بيان
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالة الرابعة عشرة
المقالة الخامسة عشرة
المقالة السادسة عشرة
المقالة السابعة عشرة
المقالة الثامنة عشرة
المقالة التاسعة عشرة
المقالة العشرون
المقالة الحادية والعشرون
المقالة الثانية والعشرون
المقالة الثالثة والعشرون
المقالة الرابعة والعشرون
المقالة الخامسة والعشرون
المقالة السادسة والعشرون
المقالة السابعة والعشرون
المقالة الثامنة والعشرون
المقالة التاسعة والعشرون
المقالة الثلاثون
المقالة الحادية والثلاثون
المقالة الثانية والثلاثون
المقالة الثالثة والثلاثون
المقالة الرابعة والثلاثون
المقالة الخامسة والثلاثون
المقالة السادسة والثلاثون
المقالة السابعة والثلاثون
المقالة الثامنة والثلاثون
المقالة التاسعة والثلاثون
المقالة الأربعون
المقالة الحادية والأربعون
المقالة الثانية والأربعون
المقالة الثالثة والأربعون
المقالة الرابعة والأربعون
المقالة الخامسة والأربعون
المقالة السادسة والأربعون
المقالة السابعة والأربعون
المقالة الثامنة والأربعون
المقالة التاسعة والأربعون
المقالة الخمسون
المقالة الحادية والخمسون
المقالة الثانية والخمسون
المقالة الثالثة والخمسون
المقالة الرابعة والخمسون
المقالة الخامسة والخمسون
المقالة السادسة والخمسون
المقالة السابعة والخمسون
المقالة الثامنة والخمسون
المقالة التاسعة والخمسون
المقالة الستون
المقالة الحادية والستون
المقالة الثانية والستون
المقالة الثالثة والستون
المقالة الرابعة والستون
المقالة الخامسة والستون
المقالة السادسة والستون
المقالة السابعة والستون
المقالة الثامنة والستون
المقالة التاسعة والستون
كلمة شكر واجبة
بيان
المقالة الأولى
المقالة الثانية
المقالة الثالثة
المقالة الرابعة
المقالة الخامسة
المقالة السادسة
المقالة السابعة
المقالة الثامنة
المقالة التاسعة
المقالة العاشرة
المقالة الحادية عشرة
المقالة الثانية عشرة
المقالة الثالثة عشرة
المقالة الرابعة عشرة
المقالة الخامسة عشرة
المقالة السادسة عشرة
المقالة السابعة عشرة
المقالة الثامنة عشرة
المقالة التاسعة عشرة
المقالة العشرون
المقالة الحادية والعشرون
المقالة الثانية والعشرون
المقالة الثالثة والعشرون
المقالة الرابعة والعشرون
المقالة الخامسة والعشرون
المقالة السادسة والعشرون
المقالة السابعة والعشرون
المقالة الثامنة والعشرون
المقالة التاسعة والعشرون
المقالة الثلاثون
المقالة الحادية والثلاثون
المقالة الثانية والثلاثون
المقالة الثالثة والثلاثون
المقالة الرابعة والثلاثون
المقالة الخامسة والثلاثون
المقالة السادسة والثلاثون
المقالة السابعة والثلاثون
المقالة الثامنة والثلاثون
المقالة التاسعة والثلاثون
المقالة الأربعون
المقالة الحادية والأربعون
المقالة الثانية والأربعون
المقالة الثالثة والأربعون
المقالة الرابعة والأربعون
المقالة الخامسة والأربعون
المقالة السادسة والأربعون
المقالة السابعة والأربعون
المقالة الثامنة والأربعون
المقالة التاسعة والأربعون
المقالة الخمسون
المقالة الحادية والخمسون
المقالة الثانية والخمسون
المقالة الثالثة والخمسون
المقالة الرابعة والخمسون
المقالة الخامسة والخمسون
المقالة السادسة والخمسون
المقالة السابعة والخمسون
المقالة الثامنة والخمسون
المقالة التاسعة والخمسون
المقالة الستون
المقالة الحادية والستون
المقالة الثانية والستون
المقالة الثالثة والستون
المقالة الرابعة والستون
المقالة الخامسة والستون
المقالة السادسة والستون
المقالة السابعة والستون
المقالة الثامنة والستون
المقالة التاسعة والستون
كلمة شكر واجبة
مباحث علمية واجتماعية
مباحث علمية واجتماعية
تأليف
شبلي شميل
بيان
هذا الكتاب يتضمن مباحث مختلفة في موضوعات شتى علمية واجتماعية، وهو الجزء الثاني من مجموعة كتاباتنا. والمباحث المنشورة فيه كتبت في أزمان مختلفة ونشرت في صحف مختلفة أيضا. وقد جمعتها هنا غير ملتزم في ترتيبها تاريخها بحسب وضعها، فقد يكون المبحث كتب أخيرا ونشر هنا أولا، وبالضد. وحاولت أحيانا أن أضم الموضوعات المتقاربة بعضها إلى بعض، ولكني لم أتعمد ذلك دائما؛ إما لصعوبة الجمع، وإما بقصد أن يجد القارئ في التنقل بين المختلفات راحة قد لا يجدها بين المؤتلفات. وهي مباحث ربما كان على بعضها أثر من الجدة بيننا في الماضي، وأما اليوم فالأفكار قد ألفتها حتى يخال لي أنها صارت قديمة في هذا العهد الجديد الراقي. ولا أقل من أن يدل هذا البعض بعض الدلالة التاريخية للمتعقب على كيفية نشوء الأفكار في الشرق. وهذا حسبي من نشرها، وكفى.
الدكتور شبلي شميل
مصر، في 24 ديسمبر سنة 1908
المقالة الأولى
حوادث وأفكار
1
لا أعلم من الفلسفة إلا اسمها، ولا أعي من العلوم إلا رسمها، ولا أعرف عن البسيطة الشيء الكثير، ولا أدري عن الإنسان إلا اليسير. فلا ترج أيها القارئ أن ترى مني فلسفة أرسطو، أو فصاحة ديموستين، أو رواية طاسيت، أو تثبت ابن رشد، أو إحاطة ابن سينا، أو علم نيوتن، أو خواطر باسكال، أو إسهاب فولتير، أو إصابة روسو؛ فما هي إلا حوادث يومي وأفكار ليلي. وإن شئت فقل: حوادث يومك وأفكار ليلك؛ حوادث تتوالى على الإنسان وتتناقلها الحواس، فتؤثر في العقل تأثيرا يجعل فيه تفكيرا يقف به تارة على الأرض، وأخرى يرتفع إلى السماء، وطورا يدخل به إلى نفسه؛ فإن في طاقة العقل أن يحكم في أعمال ذاته كما يحكم في أعمال العالم الخارجي.
والمؤثرات إما مرئيات أو مسموعات أو مشمومات أو مذوقات أو ملموسات، وكل منها إما لذيذ وإما مؤلم، وبحسب درجته في اللذة والألم يكون تأثيره في العقل؛ فإن الحواس ليست إلا ناقلة لتلك الإحساسات لا شاعرة بها، فأما كيفية شعور العقل بها مع كوننا نحسبها مرسومة في الحواس نفسها، فمن أدق مسائل علم المعقول، ومن أقوى الأدلة على وجوب تقسيم الأعمال.
إلا أن تأثر العقل بالمؤثرات وإحكامه بها تختلف كثيرا بالنظر إلى اختلافها واختباره إياها، فكلما كان أشد غرابة وأعظم اختلافا كان العقل أشد انفعالا بها وأعظم تأثرا؛ ولهذا كانت أميال العقل وتصوراته تختلف على حسب اختلاف الأقاليم، وكلما كان العقل أقل اختبارا للمؤثرات كان أكثر توهما فيها؛ فإنه كثيرا ما يتوهم بها أمرا ثم لا يلبث أن ينفيه عنها بعد أن يزداد اختبارا لها، وقد يصعب عليه ذلك إن تمكن الوهم فيه. •••
ولما كان الأوائل أقل اختبارا من الأواخر كانوا بالضرورة أقل علما منهم، بل كان معظم علمهم جهلا وجل أفكارهم وهما، وكأن الخلف يشتغلون كل يوم بإصلاح ما أفسده السلف بحسب ما يتبين لهم بازدياد اختبارهم واتساع معارفهم. إلا أن إزالة ما فسد من المبادئ من عقول الناس لا بد وأن تحول من دونها مصاعب ربما أدت إلى إراقة الدماء؛ فإن الأوهام الراسخة في العقل بواسطة النقل مدة قرون تكون كالحقائق الراهنة لا تحتمل تأويلا ولا تدع للجدال سبيلا، ولا سيما أن أفراد الأمم لا يتساوون، جميعهم، في سيرهم المعنوي، فلا نرى في كل جيل وفي كل عصر غير أفراد قليلين سابقين قومهم بكثير من السنين. فعدد الجاهلين هو العدد الكثير، فهو القوي من هذه الحيثية، والقوة تغلب الحق في مثل هذه الأحوال، ولكن غلبتها حالية وقتية، وأما في المستقبل فيتأيد هذا الحق وتجني الأواخر ثمرة اجتهاد الأوائل الذين كثيرا ما لا يحصدون ما يزرعون. •••
والغريب أن الناس لا يصبرون على بيان الحقيقة بالأدلة والبراهين إذا كانت مخالفة لآرائهم مغائرة لأهوائهم، بل ينقضونها بالقوة، وهذا مخالف للعقل غير موافق للنقل، فقد علم أن كثيرا من هذه الحقائق التي حاولوا إطفاء نورها تأيدت وعمت أخيرا، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن ينبذ حقيقة لقلة نصرائها وكثرة أعدائها؛ فكم من حقيقة ضاعت بكثرة الجلبة، ثم كانت لها الغلبة بقوة الحق.
ولا شك أن الأمة التي تتخذ القوة القاهرة سلاحا في نقض المبادئ المخالفة لمألوفها بعيدة عن أسباب التقدم ووسائل التمدن، حتى تقطع السلاسل وتمزق الحجب الحائلة بينها وبين حرية البحث التي تطلق للعقل عنان الفكر، فيزيد معرفة بالأسباب والحقائق؛ إذ يشتغل بكل ما يعرض له فيتمسك بما تؤيده الشواهد. وهكذا يستخدم أفكاره لفهم الحوادث عوضا عن أن يستخدم الحوادث لتأييد أفكاره حرصا عليها. وأغرب منه أن المصائب التي تحل بأولئك الأفراد الذين ساء بختهم لوجودهم قبل أوانهم والتي مصدرها البشر تعتبر قصاصا عادلا عند من يعتقد أن الجزاء يكون على قدر الاستحقاق صادرا عن قوة سرية تراقب أعمال الإنسان، فيقول: هذا جزاء الضالين، وهو أشد فسادا من أن يبرهن على فساده. فلو تجاسر أحد في زمن جاهلية اليونان على أن يكفر بجوبيتر، أبي الآلهة، أفما كان يتساقط عليه غضب جوبيتر متجسدا بأيدي الكهنة والشعب؟ فهل يجب، والحالة هذه، مع معرفتنا فساد تلك الشريعة أن نعتبر أن ذلك القصاص كان عدلا؟ كلا. •••
ولذلك لا يليق بنا أن نتمسك بما كان في الأعصر الخالية من الأوهام تمسك الأعمى بقائده، ولا أن نطرح ما تبديه لنا الاكتشافات والحوادث من الحقائق لمجرد كونه مخالفا لما انطبق في عقولنا ورسخ في أذهاننا، كما أنه لا يجب أن نعتبر القصاص الذي يقع على بعض الأفراد لمناقضتهم بعض المبادئ العامة مفعول قوة ساهرة تعدل كل شيء على قدر الاستحقاق، بل يجب علينا أن نحارب الأوهام ونبددها بقوة الحقيقة؛ لكيلا يقوى أمرها فنعدم أسباب التقدم؛ فإن الإنسان إذا تمكن الوهم منه سقطت قواه وفقد أسباب العمل؛ إذ يستولي الخوف على طباعه والرعب على حواسه، تستلفته حوادث الكون فيتهيبها عوضا عن أن يبحث فيها ويستفيد منها، ولا تهمه شمس تسطع أو قمر يلمع أو ريح تهب أو نار تشب.
وإذا نظر إلى السماء كف عنها الطرف خشية واحتراما؛ لأنه لا يرى كواكبها إلا آلهة، ولا يحسب صواعقها إلا عذابا، وإذا نظر إلى الأرض قال: أمي ارحميني ولا تحبسي عني قوتا يغذيني وماء يرويني. ولا يتجاسر أن يقطع منها سنبلة قمح أو يتناول قبضة أرز إلا بعد الاستغفار والتكفير؛ إذ يرى في كل شيء آلهة قاهرة، وأرواحا ساحرة فيستدعي في حركاته وسكناته أرواح الأشجار، وقوات الجبال، ونفوس الكواكب؛ وما يستدعي إلا خيالات وأوهاما، لا تجلب له خيرا ولا تدفع عنه ضيرا، ولا يستفيد منها إلا توسيع نطاق الأوهام في دائرة عقله، حتى تتبلد قواه وتكل مشاعره، ولا يعود يعتبر للعمل في الأرض قيمة، ولا للبحث عن الكائنات فائدة، ولا في التعاون مزية؛ فيكسل، وتصير حياته كحياة الحيوان منفردة ذاتية منفرزة عن الهيئة الاجتماعية، ولا يهمه إلا الحصول على ما يقيه من الموت بردا وجوعا؛ إذ يعتقد أن كل شيء قسمة، فلا يجديه الاجتهاد فيه نفعا، فيسكن الأكواخ، ويلبس المسوح، ويأكل القشور. وهي قسمة ليست من الإنسانية في شيء.
فالأمة التي تتخذ هذه المبادئ شعارها لا تلبث أن ترى نفسها متقهقرة، كلما خطا العالم نحو التقدم خطوة تأخرت عنه خطوات، حتى تصبح أخيرا لا علوم لها ولا شرائع ولا صنائع، مفتقرة إلى غيرها من الأمم المتمدنة افتقار الصلة للموصول، ولا تحسن نسج ثوب ولا غزل خيط ولا صنع إبرة، بل تكون كالعلق على بدن الإنسانية تكدر راحتها وتمتص دمها. •••
إن في الإنسان صفة أولية ضرورية جدا لحفظه، وهي مصدر كثير من الصفات الأخر الموجودة فيه، وهذه الصفة هي: محبة الذات، التي تدفع كل فرد من أفراد الإنسان لاستحصال كل ما هو موافق أو يظهر له أنه كذلك، واجتناب ما هو مضر. ولا يقتصر وجودها على الإنسان فقط، بل هي موجودة في الحيوان أيضا بدليل أن الحيوان يعمل دائما بقصد المحافظة على كونه والمحاماة عن ذاته حتى في أعماله البديهية التي لا محل فيها للنظر أو الكسب. وهي صفة بديهية، ومما يدلنا على كونها كذلك الأعمال البديهية التي يجريها الإنسان بدون توسط الإرادة فيها؛ إذ تحمله على أن يدافع عن نفسه بما يقيه من الضرر عند المفاجأة، وقبل أن تحصل فرصة للإرادة لأن تتوسط في ذلك؛ كانطباق الأجفان على العينين إذا فاجأتهما ضربة أو آفة أخرى، وتقاعس الإنسان إلى الوراء إذا عثر إلى الأمام، أو مد يديه لاستلقاء الأرض بهما؛ ليدفع هكذا بضرر أصغر ضررا أكبر ربما يحصل لو صادف السقوط على الأعضاء المهمة كالرأس وغيره.
إلا أنها وإن كانت بديهية فللإرادة عليها سلطان كبير، فتتصرف فيها، ولكن بحسب ما يتراءى لها موافقا؛ أي: لا تقدر الإرادة أن تفعل إلا للغاية التي تفترضها لها محبة الذات ولو مهما اختلفت القوى العقلية وفسدت أحكام الإرادة. وإن وافقت محبة الذات الإرادة أحيانا فيما يعدمهما الوجود، كقتل الذات، فلا يكون ذلك إلا لغاية ذاتية أيضا؛ إما بقصد التخلص من مصيبة ثقل حملها على الحياة أو طمعا في تحصيل حياة أخرى جديدة ترجوها. وهذه الصفة واجبة ضرورية؛ إذ إنه يتوقف عليها جميع الفوائد المادية اللازمة لحياة الفرد الحسية، ويتولد عنها جميع الصفات الأدبية الرفيعة أيضا التي تتوقف عليها حياة الفرد المعنوية، وإذا أدت أحيانا إلى ما يخالف ذلك فلتصرف الأميال والإرادة غير المرتبة فيها، وبحسب ذلك تكون الصفات المتولدة منها إما جيدة وإما ردية. •••
واعلم أن الجيد والردي لا يوجدان مجردين في الوجود الكلي، بل هما هكذا نسبيان بالنظر إلى ظروف الزمان والمكان، بحيث إن ما لا يوافق هذا يوافق ذلك وبالعكس، فلا يتأتى لنا، والحالة هذه، أن ننفي عن شيء صفة الموافقة والملاءمة نفيا مطلقا؛ إذ إنها لم تتجرد عنه إلا بالنظر إلى حالة من الحالات أو موجود من الموجودات مع موافقته حالات أخرى وموجودات أخرى، كما أنه لا يصح أن نلزمه صفة الموافقة؛ إذ إنها لا تصح له في كل الظروف والأحوال.
ولما كانت محبة الذات من ضمن الصفات الغريزية والإحساسات الطبيعية، التي تتأثر بالمؤثرات وتتغير بالمغيرات كانت لا تثبت على حال، ولئن كانت غايتها أبدا ذاتية، إلا أنها لا تسلك دائما الطريقة المؤدية إلى هذه الغاية لانقيادها لأحكام الإرادة وما تظنه موصلا إلى شيء يؤدي بها أحيانا كثيرة إلى آخر لجهلها بالوسائط، وهذا هو السبب في قول بعضهم: إن الإنسان يفعل مندفعا من غير علم منه إلى غاية غير الغاية التي يقصدها بقوة تتصرف فيه مقيمين الواسطة مقام السبب وهو منقوض؛ لأن هذه القوة سواء كانت، على قول بعضهم: منفصلة عنه، أو على قول غيرهم: متصلة به، إما أن تكون غير إرادته أو تكون هي نفس إرادته، فإن كان الأول حصل العبث؛ إذ لا يكون للإرادة البينة أحكامها والظاهرة أعمالها فائدة في الجسم الذي تظهر فيه، أو تكون وظيفتها أن توهمه السير إلى غاية غير الغاية المفروضة له. وبعبارة أخرى: أن تخدعه، وكلاهما غير سديد، وإن كان الثاني كان لا حاجة إلى إقامة قوة أخرى بجنب الإرادة؛ طالما هي الإرادة نفسها.
