرية البحت، ولست أدري ماذا عساها أن تقول البقية الباقية من الطبقة البرجوازية الروسية في هذا الصدد.
وعن الإحساس بالقيم تنشأ تلك الرغبة وذلك الاعتقاد في التربية الحرة التي لم يخل منها عصر من العصور المتمدنة. إن غاية ما يشتهيه كل إنسان متمدن أن يظفر بأغزر وأوفى حياة ممكنة، حياة تضم أقصى ما يمكن من التجارب الحية الرائعة. ولما كانت تلك هي رغبة الإنسان المتمدن فإنه يهدف إلى تطوير نفسه تطويرا كاملا وإلى التعبير عن ذاته تعبيرا تاما، ولا يستطيع تحقيق ذلك إلا من تعلم التفكير، والشعور، والتمييز، ومن تعلم أن يترك العقل حرا في معالجة كل موضوع، وأن يجعل مشاعره تستجيب استجابة صحيحة لكل باعث، والمعرفة مطلوبة فوق هذا؛ لأن العقل بغير معرفة يبقى عبدا للهوى والخرافة، في حين أن المشاعر لا تتغذى عندئذ إلا بطعام وحشي رتيب. إن الرجل المتمدن يتطلب تعليما يكون بقدر الإمكان وسيلة مباشرة لما هو وحده خير كغاية من الغايات. إنه ينمي قواه في التفكير والشعور، ويتابع الحقيقة، ويكتسب المعرفة، لا لأية قيمة عملية قد تنطوي عليها هذه القوى، ولكن لذاتها، أو لقدرتها على كشف إمكانيات الحياة الغزيرة المعقدة - وهو في ذلك يتميز تمييزا واضحا عمن يأبه بتوافه الأمور والفائز في المسابقات، أما الرجل من السوقة، الذي ينقصه الإحساس بالقيم، فهو يتطلب من التربية أن تنير له الطريق إلى الثراء والسلطان، وهما هدفان ليست لهما قيمة إلا باعتبارهما وسائل بعيدة لذلك الخير النهائي الذي تقودنا إليه مباشرة التربية الحرة. إن التربية الحرة تعلمنا الاستمتاع بالحياة، أما التربية العملية فتعلمنا اكتساب الأشياء التي قد تمكننا أو تمكن غيرنا من الاستمتاع بها.
قل من الأمور ما اهتم به الأثيني اهتمامه بتربية ابنه. ولما أصبح أهل ميتلينيا سادة البحار لفترة ما كانوا يعدون أكبر عقوبة يوقعونها على الذين لا يذعنون لهم من حلفائهم حرمانهم من المدارس، وإذا استثنينا البلاغة واستخدام السلاح فإن منهج التعليم في أثينا لم يهدف مباشرة إلى نتائج عملية. وكانت إيطاليا وريثة اليونان، وليس هناك ما هو أدل على قوة النهضة وذوقها من أنها فرضت زهاء أربعمائة عام على الطبقات الحاكمة في أوروبا تربية حرة كما كانت في ذلك الحين، ونحن نعرف تمام المعرفة ما كانت تراه خير العقول في إيطاليا في هذه المشكلة الأساسية للتربية؛ لأن بولدا ساركاستجليوني عالج الموضوع في شمول يدعو إلى الإعجاب، ولخص حججه وأمثلته في قوله: إن الآداب هي التي تزين النفس الحقة الكبرى، وكان هناك بطبيعة الحال في المنهج الجديد كثير من الغبار والرماد، إلا إن التقليد الذي ورثته النهضة عن الإغريق كان على كل حال يقوم على أساس اللغة اليونانية، وهو في هذا يختلف اختلافا كليا عن عبث العصور الوسطى وحذلقتها. وبدراسة الأدب والفلسفة الإغريقية أتيحت الفرصة على الأقل لصفوة الشبان في جميع الأمم لاكتساب خير ما يستحق التحصيل. لقد كانت لأوروبا تربية تقليدية حرة في أساسها، وبقي هذا التقليد دون أن يعارضه أحد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإن كان المنهج خلال القرن الثامن عشر قد تطور مع تقدم الزمن، دون أن يسف، فأدخل عليه تعليم الرياضيات والهندسة بدرجة أعم وأنظم. أما في القرن التاسع عشر فقد هوجمت هذه التربية هجوما عنيفا وبدأت تتلاشى بصورة محسوسة. وذلك من أثر الثورة الصناعية، وظهور الطبقات الوسطى، وعبادة كسب المال التي كانت تسمى أحيانا «إنجيل العمل» والحماسة لمسايرة الزمن. وقضى عليها نهائيا خلال ما يسميه مستر ه. ج. ولز «الحوادث المحزنة في السنوات الأخيرة القلائل»،
5
وما يسميه «بالحرب» من نشأ على التربية الحرة.
إن الإحساس بالقيم والقدرة على التمييز بين الغايات والوسائل، تكفي لأن يؤمن المرء بالفردية، ومن المؤكد أن صفة أساسية أخرى - وهي تتويج العقل - تتولد عنها كذلك الأهمية القصوى للفرد، ولكن لما كنا أثناء نظرنا في رغبة الرجل المتمدن في تقدمه الذاتي اقتربنا من هذه الخصيصة من خصائص المدنية الرفيعة، فيجدر بنا أن نعالجها كذلك فورا. إن كل من يدرك أن حالة العقل الطيبة هي الغاية الوحيدة الطيبة، ومن يدرك أن ليس هناك ما يبرر افتراض وجود عقل جماعي، كل من يدرك ذلك سيرفع بطبيعة الحال من شأن الفرد الذي لا يوجد الخير المطلق إلا فيه وحده. إن مثل هذا الشخص إذا تجاهل أن كل تعميم يجب أن يقاس في النهاية بتجربة الفرد لا يمكن العفو عنه؛ لأن الحديث عن خير القطيع كأنه شيء يختلف عن خير الأفراد الذين يتألف منهم القطيع أمر وحشي سخيف حتى عند السياسيين حينما يخدم ذلك أغراضهم. ومن ثم فإن الساسة البريطانيين - برغم استعدادهم للحديث عن المصالح البريطانية كأنها تختلف عن مصالح الشعب الذي يسكن في بريطانيا - صعقوا صعقا شديدا لمغالاة الصحفيين الألمان الذين قدسوا الدولة الألمانية فوق الفرد الألماني. إن الدولة لا يمكن أن تكون غاية لذاتها. إنها لا تعدو أن تكون وسيلة لتلك الحالات العقلية الطيبة التي هي وحدها غايات طيبة، ولا تتوفر إلا للأفراد.
وكثيرا ما اضطر الأثينيون إلى التوفيق بين حقوق المواطن وحاجات المدنية، وقد أفلحوا عامة في الاحتفاظ بالمجال حرا للشخصية - وذلك على الأقل حتى بدأت سنوات الحرب تبلد إحساسهم بالقيم - فمكنوا بذلك لظهور تلك المدنية التي ما برحت عجب العالم الغربي وفخاره، وسوف أتحدث طويلا عن الحرية الأثينية في الفصل المقبل، عندما أتعرض للكلام عن مولود العقل الأول - التسامح. ويكفيني في الوقت الحاضر أن أطلب إلى القارئ أن يسلم بها، ولن أذكر هنا سوى أن الإغريق كانوا مخترعين للفردية بصورة ما، وفي عالم يسوده الرق والخرافات الشرقية، كانوا أول من هب لإثبات القيمة الشخصية للمواطن المتعلم الذكي. كانوا أول من فكر في أن المرء بحواسه وعواطفه وذهنه هو سيد العالم، وأن الدنيا قوقعته التي يستطيع أن يفتحها بالذكاء والشجاعة، وأن عقل الفرد يقابل قوى الطبيعة، وأن كل إنسان يستطيع أن يشعر وأن يفكر هو ملك حقا.
وكذلك الإيطاليون لعهد النهضة أحسوا إحساسا قويا بأهمية الفرد باعتباره المصدر الأساسي لكل ما هو مثير فاخر له دلالة، بل ربما غالوا - كما ذكرت من قبل - في تمجيدهم للشخصية، ولم يكفهم أن يزعموا للفرد تمام الحرية في التعبير والتجربة، بل أخذوا يغذون الشخصية حتى باتت استكبارا وأنانية، وأسوأ من ذلك أنهم كانوا يظنون هذه الصفات البربرية في أساسها امتيازا شخصيا، ولم تقع في هذا الخطأ العصور التي ارتفعت في أوج المدنية عن عصر النهضة مثل عصر بركليز وفلتير، فإن حسن السلوك، والمعاشرة، وغير ذلك من المميزات التي تتقدم كلما أصبحت المجتمعات المتمدنة أكثر تقديرا للذة الحديث، كل ذلك خفف في أمثال هذه العصور الميل الفردي لتقرير الذات بالاعتداء، ولكن لا جدال في أن هذه العصور الثلاثة كانت ممعنة في الفردية، وربما كان خير ما تظهر فيه فردية الإغريق فلسفتهم، وخير ما تظهر فيه فردية النهضة إسرافها. وليست بي حاجة - فيما أحسب - للتدليل على أن القرن الثامن عشر كان فرديا بأن أبين كيف أن كل تلك الآراء السياسية التي بلغت أوجها في الثورة الفرنسية كانت تقوم على أساس حقوق الإنسان وأهميته الخاصة باعتباره بشرا.
وربما كان لا بد لي من ذكر كلمة عن شيء يترتب بالضرورة على الفردية - الفردية التي تتولد من العقل، والفردية التي تصدر عن الإحساس بالقيم - وأعني بذلك «العالمية». إن المرء الذكي الذي يحس بفرديته لا يحتمل أن يحس بالحب الشديد للدولة، التي يعدها - حقا - على أحسن تقدير ضرورة خطرة. إن الميل نحو العالمية القائمة على أساس الفردية، وهو حركة تحرر من غريزة القطيع أمر لا بد أن يلازم تقدم المدنية، بل إن هذا الميل يكاد أن يكون بحق معيار الحضارة. إن السلطان المطلق يتحكم في غريزة القطيع الهمجية. وعند الرجل الهمجي فكرة غامضة جدا عن القيم التي تتخطى حدود القبيلة، وهو لا يعطف على شيء يخرج عن نطاقها، ولكن الرجل المتمدن يعطف على غيره من المتمدنين بغض النظر عن محل ميلادهم أو إلى أي عنصر ينتمون، ويشعر بالقلق مع المتوحشين والسوقة - حتى إن كانت له بهم صلة من صلات الرحم - يقطنون في كنف المنطقة التي يعيش فيها، ولن أورد هنا الأمثلة التي تدل على عالمية القرن الثامن عشر، غير أني سوف أقدم اقتباسا واحدا من رجل بارز حجة في الموضوع لكي أخفف من القلق الذي يساور رجلا جاهلا قد يضطره عمله إلى مطالعة هذا الكتاب. «بقي علينا أن نشير إلى إحدى مميزات فلسفة القرن الثامن عشر، وهي تعتمد على جميع المميزات الأخرى أو تتصل بها: إنها عالمية، يتمخض عنها أدب عالمي ... إن جيوش الملك قد هزمت على يد رجل بروسي، ولكن هذا البروسي كان يتكلم الفرنسية، وكان بنا أشبه من جندي يموت من أجل الملك ... ومن ثم فإن هازم روزباخ كان مواليا للمدنية الفرنسية. فوطنيتنا تتركز في هذا الانتصار الروحي ... ذلك أن تحرره العقلي (وهو من صفات الفرنسي في القرن الثامن عشر) كان يحول دون تحيزه ضد العنصر أو اللون ... والرجل الذي يستحق هذا الاسم هو الذي لا يخضع إلا للعقل، غير أن هذا الرجل لم يكن فرنسيا أكثر مما كان ألمانيا: إنه أوروبي، إنه صيني، إنه من كل مكان يقطنه الإنسان، وجميع الحقائق التي يحتويها العقل البشري إنما وجدت لمثل هذا الرجل العالمي».
6
وقد اقتبست من قبل من كتابات المفكرين الإغريق مقتطفات تدل على عالمية كاملة التطور وازدراء جريء لقيود الوطنية، وتذكرون ما قال ديموقريطس الأبديري من أن «كل بلد تحت منال الرجل الحكيم» وأن الأرض بأسرها موطن الروح الطيبة، وقد سارت النهضة على هذا النهج؛ لأن الإنسان حينما يشرع في تحرير الفكر تخف عنه وطأة الوطنية، ومن ثم فلا عجب أن تجد كوروس أوركيس - وهو اسم نختاره اعتباطا - الرجل الإنجليزي الذي يهتم بالجمال أو الحق أو المعرفة أشد عطفا على الفرنسي أو الألماني أو الصيني الذي يشاركه ذوقه منه على ابن موطنه الذي يشارك في ذوقه مجلة «بنش» أو «جون بول».
غير أن الوطنية هوى يشق أبعاده عن الدولة أو المجتمع. والعالمية - وهي النتيجة المنطقية للفردية - بطبيعتها صفة من صفات الفرد أكثر منها من صفات الجماعة، وليس من شك في أن الأثينيين كانوا وطنيين، إلا إن وطنيتهم تخلو من بعض مساوئها لأنهم كانوا صادقين في حبهم أثينا لما كانت عليه ، لا لفكرة وحشية ساذجة وهي أنها مدينتهم. كانوا يحسون هذا الإحساس عن تفكير، لما في المدينة من صفات معينة محببة، لا عن غباء لعلمها أو اسمها، وكذلك كان للأثينيين عذرهم، فقد كانت دولتهم محاطة بدول أخرى تهددهم وتعاديهم. وكان لا مناص لهم من الإحساس بأنهم يقفون موقف الدفاع، ولما انتصف القرن الخامس عشر هبطت هبوطا كبيرا الحماسة الوطنية للمدن الإيطالية، واستأجر الطغاة جيوش المرتزقة لأغراضهم السياسية. ولم يسهم المواطنون إلا قليلا - أو لم يسهموا قط - في الحروب التي نشبت بين الأسرات، ولو أن الإيطاليين أدركوا أن المدنية الإيطالية في جملتها مهددة - كما كانت - من جانب البرابرة الجرمان أو الإسبان، ولو أنهم سلحوا أنفسهم للدفاع، لهبطوا ولا شك بمستوى مدنيتهم، ولكان لهم في ذلك ما يبررهم كما كان للأثينيين، وتكاد أن تكون جميع حروب القرن الثامن عشر منازعات بين جيوش من الجند المحترفين المدربين على القتال أحسن تدريب؛ فاشتهر المدنيون المتفوقون في تعليمهم بانتفاء العاطفة الوطنية والبغض بينهم.
إن جميع الشعوب المتمدنة عندها إحساس بالقيم، ويختلف هذا الحكم في معناه عن قولنا إنه كان لديهم ناموس للأخلاق. ففي الأخلاق ربما كانوا متشككين كل التشكك، وربما قبلوا نظرية ثابتة مسلما بها، أو نظرية تقوم على الإلهام الشخصي، أو ربما أخذوا بمبدأ النفعية وأقروا أنهم يسعون لتحقيق أكبر قسط من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولكنك لن تجد شخصا متمدنا من جميع نواحيه يقبل قانونا للأخلاق يهدف إلى توفير أكبر قسط من السعادة لأكثرية مجموعة مختارة اعتباطا وبغير تمييز. إن الفرد إذا تقدم في المدنية لا يمكن أن يقبل الوطنية كقاعدة خلقية بغير تردد. إنه يميل بحق إلى الإقلال من التفكير في حدود المجموعة. كما أن اعتبار «بلده» وحدة لها مصالح تتميز عن مصالح بقية العالم فكرة تفقد وضوحها تدريجا في نظره، حتى يشعر في النهاية - بعدما يدرك أن الفرد وحدة لها مصالحها المتميزة وهذا الكوكب وحدة أخرى - إن حدود جميع الوحدات المعروفة الأخرى وتخومها غامضة اعتباطية. هناك أفراد وهناك الجنس البشري، وحينما تتدبر العقول القوية المدربة في حرية وانطلاق تنهار العقيدة في وجود الحواجز المأمونة بين هاتين الحقيقتين الثابتتين، وقد يكون من أسباب التيسير أحيانا -لأغراض تنظيمية أو بيولوجية مثلا - أن ننظر إلى الأفراد أعضاء في جماعات: الرجال، والنساء، والأطفال، أصحاب الساق الواحدة أو الرئة الواحدة، قصار الناس، وطوالهم وأصحاب الشعر الأحمر، والمتعلمون، ومدمنو الخمور، وحمالو السكك الحديدية، والحلاقون، والألمان، والإنجليز والأتراك. إلا أن مثل هذه المجموعات لا يمكن أن تكون لها ما للأفراد من واقع أو من صفة أكيدة أو وجود لا نزاع فيه، أو ما لهم - في الحقيقة - من فردية، وأهم من ذلك أن الجماعات التي تقوم على أساس الوضع الجغرافي أو الفروض الجنسية تبدو في اعتبار المدنية أقل من غيرها واقعية وأقل منها في الصفات المشتركة وأشد غموضا.
العالمية سلاح تميل المدنية إلى الدفاع عن نفسها به حينما يشتد تهديد العصبية الوطنية؛ لأن الوطنية خصم لدود للمدنية. هي مرض قوض في النهاية صرح أثينا، وهدد أكثر من مرة سلامة كيان القرن الثامن عشر، وإنا نشك في أن التعصب الديني نفسه قد تولدت عنه من الويلات البربرية ما يفوق هذه الظاهرة الحديثة من مظاهر غريزة القطيع. كم من ملايين البشر انهار أو أفقر من جراء هذه الظاهرة التي هي من بقايا عصر ما قبل الإنسان؟ كم من إمكانيات الخير العام ما ضحي به في سبيل هذه الزائدة سريعة التهيج؟ والعصبية الوطنية - برغم هذا - غول لا يمكن الاقتراب منه، ولا يستطيع أحد أن يحدثك على وجه الدقة عن ماهية الأمة. إن وجود ألمانيا وإنجلترا يشبه وجود ناديين من نوادي كرة القدم. تستطيع اللجنة التنفيذية في كل منهما أن تختار أحد عشر لاعبا يتبارون مع أحد عشر لاعبا آخرين، يهتف مؤيدوهم من الجانبين ويهللون، ومع ذلك فإن أحدا لا يشك في أن العامل من عمال السكة الحديدية في كرو بينه وبين زميله في شفيلد قدر مشترك أكبر مما بينه وبين رئيس الغرفة التجارية في كرو الذي قد يكون بالمصادفة رئيس نادي كرة القدم. إن الناس جميعا يستطيعون الانحياز، وأكثرهم يستطيع أن ينحاز إلى أي جانب. من أجل هذا كان من اليسير الإبقاء على روح التعصب الوطني حيا، ولكن إذا كان هناك معنى حقيقي في تقسيم الناس إلى قوميات مختلفة، لا بد بالتأكيد أن تكون هناك صفات مشتركة يختص بها كل من ينتمي إلى قسم معين، فما هي هذه الصفات؟ ما هي الصفات الخاصة التي يشترك فيها ملتن مع بوتملي وشلي ومستر لويد جورج ودارون وسر أولفر لودج ودوق ولنجتن وفستانلي، وأسفف لندن، والأسقف باركلي، وبليك وكولردج وسروليم جوينسن هكس؟ ولما كنا قد بلغنا هذا، فما هي الصفات الخاصة التي اشترك فيها معك أو مع الرجل الذي جلب لنا النصر في الحرب؟ إنه يتكلم الإنجليزية، وكذلك يتكلمها الرئيس ولسن، وكذلك يتكلمها القيصر ولهلم: إن المستر جورج يتكلم لغة ويلز كذلك، التي لا أتكلمها أنا على الأقل، وهناك لغات أخرى قديمة وحديثة أعتقد أننا نتفوق عليه فيها. ومن ثم فإن اللغة، بدلا من أن تضم بعضنا إلى بعض، توحي بتقسيم ربما باعد بيننا. إن ثلاثتنا ولد في الجزر البريطانية، وربما ولد فيها كذلك كارل شيدنتز، وماريوس بيرفت، وديمتري بروتو بوبوف، وسقراط كنبيرفت، والحاج بابا، وعبد اللطيف، وبوشي لنج، وأرنست روتشيلد وشيوزا موني (وهم أجانب من جنسيات مختلفة). فهل أفرض أن التعصب الوطني، ذلك الشيء الذي من أجله يتحمل المرء كثيرا من المشاق، ويتجاوز عن كثير من المزايا، هو نفس الشيء الذي يشترك فيه هؤلاء الرجال معا ومع مستر لويد جورج ومعي؟ إن كان الأمر كذلك، استطعت أن تفهم في يسر لماذا يرى المتمدنون باطلا معينا في تقسيم الناس إلى أمم.
ومن الصفات التي يتميز بها تميزا واضحا الرجل المتمدن من الرجل الهمجي روح الفكاهة، وليست روح الفكاهة - عند التحليل الدقيق - سوى إحساس بالقيم ارتفع كثيرا في سلم التقدم، ولست أقصد بروح الفكاهة استساغة المجون والتهريج، وأستطيع أن أتصور - مثلا - ما يقوم به الفدا في سيلان من وضع الأشواك في حصير الآخرين، أو اليوروبا في غرب أفريقيا من تبادل التسلية بالحكايات الماجنة، وإنما أقصد بروح الفكاهة القدرة على إدراك الجانب المضحك من أخذ الأمور مأخذا جديا أكثر مما تستحق، وإعطائها أهمية ليست جديرة بها، ولا يتمتع بهذه القدرة إلا أولئك الذين يستطيعون أن يفرقوا بين الوسائل والغايات؛ فما يثير الضحك أن تعزو إلى الوسيلة الأهمية التي تستحقها الغاية. ولما كانت كل أعمال البشر لا تبلغ المثل الأعلى، فإن جميع المحاولات البشرية تبدو أحيانا في عين الرجل المتمدن من جميع نواحيه أمورا تثير الضحك ولو إلى حد ضئيل، غير أن الحماسة في البحث وراء الحب والجمال والحق أمور لا يعلو فيها الضحك ولا يطول إلا من الحمقى الذين لا يستطيعون أن يدركوا هذه الحماسة أو يقدروا الهدف منها. إن الحالة العقلية التي تسيطر على المحب، أو على من يبدع أو يتأمل الجمال، أو على من يتطلع إلى قمم الحق العالية، حالة طيبة في حد ذاتها، ومهما تكن الوسيلة التي تستخدم في بلوغها شاقة أو بغيضة، فإنه يجب ألا تحكم عليها بعدم الملاءمة - وإن كنا في الواقع كثيرا ما نفعل ذلك. إن هذه الأمور غايات طيبة، ومن ثم يشق أخذها مأخذ الجد أكثر مما ينبغي، وإذا ما خرجنا عن هذا النطاق المقدس للغايات وطرقنا باب الوسائل، وشرعنا ننظر إلى الناس الذين يشغلون أنفسهم بالسياسة والتجارة والكرامة والراحة والسمعة والشرف وما إليها، فسرعان ما يتبين لنا أنهم يعالجون هذه الوسائل بالجد الصارم الشديد الذي لا يجوز إلا للغايات. إنهم يأخذون هذه الأمور مأخذا جديا أكثر مما ينبغي. يدلك على ذلك إحساسك بالقيم، وترد عليه روحك الفكاهية بومضة من السرور لها لون معين لا يراه إلا المتمدنون.
هذا السرور الذي لا يستطيع أن يدركه الرجل الهمجي بما لديه من إحساس بدائي بالقيم، وعجز عن التمييز بين الوسائل والغايات، هذا السرور يستمتع به كل رجل تمدن بدرجات مختلفة. إن روح الفكاهة مميز من مميزات الفرد الضالع في المدنية؛ إلا إنه لأسباب أرجو أن أوضحها حالا لا يترتب على ذلك أن يعيش أرقى الأفراد مدنية في أرقى العصور مدنية، بل على العكس من ذلك يبدو أن أرقى الأفراد مدنية في أي قرن له نصيب من المدنية يجب أن يكونوا أرقى مدنية من نظرائهم في القرن السابق بشرط أن يكون تراث الماضي دائما في منالهم وأن تتوفر لهم وسائل الاستمتاع به، فقد كان أكثر الرجال تمدنا في القرن الثالث عشر أحط في المدنية إلى درجة لا تقاس من الأثيني أو حتى من الروماني المثقف، وذلك لأن العصور الوسطى كان يشق عليها أن تستمد أي شيء من الماضي أو أن تفيد كثيرا من القليل الذي تحدر إليها، وحتى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يكن الطريق بعد معبدا، ولا أتصور أن أشد رجال النهضة تهذيبا كان يظهر بمظهر الشخصية التي لها قيمتها في دائرة أسبسيا
Aspasia
ولكن إذا كانت النهضة ما برحت تتجه إلى أعلى، فمن المؤكد - فيما أظن - أنه عندما انتصف القرن الثامن عشر كان هناك من الرجال والنساء من سموا في المدنية على سابقيهم، ويرجع السبب أولا في ذلك - من غير شك - إلى أنهم تعلموا منهم الكثير؛ إلا إن الرجال والنساء الضالعين في المدنية في القرن الثامن عشر لم يؤثروا برغم هذا في عصرهم تأثيرا قويا عميقا كما فعل المتمدنون في أثينا، وربما يعود ذلك إلى أنهم كانوا نسبة ضئيلة من السكان. كانت مدنية القرن الثامن عشر أحط درجة من مدينة بركليز، ولكني برغم هذا أستطيع أن أقول إنه لم يوجد بين الأثينيين من يبلغ في مدنيته مبلغ فلتير، وعلى أية حال فإن الرجل الكامل المدنية في القرن الثامن عشر كان أرهف حسا في فكاهته من الأثينيين بدرجة واضحة. لم يبلغ أرستوفان نفسه مبلغ لافونتين (منذ البداية) في رقة الحس، أو مبلغ جرسيه، أو منتسكيو، أو ماريفو، أو فلتير، أو بومارشيه، أو - في هذا الشأن - مبلغ كنجريف، أو بوب، أو جولد سمث، أو ستيرن، أو جبن، بل إن أرقى المتمدنين في العصر الحاضر ربما فاقوا كل من عداهم في دقة الحس ، من حيث الفكاهة، أو في تقديرها على الأقل. وإن كان الأمر كذلك فلست في حاجة إلى أن أعزز رأيي بأن أذكر أن ظهور عصفور واحد من عصافير الجنة لا ينبئ بقدوم الصيف.
وأراني في هذه الفقرات الأخيرة كنت أبحث في الموضوع من نهايته إلى بدايته، في حين أنه كان ينبغي أن أرجئ معالجته إلى بعد ذلك وأن أعالجه في جو خاص به. إن روح الفكاهة والعالمية كذلك من صفات الشخص المتمدن أكثر من أن تكون من صفات المجتمع المتمدن، ومع أني أرمي إلى التدليل على أن المجتمع المتمدن ليس إلا مجتمعا لونته حفنة الأشخاص المتمدنين، إلا إني لم أثبت ذلك بعد، وليس غرضي المباشر أن أصف الرجال والنساء المتمدنين، وإنما غرضي أن أكتشف الصفات التي تشترك فيها وتختص بها تلك المجتمعات الثلاثة التي عددتها نماذج الكمال، ولما كنت الآن قد انتهيت من ذكر هذه الصفات التي تنشأ عن الإحساس بالقيم، فلا بد لي أن أتجه نحو تلك الصفات التي تغري إلى تتويج العقل.
