ولا ننكر أن الكتابة الإيطالية في القرن الخامس عشر - ولا يزال جانب كبير منها باللاتينية - كانت تعاني من تلك العيوب عينها التي أخذناها على الرومان. فبدلا من أن تكون وسيلة للتعبير أمست عملا ثقافيا، وأداء علميا، بينها وبين الأدب نفس العلاقة تقريبا التي بين قراءة الصلوات في الأسرة وبين الدين، ويقول العارفون: «القرن الثالث عشر يتكلم والرابع عشر يهذر»، ومن المؤكد أن من كتاب القرن الخامس عشر من قصد نفس المعنى من أمثالي بيداردو، وبوتشي، وساشتي، بل ولورنزو نفسه.
أما الفنون البصرية لعهد النهضة، فأظن أنها لا تحتاج إلى تبرير. غير أن الناس ينسون في سهولة جدية محاولة العصر أن يعطي العلوم أساسا في الواقع، وقد عاد الأوروبيون إلى دراسة الطبيعة والطب والتشريح، وعندما قارب العصر الانتهاء كادت العلوم أن تبلغ الحد الذي أوصلها الإغريق إليه. درس العلماء الطبيعة والهندسة إلى الحد الذي بلغه هذان العلمان، ثم تابعا تقدمهما، وقد فهمت كذلك أن علم الحيوان وعلم النبات أخذا مرة أخرى مأخذا جديا، وإذا وازنا بين النهضة والعصور الوسطى رجحت الأولى رجحانا كبيرا، ولكنك إذا امتلكت الشجاعة لكي تدرس محاولة الأفلاطونيين الميديشيين التوفيق بين مختلف المذاهب الفلسفية وجدت أنهم - برغم سخافاتهم - يخفون تحت الحجب الكثيفة من دخان الميتافيزيقا تشبثا صبيانيا بالحق يميزهم عن مجهودات الفلاسفة الرومانيين الذين يكتفون بتكرار المغالطات المألوفة بروح الرجل الذي يؤدي واجبا خلقيا يجد في أدائه مشقة كبرى وراحة للضمير. ولم يكن لوكريشس نفسه مبتكرا، غير أنه كان رجلا استثنائيا. ومن الحق إجمالا أن رجال النهضة ونساءها كانوا يهتمون اهتماما كبيرا بالأمور التي لها وجود حقيقي في عالم الفكر والشعور السامي الذي نسميه عالم الروح. في حين أن كل ما كان ذا أهمية في الفكر الروماني يكاد أن يكون جميعه متعلقا بالأمور العملية. وإذا استبعدنا الاستثناءات النادرة، فإن مغامرات العقل الروماني في الآفاق البعيدة كانت في إمتاعها تشبه ما يشعر به السائحون عند زيارتهم لمعارض الصور من نشوة روحية.