فإذا صدقت الحواس في نقلها التأثيرات إلى العقل وصدق العقل في أحكامه، واعتدلت الإرادة في شهواتها، تولد عن هذه الصفة الأولية الغريزية كثير من الصفات الفرعية الرفيعة كالكرم والشرف والشهامة والمروءة والصدق والعدل وحب الألفة والتعاون، وغير ذلك من الصفات الحسنة التي تسبب بها راحة الإنسان وسعادته منفردا ومجتمعا. وبخلاف ذلك إذا انخدعت الحواس في نقلها، وكذب العقل في حكمه، وضلت الإرادة في شهواتها، فيتولد عنها الدناءة والكبرياء والجبن والكذب والظلم ورياء المحكوم، واستبداد الحاكم والانفراد، وغير ذلك من الصفات السافلة التي ترجع على الفرد بالويل، وعلى الاجتماع الإنساني بالخراب. •••
انظر إلى الكبرياء والشرف؛ فهما صفتان متولدتان عن محبة الذات، أولاهما ذميمة متولدة عن اتحاد محبة الذات بالجهل، والثانية حميدة متولدة عن اتحاد محبة الذات بالعلم. فالكبرياء تحمل صاحبها على احترام نفسه باحتقار غيره، والشرف يحمله على احترام نفسه باحترام غيره، فالغاية واحدة في كلا الأمرين، وهي احترام الذات؛ إلا أن طريقة الحصول على ذلك مختلفة. وهذا الاختلاف ناتج عن اختلاف العلم بالأسباب والوسائط، كما تقدم، فلو علم صاحب الكبرياء أن السبيل الذي يسلكه في احترام نفسه وتعظيمها هو السبيل المحقر لها لعدل عنه إلى ما هو أحسن منه؛ لأن محبة الذات لا تستطيع أن تصير عالمة على أن تسلك السبيل الذي يؤدي بها إلى ما لا يسرها، كما أن صاحب الاستبداد لو علم أن استبداده لا يأتي عليه بما تتمناه محبة ذاته لما صبر عليه دقيقة واحدة. كما أن صاحب الرياء أيضا لو علم أنه يوجد له سبيل آخر غير ريائه لاستحصال رضى سيده المستبد، آمنا على نفسه من غدره لعدل عنه إلى الصداقة، وخلوص النية، واستعمال الحرية في تأدية خدمته.
لذلك كان سلطان الرياء قويا جدا حيثما قوي الاستبداد، والقوم الذين يستولي عليهم الرياء هم قوم لا يصدقون ولا يصدقون، فالرياء والموالسة والتدليس وما شاكل هي سلاح من يرغب في أن يكون مقربا من الاستبداد متمتعا بما يمكن تحصيله من خيرات الظلم، ومن لم يتدرع بهذه الصفات، بل لبث مصرا على الصدق وخلوص النية واستعمال الحرية ليس له أن يطمع بالتقرب من المستبدين، بل عليه أن يبتعد عنهم ما أمكن قبل أن يبعدوه من بينهم؛ لأن صفاته هذه لا تحسن في عينيهم ولا ترجع عليه إلا بالوبال. •••
والإنسان الذي لم تهذبه التجارب ولم توسع دائرة عقله العلوم الصحيحة فلا يرى إلا ما كان قريب الغاية، تقتصر محبة الذات فيه عليه ولا تتجاوزه؛ لأنه يحسب أن سعادته قائمة بأسباب لا تتعداه ولا يمكن أن تتأتى له مع سعادة سواه، بل بخلاف ذلك قد يظن أن سعادة غيره تعود عليه بالشقاء، فيسعى في تحصيل سعادته بمضادة سعادة غيره. وهذا ناتج من جهله الأسباب والوسائط التي تمكنه من الحصول على هذه السعادة المطلوبة منه، فإذا زاد اختباره وكثرت معارفه واتسعت دائرة أحكامه؛ رأى أن في الانضمام والتعاون، واشتراك المصالح مزايا أخرى تفيده ولا توجد له منفردا، فينتقل من محبة الذات الفردية إلى المحبة العائلية فصاعدا من النوع والجنس؛ إذ يرى والحالة هذه في سعادة عائلته، بل وطنه، بل نوعه ما يعود عليه بأعظم سعادة لا تتأتى له من دون ذلك.
فالأمر متوقف إذن على العلم بالأسباب والوسائط؛ لأن الإنسان كيفما فعل إنما يفعل دائما بقصد الوصول إلى غاية واحدة وهي سعادته، فإذا تصور أنه يستطيع الحصول على سعادته منفردا دعته محبة ذاته إلى اتباع السبيل الذي يرسمه له علمه، وإذا علم أن سعادته لا تحصل له منفردا، بل يحتاج فيها إلى التعاون مال إليه كما يظهر من المقابلة بين تصرفات الإنسان في حالتي الخشونة والتمدن.
ما أطوعه، وما أطمعه
2
في نظام الاجتماع صدوع هي كالسوس تنخره، ولا بد أن تقوضه ولو طلي بقار الظلم، وصفح بعسجد الوهم، يتنازع الاجتماع منذ القديم قوتان تتنازعان فيه قياد الإنسان، لكن كل منهما من سبيل.
هاتان القوتان كانتا في الأول مجتمعتين، وكان هولهما شديدا، ثم انفصلتا، ولكنهما بقيتا متحالفتين، وسوف يعم اختصامهما حتى تلاشي الواحدة الأخرى، فيسود سلطان الحقيقة ويتقوض سلطان الوهم.
ولكن الاجتماع يخطو في ذلك خطوة خطوة، وكل خطوة تنقضي فيها أجيال، وتقضي على آمال.
فالإنسان وإن زج في الظلمة مقهورا، فلا يخرج إلى النور إلا مقسورا: ألا ترى لسان حال الجماهير يقول في كل جيل: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» حتى يحار العقل في أي حالتيه الإنسان أسعد؟
لا ريب أن العلم إذا عم وبلغ الدرجة القصوى بلغ الإنسان منتهى السعادة، ولكن - حتى يعم - أي أشقى من الإنسان السابح بين الحالتين يتنازعه سلطان القوتين وهو ليس بالجاهل فيرع ولا بالماكر فيزع؟
ولكن الإنسان وزع أم ورع، ضلع أم ظلع، ماكرا وغبيا، واحد في مرماه.
كنت يوما في محفل ، وإذا السلطتان بأبهى مظاهرهما، ثم قفلت راجعا إلى بيتي، فرأيت البواب جاثيا يصلي ويداه إلى وجهه وكفاه مبسوطتان وهو يحدق إليهما، ويتمتم كأنه يقرأ عليهما وردا وأثر الاجتهاد باد عليه، فقلت في نفسي: قسمة ضئزى. ثم نظرت إلى ما به من الاعتقاد الراسخ، فقلت: ولكنها تعزية كبرى. فما أصعب الإنسان، وما أطوعه! وفي الحالين ما أطمعه؛ ذاك يرث الأرض، وهذا يريد أن يرث ... ملكوت السماء.
المقالة الثانية
الحياة وأصلها
1
حيرة المرء في الوجود حياة
كل يوم تريك منها شئونا
خاضت الناس في الظنون، ولكن
ما درى الناس سرها المكنونا
الحياة حيرة العلماء، والحيرة علة البحث؛ ولذلك لم يمر عصر على الإنسان إلا وقام فيه يسأل: ما هي الحياة، ومن أين أتت، وكيف تولدت؟ مسائل ثلاث مرتبط بعضها ببعض، كلما أغلقت عليه من وجه قام يعالجها من آخر لعلها تفتح له. وهو في كل العصور لم يزد بها علما عما قاله فيها ملتون الشرق أبو العلاء المعري:
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
ومن المقرر في العلم اليوم أن كل حي مهما كان حقيرا لا يولد إلا من جرثومة متضمنة فيها كل أجزاء هذا الحي، وهذه الجرثومة نفسها صادرة من حي مثله. والخلاف بين العلماء والفلاسفة في أصل الجرثومة الأولى هل تولدت في الأرض نفسها، ومن مادتها وبقوة من قواها أم كيف؟ فأصحاب رأي التولد الذاتي يذهبون إلى أن الأحياء جميعها نشأت في عالمنا هذا من نفس مادته وبقواه الخاصة، وقد كانت في الأصل مادة حية بسيطة جدا، ثم تكيفت وتحولت على مر السنين والعصور المتطاولة حتى رست على ما هي عليه اليوم. وخالفهم أصحاب مذهب الجراثيم الذين ينكرون التولد الذاتي بناء على ما يرونه اليوم من أن كل حي لا يولد إلى من حي مثله. ولما سئلوا عن أصل هذه الجراثيم ذهبوا فيها مذاهب، ومن أغرب ما ذهبوا إليه أنها أتت إلى عالمنا من عالم الكواكب. وهو قول لو تدبرناه لرأيناه لا ينفي التولد الذاتي، وإنما يبعد حله ؛ لأنها سواء تولدت في أرضنا أو أتتها من عالم آخر، فلا بد أن تكون قد تولدت أولا في نفس هذا العالم بالنشوء، ولا بد أن تكون مادة ذلك العالم الذي تولدت فيه أولا وقواه شبيهة بمادة عالمنا وقواه أيضا؛ لكي تستطيع أن تعيش فيه.
جاء في كتابنا الحقيقة ما نصه: «على أن بعض الفلاسفة يذهبون إلى أن الأرض التي كانت في البدء قاحلة وغير مسكونة، إنما عرضت فيها الحياة مما أتاها من الجراثيم من بعض الكواكب المصطدمة بها، وهو قول محتمل، إلا أنه غير مقنع، ويظهر لنا أنه لا يحل المسألة وإنما يزيدها ارتباكا؛ فإن لم تكن الحياة قد ظهرت على الأرض ذاتيا بفعل أحوال طبيعية وكيماوية، فيلزم أن تكون قد ظهرت ابتداء على أحد كواكب نظامنا الشمسي. وخصوم التولد الذاتي الذين يتعلقون بأهداب هذا التعليل كالملجأ الأخير لهم إنما يبعدون حل هذه المسألة، ولا يأتون فيها بتعليل شاف. ولا يخفى أن الحل الطيفي الذي استطعنا بواسطته أن نعلم تركيب الكواكب الكيماوي أرانا أن هذه الكواكب متكونة من نفس المواد المتكون منها سيارنا؛ فالصوديوم والمغنيسيوم والهدروجين والأكسيجين والكربون والكلسيوم والحديد والتلوريوم والبزموت والزئبق ... إلخ موجودة هناك كما هي موجودة هنا. وقد علم كذلك من فحص الحجار الجوية أن هذه الأجسام تتحد هناك كما تتحد في أرضنا. فلا بد، إذن، من أن تكون الأحياء الأول قد تكونت فيها من مواد جامدة شبيهة بموادنا. فوالحالة هذه ما الفائدة من الزعم بأن أرضنا إنما أتتها الحياة من كوكب اصطدم بها في مروره في الفضاء؟ إذ لا بد من الإقرار في كل الأحوال بأن التعضي قد وقع في المادة في أحد نجوم نظامنا الشمسي، فمن العبث، إذن، الإصرار على إنكار نشوء الحياة في الأرض.» •••
ولو لم يكن قائل هذا القول من ذوي المكانة في العلم لما عبأ أحد به لغرابته، وإنما الناس في المسائل العلمية، كما في سواها، كثيرا ما يعبرون الكلام التفاتا بالنظر إلى مقام قائله. فصاحب هذا الرأي الغريب هو اللورد كلفن أي السير وليم طمسن أحد مشاهير العلماء الطبيعيين جاء في الحقيقة ما نصه: «والذي ارتأى أولا أن جراثيم الأجسام الحية وقعت مع الرجم هو السير وليم طمسن الإنكليزي، ومنذ مدة خطب بعضهم خطبة طويلة في تكون البرد قال: إنه يتكون من بخار موجود في الخلاء الذي بين الأجرام السماوية. فما أتم الخطبة حتى وقف السير وليم طمسن، وقال: أظن الخطيب يمزح فيما يقول؛ لأنه لو فرضنا أن البرد تكون في تلك الأعالي لذاب قبل أن بلغ الأرض بملايين من الأميال. ولما جلس قام اللورد ريلي وقال: أنا أعرف رجلا ارتأى رأيا أغرب من هذا، وهو أن بزور الأحياء هبطت على الأرض من السماء.»
وبديه أن الأحياء على موجب هذا الرأي لم تتساقط إلى أرضنا بأشكالها الحاضرة؛ أي: إن السماء لم تمطرنا من كل نوع من أنواع الأحياء زوجين ذكرا وأنثى؛ زوجين من الكلاب، وزوجين من الفيلة، وزوجين من الأرانب، وزوجين من الحيتان ... إلخ، تكاثرت وعمرت الأرض، فلا الإنسان ولا الحيوان لم يأتيا على هذه الصورة، وإنما الذي تساقط إلى أرضنا بزور وبراعم ومكروبات، نمت فيها وتحولت على مقتضى ناموس النشوء والتحول، وارتقت وكونت الأحياء المعروفة اليوم. •••
ولا بد لتحقق هذا الرأي - على فرض أن سلمنا به - من ثلاثة شروط:
أولا:
وجود صور حية في عالم آخر غير عالمنا، وليس لنا ما يثبت ذلك، ولا نريد بهذا القول إثبات العمارة للأرض وحدها ونفيها عن سائر السيارات، وإنما نريد به أن ليس لنا دليل قاطع على أن سائر العوالم مأهولة بأحياء شبيهة بأحياء أرضنا أو مختلفة عنها، وإن كانت عمارتها محتملة بالقياس.
ثانيا:
وجود وسائل للنقل تحمل هذه الجراثيم من العوالم الأخرى وتنقلها إلى الأرض، وهذا الشرط متوفر في منقضات النيازك وسواقط الرجم، التي هي أجزاء من الأجرام السماوية تتساقط على الأرض، كما لو تحطم أحد الأقمار وتساقطت أجزاؤه. ومثل هذه المنقضات على الأرض كثير ومن كل حجم، بعضها يزن القناطير وبعضها يقل عن المثقال. وقد حسب نيوتن ولوكيار أنه يتساقط منها على الأرض كل يوم نحو عشرين مليونا، وأربعين مليونا إذا عدت الصغار منها. وقد أثارت هذه النيازك في بعض القبائل عواطف العبادة؛ يحكى أنه سقط في سنة 1851 في زوروما في أفريقيا الشرقية نيزك، فدنا السود منه بكل احترام، ومسحوه بالزيت «كمألوم تداوي منه جرحا»، وكسوه بالحلل الثمينة «كي لا تخدش خده الأبصار»، ونقلوه إلى أحد الأكواخ ونصبوه معبودا لهم. وما أمر هؤلاء السود مع هذا الحجر السماوي بأعجب من أمر ذلك الفلاح الإنكليزي الذي رأى من عهد مائة سنة رجلا راكبا منطادا نزل عليه، ولما سأله: أين أنا؟ جثا على ركبتيه، وقال: أنت في كولسدون (اسم بلدة) أيها الإله القادر على كل شيء.
ثالثا:
أن تكون النيازك آتية من عوالم فيها أحياء وحاملة جراثيم حية، وغني عن البيان أن جميع النيازك لا تستطيع أن تقوم بهذا الأمر. مثال ذلك النيازك المؤلفة من معدن كان مصهورا من شدة الحرارة؛ على أنه يوجد نيازك شبيهة بصخورنا، يمكن للجراثيم أن تستقر في شقوقها، بل نعرف نيازك تتضمن مواد عضوية شبيهة بالراتينج. فهذه المواد وإن لم تكن الحياة نفسها إلا أنها فيما يرجح متكونة عن كائنات حية، أو فيها وجه لهذا الفرض، فانتقال الجراثيم بمثل هذه النيازك، إذن، ممكن.
ولكن يقوم على ذلك اعتراض؛ وهو أن النيازك التي تخترق الهواء تمر فيه بسرعة عظيمة جدا، هي على تقدير لوكيار: من 40 إلى 60 كيلومترا في الثانية، فتسخن إلى درجة تصير فيها نيرة من شدة ضغط الهواء. ودرجة الحرارة التي قد يبلغها النيزك، والحالة هذه، تختلف من 4000 إلى ستة آلاف درجة، فلا تستطيع الجراثيم أن تبقى حية في كل هذه الحرارة؛ إذ قد تبين من الامتحان أن البزور قد تقوى على احتمال 100 إلى 120 درجة من الحرارة الجافة بعض ساعات، وأما على حرارة 150 إلى 200، فإنها تموت، والمكروبات تهلك في جميع أشكالها. غير أن النيازك لا تبلغ جميعها هذه الدرجة من الحرارة، ومن المؤكد أن التسخن هو غالبا سطحي. وقد سقطت نيازك كانت فاترة وغيرها كان باردا، وفي سنة 1860 تساقطت في درمسالا في الهند قطع كانت بحال وصولها إلى الأرض بالغة من البرد درجة صقعت منها الأكف التي لمستها.
وتعليل ذلك بسيط؛ فالنيازك، التي هي عبارة عن محطمات الكواكب، قبل أن تصل إلى الأرض تمر في فضاء بارد جدا، تختلف درجة برده من 50 إلى 150 تحت الصفر، فإذا صادمت الهواء فقد تسخن في كل كتلتها إذا كانت صغيرة، ولا تسخن إلا في سطحها ويبقى باطنها باردا إذا كانت أكبر، فمن الممكن، إذن، أن يصل إلينا بعض النيازك من دون أن يسخن كثيرا، فإذا كان حاملا في بعض أجزائه الباطنة بعض الجراثيم فليس من الضروري أن تحترق.
ولكن يرد علينا حينئذ اعتراض آخر، وهو: إذا كانت الجراثيم لا تحترق، فمن يضمن لنا أنها لا تموت من شدة البرد؛ لأن برد الفضاء شديد؟ ولكن الامتحانات الحديثة قد ذهبت بهذا الاعتراض؛ إذ قد تبين منها أن البزور وأنواع البكتريا تحتمل بردا شديدا من دون ضرر، لا درجة 50 أو 100 فقط، بل 200 تحت الصفر. فمن الجراثيم ما بقي حيا مائة ساعة في هواء درجة برده 190 تحت الصفر و118 يوما على درجة تختلف بين 37 و53 تحت الصفر. وهذه المعلومات كثيرة الفائدة إذا ضممناها إلى غيرها مما علم في هذه السنين الأخيرة.