مميزاتهم: تتويج العقل
يرى المؤرخون أن خطاب بركليز - الذي واسى فيه الثكلى من مواطنيه بذكر فضائلهم التي يتميزون بها - يتضمن لب المدنية الأثينية، غير أن المؤرخين يخطئون التفكير أحيانا. إن خطبة بركليز أداء جميل يوحي بجو جميل، ولم يكن ليستطيع إلقاءها إلا رجل عظيم يخاطب بها رجالا يعلون كثيرا فوق متوسط الفكر والشعور في العصر الحديث، وإنها لتنبو في مجلس العموم كما تنبو في مؤتمر اتحادات العمال، ولكني لن أتوجه إلى أي خطاب أو إلى أي رجل سياسي باحثا عن أمر دقيق كلب المدنية. إن الخطب السياسية قد تكون مظاهر للمدنية، وكذلك قد تكون القوانين، والقبعات، وفنون الطهو، ولكنها لن تكون معبرا عن روحها، وأدنى إلى صواب الرأي أن نكشف عن سر أثينا خلال ما كتبه أرستوفان، ويوربديز، وأفلاطون، وتقاليد السفسطائيين، لإخلال خطب بركليز، وإيسوقراط، وفوكيون، وإن كنا نأمل في العثور على ذلك الزعفران الذي يخلع على الثقافة الهلينية طعمها ولونها، فسنجده عند الشعراء والفلاسفة والمؤرخين، ولست أقول إنا لا نجده إلا عند هؤلاء، بل ولست أقول إنهم كانوا أهم الناشرين لهذا اللون، بل على العكس من ذلك أتعشم بعد قليل أن أبين أن ينبوع المدنية يتفجر عن مصادر ومستودعات غير معروفة - من نوع معين - ولو أنها تصب في مسالك معروفة، وأن أبين أن ناشري الثقافة جماعة من الرجال والنساء أكثرهم لا ينشئ عملا محسوسا ولا يترك أثرا ملموسا، وإن كانوا ينشرون الأثر الذي يتبدى في روح العصر. وعلى أية حال، فمن السخف أن نجعل من السياسي ممثلا للحركة الروحية أو العقلية. إننا لا نحكم على مبدأ النفعية، وهو من إنتاج تفكير آدم سمت وريكارد وبنتام وملز، من خطب هبهاوس ومستر روبك، ومن خطب مستر كوبدن ومستر برايت. كما أن ترجو ونكر - برغم عظمتهما - لا يعطياننا إلا فكرة ناقصة عاجزة عن الحركة «الفلسفية». إن إحياء العلوم وحرية الفكر في شمالي أوروبا كان شيئا يختلف كل الاختلاف عن دعاية لوثر الصاخبة وانتهازية فردريك السكوني وهنري الثامن. إن رجال السياسة - في أوقاتهم - يلمعون في الأفق كما يلمع الممثلون وراكبو الخيول، ثم يتوارون عن أعين الجمهور كما يفعل هؤلاء، ولا يعرفهم بعدئذ إلا الباحث المنقب المتطلع وحده. «سخرية في حياتهم، منسيون بعد مماتهم».
وإذا صدق الشق الثاني من هذا الاقتباس، فلا بد أن يصدق الشق الأول؛ إذ ليس أدعى إلى السخرية من رجل محكوم عليه بهذا النسيان السريع، يختال اختيال الوزراء؟ ثم خبرني، كم صديق لك يستطع أن ينبئك من كان رئيس وزراء إنجلترا في وقت واترلو، ومن كان وزير الحرب، ومن كان قائد الأسطول. وكم من أسماء الساسة الأحياء العاملين في عام 1815م معروف عند جمهور القراء؟ ربما عرفوا كاننج، وكاسلري (وبخاصة لأنه كان موضع سخرية بيرن وشلي) وربما كذلك عرفوا جراي، ولكن هل يعرف أكثر من اثنين من قادة ولنجتن غير طالب متخصص في التاريخ الحربي؟ ومن كان على رأس الأسطول البريطاني حينما اعتلى نابليون متن بلرفون، ولكن إذا كان المثقفون والمثقفات من الإنجليز لا يعرفون اسم رئيس الوزراء الذي انتصر في حروب نابليون فيما يظن، ولا يعرفون أسماء زملائه الوزراء، ولا أكثر من اثنين من قواده العسكريين، ولا يعرفون أحدا من قواده البحريين، فإن كل طالب جامعي متوسط يستطيع أن يقول لك إن شلي وبيرون وكيتس وورد زورث وكولردج وسذي ولام وهازلت وسكت ومور ورجر زوجين أوستن كانوا يكتبون في ذلك الحين. وتفسير ذلك يسير: إنهم يذكرون هؤلاء لأنه كان لهم - ولا يزال لهم - أثر حقيقي مباشر على عقول الناس، ولأنهم لا يزالون يخلقون الأفكار والمشاعر الجديدة ويستثيرونها، وما برحوا يوحون إلينا بوجهات نظر جديدة، أو يغيرون وجهات قديمة، بل ولأنهم ما فتئوا يضيفون الآن جديدا إلى مستودع الخير في هذه الدنيا. أما رجال السياسة فهم - في أحسن الظروف - لا يقومون إلا باستخدام وسائل الخير التي أنتجها غيرهم وتوزيعها بين البشر. ولكنهم لا يخلقون قط جديدا. وهم لا يذكرون قبل كل شيء إلا بسبب الحوادث الجليلة المسرحية التي ارتبطت بها أسماؤهم، ولكنهم لم يكونوا باعثيها، بل إن هذه الحوادث الجليلة - كما رأينا - لا تنجيهم دائما. إنهم ينتمون - بوجه عام - إلى تلك الطبقة الثالثة أو الرابعة التي لا يمكن أن تلعب دورا رئيسيا في تاريخ الجنس البشري، وإن تكن ربما لعبت دورا مرموقا. إن رجال السياسة يتركون في الأسطوانة خدوشا وندوبا، ولكنهم لا يبدعون النغم. إنهم لا يبتكرون ولا يستنبطون ولا يعدلون كثيرا من تلك الدوافع المحسوسة المنبعثة عن العقل البشري والتي يتشكل بها تاريخ الإنسان. ومن الخطأ إذن أن نتوقع منهم أن يكونوا من بين أولئك الذين يبدعون المدنية، وإن كنا كثيرا ما نجدهم مظاهر لها دلالتها لتلك المدنيات التي هم جزء منها.
ومن أجل هذا، فلن أتوجه إلى بركليز ألتمس عنده سر المدنية الأثينية، وإن كان يسرني أن أعده مثالا لما يمكن أن تنتجه المدنية الأثينية. وفي خطابه جزء واحد أود أن أركز عليه اهتمامي لأن الظاهر أنه يعبر على وجه الدقة عما كان يحسه الأثينيون إزاء أولى وأهم صفة من صفات المدنية التي تنبع من تتويج العقل - وأقصد بها «التسامح». يقول بركليز: «إن روح الحرية تسود شئوننا العامة كما تسود شئوننا الخاصة. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا: ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه: ولا ينظر أحدنا شزرا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».
1
إن هذا النوع من التسامح، وهو من أقوى الدلائل على رقي المدنية، لا يتأتى إلا من الثقة في العقل، فإن حسن الذوق لا يكفي. إن الإحساس بالقيم قد يؤدي بطرق ملتوية إلى الإحساس بضرورة الحرية الشخصية، إلا إن الأساس الثابت الوحيد للتسامح هو الإدراك الذهني الواضح؛ لأن العقل وحده هو الذي يحق له أن يحد من الحرية. العقل وحده هو الذي يستطيع أن يقنعنا بتلك الحقائق الأساسية الثلاث التي لن تكون هناك حرية فعالة دون إدراكها، وهي إن ما نعتقد فيه لا يتحتم صدقه، وإن ما نحب لا يتحتم أن يكون خيرا، وإن كل فرض محتمل. إن إحساسنا بالقيم يجب أن يبين لنا أننا لو حرمنا على أي فرد أن يعبر عن نفسه تعبيرا كاملا أفقرنا حياتنا، ولكن العقل وحده هو الذي يقوى على الحد من تلك الرغبة الجامحة - التي تكمن في صدر كل منا - في إرغام الآخرين على أن يكونوا على غرارنا. ينبغي أن يكون العقل هو الحكم الوحيد، والعقل يسمح لنا بألا نحد من التعبير الذاتي عند الآخرين إلا بمقدار ما يمكن التدليل - عقلا - أن مثل هذا التعبير الذاتي يهدم من أسباب الخير أكثر مما يبني.
إن إحساسنا بالقيم يحملنا على أن نشعر بالرغبة في توفير أكبر قسط ممكن من التعبير الذاتي لكل إنسان؛ ومن ثم وجب علينا أن نتسامح لا فيما يرى غيرنا فحسب، بل كذلك في طرائق سلوكهم في الحياة. •••
إن شعار المدنية عند الأثينيين، وهو من أروع ما يفخرون به يتمثل في هذه العبارة: «لسنا أحرار الفكر في السياسة وحدها. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا، ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه، ولا ينظر أحدنا شزرا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».
وإذا قلت لي: إن الأثينيين حكموا على سقراط بالموت ما حققت بهذا القول هدفا طيبا؛ فأنا أعلم ذلك من قبل، ولكن إذا كان عصفور واحد من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، فإن ثلاثة أيام مظلمة لا تخلق الشتاء، إن الأثينيين - بما كان لديهم من حرية الفكر والنقد، واتساع آفاق العقل، والتطلع إلى المعرفة، واستساغة التجريب - قدموا مثالا حاولت خير العصور المقبلة عبثا أن تحاكيه، إن خير عقول الغرب تتجه دائما نحو أثينا تلتمس الوحي والتشجيع. أثينا وحدها تقدم لهم ما يقرب إمكان تحقيق آمالهم في المثل العليا؛ لأن الشهوة الجامحة للحق والجمال نالت شيئا من التحقيق العملي في أثينا وحدها. كان الأثينيون يهتمون بغريزتهم بالجمال ويؤمنون بالحق، وقد أعطاهم هذا الإيمان شيئا يفضل استساغة الحرية. أعطاهم الاعتقاد في ضرورتها المطلقة. كان عند الأثينيين دين للدولة لا تعوقه المذاهب كثيرا، بل ولم يعتنقه في حماسة أصحاب العقول النافذة بعد منتصف القرن الخامس. كان دينا يبدو أنه لم يقف إلا في وجه سقراط - وفي وجه أنكساجوراس لفترة ما - فحال دونهما وحرية التأمل. كانوا بحاجة إلى تقديس محرم أو محرمين قديمين تقديسا رسميا، إلا إن الناموس الأخلاقي الوحيد الذي وضعه القانون والرأي العام موضع الاعتبار العظيم هو ناموس الأخلاق العملي. كان يطلب إلى المواطن ألا يرتكب أفعالا تنافي المجتمع منافاة شديدة، غير أن الأثينيين لم يقصدوا بالأفعال التي تنافي المجتمع أي شيء تمقته الأغلبية أو تسيء فهمه. فلم يعارض أحدهم في أن يسير جاره وفق مزاجه. لقد حاولوا أن يكونوا متسامحين.
وحينما أقول: إن تتويج العقل صفة لازمة من صفات المجتمع الضالع في المدنية، فإني أرجو ألا تتصوروا أني أفترض أن كل أثيني ينظر إلى كل موضوع يمر بحياته نظرة عقلية بحت. لا تتصوروا أن يوليس قيصر حينما قال: إن البلجيكيين جنس شجاع كان يفترض أن كل فرد بلجيكي كان جسورا كالأسد، ومن المؤكد أن القرن الثامن عشر في فرنسا الذي شغف بالعقل أكثر مما شغف به القرن الخامس الهليني كان يعتقد أنا بحاجة إلى تعديلات يسيرة في النظم لكي نجعل كل امرئ سعيدا عاقلا، أما نحن أبناء القرن العشرين الذين نتمتع بكثير من نواحي الإصلاح والثورات المجيدة فلا مفر لنا من أن نكون أقل حماسة، أما الإيطاليون لعهد النهضة، فقد بذلوا قصارى جهدهم لكي يحطموا حواجز عدم التسامح التي كانت قائمة في العصور الوسطى؛ فكان مقياس نجاحهم هو مقدار ما في الرد على أفعالهم من همجية. ولنذكر أن من آراء بروكارت الحكيم رأي له اعتباره وهو أنه فيما بين منتصف القرن الخامس عشر والفزع الإسباني - الذي تولدت عنه حركة إصلاحية مضادة - كان جميع الإيطاليين المتعلمين يبيحون حرية النقاش في الموضوعات التي تشبه خلود الروح، وبطبيعة الحال لم تكن جميع العصور الضالعة في المدنية على درجة واحدة من التسامح غير أنها كانت جميعا تكافح في سبيل بلوغ الضياء، وهم يحسون أن محاولة فرض طرق التفكير والشعور والحياة بالقوة أمر قبيح. لقد أدركوا، على درجات متفاوتة من الوضوح، أن العقائد الجامدة والموت سواء، وكانوا يميلون فيما يتعلق بما تبقى لديهم من خرافة أن يحتفظوا به لأنفسهم. لم يحاولوا كثيرا أن يفرضوه بالقوة أو بالتهديد بفرض العقوبات الخلقية. كانت النهضة من غير شك - بما لديها من اعتقاد في التنجيم والأدوية الخرافية التي تولد العشق - تؤمن بالخرافة، ولكنها كانت في ذلك أقل من العصور الوسطى بدرجة كبيرة، ومن المواطنين الأثينيين عدد كبير لم يكن يؤمن بالخرافة، بغض النظر عما كانت عليه الحال مع الرعاع المولعين بالألغاز وأكثرهم من الرقيق، أما القرن الثامن عشر في فرنسا، فلم يكن متشككا فحسب، بل اعترف بالخرافة كما كانت قائمة - واعتبرها العدو اللدود لما يجعل للحياة قيمتها - «إنه عار يجب أن يسحق».
لأن الخرافة أمر يحول دون الرجل وإحساسه بالواقع، وتحرمه من تلك الخبرة الغزيرة المثيرة، وهي إدراك الواقع. إن إدراك الحق ورؤية الشيء ذاته، خبرات توازي الحب والاستمتاع بالجمال، ولكن كيف يتوفر لمن يرقب السماوات ذلك الإحساس الذي يتولد عن ظهور كوكب جديد في محيط بصره إذا كانت الخرافة ترغمه على الاعتقاد بأن السماء إناء مقلوب، والنجوم خصاصات يتطلع خلالها الآلة، وإنه ليست هناك كواكب ؟ وكما أن العاشق يرى معشوقته دائما خلال سحب من الخيال، فلا يدرك قط تلك المتعة السامية التي تنشأ عن ذلك الإدراك الكامل عند إنسان آخر، أو عند موجود آخر، له ما للعاشق من واقع، فكذلك من يتدبر الكون خلال منظار الخرافة لا يمكن أن يدرك ذلك الإحساس الذي يقابل إدراك الحقيقة العارية وقبولها في حماسة شديدة. الخزانة تختلس من العاطفة باعثا من بواعثها الدقيقة، ولا تكتفي بذلك، بل إنها بفرض حدودها على العقل المتنقل تحرمنا لذة من أدق وأرق ملذاتها؛ لأن العقل - وإن كان لا يموت - يتبلد ويترهل في الأسر. إن العقل يستطيع أن يمدنا بكل ما يجعل الحديث مسليا والمجتمع لامعا - النكتة، والتهكم، والتناقض، وحضور البديهة، والعبث العقلي - على شريطة أن يتحرر العقل. يجب ألا تكون هناك محرمات، أو موضوعات لا يجوز المساس بها؛ لأنك لن تظفر من العقل الذي يرسف في الأغلال بشيء خير من مقال رنان أو نكتة عملية. يجب أن يتحرر العقل ليتناول كل ما في السماوات والأرض، لا جادا فحسب بل هازلا كذلك. إنه يستطيع أن يكون مجيدا كالنسر يمتد بصره إلى آفاق بعيدة، ولكنه كذلك كالنسر لو أصابه الكساح تخبط في الظلام. كل ما يكون، وما كان، وما يمكن أن يكون، ألاعيب ملائمة بين يديه. ولكن الخرافة تحصر ميدانه الذي يلعب فيه في طاولات محدودة، وفي هذا المجال، الذي تحده التقاليد الجامدة. يعشي بصره ويصبح صبيانيا في حركاته. فيقف التأمل المثير عند حد، وتنتهي دقة التفكير العقلي. الخرافة تختلس من العقل مجده وجانبا كبيرا من لهوه، وقد أدرك ذلك القرن الثامن عشر، فأعلن الحرب على الخرافة.
إن المتسامحين الذين لا يؤمنون بالخرافة لا يحتمل أن تقسو قلوبهم قسوة شديدة، إلا إن كانوا عن طريق الصدفة ممن يجدون لذة في تعذيب الناس وفي القسوة لذاتها، وهي صفة لا تفشو بين المتمدنين أكثر مما تفشو بين المتوحشين، ومن المؤكد أنهم يمقتون القسوة التي لا تنفع، وأنهم ليرون أن أكثر الأعمال التي تتسم بالقسوة لا تضر ولا تنفع. كان القانون في أثينا يحرم التعذيب، كما كان يمجه روح الشعب الأثيني، وحينما كان هذا الشعب يقوم جماعة بعمل وحشي غير مألوف، كان يحس إحساسا جماعيا بالخجل، ومهما يكن من أمر، فإن هذا الإذلال كان أندر في وقوعه من أن يعد صفة من صفات المدنية. إن الفردية الصارخة في عهد النهضة أنجبت حشدا من الرجال الممتازين، وقل منهم من نجا من وصمة تلك الصفة المقززة التي كان يتميز بها أبناء الطائفة التي ينتمون إليها. لقد تركوا سجلا من أعمال الوحشية الهائجة التي لا تهدف إلى غرض، سجلا لا يفوت المؤرخ المضني أن ينعم النظر فيه، بيد أن أكثر جرائمهم كانت عملية إلى حد بعيد، ولو ذكرتم - وقد دعوتكم أن تذكروا - أن هذه الجرائم الشخصية كثيرا ما كانت تقوم مقام الحرب، لتساءلتم إن كان من حق عصرنا هذا أن يلقي بالحجر الأول في وجه ساسة النهضة، وقد بلغت الروح الإنسانية عند الفرنسيين في القرن الثامن عشر حدا دعا الجمهور إلى الشعور بالاشمئزاز الشديد حينما اكتشف أن كالاس قد حكم عليه بالإعدام ظلما. وكذلك فلتير لم يمت ميتة غامضة في السجن كما كان من الجائز أن يحدث له في القرن العشرين، وفي عصر الإيمان كان لا مناص للناس من أن يرتابوا في إدراك ما كان يثيره من موضوعات، وكان لا مندوحة لهم عن إحراقه برغم هذا. لا مفر لعصور الخرافة من أن تكون قاسية؛ لأن من خرافة العقيدة عندهم دائما أن الألم وسيلة طيبة، وهو مبدأ يدين به خاصة أولئك الذين يخجلون من الاعتراف بأنهم يعتبرونه غاية طيبة. إن حب التعذيب عند الشواذ في عصور المدنية لا يخرج عن أن يكون بقية من بقايا الهمجية.
إن العقل يميل دائما إلى فحص تلك الغرائز والذكريات الهمجية التي هي بمثابة مصادر الأهواء ومكان عبادتها؛ لأن الأهواء تصدر إما عن رد الفعل الجثماني، كما يصدر بغضي للجبن، أو من المحرمات المنسية التي كان يمتنع عنها آباؤنا المتوحشون، وما زالت من الشابات حتى يومنا هذا في أواسط أفريقيا من يعشن عيشة مريرة من جراء تكرار رؤيتهن للقمر فوق أكتافهن اليسرى؛ في حين أن غيرهن يتسلل إلى الغابة في فزع دائم إذا فاجأن الابن الثاني لعم إحدى خالاتهن، ومن اليسير على الفتاة أن تفقد شخصيتها في الكنغو كما تفقدها في مدينة كتدرائية. إننا ندين بأكثر مما نظن لجداتنا البعيدات، وقد حدثنا سرأد مندجوس كيف كان اعتقاده بأنه ارتكب إثما في حق الروح القدس عبئا ثقيلا على كاهله في بعض سني طفولته. كما بين لنا مستر جيمس جويس منذ عهد قريب فقط في تلك الدراسة العجيبة التي شرع فيها ولم يتم نضجها أن العقل الذي ما لبث ملوثا بالخرافة يمكن أن يتعذب إلى حد الجنون تقريبا عندما يذكر أنه ارتكب ما يرتكبه أكثر الأطفال وفكر فيما يفكرون فيه. وإني أعترف أن تأنيب الضمير، الذي يشعر به كل إنسان حساس إزاء القسوة العشواء التي صدرت عنهم والملذات التي تمادوا فيها، ليس له من علاج، ولكن ذلك الشعور بالإثم، الذي ما زال يشكو منه كثير من ذوي النيات الطيبة، والذي يحملون كثيرين غيرهم على الشكوى منه، هذا الشعور - بصفة عامة - لا يعدو أن يكون أثرا من آثار الهمجية تمكن معالجته، وعلاجه في حب المعرفة الذي يقوى ويشتد كلما ارتفع الإنسان في سلم الحضارة.
إن المتوحشين يتطلعون إلى المعرفة، ولكنه تطلع محصور وفي نزوات، فهناك عدد معين من الحقائق لا يجسرون على تخطيها في البحث، وهم لا يجسرون على بحثها إلا بأسلوب معين. إنهم لا يطلبون الحق، وإنما يطلبون السلامة. تطلعهم غريزي، لا عقلي، ولا تستطيع أذهانهم المحشوة بالمخاوف أن تحولها إلى معرفة. ولكن لما كان أحد لا ينكر أن الجهل - كما تدل عليه هذه الكلمة عامة - صفة من صفات الهمجية، فلست في حاجة إلى مزيد من الإيضاح لهذه النقطة أكثر من حاجتي إلى التدليل بالأمثلة على التطلع الحي عند أهل أثينا في عهد بركليز، وأهل فلورنسا في القرن الخامس عشر، والفرنسيين في القرن الثامن عشر، ولا بد لي من أن أؤكد نتيجة واحدة من نتائج هذا التطلع عند المتمدنين، وهي أن الشعوب المتمدنة تستطيع أن تناقش أي موضوع من الموضوعات، لا يحرم عليهم واحد منها ما دام لديهم ما يذكرون بصدده مما يبعث في النفس متعة أو سرورا. ليست هناك في المجتمعات المتمدنة مخاوف عقلية نتوقع من كبار السن صغار العقول أن يغمضوا أعينهم عند رؤيتها، وسوف أستفيض بعد حين في حديثي عن «محاورة المأدبة» ويكفيني الآن أن أذكر أننا نستطيع - من صورة الحديث المثالي بعد تناول العشاء التي لا مثيل لها - أن نرى أنه لم تكن هناك موضوعات يحرم الحديث فيها بين أي جماعة من الأثينيين المثقفين. ويعلم وارسود يكامرون - وقد كان خلال قرنين أحب القراءات عند رجال إيطاليا ونسائها في طول البلاد وعرضها - أنه في عصور بترارك وكوسيمودي مديشي وميخائيل أنجلو، لم يكن ما يعرف «بحقائق الحياة الكبرى» ولا أشد النظم احتراما أو أكثر الأشخاص تقديسا، لم يكن ذلك مما لا يصح أن يتعرض للنقد الحي الجريء، وإذا أردت أن تعرف بأية نظرة حرة كان السيدات والسادة في القرن الثامن عشر ينظرون إلى عالم الحقائق والآراء فإني أوصيك «بأحلام دالمبير» الذي يقدم مؤلفه ديدرو جزءه الثاني - وهو أكثر الأجزاء صراحة - على شكل خواطر يتفوه بها دالمبير في نومه، وتدونها مدموازيل لسبناس؛ في حين أن الجزء الثالث، وهو أشد الأجزاء إثارة للذعر، يتألف من حديث خيالي، ليس من الجلي مستحيلا - بين مدموازيل لسبناس ومسيو بوردي.
إن أردتم مجتمعا متمدنا، فلا بد من أن يتحرر العقل فيعالج كيفما شاء كل ما يمر بخاطره، ولا بد أن يكون حرا في اختيار مصطلحاته وعباراته وصوره، وأن يتعرض لكل أمر بأي أسلوب يريد، يجب ألا تكون بالبيت غرفة محرمة (غرفة بلوبيرد). لأنك إن حرمت على العقل أن يرود إحدى حجرات البيت حكمت عليه بالتجول الأعرج في باقي الحجرات. من أجل هذا كان تكلف الحشمة عدوا خطرا، وهو أشد خطرا؛ لأن ما يزعمه يثير السخرية. من الجلي أن ما نقبله أو لا نقبله في العاطفة أو التعبير أمر من أمور الذوق. فذوقي لا يسيغ تلك العاطفة التي تحتويها أكثر الأغاني التي تمس قلوب الناس - مثل أغنية «مع السلامة» أو أغنية «سكت القلب» - والتعبير فيها منحط، ولكني برغم ذلك - لا أشير بكبتها عنوة من أجل هذا، فإني أقر بأن ذوقي يختلف عن ذوق زملائي، ولكني لا يمكن قط أن أفترض أن اشمئزازي مما يحبون يمكن أن ينهض سببا لحرمانهم من ملذاتهم، فعندي من العقل ما يحملني على التسامح، ولا أود أن أرى القانون يعاقب على انحطاط الذوق. في عهد الملكة فكتوريا كان ذوق الطبقات الوسطى يتقزز مما كان يبدو ممتعا ومسليا وجميلا لأكثر كبار الشعراء والفنانين والمفكرين والنقاد في العصور الأخرى. وربما ظننت أن آراء أمثال هؤلاء القوم فيما أجمع عليه الرأي أنه يتعلق بالذوق لها شيء من الوزن، وإنها تعتبر حتى عند أولئك القسس والتجار الصغار الذين اكتشفوا بغتة وبدقة عظيمة ما كان دقيقا وما لم يكن، وكل ما أستطيع أن أقول هو أن القسس والتجار كانوا أغلظ ذوقا، ولم يتطرق إليهم أي لون من ألوان الشك في أن أفلاطون وأرستوفان وسافو وكاتلس ولوكسر يشس ودانتي وبوكاشيو ورابليه وشيكسبير وملتن ولافونتين وفلتير وديدرو وبوب وسوفت وفيلدنج كانوا غلاظا عديمي الحس في تلك الأمور التي يستطيعون هم أنفسهم أن يحكموا فيها حكما صائبا، وصغار القسس والتجار - فوق ذلك - يسيطرون على الميدان، ولم يستطع مؤلف حي أن يطبع في إنجلترا شيئا من مثل ما كان يكتبه أفلاطون أو دانتي أو شيكسبير. إن القانون يعترف بانحراف الذوق السليم. إنه يتسامح من غير شك فيما كان يبدو من قبل سوقيا مبتذلا إلى درجة لا يمكن التسامح فيها - فيما كان يبدو كذلك لأولئك العظماء من الرجال الذين تحتاج مؤلفاتهم اليوم منا إلى تبرير. إن القانون يتسامح فيما كان السادة في عهد فكتوريا يقدرون، وما زالت جمهرة الناس تحب. إنه يقبل الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى، التي تعرض عرضا حرا في المكتبات والمتاحف وقاعات الموسيقى - وهي إذلال متصل لأي رجل أو امرأة له ذوق سليم. إنه يقبل آراء الصحفيين الشعبيين وعواطف كتاب المسرحية الشعبيين، بل إنه ليقبل ما عندنا من نصب تذكارية عامة، ويستسيغ تمثال «الممرضة كافل». وفي عبارة موجزة: إنه يتسامح ويرعى نظرة إلى الحياة والفن كان ملتن بنكاته البذيئة وشيكسبير بأغانيه التي تدعو إلى الرثاء، يريانها مجلبة للعار على أحط مخلوق يأخذ بها. دعنا لا نشكو؛ فإن كل فرد حتى سرهول كين ومستر إيفور نوفلد، ينبغي أن يسمح له بالتعبير عن نفسه تعبيرا كاملا بقدر المستطاع، ولكن دعنا نأمل أنه إذا امتزج الذوق السليم بالقوة، كان هذا المزج الموفق للقوى أرقى مدنية من أن يحكم بالإحراق على «الطبيب» و«حديقة الورد» و«دع نار البيت موقدة».
