أعترف لقراء المشير أنني ارتكبت في هذين اليومين جريمة اللصوصية، «ولعل ذنبي لا يكون أعظم من ذنب حواء وآدم؛ فإنهما سرقا تفاحة لأنها كانت لذيذة الطعم، وأنا سرقت مقالة من منزل الدكتور شميل لأنه كان بخيلا بها.» فإذا وصل هذا العدد من المشير إلى صديقي الدكتور الفاضل، وذهب إلى مكتبه، وفتش على ما كان فيه فلم يجده، وتحقق ما أقول؛ فأرجوه ألا يعاقب البواب أو الخادم؛ إنه هو الذي فتح أبواب منزله لطالبي فضله، وإلى القراء البيان.
بلغني من مقالة قرأتها في المقطم بقلم الدكتور شميل أنه مصاب بحدار (روماتيزم)، فهرولت إلى منزله العامر أعوده نحو الساعة السادسة مساء، فقال الخادم إن الطبيب خرج في عربة للنزهة. فدخلت إلى مكتبة الدكتور، وجلست بين الكتب والأوراق التي بخط حضرته في عرينه، وأردت أن أسلي نفسي بالقراءة ريثما يعود، ثم حانت مني التفاتة إلى مكتبه، وإذا هناك أوراق مبعثرة مكتوبة، فدلتني سليقة الصحافي التي عندي أنها أصول مقالة يكتبها الدكتور، وحملتني الوقاحة المذمومة في كل إنسان إلا الصحافي على الاطلاع عليها، ونظرت إلى ما حولي فلم أر من يراقبني، فأخذت تلك الأوراق وقرأتها، وإذا هي مقالة بدأ بها الدكتور شميل، وكتب منها ثلاث أوراق لا غير وبدأ بالرابعة، ثم الظاهر أن الحدار أصابه وهو يكتبها، فتركها على أن ينجزها متى شفي.
والمقالة المذكورة بيان مفاوضة بين الروح الأسمى والدكتور، فلما قرأتها ذكرت ما ورد في التوراة عن يعقوب؛ إذ صارعه الله وضرب حق فخذه فانخلع، فقلت في نفسي إن يعقوب لما صارع الله ضربه على فخذه فخلعه، وهذا صديقنا الدكتور صارعه اليوم فضربه بحدار حتى لا يتمم مقالته، ولكن جاءت الضربة الأخيرة على الفخذين. أما أنا فأخذت أوراق المقالة ووضعتها في جيبي قائلا للخادم إن الطبيب تأخر، وأنا لا أستطيع الانتظار. وها أنا أتحف القراء بما بدأ بكتابته الدكتور شميل ولم يتممه، فإن عاد يوما ما فرضي عني أرجوه أن يوافينا بما كان يريد أن يجعله تكملة لها.
وهذا نص المقالة المسروقة:
دع رجال الصحة يطاردون الطاعون، والناس من وجهه يهربون، فإما هم غالبون، وإما هم مغلوبون. فالعالم قديم، والناس يمرون فيه مر السحاب بلا حساب، والفوز ليس دائما من العلم أو العمل؛ فقد يكون من الصدفة، وقوم يقولون من القدر، وما هو علم الناس وما هم يعملون، دعهم في ضلالهم يعمهون.
واعتزل الناس ومجالسهم وهواجسهم ووساوسهم، واركب معراج الفكر في سماء الخيال محلقا إلى ما وراء المحسوس، وأغمض عينيك لئلا يستوقفك بهاء الكواكب اللامعة، ويسحرك جمال الشموس الساطعة، واسدد أذنيك لئلا يستهويك حفيف الأفلاك في دورانها، فتلتبس الحقيقة عليك بين آثارها وأعيانها. فإذا قطعت كل هذه العقبات، وقطعت كل صلة بينك وبين الكائنات؛ دخلت في العالم الأعظم عالم القوات، بل أصبحت والقوة الأولى متداخلين تعلم ما تعلم، عليما بكل ما يجهل الناس، والله أعلم.
ذلك صوت سمعته وأنا في سنة الكرى، أتقلب من الحمى على جمر الغضا. فراعني ما سمعته في المنام؛ لئلا يكون نذير الحمام، ولكن شاقني جدا خبر ما سأرى، فتجلدت وقلت في نفسي ما هي إلا رقدة، أسرعت أم أبطأت؛ فلعل في الأمر هدى، فلا تدع الصوت يذهب من دون صدى، ولا تجبن كأبيك آدم يوم عصى.
ثم قلت أيها الصوت المتصل إلي عن غير طريق الحواس الظاهرة؛ لأني أسمعك وحدي ولا يسمعك سواي، كأنك مني أو كأني فيك، من أنت؟ ألعلك الضالة التي ينشدها الناس في كل زمان؟ ألعلك صوت مدبر هذه الأكوان؟ ألعلك أنت الله الديان؟ ولكن قل لي: ما الذي أوجب بي هذا الاهتمام، وأوجب خرق النظام، حتى جئتني قبل يوم الحمام؛ لأني وإن لم أكن من سكان القصور، فلم أصر بعد من سكان القبور؟ ألعلك استبطأتني فأتيت إلي، كأنك تريد أن تحاسبني قبل يوم الحساب، وقبل أن يزال عن النفس الحجاب، كأني وحدي مخطئ والناس كلهم مصيبون؟ لكني لا أرى إصابتهم ملأت العالم خيرا، ولا خطئي جلب عليهم ضيرا، فأنا غير آسف على الدنيا؛ لأني لم أر فيها يوما واحدا حبب إلي الخلق، وأنت تعلم - إذا كنت كما يصفون - أني أقول الحق، وأني لم أكذب في عمري إلا من حيث كذبتني أمالي، ولم أسئ إلى أحد ولو ساءت به حالي.
2
وما ذنبي إلا لأني وضعت ثقتي في غير محلها، وصدقت ما بي من القوة فصرفتها في غير أهلها، بل أنت تعلم أني كنت أحسن الناس نية، وأسلمهم طوية. فقومي يقولون إن عثرتي من عدم التكافؤ. وقومك يقولون إنها منك. وذهلوا عن تبعة ما نسبوا إليك من مثل هذا التواطؤ، كأنك لم تعطني القوة إلا لتعظم علي ألم السقوط من شاهق، ولم تجعل كل هذا الامتياز إلا لترميني من حالق. فأنا لم أقصد ذلك لأحد من الورى، فأنا أحسن منك إذا كنت أنت كما الناس يرى. وأنا غير خائف من الأخرى؛ لأنه إذا صح قول قوم فالعدم خير من هذا الوجود، الذي لا يستطيع العاقل إلا أن يرى فيه صغر الموجد والموجود. وإذا صح قول آخرين فأنا لست بخائف إذا انتصب الميزان؛ لأني أدفع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. أم لا يجوز في محكمة الله الديان، ما يعد العدول عنه اليوم استبدادا في محكمة الإنسان؟ فأنا لا أخاف من الوقوف أمام محكمة العقل الأول، ألم تقل لنا إنك عدل، بل رحمة في كلامك المنزل، وإن كنت قد ملأته من التهديد والوعيد، ما لا يليق بالخالق مع العبيد؛ لأنك أردت أن تجعلهم مسئولين عما أنت وحدك مسئول عنه، وتنسب إليهم ما هم في شرع الحق براء منه ...
نامعلوم صفحہ