فقد كان المظنون إلى أيامنا هذه أن البزور، ولئن ظهرت بحالة نوم، فلا تزال الحياة تعمل فيها، وإذا كانت تبدو لنا واقفة فما ذلك إلا في الظاهر فقط، فهي لا تزال تقضي بعض الوظائف الجوهرية كالتنفس والمبادلات الغذائية ولكن ببطء وضعف كليين، والحال أن ذلك خطأ؛ فإن هذه الوظائف الحيوية تقف وقوفا تاما على درجات البرد المذكورة، كما تقف عندها في الأجسام الكيماوية ألفتها وخصائصها المميزة لها، كما تبين من الامتحان. •••
وبالحقيقة كيف يمكن التصديق ببقاء وظيفة التنفس وسائر الأفعال الحيوية عاملة، ونحن نرى بزورا في الفراغ لا تفرز مقدارا من الحامض الكربونيك يشعر به بالحل الطيفي، ونرى بزور البرسيم (القرط) تبقى ست عشرة سنة في غاز الأزوت والكلور والهيدروجين والكحول الصرف، ثم تنبت إذا أخرجت إلى الهواء والرطوبة والحرارة. وحب الحمص المخنوق ضمن الزئبق يبقى حيا بعد خمس سنين، إلى غير ذلك من الامتحانات التي يكاد يكون التبادل الحيوي ممتنعا فيها؟ ففي مثل هذه الأحوال لا بد من التسليم بوقوف الحياة وقوفا تاما بحالة لا هي الموت؛ لأن الحياة ما زالت ممكنة، ولا هي الحياة؛ لأن الحياة هي التبدل والحركة، بل هي حالة متوسطة بين الموت والحياة، وعليه: فلا خوف على الجراثيم من برد الفضاء إذا صح انتقالها إلينا من الأجرام الأخرى بواسطة النيازك.
وما بسطنا كل ذلك هنا إلا من باب الفكاهة العلمية، لا تأييدا لهذا الرأي الذي هو في اعتقادنا غريب جدا، كما تقدم، والشيء بالشيء يذكر، فمن غرائب أحلام العلماء ما خطر في القرن الماضي لأحد مشاهير الجراحين والعلماء الطبيعيين، المدعو: هنتر، بالنظر إلى وقوف ظواهر الحياة كما تقدم. وهذا يدلك على أن هذا الفكر ليس حديثا. فقد خطر له أن يجرب إيقاف الحياة، وأجرى امتحاناته على بعض أنواع الحيوانات الدنيا، فجرب أن يوقف حياتها بالبرد فنجح في ذلك، ولكنه لما أراد إيقاظها بالحرارة وجدها لا حياة لمن تنادي.
وله من وراء ذلك غرض عظيم، قال في بيان هذا الغرض ما نصه: «قد ظننت أنه يمكن إطالة الحياة إلى ما لا نهاية له بإجلاد إنسان، بوضعه في مكان بارد جدا، واستندت في ذلك أن كل عمل ومن ثم كل خسارة في مادته تقف، والحالة هذه، إلى أن يسخن ثانية، وقلت في نفسي: إذا أراد إنسان أن يقف السنين العشر الأخيرة من حياته لإجراء هذا التعاقب بين العمل والراحة يمكن إطالة حياته آلافا من السنين، يوقظ فيها كل مائة سنة مرة، فيقف على كل ما جرى في العالم مدة رقاده، وكنت معلقا كل آمالي على نجاح هذا المشروع، ولكن «امتحاناتي خانتني»» انتهى.
فترى مما تقدم أن هنتر كان يحلم بالخلود الجسماني للجميع، ولكنه لم ينجح، والظاهر أن حلمه لن ينجح. على أننا لا نريد أن نثني عزم أحد من الراغبين ...
المقالة الثالثة
الأدوار الجليدية وتأثيرها في الإنسان
1
لم يرد على الإنسان سؤال أصعب من سؤاله: ما هو الإنسان؟ فإن هذا السؤال سئل منذ نشأت الفلسفة، واشتغل به جميع الفلاسفة، ومع ذلك بقي زمانا طويلا ولم يتحول عما تركه عليه مؤسسا المدرستين القديمتين طالس وفيثاغورس. وما ذلك إلا لقيام الإنسان حكما في مسألة لا يسلم فيها من الغرض مع انقياده في أحكامه إلى التصورات الشعرية والأفكار الوهمية والمبادئ الخرافية؛ ولذلك لم يتيسر البحث عن الإنسان بحثا علميا حتى زعزعت العلوم الطبيعية هذه المبادئ الفلسفية في الأعصر المتأخرة، فانحصر البحث في هذه المسألة في علمي الأنثروبولوجية؛ أي: علم الإنسان. والسوسيولوجية. أي: علم الاجتماع الإنساني.
وعلى ذلك فعوضا عن أن يصعد الإنسان بالخيال إلى الطبقات السماوية؛ ليبحث عن أصل الإنسان، فإنه ينظر إليه في المكان الذي ينشأ فيه وينمو ويموت، ولا ينتقل إلى غيره من الأبحاث الطبيعية إلا عند الضرورة لارتباط العلوم الطبيعية بعضها ببعض ارتباطا شديدا، بحيث يتعذر البحث في علم منها بدون الاستناد إلى سابقه في سلم العلوم. فالسوسيولوجية لما كانت أصولها في علم البيولوجية؛ أي: علم الحياة، كان اعتناء علماء عصرنا بدرس فروع البيولوجية لتأسيس علم الإنسان لا يماثله اعتناء. ثم إن معرفة حقيقة هذا العلم متوقفة أيضا على أمر مهم من متعلقات علم الفلك، وهذا الأمر هو مبادرة الاعتدالين، وهو وإن كان مذكورا في جميع كتب الهيئة منذ هيبرخوس إلا أنه لم يكن يظن أحد قبل الآن أن له تعلقا بارتقاء الإنسان، وأما الآن فيعتبر عند جمهور الجيولوجيين أنه سبب حصول الأدوار الجليدية في أوقات معينة.
وقد ظهر من الأبحاث المختلفة أن بين الإنسان وبين الأدوار الجليدية نسبة شديدة، بحيث تؤثر في نموه وتمدنه، وبهذا الاعتبار تنبئنا عن ماضيه ومستقبله بأمور كانت تبقى مجهولة لولا ذلك؛ ولهذا لا بد قبل الشروع في هذا البحث من التكلم قليلا عن الأدوار الجليدية على ما يذهب إليه جمهور الجيولوجيين تمهيدا للموضوع فنقول: رأى الجيولوجيون في نقبهم بعض الجبال أن سطح الصخر الذي يؤلف جانب الجبل أملس وعليه ثلوم متوازية كأنها مصنوعة بالإزميل (انظر وجه 195 من السنة الثانية)، ورأوا أيضا حجارة هائلة، بعضها مبدد في منحنى الجبل من سفحه إلى قمته وبعضها بعيد عنه في السهول المجاورة، وقد لاحظوا، أيضا، على مسير هذه الحجارة خطوطا متقطعة ممتدة من محل استقرارها إلى قمة الجبل، فحكموا أن الحجارة المذكورة قد انفصلت من الجبل بقوة ما واستقرت على أبعاد مختلفة بحسب القوة التي أبعدتها، وأن الخطوط آثار مرورها على الأرض في انحدارها، وأول ما شاهدوا هذه الحجارة الهائلة والثلوم والخطوط في جبال ألبا.
ثم رأوها في جبال أخرى في شمالي أوروبا، وظهر لهم أنها تزداد وضوحا كلما تقدموا إلى الشمال، وقد توهموا أنها تتجه دائما من الشمال إلى الجنوب فقالوا: إن سببها ارتفاع مياه الأوقيانوس المتجمد الشمالي بغتة، واندفاع الجليد منه قطعا هائلة على الأرض بقوة عنيفة ساقت أمامها ما اعترضها من الحجارة وغيرها، وثلمت سطوح الصخور الملساء، وهذا هو مذهب الطوفان، وعضد هذا المذهب كوفيه، الطبيعي الشهير وبقي معولا عليه إلى سنة 1830، وحينئذ قام ليل الجيولوجي الإنكليزي فناقضه قائلا: إن الظواهر الطبيعية الحادثة على سطح الأرض ليست نتيجة انقلابات فجائية لا تدرك أسبابها، بل هي حادثة عن عوامل طبيعية تتم أمامنا ببطء شيئا فشيئا، وإن هذه العوامل المتناقضة النتائج مرجعها كلها إلى القوات النارية التي ترفع سطح الأرض، وإلى فعل الهواء الذي يفتت الصخور ويعري الجبال وينقل التراب ويملأ به الأودية. ثم تحقق الجيولوجيون، خلافا لما كانوا توهموه، أن اتجاه الخطوط من الشمال إلى الجنوب ليس مطردا، بل يتبع مسير الماء كيف كان مجراه، فيكون، أيضا، من الجنوب إلى الشمال كما في جبال البرينه، وهذا الاتجاه لا يصح أن يكون حادثا عن طغيان الأبحر الشمالية.
فتحول فكر العلماء حينئذ للبحث عن أسباب أخرى طبيعية، فتحقق شمبر، أحد الطبيعيين الجرمانيين، من أنهار الجليد الحاضر أنها تترك في سيرها حجارة هائلة وصخورا مثلمة شبيهة بما يوجد في الطبقات السفلى، وإنما الفرق بينها أن القديمة أكثر امتدادا؛ فاستنتج من ذلك أنها؛ أي : القديمة، حصلت من أنهار جليد أعظم من الموجودة الآن. ولكن لما كان بين هذا القول وبين التعاليم المعول عليها حينئذ بون عظيم لم يعبأ به. وفي سنة 1840 نشر أكاسيز الشهير كتابا بهذا المعنى بين فيه وجود دور جليدي في الأدهار الغابرة، وأبدى رأيه عن أنهار الجليد القديمة، وعن نتائج امتدادها العظيم؛ فلشهرته انتبه كثير من العلماء إلى ذلك، وسافر جماعة من جيولوجي الإنكليز ومنهم ليل إلى جبال ألبا؛ ليتحققوا بأنفسهم فعل أنهار الجليد، ورجعوا مقتنعين مما رأوا.
ثم تحقق العلماء ذلك أيضا في جميع البلدان ذوات الجبال بوسط أوروبا وشماليها وشمال أمريكا وجنوبها، وفي جبال آسيا الوسطى، حتى إن مذهب الأنهار الجليدية عم الآن وصار حكما من أحكام الجيولوجيا. ولما تحققوا أن القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي اكتسى بالجليد بعدما تكونت أراضي الدور الثلاثي بقي عليهم أن يعرفوا ما هو السبب لحصول ذلك، فذهبوا مذاهب شتى، وارتأوا آراء متعددة أفضت، بعد المباحث الطويلة، إلى أن سطح الأرض لم يكتس بالجليد مرة واحدة فقط، بل مرارا متعددة في أدوار متعددة، وثبت عندهم أن هذه الأدوار الجليدية ترجع في أدوار منسوقة على نظام محدود. ولدى التأمل في هذا النظام أخذوا يبحثون عن السبب الذي تهبط به حرارة أحد نصفي كرة الأرض، فيبرد بردا شديدا يؤذن للجليد بالدوام أزمانا مديدة، ففطنوا إلى أمر مبادرة الاعتدالين وإلى انتقال محور دائرة الأرض العظيم، فسهل عليهم حل هذا المشكل.
فإن هذا المحور العظيم يتحرك تحركا بطيئا في دوران الأرض حول الشمس حتى يدور دورة كاملة بالنظر إلى الاعتدالين في إحدى وعشرين ألف سنة تقريبا كما يعلم من علم الهيئة، وفي هذه المدة يوافق بالضرورة خط الانقلابين مرتين فينطبق عليه لحظة من الزمان. وقد حدثت الموافقة الأخيرة سنة 1250 للميلاد، وحينئذ كانت نقطة الرأس في الانقلاب الشتوي، فتأتى من ذلك أن بلغت أيام الربيع والصيف في نصف الكرة الشمالي أعظمها، وطالت فصول الشتاء واشتد بردها جدا في النصف الجنوبي بحيث تولاه دور جليدي لم يزل حتى يومنا ؛ لأن ظروف المناخ لم تتغير من ثم كثيرا. ثم إذا تقهقرنا عشرة آلاف وخمسمائة سنة رأينا أن نقطة الرأس كانت في الانقلاب الصيفي، فحصل عكس ما تقدم؛ أي: إن فصول الشتاء طالت واشتد بردها في نصف الكرة الشمالي، فأحدثت عليها دورا جليديا، فكل 10500 سنة يحصل دور بارد جدا، شمالي ثم جنوبي على التعاقب، بحيث تتوالى الأدوار الجليدية على كل من نصفي الكرة كل إحدى وعشرين ألف سنة. •••
فلننظر الآن إلى الأنهار الجليدية من جهة تأثيرها في نوع الإنسان، فأول ما يتضح لنا هو سبب الاختلاف العظيم بين أهل الشرق والغرب وجهة تاريخهم، ولولا ذلك لكان تاريخهم يبقى في غاية الإبهام، فلا يخفى أن تاريخ الإنسان الشرقي أقدم جدا من تاريخ الإنسان الغربي، فإن أقدم آثار الإنسان التي وجدت في أوروبا لا يتجاوز عمرها 7000 إلى 8000 سنة حسب تعديل الجيولوجيين بناء على أقدم الآثار الموجودة حديثا. وأما آثاره الدالة على تمدنه في الشرق فيصعد تاريخها، كما في بلاد مصر، إلى 15000 سنة حسب تقويم أعدل الجيولوجيين، وذلك موافق لرواية مانثون الذي أمره بطليموس فيلادلفوس، فنقل عن الكتب المقدسة لهيكل اليوبوليس العظيم تاريخ مصر منذ أيامها الأولى، وضمنه في ثلاثة مجلدات لم يصل إلينا منها سوى بعض فقرات وفصول ذكرها المؤرخون القدماء الذين جاءوا بعده كهيردوطوس وغيره؛ على أنه لم يكن أحد قبل الآن يثق بصحتها؛ لما بين التواريخ التي ينسبها إلى دول مصر وبين التعاليم الشائعة من الفرق البين حتى جاءت أخيرا الأبحاث الجيولوجية مؤيدة صحتها.
فإذا قيل: ما هو السبب في كون تاريخ تمدن بعض شعوب المشرق يتقهقر إلى 150 قرنا مع أن أهل أوروبا لم يكونوا منذ سبعة أو ثمانية آلاف سنة إلا قبائل متوحشة يقطنون المغاير والكهوف؟ فالسبب واضح لمن يتدبر مذهب الأدوار الجليدية، فإن بلاد مصر، لعدم وجود الجبال فيها ولاتصالها من طرفها الجنوبي بمدار السرطان، آمنة من نوازل الثلج والجليد، فلا تعيق نمو الإنسان فيها، وكذلك يقال أيضا عن السهول الواسعة الممتدة في جنوبي آسيا من حدود البحر المتوسط إلى حدود الصين، بخلاف أوروبا فإنها لبعدها عن المدارين واتصالها بالأبحر الشمالية، فالبرد يشتد فيها جدا فيتراكم الثلج على القسم الأعظم من سطحها فتحول دون نمو الإنسان فيها. وهذا هو السبب في عدم ظهور آثار الإنسان السابق العهد التاريخي فيها إلى ما بعد تقهقر الأنهار الجليدية الأخيرة. ولا يوجد قبلها إلا بعض عظام بشرية يندر وجودها أكثر فأكثر كلما اقتربنا إلى أسافل الأراضي التي تكونت في الدور الرباعي. •••
ثم يتضح أيضا، على مذهب الأدوار الجليدية، سبب أمر آخر كثير الإبهام كسابقه، وذلك أن من يقابل بين أمم الشرق القديمة وبين الأمم الحاضرة بالنظر إلى نشاط القوى العقلية يستعظم الفرق بينها. أليست بلاد الهند وإيران والكلدان مهد التمدن وأم العلوم والصنائع (فإن خرابات بابل ونينوى لا تزال موضوع اندهاش أهل هذا العصر؛ مما يدل على أن الصنائع فيهما كانت بالغة من الإتقان أعلى درجة، فضلا عن أن علم الهيئة نشأ في بابل والعلوم الرياضية كانت متسعة جدا في بلاد الهند)، فما الذي استولى عليه حتى لم يبق لها بقية تذكر أو ذكر يشهر؟ أليست البلاد التي أولدت طالس وأرخميدس وهيبرخوس عقيمة منذ زمان طويل، فكيف وهنت قوى هؤلاء الشعوب، ولماذا سكنت حركتهم عن التقدم في معراج التمدن؟ إن سبب ذلك يتضح من دور البرد الأخير الذي استولى على نصف الكرة الشمالي؛ فإن شدته وصلت إلى أبعد من حدود الأنهار الجليدية بكثير (فإن دور البرد الشديد المستولي الآن على نصف الكرة الجنوبي لا يزال تأثيره واصلا إلى حدود رأس الرجاء الصالح في أفريقية وبونس أيرس في أمريكا مع أنه دخل في التناقص من تاريخ 1250 سنة للميلاد)، فأهالي جبال آسيا لما داهمها الثلج حينئذ انسحبت من أمام البرد والتجأت إلى السهول المنحدرة نحو شطوط البحر المتوسط وخليج العجم وبحر الهند.
وما دامت تلك الثلوج تبعث الهواء البارد إلى الجنوب، فتبرد تلك الجهات دام المهاجرون إليها على نشاطهم العقلي الخاص بسكان البلاد الباردة، فنما التمدن وانتشر في الشرق؛ ولكن لما أخذت تلك الثلوج تذوب وتتقهقر أخذت طبائع تلك الأقاليم تتغير فاستولت عليها حرارة الجهات المدارية، واستولى الخمول على سكانها وأخذ نشاطهم ينحط وعزائمهم تضعف، حتى سكنوا في رقدتهم التي نراهم فيها، فنهض الغرب حينئذ إذ خلع عنه جلباب البرد القارس الذي كان كبل قواه وأخمد أنفاسه قرونا عديدة، وأبان للعالم أجمع كم ترك الأوائل للأواخر بما أبداه من النشاط الذي فاق كل نشاط، فإن الذي اتصل إليه ابن المغرب من السعة في المعارف والدقة في العلوم والإتقان في الصنائع لا تبعد عنا شهوده ولا يترك محلا للريب في أنه أناله قصب السبق في ميدان الإنسانية. ولكن لا فضل لأحد بذلك؛ فالفضل لله، ولا عار علينا بخمولنا؛ فإنه بحكم الدور سيأتي زمن لا يتجاوز مائة قرن بتعديل الجيولوجيين، فيه تعود الثلوج وتغطي القسم الأعظم من نصف الكرة الشمالي، فتمسي تلك العواصم المأهولة كبطرسبورج وفيينا وبرلين وباريس ولوندرة ونيويورك.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فيولي أهلها الأدبار من أمام وجه البرد طالبين ملجأ في جنوبي أوروبا، وفي أماكن أخرى على شطوط البحر المتوسط، ويتقهقر الغرب، ويبرد هواء الشرق فيدب النشاط في عروق أهله وتوافيه السعادة بعد الشقاء، وينتقل محور التمدن إليه.