إن كل ما نأمل فيه، وكل ما نصبو إليه في الأمور التي تتعلق بالذوق هو التسامح المطلق. دعنا إذن لا نشكو إيثار لورد تشمبرلين
2 «شوسن شو» على «ست شخصيات»، وإنما نشكو منه أن يحول دون استمتاعنا بالكتاب الثاني، ومن العجيب - فيما أحسب - أن يسمح لقاضي المحكمة الجزئية أو عضو البلدية، أو الأسقف - في أمور دقيقة رقيقة كأمور الذوق - أن يفضل في معرفته أروع فنان وأدق ناقد، ولكن من رأيي أنه ليس من المرغوب فيه أن يتحكم العقلاء الحساسون في ملذات الأغبياء والسوقة، كما أنه من المؤسف أن يتحكم الأغبياء والسوقة في ملذات في الحساسين والعقلاء. إن أولئك المتحمسين الذين يدعون للإعجاب الذين تتحرك نفوسهم من حين إلى حين فيثيرون في مجلس النواب أسئلة عن الرقابة على الكتب والمسرحيات، بل ويشكون حينما يدركون أن رجال السياسة لا يأبهون مثقال ذرة لشئون الثقافة - هؤلاء يتجهون في عملهم وجهة خاطئة. يجب عليهم ألا يصروا على تفوقهم الجمالي فيما يحبون، بل أن يصروا على مبدأ التسامح العام. إنهم يبدون نوعا من الغرور له شره الوبيل في هذا البلد وفي أمريكا خاصة، وإن أرادوا أن يتحاشوه، وجب عليهم أن يحاولوا - ولو مرة - أن يتصفوا بالمهارة كما يتصفون بالخير، والواقع أن الحكم في أمر من أمور الذوق يتطلب درجة من الإحساس أعلى من تلك التي يتطلبها الناخب العادي، ولكنا إذا كررنا هذا القول للناخب العادي ما بعثنا فيه قط إحساسا بالسرور. ومن الحق الذي لا مرية فيه أن القوة العقلية والنزاهة الضروريتان للحكم على أي أمر من الأمور بما يستحق، تبلغان حدا يجعل الحكم عامة أبعد من مناله. بيد أنه يميل إلى الحكم، ومن أجل هذا تراه يقبل، بل يحتم المعايير الآلية، وهذه المعايير ليست - بطبيعة الحال - معايير للذوق؛ لأن المعايير الآلية لا يمكن أن تنطبق على الذوق؛ لأن الذوق أمر يتعلق بالاستجابة والإحساس الذاتي. ولكنها تؤدي غرضا لأولئك الذين لم يعرفوا قط استجابة ذاتية من الدرجة الأولى، بل ولم يكونوا حكما على أمر من أمور الذوق. كما أن المعيار الآلي الحسن في يد رجل ثابت في غبائه وانعدام حسه له هذه الميزة الكبرى، إنه يمكن أن يطبق على كل أمر من الأمور. إن مطابقة الحال عندئذ لا يكون لها وجود. وما إن يألف المرء الحكم على الخوخ بوزنه يجد من الميسور والممتع له أن يتجه إلى الكتب والصور. إن الرجل العادي يحب المعيار المجهز الذي يكون مستعدا دائما ويمكن تطبيقه على أي أمر من الأمور. وكما أنه لا يستطيع أن يعرف إذا كان العمل الفني جميلا أو غير جميل، ولكنه يستطيع أن يدرك الدليل على الحكم بأنه ليس من صنع رفائيل، فكذلك لا يستطيع أن يعرف إذا كان الشيء مبتذلا أو غير مبتذل - لأن الابتذال أمر من أمور الحس والتعبير - ولكنه يستطيع أن يعرف إن كانت بضع كلمات بعينها قد سبق ذكرها. إن لديه معياره، ويستطيع أن يطبقه صباحا ومساء في عربة السكة الحديدية، سواء كانت من الدرجة الثالثة أو من الدرجة الأولى. إن تكلف الحشمة تذوق آلي كما أن التظاهر بالتقوى تدين آلي، وكما أن الشخص المتدين حقا لا يضطرب للنجاسة، فكذلك الرجل الذواقة حقا لا يكترث للفحش أو البذاءة، ولكنك لا تستطيع أن تقنع الناخبين بهذه الحجج.
إن طريق العقل ليس ممهدا دائما، إلا إن من يتابعه مخلصا له أن يثق في الفوز بنوع من أنواع الجزاء الطيب. إنه يتخلص من الخوف من الاستمتاع بما في الحياة من طيب الأشياء - ذلك الخوف الذي ليس له من العقل سند. ثقوا أن العقل يقضي على تلك الخرافات التي تشغل أذهان البرابرة، وتفسد عليهم لذة القنص، وتكبلهم في قيود من النواهي. إن المتعة الخالصة بكل ما تقدمه الحياة لنا ميزة لا يتمتع بها إلا من كملت مدنيته. إن كمال المتعة يتطلب من المرء أن يطهر عقيدته من المحرمات، ويجب أن يتخلص من الاحتشام المتكلف، والخرافة، والخجل الكاذب، والإحساس بالذنب، ولا يحمله على ذلك إلا العقل وحده. ينبغي ألا يستند ناموسه الخلقي إلا على العماد الثاني من عمد المدنية - وأعني به الإحساس بالقيم. إن إحساسه بالقيم يرشده إلى أن الملذات التي تهبها إياه الحواس، أو يهبها إياه الحس الممتزج بالعاطفة، أو الحس الممتزج بالتعقل، ملذات ليست سيئة في حد ذاتها، بل إن إحساسه بالقيم ليرشده إلى أن اللذة - في حد ذاتها - طيبة دائما، وعلى العقل المتمدن ألا يسمح لهذه الملذات قط أن تصبح وسيلة إلى الشر وذلك بوقوفها عقبة في سبيل الخير أو بجعلها هذا الخير مستحيلا، ولنضرب لذلك مثلا: إن الشخص المتمدن حقا لا يرى الشراب خطأ، ولكن المتمدنين جميعا يحتقرون من يدمن على الشراب، فالمدمن سرعان ما يجعل نفسه عاجزا عن بلوغ حالات العقل الطبية، وإنسانا مزعجا للرأي العام ينبغي نبذه، ولكن حفلة للعشاء يسودها المرح، أمر من الأمور التي لا يتحاشاها الرجل المتمدن ما دام في صحة جيدة. ألم يعتقد أفلاطون المتقشف نفسه أن من واجب المواطن أن يسكر في حفل ديونيسيا؟
3
الرجل المتمدن لا يخشى الملذات حينما يسمع أنها تنعت نعوتا سيئة - فيقال عنها فاسدة، وشريرة، ومخجلة. إن أمثال هذه الصفات لا تعني بصفة عامة أكثر من أن معظم الناس يخشون جوانب الطبيعة الإنسانية التي لم تكتشف بعد أو التي أخطأنا في كشفها، وما دامت اللذة ليست سيئة في حد ذاتها؛ فليس هناك ما يدعو إلى الخجل من أي لذة من اللذات، وإن كانت هناك لذات يرى الرجل المتمدن ألا يسترسل فيها، فليس مرد ذلك إلى أنها سيئة، وإنما مرده أن نتائجها سيئة، ومن المؤكد أنه من المخجل أن تسترق الشهوة المرء إلى حد ينزل العقل عن عرشه فيفقد المرء القدرة على وزن النتائج. من المخجل أن يسمح المرء لنفسه بالإدمان في الملذات الحسية الساذجة حتى يشل قدرته على الاستمتاع بملذات أدق وملذات أشد إثارة للحواس. الرجل المتمدن يخجل إذا لم يكن معدا للاستمتاع بملذات المتمدنين، ويخجل من نقص قدرته على التفكير الصافي والشعور الرقيق يخجله أن يشبع عاطفة لا يمكن إشباعها دون أن ينتهك إحساسه بالقيم ودون أن ينزل عقله عن عرشه، ولا يخجله شيء غير هذا. إن المتوحشين يسمونه رجلا بغير حياء.
ومنذ أن أصبحت دراسة اليونانية جزءا من تثقيف الرجل المهذب، أصبح مما يبعث على الدهشة الأليمة دائما عند أكثر من يؤجرون لتعليم اليونانية أنه لا يوجد شعب من الشعوب أكثر جرأة على الاستمتاع بالحياة من الشعب الأثيني. لا شك أنهم كانوا يعرفون ما هو الخجل؛ لأنهم مخترعوه. اخترعوه لأن الحس عندهم كان مرهفا إلى درجة لم يسبق لها مثيل، ولكن الأثينيين لم يخجلوا من ملذاتهم، واسترسلوا فيها كذلك متحررين إلى حد كبير. إنما كانوا يخجلون من فقدان كل سيطرة على النفس، ومن تحولهم إلى حيوانات أو من وضع أنفسهم موضع السخرية، ويبدو أن وخز الضمير كان يطاردهم في أعمال القسوة والعنف، ولكن ما كان أبعدهم عن ازدراء الملذات التي كانت الفلسفة اليونانية تعدها جزءا لا يتجزأ عن الحياة الطيبة؛ غير أن الأثينيين وضعوا «العقل» - فوق الملذات جميعا بل فوق كل شيء آخر- عاملا من عوامل الاعتدال والانسجام، ولا أحسب معلما من المعلمين يقصر في نقل ذلك إلى تلاميذه حينما يشعر - وهو لا بد أن يشعر أحيانا - بشدة الصدام بين الأخلاق اليونانية والأخلاق اليهودية. ومن المؤسف أن الإيطاليين لعهد النهضة، الذين استعاروا الكثير من أثينا، لم يستطيعوا أن يستعيروا منها قدرا أكبر من هذا «التعقل الحلو»، ومن المؤسف أنهم أسقطوا هبة الاعتدال بشكل ما من بين مواهبهم الرفيعة. ومن المؤسف أنهم لم يستطيعوا السيطرة على ميلهم إلى المتعة بطريقة أفضل مما فعلوا - إنه أمر مؤسف، ولكنه لا يمس غرضي المباشر، ومن المؤكد أن الرجال والنساء لعهد النهضة لم يكونوا يخافون الأشياء الطيبة في هذه الحياة. كانوا يستطيعون الاستخفاف بالتنجيم والسحر، وكانوا يستطيعون إهمال تلك الخرافات التي كانت تحول بينهم وبين لهوهم. كانوا لا يشعرون بالخجل، وإن لم تصدقني فاقرأ بنفنيوتو شليني في سيرته التي كتبها بقلمه. قال لاون العاشر: «ما دام الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها»، وهو يعني بالضبط ما يقول. كانت ملذاته ملذات الرجل الضالع في المدنية (كان يمثل عصره خير تمثيل وعصره يمثل حضارة النهضة): وكانت ملذاته تتضمن تقدير الفن والأدب، والموسيقى والدراسة، وكان من بينها الغناء، وكذلك النساء والنبيذ. إن قداسته لم يخجل من شيء من هذا.
واقترب ذلك القرن الثامن عشر المحبوب مرة أخرى من المثل الأعلى عند الإغريق. إن سحر ذلك العصر الساحر ينبعث حقا - ربما أكثر من أي شيء آخر - من تعقله البالغ الذي يحليه إحساس بالقيم لا مثيل له، ولست أشك في أن هذا المزيج هو الذي يعطينا المدنية الرفيعة. وقد بلغت النهضة الإيطالية مدنية أرقى من أي مستوى كان يمكن أن يطوف ببال العصور الوسطى؛ لأن إحساس النهضة الإيطالية الجمالي الغريزي كانت تخفف من حدته وتعززه عقيدة في العقل أكثر جدية بدرجة كبيرة من ذلك الإحساس الذي كان مصدر الوعي لفلاسفة العصور الوسطى المتحذلقين، وإن ما يعطي النصف الثاني من القرن الثامن عشر حلاوته الخاصة به هو هذا؛ بينما كان الرجال - والنساء كذلك - يفكرون بعنف وجرأة في كل أمر من الأمور كما فعل أي قوم غيرهم ممن سبقوهم، وبينما كانوا لا يكتفون بالتأمل، بل كانوا مستعدين ليروا آراءهم تتحول فعالا، بينما كانوا كذلك مكنهم إحساس بالقيم أن يبثوا دعوتهم للنقد ونشاطهم الهدام بتلك الرقة البالغة التي اتسم به الجيل السابق، وخلصت عقيدتهم في اللذة حتى رأوا أن السياسة نفسها يجب أن تكون مستساغة، وكان يطلب إلى رجال الاقتصاد أن يعرضوا نظرياتهم في صيغة تقبلها السيدات الرقيقات، ولكن يجب ألا ننسى أن السيدة لكي تكون رقيقة كانت ترغم على الاهتمام بالنظريات - إن هؤلاء القوم المحببين إلى النفس الشجعان كانوا يرون أن البحث الجدي في الأمور الأساسية لم يكن يتعارض وصحة المزاج أو الإنسانية، والقرن الذي أنجب فلتير وجبون وهيوم واثنين من البابوات المتفلسفين، لم يتصف بالنزاهة العقلية للتقدميين فحسب، بل اتصف كذلك بالتسامح مع المتشككين وسلوك السيدات والسادة. إن مثل هذا المزج يبدو دائما جذابا، وبخاصة في عصر بلغ به سوء الحظ أن يعاني ثائرين تنقصهم الفطنة كما ينقصهم حسن السلوك، ورجعيين ينقصهم حسن السلوك كما تنقصهم الفطنة.
العقل في القرن الثامن عشر هو الذي كان يرجى منه أن يجعل الأمور مستساغة بتطهير الميول من غلظتها وتوحشها، وكانت اللذة - اللذة المعقولة - هي غاية ما يشتهيه الرجل المخلص. القرن الثامن عشر هو الذي جعل اللذة المحك في الجدل السياسي، كما جعله يحكم على النظم والمشروعات الحكومية بمقدار ما تؤدي إلى ازدياد سعادة الإنسان. القرن الثامن عشر هو الذي اكتشف في حسرة أن الماضي الخيالي كان يتخبط في مسير هذا الاتجاه، وكان بالبؤس المدقع الذي ساد في القرن الحادي عشر أشد منه تأثرا بسحر الحرب الصليبية الأولى، وفي القرن الثامن عشر - للمرة الأولى منذ نهاية العالم القديم - تطورت وشرحت شرحا وافيا فلسفة للذة في مجلدات ممعنة في سلامة التفكير، إن لم تكن ممعنة في البحث والتقصي. فلسفة يمكنك أن تلم بعصارتها إلماما لا بأس به من قصص فولتير وكتاباته المتنوعة. مثال ذلك: «... كان العالم كله يقول بأن الآلهة لم يقيموا الملوك إلا لتكون الأيام كلها أعيادا، على أن تكون منوعة؛ إذ إن الحياة أقصر من أن ننفقها في غير ذلك. وليست الأفعال والدسائس والحروب ومنازعات رجال الدين التي تستنفد حياة الناس إلا أمورا مزعجة سخيفة: ذلك أن الإنسان لم يولد إلا لكي يستمتع بنفسه. وإنه ما كان ليعشق المتعة دائما وبكل قلبه لولا أنه من أجلها خلق. إن جوهر الطبيعة البشرية هو الاستمتاع بالنفس. وما عدا ذلك حماقة وسخف. وهذا مذهب خلقي ممتاز لم تكذبه قط إلا فعالنا».
وينبغي ألا تفترض أن القرن الثامن عشر صاغ فلسفته لصالح طبقة واحدة فقط، بل على العكس من ذلك كان القرن الثامن عشر يرى أن التقدم ينحصر في نشر جميع وسائل المتعة تدريجا - الوسائل التي تؤدي مثلا إلى إشباع الطبائع «لأن المتعة من صميم الطبيعة الإنسانية». كانت فلسفة اللذة - تحت اسمها المعروف في العالم القديم بحب الإنسانية - شائعة إلى أبعد الحدود؛ أما اليوم فهذه الفلسفة توصم بتقصيرها دون المثل العليا، ما دامت تهدف إلى إرضاء الفرد أكثر مما تهدف إلى تمجيد الجنس، أو المذهب أو الطبقة. إنها فلسفة يمقتها الوطنيون كما يمقتها الشيوعيون، ولم يعد يؤمن بوجاهتها سوى قلة من المتشبثين بالقديم.
ولما كان - من زمن بعيد - من رأى أولئك الذين تؤخذ آراؤهم عامة مأخذ الجد، أن أثينا في أخريات القرن الخامس رفعت المدنية إلى درجة لم يسبق لها مثيل، فليس من الخطأ - فيما أحسب - أن أختم هذا الفصل بتحليل ما اتفق على أنه أحسن صورة للمجتمع الأثيني في أوجه. إذا كان الشعراء والعلماء والفنانون، وكذلك الأساقفة والقضاة، والمثقفون من التجار، وإذا كان الفلاسفة الوثنيون، بل ورعاة الكنيسة - إذا كان هؤلاء جميعا يعدون «محاورة المأدبة» لأفلاطون من أجمل المؤلفات وأبعدها أثرا التي أنجبتها القرائح البشرية، فإن ذلك لا يعود إلى الآراء البراقة التي تضيء لامعة خلال آراء سقراط المعقدة أكثر مما يعود إلى الصورة الرائعة التي تعرض طريقة رائعة من طرق الحياة. في هذا الحوار الجميل نرى لمحة - بل وأكثر من لمحة - من مدنية يبدو أنها أقرب إلى رغبات القلب من أي شيء آخر كانت تعده ممكنا تلك العصور التي لم تبلغ من نفوسنا مبلغ العصر الأثيني. ومع ذلك فإن هذه الصورة لطريقة معينة من طرق الحياة إنما تشف عن لحظة من اللحظات في تلك الصورة المثالية التي يلمحها الفنان ويخلدها. ولنذكر أن الصورة ليست رؤيا قديس مذهول مستغرق في التفكير، وليست خطة لنموذج سماوي لا نستطيع بلوغه لما في نفوسنا من نقص، وإنما هي صورة عاشها من قبل أناس يجوز عليهم الفناء، ويمكن أن يعيشها الناس مرة أخرى.
هذه قصة يرويها أبولورس نقلا عن أرستوديموس، وهو - كما يقول زنفون - كافر، ضئيل الجسم يسير دائما بغير حذاء، عضو تافه في تلك المجموعة التي كان يلمع فيها سقراط وأجاثون. وفيدرس وبوسانياس وأركسيماكس وأرستوفان والقبيادس - كانوا مجتمعين في حفل عشاء ودي أقامه أجاثون احتفالا بنجاحه في المباراة بين شعراء المأساة، وكان اليوم السابق قد خصص لتهاني الجمهور، وهي دلالة طيبة على الجدية التي كانت تؤخذ بها الفنون في أثينا، وفي طريقه إلى الحفل التقى سقراط - وهو في ثياب فاخر على غير عادته - بأرستوديموس الذي يبحث بطبيعة الحال عن السبب في هذا البهاء الذي لم يألفه، فقال له: «إني متوجه إلى العشاء عند أجاثون»، ثم روى سطرا محرفا عن يوربديز، وقال بعدئذ: «إني أنيق أتوجه في أناقة إلى رجل أنيق»، ثم يشير سقراط - وهو بإجماع الرأي أقبح وأقذر شخص في أثينا - على أرستوديموس أن يرافقه، فيتردد أرستوديموس؛ لأنه لم يدع للحفل. بيد أن سقراط يلح في الرجاء؛ لأنه يعلم أن الكرم وحسن الزمالة من الفضائل التي لا يتحلى بها المتوحشون. ولما لم يفلح في إلحاحه، تخلف متفكرا حتى يصل صاحبه المتردد وحده فيطمئنه أجاثون، الذي يذكر له أنه كان يبحث عنه طيلة النهار مشغوفا برفقته، ولكنه لم يعثر له على أثر.
ويصل المدعوون، ويلتفت أجاثون إلى الخدم قائلا لهم: «أرجو أن تعدونا جميعا ضيوفكم، وأن تعاملونا بهذه الصفة»، وقد كان أجاثون - فوق كونه شاعر مأساة - شخصية ساحرة كما كان رجلا موهوبا، وكان كذلك حسن البزة، فأبى أن يقوم بدور الداعي المضيف، وأخيرا وآخرا يصل سقراط. ويرفض الجلوس، بل يرفض الاتكاء، إلا بعد أن يستمتع بدور مما لا أستطيع أن أصفه إلا «بالمغازلة الساخرة» مع أجاثون - وهي مداعبة لست في حاجة إلى أن أقول إنها قوبلت بروح طيبة - وفي نهايتها تناول الجميع طعام العشاء. والآن دعنا نلقي عليها نظرة عابرة: كان بين الحاضرين شاعران، أجاثون وأرستوفان، والطبيب أركسيماكوس، وذلك المفلس المشعث الذي يعظ الناس في زوايا الطرقات سقراط، وأخيرا القبيادس، وهو سياسي شعبي حسن النشأة، متأنق في ملبسه، وأغنى رجل في أثينا، وهنا أيضا فيدرس وبوسانياس، وهنا كذلك آخرون لا يذكر عنهم أرستوديموس شيئا؛ لأنه لا يزعم أنه يقدم قائمة كاملة بالأسماء أو سجلا لكل ما قيل، وبين هؤلاء الآخرون ربما كان صناع مهرة وعمال عابرون وسفسطائيون، لا يفضلون المتشردين إلا قليلا، ولكنا على ثقة من أنه لم يكن من بينهم من كرس خير سني حياته لجمع المال. إن الوقت الذي يعده رجال الأعمال في العصر الحديث مالا، كان عند سقراط للعبيد، ولم يخطر في بال أثيني أن إنسانا يخضع نفسه طائعا لذلك النظام الذي هو حياة جامعي المال، أولئك الذين يعيشون للعمل. كان الأثينيون يرون أن الرجل لكي يكون كامل المدنية ينبغي أن يتحرر من الأعباء المادية، وحيث إنه لا بد أن يتوفر له الفراغ الكافي يتمتع فيه بكل جميل يقدمه له العقل أو العواطف أو الحواس، فلا بد من وجود العبيد، وحيث إن هؤلاء العبيد يعيشون لينتجوا لا ليستمتعوا، وحيث إنهم لانعدام الثقافة والفراغ عندهم، يعجزون عن حرية التفكير ودقة الشعور، فقد كانوا أقل شأنا من غيرهم. كانت المساواة مطلقة بين المواطنين، ولم تعترف أثينا بالفوارق إلا في الذكاء والتعليم، وهي - لسوء الحظ من غير شك - حواجز طبيعية تعوق التبادل السهل الممتع. لم يكن بين المواطنين مميزات طبقية، ولم يكن في أثينا من يتعاظم على الآخرين.
وبعد العشاء أثار بوسانياس هذا السؤال: هل يعودون إلى الشراب ويسكرون، ويستمعون إلى الناس، أم يتحدثون، ويخرجون العازفة «تعرف لنفسها، أو - إن أرادت - للخدم في الداخل»؟ نحن هنا على أبواب محاورة من أسمى المحاورات في تاريخ البشر باعتراف الناس أجمعين، وعلينا أن نلاحظ جيدا موقف أولئك الذين يوشكون أن يجروها. إن العقل يجعلهم لا يخشون ما في الحياة من أشياء طيبة. إنهم لا يخجلون من الاستمتاع - حتى إلى درجة ما يسمونه الإفراط - يمثل الملذات التي توفرها الخمر والعازفات على الناي. إلا إنهم لا يدمنون ولا يفسقون. يدفعهم الإحساس بالقيم، تعززه إلى حد ما ذكرى شرابهم المساء، إلى أن يختاروا - في هذه المناسبة - لذة أروع، وهي لذة الحديث الجدي. وإن لم يكن جديا إلى درجة كبرى، فقد كانوا يستطيعون أن يتناولوه في دعابة؛ يمزحون مزاحا عقليا وجثمانيا، ويتنازعون نزاعا طفيفا عمن يجلس منهم جوار الآخر، يهزلون ويمرحون ويتبادلون الدعابة الصريحة، ومنذ بداية الجدل، حينما حل دور أرستوفان في الكلام، شكا من الفواق، ثم طلب أركسيماكس الطبيب إما أن يأخذ دوره في الحديث أو يشفيه مما أصابه؛ فيسارع أركسيماكس إلى أداء العملين، ويصف علاجا يثير الضحك وإن يكن فعالا. إن الرجال الضالعين في المدنية قلما يتصفون بالوقار.
ويعرف كل امرئ موضوع هذه المحاورة التي ذاع صيتها، كان موضوعها الحب، ولكن كثيرين لا يعرفون أن المتحاورين لكيلا يبطلون ما يصلون إليه من نتائج بتحديد قضايا البحث، لم يستبعدوا في حوارهم أي وجه من وجوه الموضوع. تحدثوا عن الحب في أدعى صوره إلى الإعجاب والتقدير، وكذلك تكلموا كثيرا مثنين على صورة من صور الحب يحكم بسببها على الناس في إنجلترا بالسجن، وإن استجابتي الغريزية لهذه الصورة لتشبه استجابة أكثر زملائي، إني أعجب لها أشد العجب وأقابلها بالتقزز والاشمئزاز، غير أني لم تبلغ بي الغفلة والغرور أن أثق في استجابتي ثقة عمياء وأعترض على عاطفة أحستها، وأرى ثابت ارتأته جماعة من أحكم وخير الناس قاطبة، وإني لأذكر أولئك الناس الضالين المفزعين الذين يأكلون الجبن وأحاول ألا أكون سخيفا، ولا أستطيع أن أعطي نفسي حق الحكم أيهما أفضل ذوقي أو ذوق سقراط وصحبه. ولكن أستطيع أن أصغي باحترام لحجج خصومي الذين يبعثون الذعر في نفسي، وأستطيع أن أمتنع عن أن أجعل من استجابتي الجثمانية استنكارا خلقيا، وأستطيع أن أحتج من كل قلبي ضد من يصم بالجريمة ما بدا خيرا لكثير من عظماء الرجال. لا يحق لأحد أن ينعت نفسه بالمدنية إلا إن استطاع أن يستمع إلى الطرفين، ولا يفضل الحيوان من لا يتسامح في أمور كثيرة كريهة له شخصيا.
ليس في نيتي أن أناقش «محاورة المأدبة» إلا بمقدار ما تلقي على موضوعي ضوءا. وأستطيع أن أنوه بالرغبة الحقيقية في الحق الذي تنطوي عليه أكثر الخطب، وأن أنوه بالإحساس بالقيم الذي يحمل كل متكلم على أن يعرض قضيته عرضا جميلا بقدر ما يستطيع. وحتى سقراط نفسه لم يجادل لينتصر في الجدال، ولم يكن من بينهم من يمتنع عن التسليم حينما يكون ضعيفا في موقفه. فيدرس يتكلم جادا، وبوسانياس متحذلق قليلا، وأركسيماكوس يميل إلى مهنته. إلا أن الطبيب - على خلاف أكثر زملائه - لا يخشى أن يجابه ما يترتب على علمه من نتائج، ويشير بعقل يدعو إلى الإعجاب أنه ينبغي لنا ألا نخضع لبانديميون فينس (ويقصد بها الشهوة) «إلا بمقدار ما نستمد منها اللذة دون أن نسترسل فيها إلى حد الإفراط، مثلنا في ذلك - طبقا لفننا - مثل ما نلقنه من البحث وراء متعة المائدة، بمقدار ما نستسيغها دون أن يترتب عليها مرض وحسب». (وهذه العبارة نقلا عن ترجمة شلي). وهناك بعد ذلك حديث أرستوفان، وهو عندي حديث بلغ غاية الإشراق. إنه بما يحوطه من دعابة عقلية عذبة يؤدي - بطرق تثير فينا غاية الضحك ولا نتوقعها - إلى نتيجة جدية، يشير إليها الكاتب تلميحا لا تصريحا، لا تكاد تظهر حتى تختفي في أقمطة كثيرة الألوان. وفي هذه الآونة أخاطر بالاستعارة والتشبيه. وأذكر هنا تعثر الآلهة تعثرا لا يحفظ لهم قداستهم بما يدل في جلاء تام على أن هذه الجماعة المتمدنة قد صفوا أمر الخرافات السائدة، ويؤسفني أن أقول: إن الحديث لا يخلو من النكات البذيئة. ولكنا قد اتفقنا على أن الميل إلى الكلام والسخرية في كل أمر مميز من مميزات الشعب المتمدن. ولا أتصور إلا أن قليلا من العاشقين - حتى أكثرهم رقة وأشدهم تهذيبا - هم الذين يرون موقفهم استثناء من هذه القاعدة. «هؤلاء (أي أولئك الذين عثروا على أنصافهم المفقودة) هم الذين يكرسون حياتهم كلها أحدهما للآخر، في شوق لا طائل تحته ولا يمكن التعبير عنه إلى أن يجد كل منهما عند الآخر شيئا لا يدري ما هو؛ لأن الواحد منهما لا يهدي نفسه للآخر بكل هذا العشق الجدي لمجرد المتعة الحسية من الاتصال، وإنما تتعطش روح كل منهما في وضوح وجلاء إلى شيء عند الآخر لا يمكن التعبير عنه في كلمات، وتقدس ما تسعى إليه، وتتعقب في غموض مظان رغبتها الغامضة». (نقلا عن ترجمة شلي).
4
وإن الكاتب ليعود في الفقرة التالية إلى بذاءته، فيقول: إنا إذا لم نرع الآلهة تمام الرعاية فإنه يخشى أن يقطعنا زيوس إلى نصفين مرة أخرى (ونظريته في الحب إننا كنا من قبل منتصفين، وأن الأنصاف تسعى دائما إلى اتحادها)، ثم نسير بعد ذلك - كما يقول - أشبه ما نكون بالصور التي يرسمها الفنانون على الأعمدة، أنوفنا مشقوقة في وسطها، ولست بحاجة إلى القول بأن المرء حينئذ لا بد له من الوثب بساق واحدة. هذه عادة من عادات التمدن: وهي أن يتخلى المرء عن الوقار وهو في حالة الجد، وهي حالة تدعو إلى الحيرة الشديدة.