وقد يعترض معترض فيقول: إن عصر النهضة كان عصر خرافة، يؤمن بالتنجيم وبكلام لا معنى له من هذا القبيل، وفي هذا من الحق ما في القول بأن الروح العلمية كانت في ذلك الحين أشد يقظة مما كانت عليه في أوروبا منذ القرن الرابع قبل الميلاد، وقد وقف أصحاب العقول الممتازة - فوق هذا - موقف المقاومة. ففي القرن الرابع عشر وقف بترارك موقفا له أثره، وفي القرن الخامس عشر حمل بيكودلا ميراندولا الرأي العام على متابعته في هجومه المشهور على مروجي الأباطيل. أما الروائيون، وفي مقدمتهم الأمير فرانكو شاستي، فقد سخروا من العرافين والدجالين. يقول جيوفاني فلاني: «لا تستطيع مجموعة من النجوم أن تخضع حرية الإرادة عند الإنسان أو ما يقضي به الله». ويقول جوكسبارديني: «ما أسعد المنجمين الذين يصدقون إذا هم قالوا صدقا واحدا إزاء مائة أكذوبة، في حين أن غيرهم من الناس يفقدون كل تقدير إذا هم قالوا أكذوبة واحدة إزاء مائة خبر صادق». واضح إذن أن أثر النهضة بوجه عام كان إثارة «الشك»، والصعوبة هي تحديد مبلغ هذا «الشك» على وجه الدقة. وكانت محاكم التفتيش تسميه «إلحادا». وقد استبعدته بغير مبالاة بعد عام 1527م بمساعدة الإسبانيين السود. ولو أمكنني أن أصدر حكما عاما من الحوادث الفردية التي أعرف عنها شيئا ما (غير أنها حوادث جميعها فرنسية بطريق المصادفة) قلت: إن هناك ضربين من التشكك في عصر النهضة: مذهب فولتيري وهمي لا يتعارض وقدر من الخرافة الخفيفة التي يصلح بونافنتير دى برييه أن يكون مثالا له، ومذهب إلحادي جاف جامد، يخلو خلوا تاما من الاعتقاد في كل ما ليس بالأمر الطبيعي، وإن كان لا يخلو من الخرافة التي تحث على حب البشر. ويصلح أتين دولية - وهو من شهداء الحق، لو كان للحق شهداء - أن يكون نموذجا لهذا المذهب. وكان دولية - طبقا لما يقول كالفن - يعلن احتقاره للإنجيل وقد صرح بأن «حياة الروح لا تختلف في شيء عن حياة الكلب أو الخنزير». ولكن برغم الخرافة أو الرذائل الأخرى فإن حق النهضة الإيطالية في الحضارة الرفيعة ليس عليه - في الواقع - اعتراض جدي. ويستطيع مسيو دي جوبنو - الذي لم يفهم أحد الحياة العقلية لهذه النهضة مثله - أن يضع على لسان لوكريزيا بورجيا الحكم التالي: «ليس في هذه الدنيا ما هو أعظم من حب الفنون، ومن حب ما يتعلق بالروح، حب هؤلاء الذين نحبهم»، وكانت لوكريزيا في هذا تعبر عن عصرها.
والمثل الآخر الذي أستطيع أن أسوقه دون أن أخشى كثيرا أن يعترض على هو المدنية التي انتعشت في فرنسا خلال «القرن العظيم» والقرن الثامن عشر. إن الفترة التي تقع بين عام 1660م وعام 1789م عصر من التاريخ أقل مجدا من عصر بركليز ، ولكنه لا يكاد يقل عنه شهرة. ويجمع الرأي - ولهذا الإجماع دلالته - أن النصف الثاني من القرن السابع عشر وطلائع القرن الثامن عشر أعظم من بقية العصر، فإن النصف الثاني من القرن الثامن عشر (الذي ينتهي في عام 1789م) أرقى مدنية. وهنا نجد دليلا آخر أن المتعلمين يميزون بين عصر عظيم وعصر متمدن، أو يدركون - على الأقل - أن العظمة والمدنية ليسا مترادفين، وإن لم يكن بينها تعارض. وفوق هذا، فمن المحتمل أن تكون إنجلترا قد لعبت في العالم دورا عظيما كما لعبت فرنسا خلال النصف الأول من هذه الفترة - ما بين عودة الملكية ووفاة جورج الأول - ولكن برغم هذا، وبرغم أنه من المؤكد أن انتصاراتها العقلية وإنتاجها الأدبي كانت على الأقل في مستوى واحد مع ما كان يتحقق في أي مكان آخر، وبرغم أن ما حققته من الوجهة الحربية كان جليلا، فإن أحدا لا يحلم بحسبان إنجلترا في ذلك الحين قد بلغت من رقي المدنية ما بلغته جارتها. ويمكنني أن أذكر عرضا حقيقة لا تمس الموضوع، ولكنها لا تخلو من الطرافة، وهي أن إنجلترا لم تكن مثلما كانت فرنسا قوة استعمارية كبرى، خلال الجزء الأول من هذه الفترة، حينما كانت إنجلترا من ناحية الابتكار والتفكير أكثر من صنو لمنافستها فرنسا. إن فرنسا لم تتفوق فكريا إلا بعد صلح باريس في عام 1763م، بالرغم من أن إمبراطوريتها قد سقطت في أيدي الإنجليز الذين استولوا على الهند وأمريكا فكانتا لهم عوضا عن فقدان ملتن ودريدن وكنجريف ومارفل وبرير وبوب وسوفت ونيوتن وبوبل وبنتلي ولوك.