إن البلاد لكالعباد؛ فإنها
تشقى كما تشقى العباد وتسعد
ولنذكر الآن ما استفاده العلماء من الأدوار الجليدية، فالجيولوجيون استفادوا منها معرفة أعمار طبقات الأرض المختلفة بمراقبة ظواهر الجليد فيها، والإنتربولوجيون استفادوا معرفة عمر الإنسان من آثاره فيها، أما الجيولوجيون فتحققوا في نصف الكرة الشمالي ثلاثة أدوار جليدية واضحة، أقدمها في الطبقة الوسطى للأراضي الثلاثية، والثاني في بداية الرواسب الرباعية، والأخير أنهار الجليد الأخيرة في جبال ألبا. وأما الأنثروبولوجيون فالظاهر أنهم وجدوا عظاما بشرية حتى في الطبقة الوسطى للأراضي الثلاثية؛ أي: في أقدم دور جليدي عرف إلى الآن. فإذا أضفنا 21000 سنة مدة رجوع الدور الجليدي مضروبة في 2 عدد الدورين الجليديين الشماليين الأول والثاني إلى 9250 سنة التي مرت من الدور الجليدي الشمالي الأخير إلى القرن الأول للميلاد، كان لنا عمر الإنسان المعروف إلى الآن، وربما كانت الأبحاث المستقبلة تبعد تاريخه عن ذلك أيضا؛ على أننا نقول: إن كل ذلك منقول عن أرباب هذا العلم، فلا نجزم بصحته، بل نتبرأ من تبعته، فلا يهلل المعتقدون ولا يتهلل الجاحدون.
2
ا.ه.
المقالة الرابعة
الاجتماع البشري أو العمران
1
الغاية من الاجتماع البشري، ويسمى العمران أيضا، التعاون على المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه. وذهبت طائفة من الحكماء إلى أن الاجتماع نتيجة الفكر والروية وقصرته على الإنسان، وقال قوم: بل هو طبيعي في الحيوان؛ لما يعهد من اجتماع النمل والنحل والجراد والقرود، كما سنبين ذلك فيما يأتي. وإنما بلغ الغاية في الإنسان؛ لأنه أقومها تكوينا وأبعدها فكرا وأقواها روية. وأجمعوا على أنه ضروري للبشر وإلا لم يكمل وجودهم ولم تتم حياتهم؛ لأن الإنسان مضطر لدفع شرور كثيرة عنه مثل الجوع والعطش والبرد والتعب، وعدوان بعضه على بعض وعدوان الحيوانات الأخر التي تساكنه أرضه وتنازعه الحياة فيها، ولمقاومة قواسر أخرى طبيعية كثيرة. ومحتاج كذلك إلى مواد وآلات يتقي بها هذه الشرور كالقوت والكساء والمساكن والأسلحة، وغير ذلك مما يقتضي أعمالا كثيرة، فإن كان منفردا، فهو لا يستطيع القيام بها جميعا؛ لأن كل عمل منها يستغرق فيه حياة كاملة، وقد لا تفي بجزء منه، فهو لا بد له من الاجتماع وتقاسم الأعمال حتى يتم له التعاون بحيث يكون منه الزارع والصانع والجندي والوازع والمخترع والحكيم، وحتى ينتظم وجوده ويحسن حاله.
ولهذا شبه الحكماء العمران بجسم حي كسائر الأجسام الحية مركب من أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة، وهي سلامة بعضها وسلامة الكل. ووصفه بعضهم وصفا طبيعيا نظيرها كما سيأتي، ولو اقتصر الإنسان على الحياة منفردا ما استطاع أن يتغذى بغير الأثمار أو يكتسي بغير أوراق الشجر يخصفها عليه أو يأوي إلى كهوف الأرض، ولما أمكن له إقامة القصور الشاهقة، وبناء المدن الحصينة، واتخاذ الملابس الحسنة الفاخرة، وطبخ الأطعمة الجيدة اللذيذة، واصطناع الأسلحة المنيعة، ولكان أشبه بالحيوانات العجم، ولما نما إلى هذا الحد، ولكانت حياته أشبه بحياة الكريات الحية المؤلف منها الجسم الحي إذا كانت منفردة. فهو لم يستطع النهوض بهذه الأعمال إلا مجتمعا؛ فحياته الاجتماعية إذن ضرورية لحفظه ولراحته ورفاهيته؛ ولهذا نما فيه هذا الميل للاجتماع إلى حد بليغ جدا حتى وصفه الحكماء بقولهم: الإنسان مدني بالطبع؛ أي: لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم كما يقول ابن خلدون.
ولكي يتم له ذلك لا بد له من سنن تكفله ولا بد من العدل في هذه السنن؛ أي: مراعاة مصالح الجمهور المتبادلة، ولا بد من احترامها كذلك وإلا انفصمت عروة الاجتماع وتداعت دعائمه. لكن لما كان الإنسان كثيرا ما لا يسلك من نفسه الطرق المثلى المؤدية إلى ذلك؛ إما عن عتو وغرور أو عن جهل وذهول، كان لا بد له من إقامة قوة يناط بها المحافظة على المقرر من السنن، والاقتصاص ممن يحيد عن جادتها وإلا آل به الحال إلى الفوضى؛ أي: لا بد له من وازع يكون منه؛ إذ لا يمكن أن يكون من سواه، يدفع عدوان بعضه عن بعض ويهتم بإصلاح شئونه. وقد أشار أرسطو إلى ذلك كله في دائرته المسماة في عرف السياسيين بالدائرة السياسية حيث قال: «العالم بستان سياجه الدولة، والدولة سلطان تحيا به السنة، والسنة سياسة يسوسها الملك، والملك نظام يعضده الجند، والجند أعوان يكفلهم المال، والمال رزق تجمعه الرعية، والرعية عبيد يكنفهم العدل، والعدل مألوف وبه قوام العالم.»
واختلفوا في حقيقة هذه السنن، فذهب قوم إلى أنها الشرع المفروض من عند الله؛ وإلا لم يكن لها وقع في القلوب ولا نهي عن المنكر. وقال غيرهم: بل هي الشرع على الإطلاق؛ وإلا لما اقتضى أن تتم العمارة للبشر قبل الأنبياء ولا لأمم غير تابعة لهم. قال ابن خلدون: «وتزيد الفلاسفة على هذا البرهان، حيث يحاولون إثبات النبوة بالدليل العقلي، وأنها خاصة طبيعية للإنسان، فيقررون هذا البرهان إلى غايته، وأنه لا بد للبشر من الحكم الوازع، ثم يقولون: وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر، وإنه لا بد أن يكون متميزا عنهم بما أودع فيه من خواص هدايته؛ ليقع التسليم له والقبول منه؛ حتى يتم الحكم فيهم وعليهم من غير إنكار ولا تزيف. وهذه القضية للحكماء غير برهانية كما تراه؛ إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتاب المتبعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل الأرض؛ ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلا عن الحياة، وكذلك هي لهم لهذا العهد في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب، بخلاف حياة البشر فوضى دون وازع لهم البتة فإنه يمتنع؛ وبهذا يتبين لك غلطهم في وجوب النبوات وأنه ليس بعقلي، وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة.»
وذهب فريق إلى أن السنن التي اصطلح عليها الإنسان في بادئ اجتماعه إنما هي سنن العوائد، وهي أحكام تكليفية مرعية في المعاملات والمعايش إنما الحكومة لا تشدد في المحافظة عليها، وهي تحصل للناس بالتربية والمحاكاة وتنشأ فيهم عن سليقة، وهي أسبق كل السنن. وذهب سبنسر إلى أنها أصلها جميعا؛ لأنها هي المرعية وحدها عند بعض الأجيال من البشر المنغمسين في التوحش كأهل أستراليا وطسمانيا والإسكيمو، وغيرهم ممن ليس لهم نظامات سياسية ولا دينية، أو هي فيهم أثر من عين. قالوا: وقد كان زمام هذه النظامات السياسية والدينية أولا في يد سلطان واحد ولم ينفصلا إلا بعد حين؛ أي: بعد أن بلغ الإنسان درجة عالية في العمران كما تدل أحوال كثير من أجيال البشر اليوم، وكما يعلم من تاريخ الأمم العظيمة والملل الشهيرة. وذهب المحققون إلى أن السنن ينبغي أن تكون تابعة للإنسان لا متبوعة به؛ أي: أن تكون متغيرة لا ثابتة ومقيدة لا مطلقة حتى تكون نافعة له لا سببا مانعا لارتقائه، وإلا لما قدر الإنسان أن يخطو خطوة عما يفرضه له نظام معلوم، ولبقي في كل عصر وفي كل جيل كما كان في العصر الأول والجيل الأول من اجتماعه؛ لأن كل جيل له سنن لا تصلح لسواه، فإن لم تتغير هي لم يتغير هو. والحق أن أحوال الأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، كما يقول ابن خلدون: إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال، إلا أن هذا التبدل في الأحوال والعوائد والنحل بتبدل الإعصار ومرور الأيام يذهل عنه الكثير من الناس؛ إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة. •••
واختلفوا في طبيعة الحكم الوازع فقال قوم: هو الحكم الملكي المطلق، ورأسه الملك، وقد أشار أنوشروان إلى ذلك حيث قال: «ورأس الكل افتقاد الملك حال رعيته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتى يملكها ولا تملكه.» وقال غيرهم: «بل هذا النظام مفسد للعدل الذي هو أس العمران بما يولي الملك من السلطان المطلق على عماله وعلى رعيته؛ إذ لا يكون لأعماله منتقد ولا لأحكامه معدل، فيعدل إلى الاستبداد في أمور الرعية ويستخدمها لأغراضه الخصوصية. وإذ تستحس الرعية منه بذلك تدين له خاضعة خادعة، ويسود عليها مخضوعا له مخدوعا، فيتقرب له أصحاب الأغراض بالكذب في موضع الصدق وبالإطراء في موضع التنديد؛ لأن الناس متطلعون إلى الدنيا من جاه أو ثروة والنفوس مولعة بحب الثناء. ويسلك معه على هذا المنهاج عماله وتباعه وسائر بطانته، فيحجبون عنه صحيح الأخبار متزلفين إليه بما يزيدهم فيه استئثارا، وفي أحوال الرعية استبدادا.»
حكى أبو الفدا في تاريخه قال: «بينا الخليفة المنصور يطوف بالكعبة ليلا إذ سمع قائلا يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع. فخرج المنصور إلى ناحية من المسجد ودعا القائل وسأله عن قوله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أمنتني أنبأتك بالأمور على جليتها وأصولها. فأمنه، فقال: إن الذي دخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله هو أنت يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: ويحك، وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في قبضتي والحلو والحامض عندي ؟ فقال الرجل: لأن الله استرعاك المسلمين وأموالهم فجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر، وأبوابا من الحديد، وحجابا معهم الأسلحة، وأمرتهم ألا يدخل عليك إلا فلان وفلان، ولم تأمر بإيصال المظلوم والملهوف ولا الجائع والعاري ولا الضعيف والفقير. وما أحد إلا وله من هذا الأمر حق، فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجبي الأموال فلا تعطيها، وتجمعها ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله تعالى، فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا نفسه؟ فاتفقوا على أن لا يصل إليك من أخبار الناس إلا ما أرادوا، ولا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلا أقصوه ونفوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره. فلما انتشر ذلك عنك وعنهم عظمهم الناس وهابوهم، فكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا ليتقووا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم، فامتلأت بلاد الله بالطمع ظلما وفسادا، وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل. فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك، فإن أراد رفع قصة إليك وجدك قد منعت من ذلك وجعلت رجلا ينظر في المظالم. فلا يزال المظلوم يختلف إليه وهو يدافعه خوفا من بطانتك، فإذا صرخ بين يديك ضرب ضربا شديدا؛ ليكون نكالا لغيره، وأنت تنظر ولا تنكر، فما بقاء الإسلام على هذا.
فإن قلت: إنما تجمع المال لولدك، فقد أراك الله في الطفل يسقط من بطن أمه وما له في الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة، فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى يعظم رغبة الناس إليه. ولست الذي يعطي، وإنما الله - عز وجل - يعطي من يشاء بغير حساب. وإن قلت: إنما أجمع المال لتسديد الملك وتقويته، فقد أراك الله في بني أمية؛ ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع حين أراد الله ما أراد. وإن قلت: إنما أجمعه لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق الذي أنت فيه منزلة إلا منزلة ما تنال إلا بخلاف ما أنت عليه.»
فلم يكن بد في مثل هذا النظام من تعظيم شريعة الله والإكثار من الهديد بها تذكيرا للملوك وتهويلا كما فعل الأعرابي المذكور مع المنصور، وكما فعل بهرام بن بهرام في حكاية اليوم حيث يقول: «أيها الملك، إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه.» وإلا قل عدلهم وانتفى صلاحهم وكثر جورهم، وهار بناء ملكهم؛ إذ ليس لهم زاجر سواها؛ لأنهم غير مسئولين فيما عهد إليهم من أمور العبد إلا لله وحده. هذا على فرض أن يكون الملك حليما عادلا فكيف به إذا كان جبارا عاتيا كتيمور الذي كان كلما فتح مملكة أو مدينة يبني من رءوس أهلها هرما. •••
قالوا: ولهذا النظام أيضا أثر لا يحمد في الأخلاق إذ تنحط معه الهمم وتضعف العزائم، وتذل النفوس بما يكثر من الظلم فيسود الرياء ويفشو الكذب؛ لأن الذين يغلب فيهم الظلم يغلب عليهم الرياء حتى يصير فيهم ملكة طبيعية فيقل الصدق؛ لأن القوم الذين يغلب فيهم الرياء هم قوم لا يصدقون ولا يصدقون، فيختل نظام الملك ويسوء حال الرعية وتفقد، على مر الزمان، استقلالها في عالم الوجود. قال أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والمساكن: «لذلك كان أهل آسيا أقل نجدة للحروب من أهل أوروبا؛ لأن أعظم قسم منها تحكمه ملوك، وحيثما كان الناس عبيدا لسواهم فهم لا يهتمون بأن يتمرنوا على السلاح، بل أن يتخلصوا من التجند؛ لأن الخطر غير موزع على السواء. فالرعايا يذهبون للحرب متحملين مشقاتها ويموتون عن سادتهم بعيدين عن أولادهم ونسائهم وأصدقائهم، وسادتهم هم الذين يجنون ثمرة أتعابهم لمد شوكتهم، وأما هم فلا ينالهم غير اقتحام الأهوال والموت. ومما يؤيد ذلك أن جميع الذين في آسيا من اليونان والبرابرة ممن لا سادة لهم، بل هم يتولون الحكم فيهم وعليهم بشرائعهم، ويشتغلون لأنفسهم هم بين سكانها أنجدهم للحروب وأقدمهم على الخطر؛ لأنهم هم الذين يجنون ثمرة بسالتهم ويتحملون عار جبنهم.»
لذلك قالوا: إن الحاكم ينبغي أن يكون مقيدا بسنن تضعها الأمة وأن يكون مسئولا لها بها. وهذا النظام له فوائد جمة؛ أولا أن الحاكم لا يكون معه مطلق التصرف؛ فأحكامه في الأمر والنهي لا تجري إلا إذا كانت مطابقة لوضع السنن المقررة، والتي يحافظ عليها رجال من مشارب مختلفة وآراء متباينة تعهد الأمة إليهم بها، ثم لما كانت احتياجات الأمة تختلف باختلاف أحوالها كان هذا النظام موجبا من هؤلاء الرجال للنظر في هذه السنن لتعديلها من وقت إلى آخر، بحيث تكون موافقة للحال، ويكون ذلك بالاشتراك مع الأمة التي يطلعون على آرائها ومناويها، ويفهمون مقاصدها ومغازيها؛ إذ لا يكون معه حجر على الأفكار.
وهذا الأمر من طبعه أن يثير حربا في الآراء والمذاهب تكون نارها بردا وسلاما على الأمة؛ لأن المضادة التي تنشأ حينئذ تكون نتيجتها إعطاء الأشياء حقها من التمحيص قبل إقرارها، والوقوف فيها عند حد الاعتدال، وإلا إن لم تكن المضادة في الآراء لم يمكن تمحيصها بنار الانتقاد ولا الاعتدال بها؛ إذ تنفرد بها النفوس ويقوى بها التشيع. والنفس إذا خامرها تشيع كان ذلك التشيع غطاء على عين بصيرتها عن الانتقاد، فتجمح إلى ركوب متن الإفراط أو تسقط في مهواة التفريط. ولا يخفى ما لذلك النظام من الأثر في تحسين أحوال الأمة وعلومها وصنائعها؛ لما ينمو فيها من فضائل الحرية القانونية المؤسسة على معرفة الإنسان نفسه، وما يجب له وما يجب عليه في العمران، فتنطبع على الإقدام والقيام بالأعمال الجليلة؛ إذ تنهض منها الهمم وتشتد العزائم، فتمتد شوكتها في الأقطار ويتسع نطاق ملكها.
قال أبقراط أيضا: «ولهذا السبب كان أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا؛ لأنهم لا تحكمهم ملوك نظيرهم، فالخاضعون للحكم الملكي يفقدون الشجاعة ضرورة؛ لأن نفوسهم مستعبدة، فلا يهمهم التعرض للخطر لمد شوكة غيرهم، وإنما تحكمهم شرائعهم؛ لذلك هم إذا رأوا الخطر محدقا بهم أقدموا عليه بجسارة؛ لأن النصر عائده عليهم.» •••
وذهب فريق إلى أن هذا الحكم إنما هو الحكم الملكي المقيد، وقال غيره: بل هذا النظام يشم منه رائحة الاستبداد، وهو محفوف بالمخاطر؛ لأن الملك وإن كانت الأمة تقاسمه الحكم بمن تستنيبهم منها لديه لمراقبة أعماله والذود عن حقوقها، إلا أنه لم يخل من بطانة وعمال يهمهم التقرب له أكثر من القيام بمصالح الأمة، فربما عاونوه على استمالة نوابها إليه إما لذهول هؤلاء عن المقاصد التي ندبوا لها أو لخوف حرمانهم من المناصب بما للملك وخاصته من السطوة والنفوذ، فانقلبت نيابتهم فيها شرا وهدايتهم لها تضليلا وساءت بهم مصيرا. ثم لما كان هذا النظام يخول الملوك حق الولاية بالسلالة كان لا يمتنع أن يتولى منهم من يكون خامل الذكر فاقد الحزم، فتتلاعب به أغراض عماله وتتجاذبه أهواؤهم وهو فاقد الرشد لا يميز غث الأمور من سمينها، فيتطرق الخلل إلى أمور المملكة من وجوه شتى حتى تصبح:
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
وبالجملة ذهبوا إلى أن الحكم الوازع يمتنع أن يكون مقيدا حق التقييد في مثل هذا النظام إلا إذا كان فيه الملك صورة لا حقيقة كما يعهد في بعض الأمم (أمة الإنكليز)، وهي مع ذلك أصلح الناس حالا؛ ولذلك قالوا: لا بد من أن يكون حكم التبديل شاملا لعامة الهيئة من الملك إلى العامل البسيط مع مراعاة جانب الحكمة في هذا التبديل اجتنابا لشر العجلة إذا كان سريعا، فتتبدل الدول ولا تكون فرصة للعمل وفرارا من سوء عقبى الإبطاء؛ لئلا يستبد الرأس الحاكم بالحكم إذا طال عهده وهو قابض على ذمامه، كما وقع لنابوليون. وينتخب الرأس من آحاد الأمة، ويوجب له هذا الانتخاب عندها ما له من الحكمة والدراية بالأمور، فيتعاون مع رجال الحكومة على إتمام الحكم في الأمة وعليها، على قوانين الشورى الحقة، قالوا: وهذا النظام كثيرا ما لا يبرأ من الخلل، إلا أنه أبلغ ما في طاقة البشر إدراكه بالفعل. •••
ومن ينظر في العمران ينبغي ألا يذهل عما للإقليم من الأثر فيه؛ إذ لا يستوي العمران في كل الأصقاع لاختلاف طبائع أقاليمها، ولا في كل الأجيال لاختلافهم في الخلق والخلق. وسبب ذلك لأن الإنسان متأثر لعامة الأسباب الطبيعية من حر وبرد وهواء وخصب وجدب ونجد وغور وجبل وسهل وبادية ومصر واختلاف فصول، وغير ذلك ما بين اعتدال مزاج واختلاف تكوين وشدة واسترخاء وحزم وثبات وطيش وخفة وخشونة ولين ونشاط وتوان وغفلة وذكاء وبلادة. وكل ذلك يؤثر في عاداته وسياساته ونحله، ويؤثر بعضه في بعض أيضا، بحيث تختلف النتائج عن ذلك اختلافا جسيما، وتتنوع إلى ما لا حد له. فإنك إذا قابلت بين سكان صقع وصقع تجد بينهم بونا عظيما في التكوين والأخلاق والسياسات والعادات، وكذلك الأجيال الواحدة تختلف في الأحقاب المختلفة، وسكان البلد الواحد يختلفون فيما بينهم حتى لا تكاد ترى اثنين يشبه أحدهما الآخر بسبب ذلك.