أما حديث أجاثون، فقد كان غنائيا جميلا فصيحا، وهو يبدأ بقوله هناك فارق بين أن تخاطب الجمهور في مسرح وأن تناشد مستمعين ناقدين حقا. إنه يقول: «بالتأكيد يا سقراط، إنك لا تحسب أن الزهو بانتصاري في المسرح قد بلغ مني حدا يجعلني أجهل أن قلة من الناقدين الأكفاء يخشى العاقل بأسهم أكثر مما يخشى مجموع الناس في الطريق». وهذا الرأي يبدو لي أنه يشير إلى إحساس بالقيم، ولكنه فتح لسقراط بابا للسفسطة والدعابة، التي أوقفها فيدرس بقوله: «إنك يا عزيزي أجاثون لو دخلت في نقاش مع سقراط، فلن تبلغ بهذا النقاش إلى نهاية؛ لأنه لا يفتأ يواصل الجدل في أي موضوع مع أي مخلوق - أو على الأقل مع أي مخلوق جميل الصورة، وأؤكد لك أنه من الممتع دائما أن تستمع إليه وهو يتحدث، ولكني في هذا المساء لا بد أن أضمن أن «الحب» (موضوعنا المختار) لن يكون محلا لغدر». وهكذا يواصل أجاثون حديثه ويقرر أن الحب كغيره من الموضوعات يمكن أن يجعل من أي إنسان شاعرا، ويروي تأييدا لذلك بيتا من الشعر من نظمه ينم عن تأثير يوريديز. «مهما يكن المرء ثائرا فيما مضى فإن لمسة الحب تجعل منه شاعرا».
فيهيئ بذلك الفرصة فيما بعد لسقراط ليسخر من أستاذ أجاثون الذي لم يكن يحبه، وبعدما انتهى أجاثون من الإفضاء بكل آرائه الجميلة، رد عليه سقراط قائلا: إنه يستحيل عليه أن يفي بما وعد. «إن مثل هذا الثناء لا أفهمه، ولجهلي قبلت أن أنظم المديح».
وصاح بصوت مرتفع على طريقة يوربديز قائلا:
بلساني قط وعدت، ولم أعد بعقلي.
وعندما أصغي إلى أسلوب أجاثون المنمق رفع أحد حاجبيه، وبدأ حديثه المشهور عن طبيعة الحب، والحديث رائع، وإن كان في ذوقي يتسم بشيء من السفسطة، وربما كان مما يستحق الذكر كعلامة من علامات المدنية أن المتكلم في أشد لحظات حديثه حرارة يسخر ضاحكا من حذلقة السفسطائيين المحترفين، أعدائه، وفي أعقاب حديثه يندفع إلى الداخل القبيادس، مخمورا إلى الغاية، تتبعه عازفات الناي، ويتقدم لتويج أجاثون، وبعدما ينتهي من ذلك يقول: إنه يبقى معهم إن أقبلوا على الشراب، وينصرف إن لم يشربوا؛ فيستبقونه بطبيعة الحال. إن الفلاسفة الحقيقيين يستغلون طرفي الحياة.
ويقبلون على الشراب، ويتبادلون المزاح في مهارة فائقة في شئون حبهم، ويبدون تفوقا رائعا يعلو على أقوى لون من ألوان العواطف البربرية جميعا - وأعني به الغيرة، ثم يقول أركسيماكوس: هل هذا عدل؟ وهل من الإنصاف أن يشاركنا القبيادس دون أن يسهم في لهونا؟ ليدل هو الآخر بحديث في مديح الحب. ويرد القبيادس قائلا: إنه يكلفني حياتي أن أثني على أي أمر من الأمور سوى سقراط في حضرة سقراط؛ فيجيبه : حسنا إذن، عليك بمدح سقراط، وهنا يأتي الحديث الذي بعث في دكتور جويت أشد القلق. إن القبيادس يروي - في شيء من الدقة - قصة ميله الشديد إلى سقراط الذي لم يعد عليه بنفع ، بينما ينتحي سقراط ناحية، ويبتسم ابتسامة دقيقة كما أتخيله، ولم يكن القبيادس بالتأكيد خجلا من مشاعره، وحيث إنه لم يغفل عن أن مشاعره ستبدو لأصدقائه مضحكة إلى حد ما، حيث إنه لم يخطئ فيأخذ نفسه مأخذا جديا أكثر مما ينبغي، فإن اعترافاته جميعا لم تقع من نفوس أصدقائه موقعا ثقيلا مؤلما. كان صريحا، مسليا، لا يشعر بالعار الشديد، وإن كان قد شعر باليسير منه، فهو يشعر به حينما يتهمه سقراط بتقليده العامة في تهليلهم أكثر من إخلاصه للحق والجمال، وهنا - في النهاية - نقف عند أمر يبدو مشينا للرجل المتمدن؛ ذلك أن القبيادس يختتم قصة ويلاته برجاء أجاثون ألا يقع في حب سقراط خشية أن يلاقي مصيرا كمصيره، وهنا نجد سقراط بانتظاره معلنا أنه توقع منذ البداية ألا يكون هذا المديح سوى حيلة ماكرة؛ لكي تسيء العلاقة بينه وبين أجاثون، ولكي يصلحوا ثلاثتهم
5
ما فسد يتقارعون - وكانوا يجلسون معا - مقارعة لطفيفة أيهم يمدح الآن الآخر، ومن يجلس إلى جوار الآخر، ولا يوقفهم عن المقارعة إلا تدفق حشد من المعربدين لم يدعوا إلى الحفل «ويسود المكان كله هرج ومرج، ويختل النظام، ويشعر كل حاضر بضرورة الإدمان في الشراب».
ويؤسفني أن أقول: إن هذا الحفل من حفلات العقل - الذي كان محل إعجاب وتقدير خلال ثلاثة وعشرين قرنا - انتهى بما قد يسميه قاض من قضاة الشرطة في لندن «خلاعة مخلة بالآداب». وكان أركسيماكوس المحترف وفيدرس الجاد أول من عادا إلى بيتهما وهما يترنحان. أما أرستوديموس فقد خر نائما حيث كان. واستغرق في نومه طويلا، وكان الفصل فصل الشتاء حيث يطول الليل. وعندما انبثق النهار تيقظ، وكان أكثر المدعوين نياما - وكان من الطبيعي جدا عند الأثينيين البارزين أن يدثروا في عباءاتهم ويناموا على أرض غرفة الطعام - ولكنه تنبه إلى أن أجاثون وأرستوفان وسقراط كانوا ما يزالون أيقاظا، يشربون من قدح كبير ويسمرون، وعلى قدر ما استطاع أرستوديموس أن يدرك كان سقراط يرغم الآخرين على الاعتراف بأن المأساة والملهاة يتطابقان بالضرورة، ولما كان في حالة نعاس ولا يزال مخمورا لم يكن على ثقة تماما من سير النقاش؛ إلا إنه أيقن أن الكرى أخذ يداعب أجفان أرستوفان، ثم استغرق في النوم، ولما أشرق النهار تبعه أجاثون «ولما خلص سقراط منهما معا سار (يتبعه أرستوديموس) إلى الليسيوم (الندوة العلمية) حيث استحم كعادته وأنفق يومه في العمل، وفي المساء أوى إلى فراشه في بيته».
المدنية وناشروها
لم أعرف المدنية بعد، ولكني ربما جعلت التعريف أمرا لا ضرورة له، إني أتصور أن كل من تفضل علي بقراءة ما كتبت حتى الآن لا بد أن يكون قد فهم جيدا ما أعني. المدنية صفة من صفات الجماعة، وهي في أبسط صورها الصفة التي تفرق بين ما يسميه علماء الأنثروبولوجي المجتمعات «المتقدمة» وما يسمونه المجتمعات «المنحطة» أو «المتأخرة»، عندما يشرع المتوحشون في تطبيق أحكام العقل على الغريزة، وعندما يكتسبون إحساسا بدائيا بالقيم - أي عندما يميزون بين الغايات والوسائل، أو بين الوسائل المباشرة للخير والوسائل البعيدة - عندئذ يخطون الخطوة الأولى إلى أعلى. إن الخطوة الأولى نحو المدنية هي تصحيح العقل للغريزة، والخطوة الثانية هي أن يتعمد المرء التخلي عن إشباع رغباته الملحة الموقوتة في سبيل تحقيق رغبات أدق منها. إن المتوحش الجائع عندما يمسك أرنبا، يأكله توا في مكانه، أو يحمله معه بحكم غريزته إلى بيته، كما قد يفعل الثعلب، كي يأكله أشباله نيئا، وأول من حمله إلى بيته - برغم جوعه الشديد - وطهاه، كان في طريقه إلى أثينا. كان رائدا، يمكن أن نصفه عدلا كذلك بأنه أول المتدهورين. هذه حقيقة لها دلالتها، فالمدنية شيء مصطنع غير طبيعي، إن التقدم والتدهور، كلمتان يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى. إن كل من زود المعرفة البشرية والحس البشري، بل وأكثر من اكتفى بزيادة أسباب الراحة المادية، هؤلاء هلل لهم معاصروهم الذين استطاعوا أن يفيدوا من مكتشفاتهم واعتبروهم محسنين عليهم، ووصمهم بالانحلال كل من حالت سنه أو غباؤه أو غيرته دون الإفادة من هذه المكتشفات. ومن السخف أن نختلف اختلافا لفظيا. ولنتفق على أن عادة طهو المأكولات يمكن أن تعد خطوة نحو المدنية، كما يمكن بنفس الصدق أن تعد انحدارا من الكمال البدائي للقرد المنتصب.
من هاتين الصفتين الأوليتين - التعقل والإحساس بالقيم - يمكن أن يتفرع عدد عديد من الصفات الثانوية. تذوق الحق والجمال، والتسامح، والإخلاص العقلي، وشدة التأنق، وروح الفكاهة، وحسن الأدب، وحب الاستطلاع، وبغض الفظاظة والهمجية والمبالغة في التأكيد، والتحرر من الخرافة والحشمة المتكلفة، وقبول ما في الحياة من طيبات دون وجل، والرغبة في التعبير الذاتي تعبيرا كاملا وفي التربية الحرة، وازدراء النفعية والابتذال، أو في كلمتين اثنتين - العذوبة والنور، ولا تدرك كل المجتمعات التي تكافح في التخلص من المدنية جميع هذه الصفات، أو حتى أكثرها، وأقل من هؤلاء من يشتد في تمسكه بإحدى هذه الصفات. من أجل هذا قد تجد عددا كبيرا من المجتمعات المتمدنة وعددا قليلا جدا من المجتمعات ذات المدنية الرفيعة؛ لأن المجتمع لا يكون رفيع المدنية إلا إذا استمسك بعدد لا بأس به من صفات المدنية واشتد في تمسكه بها.
ولكن هل يمكن لوحدة غامضة كالمجتمع أن تملك أو تستمسك بصفات دقيقة كهذه؟ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأشد المعاني غموضا. إن المجتمعات تعبر عن نفسها في صور تتفاوت في ثباتها كما تتفاوت في وضوحها، وهذه الصور هي التي تصبح للأنثروبولوجيين والمؤرخين آثار مدنيات هذه المجتمعات. إنهم يعبرون عن أنفسهم في السلوك والعادات والتقاليد، وفي القوانين والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ويعبرون عن أنفسهم - فوق هذا كله - في الأدب والعلم والفن الذي قدروه وشجعوه. كما يحدثوننا عن شيء من أنفسهم - بدرجة أقل وثوقا - خلال الأدب والعلم والفن الذي ربما قدروه وربما لم يقدروه، ولكنه من خلق الفنانين والمفكرين الذين أنجبوهم، ولو ضممنا ذلك كله بعضه إلى بعض أمكننا أن نؤلف - في شيء من الوثوق - رمزا واضحا لنظرة إزاء الحياة سائدة وهذه النظرة - التي تتبدى في هذه الصور التي تتفاوت في عمومها وثبوتها - هي ما نسميه المدنية.
المدنية - إذا خاطرت باستعمال استعارة لا يمكن الدفاع عنها بسهولة - هي النكهة التي تضفيها نظرة عقلية معينة على التعبير الذاتي لعصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات. إنها اللون الذي تخلعه وجهة نظر خاصة سائدة على المظاهر الاجتماعية. من أين تأتي هذه النظرة التي تلون الحياة، وهذه النكهة التي تعطيها طعمها؟ لا شك أنها تأتي من الأفراد؛ لأن الأفراد وحدهم - كما نعلم - هم الذين لهم عقول يقفون بها موقفا معينا أو ينتقون بها وجهة نظر معينة من وجهات النظر. إن عقل الفرد هو منبع وأصل المدنية - لا جدال في ذلك، ولكن عقلا بشريا واحدا نقطة عذبة في محيط، وبقعة قرمزية واحدة على الشاطئ. إن فردا متمدنا واحدا لا يصنع المدنية. ربما لم يخل العالم من السكان المتمدنين خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، ومن المحتمل وجود واحد أو اثنين منهم في أظلم العصور - وإن لم يكن بطبيعة الحال من بين القبائل الممعنة في الهمجية والبدائية. في غربي أوروبا في القرن العاشر - ولا نستطيع أن ننحدر إلى أبعد من ذلك وإلا كنا بين قبائل فيدا وبوشمان - يصادفنا جوبرت وهو يبدو كالمتمدن ويظهر غريبا بين قومه، كما يبدو كذلك - وهو على نقيضه - الإمبراطور أوتو الثالث، الذي ربما لم يعد أن يكون متصلفا معجبا بذاته، ولا نستطيع أن نثق أنه حتى في القرن الثامن لم ينزو - مجهولين في الأديرة الهادئة - رجال ما كانوا لينبوا في بلاط لورنزو العظيم. بيد أن عصفورا واحدا من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، ولا تصبح المدنية ممكنة إلا حينما ينضم عدد كاف من أفراد متمدنين بعضهم إلى بعض تتكون منهم نواة يمكن أن يشع منها الضوء وتفيض العذوبة، ومن ثم فإن ناشري المدنية هم الرجال والنساء الضالعون في المدنية الذين تتألف منهم جماعات لها من النفوذ ما يكفي للتأثير في مجموعات أكبر، وفي مجتمعات بأسرها في نهاية الأمر. إن جماعة من المتمدنين لا يصبحون ممدنين إلا حينما يمكنهم أن يؤثروا في المجتمع الذي يعيشون فيه حتى يبدأ هذا المجتمع - بعدما يكتسب ما يميز هذه الجماعة من فضائل خاصة - في إظهار هذه الفضائل في طرائق التفكير والشعور ، والنواة المتمدنة تصبح ممدنة حينما يكفي عددها ونفوذها لتلوين الجماهير، و«النواة المتمدنة» مجرد اسم محدد لعدد غير محدد من الرجال والنساء ذوي المدنية الرفيعة. وهؤلاء الرجال والنساء هم خالقو المدنية وناشروها، هم شرط لازم للتمدن لا محيص عنه.
وإنما يجب علينا أن نبحث عن نشأة المدنية والباعث عليها في عقل الإنسان، فالقوانين والعادات والأخلاق والنظم والحيل الميكانيكية، كما يتبين لنا من مجرد النظر إلى المجتمعات المتوحشة والمستعمرات البريطانية، لا تستطيع أن تخلقها. هذه الأشياء لا يمكن أن تصنع لأنها من صنع الإنسان. إنما هو العقل؛ عقل الفرد، الذي يفكر ويبدع وينفذ، وإنما هو تأثير عقول عدة، تفكر وتشعر بالعطف، التي تشكل عادة - على غير وعي منها ودون قصد - المجتمعات والعصور، ومن ثم فقد بلغنا في النهاية شيئا محددا - وذلك هو الإنسان المتمدن؛ ذلك الإنسان رجلا كان أو امرأة - نتوقع أن نجده متصفا - بطريقة أدق وأشد تهذيبا وتأكيدا - بتلك الصفات التي ذكرنا أنها من خصائص المجتمعات المتمدنة.
إن الشخص المتمدن من جميع الوجوه يود في كل لحظة أن يتابع العقل في أسحق الجحور والزوايا، بينما استجابته الغريزية للحياة تتكيف دائما بالذوق. إن الحياة للشخص المتمدن - رجلا كان أو امرأة - ليست مسألة ضرورة فحسب، إنما هي - إلى حد ما - مسألة اختيار. إنه إذا أمسك بالأرنب، سيطر على نفسه في القرار الذي يصدره عن الكيفية والزمان والمكان الذي يأكل فيه هذا الأرنب. الرجل المتمدن متصنع بالضرورة، ومن التصنيع أن تنظف أسنانك وأن تقول «من فضلك» و«شكرا»، ومن غير الطبيعي ألا تصرع رجلا تغاضبه وهو أضعف منك، ولكن لا تشك أيها القارئ في أني أحاول أن أبرهن على أن الرجل المتمدن هو الرجل الطيب. خير الرجال - إن كان للخير معنى - من يطيق خير الحالات العقلية ويستمتع بها أطول وقت ممكن . يجب علينا أن نبحث عن القديسين في عالم المدنية بين الفنانين والفلاسفة والمتصوفين، لما عندهم من قدرة لا تحد على الاستمتاع بالتأمل والخلق. إن العقل يؤكد للمتمدن إن في هذا يكون خير الأمور، وإن كان الذوق المنحرف قد يهمس قائلا إن خير الأمور لا يتنوع، ومن الأمور الكثير بالطيب مما لا يبلغ أقصى حد للخير فلا يصلح للاستمتاع به. إن الكمال لا يتسع للعوامل التي لا تبلغ الذروة، والمثل الأعلى هو لحظة من لحظات الكمال تستمر إلى ما لا نهاية - إنه أفضل الخير دائما. إنه الشمس المشرقة دائما في السماء؛ إلا إن المرء قد يكون بالغ المدنية بالرغم من أنه يحب ظلال المساء والليالي التي تسطع فيها النجوم، بل ويحب المطر والثلج مما يحمله على أن يزيد من اشتعال ناره. إن المثل الأعلى شيء دائم فريد؛ وقد يجد الرجل الضالع في المدنية نفسه أحيانا على شيء من القلق في نعيم السماء المقيم.
أرجو ألا يفهم أني أقول إن الفنان والفيلسوف والمتصوف لا يمكن أن يكون رفيع المدنية. إنما أقول إن الشخص كامل المدنية لا يمكن أن يكون من النوع الذي ينظر بعين واحدة. لم يكن القديس فرانس، ولا دانتي، أو بليك، أو سزان، أو دستوفسكي، كامل المدنية، ولا يمكن أن يكون كذلك بكل عمله وما يتعلق به، بل إن أفلاطون نفسه، حينما يحلق في سمائه - كما يفعل في «الجمهورية» - ينصرف عن إحساسه بالقيم. إن الرجل الضالع في المدنية أشمل تقديرا من أن يفقد إحساسه بكل شيء سوي موضوع الساعة في أكثر الأحيان أو لفترة طويلة حتى إن كان موضوعه
O Altitudo - ولا ننسى أن لتعدد الجوانب مثالبه كما أن له مزاياه. الرجل الضالع في المدنية مقدر فوق كل شيء. إنه يكتسب في اتساع المدى والتنوع، ولكنه يخسر في جانب الغزارة، والغزارة - كما يزعم الفلاسفة - هي خير الأمور. فإن كان فنانا كان - فيما أظن - ذلك الجانب منه الذي لا ينكب في حماسة شديدة على التعبير الذاتي - ذلك التعبير الذاتي الذي يكاد أن يبلغ تقرير الذات فيبدو خطره - أقول: كان هذا الجانب هو أرقى جوانبه مدنية، (ومع ذلك فإن هذه القدرة على التقدير عند المتمدن، هذه العادة المثقفة عادة نقد الذات، قدمت لنا كل لون من ألوان الفن، من هوراس، إلى بوب، ومريمي، بل وملتن، ومانتجنا، وبوسان، ورن إلخ ...)، ومهما يكن من أمر فإن الرجل المتمدن شديد الحساسية للمؤثرات الجمالية، ولهذه المؤثرات التي ليست من نوع واحد فحسب. إنه ينتقي منها. إنه يميز في تقديره للتجارب الجمالية الجديدة ويتقبلها دائما. وبرغم هذا، وبالرغم من أنه لا بد أن يكون معنيا كل العناية بالجمال والحق والمعرفة، ممتلئ النفس بعرفان الجميل والتقدير الطبيعي للتعبير الجميل عن النفس، فليس من شك في أنه أدق من الفنانين والمفكرين، والعلماء المحترفين، شعورا بأن هناك أمورا أخرى في الحياة تستحق منه اهتماما لا يقل عن اهتمامه بهذه الأمور شدة وحماسة.
وإذا لم يبلغ تعقله حدا يجعل منه فيلسوفا أو عالما متفرغا للعلم أو الفلسفة، فلا أقل من أن يبصره بأهمية الفكر والمعرفة باعتبارها وسائل لحالات عقلية محببة وللتقدم الذاتي. ومن ثم فإن الرجل الضالع في المدنية يؤثر طلب العلم على أي شيء آخر. وميزته التي لا نزاع فيها هي أنه يفتح الباب لعالم رغباته. التعلم والحساسية هما أثمن الأدوات لرجل ذكي يبحث عن اللذة. فإن كان ذا حساسية وبغير معرفة، إن كان - لذلك - لا يستطيع أن يربط تجاربه الشخصية بالحاضر والمستقبل، أو بقوى الطبيعة، إن كان لا يستطيع البحث في أسباب ونتائج آرائه ومشاعره أو يتلاعب بنظائرها، إن هذا الرجل مثله كمن يجرع النبيذ المختار طوال حياته دون أن يقف لحظة عند رائحته، أو يستطعم عطره، أو يبتسم للونه. الرجل بغير تعليم، إن لم يكن شديد الحساسية، يتحتم عليه أن يبقى على هامش التجربة، يعوزه المفتاح لقصر اللذة الداخلي. إن كل فكرة وكل لون من ألوان الشعور له من النغم الدقيق ما لا يطرق سمع الرجل الذي لم يتعلم. إن الاستمتاع بكل واحدة منها عندما ترتفع، ومعرفة ما في الأماكن غير المطروقة من خفايا غير منظورة، ورؤية موضوع من عدة زوايا مختلفة، وتصور المرء نفسه في ظروف غير ظروفه، وشعوره إنه وريث العصور جميعا وإنه في الوقت ذاته لاه مسكين ينفق الوقت ويتبرم به في غير طائل، وإدراكه أن الدكتور جونسن مفخرة لبني جنسه، وهو في الوقت نفسه حمار مضحك أيضا - هذه هي الملذات التي يجلبها التعليم، ولا يجلبها إلا التعليم وحده. وصدقوني إنها كالشمبانيا أو الكافيار للحياة الروحية، بل وألذ من هذين الشبيهين الماديين.
التعليم حاستنا السادسة، أما عن ذلك التلقين الفني الذي نسميه بالتعليم أحيانا فليس له شأن فيما نتحدث عنه. إن له أهميته، ومن الخير أن يتعلم البنون كيف يحصلون على أكبر قدر ممكن من اللبن من ست بقرات، وأن تتعلم البنات إمساك دفاتر الحساب. إن مثل هذه المعرفة وسيلة للخير، ووسيلة إلى المدنية كذلك، ولكنها وسيلة بعيدة، أما ما عدا ذلك، فإنه من اضطراب الرأي أن نكرم تلقين ما هو مجرد وسيلة «للسير في الحياة» فنطلق عليه اسم «التعليم» الذي هو «استخراج» استخراج لأدق ما لدينا من قوى. وأنا أعلم أنه من الخطأ فلسفيا أن نصف هذا التعليم الحر بأن غايته جمع المعارف، فالمعرفة - كما رأينا - لا تطلب كغاية، ولكن كوسيلة لحالات عقلية لها قيمتها. إن المعرفة في حد ذاتها لا قيمة لها. ومع ذلك فإن القول الشائع بأن الغرض من التعليم الحر هو إثارة حب الاستطلاع لغير ما غرض، هذا القول ليس خطأ، لأنا نفهم منه أنه يعني أن التعليم الحر لا يعين أحدا على «مواصلة السير في الحياة» أو على «النهوض» - أو نقلا عن التعبير الإنجليزي الدقيق «جمع المال» - وإنما يعين على فهم الحياة والاستمتاع بملذاتها الدقيقة.
إن الشخص المتمدن - رجلا كان أو امرأة - في هذا العصر من التاريخ يجب ألا يصدمه أمر من الأمور. يجب أن تتلاشى هذه العلامة من علامات الهمجية، وإذا كان التاريخ، بما يسجله خير عما فكر فيه وشعر به خيار الناس وأحكمهم، وما يسجله عن حكم الاستبداد، وعن البلاهة ، والمحرمات، والعلوم، وبصورته عن الإنسان كشبكة من ردود الأفعال اللاشعورية، إذا كان التاريخ - بهذه الصورة - لم يمكنا في القرن العشرين من التمييز بين الحكم الخلقي والهزة الجثمانية، فإن اللوم لا يقع على «العقل». لقد قيل: إن الآلهة نفسها عبثا ما حاربت الغباء. إن الصدمة النفسية معناها أن العقل قد نزل عن عرشه، والحشمة المتكلفة - كالخوف - تحول بين الإنسان وحكمه الذي لا انحياز فيه. وتجذبنا في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، وتحيرنا في النتائج. حدثني ضباط المدفعية أنه في اللحظة التي يفقد فيها الملاحظ أعصابه يفقد قواه في تصويب بندقيته نحو الهدف تصويبا دقيقا، كما يفقد قواه في الحكم على أثرها في عدوه. عندئذ يستولي الخوف على المرء ويتلاعب به كيفما شاء، ويحرف الحكم لمصلحته، والحشمة المتكلفة لها أثر مشابه. ولو أن علماء التشريح تقززوا من منظر جثة الإنسان، وأشاحوا عنها بوجوههم، وأبوا أن يتابعوا عملية التشريح، لو أنهم فعلوا ذلك لبقينا إلى يومنا هذا في جهل بيولوجي مطبق، وكيف يمكن لأولئك الذين يأبون أن يبحثوا - بل أن يتفهموا إن أمكن ذلك - في الشاذ، أو غير المألوف، من الأذواق والعادات والميول وأنواع الإسراف البدني والعاطفي - كيف يمكن لهؤلاء أن يعرفوا أي شيء من علم النفس أو الأخلاق، لو أنهم ذعروا وصاحوا «لقد صدمنا». إنهم لن يفحصوا أسباب ما يغمهم أو نتائجه. إنهم لا يرون قط الشيء نفسه بكليته في ثبات؛ لأن نوعا من الغثيان الجثماني أو المحرمات البائدة - التي يسرهم أن يسموها «تنكرا خلقيا» أو «إحساسا بالاحتشام» - يثور في نفوسهم ويعمي أبصارهم. إنهم لا يستطيعون أن يمسوا الثعبان لأن أبدانهم تقشعر لملمسه، وربما كان كذلك، وليس هذا مما يؤيدهم في شيء، ولا يجوز أن يجعلوا من العجز البدني فضيلة، ولا يجوز أن يدينوا الثعبان ودارسيه من أجل هذا، ولكنهم «مضطربون». وحقا إنهم ليضطربون، والوصف بهذه الكلمة فيه حسن اختيار ما دام العقل ينبذ، وهم يعلمون أن الثعابين «مريعة» وإن كان علماء الحيوان يؤكدون لهم أنها جميلة ومسلية، وهذه الحشمة المتكلفة تختلف عن الخوف - الذي كثيرا ما يكون وسيلة للاحتفاظ بالذات، وقد يقوم على العقل - تختلف عنه في أنها تعود بكليتها إلى الخرافة حينما لا تكون مجرد غثيان بدني. إنها محنة لا تقابلها مزية، ونحن لا نستطيع أن نتمنى استبعاد الخوف كلية، غير أننا لو استطعنا أن نخلص أنفسنا من الاحتشام تقدمنا في ألف اتجاه ولم نتقهقر في اتجاه واحد.
إن الرجل الكامل المدنية يعلو على تكلف الحشمة، وحيث إنه يرغب في بلوغ الحقيقة فإنه يحاول أن يعلو كذلك على الغضب والهوى، فإن لهما نفس الأثر في تقييد حرية التفكير. الرجل المتمدن متسامح متحرر. وليس معنى ذلك أنه لا يحتد قط أو يشتطن وكما اكتشف أنه إذا أغلق أحد أبواب العقل بالتحيز فلا مفر من أنه بذلك يصد بعضا من أكثر زائريه سحرا، فكذلك سوف يدرك الرجل المتمدن أنه قل جدا من حوادث الغضب ما لا يمكن إخضاعه للعلاج العقلي. وكما أن الجواب الهادئ يبدد الغضب، فكذلك تطفئ روح الفكاهة نيران الغيظ. لا بد للرجل المتمدن من أن يكون حرا متسامحا.
