27
وهذا الجواب غاية في أدب النفس؛ فالشاعر لا ينكر أنه مدح بني أمية وإنما يعترف بأنه لم يرد بذلك إلا الدنيا، أما الآخرة فقد أرادها بمدح أهل البيت.
ولنتذكر أنه قال هذا القول بمسمع من بني أمية، وبأيديهم مفاتيح الخزائن ومقاليد السجون؛ فهو منهم بين الرجاء والخوف، ولم يمنعه ذلك الموقف الحرج من التصريح بأنه لم يمدحهم إلا للدنيا الفانية، وهذا التصريح هو في ذاته قصيدة هجاء، وهل ينكر أحد أن الاعتراف يهدم الاقتراف؟
على أنه إن صح أن الشعر دليل على وجدان الشاعر، فسيبقى من شواهد صدقه أن شعره في الهاشميين أقوى من شعره في بني أمية، فليست أشعاره في الأمويين إلا قصائد مديح لها نظائر وأمثال في اللغة العربية، أما قصائده الهاشميات فهي أعز من أن يكون لها نظائر وأمثال.
الفصل الرابع
هاشميات الكميت
إلحاح الشاعر في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق - تعلق المنهزمين في السياسة بأهداب المثل الأعلى - صور من أخلاق الهاشميين - الهاشميات من القصائد الطوال - مظاهر التجديد عند الكميت - مدح أهل البيت فرع من المدائح النبوية - مقارعة الأمويين في البائية واللامية - ملامح من هاتين القصيدتين - مظهر التصوف في البائية. *** (1)
أول خصيصة لهذه القصائد هي الروح العقلية، فالشاعر لا يشغلنا بنفسه ولا بفنه، وإنما يشغلنا بالتفكير في مصير الأمة الإسلامية، وهو يسوق ذلك بتصوف عجيب، فالخلافة ليست عنده ولاية للحكم تعود على الخلفاء وأشياعهم بالجاه وبالأموال، وإنما هي ميزان للعدل لا يقوم به إلا المصطفون الأخيار.
ومن أجل ذلك نراه يلح في وصف بني هاشم بكرم الأخلاق. ويظهر مما اطلعنا عليه أن الهاشميين كانوا في ذلك العهد أقرب الناس إلى لطف الشمائل، وكرم الخصال. وقليل من الاستقصاء يرينا أن الحرص على الأخلاق الشريفة يكون غالبا من خواص من ينهزمون في الميادين السياسية، ولنا على ذلك شواهد في الشرق والغرب: فالحزب الملكي في فرنسا يظهر غيرة شديدة على الأخلاق، والحزب الوطني في مصر يميل أنصاره إلى مؤازرة الجمعيات الإسلامية، وتعليل ذلك سهل؛ فإن المرء يحب أن يتسلح بالقوة، فإن أعوزته القوة تسلح بالخلق الجميل.
وليس معنى هذا أن المنهزمين في ميادين السياسة يتجرون بالأخلاق، لا ولكن معناه أن قوى المنهزمين في السياسة تتحول إلى معان روحية ووجدانية وعلى أكتاف هؤلاء المنهزمين تقوم المبادئ الصوفية، التي لا تترعرع إلا في صدور من خلصوا من هموم السلطان، وأقبلوا على عالم الروح.
نامعلوم صفحہ