وربما أمكن الحكم على طبائع كل قوم من طبائع إقليمهم بقطع النظر عن تاريخهم؛ لأن متولدات كل إقليم هي شبيهة به؛ لذلك كان اليونان الأقدمون في عصر الميثولوجيا يصلون آلهتهم نار الحرب، وكان أكثر شعرهم حماسيا كما جاء في ديوان شاعرهم أوميروس؛ لأن شعر كل قوم مرآة حال ذلك القوم؛ ولذلك أيضا كان المصريون القدماء يعبدون التمساح وغيره من أصناف الحيوانات العجم؛ ولهذا السبب عينه كان أهل بريطانيا يغلب على طباعهم الجد وعلى تصوراتهم العبوسة، كما يظهر من تصورات شاعرهم «ملتن»؛ ولهذا السبب أيضا كان العرب وأهل إيطاليا وإسبانيا يصبون إلى الألحان الشجية، ويميلون إلى الغزل والتصابي في شعرهم. وما كان بين ذلك كانت طباع أهله بين ذلك أيضا، ولا يمكن الإطلاق في مقام التقييد؛ لأن أسبابا أخر كثيرة عامة وخاصة إذا اشتركت مع ذلك لم تبق هذه النتائج على حالها، بل غيرت من أمرها، وبدلت تبديلا كبيرا. •••
وممن تمعن من الأقدمين بما لطبيعة هذه الأسباب من الأثر في طبيعة الأرض وسكانها أبو الطب أبقراط. قال في عرض كلام له في هذا المعنى ما نصه: «إن آسيا تختلف اختلافا عظيما عن أوروبا بطبائع محاصيلها وسكانها، فكل ما ينبت في آسيا أقوم خلقا وأعدل خلقا، وسبب ذلك اعتدال فصولها؛ فإنها لوقوعها بين شروقي الشمس (الشتوي والصيفي) هي معرضة للحر بعيدة عن البرد، وهذا هو سبب خصبها وجودة محاصيلها واعتدال إقليمها. وهي ليست متساوية في كل الأماكن، فما كان منها واقعا متوسطا بين الحر والبرد كانت أثماره أخصب، وأشجاره أجمل، وهواؤه أرق، ومياهه مطرا كانت أم ينابيع أصح؛ إذ ليس فيه زيادة حر تحرقه، ولا قلة مياه تيبسه، ولا برد قارس يميته، بل هو دائما ندي بسبب أمطاره الغزيرة وثلوجه الكثيرة؛ فأرضه لذلك كثيرة الخصب زرعا مزروعا كان أم نباتا تنبته الأرض من نفسها، وحيواناته كبيرة كثيرة النتج، وسكانه سمان وأشكالهم جميلة وقاماتهم معتدلة، وقلما يختلف أحدهم عن الآخر. وهذه القارة أيامها أشبه بالربيع لاعتدال فصولها، إنما ليس لأهلها بسالة الرجال، ولا الصبر على الملمات، ولا الثبات في الأعمال، ويغلب عليهم حب اللذات. وأمم أوروبا تختلف بعضها عن بعض بالقد والشكل لشدة اختلافات فصولهم وكثرتها.» إلى أن يقول: «لذلك فيما أرى كان أهل أوروبا يختلفون فيما بينهم أكثر من أهل آسيا، وكان أهل البلد الواحد يختلفون في القد؛ لأن تكوين الجنين يختلف في إقليم تكثر فيه اختلافات الفصول أكثر من إقليم تتشابه فصوله، وكذلك يحصل في الأخلاق؛ لذلك كان أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا.» ا.ه. •••
وكذلك تكلم الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب القانون، وقد نحا نحو أبقراط في ذلك حتى يظن في أماكن كثيرة أنه نقل عنه. قال في أرجوزته متكلما عن سبب اختلاف اللون في البشر:
بالزنج حر غير الأجسادا
حتى كسا جلودها سوادا
والصقلب اكتسبت البياضا
حتى غدت جلودها بضاضا
وممن أفاض في هذا الموضوع ابن خلدون في مقدمته، حيث بسط الكلام على تأثير الحر والبرد والهواء والقوت والمكان، وغيرها بما لا يعهد له مثيل إلا عند علماء طبائع الحيوان اليوم. قال من كلام طويل له في ذلك ما نصه: «وفي القول بنسبة السواد إلى «حام» غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات؛ وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب؛ فإن الشمس تسامت رءوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها، ويلح القيظ الشديد عليهم، وتسود وجوههم لإفراط الحر.» إلى أن يقول: «وليست هذه الأسماء لهم من قبل انتسابهم إلى آدمي أسود، لا حام ولا غيره.» ثم يقول: «ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس، شمل سكانهما أيضا البياض عن مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال؛ إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرئي العين أو ما قرب منها، ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها فيضعف الحر فيها، ويشتد البرد عامة الفصول، فتبيض ألوان أهلها وتنتهي إلى الزعورة، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العين وبرش الجلد وصهوبة الشعر.»
وهذا التعليل ربما لا يوافقه فيه كثير من العلماء اليوم؛ لأنه لم يتحقق لهم أثر الحر والبرد في توليد اللون. فقد ذكر «كنوك» نقلا عن «سميث» أن الهولانديين الذين قطنوا أفريقيا الجنوبية لم يتغير لونهم في مدة ثلاثة قرون، وذهب «دي كاترفاج» إلى أن طوائف النور واليهود لم يتغيروا مع أنهم منتشرون في عامة الأقاليم من عهد طويل. والصحيح أنهم لم يتغيروا تغيرا مهما إلا أن هذه الأدلة لا تفيد شيئا عظيما ضد هذا الأثر؛ لقصر الأحقاب المذكورة بالنسبة إلى الأعصار المتطاولة التي توالت على الإنسان، وبالنظر لما للإنسان من الاقتدار على تغيير الأحوال الطبيعية وتحويل أثرها فيه لما يناسبه. وربما كان هناك أسباب أخرى أيضا، كالانتخاب الطبيعي والجنسي كما يذهب داروين، والقوت والأمراض وغير ذلك. والحق أن التعليل عن لون البشر لا يزال غامضا، إلا أنه لا ينكر أن لضوء الشمس والحر كسائر الأسباب الطبيعية أيضا أثرا فيه؛ لما يعلم من تأثر المادة الملونة للجلد (والموجودة في جلد البشر عموما) تبعا لطبيعة الإقليم، بحيث يزيد إفرازها ويقل بحسب حر الإقليم وبرده، كما يقول المشرح صابي. •••
ثم يصف ابن خلدون تأثير ذلك في الأخلاق ، فيقول: «ومن خلق السودان على العموم الخفة والطيش وكثرة الطرب، فتجدهم مولعين بالرقص على كل توقيع، موصوفين بالحمق في كل قطر. والسبب الصحيح تأثير الإقليم والحر.» إلى أن يقول: «ونجد يسيرا من ذلك في أهل البلاد الجزيرية من الإقليم الثالث؛ لتوفر الحرارة فيها وفي هوائها؛ لأنها عريقة في الجنوب عن الأرياف والتلول. واعتبر ذلك أيضا في أهل مصر، فإنها في مثل عرض البلاد الجزيرية أو قريب منها، كيف تغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب، حتى إنهم لا يذخرون أقوات سنتهم ولا شهرهم، وعامة أكلهم من أسواقهم.» أقول: وربما كان لعدم إذخارهم القوت سبب آخر غير الغفلة التي أشار إليها ابن خلدون؛ فلا يخفى أن ما ينشأ في بلاد باردة من انقطاع المواصلة بين أهلها بسبب البرد والمطر والثلج يولد في سكانها الحيطة خوفا من ذلك، فيدخرون أقواتهم لسنة، بل ولأكثر من سنة، بخلاف سكان البلاد التي يندر مطرها ويقل بردها، فهم لا يرون لزوما لأن يحتاطوا لأمر لا يخشون وقوعه.
وقد ذكر تأثير الخصب والجدب بما ينطبق على قولنا: «وسكان بلاد لينة التربة كثيرة السهول والبطاح كثيرة الخصب واسعة الرزق، قلما يحتاجون إلى جهد البدن والعقل للحصول على الرزق والإثراء؛ فإن أرضهم تنبت ما يكفيهم، وربما ثبطت منهم الهمم بقدر سعة العيش مثل بلاد مصر؛ فإن نيلها يفيض التبر، وأرضها تنبت الذهب.»
ومن عجيب ما ذهب إليه في هذا الباب - مما لو اطلع عليه علماء طبائع الحيوان اليوم لأثبتوا له السبق على «داروين» و«لامرك» في مذهبهما بأحقاب متطاولة، وإن لم يقصد ذلك نظيرهما - هو قوله: «واعتبر ذلك في حيوان القفر ومواطن الجدب من الغزال والنعام والمها والزرافة والحمر الوحشية والبقر، مع أمثالها من حيوان التلول والأرياف والمراعي الخصبة، كيف تجد بينها بونا بعيدا في صفاء أديمها، وحسن رونقها وأشكالها، وتناسب أعضائها، وحدة مداركها؛ فالغزال أخو المعز، والزرافة أخت البعير، والحمار والبقر أخو الحمار والبقر، والبون بينها ما رأيت؛ وما ذاك إلا لأجل أن الخصب في التلول فعل في أبدان هذه من الفضلات الرديئة والأخلاط الفاسدة ما ظهر عليها أثره، والجوع لحيوان القفر حسن في خلقها وأشكالها ما شاء.» •••
إلا أنه، أي ابن خلدون، وإن كان قد أشبع الكلام في أثر الأسباب الطبيعية، إنما لم يذكر تأثير الأسباب الأدبية كما فعل أبقراط، ولا يخفى ما لهذه الأسباب من شديد الأثر في ذلك. والحق يقال إنه يصعب استيفاء الكلام في هذا الموضوع جملة ومبوبا ولو في مجلدات ضخمة؛ لكثرة هذه الأسباب وامتزاجها واختلاف نتائجها بحسب ذلك مما لا يقع تحت ضبط كما أشرنا إليه فيما تقدم.
فهذه الأسباب الطبيعية والأدبية، مع ما يعرض لها من الامتزاج والاختلاف، إنما تؤثر تأثيرا شديدا في العمران لشدة تأثيرها في الإنسان، وهذا هو السبب في عدم تساوي البشر في صفاتهم ونظاماتهم وعلومهم وصنائعهم ولغاتهم وسائر ما يتعلق بهم، بعدم استواء الأسباب المؤثرة في طبائعهم وأخلاقهم. إنما لم يكن يمتنع إصلاح أحوالهم بالأسباب الأدبية؛ لما للإنسان من الاقتدار بها على التأثير في الأسباب الطبيعية نفسها، وجعلها أصلح الأحوال له؛ لأن الإنسان وإن كان منفعلا لهذه الأسباب بحسب طبيعتها، إلا أنه قادر كذلك على تغييرها وتبديلها، واتقاء شرها واستدرار خيرها، بما له من حدة المدارك وقوة الاستنباط؛ لذلك كان من الواجب عليه ألا يغفل شأن معدات التربية العقلية كالتعليم والنظامات السياسية وسواها؛ لئلا يفقد بفقد الصالح منها عامة فوائد العمران، ويسقط في مهاوي التهلكة والخسران.
المقالة الخامسة
تاريخ الاجتماع الطبيعي
كلما ارتقى الإنسان في العلوم الطبيعية قلت الحاجة به إلى إجهاد القوى العقلية، والالتجاء إلى العلوم الجدلية، والتعطش إلى قراءة الأقاصيص الخيالية الخرافية والتحليلية المزعوم أنها وصف حقيقي للعواطف، وأصبح شأنها حقيرا، وهو اليوم يحسبها من صناعات الآداب الراقية، وما هي بالحقيقة إلا من مختلقات الوضع المناقضة للطبع، والتي ضررها اليوم أشد جدا من ضرر الفلسفة القديمة، ومن ضرر علم الكلام وعلم اللاهوت في العصور المظلمة؛ لأنها طمت على الاجتماع كالسيل الجارف حتى أغرقته فيها، وما كان فضل فرنسا في ثورتها الاجتماعية السياسية ليعادل ضررها بعد ذلك في منهجها هذا النهج، وهي عماد هذه الأقاصيص اليوم. ***
تقدم القول في مقالة «الاجتماع البشري والعمران» أن من الناس من يذهب إلى أن الاجتماع نتيجة الفكرة وحدها وخصه بالإنسان، ومنهم من يذهب إلى أنه طبيعي فيه وأطلقه على الحيوان. أما الأول فقول أكثر الحكماء المتقدمين، وأما الثاني فقول أكثر الحكماء والطبيعيين المتأخرين. وسترى مما نبسطه لك فيما يأتي أي القولين أحق وأولى.
إن البحث في العمران لم يكن في القديم إلا من هم بعض الحكماء، ولم يبن على قواعد راهنة إلا في هذا العصر وقريبا من هذا العهد، وعما قليل سيصير درس سننه من أول الضروريات للإنسان؛ لأن ارتقاء الإنسان في التمدن له نتيجتان لازمتان، وقد طالما عدهما الناس متناقضتين، وهما نمو الحياة الشخصية ونمو الحياة الاجتماعية معا. فقد كان الاعتقاد سابقا أن ما يبذله الفرد في مصلحة الجمهور إنما يبذله من مصلحة نفسه وبالعكس، ولم يكن يظن أن بين المصلحتين ارتباطا شديدا؛ ولذلك كانت شرائع البشر في القديم أشد انحرافا لجانب الاستبداد، وأقل احتراما لجانب العدل في التعاون والاشتراك في المنفعة، ولم تنجل هذه الحقيقة كما ينبغي إلا في هذا العصر؛ أي بعد أن رسخت معارف البشر في العلوم الطبيعية، وانجلى لهم بها ارتباط سنة هذا الكون، فرأوا اتفاقا حيث كان سواهم يرى انفصالا. فرأوا مصلحة الفرد مرتبطة بمصلحة الجمهور وبالعكس ارتباطا شديدا، حيث لا تتم حياة الواحد إلا بحياة الآخر؛ لأنهم رأوا السنن الفاعلة في الاجتماع نفس السنن الفاعلة في الأفراد.
ولذلك قالوا: إن الاجتماع لا تتم معرفة طبيعته وسننه إلا بمعرفة طبيعة الأفراد وسننها، كما أن الجسم الحي لا تتم معرفة سننه إلا بمعرفة سنن الكريات الحية التي يتركب منها؛ لأن كل صفات الاجتماع في الخلق والأخلاق متصلة إليه من الأفراد التي تؤلفه، وكل صفات الأفراد كذلك متوارثة فيهم ومنتقلة إليهم من الاجتماع. فإذا استقرينا هذه السنن في تاريخ نشوئها إلى أصلها الطبيعي خالين من الغرض والتشيع، انتقل بنا البحث في الاجتماع من دائرة الشريعة والسياسة إلى دائرة علم الحياة، ودخلنا في قسم من العلم الاجتماعي يمكن تسميته تاريخ الاجتماعات الطبيعي؛ لأن البحث حينئذ لا يقتصر على الحكم الوازع والاجتماعات السياسية، بل يعم الاجتماعات البشرية كافة، حتى الاجتماعات الحيوانية أيضا.