وإني لعلى يقين من أن أحدا لا يتصور أني حينما أقول «حرا» أفكر في السياسة؛ فلسنا نعرف ماذا عسى أن تكون عليه الآراء السياسية للرجل المتمدن، ولا نؤكد إلا أمرا واحدا؛ ستكون هذه الآراء النتيجة المنطقية لفكرة واضحة عما يريده فعلا، وما يريده قد يكون الخير المطلق، أو أن يكتفي بتوفير أسباب راحته بقدر المستطاع. وكلا الغرضين هدف معقول، وكلاهما - مع حسن إدراكهما وصحة الرغبة فيهما - يمنعه من أن يعلق أقل أهمية على تلك العبارة المذهلة التي يتلاعب بها الساسة المحترفون. الحرية، والعدالة، والمساواة، والإخاء، والمقدسات، والحقوق، والواجبات، والشرف، كل هذه الألفاظ الغالية قد تحمل معنى وقد لا تحمل أي معنى. وسيان إن قلت إنك تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه عادل، أو قلت إنك تؤيده لأنه غير عادل، فليس لهذا القول أو ذاك معنى؛ فإن العدالة ليست غاية في حد ذاتها، إن العالم الذي يسوده العدل الشامل ولا شيء غير هذا ، عالم تافه كذلك الذي يسوده الظلم المطلق ولا شيء غير ذلك؛ فإذا كنت تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه وسيلة بعيدة للخير المطلق كان ذلك منك قولا جريئا وموقفا كريما (لأن النتيجة ترتكز على مقدمات صحيحة، وليس عليك إلا أن تثبت أن النتيجة قد استنبطت استنباطا طبيعيا) وكذلك إن أنت اعترضت على مشروع القانون لأنك تعتقد أنه سيؤدي في النهاية إلى تخفيض ما تتناول من أجر كان ذلك سببا جميلا جدا للمعارضة. أما إن أيدت القانون لأنه عادل، أو اعترضت عليه لأن جائر، فأنت تؤيد أو تعترض لغير ما سبب صحيح، لغير ما سبب بتاتا. إن السؤال الوحيد الذي يسأله الرجل المتمدن عن أي إجراء سياسي هو هذا «هل هو وسيلة لما أريد، أو هل يؤدي إلى غير ما أريد؟» فإن أحدا لا يريد العدالة أو المساواة في الفضاء، إنما هذه أمور - إن رغبت فيها إطلاقا - رغبت فيها كوسائل، وهنا يتساءل الرجل المتمدن: وسائل لماذا؟ وبطبيعة الحال، قد يحدث أن أرغب أنا وترغب أنت معي في غاية واحدة، ولكنا نختلف فيما إذا كان قانون معين يصدره البرلمان يكون الوسيلة لهذه الغاية. هنا يتسع المجال للجدل والتفسير. وأكثر من ذلك احتمالا أن ما يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب أربعة جنيهات في الأسبوع لا يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب عشرة آلاف جنيه في العام. وحيث إن الإجراء المقترح يحكم عليه بمختلف المعايير، فإن الاتفاق النهائي لا أمل فيه، والتوفيق هو خير ما نأمل فيه، ولكن في مثل هذه الحالة إذا أثار أحد الجانبين كلمات خلابة «كالحقوق» و«الواجبات» أو إذا اتهم أحد الطرفين الآخر بالانحراف عن الأخلاق، ما كان في ذلك من العقل أكثر مما يكون عندما يشتم لاعب الكريكت في جامعة أكسفورد خصمه من كامبردج لأنه هزمه في اللعب. إن أهداف الطرفين معقولة، ولكنها تختلف، وليس هناك مجال للكلام القارص. وإنما ينشأ هذا المجال حينما يرغب غيرنا من الناس في الغاية التي نرغب فيها، ولكنهم يستخدمون وسائل من الواضح أنها لا تؤدي في النهاية إلى تحقيق الغاية؛ هؤلاء نسميهم أغبياء ولا نسميهم أشرارا. إن النقد الخلقي لا يمكن قبوله في الجدل السياسي إلا إذا اتفق الجميع على ما يكون خيرا كغاية ، وقد يكون ذلك ممكنا، واتفقوا كذلك على أن الإجراءات السياسية وسائل لهذه الغاية، وليس ذلك أمرا ميسورا. هل زيادة راتبي خمسين جنيها في العام يحتمل - في النهاية القصوى - أن تؤدي إلى زيادة الخير المطلق - أي زيادة الحالات العقلية التي لها قيمتها - أكثر مما يؤدي إليه إمداد ملاعب سنت بانكراس بتلال الرمال وصناديق الأوراق المهملة؟ إنه سؤال دقيق لي فيه رأي محدد كما سيتبين لكم إذا طالعتم كتابي حتى نهايته، ولكنكم سوف ترون كذلك أني لا آمل كثيرا في أن أحمل كل إنسان على الاتفاق معي في الرأي. إن الرجل المتمدن من جميع الوجوه يضع كل هذه الأمور في اعتباره، وهو وإن يكن شديد الاهتمام بشئون السياسة أن يرجع إلى تلك المبادئ العتيقة الرنانة، ولن ينظر إلى رغبته الطبيعية في الاستمساك بما لديه على أنها أحق من رغبة خصمه في الحصول عليه لنفسه. إنه لا يخدع نفسه بالكلمات والعبارات. إن صاحب الملايين المتمدن يتفق مع الحكومة الروسية الحالية لأنها تحرم الإضراب، ولو كان مستر لانزبري متمدنا ما أعتقد من صميم قلبه أن أبناء دائرته الانتخابية أحق بأجر العمل من دوق نورثمبرلاند بثروته. إن عجزنا عن أن ندرك أن آمال الفرد أو مخاوفه الخاصة تتفق والخير المطلق - إن عجزنا هذا يجعل من غير المحتمل للرجل الضالع في المدنية أن يظفر بالثقة في انتخاب شعبي.
ولما كان الرجل المتمدن متسامحا لا يميل إلى التدخل في شئون الآخرين، فلا بد أن يكون على سلوك حسن. أن إحساسه بالقيم يقنعه بأهمية هذا السلوك في التنعم بالحياة، حتى إن لم يدله العقل على أنه ضروري للمعرفة، فإذا كان فهمك الناس أجمعين يدعو إلى تسامحك معهم أجمعين، فإن تسامحك يسير بك إلى منتصف الطريق في فهمهم. إذا طمأنت الرجل بحسن سلوكك وجميل خطابك سرت على الدرب الذي يؤدي بك إلى تأسيس علاقات عاطفية، وبذلك تيسر له أن يقدم خير ما عنده، وإن أنت أقمت تلك الحواجز التي يصطلح على نبذها كل سلوك حسن، إن أنت فعلت ذلك أقمت بينك وبينه الشك، والتوتر، والمضاربة، وتقرير الذات، وثق أنك لن تظفر بشيء أفضل مما أعطيت. لا يغرينا شيء قط بالإفضاء بأعز أسرارنا للمتكبرين ناقصي التربية. من أجل هذا ترى الرجل الدنيء، والوثاب، والمشاغب، مدعي العلم الذي لا يوثق فيه، ومدعي الكمال الذي يفرض شخصيته - هؤلاء يتسللون في هذه الحياة أو تجرفهم الحياة دون أن يتذوقوها. إن كل اتصالاتهم من جانب واحد، وحينما يشتد الواحد منهم يستطيع أحيانا أن يقبض على ناصية الحياة ويهزها هزا. ذلك أن الرجل الذي يحمل المشابك في أطراف يديه يستطيع أحيانا أن يمسك بك من عقبك ويلقيك أرضا، ولكنه لا يستطيع أن يدرك آلاف الهزات العاطفية العجيبة التي يحسها عندما يربت على كتف زميل أو يضغط على كفيه. ليس من شك أن في الحياة كثيرا من الأمور الطيبة يستطيع المرء أن يحققها بمجرد قوة الذهن والشخصية. غير أن هناك ما هو خير منها - أو أدق منها على الأقل - لا تستطيع أن تشتريها بأقل ثمنا من حسن السلوك. ومن هذه أفضلها الحديث - الحديث الحقيقي - تبادل العواطف والآراء بين أفراد عزل من السلاح تماما، قلوبهم مطمئنة، أفراد تخلو نفوسهم من الخوف ومن الريبة، كما يخلون من الأغراض، لا يسعى الواحد منهم إلى فرض نفسه أو التظاهر بها، وإنما يسعى إلى الحقيقة عن طريق اللذة، الحديث متعة لا يعرفها إلا المتمدن وحده.
الرجل الضالع في المدنية - بطبيعة الحال - لا بد أن يكون ذواقة في الحياة. لا بد أن يميز، وأن تكون له حاجات معينة ورغبات معينة. إن المدنية - ذلك المظهر المعقد من مظاهر الذكاء الفردي والحساسية ضد غريزة القطيع، هذه المدنية لا تقبل قط المعايير المنحطة أو تخضع لسلطان السوقة. إن الخراف الهمجية والنعاج البلهاء عبيد للسيد الذي يرتدي لباس السهرة. تحدد لهم السوقة ما ينبغي أن يكون من اختيارهم الشخصي الخاص. ينتقي لهم السادة هارود وسلفردج النبيذ والسيجار، والمعاطف، والأحذية والقبعات والقمصان، ويعين لهم السادة هتشرد ومودي أي الكتب يقرءون، ويمدهم تجار شارع بوند بالصور، كما يمدهم سر توماس بيتشم وسر هنري وود بالموسيقى وحبوب الدواء، وسر أزولدسنتل وهوليود بالنكتة، والجمال، والإحساس بالخيال. إن ملوك الأسواق الكبرى يصيحون فيهم قائلين: «هنا أيتها السيدات والسادة في الإمبراطورية البريطانية، هنا خير الأصناف»، وتقف سيدات وسادة الإمبراطورية البريطانية طائعين في الصف، ولا يجرؤ على مواجهة هؤلاء المتعهدين بالتوريد الذين يقدمون السلع المزخرفة إلا قليل من الضالعين في المدنية، قائلين لهم: إن ما يقدمونه لا يتفق وما هم في حاجة إليه.
لكي يكون الرجل متمدنا يجب أن يكون لديه ذوق للاختيار والتقدير، ولكني أذكركم مرة أخرى أنه لا ينبغي أن تكون لديه القدرة على الابتكار، فإن ابتكر، فلا بد أن يحمل ابتكاره علامات المدنية، غير أن هذه العلامات - ما دامت كلها عرضية لا تؤثر قط في القيمة الذاتية لعمله - ليست مما يأبه له رجل يقدر الجمال خالصا، وإن تكن لها أهمية قصوى للمؤرخين الذين يحاولون أن يكشفوا عن مميزات العصر الذي صيغت فيه، أو الفنان الذي صاغها، وإذا كانت «الأوديسي» أعلى قدرا من «أغاني رولان»، فليس مرد ذلك إلى أن الأولى تلونت بلون مدنية بازغة، والثانية بهمجية آفلة. إن الفنان المتمدن يظهر في فنه مدنيته، إلا أن هذا المظهر ليس من جوانب الفن التي لا محيص عنها. إن الرجل المتمدن لا يتصف بالخلق أكثر مما يتصف به الرجل الهمجي، ولكن التمييز والتقدير الواعي من صفات الرجل المتمدن، ومن العسير أن نحكم بالمدنية على الرجل الذي لا يتأثر البتة بأي فن من الفنون.
ومهما يكن من أمر، فإن حياة المدنية إذا خلت من الإحساس الجمالي المتصل العنيف تتعرض لخطر الفراغ. إن ملذات حياة المدنية تأملية في أساسها، ومن بين التجارب التي يمارسها المرء خلال تأمله، ربما كانت التجارب الجمالية أكثرها أهمية؛ لأنها وإن تكن أقل غزارة من العواطف التي يستمدها المرء من صلاته الشخصية إلا أنها أشد تأكيدا وأكثر دواما، وهذا الإيثار للتأمل (وأنا أستخدم الكلمة في أوسع معانيها) وهو من أعز المميزات التي يستمدها المتمدنون من إحساسهم بالقيم، هو الذي يعلل بغضهم المستمر للتدخل في شئون الآخرين، ذلك التدخل الذي يسميه كتاب السير المتميزون «حياة العمل»، وواضح أن من ضروب النشاط ما يمكن أن يكون وسائل للخير، وهذه الضروب لا مناص للرجل المتمدن من تأييدها دائما، ومن ممارستها أحيانا، ولكن لما كانت حياته بالفعل مليئة بوسائل الخير المباشرة، وما دام لديه من الصلات الشخصية ما يستمتع به، ومن الجمال ما يتأمله، أو يبدعه، ومن الحق ما يسعى إليه، فإنه يعزف دائما عن التضحية بهذا المحسوس في سبيل ما قد يتبين أنه وهم من الأوهام. إنه يريد أن يعمل لكي يعيش - إن كان لا بد له من ذلك، فالحياة وسيلة ضرورية من وسائل الخير. ولكنه بعدما يكفل بقاءه، يقف من الحياة موقفا قابلا لا فاعلا. إن حياة العمل - في أحسن حالاتها - قد تكون حياة حركة دائبة في السعي وراء ما قد يتبين أنه وسيلة من وسائل الخير - الخير للعامل - أو على الأرجح - للآخرين، ولكن العمل في حد ذاته عديم القيمة، وقلما تكون للحالة العقلية التي تتولد عنه أية قيمة. وفي أكثر الأحيان يكون العمل باعثا على حالات عقلية سيئة بالنسبة إلى العامل، وباعثا على الإزعاج المتواصل بالنسبة للآخرين.
لقد اعترفت بأن حياة العمل (ولست أسمي الحياة التي يكرسها صاحبها لمجرد اكتساب القوت، حياة عمل - فالعامل الزراعي ليس رجلا من رجال العمل) ربما كانت وسيلة من وسائل الخير، وبخاصة خير الآخرين، إلا أن الأشخاص العاملين حقا - رجالا كانوا أو نساء - لا يشنون الحرب عادة أو يقيمون المذابح، ولا يتسلطون على الضعيف ويستثيرون القوى، ولا يتدخلون في شئون جيرانهم ويقلبون الدنيا رأسا على عقب - لا يفعلون ذلك مدفوعين ببواعث الإيثار، إنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا شخصياتهم إلا بالعمل. إن ما يسمونه شخصا عمليا - رجلا كان أو امرأة - ليس إلا فنانا شائها ناقصا، يتشوق إلى التعبير عن نفسه، ولما كان لا يستطيع ذلك بالخلق والإبداع، فلا مناص له من التدخل في شئون الآخرين. أمثال هؤلاء هم نكبتنا، وما أكثرهم. إنهم لا يكتفون بالمحبة والصداقة، والحديث، وإبداع الجمال أو التأمل فيه، أو متابعة الحق والمعرفة، أو إشباع حواسهم، أو باكتساب قوت يومهم في هدوء، بل لا بد لهم من الظفر بالنفوذ، ولا بد أن يفرضوا أشخاصهم، ولا بد أن يتدخلوا في شئون غيرهم. هم صانعو الأمم والإمبراطوريات، وهم الذين يخلون بالسلام. هم مخرجو الإنسان من خير جوانبه. هم عمد الهمجية - أو إذا تبعنا كتاب السير - هم عمد المجتمع. إنهم غير مهيئين للذات المدنية، ولكنهم لا يسمحون لجيرانهم الذين كانوا أوفر منهم حظا في هذا السبيل بالاستمتاع بها. لا بد لهم من فرض معاييرهم وطرقهم في الحياة. وأسوأ من هذا كله أنهم يدفعون من بين من هم يسيرون في اتجاه المدنية بالطبيعة من كان أقل وضوحا في بصيرته - يدفعون بهؤلاء إلى عمل يدفعون به عن ذواتهم - أو قل يدفعون بهم إلى شبه الهمجية.
1
وعن هذه الحشرات تصدر تلك الدعوة الغالية، تقديس العمل؛ كأن العمل يمكن أن يكون خيرا في حد ذاته. وعنهم تصدر الحروب، وأسباب الاضطهاد، وقوانين الشرطة والتحقيقات الظالمة. إنهم يتوهمون أنهم يستطيعون بالقوة أن يفرضوا على غيرهم المعتقدات والميول، وقد بلغ هؤلاء الآخرون من الحماقة أنهم يصدقونهم. إنهم يستطيعون أن يفرضوا - بل إنهم ليفرضون - التوحيد الظاهري، والنظام. إنهم ينظمون العداوة لكل ما ليس بالشائع أو المألوف - أي لكل ما هو متميز نادر. لا شك أنهم قلة مسحوقة، ولكن لما كانوا لا يحسنون عملا سوى السعي وراء السلطان، ولما كانت الغالبية غبية وديعة، فإنهم يظفرون به عادة.
ولنعد إلى الرجل المتمدن. الرجل المتمدن مصنوع لا مطبوع. هو شخص مصطنع، غير طبيعي. إنه يكون نفسه عامدا واعيا، وفي اعتباره الحصول على خير وأدق الموجود والاستمتاع به. وبرغم هذا - بمعنى آخر - إنه وإن يكن متكلفا في كل أموره، إلا أنه أقل الكائنات البشرية انحرافا، وهو كذلك لأن استجاباته أقل انحيازا، ولكي نفهم هذا التناقض الظاهر يجب علينا أن نسلط أذهاننا على صورتين: على الحياة، أو التجارب، باعتبارها تيارا دائم التدفق، وعلى ذلك المجرى العجيب الذي نجريها فيه. وهو الشخصية، والعجيب في الشخصية أنها تكيف وتتكيف بالتجارب، ولا تجد شخصيتين في شكلهما الأصيل متطابقتين، ولكن خلال السنوات الأولى لحياة كل إنسان تشكل الظروف والتربية الشخصية وتحورها - وأقصد بالشخصية المجرى الذي يسري خلاله تيار التجارب. إنها تنسد وتتضخم من أثر الخرافة المتخلفة أو تراكم العادات التي تلتوي هنا وتنبعج من فعل الأهواء التقليدية، وأحيانا تعيد الثقافة تشكيلها قصدا. ولكي تقدر تقديرا تاما قوة التيار الذي يمر بها وحرارته ونوعه، ولكي تسجل الدوامات والأمواج التي تصطدم بها، ولكي تميز تمييزا واضحا بين التحاريق والفيضان، يجب أن نحافظ في عناية تامة على نظافة هذه الأداة الدقيقة. الشخصية (هذا الموصل للتجارب) تحتاج إلى الجلاء دائما، ولا يستطيع إلا العقل وحده أن يؤدي هذه العملية الأساسية. العقل وحده يخلص الشخصية من الآراء المتعصبة وردود الأفعال العنيفة، وذلك لكي نقاوم دائما المعتقدات الثابتة وردود الأفعال الغريزية. شخصية الهمجي تتلوث بالأهواء والمخاوف الخرافية. أما شخصية المتمدن فليست بالتأكيد تلك الشخصية التي ولد بها، فقد طرقتها الأقدار وشكلتها التربية، ولكنها شخصية نظيفة. ولا تحول بينه وبين الحياة محرمات بالية، أو عرف على غير أساس أو مخاوف لا طائل تحتها، ومن ثم تتاح الفرصة لكي يمارس يوما ما أمرا من الأمور مباشرة ممارسة كاملة وبشخصه، لا باعتباره مسيحيا أو عابد شيطان، ولا باعتباره سيدا إنجليزيا أو من عامة قراء الصحف، وإنما باعتباره الذاتي.
الرجل المتمدن لا يعبث بصفاته الموروثة حبا في توحيدها مع صفات غيره، ولا من أجل الضمان العقلي والعاطفي - وهما من أهداف القطيع الكبرى، ولا يحاول أن يعدل من هذه الصفات إلا حينما تحول بينه وبين إدراك الحياة والاستمتاع بها. إنه يحاول أن يعالج نفسه من حدة الطبع كما يحاول أن يعالج نفسه من لكنة اللسان. إنه يكافح ميول الغيرة كما يكافح السل في بدايته. إن الميول الهمجية لا تعود بفائدة تدوم متعتها. إنها تهدم السعادة كما تهدمها أمراض الأسنان. إنها تجعلنا نعاني معاناة المرضى ونسلك سلوك المجانين. الرجل المتمدن يبذل كل جهده للتخلص من كل ما يحول بين وعيه والحقيقة، كل ما يحرف الأحكام، كل ما يظلم البصيرة. إنه يحاول أن يبدد الطبيعة بمعول التربية، وهو بهذه المحاولة إنسان متكلف مصطنع. ولهذا فهو وإن كان لا ينبذ لذة من اللذات لأنها تنافي المبادئ، إلا أن عادة التحليل عنده وإحساسه بالقيم سرعان ما تقنعه بأنه يضحي بالأسمى في سبيل الأدنى إن هو سار وراء ميوله الطبيعية. إنه يستبعد أو يحد من تذوق اللذات الدنيا، وإن بدا له أن الجشع يحد من تأثره بالفكر والشعور تحكم في شهوته. الرجل الهمجي يأكل ويشرب حتى يمرض، والرجل نصف المتمدن يفعل ذلك حتى يتبلد. أما الرجل المتمدن فيحاول دائما أن يطور الطبيعة ومن المحتمل أن ينجح. يعزز من نفسه ناحية ويمحو منها ناحية أخرى. إنه لا يقبل الطبيعة كما هي، ولست أرى سببا يدعوه إلى هذا. أما أولئك الذين يقبلون الطبيعة على علاتها. أولئك الذين يرفضون التدخل في هذه الآلهة، أولئك الذين عقدوا العزم على استبعاد كل ما ليس بالطبيعي - هؤلاء أنصحهم بالعودة إلى الصواب بأسرع ما تمكنهم قدراتهم الطبيعية.
هكذا أصور الرجل المتمدن. فهل تصدمك هذه الصورة ولا تلاقي عندك عطفا؟ لم يكن من شأني أن أرسمها على غير هذا الشكل. وسواء رضيت عنها أو لم ترض، وسواء ترققت فأسميتها «رسما تخطيطيا» أو نبذتها قطعا لأنها «ضعيفة». سواء كان هذا أو ذاك فإني أعتقد أنك توافق على أن الشخص الذي قصدت أن أصوره بها، هو في الواقع الشخص الذي نسميه متمدنا. إنه ليس الرجل الطيب، وليس الرجل الطبيعي. إنه ليس الفنان، أو البطل، أو القديس، أو الفيلسوف، ولكنه يقدر الفن، ويحترم الحق، ويعرف كيف ينبغي أن يكون سلوكه. هدفه أن يستمتع بالحياة استمتاعا كاملا، وأن يستمتع بها جملة وفي أدق نواحيها وأشدها خفاء. ووسيلته الأولى لتحقيق هذا الهدف هي قوة الفكر والشعور، مهذبة إلى أقصى الحدود. إنه صاحب ذوق في كل الأمور. تطلعه الذهني لا حد له، لا يخشى شيئا، ولا ينطوي على غرض . إنه متسامح، متحرر، لا يصدم، وإذا لم يكن دائما ودودا ظريفا، فهو على الأقل ليس شرسا، ولا مرتابا أو متعاليا، إنه ينتقي ملذاته قصدا، ولا يحد انتقاءه خوف أو هوى. إنه يميز بين الوسائل والغايات، ومن ثم تراه يقدر الأمور لدلالتها الوجدانية أكثر مما يقدرها لفائدتها العملية. كل نفاق في الحديث عن «الحقوق» و«الواجبات» و«المقدسات» يهب بعيدا عنه كالقش والرمال، يضايق ولا يؤذي. إحساسه بالقيم، حينما يوجهه بذكائه، كالإبرة التي يفقأ بها الفقاعات المزيدة التي يثيرها الاستنكار الخلقي. إنه ناقد، واع لنفسه، وهو على كل حال - إلى حد ما - يحلل المواقف. ولا مناص له من أن يكون فذا فريدا، ولما كان واعيا لنفسه كفرد كان قليل العطف على إجماع القطيع، ولما كان مهذب العقل والوجدان والحس، فإنه يشق للحياة طريقا يزبل منه - على قدر المستطاع - ما يعترضه من عادات وأهواء. كلا، إنه لن يكون طبيعيا أبدا.
إن النموذج الفذ للإنسان المتمدن قد يوجد - فيما أحسب - منفردا، مستوحشا، مستكفيا بذاته، له قيمته الذاتية، ولكن الرجل المتمدن لا يمسي ممدنا لغيره إلا عندما يجتمع حشد من المتمدنين. فجماعة المتمدنين هي نواة المدنية. يقول فلتير: «في النهاية تتحكم الجماعة الطيبة في الجميع في كل مكان». والجماعة طيبة كانت أو سيئة - لا بد أن تتألف من أكثر من فرد واحد. وعندما توجد «الجماعة الطيبة»، أو نواة التمدين، فإنها لا تسود - إن صح أن ننعتها بالسيادة - إلا بطلاء البيئة بلون خفيف. وهذه البيئة - مدينة كانت أو دولة أو عصرا - لا يمكن أن يقال عنها إنها أصبحت رفيعة المدنية (كبيئة) إلا عندما يصطبغ جانب عظيم من جمهورها بهذه الصبغة الغالبة - وإن بقي هذا الجمهور على قدر كبير من الهمجية إذا قسناه بتلك المعايير الدقيقة التي طبقتها على الأفراد، وفي العصور المحظوظة والبقاع السعيدة نرى أن جانبا كبيرا من السكان قد أبدى ميلا إلى المناظر والأصوات الجميلة، وبدت عليه علامات تدل على تنبه إلى التطلع الذهني، كما أظهر قلقا من القيود الهمجية على الفكر والشعور التي تدفع بالغالبية عادة إلى تخوم الحيوانية، وقام بتزيين المدن كبار الفنانين الذين فضلت أعمالهم عن وعي وقصد على أعمال الفنانين المتخلفين. وإني لأؤكد عن يقين أن تمثال مس كافل لم يكن بالإمكان أن يعرض في أثينا لعهد بركليز أو فلورنسا المديشية، ولقد مرت عصور بدأ كثير من الناس فيها يحسون ببغض الكذب والجهل، بغضا ينبني على أساس عقلي وأساس جمالي في آن واحد، وفي القرن الثامن عشر سخر فلتير متجاوبا مع الرأي العام من مؤلفين كان لديهم من العقل ما ليس لمستر بلك أو سير آرثر كونان دويل، وفي ذلك العصر كان لا بد أن تكون جنازة فالنتينو نفسه أقل روعة من جنازة سير إسحق نيوتن، وكان الأثينيون يخصصون للفن أضخم اعتماد من الخزانة العامة، وكان الإيطاليون لعهد النهضة يعدون رفائيل أعظم أمجادهم الوطنية، ومن أمثال هذه الريشات يتبين المرء اتجاه الريح، ويؤكد لنا الفحص الدقيق صحة الانطباع الذي تكون لدينا من أنه كانت هناك حقا جماعات سادها وانتشر فيها تقدير عادل - وإن يكن غامضا - للقيم العليا ولما في الحياة من جميل الأشياء، بل سادتها رغبة في متابعة هذه القيم والأشياء ولو على حساب إشباع الرغبات الأكثر وضوحا وجلاء، وكان ذلك من فعل جماعة من الأفراد الضالعين في المدنية؛ هذه الجماعة بتأثيرها في الجماهير لونت عصرها عن غير قصد وبطريقة غير مباشرة في أكثر الأحيان. إن الجماعات الضالعة في المدنية من رجال وسيدات هي التي نشرت الحضارة.
2
كيف نصنع المدنية؟
بقي أمامنا سؤالان، أولهما: هل نريد المدنية؟ وثانيهما: هل نستطيع أن نظفر بها لو أردناها؟
هل نريدها؟ هناك من الأسباب - إلى جانب ما يراه ساسة الدول المتحالفة - ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن المدنية أمر مرغوب فيه؛ فهناك الاعتقاد الراسخ في قلب كل رجل مهذب وكل امرأة مهذبة ؛ لأن كل إنسان مهذب - رجلا كان أو امرأة - يحس أن تلك العصور الذهبية - التي حاولت أن أشير إلى صفاتها - كانت ذهبية حقا. وإنا جميعا لنشعر أنها كانت مما يشرف التاريخ. ولا يمنع ذلك من وجود جماعة من الأذكياء يمتعهم أن يتغنوا بجمال الهمجية، ومن العقلاء من يدرك عيوب المدنية ومفاتن الهمجية، وإنك لتلمس بين أرقى المتمدنين ميلا - من حين إلى حين - للثورة على تهذيبهم، وكثيرا ما تجد فيهم شيئا من السذاجة والحيوانية. إن في العودة إلى الطبيعة عن طريق الفنون والحرف، وفلاحة البساتين وسوء فهم فلتير، تناقضا يقبله عادة المتمدنون الذين يحسون الحاجة إلى دواء مسكن - وليس هناك ما هو أقرب إلى الطبيعة من أن يؤلف أمثال هؤلاء جماعات تتحسر في براعة وفي نغم جميل على ملذات الجهل المفقودة ونعمة البلاهة الضائعة. ولا يدعونا البتة إلى الدهشة أن تنال هذه الجماعات العطف الشديد، أو أن يمدهم بالمال أولئك الذين لبثوا على همجيتهم لأنهم عجزوا عن أن يكونوا شيئا أفضل من ذلك - ومهما يكن من أمر فمن المرغوب فيه أن يكون هؤلاء الأذكياء، هؤلاء الذين يبشرون بالحنين إلى العصر الباليوليتك القديم ويجدون من يصغي إليهم، من المرغوب فيه أن يبلغ بهؤلاء ذكاؤهم أن يدركوا أن هناك فارقا جسيما جدا بين نظرية يذكرها صاحبها لمجرد الدعاية، وبين ما يعتقده المرء فعلا. إن كل إنسان ذكي يدرك من صميم قلبه أن حياة المتوحش هي كما وصف هوبز - وذلك برغم ما فيها من فنون النحت، ورقصات الحرب، وتبادل المودة، والأثداء السمراء، وثمر الموز. إنها حياة لا يمكن لنا احتمالها لما فيها من مخاوف غير طبيعية تحدق بالناس وتتهددهم، ولما تنطوي عليه من انعدام الاطمئنان المادي، وانعدام التنوع - قد تهتز نفوسنا لما فيها من فنون خيالية للبناء، وقد نعجب بمظهر التحمس للعقائد، ولكنا ندرك من صميم قلوبنا أن العصور المظلمة كانت حقا مظلمة. إنا نعلم أن تلك الأيام الحالمة كانت تقع علينا كالكابوس لو عشنا فيها، لما سادها من مخاوف مفزعة، وآلام لها ما يبررها وما لا يبررها، ونقص في الأفكار الجديدة، وموانع عاطفية وذهنية، وتهديد مستمر بالدمار الشامل - وبعد ذلك النموذج الطيب من الهمجية الذي لمسناه بين أغسطس من عام 1914م ونوفمبر من عام 1918م، عرفنا - نحن الذين نحن إلى العقل - أننا عدنا إلى الملذات المصطنعة التي تتيحها لنا حفلات العشاء الحديثة، حيث نستطيع أن نجلس ونثور في أمن واطمئنان ضد سكون الحياة المتمدنة الذي يخلو من دلائل البطولة، وفي أفئدتنا إحساس بالتفريج عن النفس خفي، ولكنه بعيد الغور.