وهناك فترتان أو ثلاث عرفت بالمدنية الرفيعة، لم يذكر عنها المؤرخون الأوروبيون إلا قليلا لأنهم لا يعرفون شيئا عنها. فالظاهر أن الصينيين قد بلغوا مستوى رفيعا من التهذيب تحت حكم أسرة تانج (فيما بين عامي 600-900م تقريبا) بل وأكثر من ذلك تحت حكم سنج (960-1279م). غير أن علمنا بهذين العهدين ضعيف، يخلو من التفصيل خلوا شنيعا، فلا يحاول أن يستنبط منهما الخصائص المميزة للمدنية إلا صحافي نصف متعلم يزعم أنه مؤرخ فيجرؤ على ذلك. فلدينا الفن الصيني - التصوير والنحت وصناعة الخزف - وفي الحق أنه من الإنصاف أن نفرض أن الرجال الذين أبدعوا هذا الفن - بل وأكثر منهم الرجال والنساء الذين قدروه - بلغوا أقصى درجات المدنية؛ لأن الفن الصيني، وبخاصة في عهد سنج، لم يكن فنا رائعا فحسب، بل كان كذلك متمدنا - وهي تفرقة سوف تنال جانبا من اهتمامي بعد حين. ولدينا نصوص مترجمة من الشعر الصيني وشيء من النثر. بيد أني - من ناحيتي - لا أود أن أبني أحكاما على مترجمات؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يعرف مقدار ما أدخله المترجم الحديث من نفسه على النص القديم بطريق لا شعوري. والواقع أن تاريخ الصين الاجتماعي والسياسي قد أهمله العلماء الأوروبيون، ومن ثم فإنا لا نستطيع أن نؤمل في تكوين فكرة واضحة من نتف المعارف التي تلاقينا عن الأسلوب الذي كان يفكر به الرجل الصيني أو السيدة الصينية لعهد تانج أو سنج، أو كيف كان - أو كانت - يحس إزاء الأمور التي لها مساس أو اهتمام، وذلك لأن زواج أهل الصين ونظرتهم التي لا نألفها البتة تحيرنا وتضللنا، ومن الطفولة أن نزعم أنا نستطيع من قليل من الأواني الخزفية والصور والقصائد وقصص الرحالة والكتابات التاريخية (وهي أيضا مترجمة) أن نكون رأيا صحيحا عن أسلوب الحياة وعن العادات العقلية عند الرجل الصيني أو المرأة الصينية. أما عن حياة المواطنين في أثينا لعهد بركليز، وحياة أهل فلورنسة لعهد النهضة، وأهل باريس في القرن الثامن عشر، أما عن هؤلاء فمعرفتنا تمكننا - مع بذل الجهد في التصور - من أن نكون لأنفسنا صورة، بل إنا لنستطيع أن نكون فكرة عامة كيف كانت تكون حياتنا لو عشنا بين ظهرانيهم. نستطيع أن نتصور بيئتنا. وربما استطعنا أن نتصور كيف يتحدث أصدقاؤنا وكيف يسلكون، وكيف كنا نستجيب لما يفعلون وما يقولون. إن مثل هذا الخيال ليس بالمستحيل برغم مشقته، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن الرجل من أهل الغرب في العصر الحديث يكلف خياله ما لا يطيق لكي يتصور نفسه - في دقة وفي ثقة - وهو يحتسي الشاي ويتبادل الحديث مع جماعة من الموظفين الصينيين وزوجاتهم الشابات في نحو عام 1150م في مدينة هانجشاو المقدسة.