ولا يخفى ما يترتب على معرفة ذلك من الفوائد للعمران؛ لأن الفائدة إنما تحصل للعمران إذا جرى الإنسان فيه على سننه لا على ضدها، والبحث فيه على هذه الصورة واجب؛ ليعلم أي السياستين أولى به؛ آلسياسة الحرة أم السياسة الاستبدادية؟ وذلك أول ما يعول عليه أصحاب العقول الحرة لتأييد آرائهم؛ لأن أصدق الأدلة التي يجب الاعتماد عليها هي من العلوم الطبيعية، ثم إذا استقرينا هذه السنن إلى أصلها أيضا انتقل البحث بنا ضرورة إلى العلوم الطبيعية؛ لأن السنن الفاعلة في الكريات الحية هي نفس السنن الفاعلة في جواهرها الفردة؛ ولذلك كان البحث في علم الاجتماع - تاج العلوم البشرية - من أعظم المباحث لمعرفة سر الحياة الكلية المستولية على عامة سنن الكون. •••
وتشبيه العمران بجسم حي قديم جدا؛ فالفلاسفة المتقدمون كأفلاطون وأرسطو شبهوه بحيوان كثير الرءوس، وفلاسفة القرن الثامن عشر كشكسبير وروسو وصفوا له أعضاء أيضا، ولكن هذه المشابهة مجازية عند أكثر المتقدمين، قياسية عند أكثر فلاسفة القرن الثامن عشر، وتعتبر مشابهة بالمطابقة اليوم؛ فإن «سبنسر» الإنكليزي لا يفرق بين سنن الاجتماع وسنن الحياة، و«شفل» الألماني يصف الجسم الاجتماعي كأنه يصف حيوانا وصفا طبيعيا، فيصف الخلية الاجتماعية، أي العائلة، والأنسجة الاجتماعية وأعضاء الاجتماع وروح الاجتماع، و«جيجري» يجعل الاجتماعات بين الأحياء في كتاب له في الحيوان، ويصفها وصفا طبيعيا. وغيرهم ممن حذا حذوهم في هذا العصر كثير. فلنبحث معهم لنرى أولا: هل يصح تشبيه العمران بجسم حي؟ وهل السنن الفاعلة في الجسم الحي كالحيوان هي نفس السنن الفاعلة في العمران؟
فالجسم الحي مركب من أعضاء مختلفة، ولكل عضو من هذه الأعضاء عمل خاص ومشترك معا؛ أعني أن العضو الواحد يعمل غير ما يعمل الآخر، ويعمل له في آن واحد؛ فإن المعدة مثلا تعمل غير ما يعمل القلب ، والقلب غير ما يعمل الدماغ، وكل من الدماغ والقلب والمعدة لازم للآخر. وكذلك العمران، فإنه مركب أيضا من أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة؛ فالزارع يعمل غير ما يعمل الصانع، والصانع غير ما يعمل الوازع، وكل من الوازع والصانع والزارع لازم للآخر؛ فهو من هذا القبيل كالحي تماما. ولا تقتصر هذه المشابهة على الصفات الخاصة فقط، بل تتناول العامة أيضا؛ فقد قال سبنسر، وقوله حق: «إن القوى الكبرى في حيوان تام التركيب ثلاث، وهي: الغاذية، وأفعالها تهيئة الغذاء، وآلاتها المعدة والكبد وما يتلوهما. والمدبرة، وأفعالها تحصيل الغذاء، وآلاتها الدماغ والأعصاب وما يتلوها. والموزعة، وأفعالها توزيع الغذاء، وآلاتها القلب والشرايين وما يتلوها. وإن القوى الكبرى في العمران ثلاث كذلك، وهي: الصناعة، وأفعالها الاعتمال للمعاش. والحكومة، وأفعالها تحصيل أسباب هذا المعاش. والتجارة، وأفعالها توزيع هذا المعاش.» •••
ولقائل يقول: إذا كان هذا التركيب شرطا لازما للحياة، فهل يلزم منه أن تكون كل آلة مركبة حية؟ وهل الساعة حية؛ فإنها مركبة من آلات أو أعضاء مختلفة تعمل لغاية واحدة كذلك؟ فعلى ذلك نجيب أن الفرق بين الآلات الطبيعية الحية والصناعية غير الحية هو أن الأولى ذات أعضاء، حتى في أهم أجزائها تعمل لحفظ الكل نظيرها، بخلاف الثانية؛ فإن أعضاءها نفسها غير مركبة من أعضاء مختلفة نظير تلك، ولا تفعل فيها نظير فعلها؛ أي إنها لا تعمل عملها من نفسها لحفظ الكل، بل بالضد من ذلك، فهي تميل دائما إلى إبطال هذا العمل. وهذا ما يمتاز به الحي عن غير الحي؛ ولذلك لم تكن الساعة حية، وأما العمران فحي؛ لأن كل عضو منه مركب من أعضاء أخرى تعمل نظيره لحفظ الكل كما في الجسم الحي، فكل حيوان مركب من حيوانات أخر أقل منه في التركيب. فإن الكريات الحية التي يتألف من مجموعها جسم كل حي، إنما هي أشخاص حية ذات حياة خاصة بها، ولها أميالها وشهواتها وأمراضها، كأنها أفراد البشر الذين يتألف من مجموعهم جسم العمران. والحيوانات الدنيا كالمفصلة والديدان يمكن تقسيمها إلى أجزاء تبقى حية بعد التقسيم كأنها مملكة تقسمت، بخلاف الآلات الصناعية. ورب معترض يقول: «إن ذلك لا يمكن في الحيوانات العليا.» فنجيب أن في إمكان بعض أجزاء هذه الحيوانات أن يبقى حيا بعد موت الحيوان كالأظفار والشعر، ويمكن فصلها كذلك من حيوان وإلصاقها بحيوان آخر حيث تبقى حية،
1
فهي أشبه شيء بأمة أضيفت إلى أخرى. وإذا كانت الحيوانات العليا لا تستطيع أن تبقى حية بعد تقطيعها إلى حد معلوم، فذلك لأن اختصاص الأعمال فيها أتم منه في الحيوانات السافلة؛ فهي أشبه شيء باجتماعات بعض أنواع الحيوان التامة الانتظام كالنمل؛ فإن المتعود منها على تحصيل قوته بواسطة غيره يموت إذا فصل عن البعض الآخر. •••
وهذا التعاون بين أعضاء الأجسام الحية، بحيث إن الواحد يعمل لنفسه وللكل في آن واحد، جر معه قضيتين فاسدتين في حقيقة الحياة؛ إحداهما تتعلق بالسبب والأخرى بالغاية. أما الأولى فيفرض فيها أن كل جزء من الأجزاء الحية له فوق ميله الخاص قوة خاصة تتولى أمره بالنسبة إلى نفسه وإلى غيره، وهي القوة الحيوية التي عضدها رجال من أهل المكانة في العلم. والحق أنه لا يفهم بماذا تختلف هذه القوة عن سواها من القوى التي توهموا وجودها قديما، ككراهة الطبيعة للفراغ والقوة النابضة للشرايين، وغيرهما من القوى التي عدها القدماء أنيات مجردة مستقلة، حتى أبان العلم فساد ذلك؛ إذ لم ير فيها سوى أسباب طبيعية متصلة ومرتبطة بعضها ببعض. وأما الثانية وهي الغاية، فيفرض فيها على ما يظهر أن كل جزء من الحي موفق للكل بقوة عاقلة كائنة فيه أو خارجة عنه. فإن كان هذا هو المفروض حقيقة فالعلم اليوم في غنى عنه؛ لإمكان تعليل المطلوب بأوفى بيان على وجه لا يقتضي هذا الفرض، فإن هذا التعاون الذي فيه يخدم الواحد الكل والكل الواحد إنما هو نتيجة تفاعل متبادل بين الأعضاء، فالعضو الواحد لا يهتم بغيره، ولا يشتغل إلا لخير نفسه، وإنما خيره مرتبط بخير غيره.
والأمر بالحقيقة كذلك، فإنه لا شيء أطمع من الكريات الحية التي تؤلف الجسم الحي؛ إذ كل كرية تطلب كل شيء لنفسها وتجذبه إليها، والحياة ليست سوى اكتفاء هذه المطامع. فالناظر إلى النتيجة لا جرم يظن، في أول الأمر، أن كل كرية إنما اشتغلت لسواها، وهي في الواقع لم تشتغل إلا لنفسها بدون غاية سوى حفظ ذاتها، وهذا كائن ضرورة بحفظ سواها، ومرتبط به ارتباطا ميكانيكيا؛ ولذلك قال بعض الباحثين في العمران إنه ينبغي لكل واحد من البشر أن يشتغل لخير نفسه، فيشتغل لخير الكل. ولا يخفى أن تنازع البقاء، كما هو مذهب داروين، يجعل بين هذه الكريات التي هي بالحقيقة حيوانات صغيرة تنازعا شديدا، تكون نتيجته ملاشاة البعض العديم المناسبة، وحفظ البعض الآخر المناسب لحياة الكل بالانتخاب الطبيعي. فتأخذ الكريات بذلك صورا معلومة، وتؤلف حيوانا معلوما. وهكذا على مر العصور ليس فيها شيء ثابت ثبوتا مطلقا، بل كل شيء فيها في حال المصير. فالتعاون بين أعضاء الأحياء ليس قصدا، وإنما هو نتيجة لازمة فقط. •••
وإذا تقرر ذلك فلننتقل من اجتماعات الكريات الحية الصغيرة التي تؤلف الأحياء الكبيرة إلى اجتماعات البشر التي تؤلف الأمم، فإننا نجد في الاجتماع البشري نفس ما في كل حي؛ أعني الميل الباطن لحفظ الذات، والتفاعل الظاهر مع الأشياء التي من خارج بما في ذلك من تنازع البقاء والانتخاب الطبيعي. وإذا كان ذلك حياة فالعمران حي أيضا كالنبات والحيوان، بل حياته أتم من حياتهما؛ لأنه إذا كان هناك قصد فإنما هو في الاجتماع البشري؛ لأن هذا الاجتماع يدرك حاجته ويقصد غايته الخاصة والعامة معا، وهذا الفرق نسبي أيضا كارتقاء سلسلة الأحياء بعضها عن بعض.
وقد اعترض بعضهم على هذه المشابهة بين جسم الحي وجسم العمران، فقال: «إن أعضاء الحي متصلة، وأعضاء العمران منفصلة.» وهو اعتراض ساقط وقول منقوض؛ لأن أجزاء العمران غير منفصلة حقيقة، وإلا لزم القول بالفراغ، كما أن أجزاء الحي غير متصلة كذلك. وإذا كان بينهما فرق في ذلك فإنما هو في بعد المسافات بين الأجزاء فقط كالفرق بين جسميهما؛ فإن جسم العمران أكبر من جسم الحيوان، وهو فرق نسبي لا يصح أن يكون اعتراضا. واعترض غيره اعتراضا يتعلق بالزمان، فقال: «إن الحي يولد ويحيا ويموت بعد أن يمر بأسنان معلومة، والعمران وإن كان يولد ويحيا كذلك إلا أنه [في زعمه] لا يموت.» وهو غير صحيح أيضا؛ لأن الأمم والشعوب التي تتولد في العمران تهرم وتموت أيضا، والفرق بين العمران والحي في طول العمر فقط، والعمران لم يتجاوز بعد سن الصبا، وربما كان المستقبل يتهدد العمران كله بالهرم والموت ككل حي سواه؛ إما لتغلب نوع آخر من الأنواع الحية عليه، وإما لتغير أحوال أرضه التي هي مهد حياته، فيعرض لها من القواسر الطبيعية ما يفرق اتصالها ويبدد أجزاءها ويلاشي نظامها، فيموت الاجتماع البشري ضرورة. على أن الأرض ككل شيء سواها لا تتلاشى حقيقة، وإنما تتقلب أحوالها وتتبدل أشكالها وتتفرق أجزاؤها في محيط هذا الكون، وتتحول من حال إلى حال، وتبعث من صورة إلى صورة متحركة على الدوام ومنتقلة في الزمان والمكان، وهذا هو بالحقيقة الموت.
وما الموت إلا عودة بعد بدأة
وما البعث إلا بدأة بعد عودة
ولكنه موت لنا عن وجودنا
وبعث لأشتات لنا لا لجملة
سكون لمن قد مات منا وراحة
وإن لم يكن فيه له من سكينة
فترى مما تقدم أن المشابهة في الخلق بين العمران والحي تامة من كل الوجوه، وفيما يأتي سنبحث عن هذه المشابهة بينهما في الأخلاق. •••
وإذا انتقلنا من النظر إلى الكليات الكبرى المتعلقة بالعالم أجمع، والمترتبة على تشبيه الاجتماع بالحي كما مر آنفا، إلى النظر فيما اختص منها بالاجتماعات البشرية؛ كان لنا من ذلك نتائج تختص بالسياسة ذات بال، نقتصر منها في هذا المقام على ما هو أهم.
أولا:
أن ارتباط أعضاء الجسم الاجتماعي بعضها ببعض على الصورة التي ذكرنا يجعل التأثير الواقع على العضو الواحد يمتد ضرورة إلى سائر الأعضاء. فالشارع كالطبيب يلزمه أن يكون حكيما في مداواة علل الجسم الاجتماعي؛ لئلا يداوي علة في عضو فيحدث علة في عضو آخر. فالالتفات إلى طائفة من الناس وترك ما سواها ينمي الملتفت إليها جدا ويضعف المتروكة، فتفقد النسبة بين أعضاء الاجتماع؛ إذ تصبح فيه على طرفي الضعف والقوة فيختل نظامه، ويئول به الحال إلى السقوط والاضمحلال.
ثانيا:
إذا كانت الاجتماعات أجساما طبيعية لا صناعية، وكان الاجتماع نفسه حاصلا لزوما لا عارضا؛ أفلا يستدل من ذلك على ما يكون من سوء العقبى للإصلاحات العنيفة الجارية على غير المجرى الطبيعي؛ أي الناشئة عن غير تغير الإرادة العامة تغيرا ذاتيا؟ فالحي لا يستطيع أن يحتمل تغييرا مهما ما لم يكن هذا التغيير موافقا لأميال أعضائه غير مختلف عن طبيعته. ولقد تقدم أن الاجتماع حي متراض؛ أعني أن الذي يجمع أعضاءه ويربطها بعضها ببعض ليس الملاصقة البسيطة، وإنما هو الرابط الإرادي. وهو بمثابة الرابط الميكانيكي؛ لأنه يوجد رابط عقلي بين أهل المدنية، وهو بمثابة الرابط الميكانيكي بين الكريات؛ ولذلك وجب أن يكون التغيير الحاصل في الاجتماع موافقا لإرادة الجمهور أو للقسم الأكبر منه. والإصلاح الملقى على عاتق الاجتماع، ولا يقصد منه إلا خير البعض، أو هو ناشئ عن إرادة البعض فقط، إنما هو إصلاح صناعي أو قسري؛ أي غير طبيعي، جيء به قبل وقته، ويخشى من عواقبه. وبالضد من ذلك، كل إصلاح جزئي أو كلي ناشئ عن التراضي والاتفاق بين كثيرين أو بين الكل، فهو إصلاح طبيعي قانوني. والفرق بين الطبيعي والصناعي ظاهر كالصبح؛ الأول موافق للطبيعة والثاني مضاد لها. وبما أن الإنسان طبيعي في الأصل كان كل ما يسير به على غير المجرى الطبيعي غير نافع له، بل مضر به؛ فسياسة الاجتماعات العاقلة ينبغي أن تكون طبيعية لكي تكون نافعة؛ أي يلزم أن تكون موافقة لإرادة الجمهور ولميله، وإلا لم تحمد عائدتها؛ لأن الأمر الجاري مجرى لا يوافق إرادة أعضاء الاجتماع إنما هو جار على غير وفق الإرادة الحيوية التي هي الرابط للجسم السياسي.
ثم لما كان إجماع الإرادات في العمران على أمر غير ممكن غالبا، وكان القسم الأكبر يبقى معه عدد قليل من الناس غير موافق له؛ كان لنا من ذلك قاعدة ثالثة في السياسة، وهي ضرورة التدرج في الانتقال من حال إلى حال، بحيث لا تكون المباينة بين القديم والحديث والحاضر والمستقبل كلية، وإلا اعترض الانتقال موانع لا تقاوم ولا تحمد معها النتيجة. وتشتد الحاجة إلى هذا التدرج كلما كانت النتائج الجامعة للإرادات السابقة كالعوائد والاعتقادات أشد وأرسخ. والحاصل أنه يصعب جدا في جسم كبير كالحيوان الاجتماعي تغيير الجسم كله دفعة واحدة؛ للزوم استعداده إلى الأحوال الجديدة بتوفيقه لها شيئا فشيئا. قال سبنسر: «إن الضرر الذي يلحق بالاجتماع من نزع شرائعه القديمة قبل إحكام شرائعه الجديدة حتى تصلح لأن تقوم مقامها، ليس أقل من الضرر الذي يلحق بحيوان من جنس ما يعيش بين الماء واليابسة إذا نزعت خياشيمه قبل أن تكمل رئتاه. فالنتيجة الكبرى المتحصلة من فيسيولوجيا الاجتماعات إنما هي تفضيل النشوء على الثورة. وأعظم وسائط الارتقاء بالنشوء إنما هو الاتفاق الذي لا يقرر شيئا إلا تدريجا، وبعد أن يتم التراضي عليه.» •••
ولا ينبغي أن يفهم من ذلك أن الثورات مضرة في جميع الأحوال، كما يزعم بعض المؤرخين؛ لأنه توجد أحوال خاصة لا يمكن تخلص الجسم المتواني والمريض فيها إلا بثورة فيسيولوجية كبحران مثلا، أو نوبة حمى تخلصه من خطر الموت. وهذا يدلنا على أن الاجتماع لا بد له في بعض الأحوال من ثورة تخلصه من خطر الهلاك. ويلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعداد باطن، كأنها اتفاق خفي بين أعضائه موافقة لأمياله؛ أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكون قانونية، وإلا انقلبت شرا عليه. والثورة التي تكون كذلك هي ثورة لا تغلب ولا تقاوم؛ لأنها ليست من أفعال الآحاد، بل هي عبارة عن تخلص الجسم كله مما ثقلت وطأته عليه تخلصا طبيعيا قانونيا؛
2
لأنها ليست بالحقيقة سوى فعل سريع لقوى متجمعة تجمعا بطيئا في زمن طويل، أشبه شيء بالزوبعة التي تتجمع في سنين كثيرة ولا تثور إلا في يوم واحد، ثم تهجع؛ ولذلك يقال إن النشوء هو القاعدة، وأما الثورة فأمر شاذ رديء غالبا، وإن كان قانونيا نافعا أحيانا. •••
فيرى مما تقدم أن كلا من نصراء الثورة والمحافظين يجد في التاريخ الطبيعي سندا لمذهبه، واتفاقهما إنما هو في الحرية، والحرية نتيجة لازمة متحصلة للسياسة من علم الحياة. فأهل الاستبداد الذين يعتمدون على العنف والقوة لا شك أنهم يجهلون الصفة الحية للاجتماع، ويعدونه كآلة مصطنعة، ويتصورون النظام الاجتماعي كالنظام المادي غير الحي. ففي الآلات المصطنعة غير الحية لا تجتمع الأجزاء بعضها إلى بعض إلا بقوة خارجة عنها غير مستقرة فيها، تحفظها ساكنة أو تحركها، والوحدة الظاهرة فيها آتية من الصانع، وهي في الصورة فقط لا في الحقيقة؛ فإن طبيعة العناصر فيها لم تتغير، فالخشب يبقى خشبا والحديد حديدا، والأجزاء المختلفة لا تتمم العمل المطلوب إلا قهرا بسلسلة أفعال قهرية، وكل جزء ميال من نفسه لإبطال فعل الآخر، وإذا كان بينها تعاون أو ظاهر اتفاق فإنما هو على ضد طبيعتها ولا يدوم. وكل نظام ملقى قهرا غير مرتضى به لا بد من أن يختل، وهو تضام الأشياء المادية لا الحية، والسلام الظاهر والحالة هذه أشبه شيء بسلام مدينة دخلها العدو؛ فإنه لا يدوم إلا ما دامت القوة المثقلة على حركاتها المخمدة لأنفاسها متغلبة عليها. فالرابط الذي يربط الاجتماع لا يتم نظامه بالاستبداد والقوة وإن قام بهما أحيانا؛ لأنهما ليسا من جوهر طبيعته، بل هما دليل على عدم كماله. وفي الجملة فحينما يبتدئ الاستبداد والقوة ينتهي الاجتماع الحقيقي بين البشر، والاجتماع البشري لا يقوم حقيقة إلا بالشوق الغريزي، ولا يكمل إلا بالتراضي والاتفاق. فبذلك يتم النظام الاجتماعي لا بسواه؛ إذ تكون القوة المدبرة مستقرة في كل عضو من أعضائه، بحيث يشتغل لنفسه ولسواه معا من ذاته وفي آن واحد. •••
ولننظر الآن إلى سياسة الطبيعة في الأحياء ونقابلها بسياسة الاجتماعات؛ لعلنا نستنتج فوائد سياسية من ذلك. فاعلم أن في الحي كما في الجسم الاجتماعي أفعالا متروكة لعهدة كل شخص، وغيرها متروك لعهدة مراكز ثانوية أو جمعيات خصوصية، وغيرها لعهدة المركز الأعظم القائم مقام الجسم كله. فأولا: الحي يترك كل كرية من الكريات المؤلف منها تشتغل لذاتها تحت سلطان القوى المستقرة فيها. والعامل في هذه القوى مرجعه كما تقدم إلى أمرين: المنفعة والشوق. فكل كرية تحس بنفسها وبجارتها بالشوق الكائن فيها إليها، بحيث تصير مصلحة جارتها عندها كمصلحتها. ثم تجتمع الكريات وتتألف باشتراك المنفعة والشوق، وتتبادل الغذاء والحركات. وذلك أشبه شيء بالمبادلة التي تقع بين البشر، والحاصلة فيهم بدون تداخل القوة المركزية، أي الحكومة، بناء على ما فيهم من الأميال، وما لهم من المنافع المشتركة لا لعلة أخرى.