هذه العقيدة الملحة - التي تختفي كثيرا وتتستر أحيانا - بأن المدنية أمر تشتد رغبتنا فيه، هذه العقيدة ربما كانت خير ما لدينا من سبب يدعونا إلى افتراض أن المدنية شيء محبب إلى النفوس. وكل من يريد لذلك سندا من الفلسفة يستطيع أن يلتمس هذا السند. فإن فلاسفة الأخلاق يقولون له إنه ينبغي له أن يرغب في المدنية؛ إذ يبدو أن الفلاسفة على اتفاق تام بأنه ليس هناك ما هو خير في حد ذاته سوى بعض حالات العقل التي تبرز من بينها حالات الخلق والتأمل والتدبر والمحبة، ومن المؤكد أن المدنية لا تقوم بما يعوق الخلق الفني، والفنانون يظهرون في المجتمعات المتمدنة كما يظهرون في المجتمعات المتوحشة، والجو الذي يبلغ فيه التكلف أقصاه قد يكون خانقا لأحد الفنانين، ولكنه لغيره مجال للتنفس. إن نظرة إلى التاريخ تقنع كل من يستطيع قراءته أنه ليست هناك علاقة معينة بين الإنتاج الفني لعصر من العصور، كما وكيفا (وإن كنت لا أقصد الوصف السطحي) وبين درجة حضارة هذا العصر، وإذا كانت المدنية أقل ملاءمة لنشوة العقيدة التي لا تستند إلى عقل، فهي - على الأقل - لا تقاومها مقاومة إيجابية، فهي لا تمنح ولا تضطهد؛ في حين أنها تشجع المتع النفسية الأخرى التي يحسها أولئك الذين يكرسون حياتهم للعلم، والفلاسفة المتفكرون، وعلماء الرياضة، ورجال البحث، وكل باحث وكل مفكر - وليس ذلك فحسب، بل إن المدنية كثيرا ما تكون وحدها العامل الذي يجعل هذه المتعة ممكنة. أما حالات التقدير والتأمل، فهي من صميمها - وكذلك العلاقات الشخصية. ولا ينكر في الواقع أن الرجل المتمدن الذي يبحث عن المتعة الفائقة، هو بطبيعته - ولا بد له أن يكون كذلك - هاو لحالات عقلية رائعة؛ ومن ثم فليباركه أساتذة الأخلاق.
ولكن المذاهب الأخلاقية عقيمة في أحسن حالاتها، وميل الأساتذة للخلط بين الأخلاق وقواعد العرف كثيرا ما تجعلهم جماعة منفردة، بيد أنا في ثورة غضب ضد هذه الجماعة ننادي بحرارة بأن أشور بانيبال كان محقا في أنكيال
1
حينما نقش هذه العبارة التي استرعت نظر أرستوبولوس
2 «كلوا، واشربوا ... والعبوا. فإن ما خلا ذلك لا يساوي قلامة ظفر». بيد أن أشوربانيال كان مخطئا، وسرعان ما تصبح الحياة التي يوصي بها مملة كالحياة المثالية التي يوصي بها الأخلاقي المحترف؛ فإن الإنسان الذكي لن يقنع طويلا بالملذات الحيوانية، وإنما هو يضع لذة العقل والعاطفة في المقدمة ثم يضع الملذات الحسية في المؤخرة، فتكون أساسا خلقيا فاتنا، وهذا هو المكان الذي تعينه لها المدنية على وجه التحديد.
أما لماذا يرغب الناس في المدنية فسؤال آخر يجدر بي أن أجيب عنه؛ ما هو الدافع الذي يخرج عددا معينا من المتوحشين عن حالتهم الطبيعية التي تسودها الخرافة وغريزة القطيع إلى حالة التأمل والفردية؟ ليجب عن هذا السؤال أولئك الذين يعرفون أنه لا بد أن يكون الباعث على هذا الإخراج دافعا من الدوافع، ولا يدهشني إذا اكتشفوا ذات يوم أن هذا الدافع الفريد لم يكن شيئا أفضل مما عرف عنا من تذوق للذة المجردة، ومهما يكن من أمر فمن الممكن أن يرى الباحث أن المدنية كانت نتيجة لهذه الرغبة العامة؛ لأنك لا تنكر أن أنبل رجل متوحش محروم من كثير من ملذاتنا بسبب الخوف والجهل، سواء شاطرت هوبز الرأي أو لم تشاطره بأن حياة الرجل الطبيعي قذرة وحشية قصيرة. الرجل المتوحش لا يستمتع البتة بأية متعة من المتع التي يستمدها المرء من حرية التفكير، وقلما يستمتع بالمتع التي تتولد عن الذوق، وليس من شك في أنه يستمد متعة من فنون النحت والنسيج عنده، وليس من شك في أنه ينعم بنوع من أنواع الموسيقى - وكل ذلك مما نقدره نحن أيضا. ولكنك لو عرضت على أنبل المتوحشين مسرحية لأرستوفان أو شيكسبير أو راسين، أو فن الفسيفساء البيزنطي، أو بوسان، أو الموسيقى الحديثة أو السمفوني ، أو حوارا دقيقا، أو حديثا فكها ينم عن ذكاء، أو غزلا معقدا، إن أنت فعلت ذلك، اعترفت فما أظن - بأن ضعف الثقافة يحرمه من ملذات اكتسبنا تذوق الاستمتاع بها. يقول ماك كويدي: «المتوحش لا يضحك مطلقا»، وإني أعتقد أن ماك كويدي مخطئ، ولكني أتصور أن المتوحش قلما يبتسم. إنه يفتح فاه ولا يرفع قط كتفا أو حاجبا وليس للمتع الذهنية أو الظلال الدقيقة للعاطفة معنى لديه. ملذاته محدودة تسير على وتيرة واحدة، وكم من الآلام يحتمل مما هو ضروري وغير ضروري؛ ذلك لأن أقوى أسباب الألم، وألد أعداء المتعة هو الخرافة والجهل والعاطفة التي لا سلطان لصاحبها عليها - وتلك هي مميزات الهمجية الأساسية. إن الرجل الكاثوليكي الحديث، قد يكون بدينا نهما يتناول اللحم والنبيذ، ويمتلئ قلبه بالحقد، ثم يجعجع قائلا إنه سعيد وإنه مؤمن؛ بيد أنه برغم هذا لا يعتقد فعلا في الخرافة، وهو في ذلك يختلف عن الرجل الهمجي. إن كان سعيدا فذلك لأنه يعتقد صادقا في أمور قليلة سوى قدرته على الهضم، ولولا ما تقدمه له المدنية في الوقت الحاضر من أمن وعلم، ما طال اعتقاده في هذه القدرة. إن عقيدته لم تبلغ بها الحرارة أن يدرك ما هو الفزع الخرافي، ولكن الفلاح في العصور الوسطى الذي كان يؤمن بأنه بمتابعة ميوله يسير رأسا إلى الجحيم المقيم، والرجل الهمجي الذي يعيش خائفا من أن يقرب المحرمات - هؤلاء يعرفون الفزع، ويقضون شطرا كبيرا من حياتهم في ألم واضطراب نفساني، وتستطيع المدنية أن تنقذهم بأن تبين لهم أن الحياة شيء يستمتع به المرء، ثم تبين لهم بعد ذلك كيف يستمتعون بها، وذلك بأن تخرجهم عن اعتزازهم بنعمة الامتلاء والرضا بالراحة وبغض كل ما عداها - إن كان بهم أدنى ميل إلى الملذات الدقيقة، كما تظهرهم المدنية كذلك على عالم من الآراء يكتشفونه ومن العواطف يحسونه. المدنية - كالشيطان - تظهر المرء على كل ممالك العالم - عالم الروح - في لحظة من الزمان، وتدفعه إلى امتلاكها، وربما - بعد هذا كله - كان ذلك الدافع الخفي الذي كنا نبحث عنه هو الشيطان - الذي عرف في بلاد أخرى وعصور أخرى باسم بروميثيوس.
ومهما يكن من أمر، فأنا على يقين، من أن كل امرئ قادر على فهم هذا التعبير إذا خلص في الإجابة عن هذا السؤال: هل أريد المدنية؟ لم يجد مفرا من الاعتراف بأنه يريدها (ولكن كم من الناس يستطيع الإدراك؟)، وأنا أعرف كذلك أن الفلاسفة يقولون له أنه من الواجب عليه أن يريدها؛ غير أنه فوق علمي أن أعرف إن كانت الأكثرية قد أرادت المدنية أو سوف تريدها. أكثر الناس يريد اللذة، ولكنها لا تطيق بعد النظر، والمدنية ليست بالطريق الواضح. إن الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه كان رجلا شاذا، ومن حسن حظي أنه ليس من شأني أن أحمل الأكثرية على التنبؤ بالمستقبل، ولكن ما دمت قد حاولت أن أفسر ما عنيت بالمدنية، وما دام ذلك غاية أرمي إليها، فسوف أسمح لنفسي بالإشارة إلى الوسائل. سوف أرسم صورة عامة للأداة التي يستطيع بها الناس أن يخلقوا المدنية، إن كانت المدنية ما يريده الناس.
الشعب المتمدن، الذي يتميز عن تلك النواة التي تضفي عليه المدنية، يتألف من رجال ونساء يتخذ الجانب الأكبر منهم موقفا فيه شيء من النقد للحياة، ويتصف بتذوق بدائي للتفوق والامتياز. إنه يحاول بصورة غير مهذبة - وإن تكن واعية - أن يدرب نفسه على استغلال قوى التفكير والشعور التي يمتلكها أكبر استغلال. وقد اكتشف أهل إسبرطة أن مجتمعا بأسره - أو على الأصح الجانب الحر من هذا المجتمع - يمكن أن يدرب نفسه على القتال، وكان الأثينيون - على قدر ما وصل إلينا من علم - أول من دربوا أنفسهم، عامدين، على تقدير الحياة. هذا التدريب المقصود الواعي بنفسه صفة مميزة من صفات المدنية. وما يترتب عليه من استمتاع، تلك الحالات العقلية الطيبة التي تنجم عنه، هو الغاية التي تعتبر المدنية إحدى وسائلها. وأقول: «إحدى الوسائل» لأن المدنية وإن كانت أخصب ما نعرف من وسائل إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وهذه الوسيلة - التي تؤدي على الأرجح إلى الخير - التي استطاعت فطنة الإنسان (حتى الآن) أن تبدعها - كما رأينا - ليست سوى ذلك اللون الذي تضفيه على المجتمع نواة قوية - وإن تكن صغيرة - من الأفراد الضالعين في المدنية. ومن ثم فإن الجماعة التي تريد أن تمدن نفسها لا بد أن تكتشف أولا - ثم تنشئ ثانيا - تلك الظروف التي تلائم إنتاج الممدنين.
لا يستطيع
3
امرؤ أن يتفوق في المدنية - وسوف أستعمل منذ الآن «التفوق في المدنية» تعبيرا أميز به بين الممدنين ومجرد المتمدنين الذين يتلونون بلونهم - أقول: لا يستطيع امرؤ أن يتفوق في المدنية دون أن يتوفر له قسط كاف من الأمن المادي. والواقع أن الدولة لم تخرج إلى حيز الوجود إلا نتيجة للرغبة في الأمن المادي. وأرجو ألا تسارعوا فتحسبوا أن الأمن المادي وحده يستطيع أن ينتج أي لون من ألوان المدنية - ولنذكر الجماعات التي تتميز بحسن التنظيم في العالم الحديث؛ غير أن المرء إن أراد أن يحيا حياة متفوقة في المدنية لا بد أن يتوفر له الطعام، والدفء، والمأوى، والمجال، والفراغ، والحرية، ولذا فهنا - من أول الأمر - يواجه الرجل الذي يحب الإنسانية ويتحمس لها، والذي يتأثر بفصاحتي فيصمم على أن يكرس قدراته السياسية لرفع شأن المدنية - يواجه هذا الرجل سؤالا عاجلا شاذا وذلك هو: كيف نستطيع أن نمد القلة الممدنة بالأمن والفراغ اللازمين إلا على حساب الكثرة؟
والجواب إنه ليست هناك وسيلة أخرى نمدهم بها: أن مواطنيهم ينبغي لهم أن يعولوهم كما فعلوا من قبل دائما. المدنية تحتاج إلى طبقة فارغة، والطبقة الفارغة تحتاج إلى وجود الرقيق - أعني أولئك الذين يخصصون جانبا من فائض وقتهم ونشاطهم لعول غيرهم؛ فإن أحسست أن مثل هذه التفرقة لا يمكن احتمالها، فلتكن شجاعا وتعترف أنك تستطيع أن تستغني عن المدنية، وإن المساواة - لا الخير - هي ما تريد. إن المساواة التامة بين البشر لا تتفق إلا مع الهمجية التامة، ولكن ليذكر من يزعم حب الإنسانية - قبل أن يدعو إلى الهمجية - أن بين الناس من يرغب في الخدمة أو أن بينهم - إن شاء - من يرضى بالتضحية في سبيل مثل أعلى.
ومهما يكن من أمر، فإنه من الواضح أن المرء لكي يكون كامل المدنية، ولكي يمارس أعمق الحالات العقلية وأروعها لا بد له من الأمن والفراغ. لا بد أن يتوفر له ما يكفي لطعامه وشرابه، وما يضمن له ذلك. ولا بد أن يتوفر له الدفء، والمأوى، وشيء من المجال، وكل ضرورات الحياة وبعض ما فيها من أسباب الترف. والفراغ كذلك ضروري. لا بد له من الفراغ لكي يربي نفسه على الاستمتاع بالخيرات، ومن الفراغ ما يمكنه من متابعة الاستمتاع بها، وكذلك يجب أن تتوفر له الحرية، الحرية الاقتصادية التي ترفعه فوق مستوى الظروف التي تحطم الروح، وتسمح له بالعيش كيفما وحيثما أراد، والحرية الروحية - حرية التفكير والشعور والتعبير والتجربة، يجب أن تتوفر له الحرية لكي ينمي قابليته، وأن يضعها دائما في طريق المغامرة. إن المرء لكي يظفر بخير ما في الحياة يجب أن يعيش من أجل خير ما فيها.
بيد أن الأمن المادي والفراغ والحرية، كلها - لسوء الحظ - تتطلب المال والمال في النهاية لا يمكن الحصول عليه إلا بالعمل المنتج؛ إلا إن كل ضروب كسب المال تقريبا عقبة في سبيل حالات العقل الغزيرة الدقيقة؛ لأن جميعها تقريبا تتعب الجسم وتبلد الذهن، ويؤكد هذه الحقيقة الثابتة مثل الفنانين، الذين يكف أكثرهم عن الخلق بتاتا إذا اضطروا إلى العمل في تحطيم الأحجار أو جمع الأرقام ست أو سبع ساعات كل يوم، ثم إن الرجل الذي يتعلم كيف يكسب العيش لا يمكن أن نحسن تربيته على استغلال الحياة على أحسن وجه؛ فلكي نتيح للشاب أن يمارس خير ما في الحياة لا بد له من تربية حرة محكمة حتى سن الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، تبقى في نهايتها الحاجة إلى الفراغ شديدة الإلحاح؛ لأن الإحساسات المرهفة عالية التدريب لا تعيش إلا في ظروف حرة فسيحة. كم من ألوف المحامين، وموظفي الحكومة، ورجال الأعمال، الذين تخرجوا في أكسفورد أو كمبردج مؤهلين للاستمتاع بخير ما في الحياة، كم من هؤلاء أمسى - بعد ثلاثين عاما من النجاح المتواصل، عاجزا عن الاستمتاع بأي شيء يفضل نشوة الخمر أو الصداقة العاطفية، أو الروايات الرخيصة، أو الصور الأرخص، أو الموسيقى الشعبية، أو الصور المتحركة، أو الجولف، أو ما يروى في غرفة التدخين من حكايات، أو الأمر والنهي، أما عن العمل البدني، فإن من يزعم أنه بعد عمل يوم كامل في الحفر أو السباكة، أو الصيد والقنص، يكون في حالة تمكنه من استساغة نواحي النشاط الروحي الذي تتميز بدقتها، من يزعم ذلك فإنه يقول كلاما ليس له معنى.
بل أكثر من ذلك أن توفر الأمن والفراغ والحرية وحده يمكن أن يعطي المرء ذلك الإحساس بالاطمئنان وتلك النخوة التي لا تبلغ الحياة بغيرها أو في مراحل تطورها وأعلاها، ولا يعرف كيف ينفق المال - على وجه العموم - إلا أولئك الذين لم يضطروا قط لكسب المال؛ أولئك وحدهم لا يزنون المال بأكثر مما يستحق - فهو وسيلة لما يريدون، وإذا كان التحرر من العمل الشاق وحده هو الذي يبقي على المرء حدة ذهنه، فإن الاستقلال وحده هو الذي يعطي المرء الشجاعة على استخدامه، فلا يحتفظ بقوة الفكر والشعور بإخلاص مطلق إزاء كل موضوع إلا أولئك الذين لم يضطروا قط إلى إرضاء سيد أو التقرب إلى زميل. أولئك وحدهم يعرفون كيف يتخلصون من الغرض تماما، وكيف لا يخضعون البتة للأهواء، وكيف يتابعون فكرة دون النظر يمنة ويسرة ليتثبتوا من ملابساتها العملية، وكيف لا تؤذيهم ضمائرهم في اتباع المنطق، وكيف لا ينزلون عن شيء من ميولهم. هل يمكن لقائد من قواد الصناعة مهما يكن ذكيا أن يتجرد من الأهواء تماما حينما يناقش الاقتصاد السياسي؟ وهل يمكن لأسمي أفلاطوني - إن كان كذلك معلما مأجورا لليونانية - أن يحكم على التربية الكلاسيكية بمزاياها فحسب؟ بل إن الاشتراكيين أنفسهم - إن كانوا كذلك من صغار العمال المأجورين - لا يستطيعون أن يفكروا بعقول متحررة في الموضوع الذي نجادل فيه: هل تتفق المساواة الاقتصادية مع أعلى درجات الخير؟ في حين أن الاشتراكية نفسها من ابتداع المفكرين من الطبقة المتفرغة ، وأولئك أساسا هم الذين دفعوها إلى ميدان السياسة العملية.
إن وجود طبقة متفرغة لا بد منه كوسيلة للخير ووسيلة للمدنية؛ أي إن الرجال والنساء الذين تتألف منهم تلك النواة التي تشع المدنية منها لا بد أن يتوفر لهم الأمن والفراغ، والحرية الاقتصادية، وحرية التفكير والشعور والتجربة. إذا أراد المجتمع المدنية فلا مناص له من أن يدفع ثمنها. لا بد له من أن يعول طبقة متفرغة كما يعول المدارس والجامعات، والمتاحف ومعارض الصور، ويقتضي ذلك التفرقة - التفرقة كوسيلة للخير. إن المدنية كلها استندت إلى هذه التفرقة. فكان للأثينيين عبيدهم، وكان العمال المأجورون الذين ليس لهم حق التصويت في فلورنسة يقومون بأود الطبقة التي أسبغت على فلورنسة ثقافتها، ولا يستمتع بنعمة العدل الاجتماعي سوى الإسكيمو ومن إليهم. لا غنى لنا عن طبقة متفرغة إذ قل من الناس من يولد قادرا على أن يكشف لنفسه عن عالم الفكر والشعور الذي تنبثق منه خير ملذاتنا، وإن قدرات هذه الفئة لتفسد إذا لم تلق الرعاية وتصبح بذورا في العراء، ثم إن المجتمع لكي يتمدن ينبغي أن يتشبع وأن يتغذى دائما بالتأثير اللاشعوري لهذه الفئة الممتازة التي تشع منها المدنية. يجب أن تلقن الغالبية أن عالم الفكر والشعور موجود، ويجب أن تطلع - وهي تكمن خلف عالم مملول من المنفعة العملية - على أهمية العالم العاطفي، وواجب القلة الممتازة أن تشير إلى الطريق. إن أفراد هذه القلة الضالعة في المدنية لا ترشد ولا تحاضر، وإنما تكتفي بأن تحيا حياتها، وسيتبين من عيشهم أن لهم ملذات ورغبات، وقيم ومعايير، وموقف من الحياة، ووجهة نظر، تختلف عما يتصف به الجمهور العامل. إنهم بعيشهم عيشة سلبية يصبحون عوامل إيجابية للخير. إذ إنه عندما يظهر أن القلة قد اكتشفت متعا غزيرة مشبعة لم يتنبه إليها الباحثون عن اللذة ممن هم أقصر نظرا وأقل موهبة، عندئذ تبدأ الكثرة في التساؤل، فتراهم يتساءلون: أليست هناك ملذات تفضل ما لدينا؟ هل يمكن حقا أن يعني الفن والفكر ونشاط الذكاء والخيال والعلاقات الشخصية الدقيقة لهؤلاء الأفذاذ أكثر مما يعني سباق الخيل وسباق الزوارق، والصيد، وكرة القدم، والسينما والويسكي؟ سوف يتبين ذات يوم مشهود وبغير لبس أو غموض أن ألوان النشاط الأولى تعني فعلا أكثر مما تعني ألوان النشاط الثانية، وإن هناك من الناس من يستطيع الثانية، ولكنه يؤثر الأولى. ويدعونا ذلك إلى التفكير. وقد يظهر بين الحين والحين من الهمجيين من يمعن في البحث والتساؤل. فيساوره الشك والقلق إزاء تلك الملذات الواضحة التي كان يسلم دائما بتفوقها. فهل لا يمكن أن تكون الملذات التي لا يسهل اكتسابها أفضل في السعي وراءها؟ فيهب عليه عبق المدنية خفيفا، كما تهب أحيانا رائحة الحشيش الجاف ذات مساء صائف في أخريات شهر يونية على الأحياء الفقيرة في الضواحي؛ فيشتم في هذا العبق بصورة غامضة رائحة طيبة - أو على الأقل رائحة تفضل ما كان يهب عليه من قبل - وإذ هو يخترق الميدان العام الذي عبره من قبل ألف مرة يفاجئه إحساس بالسعادة لا يستطيع تفسيره، ويجد نفسه وقد وقف يحدق في نافورة جميلة، وشعر بالخجل لهذا الذهول الذي أصابه. وقد يحدث بعد ذلك أي شيء، وقد يغلبه شعور مفاجئ بالرضى حينما يكتشف تناقضا في الصحيفة التي كان يقرؤها حتى ذلك الحين مبجلا لما تحتويه غير ناقد لما فيها، وعلى ناصية إحدى الطرقات قد يستمع إلى خطيب يستنكر بشدة قيام حكومة أجنبية بعمل فشلت حكومته هو في أدائه ليجد في هذا الاستنكار تسلية أكثر مما يجد فيه إحقاقا للحق، وقد يتبين له بغتة أن ما صرح ببطلانه أو بمنافاته للأخلاق أحد الأساقفة أو القضاة لا يقوم على أساس؛ فيجد هذا الهمجي ذات يوم - من أثر المباغتة السارة - أنه يسخر مع بوكاشيو من الرهبان.
ويبدو لي أن الرأي القائل بأن الطبقة المتفرغة وحدها هي التي تتولد عنها فئة ممتازة متفوقة في المدنية وناشرة لها، يبدو لي أن هذا الرأي تؤيده الحجج الدامغة ويتمخض عنه التاريخ؛ ففي أثينا وفلورنسة وفرنسا في القرن الثامن عشر كانت هناك طبقة دنيا مأجورة تقوم بالعمل الوضيع، والظاهر أن محبي الإنسانية ينسون أن الثقافة الأثينية كان يعولها العبيد؛ بيد أن من يريد أن يكشف الظروف الضرورية لقيام المدنية يجب ألا ينسى، ويجب أن يذكر أن ثلثي - إن لم يكن ثلاثة أرباع - السكان في إتكا كانوا عبيدا، ويجب ألا ينسى أن القبيادس كان استثناء. كانت في أثينا قلة من الأغنياء، وليس هناك تنافر بين المدنية والاشتراكية: إن الدولة الاشتراكية إن أرادت أن تتمدن لا بد لها من أن تعول طبقة عاطلة عن العمل كوسيلة من وسائل الخير، كما لا بد لها أن تعول المدارس والمعامل، والسؤال الوحيد هو كيف ننتقي هذه الطبقة. إنها في الوقت الحاضر تختار بالوراثة، وهو نظام فيه إسراف شديد. ليس هناك ما يدعونا إلى الفرض بأن أبناء الأغنياء أفذاذ في الذكاء والحساسية، والواقع أن نسبة الطبقة المتفرغة الحالية التي يمكن وصفها «بالتفوق في المدنية» ضئيلة إلى حد بعيد. إن إنجلترا الحديثة تعول جمهورا من العاطلين ليس من بينهم عدد من الرجال والنساء المتفوقين في المدنية يمكن أن تتألف منه نواة تمدين. ومن الواضح أن مثل هذا النظام غير اقتصادي، ونستطيع أن نفترض - دون أن يكون تفاؤلنا في غير موضعه - أن المستقبل يمكنه أن يبتكر طريقة من الطرق تستبعد من الطبقة المتفرغة على الأقل ثلثي أولئك الذين تحمل أسماؤهم أسمى الألقاب والذين تتحلى بصورهم المجلات الأسبوعية، وأعتقد أنا نستطيع أن نخفض تكاليف الإنفاق على نواة العاطلين إلى حد كبير دون أن نضحي بما هو أثمن من آسكت وكاوز، وليس من شأني هنا أن أرسم الوسيلة لذلك؛ فالمشروعات في ذهن كل فرد، ونستطيع أن نقول كلمة عن امتحانات المسابقة، نستطيع أن ننقل إلى الطبقة المتفرغة التي تنفق عليها الدولة أوائل الطلبة والطالبات في مدارس الدولة كل عام، وإن كنت مثل تعتقد أن من المهم أن يبدأ إعداد أبناء الطبقة الممتازة منذ ميلادهم، فليكن الاختيار بالاقتراع. إنك لو اخترت الطفل الذي يكون ترتيبه الألفين بين أقرانه وجعلته عضوا، فإنك سوف تحقق بالتأكيد نتيجة تفضل ما تحققه من النظام الحاضر ، وأذكر كذلك أنه ليس من الضروري أن يكون العاطلون عن العمل جميعا الذين يقع عليهم اختيارك من الطبقة الرفيعة؛ غير أنه من الضروري أن تكون النسبة المختارة كافية؛ فإن أية طريقة تسلكها لا بد أن تؤدي بك إلى أفراد يثبت فيهم سوء الاختيار؛ بيد أن ذلك ليس بأمر ذي بال؛ فالعدد مهما انخفض لا يؤثر في الهدف الأساسي، وهو أن تكون هناك طبقة من الرجال والنساء الذين لا يطلب منهم شيء ما - حتى أن يبرروا وجودهم؛ ذلك لأن كثيرا من أصحاب الفضل على الإنسانية، وأكثر كبار الفنانين والمفكرين، وأكثر المبشرين بالمدنية ممن لا تذكر أسماؤهم من غير شك، أكثر هؤلاء لم يبرروا وجودهم في أعين أغلب معاصريهم. إن عصرهم لم يستطع - على وجه العموم - أن يقدر خدماتهم، ولم يمكنهم من البقاء سوى وجود طبقة متفرغة كانوا ينتمون إليها أو وجدوا من بين أفرادها من يرعاهم، ومن ثم كان وجود طبقة متفرغة مستقلة تمام الاستقلال ليس عليها أي التزام، الشرط الأول، لا للمدنية فحسب، ولكن لأي مجتمع له نوع من الكرامة. إن أعلى الأمور قيمة وأشدها مشقة لا يؤدي بالإرغام، بل ولا يؤدي بدافع من الإحساس بالواجب، ولكنك إن خلقت طبقة لا تتطلب منها شيئا، فكن على يقين أنه سيخرج من بينها أولئك الذين يقدمون لنا الكثير.