ومثل هذه الاعتبارات تحول بيني وبين البحث عن أمثلة في تاريخ الفرس، ومن الجائز بل ومن المحتمل أن يكون فيما نسميه على وجه التقريب بالفرس عصر أو عصران من المدنية الرفيعة. غير أن تكوين صورة محددة عن الحياة في أصفهان أو الري أو بغداد (وأود أن أذكر عرضا أنها ليست في بلاد فارس) أبعد من محيط معرفتي وفوق قوة خيالي. وقد لاحظت أيضا أن أولئك الذين يستخفون بهذا العمل ليست لديهم أحيانا فكرة دقيقة عن المكان الذي تقع فيه أو الزمان الذي عاشت خلاله بلاد فارس هذه التي يحلمون بها. إن الدولة العباسية كانت في أوج مجدها تمتد من بخارى إلى البحر الأبيض ومن القوقاز إلى أقصى حدود البلاد العربية. وهذه الدولة التي كانت تتركز في بغداد والتي حكمها هارون الرشيد حوالي عام 800م قامت بها مدنية لها شأنها. وهذا أمر واضح جدا عند المدرسة التي تؤمن بمجد الشرق، وربما لا يكون أقل وضوحا عند أولئك المدققين الذين يميزون بينها وبين مدنية أخرى تختلف عنها كل الاختلاف انتعشت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر وعملت على ازدهارها مدرسة الفردوسي وعمر الخيام. وماذا نعرف عن هذه أو تلك؟ هناك أدب غزير، ترجم بعض منه. بيد أني أعتقد أن الترجمات التي اطلعت عليها لا يمكن أن تطابق النص، ما دامت سمعة الشعر الفارسي عظيمة عند أولئك الذين يعرفون الفارسية. وقد وضع جونز - ذلك الرجل الذي يستحق الإعجاب - في القرن الثامن عشر أساسا يمكن أن يستند إليه التاريخ الفارسي، ولكني لا أعرف كاتبا حديثا كتب في تاريخ الفرس الوسيط ونجح في جعل الموضوع حقيقة واقعة حتى لنفسه. وأستطيع أن أقول: إن المرء يكون فكرة عن سير الأمور في القرنين العاشر والحادي عشر في بغداد أو أصفهان من كتاب «تاريخ المسلمين في إسبانيا» لمؤلفه مسيو دويزي أصح من الفكرة التي يخرج بها من أي كتاب حديث يزعم أنه يعالج شئون آسيا. هل كان هناك فن عظيم؟ أجل، ولكنه لسوء الحظ إنتاج عصور وثقافات مختلفة. هنالك الفن الساساني في القرنين الخامس والسادس، الذي استمر في منسوجاته الرائعة بعد الغزو العربي في القرن العاشر بزمن طويل. وهناك صور قليلة رائعة من القرن الثالث عشر - عصر جنكيز خان - يبدو فيها أثر سنج وساسان وكذلك كانت طلائع القرن الثامن عشر عصر الخزف خزف الري المعروف، وفي القرن الرابع عشر نجد فنون تيمور وحافظ وسلطان أباد. غير أن الفن الفارسي العادي الذي يعرفه حق المعرفة أكثر الناس هو الفن الصفوي في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ولهذا الفن ولبلاط شاه عباس في القرن السابع عشر يتجه أولا مؤلفونا الفنيون ومصورونا ومديرو المسارح لتصوير الحياة الفارسية. ويخلط هؤلاء بين فارس والخلافة، ويمزجون بين منسوجات ساسان في القرن السادس عشر وشعر سامان في القرن الحادي عشر، ويزجون بصناع الخزف من الري وحافظ في بلاط شاه عباس، ويخلطون بين الشاه والمغولي الكبير. ومن هذا الخليط يحصلون على مركب حلو مائع يسعدهم أن يطلقوا عليه المدنية الفارسة. ويودون لو استطاعوا أن يعودوا إلى ديارهم من الليفانت ببعض الملاءات التركية والسراويل يرتديها زوجاتهم في حفلات العشاء، كأنهن أميرات من فارس، ولكني لجهلي بالفارسية، ولعلمي بهذه الأشياء، يتعذر علي بل يستحيل أن أكون فكرة عن المدنية الفارسية، ومن ثم فإني خلال بحثي عن صفات المدنية المميزة لن أذكر شيئا عن شجر اللوز في سمرقند أو عن البلابل التي لا تفتأ تترنم فوقها.