ثانيا: يوجد في الحي مراكز ثانوية وأعضاء مهمة على جانب من الاستقلال، أشبه بممالك صغيرة في مملكة كبيرة، وهي الأحشاء المختص بها إعداد الغذاء وتطهيره وتوزيعه؛ أعني بها المعدة والرئتين والقلب. فهذه الأحشاء غير خاضعة للعضو المدبر؛ أعني الدماغ. فالمعدة تهضم الطعام، والقلب يوزع الدم في البدن، والرئتان تطهرانه بتعريضه للهواء، أراد الدماغ أم لم يرد. وقد يبلغ استقلال أعضاء التغذية مبلغا عظيما جدا؛ فالأمعاء لا تزال تفعل أفعالها الخاصة ولو قطعت الأعصاب التي توصلها بالدماغ، والقلب لا يزال يضرب بعد نزعه من الجسم، ولا سيما في الحيوانات ذوات الدم البارد، وفي بعض الحيوانات اللبونة أيضا كدب القطب، والكبد لا تزال تفرز الصفراء وتولد السكر بعد ذبح الحيوان ونزف دمه. وقد يكون تركيب بعض الحيوانات السافلة المائية مختلطا جدا، بحيث تشتغل أجزاؤها بعضها لبعض وكلها للكل. ومع ذلك فليس لها جهاز عصبي؛ فهي هنا في غنى عن سلطان مركزي أو قوة خارجة عنها تتولى تدبيرها، وإنما تفعل ذلك من نفسها بناء على ما في العناصر التي تؤلفها من الأفعال الذاتية، أي من قابلية الحس والتهيج؛ ومن ثم من الأميال المنفعية والاشتياقية الموجبة لحصول المبادلة بينها كما يحصل التعاون بين البشر. فوظائف التغذية والنمو تتم بدون توسط الدماغ كما ترى.
وأما وظيفة الدماغ فقاصرة على الأعضاء الظاهرة؛ أي أعضاء النسبة التي بها يعرف الحي الأشياء التي من خارج، فيأمرها بأخذ اللازم منها واتقاء الضار؛ إذ يكون له عليها سلطان يتصرف فيها بحسب مقتضى الحال. فوجود جهاز عصبي، والحالة هذه، له مركز كالدماغ مقتدر على أن يجعل الأعضاء تخضع له خضوعا تاما، لازم لسلامة الحي. على أن الجهاز العصبي نفسه لا يكون دائما خاضعا لسلطان المركز، أعني الدماغ، بل للمراكز العصبية الثانوية. ففي الحشرات كل عقدة تحرك الأطراف المتعلقة بها لمقاومة ما يمانعها، وإذا دهم الإنسان أمر يخشى منه على عينيه، فإن جفنيه ينطبقان للحال بحركة ذاتية؛ أي قبل أن يكون له فرصة للتفكر بالخطر وبكيفية اتقائه، وإذا عثر إلى الأمام فإنه يقعنسس إلى الوراء بحركة ذاتية لمقاومة العثرة، أو إنه يستلقي الأرض بيديه خوفا من السقوط على الأعضاء الرئيسة؛ ليتقي بذلك شرا أكبر بشر أصغر. فنرى مما تقدم أن أعضاء النسبة الظاهرة نفسها تستغني في أحوال خصوصية عن انتظار حكم الدماغ، وتستقل عنه كما تستقل الأعضاء الباطنة. •••
قال الذين يقيمون حدا فاصلا بين الاجتماع والجسم الحي: «إن أفعال أعضاء الاجتماع مغايرة في نوعها لأفعال أعضاء الجسم الحي؛ أعني أن أفعال أعضاء الحي ترتبط بعضها ببعض ارتباطا فزيولوجيا، وأما أفعال الاجتماع فإنها ترتبط بعضها ببعض بالحس والأفكار؛ أي برباط عقلي.» وقال غيرهم: «إن أفعال الفريقين من نوع واحد؛ لأن الكريات الحية التي هي أجزاء الحي، أي أعضاؤه، ليست عديمة الحس، بل بالضد من ذلك هي ذات حس أيضا؛ إذ الحس الذي في الجسم الحي كله إنما هو هذا الحس عينه في حال التزيد والتجمع. فارتباط أعضاء الحي بعضها ببعض ليس بالحصر فزيولوجيا، بل فيه شيء من العقل أيضا وإن يكن في حالة دنيئة جدا؛ ولذا يعتبر ارتباطا عقليا. وهذا ما يجعل علم الاجتماع المعروف بالسوسيولوجيا داخلا في علم الحياة المعروف بالبيولوجيا.» وليس في هذا القول شيء من الغلو والتكلف؛ لأن الحدود المميزة بين العلوم المختلفة كالحدود المميزة بين مواليد الطبيعة، صناعية لا طبيعية. •••
وإذا تأملنا حقيقة الرابط الذي يربط كل اجتماع معا، سواء كان هذا الاجتماع بين كريات الجسم الحي أو بين أفراد الحيوانات أو البشر، وجدنا أنه واحد في الأصل. فالرابط بين الكريات الحية التي يتألف الجسم الحي منها ليس إلا الميل البسيط المغروس في كل شيء لحفظ ذاته أولا؛ لأن كل شيء في الأصل يدور حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وذلك هو محبة الذات المنفردة، ثم يتحول هذا الميل في الكريات إلى ميل مركب لحفظ ذاتها بحفظ ذات سواها؛ لأن اجتماعها بعضها مع بعض اجتماعا بسيطا في أول الأمر لا بد من أن يؤثر في طبيعتها تأثيرا مهما، بحيث تصبح حياة بعضها متوقفة ضرورة على حياة البعض الآخر. فالكرية حينئذ لا تميل لحفظ ذاتها فقط، بل لحفظ علاقتها مع سواها أيضا؛ لأن كل شيء في الفرع يدور حول مركز غيره بالشوق الحاصل فيه إلى مركز نفسه، وذلك هو محبة الذات المشتركة، ثم تتحول هذه المحبة المشتركة العمياء إلى محبة مشتركة عاقلة في أعضاء الاجتماعات التي لها قوة الإدراك، لا الحس والتهيج فقط. •••
واختلفوا في سبب هذه المحبة العاقلة بين الحيوانات المدركة؛ فذهب قوم وفي مقدمتهم سبينوزا إلى أنها مسببة عن اللذة الحاصلة لهذه الحيوانات من مشاهدة صورها في أمثالها؛ بناء على أن اللذة قائمة بسهولة الفعل. قالوا وأسهل الأفعال على الحيوان استحضار صورة على صورته، كما هو مقرر من أن الاستحضار لا يتم بواسطة الدماغ وحده، بل بواسطة كل الجهاز العصبي؛ ولهذا كان الحيوان المدرك إذا أراد أن يتصور هيئة أو أن يتذكر صوتا يشرع في أن يقلد تلك الهيئة ويحاكي ذلك الصوت. ولا ريب أن الحركات والهيئات والأصوات المتعود عليها هي أسهل عليه من سواها مما لم يتعوده، وكلما كانت عنه أبعد كان استحضارها عليه أصعب، فيولد فيه الكراهة لها؛ ولذلك كان القرد يرتعب جدا من رؤية الحرباء. فإذا تكررت هذه اللذة اشتد الشوق لتجديدها حتى ينقلب الشوق مودة، وتصير المودة فزيولوجية بعد أن كانت عقلية، فتنتقل بالوراثة وتؤثر في الأعضاء، بحيث يصير الاجتماع معها ميلا غريزيا، فيولد الحيوان المدرك وصورة أمثاله منطبعة على دماغه، كما يولد الطائر وصورة العش منطبعة على دماغه. ويشتد هذا الميل بالانتخاب الطبيعي حتى يحصل الاجتماع أخيرا بالسليقة الغريزية . •••
وذهب غيرهم وفي مقدمتهم داروين إلى أن هذه المحبة سببها المنفعة. ورد عليهم أصحاب القول الأول بأنه مسلم أن الحي لا يحفظ صفة إن لم يكن له منفعة منها، ولكن قد يحدث أولا أن تنشأ هذه الصفات عن أسباب غير المنفعة؛ فإن الطائر المعروف بالأبتر
Manchots
مثلا إذ يكون على الأرض يصطف بحسب سنه الصغار في جانب والكبار في جانب والإناث في جانب، وتطرد كل فئة الفئة الأخرى عنها، والظاهر أن ذلك حاصل فيه عن لذة اجتماع المثل بمثله لا عن سبب آخر. وثانيا: أن تكون الصفة النافعة في الأحوال العامة مضرة في بعض الأحوال الخاصة؛ فتعشيش بعض أنواع الطيور مثلا بالقرب من مساكن البشر غير مفيد له، وكذلك اجتماع الببغاء وصراخها حول ما يقتل منها غير مفيد لها، وقس عليه. فالميل الاجتماعي هنا لم ينم بالنظر إلى منفعته؛ لأنه قد يبقى هو ولا تبقى منفعته، وإنما بالنظر إلى اللذة الحاصلة للمثل من مثله. وإذا دققنا النظر نرى أن اللذة والمنفعة مرجعهما الموافقة بالمطابقة. والموافقة بالمطابقة أعم؛ فقد تكون اللذة، وقد تكون المنفعة، وقد تكون سواهما. وهذه الموافقة لا تكون لجميع الأحوال بل لغالبها، والصفات المكتسبة عنها ترسخ حتى يعرض لها على مر الزمان ما يغلبها ويحولها عن حالها؛ ولذلك كانت الصفات المسماة غريزية أو بديهية تبقى زمانا طويلا ولو زالت المنفعة، كما في المثال المتقدم ذكره. •••
ولنعد إلى ما نحن بصدده، فنقول قد ظهر أن المشابهة بين جسم الاجتماع والجسم الحي من حيث ارتباط أعضاء كل منهما بعضها ببعض هي مشابهة تامة؛ لأن الرابط الذي يربط كلا منهما هو واحد في الأصل، وهو الشوق الأعمى الحاصل في المثل إلى مثله، ثم يعقب ذلك في الاجتماع الحيواني تقسيم الأعمال والتعاون، وذلك شبيه أيضا باختصاص الوظائف في الجسم الحي. ولا يخفى أن اختصاص الوظائف في الجسم الحي كلما نما زاد معه خضوع الأعضاء بعضها لبعض، حتى يختص السلطان الأعظم بواحد منها (أو بأكثر من واحد، ولكن بمقام الواحد)، إلى أن تصير حياة هذا الواحد بمقام الكل، كالدماغ في الجسم الحي المرتقي. وهذا موجود في الاجتماع الحيواني أيضا؛ فإن الحيوانات المجترة والصفيقة الجلد والقرود يكون لكل جماعة منها رؤساء تسود على الكل، كما يسود الدماغ في الحي على سائر أعضاء البدن، ثم يقوى سلطان هذا الرئيس حتى يصبح موضوع اعتناء الكل. ويتضح ذلك في جسم الاجتماع الحيواني أكثر مما في جسم الحي نفسه؛ لأن أعضاء جسم الاجتماع الحيواني يكون في تعاونها وخضوعها من الإدراك والاختبار ما لا يكون في أعضاء الجسم الحي.
فالرئيس في الاجتماع الحيواني كثيرا ما يستقرب إليه أتباعه بالتمليق، وهو غير ذاهل عما له عندها من رفيع المقام، وما عليه لها من المسئولية أيضا؛ فقد حكى «برهم» أن إناث القرود يجتمعن حول القرد الشيخ، ويبذلن العناية في تفليته من القمل، فيطيب نفسا بذلك، ولكن لا تأخذه غفلة عن مصلحة الجمهور؛ فهو دائما يقظان يجيل عينيه من مكان إلى مكان، ويصعد من وقت إلى آخر إلى رأس شجرة عالية ليستكشف ما في الجهات المجاورة، ثم يخبر سائر القرود بنتيجة استكشافه، سليمة كانت أو غير سليمة، بأصوات خصوصية مفهومة عندها. وهذه الأفعال التي تربط أفراد الاجتماع الحيواني، وهي تقسيم الأعمال واختيار العمال، هي الرابطة لأفراد الاجتماع البشري أيضا. وهذا يدلنا على أن في الحيوان جرثومة ما هو نام جدا في الإنسان، كما أن في الكريات الحية نفسها جرثومة ما هو نام جدا في الحيوان. •••
فالاجتماع الحيواني هو جسم حي تتعاون أجزاؤه كلها، كما يقول أبقراط، وتؤلف كلا حيا يتعاون تارة في أعمال مشتركة كتعاون القندر في بناء بيوته، وبعض أنواع الطير في بناء أعشاشه، وتارة في أعمال خاصة؛ مما يدل على محبة حقيقية بين أعضائه، كمعاونة القرود بعضها بعضا لنزع الشوك من جلدها، واجتماعها على حجر كبير لكي تقلبه، وانتصار بعضها لبعض لدفع نازلة، ولو كان في ذلك خطر على حياة المنتصر. وقد تبلغ هذه المحبة فيه إلى حد الإخلاص الشديد الذي هو من أخص صفات البشرية وأرفعها شأنا؛ فقد ذكر برهم ما يثبت ذلك في القرود. قال: «بينا أنا واقف سمعت فوق رأسي صراخ قرد، فنظرت وإذا قرد صغير على شجرة قد تركته أمه وهربت مذعورة، فصعد إليه أحد أتباعي، فلما أبصره القرد صرخ صراخا شديدا، فللحال جاوبته أمه وارتدت لتأخذه، فصرخ حينئذ صرخة ثانية خصوصية، جاوبته أمه عليها بصرخة خصوصية كذلك، فرماها أحد الواقفين بالرصاص، فانجرحت وولت هاربة، لكن صراخ ابنها لم يدعها تبتعد كثيرا حتى رجعت إليه، فرميت ثانية بالرصاص فأخطئت، ولكن ذلك لم يمنعها من أن تثب إلى الغصن بعد عناء عظيم، فلما وصلت إلى ولدها أسرعت فوضعته على ظهرها، وأوشكت أن تبتعد به، وإذا برصاصة ثالثة أطلقت عليها، رغما عن ممانعتي، فكانت القاضية. ومع ذلك فلم ترم بولدها إلى الأرض، بل ضمته إلى صدرها، وهي تجود بالروح، حتى قضت نحبها وهي تحاول أن تهرب به.»
وقال أيضا: «إن قردا شيخا هجم على الكلاب هجمة الأسود؛ لكي يخلص قردا صغيرا من بين أنيابها، وما ارتد عنها حتى رجع به، وقد حمله على منكبه.» فلا شك أن المبدأ الباعث على هذه الأفعال يقرب جدا من مبدأ أخلاق الإنسان، لا نقول في إنسان مثل أرسطو ونيوتن مثلا، بل في متوحش أو طفل صغير، ثم يتحول هذا المبدأ من الشوق الأعمى في الكريات الحية إلى بديهيات الحيوان، إلى معقولات الإنسان حتى يكتمل في الاجتماع البشري، فيصير الشوق محبة والمحبة إخاء والإخاء تعاونا والتعاون عدلا، وتعيين الوظائف الرفيعة وانتخاب الرجال لها حكومة، فتكتمل حياة الاجتماع العقلية كما تكتمل أيضا حياته الفزيولوجية.
على أن سبنسر الفيلسوف الإنكليزي لا يرى هذا الكمال في حياة الاجتماع الفزيولوجية؛ لأنه يقول إن في الحيوان جهازا عصبيا هو مركز الأعمال العقلية، وأما في العمران فليس يوجد ما يشبه ذلك. ورد عليه بعضهم بقوله: «بل ذلك موجود أيضا؛ فإن أدمغة الأمة بمثابة الدماغ، وإن العواطف والحواس والنطق وسائر العلامات والكتابة والتلغراف وكل وسائط الاتصال بمثابة الأعصاب التي تنقل الحس، وتوصل الحركة إلى كل أجزاء البدن، وإن العيال بمثابة العقد العصبية التي هي عبارة عن أدمغة صغيرة يجتمع الحس فيها ويقوى، والمدن بمثابة الفقرات، والعاصمة من المدن بمثابة الرأس الذي هو فقرة عظمت حتى سادت على سواها، والعلماء والحكماء وكل الذين يرشدون الأمة هم بمثابة الكريات المرتقية في الدماغ، الذي هو نفسه لا يزيد عن عقدة عصبية عظمت على سواها كما عظم الرأس على سائر الفقرات. فإن كان اشتراك كل أعضاء العمران بالفكرة يجعل العمران أرفع جدا من سائر الأحياء، فهذا الارتفاع لا يجوز أن يكون فرقا جوهريا، كفرق الإحياء نفسها عما هو دونها. وعليه ففي الجسم الاجتماعي جهاز عصبي لوظائف النسبة، كما فيه جهاز دوري وجهاز غذائي، فهو حي تام لا ينقصه شيء فزيولوجيا.»
لولا الهوى وبديع الشوق يهديه
ما صح في الكون معنى من معانيه
ولا سرى النجم في العلياء وانتظمت
له المواقع تقصيه وتدنيه
ولا استقامت حياة في الوجود ولا
تم الوجود ولا تمت مبانيه
شوق تكامل من أدنى الوجود ولا
أعلى فأعلى إلى أعلى أعاليه
حتى تناهى وقلب المرء تلهبه
نار من الحب يذكيها وتذكيه
نار من الشوق في قلب المشوق ثوت
تذكو فيصلى ويغذيها فتفنيه
ما زال والنار تذكو في جوانبه
حتى تفانى بما قد كان يحييه
قال أحد الحكماء: «إذا كان الإنسان الكامل دليلا على الجنين، فبالأولى أن يكون الاجتماع دليلا على سائل الموجودات التي تؤلف الطبيعة، وعلى السنن الفاعلة فيها حتى طبيعتها أيضا؛ لأن الاجتماع أولى باسم العالم الأصغر من الإنسان نفسه.»