وأرجو ألا تحسب تلك الفئة التي تتقاضى أجورا مرتفعة من هذه الطبقة المتفرغة، فإن أولئك الذين يكسبون الألوف العديدة من الأموال كل عام عن طريق تجارتهم أو مهنتهم أو خدماتهم، لا يفضلون في شيء العبيد الذين تغدق عليهم الأجور، وهنالك بطبيعة الحال لهذه القاعدة استثناء، ولكن هؤلاء الذين يشذون عن القاعدة يصبحون - عادة - بطبيعة حياتهم عاجزين عن بلوغ كمال المدنية شأنهم في ذلك شأن العامل اليدوي الذي يعجز كذلك بطبيعة عمله، والواقع أنه إذا ما أمسى من أولئك الذين يطلق عليهم «قادة الصناعة» أو «كبار مستخدمي العمال» فإنه كسيد يكون أقل مكانة من الرجل العادي. لأن مستخدم العمال والصانع الكبير، بل والصانع الصغير، يميل - في هذا الشأن - إلى اكتساب شهوة الحكم، والاعتقاد في النجاح كمعيار للقيم، وإحساس بأهمية ما يقوم به من عمل، مما يباعد بصفة خاصة بينه وبين التفكير الواضح والشعور الدقيق، ومن ظريف التعليقات على التفكير السياسي الحديث أننا نميز في فرض الضريبة بين الدخل المكتسب والمال غير المكتسب، ونؤثر الأول في المعاملة. إن الرجل الذي يكتسب ماله يستعمله عادة وسيلة للاستزادة منه، ووسيلة للنفوذ، والاعتبار، والتظاهر، والملذات الحيوانية والمتع البربرية. يجب أن تبحث عن تلك الطبقة المتفرغة التي تستخدم المال وسيلة للخير بين أولئك الذين يتناولون دخلا غير مكتسب. إن الرجل الذي يكسب المال يميل إلى الجمود، وقسوة القلب، وضيق الأفق، وانقباض النفس. إنه يتمسك بما يحصل عليه في عنوة وشراسة، ولا يكف عن محاولة الاستزادة. إن أكثر نظريات الحرية والاشتراكية والثورة صدرت عن الرجال المتفرغين، بل عنهم كذلك صدر ذلك التشكك في حق الفرد في الملكية أو النفوذ الذي يكاد اليوم أن يكون صفة من صفات الثقافة. وقلما يكون للدخل المكتسب أي نفع كبير لغير صاحبه - وهو كذلك كرأس مال مجرد في يد الدولة. في حين أن جانبا كبيرا من الدخل غير المكتسب كان دائما يخصص لعول أولئك الذين يقدمون للبشرية أكبر الفوائد من عملهم الذي لا يعود عليهم بالربح الوافر؛ فإذا كان المبدأ الأساسي في فرض الضرائب هو امتصاص دخل الطبقة المتفرغة لمصلحة كاسبي الأجور - صغارا كانوا أو كبارا - فإنما يدل ذلك على أن العصر ناقص المدنية.
يشير رينان في مقال شهير له - بما يدلي من أسباب مقنعة كعادته - إلى أن الوظيفة الحقيقية للطبقة المتفرغة هي أن تبتعد عن مجرى الأمور وتكرس نفسها للاحتفاظ بالمعايير السليمة وذلك بتضحيتهم بالنافع في سبيل الحسن، وبمحافظتهم على كرامة ما في الحياة من أمور رقيقة عسيرة المنال. الطبقة المتفرغة التي تشب على عادة الاستقلال، هي في رأيه شرط ملازم للمدنية، وإني بطبيعة الحال إلى هذا الحد أتفق معه؛ غير أنه في رأيي لا يقف على أرض صلبة حينما يخلص من ذلك - تلميحا لا تصريحا - إلى أن الطبقة المتفرغة - إن كان لا بد من بقائها - يجب أن تحكم، ولست أرى لذلك ضرورة، بل على العكس من ذلك يبدو لي من العسير إن لم يكن من المستحيل لأي إنسان يشغله السلطان مباشرة وبدرجة قصوى أن يكون كامل المدنية. أليس من تناقض العبارة أن نقول: «الطبقة الحاكمة المتفرغة»؟ إني أرجح إن ما كان بذهن رينان أرستقراطية تنقسم قسمين: طبقة متفرغة وطبقة حاكمة، تنشآن على تقاليد واحدة، وتختلطان في كل موقف من المواقف، وليس من شك في أن هذه الطبقة تؤدي إلى المدنية، فهي تمهد السبيل لقيام طبقة متفرغة وأخرى حاكمة تعطف عليها. وقد كانت فرنسا تقوم على هذا النظام خلال المائة وثلاثين عاما من مدنيتها العالية - بالرغم من أن لويس الرابع عشر قد استمد أكثر رجال إدارته من طبقة لم تكن نبيلة اصطلاحا. ويمكننا بسهولة أن نقسم الأرستقراطية إلى طبقة عاملة وطبقة مفكرة. والطبقة الأخيرة هي التي تمدنا بالمدنية، وأما الأولى فتمدنا بالحكومة. بيد أنه مما يفتقر إلى إثبات أن يكون الأرستقراط العاملون خير الحكام - ولست أقطع في هذا برأي يؤيد أن يعارض، ومن الواضح أنه يجدر بالفئة التي تنشر المدنية ألا تكون لها كلمة في الحكم ما دامت السلطة - كما رأينا - يحتمل أن تعبث بقدرات المرء الدقيقة. وهناك من ناحية أخرى خطر ارتآه رينان من أنه ما لم يكن للحكام تقاليد ومعتقدات وتعاطف ومصالح مادية يشتركون فيها مع ناشري المدنية، فإن الإنسان بحقده وغبائه - وفي ثورته على هذا الاعتراف العام المكلف بالتفرقة بين الناس - يرفض أن يقيم أود الطبقة المتفرغة، فيسمح للمجتمع أن ينزلق إلى الهمجية التي يتساوى فيها الجمع وبحكم فيها الجميع، ومن ثم ينشأ هذا السؤال: أي أنواع الحكم أكثر ملاءمة للمدنية؟ وهو سؤال تكاد أن تستحيل إجابته.
إن أي نظام للحكم قد يكون ملائما بشرط أن يمد عددا كافيا من الأطفال بالتعليم الحر الكامل من جميع الوجوه، وبشرط الإنفاق على هؤلاء الأطفال طوال حياتهم، وأن تضمن لهم دخلا يكفي حاجاتهم الثقافية، وبشرط - قبل كل شيء آخر - ألا تطلب إليهم أداء أي عمل. إن القول بأن ما نسميه: «النظم الحرة» ضروري للمدنية، قول يناقضه العقل والتاريخ؛ فإننا نعلم أن مدنية النهضة قد أينعت وأثمرت في عصر الطغاة - ولست في حاجة إلى أن أذكر في هذا الصدد شيئا عن الشرق - عن الصين والفرس - فقد اتفقت معكم على ألا أذكر عنهما شيئا؛ لأن «العجز السياسي» - كما يلاحظ بركهارت بحكمة في كتاباته عن الطغاة الطليان - «لا يعوق الميول المختلفة ومظاهر الحياة الخاصة عن الانتعاش بأقصى درجة من القوة والتنوع»،
4
ولكن حتى بعد أن تقرر الحكومة، أيا كان نوعها، أن تقيم أود طبقة متفرغة، فإنه لا بد لها من تقدير التكاليف وتوزيعها. يستحيل علينا أن نقدر بكم تماما يستطيع المرء - رجلا كان أو امرأة - أن يحافظ على مدنيته؛ لأن التقدير يختلف باختلاف الظروف. لا أعتقد أن الشخص في الظروف الراهنة يستطيع أن يفعل ذلك بأقل من سبعمائة أو ثمانمائة في العام الواحد، والدولة - بطبيعة الحال - هي المسئولة عن الأطفال، وكذلك يستحيل علينا أن نقدر أية نسبة من السكان يجب أن تبلغ ذروة المدنية كي تمدن بقية السكان إلى درجة معتدلة. كل ما يعرفه المرء أن النسبة في إنجلترا غير كافية، ويبدو أن الأمر يحتاج إلى إيضاح؛ إن مقدار الدخل غير المكتسب في البلاد جسيم، وعدد المنتفعين به عديد، وقد يرجع أحد الأسباب إلى أن عددا ضخما من أولئك الذين يتناولون دخلا غير مكتسب - ويجب بناء على ذلك أن ينتموا إلى الطبقة المتفرغة الناشرة للمدنية - يؤثرون أن يضاعفوا دخلهم بالإنتاج؛ ومن ثم فإنهم يصبحون - على أحسن الفروض - نصف متمدنين، وسبب آخر هو أن مقدارا كبيرا من الدخل غير المكتسب يحشر في جيوب قليلة. هناك إذن إجراءان عمليان واضحان لا بد منهما للنهوض بالثقافة البريطانية ، قانون يرغم الأغنياء على التعطل عن العمل، وقانون يلغي تلك الظاهرة الشاذة البربرية، وهي زيادة دخل الفرد عن ثلاثة آلاف جنيه في العام.
وقد تكون هذه نصيحة سياسية طيبة، غير أني أخشى ألا تقربنا كثيرا إلى الإجابة عن سؤالنا هذا: أي نوع من أنواع الحكومة يكون أكثر ملاءمة للمدنية؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال ونحن واثقون ينبغي أن نوجه أولا سؤالا آخر، سؤالا سيكولوجيا: لما كانت الطبيعة البشرية على ما نعلم من حقد وارتياب، فهل يعقل أن يعول الناس بمحض إرادتهم وبعيون متفتحة - من أجل الخير الروحي، ولكن بما يبهظهم ماديا - هل يعولون جماعة من الناس المتفوقين في المدنية يكون لها امتياز خاص، ولكنها في ظاهر الأمر عاطلة عن العمل سعيدة؟ لا يستطيع إلا رجال السياسة وضباط البوليس أن يذكر على وجه التأكيد ما تستطيعه وما لا تستطيعه الطبيعة البشرية، ولهؤلاء أترك هذا الواجب راضيا، ولكني أعرف أمرا واحدا؛ ذلك أنه ما لم يكن الناس قادرين على بذل هذا السخاء المستنير، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تتفق والمدنية.
لم تكن هناك قط ديمقراطية متمدنة، ولكن من الحق كذلك أنه حتى القرن العشرين لم تقم في العالم ديمقراطية، أما فيما نسميه ديمقراطية في اليونان وإيطاليا فلم تكن سوى طبقة صغيرة ممتازة هي التي تمارس السلطة. وبرغم ذلك ولأنه كانت هناك خلال القرن التاسع عشر حركة مطردة نحو الديمقراطية - ولو أن جميع السكان البالغين في أي بلد من البلاد لم يظفروا حتى القرن العشرين من النفوذ السياسي بالقدر الذي يهيئ السبيل له نظام التصويت - برغم ما ذكرت ومن أجل ذلك، فإني لو كتبت هذه المقالة عقب تخطيطها مباشرة - منذ عشرين عاما - لقلت: إن مناقشة مستقبل المدنية في ظل أي لون من ألوان الحكم غير الديمقراطية عمل علمي بحت ربما لا يعود بأي نفع؛ غير أن الحرب قد غيرت كل ذلك. إن الحرب - وما استتبعته من كوارث - قد أثبتت لأبناء هذا الجيل تلك الحقيقة المرة، وهي أن الاستبداد الحربي صورة من صور الحكم لا زالت ممكنة، بل إنها لمحتملة خلال الخمسين سنة المقبلة. ذكرتنا الحرب أن المصدر الحقيقي للسلطان لم يزل كما كان في الماضي لا إرادة الشعب، ولكن هيئة من الناس كاملة التسليح والنظام يمكن أن يوكل إليها تنفيذ أوامر الضباط دون تساؤل. وفي الفترات التي تتوفر فيها الراحة - كما حدث في أخريات القرن التاسع عشر - يميل المرء إلى التغاضي عن هذه الحقيقة؛ لأنه قلما ينشأ في أمثال هذه الفترات موقف يعقد الناس فيه العزم على أن ينفذوا إرادتهم بأكملها بأي ثمن؛ فإن بين ما يحتاج زيد من الناس وما يؤثر عمرو في فترات الهدوء مجال لضروب لا تنتهي من التسوية والتوفيق، ولكن جمال الحرب العظمى - كما عرضه ساسة الحلفاء - ينحصر في أن التوفيق أمر لا يجوز التفكير فيه؛ ومن ثم فإني أعتقد أن ساسة الحلفاء يجب أن يكونوا أقل دهشة مما يبدو عليهم حينما يجدون أن عددا كبيرا من الناس قد أدرك أخيرا أنك إن أردت أن تفرض إرادتك بأكملها على غيرك من الناس، فإن الطريق إلى ذلك هو أن تحمل الآخرين على أن يدركوا أن الأمر إما أن يكون طاعة عمياء أو عذابا وموتا. الحرب أقرت في نفس كل امرئ ما عرفه الفلاسفة السياسيون في جميع العصور السالفة، وهو أن أقوى حجة هي الخوف والقوة. أولئك الذين يستولون على أعظم قسط من القوة ويستطيعون بث الرعب الشامل في نفوس الآخرين يمكنهم دائما - إن أرادوا - أن يحكموا.
وقد رأينا الألوف من الرجال - طبقا لقانون الخدمة العسكرية - ينزعون من بيوتهم ومن أعمالهم وملاهيهم، ويدفعون إلى حياة يمقتونها يعقبها بعد وقت قصير موت يخشونه، وقد التحقوا بالجيش للأسباب عينها التي يدخل من أجلها الغنم المذابح، وأطاعوا لأنهم كانوا يخشون العصيان، وكان الأمر كذلك في كل البلدان المحاربة التي كان التجنيد فيها إجباريا، ولم أقابل قط رجلا أرغم على الالتحاق بالجيش خلال العامين الأخيرين من الحرب لم يقر بأن الدافع الوحيد له إلى القتال هو خوفه من الامتناع عنه، وعلى أية حال، فما إن حل عام 1917م حتى فقدت القضايا التي كان يحارب من أجلها الجندي العادي كل معنى لها، فإن صدر إليه الأمر أن يتقدم إلى نيران الأتون المقدس الذي كانت تضحي عنده الأطفال (نيران ملوك
Moloch ) بدلا من أن يتقدم ضد عدوه، كان الأمر لديه سواء، ولو أن هؤلاء الضحايا المروعون نودوا في تلك السنين من بين صفوفهم لخدمة الإله - وقد نودوا فعلا لذلك - لأدوا ما عهد إليهم من واجبات، وإذن فالحكومة المركزية - التي تعتمد صراحة على الصحافة الموجهة، وعلى المحاكم العسكرية، وذلك الفزع الذي تبعثه في النفوس المحاكمات وأحكام الإعدام - الحكومة المركزية التي تملك النفوذ الذي يحمل الرجال على أداء ذلك، تحمل أيضا النفوذ الذي يحملهم على أداء أي شيء - وقد وجد في روسيا وفي إيطاليا وفي غيرهما من البلدان عدد من الحكام ذوي البصائر النافذة الذين أدركوا هذه الحقيقة.
إن أصدق أصدقاء البلشفية لا يزعمون أنها تقوم على أساس من الرأي العام والعطف، كما أن شعبية الفاشية أمر يبعث على الشك، ومع ذلك فالحكومة الروسية والحكومة الإيطالية تستطيع أن تمنع الإضراب وترغم العمال العصاة على الإنتاج، وهو ما لا تستطيعه أية حكومة ديمقراطية. إنها تستطيع ذلك لأن لينين وموسوليني يملكان الجرأة على تنظيم الحرس البريتوري واستخدامهم دوما استخداما معقولا. وإن النجاح الذي على أساسه أقامت قلة من الرجال القادرين من ذوي العزم والتصميم السلطان المطلق في روسيا وفي إيطاليا - وما يزالون يمارسون هذا السلطان - هذا النجاح لا بد أن يثير الحقد ويجتذب خيال الحكام في البلدان الأخرى ممن لم يصيبوا مثل هذا الحظ، ومن الممكن أن يحتذى في العالم أجمع مثالهم بأية طريقة من الطرق، ولست أعرف أن المدنية تفقد شيئا من قيمتها في نهاية الأمر من جراء هذا التبديل؛ فإن الثورة في أول مراحلها قد تكون هدامة؛ لأن الطبقة الصغيرة المتفرغة التي تنشر المدنية هي عادة أول من يهلك، ومن الطبيعي أن من يبقى من المجاهدين يحس إحساسا قويا بهاتين الحقيقتين: أولاهما أنهم متمدنون، وثانيتهما أن الدمار قد لحق بهم ، فنراهم لهذا يشكون مر الشكوى من وحشية النظام الجديد، ومهما يكن ما تنتهي إليه التجربة فيما بعد، فإن نتائجها المباشرة سيئة بالنسبة إليهم. وهؤلاء المنبوذون المحطمون المجردون من تراثهم لا يمكن أن نتوقع منهم أن ينظروا إلى الموضوع نظرة فلسفية، أما نحن الذين لم يمسسنا سوء تقريبا فليس بوسعنا - إن كنا حقا على شيء من المدنية - أن ننظر إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى. وعند النظر إلى الموضوع نظرة فلسفية لا نملك إلا أن نعترف بأنه ليس هناك مبرر قوي يحملنا على الاعتقاد بأن الاستبداد العسكري الروسي سيسير في اتجاهات تختلف كثيرا عن الاتجاهات التي سارت فيها حكومات أخرى عسكرية مستبدة، ويبدو أن إعادة تنظيم الطغمة الحاكمة هو النتيجة المحتمة للثورة في نهاية الأمر؛ فإن رأس الدولة - سواء كان أغسطس أو لينين أو موسوليني أو نابليون - لا بد له لكي يحكم ويدير أن يجمع حوله جماعة من الزعماء المدنيين والعسكريين، ولهؤلاء نفوذ ورغبات، وما يرغبون فيه هو بعينه ما كان يستمتع به المنبوذون والمحكوم عليهم بالإعدام، ولما كان لديهم من النفوذ ما يمكنهم من إشباع رغباتهم، فلا مفر من أن يشبعوها، وتنشأ طبقة جديدة من الملاك، تتفرع منهم الطبقة المتفرغة، ومن هؤلاء قد تنبثق مدنية جديدة.
ويحتمل جدا أن تتم العودة من الرحلة عن طريق أقصر. قل من الأمور ما تشتهيه الحكومة الناشئة أكثر من الجاه، وباستثناء السلطان الحربي ليس هناك ما يضفي عليها تلك الجاذبية الغامضة ما هو أنصع من الثقافة (ولنذكر عرضا أن تكاليف الإنفاق على الثقافة الرفيعة لا تقاس إلى ما ينفق على بضع حملات صغيرة)، ومن أجل هذا كان من أولى الأمور التي تشغل أذهان أكثر الطغاة الغاصبين رعاية الفنون والعلوم وتشجيع نمو الجماعة المثقفة. ومثل نابليون الأول ونابليون الثالث ماثل في جميع الأذهان، وأكثر الأذهان تعلق بها ذكرى عصر أغسطس وزعيمه الذي منحه هذا الاسم التاريخي. إن تلك المدنية التي حققتها روما، إنما حققتها تحت حكم الأباطرة الأوائل، ومن بين هؤلاء كان أكفأهم - كوسيلة من الوسائل - ذلك الحاكم العسكري المستبد النموذجي هادريان. ويظهر أن كبار الغزاة، كورش والإسكندر وشرلمان وتيمور وأكبر، كانوا جميعا يتعالون بإيمانهم بالثقافة، ولم يكن الأمر يقتضي إلا فترة يسيرة من النضوج حتى يحقق خلفاء جنكيز خان ما حققه الأمراء الرومان، أو أن يبلغوا ما بلغه مديشي في حكم الإمبراطورية الرومانية، ومن المؤكد أن العذوبة والضياء كثيرا ما شعت من بلاط الطغاة والغاصبين؛ لأن الحكام - وإن كانوا لا يستطيعون أن يخدموا الفنانين المبدعين خدمة مباشرة أكثر من توفير النظام والأمن لهم ثم يتركون حبلهم بعد ذلك على غاربه - بوسعهم أن يقدموا للمدنية خدمة كبرى؛ فهم يستطيعون أن ينعموا على طبقة تنشر المدنية ويدفعوا عنها، ومن أجل هذا أفكر في إرسال نسخ من هذا المقال للرؤساء الروس، وللسنيور موسوليني ولمستر ونستن تشرشل.
إني لا أحب الاستبداد، فليس فيه خير أو جمال؛ بيد أني أدهش لتفاهة أولئك القوم الجادين الذين يفترضون - دون أن يفكروا في الأمر لحظة - إنه لا يمكن أن يكون وسيلة للخير، وإذا كان الاستبداد وما يلازمه من استرقاق دائما وفي وقت من الأوقات وسيلة للخير الأعظم - أي إلى الذروة من حالات العقل الطيبة - فلست أعتقد إلا أن الأشرار من الرجال هم الذين ينفرون من استخدام الاستبداد والرق، والواقع أن ما يميل أولئك المحبون للإنسانية الذين لا يفكرون - إن ما يميلون إلى القول به هو أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون خيرا، ولا يمكن لمدنية أن تكون جديرة بهذا الاسم، ما لم تقم على أساس من الحرية والعدالة والديمقراطية ... إلى آخر ذلك. إنهم يجعلون هذه الصفات غايات في حد ذاتها، فيضعون أنفسهم موضعا يثير الضحك؛ لأن الديمقراطية والعدالة وما إليهما ليست لها قيمة إلا كوسائل. إن العالم الذي تسوده الحرية الشاملة أو العدالة الكاملة ولا يتصف بشيء غير ذلك يكون في تفاهة العالم الذي يتلون كله باللون القرنفلي أو اللون الأزرق، ولكي نحكم على مدنية من المدنيات بالتجرد من المزايا لا يكفي أن نبين أنها تقوم على الرق أو الظلم ، بل ينبغي أن نبين أن الحرية والعدالة لا بد أن يتمخضا عن شيء أفضل من هذا.
إذا تساوت جميع الظروف فإني أفضل مدنية تقوم على الحرية والعدالة، من ناحية لأنه يبدو لي أن وجود الرقيق قد يكون هادما لتلك الطبقة الممتازة نفسها التي تنبثق منها المدنية، ومن ناحية أخرى؛ لأن العبيد إذا انحطوا إلى درجة كبرى يصبحون عاجزين عن تقبل أدنى لون من الألوان التي تحاول الطبقة الممتازة أن تضفيه عليهم. إن الرجل الحساس الذكي لا يسعه إلا أن يدرك الظروف الاجتماعية التي يتعين عليه أن يعيش فيها، فإن أدرك أن المجتمع يتوقف في وجوده على رقيق غير طائع فلا بد أن يعود عليه ذلك بإحدى نتيجتين: إما إحساس بالقلق، أو برودة تامة، وإنه ليبدو لي أن الفتور العقلي الذي يؤدي إما إلى الانصراف عن جانب من جوانب الحياة الهامة أو إلى جمود العقل، لا بد أن ينتهي بانخفاض قيمة الإنسان المتمدن كغاية وإضعاف كفاءته كوسيلة، وأنا أعلم أن أحسن الآراء الدينية لا تتفق معي في هذا، فإن قداسة لا تكمل دون تلك النشوة التي تصدر عن التأمل في آلام الآثمين، وكان القديس أغسطين يؤمن بأن من الشر المطلق عند النخبة المختارة أن تشفق على من يلحق بهم غضب الله، ولكن معدتي أضعف من معدة الأسقف: وإنه ليزعج فؤادي في الواقع أن أضطر إلى إلقاء اللوم على الطاهي؛ ومن ثم فإني أوثر ديمقراطية اجتماعية تسند وسائل المدنية من تلقاء نفسها على حكم الاستبداد الذي يكفل وجود طبقة متمدنة بتنظيم الرق، وعلى حكومة الأغنياء التي تخشى أن تعرض مصالحها للخطر فتلقي على زملائهم في المدنية درعا واقيا من رجال الشرطة لحمايتهم؛ بيد أن الديمقراطية المستنيرة التي أوثرها لم نسمع بها بعد.
إن كل المدنيات التي سمعنا بها فرضتها إما إرادة حاكم مستبد أو سندتها أوليجاركية حاكمة، وما نطلق عليه خطأ اسم «الديمقراطية الأثينية» كان أوليجاركية تعتمد على الرقيق في وسائلها للمدنية. ففي إتكا - ويبلغ سكانها زهاء نصف مليون - يقدر العلماء أن من كان له حق التصويت أو ممارسة السلطان على أي لون من الألوان لم يزيدوا عن اثنين وعشرين ألفا، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المواليد الأحرار من النساء والأطفال، كان عدد الأثينيين الأحرار زهاء مائة وخمسين ألفا. ومن بين الرقيق الذين كانوا هناك أقل شقاء منهم في أي مكان آخر عدد كبير من الصناع المهرة يؤجرهم أصحابهم، وكثيرون آخرون كانوا يخدمون في البيوت، ويبدو أن هؤلاء كان يحسن استخدامهم ويستمتعون ببعض فوائد الثقافة الأثينية كانوا يرودون المسارح، وإذا كانوا يقدرون هذه المزية فلا بد أنهم كانوا يفوقون أبناء العامة في مدارسنا الإلزامية ذوقا وذكاء وتربية. ولو لم تنشب حرب بلبونيز، بل لو أنها انتهت عند صلح نكياس، لكان من المحتمل أن يكتسب هؤلاء العبيد المتفوقون تدريجا حقوق المواطنين، ولكنا نستطيع أن نؤكد أنهم كانوا يبقون عبيدا، إذا قصدنا بالعبد ذلك الرجل الذي يحرم النفوذ السياسي ويرغم على العمل للآخرين، ودون هؤلاء الخدم المهرة المتعلمون نجد قطيعا من الحيوانات البشرية التي تحمل الأثقال، ويمكننا بالتأكيد أن نستبدل الآلات بهؤلاء في هذا القرن العشرين.
ومن ثم ترون الجهل الذي يطبق على أولئك الذين يزعمون أنهم سياسيون مثقفون، الذين يوردون أثينا مثالا للمدنية التي تقوم على الحرية والعدالة والديمقراطية. إن ما يستطيعون الإصرار عليه بصورة مجدية هو وجود المساواة الاجتماعية والسياسية التامة، والمساواة المالية التي تكاد أن تكون تامة، بين أفراد الطبقة المالكة المتمدنة - أو في الواقع بين المواطنين - ويخيل إلى الناظر لأول وهلة أن طبقة المواطنين هذه تشبه في الكثير تلك الديمقراطية الاجتماعية المتمدنة التي داعبت طويلا أحلام كثير من أفذاذ الرجال، في ظل هذا النظام تجد طبقة تعيش إلى حد كبير على كسب غيرهم، ويعيش جانب كبير منها أساسا - لا كلية - من أجل الأمور العقلية والملذات الدقيقة الرائعة. من بين هؤلاء يتيسر لنا أن نجد نواة ناشري المدنية، كهان وكاهنات الثقافة الكبار، تليهم مباشرة كتلة المواطنين المشربين تماما بروحهم إلى درجة لا تبعدهم كثيرا عنهم، وبقي أن توحد الثقافة بين الطبقة العليا من العبيد، وهذه الطبقة الدنيا من المواطنين.
وبالنسبة إلينا - نحن أبناء القرن العشرين، المحصنين بالمكتشفات العلمية والمخترعات التي تمت خلال القرنين السابقين - لا يحتاج الوصل بين هاتين الطبقتين إلى وثبة بعيدة الاحتمال؛ فما الذي يمنع إذن مجتمعا حديثا من التمدن؟ والجواب على ذلك لا يحتاج إلى تفكير. كانت أثينا ممكنة لأن الأثينيين كانوا يحبون أن يتمدنوا، ولم تشته «الحياة الطيبة» الطبقة المتفرغة فحسب، بل كان كذلك يشتهيها الصناع والعاملون. أما في إنجلترا فلا يزال لدينا الدخل غير المكتسب الذي يعول طبقة ضخمة من المتفرغين، وقد حقق المنتجون لأنفسهم - بتوجيه من المفكرين المتمدنين - قسطا كبيرا من الأمن والطمأنينة، ولكن الأكثرية من الطبقة التي كان ينبغي أن تكون النواة الصغيرة التي تنشر المدنية، هذه الأكثرية تؤثر أن تتبربر بالعمل المكسب الذي يهدم الروح وبالملذات التي تتصف بالخشونة، في حين أن الصناع والعمال يكرسون مالهم الذي اكتسبوه حديثا للإنفاق في سبيل محاكاة هؤلاء.