وبناء على ما قدمنا، سنتخذ أثينا في القرنين الخامس والرابع، وإيطاليا لعهد النهضة، وفرنسا من الفروند حتى الثورة نماذج للكمال، فإن حقها في المدنية الرفيعة غير منازع، كما أنا نعرف عنها لحسن الحظ بعض الشيء، وما أهدف إليه أولا هو اكتشاف الصفات المشتركة بينها والتي لا تتصف بها القبائل التي عرفت بالهمجية والتوحش، وإن كنت لا أبوء في بحثي هذا بالفشل فذلك لأني مهدت لرأيي تمهيدا كافيا. وقد ذكرت عند مناقشة مميزات المتوحشين الأدنياء - ولم يعترض علي أحد فيما أحسب - أن الخطوة الأولى التي يتخذها الهمجي نحو المدنية - وكنت بطبيعة الحال أتحدث عن المميزات الخلقية - هي اكتساب الشعور بالذات وعادة التأمل، وليست هاتان المميزتان هما الصفتان المميزتان للمدنية الرفيعة بطبيعة الحال. فقد شاعتا شيوعا كبيرا. ومن الحق أن نقول: إن انعدام الشعور بالذات انعداما يكاد يكون تاما - ولا أقصد ذلك الشعور بالذات الحيواني الذي يبديه الكلب أحيانا حينما يدرك أنك تحملق فيه - بل وانعدام روح النقد الساذجة هو ما يميز أسفل البرابرة عن بقية الجنس البشري. وهو تمييز أنثروبولوجي عريض الخطوط يوازي ذلك التمييز الذي يقيمه علماء الحياة بين النبات والحيوان، ولا يعنينا إلا كنقطة ابتداء، ولكنا لو هذبنا هذه الصفات وجدنا أن الشعور بالذات - الذي يؤدي إلى فحص الحالات العقلية والموازنة بينها - ينتقل بنا إلى الإحساس بالقيم، في حين أن روح النقد إذا طبقت في كافة الميادين تؤدي إلى تحكيم العقل باعتباره الحكم النهائي في المسائل التي تمس الواقع. هاتان صفتان لا يتصف بهما المتوحشون، بل ولا تتصف بهما جميع المجتمعات المختلفة، وعند بحثي في نماذج كمال المدنية التي تخيرتها للعثور على صفات مشتركة خاصة أتوقع أن أجدها جميعا منبثقة من هذه الصفة أو تلك.
ومن رأيي أن «الإحساس بالقيم» و«تحكيم العقل» هما الصفتان الأساسيتان للمدنية الرفيعة، والبحث عن المميزات الذي أنا مقدم عليه سوف ينتهي بي إلى البحث عما تتمخض عنه هاتان الصفتان. ومن المحتمل جدا أن يكتشف أحد من الناس أني - رغم التزامي الطريق القويم فيما سرت إليه - لم أتابع المسير بعيدا، فهناك صفات أساسية أخرى تتولد عنها صفات ثانوية جديدة؛ بيد أن ذلك لا يدحض حتما ما بلغت من نتائج. إن المعترض يبرهن بذلك على أن مقالتي ناقصة، ولكنه لا يبرهن حتما على خطأ ما فيها، ولو أن أحدا من الناس - بعد دراسته لما قدمت من مميزات - يكتشف غيرها من مميزات تشترك فيها المدنيات الراقية وتختص بها، فمن الواضح أن يكون من واجبي ضمها إلى قائمتي، ولن يدفعني إلى تغيير موقفي إلا البرهان على أن بعض ما تشتمل عليه قائمتي من مميزات تشترك فيها الشعوب المتبربرة.
إن الإحساس بالقيم - كما أفهم هذا التعبير - لا يكون إلا عند أولئك الذين يستطيعون أن يضحوا بالخير الواضح العاجل في سبيل الخير الخفي الآجل، فالأفراد الذين ضحوا بالراحة قصدا في سبيل الجمال - دون أن تكون أمامهم غاية عملية أو خرافية - يبدو لي أن لديهم إحساسا بالقيم، وإيثار التربية الحرة على التربية الفنية العملية، إيثار التربية التي تعلمنا كيف نعيش على التربية التي تعلمنا كيف نكسب، هذا الإيثار ظاهرة أخرى من ظواهر هذا الحس المتمدن الرفيع، والعقل عندي تكون له السيادة إذا شاع الرأي بأن كل أمر يتطلب تفسيرا وتبريرا من العقل، ولا بد في النهاية أن يسمح بهذا التفسير وذلك التبرير. ولكن يجب ألا نفترض أني حينما أصف بالعقل مجتمعا من المجتمعات، أو حينما أقول إن لديه إحساسا بالقيم، أقصد أن كل الأفراد الذين يتألف منهم هذا المجتمع يعملون ويفكرون عادة على أساس من العقل، أو يحسون إحساسا دقيقا؛ فقد يسود العقل في مجتمع تؤمن فيه مئات الألوف بأشنع الخرافات. إن وصف شعب من الشعوب بالعقل أو القدرة على التمييز حكم عام لا يزيد دقة على وصفه بالبياض أو بالسواد. كما أن سيادة العقل تؤدي إلى نتائج تختلف باختلاف الظروف. فقد أدت في أثينا إلى تأمل مبدئي في معنى الخير وطبيعة المادة، وأدت في القرن الثامن عشر إلى الشك الديني وإلى تذوق الاقتصاد السياسي. وإن ما نحن مقدمون على الخوض فيه هو ما تتصف به بعض الوحدات - أو المجتمعات - غير المحدودة من ميول واتجاهات؛ ولذا فإنا لا نأمل أن نصدر أحكاما عامة لا تسمح بالاستثناء.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا أنه لم تنشأ في التاريخ مدنية كاملة، وإذا تصورنا أن الإحساس بالقيم وتحكيم العقل هما الصفتان الأساسيتان اللتان انبثقت منهما مميزات المدنية، وجب علينا أن نشبه هذه المميزات بسلة مليئة بالكور المرمرية الزلقة الصغيرة تغترف منها كل مدنية ما استطاعت. وقد تولدت عن الإحساس بالقيم وروح النقد إمكانيات كثيرة: بعضها لم يمكن قط أن ينال وبعضها نالته كل جماعة ارتفعت بنفسها قليلا فوق مستوى الهمجية المجردة، وقليل منها - وهي في أكثر الأحيان تهذيب للصفات التي تشبثت بها كل المجتمعات المتمدنة - مصقول مراوغ إلى حد يجعلها تنزلق بين أكثر الأصابع، ولو أن أياد قليلة ممتازة قد أمسكت بها على درجات متفاوتة من الثبات. هذه الأيدي الممتازة القابضة هي الجماعات، أو المجتمعات، التي اتفقنا على أن نصفها «بالمدنية الرفيعة»، وأنا مقبل على التحدث عن الكشف عن الصفات النادرة المراوغة التي تمسكوا بها، وتملكوها لفترة من الزمن، وتحليل هذه الصفات، ولنذكر هنا أن القبائل الممعنة في الهمجية لم تتمسك بأية صفة من هذه الصفات.
نامعلوم صفحہ