إن خير العقول تتجه نحو أثينا دائما تلتمس عندها قبسا من الأمل، ومن ثم يجدر بنا أن نذكر أن أثينا كانت أوليجاركية كبرى، وأن جميع المواطنين من الذكور البالغين كانوا متساوين سياسيا واجتماعيا، وأنه لم يكن بين المواطنين فقير مدقع، وقل من كان ثريا، وأن النساء لم يكن جميعا من الرقيق، وإن لم يكن لهن حق التصويت. إن مركز المرأة - في أثينا خاصة - وفي المدنية عامة لا يمكن إغفاله ونحن بصدد البحث في وسائل المدنية؛ لأن النساء - بطرق واضحة وأخرى خفية - من وسائل المدنية. حقا لقد كانت الزوجة الأثينية العادية تعامل إلى حد كبير كأنها رقيق له احترام كبير، وكان ذلك طبيعيا؛ لأن الزوجية رق، وفي هذا - كما في غيره من كثير من الأمور - كان الأثينيون يحاولون أن يروا الأشياء كما هي؛ كانوا يواجهون الحقائق ويشحذون الذهن لمعالجتها، فشيدوا بذلك مدنية تتقدم على كل ما سبقها وما لحقها. إننا نعترف عادة أن المرأة في الحياة المعاصرة في مركز لا يرضى. لقد ظفرن بحق التصويت، وبدأن يكتشفن قيمة هذه المنحة التي اكتسبنها بشق الأنفس؛ إلا أنهن ما زلن في موقف لا يحسدن عليه، وسوف يلزمنه حتى يتساوى عمل الأم والزوجة تماما مع عمل الميكانيكي والمحامي؛ لأن الزوجة عاملة، وكان يعترف للزوجة الأثينية بهذا الوضع. وكانت تعامل بالاحترام الذي يستحقه كل عامل مخلص كفء، ولكنها لم تنتم إلى الطبقة الممتازة المتمدنة التي تنشر المدنية؛ لأنها لم تستطع ذلك بطبيعة مصالحها وأعمالها، وكان الأثينيون يقررون لها أهميتها، ولكنهم كانوا كذلك يقدرون أهمية المرأة المتقدمة في المدنية - كانوا يقررون أهميتها كوسيلة من وسائل المدنية. كانوا يدركون أن المدنية إذا خلت من وجهة النظر النسوية ومن الاستجابة النسائية، وإذا خلت من الذوق النسوي، وبصر المرأة، وإلهامها، وفطنتها، ودقتها، وإخلاصها، وعنادها، وريبتها، إذا خلت من ذلك كانت مدنية ناقصة عرجاء، ولوجود هذا العنصر النسوي اعتمد الأثينيون على نظام الهتيرا (المحظيات). أو هكذا على الأقل أدرك الموضوع. هناك خرافة سائدة نشرها فيما أظن بعض أساتذة الجامعات أن الحياة في أثينا كانت تشبه الحياة في كلية أو في دير، لا تلعب فيها المرأة دورا، أو تلعب دورا تافها، وكل ما أستطيع أن أقوله لهؤلاء الأساتذة المسنين أنهم قرءوا الآداب القديمة قراءة جزئية، وأحب أن أوجه أنظارهم أولا إلى كتب «بكر» التي بدأت تختفي، ثم إلى الثقاة الذين ورد ذكرهم في هذه الكتب، ويقيني أن أكثر من كتب من المحدثين عن المجتمع القديم يظهر أنهم رجعوا إلى «بكر» واطلعوا فيه على قائمة بأسماء الثقاة، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، وأرجو أن يتابعوا بحوثهم؛ لأن هؤلاء الثقاة سوف يدلونهم على الأقل على الدور العظيم الذي لعبته طبقة خاصة من السيدات العصريات. •••
لو كنت حاكما مستبدا لتنازلت عن حكمي فورا، ولكني لو ورثت مع السلطان تذوفا لفعل الخير، لوجهت أطماعي نحو نشر المدنية، وكخطوة أولى في هذا السبيل أقيم طبقة متفرغة وأمنحها المزايا، على ألا يتناول أي عضو من أعضائها أكثر مما يكفيه، كما أني أجعل من المستحيل على كل فرد من أفراد هذه الطبقة - رجلا كان أو امرأة - أن يضاعف دخله بأية وسيلة من الوسائل، ويهمني بعد ذلك أن أنظم المجتمع بحيث يتوفر للطبقة الدنيا، طبقة العمال، قدر كاف من الفراغ وراحة العيش يمكنهم من الإفادة من وجود طبقة المتفرغين، ولا بد أن أوفر للطبقة الممتازة تربية كاملة وكل وسائل الثقافة المعروفة، وأن أوفر لبقية أفراد المجتمع من التعليم ومن فرص الاستمتاع بما يهيئه التعليم بقدر ما تسمح به خزانتي.
ولكي أهيئ الوسائل لفراغ مجموع الشعب وراحته أتطلع مستبشرا في اتجاهين: أتطلع إلى المخترعات، التي تمكن رجلا واحدا يشرف على آلة من الآلات من أن يؤدي ما يقوم به مائة من الرجال من خدمات، وأتطلع كذلك إلى الإقلال من السكان، وقد تقدمنا كثيرا في ناحية توفير العمل؛ إلا أن الثروة التي نجمت عن ذلك لم تخصص في أكثر الأحيان لتزجية الفراغ، وإنما خصصت - إلى حد كبير - لمضاعفة الثراء، ولإشعال الحرب، وصنع السلاح، وللمتع الدنيا (مثل دور الصور المتحركة، والجولف، والسيارات، وسباق الكلاب، وكرة القدم) وتربية الأطفال، وسوف يزداد عدد السكان؛ إذ إن العلم عندنا يعطيهم آلة يستطيع المرء أن يؤدي بها عمل مائة رجل، فإن المائة بأسرها، تستطيع - دون أن تهوي في مستوى العيش - أن توفر لنفسها وقتا أوسع. بيد أنهم بدلا من أن يفعلوا ذلك تراهم ينجبون تسعة وتسعين طفلا يستهلكون الفائض، ويبقون هم في مكانهم لا يتزحزحون، أي في حالة من الهمجية الشاقة. وقد سمعت بعض الخبراء يقول: إن ثروة العالم حتى في الوقت الحاضر يمكن - لو نظم الإنتاج تنظيما يقوم على العقل - أن ينتجها نصف السكان، ومعنى ذلك أننا لو نصفنا عدد السكان استطاع كل امرئ أن يضاعف أجره أو دخله مرتين - ولكن الخبراء يؤكدون كل افتراض، وفي دولتي ينفق نصف فائض الثروة الممكنة عن الحاجات المعقولة في الرفاهية المادية - اللهو والسلع - وينفق النصف الآخر في الفراغ، وعندما يقل عدد السكان إلى الحد الذي يوفق توفيقا طيبا بين الإنتاج والفراغ، يثبت عدد السكان على ما وصل إليه. أما الأمر كما هو الآن فمؤداه أن كل اختراع جديد يعني مجرد زيادة الإنتاج لكي يكفي زيادة السكان مع إضافة وسائل قليلة للراحة، وما دام ازدياد السكان يلاحق المخترعات الجديدة فلن يفيد منها أحد شيئا، وتبقى المدنية - على الأقل - كما كانت دائما بعيدة المنال.
5
وإني لأعطي لرعيتي حرية كاملة في التفكير والتعبير، كما أعطيهم حق إجراء ما يرون من تجارب في حياتهم الخاصة، ولكني لن أعطيهم حرية كاملة في العمل؛ لأن العمل لا علاقة له بالمدنية، فهي تتعلق بالحالات العقلية، وسيقع ذلك موقعا شديدا على أولئك البرابرة المنكودين الذين لا يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم إلا بالعمل على هؤلاء أن يقنعوا بإلقاء الخطب، والاشتراك في اللجان، ومحاولة إقناعنا - لا إرغامنا - بأداء ما يرغبون، وأستطيع أن أتخذ منهم رجال الشرطة، وفي دولتي أحبس اللصوص المطبوعين والسفاكين والفضوليين وأصحاب النزعة النابليونية والمتحمسين لتفسير القانون غير المكتوب. إن حرية العمل بغير قيد لا تتفق والمدنية؛ ففي العالم أناس يتدخلون في شئون غيرهم، متعصبين، شرهين، مستهترين، في قلوبهم قسوة الحيوان، لو أتيحت لهم الفرصة سلكوا مسلكا يجعل الحياة غير محتملة والمدنية مستحيلة، وفي دولتي لن تتاح الفرصة لهؤلاء، وربما تصور تولستوي عالما كل سكانه طيبون، فهو لا يحب أن يتدخل في شأن أي فرد سواه، عالم متطهر من الشراهة والبغضاء والحقد والأطماع، عالم لو وجد فيه من يتصف بهذه الصفات فلن يعمل قط بدافع من ميوله الشريرة. والأرجح أن تولستوي كان يعتقد أن العالم لا يخلو قط من المتوحشين الذين يتصفون بالعنف والفضول والشراهة والحقد، الذين يتبعون غرائزهم مهما بلغت سفالتها، ولكنه لم يحسب لوجودهم حسابا ما دام الآخرون يحتفظون بطهارتهم ناصعة من غير سوء. يزعم تولستوي أن طهارة النفس يمكن الاحتفاظ بها إذا استسلم المرء استسلاما سلبيا وعن طيب خاطر وبقاء طهارة النفس ممكن، بل ممكن أيضا أن تزيد أضعافا مضاعفة، ولكن المدنية لا بد أن تهلك، إن عبد الهمجي الذي يعذب ويساق سوق الأغنام يمكن أن يكون قديسا أو رواقيا، ولكنه لن يكون إنسانا متمدنا. إذ ينقصه الفراغ الذي لا بد منه ، والأمن، وفرص الحياة، ومن ثم كانت السيطرة على العمل، التي تعني قوة بوليسية قادرة - فيما يبدو لي - ضرورة في كل مكان إلا في مجتمع من الملائكة أو الحيوان - الحيوان الذي يهبط إلى درك لا أمل البتة في انتشاله منه، ولا يهمنا قط لذلك أن يسيء أحدهم إلى الآخر أو يتسلط عليه. •••
ولا مناص للمتقدمين في المدنية من أن يعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، ومهما يكن إملاء العقل، فإن حساسيتهم تجعل من المستحيل عليهم أن يكيلوا الضربات قاصدين أو أن يوقعوا العقوبات عامدين. إنهم لا يستطيعون البقاء ما لم يعتقد زملاؤهم المواطنون أو السلطة الحاكمة - أيا كانت - في ضرورة عونهم والدفاع عنهم. إذ إنه في اللحظة التي يشرعون فيها في الدفاع عن أنفسهم يفقدون كمالهم، ولم أنس أن كل أثيني كان عرضة لاستدعائه للخدمة العسكرية، وكان ذلك السبب الأول في عدم استقرار الثقافة الأثينية التي تدهورت تدريجا خلال الحرب، وربما هبطت في نهاية الأمر إلى المستوى الإسبرطي لولا أن موقعة إيجوسبو تامي كانت نعمة عظيمة، وإذا كان التنظيم من أجل الدفاع يعبث بمدنية الدولة فكيف يكون أثره الهدام على إنسان حساس كالفرد المتقدم في مدنيته. كان سقراط جنديا حسنا، بيد أن سقراط كان فيلسوفا إلى جانب أنه سقراط وحسب، وقد رمى هوارس درعه في قلبي. •••
أريد في دولتي قوة بوليسية لحماية المدنية لا لكي تفرضها فرضا على الناس؛ فالمدنية لا يمكن أن تفرض بالقوة، ولو كانت تنحصر في الإيمان ببعض الأفكار لاقتضى الأمر حشرها حشرا في حلوق العازفين عنها. أما وهي تنحصر في موقف معين من الحياة، وفي طرق التفكير والشعور، فيجب نشرها. إن من يريد أن ينشر المدنية بين زملائه يجب أن يسمح لهم بأن يكتشفوا بأنفسهم أن للحياة أسلوبا أفضل من أساليبهم: وهكذا كانت المدنيات العليا تنتشر دائما، وكثيرا ما حدث في التاريخ أن أمما همجية عرفت بالسلب والنهب بدأت زحفها وهي تؤمن بتفوقها من جميع الوجوه على الشعب المسالم الذي توشك أن تخضعه وتتمثله. كم مرة أعاد التاريخ نفسه؟ إن بلاد الإغريق التي استولى عليها غزاة الرومان غزت هؤلاء الأجلاف ونقلت إلى سهل لايتوم الريفي فنون الحضارة.
يرى زعماء الغزاة أولا أن الشعوب المغلوبة تملك أسرارا يجهلونها يقلبون بها ما يبدو لهم خبرة تافهة إلى متعة غزيرة. وسرعان ما يتأثر الملك الهمجي بنفوذ الثقافة الأعلى ويغري بها فيبدأ في الاعتماد في لهوه - ثم فيما بعد في مشورته - على النساء والرجال من العنصر «الأحط». ثم سرعان ما يحتل هؤلاء - بسبب تفوقهم في الإدراك والمعرفة - مكان الثقة والشرف والمنفعة، حتى يصبح الملك في النهاية نصف متمدن، ويتحول معه إلى المدنية الأذكياء من رفاقه القواد وكبار الإقطاعيين. وفي هذه اللحظة بالذات تبدأ الطبقة الأقل ذكاء في تذمرها، ويزداد تمردها، وتنظم معارضة رجعية. عندئذ يكون الملك - لحسن حظه - والزعماء والمرافقون له الذين تأثروا بمن يفضلونهم من الشعب المغلوب، يكون هؤلاء بدورهم قد علموا عددا كافيا من الحشد التابع لهم يقابلون به المدافعين القدامى عن الوحشية التقليدية، وهكذا تفعل الخميرة فعلها: لقد تمدن المغول الغزاة إلى درجة ما على يد الصينيين والفرس الذين غلبوهم، ولاقت جيوش العرب نفس هذا المصير في فارس والهند ومصر، وكذلك تمدن الفاتحون الميديون الأوائل فيما بين النهرين، ونستطيع أن نراقب في روما خلال القرن الأول النزاع بين سذاجة الرومان ومدنية الشرق المغلوب. فكاتو وتيبريوس لم يرتفعا إلى مستوى أوفيد وجوليلي، ومع ذلك فإنا نجد في القرن الثاني شيئا أشبه بالحضارة مما كان يتوقع المرء صدور بهذه السرعة عن الهمجية المظلمة التي خيمت على تلك الجمهورية المروعة، وقد بذل الزعماء حتى في تلك الشعوب التي دخلت الإمبراطورية واستوطنتها في النهاية بعض الجهد - ولكنه جهد متأخر ضعيف - لكي يفيدوا من الثقافة الأعلى التي عرف بها الرومان الإقليميون. بيد أنهم فشلوا، ويرجع السبب الأول في ذلك إلى أن رجال الأقاليم لم يكونوا متمدنين ولم يكن عددهم كافيا للقيام بهذه المهمة. ومن أجل هذا فلم يكتسب البرابرة سوى أهداب من الثقافة براقة يتزين بها بلاط شرلمان والملوك من بيت أوتو الذي يدعو إلى الرثاء، ولو أنهم تثقفوا ثقافة حقيقية لجنبوا أوروبا العصور المظلمة.
وقد تنشأ وسائل المدنية، وقد توجد الحكومة المحسنة التي تنفق على طبقة متفرغة مثقفة، وتكفل الأمر، وتبيح حرية التعبير في الفن والفكر والحياة، وتنهض بالتعليم وتحد من العمل، ولكن يبقى أمر واحد لا بد منه لكي تخرج المدنية إلى حيز الوجود، وذلك هو الإرادة - إرادة المدنية، وهي قد لا تعدو أن تكون الرغبة في المتعة بعد تهذيبها وسيرها في اتجاه ذهني، ومن الحماقة أن نفترض أن هذه الرغبة عميقة الجذور بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية، وليس أقل من ذلك حماقة أن نعتقد أنها لم توجد قط، وإذا كانت إرادة المدنية لم توجد قط، فكيف خرجت المدنية إلى الوجود؟ هل كان ذلك بالحظ؟ هل خرج الناس من فوضى الهمجية إلى نوع من أنواع النظام بالحظ؟ ولماذا يخرجون؟ إذا كانت هناك حالات قريبة من المدنية، وإذا كانت هناك مدنيات رفيعة، أليس من الحماقة أن ننسب ذلك كله وما يتطلبه من مجهود جبار أليم إلى المصادفة؟ ومن ناحية أخرى، لما كانت المدنية في بعض الأماكن لم تتقدم قط، وفي أماكن أخرى ارتفعت عن مستوى التأخر لتغوص فيه ثانية، وفي أماكن كثيرة نراها تقطع من الشوط بعضه ثم تعجز عن مواصلة المسير، وقلما كان الدافع قويا مستمرا إلى درجة يتمكن بها من رفع المجتمع إلى مقربة من المثل الأعلى المتواضع المعقول، إذا كان الأمر كذلك فمن الحماقة أيضا أن نفترض أن إرادة المدنية التي ذكرناها ظاهرة موحدة في كل مكان، ثابتة، أساسية في الطبيعة البشرية. هناك أسباب عدة تحول دون اعتقادنا في استمرار التقدم، وهناك كذلك أسباب عدة تحملنا على الاعتقاد بأن المستوى الحالي لما نسميه عامة بالمجتمعات المتمدنة ينخفض كثيرا عن الحد المطلوب، وليس هناك من الأسباب ما يدعونا إلى أن نفترض بأن المجتمع سوف يصل إلى هذا الحد أو يعلو عليه، أو أنه لن يبلغه. كل ما نؤكده هو أن الناس لرغبتهم الدائمة في الاستمتاع بالملذات، يوجهون رغبتهم هذه أحيانا توجيها ذهنيا، ويعتقدون أحيانا أخرى أن الملذات أندر وأبعد وأدق من تلك التي تسوق إليها الغرائز، وإنهم أحيانا يحققون هذه الملذات، ومن الجلي أن المدنية لم تكن هدف ذلك الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه ؛ بيد أنه تصور واشتهى متعة أدق وأبعد من متعة التهامه نيئا، وهكذا نرى أن الناس بتصورهم واشتهائهم قد يحققون المدنية في نهاية الأمر.
ليس من شك في أن إرادة المدنية قد وجدت، وأنها ربما لم تختف قط من الوجود، ولكنها اختلفت من مكان إلى مكان ومن وقت إلى آخر اختلافا شديدا من حيث قوتها وكفايتها، وهذه الإرادة - من الوجهة النظرية - يجب أن تسير جنبا إلى جنب مع إرادة الخير، التي يزعم بعض الفلاسفة أنها موجودة دائما وأنها وجدت في كل مكان، ومن سوء الحظ أنه من العسير أن نميز بين الغايات والوسائل حتى إن رجال الأخلاق العمليين يخطئون دائما فيحسبون وسائل الخير العتيقة غير المباشرة الخير ذاته، ومن ثم فإن إرادة الخير لا تعين إرادة المدنية دائما فحسب، بل إنها تعرقل سيرها أحيانا عرقلة إيجابية. إن إرادة الخير كثيرا ما توجه نشاطها إلى ما كان في وقت ما وسيلة بعيدة، وهي بذلك تقف عقبة في سبيل الوسائل المباشرة والقريبة. في لحظة معينة من تاريخ أي مجتمع قد يكون شكل الحكومة، أو الدين، أو الناموس الخلقي، وسيلة للخير وللمدنية، ولكنه بعد أن يؤدي غرضه بوقت طويل، وبعدما يصبح أداة تعطيل بوقت طويل، ترى كثيرا من دعاة الخير لا يزالون يكرسون حياتهم للإبقاء عليه، فقد كان الإصلاح البروتستنتي في شمالي أوروبا - من غير شك - وسيلة الخير بمقدار ما كان وسيلة لتطهير العالم من مجموعة من الخرافات. بيد أن هذه الوسيلة، التي بولغ فيها حتى أصبحت غاية من الغايات، وأمست في نهاية الأمر حركة بيوريتانية (تطهيرية) - تركز جهدها في بعض العقائد الدينية والخلقية - وربما وقفت في إنجلترا عقبة وحائلا في سبيل إرادة المدنية أكثر من أي شيء آخر. إن البيوريتان - برغم كل نواياهم الطيبة - أعداء الخير؛ لأنهم يجعلون الاستمتاع بالحالات العقلية الطيبة أشق على أنفسهم وعلى غيرهم مما ينبغي. إنهم يعلقون على ما كان في وقت من الأوقات وسيلة للخير أهمية لا تتعلق إلا بالغاية، ثم يصرون على هذه الوسائل العتيقة فيعوقون بذلك انتشار الوسائل التي تفضلها في تحقيق الأغراض؛ لأنها أكثر منها ملاءمة، ومن ثم فإن العفة التي ربما كانت من الفضائل في عصر الحيوانية القصوى حينما كان القوم يخرجون للرعي وللغزو والنهب مسلحين، وحينما كانوا لا يمتطون الدواب الاغتصاب النساء - هذه العفة لا يزال لها في القرن العشرين من يصرون على أنها وسيلة للخير تفضل مزايا عيادات الأطباء الشائعة التي تقوم بالتحكم في النسل، ولا يمكن الناس أن يأملوا في التفريق بين الغابات والوسائل أو بين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة إلا بعد أن يتكون لديهم إحساس بالقيم، بشرط أن يكون ذلك في جو من التجرد العقلي. إن الوسائل غير المباشرة تختلف من عصر إلى عصر ومن قطر إلى آخر، وقيمتها محدودة وموقوتة، وتطبيقها محلي، وإلى أن يدرك هذه الحقيقة المحبون للخير فلا بد أن ينصرف جانب كبير من نشاطهم الخلقي إلى الحث على وسائل تناقض ما يهدفون إليه من غايات، وتمسي إرادتهم للخير إرادة سيئة لتلك الوسيلة التي هي أدنى إليهم - وأعني بها المدنية.
ما أكثر ما في إنجلترا من نشاط خلقي أميل إلى وصفه بإرادة للخير منحرفة، ولكن هل هناك إرادة للمدنية؟ إن قدرا كافيا من الدخل غير المكتسب يعول عددا عديدا من العاطلين، بيد أن هذا الدخل يساء إنفاقه، والعاطلون جاهلون، ومن ثم فإن مجموعة المتمدنين في إنجلترا المعاصرة - وإن كنت لا أشك أن بها بضعة آلاف بلغوا من رقي المدنية ما بلغه أي عدد فيما مضى - هذه المجموعة أصغر من أن تكون تلك النواة الفعالة التي تحول الثقافة السلبية إلى قوة ممدنة، وهذه المجموعة - على قلتها - يتضاءل عددها تدريجا. إن روح العصر تقف في وجوههم، ويعترض سبيلهم الإيمان بالعمل، والرأي الذي ينادي بأن الناس إنما أتوا إلى هذا العالم لجمع المال، ولمباريات اللعب ، وارتياد دور السينما وحلبات السباق، وسوق العربات، وإنجاب الأطفال. ذلك هو مذهب المنتجين، ومن يؤمن به لا يفيد من العمل الذي لا ينتج اقتصاديا، أو من الملذات الدقيقة الشاقة. من يؤمن به لا يريد المدنية ، ولكنه يملك النفوذ والسلطان.
إن حكومة إنجلترا تقوم على أساس التوفيق الاعتباطي بين كبار أصحاب الأجور وصغارهم. هي حكومة الأغنياء يخفف من غلوائها نقابات العمال، وحكومة الأغنياء هي صاحبة الكلمة الفصل في السياسة في الوقت الحاضر، وهي التي ترسم طريق الحياة، ولا يعرف هذا الطريق تمام المعرفة إلا أولئك الذين يطالعون الصحف المصورة اليومية والأسبوعية، وهذه الطريق هي ما يريده الناس، وهي أيضا ما يسمونه المدنية، وهي التي حاربوا من أجلها لإرضاء الأغنياء، والتي قد يحاربون من أجلها لإرضاء أنفسهم؛ لأن التوفيق المنشود بين كبار الكاسبين وصغارهم أمر اعتباطي، ولا يفتأ الصغار يخالفون الوصية العاشرة؛ ومن ثم كان هذا الحديث الذي لا ينقطع عن الثورة. والأمر العجيب أن هناك دائما متفائلين ممن يحبون البشرية يتوقعون خيرا من مثل هذه الثورة. إنهم يلومونني جهرا؛ لأني لا أميل إلى التخلي عما أملك أملا في الحصول على ما يظنون أنه ربما كان وسيلة لما هو أحسن. إنهم يؤكدون لي «أن الناس لو تركوا وشأنهم لتحققت كل آمالك في المدنية في لحظة، وينبغي لك أن تعلم أن الناس دائما يحبون الخير والجمال - يحبون الأرقى حينما تقع عليه عيونهم؛ وهنا تقع الطريق التي تبحث عنها».
وإن كنت برغم هذا النداء لم أتخل عن الدرس لأنصرف إلى الحياة العادية، فإنما يرجع ذلك إلى أن العامل الراقي - الذي يترقبون تطوره عن العامل المعروف في إنجلترا من قديم - لا يبدي أية رغبة ملحة للإفادة من وسائل المدنية التي تقع تحت يديه، بل إنه ليبدو لي أن مطامعه تتجه وجهة أخرى، وبدلا من أن أكتشف بين العمال أية إرادة للمدنية، أجدني مساقا إلى الظن بأن العامل البريطاني يحب همجيته حبا جما، بل إنه ليريد المزيد منها. إنه لا يجد مغمزا في جنة المنتفعين حتى إنه ليود لو كانت له، وهو لا يتطلع إلى ثورة مجيدة لكي يعيد تشكيل الحياة فيقربها من المثل الأعلى، بل لكي يسلك مسلك الأثرياء، والواقع أن العمال المأجورين وأصحاب رءوس الأموال على اتفاق تام في كل أمر من الأمور إلا فيما يتعلق بتقسيم الغنائم. إن العامل في منجم الفحم الثائر لا يتطلع إلى حياة أفضل من حياة صاحب المنجم الرجعي. إنه يتطلع إلى شرب الروم واللبن قبل الفطور، وإلى فطور من أربعة أصناف، وإلى يوم يقضيه في الصيد والقنص، أو في لهو لا تسفك فيه دماء، وإلى الشمبانيا في العشاء، والسيجار الطويل بعد العشاء، وإلى مساء يقضيه في دار الصور المتحركة أو في قاعة الموسيقى، إلى أن يقرأ بين الحين والحين لمس كورلي وميخائيل آرلن، وفي صحيفة «مرور» و«جون بل» أو مجلة «ستراند». هو يعتقد في كل حين اعتقادا نظريا ثابتا في قداسة رباط الزوجية وفي بغض الأجانب والفنانين والمتحذلقين بغضا صادقا، وإن هذه الحياة لتلائم بل جونز كما تلائم لورد ميدنهد. إنها الحياة التي يعجب بها ويفهمها، ولذلك فهو - بطبيعة الحال - يحبها لنفسه. ومن أجل ذلك كان ثائرا، وإنك لتقدر مركزه، وإنك لتدرك تمام الإدراك أنه يود لو استطاع أن يتبادل مع اللورد مكانته، وإنك كذلك لا ترى مانعا من ذلك، بل إنك - أهم من ذلك كله - لا ترى سببا يدعوه إلى أن يتوقع العطف والإعجاب من رجل يقف موقف الحكم المحايد إزاء ما يود أن يسميه «بالنضال من أجل الحرية والعدالة». إن الشد والجذب بين جونز وسيده على ثمار الهمجية أمر يخصهما وحدهما دون سواهما، وليس هناك من الأهداف العامة في هذا النضال ما يتعرض للخطر فيثير أولئك الذين يقفون خارج حلبة النضال. إن من يهتم بالمدنية وما إليها لا يهمه البتة من يحصل على السيارات وحفلات الكوكتيل، وسواء عنده من ينتمي إلى نقابة العمال ومن ينتفع؛ كلاهما تافه، عامي، ساذج، عاطفي، شره، عديم الإحساس، وحيث إن كليهما يسعده أن يبقى كما هو، فلا ينتظر لأحدهما أن يتحسن. إن إرادة المدنية قد توجد بين الفدا في سيلان أو بين الميجي في ساحل الذهب، ولكن بادرة منها لا نظهر في سوق الأوراق المالية أو في مؤتمر نقابات العمال.
نامعلوم صفحہ