3
قد رأينا فيما مر أن كل اجتماع إنما هو تعاون، يبتدئ طبيعيا بمحبة الذات والشوق، وينتهي عقليا باتفاق الإرادات أو التراضي في البشر. لكن ما هي محبة الذات؟ أو ما هو الشوق نفسه سوى أول أفعال الإرادة؟ فهذه بعد أن تريد ذاتها وحدها تريد سواها من الإرادات الأخر لها، ثم تريده لنفسه أيضا؛ لأن كل شيء كما قلنا يدور في الأصل حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وفي الفرع حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إلى مركز سواه، فالإرادة على اختلاف أنواعها ، جاهلة أم عالمة، ذاتية أم مشتركة، هي أس كل اجتماع وجوهر كل حي. وبهذا الاعتبار يقسم العالم إلى ثلاث رتب؛ أولا: الرتبة التي تكون الإرادات فيها عمياء ذاتية، كل واحدة منها تشتغل لنفسها كأن لا يوجد سواها، وهي الجماد. ثانيا: الرتبة التي تبتدئ الإرادات فيها أن يحس بعضها ببعض ويجتمع بعضها ببعض، لكن على سبيل الشوق البسيط فقط، وهي النبات الحيوان. ثالثا: الرتبة التي تصير الإرادات فيها عاقلة، تدرك نفسها ويعرف بعضها بعضا، ويجتمع بعضها ببعض على سبيل الاتفاق والتراضي، وهي الاجتماع البشري.
فالاجتماع البشري هو الجدير بأن يسمى حيوانا مريدا متراضيا. وهنا مكان الوفاق بين مذهب الطبيعيين في الحيوان الاجتماعي ومذهب العقليين في العمران، فالواحد إنما يبين أصل الاجتماع والثاني غايته، والصحيح أن الواحد لا ينبغي أن يفصل عن الآخر؛ فتاريخ الاجتماع كله قائم بالشوق البسيط أولا، والتراضي أخيرا باستمالة الواحد إلى الآخر، ولا ريب أن ذلك تاريخ العالم أجمع. فالأفعال في الطبيعيات عمياء والسنن ثابتة، وهي بالحصر كذلك في العقليات، وإنما اكتسبت في هذه من القابليات ما جعل فعل الإرادات التي صارت عاقلة أظهر فيها؛ فارتباط أعضاء الاجتماع بعضها ببعض اختيارا كارتباط أعضاء الحيوان بعضها ببعض اضطرارا. •••
ومرجع أبسط صفات الحي إلى الحس والحركة، وهاتان الخاصتان هما بالحصر الحياة. والظاهر أن الحس والحركة هما أيضا صورتان لشيء واحد؛ إحداهما باطنة والأخرى ظاهرة، فهما أشبه شيء بالمقعر والمحدب. فالحس هو الكيفية التي تتصل الحركة بها إلى مشاعرنا الباطنة، والحركة الكيفية التي يتصل الحس بها إلى المشاعر الظاهرة. حرك ذراعك وأغمض عينيك، فإنك تدرك الحس لا الحركة، بخلاف الناظر إليك فإنه يدرك الحركة لا الحس. فالحس إذن هو إدراكنا الحركة الحاصلة فينا، والحركة هي إدراكنا الحس الحاصل في سوانا. والأصل الذي يرجع إليه الحس والحركة هو القوة، أو بالحري الإرادة التي هي أس كل وجود، وكل ما نعلمه يحملنا على الاعتقاد بأن الحس موجود في العالم، حيث توجد الحركة على صور تتفاوت في الوضوح والخفاء. ولا يخفى أن الفاصل بين الحيوان والنبات يعتبر اليوم صناعيا لا حقيقيا، والظاهر أنه كذلك أيضا بين النبات والجماد.
4
نعم إنه لم يستطع أحد أن يولد كرية حية من كرية غير حية، لكن هل يستطيع أحد أن يولد دقيقة من الكبريت من غير الكبريت، أو دقيقة من الأكسيجين من غير الأكسيجين، أو من مادة لا أكسيجين فيها؟ أم هل يلزم من ذلك الاعتقاد ببساطة الأجسام الكثيرة المسماة عناصر؛ ومن ثم القول بخلق خاص لكل من الكبريت والأكسيجين والكربون والهيدروجين والحديد والذهب ... إلخ؟ وهل يلزم كذلك القول بقوة خاصة لكل دقيقة معدودة في الكيمياء بسيطة شبيهة بالقوة الحيوية؟ فالعلم يميل إلى ضد ذلك؛ أي إلى التسليم بأن الجواهر الفردة الكيماوية ليست غير قابلة الانقسام قطعا، وإنما لا تقبله مع بقاء خصائصها فيها على حالها، كما أن الجسم الحي لا يقبله مع بقاء خصائصه فيه. كذلك الإنسان؛ فإنك لو شطرته شطرين ما بقي إنسانا، فهو من هذا القبيل جوهر فرد، وأما من قبيل آخر فهو اجتماع. •••
فهذه الاعتبارات تدلنا على أن الحياة موجودة في الطبيعة حيث توجد الإرادة على درجات متفاوتة، تارة هاجعة خفية كما في الجماد، وأخرى متنبهة ظاهرة كما في النبات، وطورا متمالكة متعارفة كما في الحيوان، وأخيرا متكاثرة متقوية باشتراك الإرادات العاقلة كما في الاجتماعات والممالك. فالحياة كالأزوت تتحول من حال إلى حال مرتقية من أدنى إلى أعلى، إلى أن تبلغ أرفع مقاماتها المعروفة. ألا ترى أن الفعل المسمى طبيعيا كالحرارة والكهربائية لا يغير إلا أعم خصائص الأجسام، فإذا زاد عن حد معلوم تحول إلى الفعل المسمى كيماويا الذي يغير تركيبها وهو هو في الحالين، ولم يتغير إلا في الكمية؟ ولو كان في إمكاننا أن نفعل على ما هو أدق تركيبا، ونسلط على الأجسام حالة خصوصية من الحرارة أو الكهربائية أو الحركة؛ لاستطعنا أن ننبه الحس، ونوقظ الحياة أو الإرادة من نومها العميق. فقد مر على الكون زمن كان فيه النظام الشمسي مشتعلا، ولم تكن العوالم سوى دخان، ومع ذلك فلا يبعد أن شرارة الحياة كانت موجودة في هذا الأتون الملتهب؛ لأنه ما لبث أن برد حتى ظهرت الحياة فيه. فالذي لا يعتقد المعجزات، أي الذي لا يعتقد إلا العلم، لا تفرق الحياة عنده عما يسميه المادة، التي هي نفسها ليست سوى مجموع قوى أو إرادات. فكل شيء في العالم حي، وكل شيء فيه فرد واجتماع معا. فعلم الحياة وعلم الاجتماع وعلم التكوين هي بالحقيقة علم واحد، والعالم نفسه مملكة عظيمة في حال التصور، وربما يظهر فيه يوما ما على صورة الفكر والإرادة العاقلة، كما ظهر فيه في الأصل على صورة حرارة أو حركة أو قوة. •••
على أن الحكماء والطبيعيين غير متفقين على النتيجة السياسية المتحصلة من التاريخ الطبيعي. بسبب ذلك حصل نزاع شديد بين اثنين من كبار الطبيعيين والحكماء في هذا العصر، وهما هكسلي وسبنسر الإنكليزيان. فهكسلي يكره جدا تشبيه الاجتماعات بالأحياء لاستخراج القواعد السياسية من ذلك؛ لأنه يزعم أن التاريخ الطبيعي لا يدل إلا على السياسة الاستبدادية. وأما سبنسر فيذهب غير مذهبه، حيث يقول إن التاريخ الطبيعي يدل على السياسة الحرة. ولا ينكر أن هكسلي مصيب في تنكره من التهافت على الاستقراء السريع؛ لأن علم الحياة وإن كان يعلمنا على نوع ما هو الجسم السياسي، وكيف صار إلى ما هو عليه؛ إنما لا يركن إليه في معرفة ماذا يصير إليه يوما ما. والعقل البشري أرفع من أن يتخذ الأحياء الدنيا مثالا له، وينقاد لها انقيادا أعمى. ومن الخطأ أيضا الاعتماد على مشابهة ظاهرة ناقصة، كما يفعل كثير من السياسيين ممن يبالغ أو يخطئ في استدلالات التاريخ الطبيعي، مبينين فضل الحكم الملكي بمثال النحل، أو فضل الحكم الجمهوري بمثال النمل. إنما لا ينكر أيضا أنه لا يجب أن يغفل أدنى شيء في هذا الوجود، حيث كل شيء ذو شأن.
فتمثيل الجسم الاجتماعي بالحي يؤدي، في نظر هكسلي، إلى حصر الحكومة في مركز معين حصرا شديدا، حيث يقول: «إن الدماغ يفتكر للجسم كله، ويشتغل له، ويحكم فيه حكما مستبدا، وإلا لكان يحق لكل عضلة في انقباضاتها، ولكل غدة في مفرزاتها، ولكل كرية في أفعالها؛ أن ترفض كل حق للجهاز العصبي في ذلك بشرط ألا تضر بسواها. وكيف تكون حالة الجسم يا ترى لو كان كل عضو من أعضائه يفعل أفعاله من نفسه؟» ورد عليه سبنسر أن الأعضاء قسمان: ظاهرة وباطنة. فإذا كانت القوة المنحصرة لازمة للظاهرة فليس الأمر كذلك في الباطنة؛ فهي تحتاج فقط لما فيها من القوة الغريزية، ولا تطلب من الغذاء إلا المقدار اللازم لتعوض به عن العمل الذي تعمله، وهذا هو العدل في الأحياء. والأمر كذلك في العمران؛ فإن الناس المحاربين في الخارج، والذين هم بمثابة أعضاء النسبة الظاهرة في الحي، يحتاجون ضرورة إلى حكومة مركزية تدبر أمرهم. وأما الذين في الداخل، القائمون بحركة التجارة والصناعة، والذين هم بمثابة أعضاء التغذية والدورة الباطنة؛ فبالضد من ذلك يحتاجون إلى الحرية. فاحتياج الاجتماع إلى حكومة حرة أو مستبدة يختلف باختلاف كونه مؤلفا من أمة متعلقة على الصناعة أو الحروب. فعلم الحياة لا يدل على الفوضى، كما يتوهم بعضهم، كما أنه لا يدل على الاستبداد.
وتداخل الحكومة ضروري في كل الأحوال، إنما هذا التداخل، كما يقول سبنسر، نوعان: موجب وسالب. فالموجب كما لو زرعت الحكومة أرضي، أو أكرهتني على اتباع طريقة معلومة في الزراعة. والسالب كما لو اقتصرت فقط على ردعي عن التعدي على أرض جاري، وإلحاق الضرر به. وهذا النوع الأخير من التداخل هو اللازم في الجسم الاجتماعي، فلتضمن الحكومة تنفيذ المعاهدات؛ أي العدل. وهكذا تكون قد تممت الوظيفة المطلوبة منها. قال الاقتصادي هويتلي: «إن أهم الأفعال التي تقوم بها حياة المملكة تتم بواسطة أناس لا يفتكرون بها، ولا يعلمون أنهم متشاركون، بل يسعى كل منهم وراء مصلحته فقط، وتتم بضبط واعتناء وانتظام لا يصل إليه جهد أفضل المنتبهين.» فلو فرض أن رجلا عهد عليه أن يقدم كل يوم لمدينة كبرى، كإحدى العواصم المعروفة، كفافها من الزاد وسائر ما تحتاج إليه؛ لما أمكنه القيام بهذه العهدة؛ لكثرة الاحتياجات المذكورة واختلافها. ولو ألقيت هذه العهدة إلى حكومة لما تم لها القيام بها بانتظام، ولأنفقت عليها النفقات الباهظة؛ إذ يحصل حينئذ ما يحصل لو كان الدماغ مكلفا بالانتباه لكل ما يلزم لتمثيل الدم، ولدورته في البدن، ولإخراج كل مفرز من غدته. فغذاء كل مدينة يصل إليها يوميا بدورة ذاتية، حركاتها منتظمة كحركات النبض. وتداخل الحكومة الموجب لا تكون له نتيجة سوى تعاقب الشبع والجوع على المدينة، وتداخلها السالب يضمن لها حياتها؛ إذ تستقيم معه حركة أسواقها، ويصبح أناسها في مأمن، بعضهم من بعض، في أعمالهم وسائر أحوالهم. فتعاون الناس بعضهم مع بعض، بحيث لا يرفع أحدهم نظره إلى ما وراء مصلحته، كاف لأن يفعل في صلاح حال العمران ما لا تستطيعه حكمة أعظم الحكماء، وانتباه أعظم الحكومات. •••
ولقائل: «إن الأفعال التي يفعلها الأفراد تحت عامل المنفعة الذاتية وإن كانت كافية في الاحتياجات المادية إلا أنها ليست كذلك في الاحتياجات التي من غير هذا المعنى.» فعلى ذلك يجيب سبنسر أنه من الخطأ أن يظن أنه لا يوجد خارجا عن المنفعة الذاتية إلا قوة اجتماعية، وهي قوة الحكومة. أليس للبشر ما عدا احتياجاتهم الذاتية احتياجات حبية، وهذه سواء فعلت وحدها أو اشتركت ألا تحدث أفعالا جليلة كالأفعال الحاصلة عن المنافع الذاتية؟ أتريد أن تعرف الأفعال الاجتماعية للمحبة منفردة كانت أو مشتركة؟ انظر إلى أعمال أهل البر والإحسان الصادرة عن الأفراد أو عن جمعيات خصوصية لا يد للحكومة فيها.
فالمنفعة والمحبة في نظر سبنسر كافيتان وحدهما للقيام بكل احتياجات الجسم الاجتماعي، كما أنهما تكفيان لاحتياجات الجسم الحي، والحكومة لا يطلب منها إلا أن تؤدي وظيفة شبيهة بوظيفة الدماغ؛ أي أن تكون النائبة عن الأمة في احتياجاتها المنفعية والحبية سالكة في ذلك سبيل العدل. فدماغ الحيوان مقر لنيابة حقيقية عن الجسم كله يلزم أن تكون نموذجا للحكومة. والأمر بالحقيقة كذلك؛ فإن الأعضاء ترسل أنباءها إلى الدماغ، وتحصر فيه لذاتها وآلامها، وتشكو له حاجاتها، وتخبره باختلال أحوالها. كأن الجسم كله مختصر فيه. ووظيفة الدماغ الصحيح، كما يقول سبنسر ، هي التعديل بين المصالح المختلفة الطبيعية والعقلية والأدبية والاجتماعية، وذلك هو وظيفة الحكومة المطلوب منها التعديل بين مصالح البشر المختلفة، بحيث إن كلا منهم ينال حقه بدون أن يضر بالآخر. •••
على أن بعضهم يرى أن نظر سبنسر في تعيين وظيفة الدماغ والحكومة وإن كان مصيبا إلا أنه قاصر في بابه؛ لأن الدماغ وإن كان نائبا عن الجسم كله في مصالحه المنفعية والحبية، إلا أنه ليس نائبا بسيطا وقاضيا يقضي في المصالح المذكورة لتعديلها فقط بدون أن يزيد شيئا عليها، بل هو أيضا عضو الفكرة والإرادة والروية؛ فكثيرا ما يدفع الجسم من نفسه نحو أمر انقيادا لفكر رفيع، والإنسان كثيرا ما ينكر مصلحة نفسه القريبة لقضاء مصلحة أعظم، كنشر حقيقة أو إبداء تصور جليل. فالحكومة لا يكفي أن تكون بمقام قاض بسيط يقضي في مصالح الأمة لتعديلها مقتصرة على الحاضر القريب، بل يلزمها أن ترتفع فوق نفسها وفوق مصلحة البعض للنظر في المستقبل البعيد؛ لأن الجسم وإن كان يحس باحتياجاته إنما إحساسه بها مبهم، ولا يتضح على صورة الحس ولا الفكرة إلا في الدماغ. كذلك الاجتماع فيه حقوق كثيرة لا يحس بها إلا إحساسا مبهما مع شدة لزومها له، ولا تنجلي إلا للحكومة؛ فالجهلاء مثلا لا يشعرون بالاحتياج إلى العلم مع شدة لزومه؛ ولذلك كان ينبغي على الحكومة أن تسعى من ذاتها لتتميم المشاريع اللازمة، كإقامة التعليم الإلزامي مثلا، وعدم إغفال كل ما من شأنه أن يحفظ مستقبل الأمة؛ لئلا يسبقها غيرها من الأمم في معرض الارتقاء في هذا الوجود، فتسوء حالها، وتسقط في مهواة التهلكة والخسران. •••
فسبنسر وإن كان قد استوفى ما للميل الغريزي من اليد القوية في ارتقاء الأمم، إلا أنه في نظر بعضهم قد أغفل أمر الروية المتجمعة في الدماغ عن إحساسات أجزاء البدن المبهمة التي يلزم أن تبلغ الغاية في الحكومة. هذا، وإذا نظرنا إلى هاتين القوتين، أي الميل الغريزي والروية، ولم نفصل بينهما؛ نرى أنهما ليستا فقط علة كل اجتماع، بل علة كل شيء حتى العالم نفسه؛ إذ العالم نفسه إنما هو اجتماع كبير، كل جزء من أجزائه يشتغل لسلامته وسلامة الكل، بما فيه من الميل لحفظ ذاته، وحفظ علاقاته مع سواه؛ وبهذا تمام النظام في الكون.
5
المقالة السادسة
القرآن والعمران
1
ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائع موحاة، ولا أن أبين مزية دين على آخر، ولا أن أدخل غمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يوافق، بل أن أبين حقيقة علاقة الأديان بالعمران، وتأثيرها الحقيقي فيه من وجهها الاجتماعي.
إن أكثر الباحثين في هذه العلاقة ينسبون كل ما يرونه في العمران من ارتقاء وتقهقر، وسير ووقوف، وحركة وجمود؛ إلى الدين. وأكاد لا أعلم أحدا خالف هذه القاعدة؛ فغلاة المعطلين وكبار المؤمنين والذين بين بين، كلهم في ذلك سواء، فيقضون لهذا الدين أو على ذاك بالنظر إلى ذلك. وهم، فيما أرى، مخطئون باعتبار جوهر الدين، وإلا كانت النتيجة واحدة في كل الأديان وفي الدين الواحد في كل العصور. ولا ينكر أن الدين يؤثر في أخلاق الأمم التي تدين به، ولكن هذا التأثير إذا دققنا النظر يجب أن يكون واحدا في الجوهر؛ لأنها جميعها تصبو إلى غاية واحدة، وهي إصلاح حال الإنسان في العمران، وتتذرع إلى ذلك بمبدأ واحد هو الثواب والعقاب في الحياة الأخرى؛ لتحمل الإنسان على أن ينصاع إليها في الغاية الحميدة التي قصدتها في اجتماعه. فنهت عن المنكر وأمرت بالمعروف، واعتبرت المنكر كل ما خالف مصلحة الاجتماع، والمعروف كل ما وافق هذه المصلحة. فأمرت بإقامة القسط في المعاملات، وتخطته إلى وجوب الرحمة؛ فحثت الإنسان على الاشتراك بالمنفعة، ونهته عن الاستئثار بها، وأمرته بالعطف على البائس المسكين، ونهته عن الحيف عليه.
ودينا التوحيد السائدان اليوم هما دين الإنجيل ودين القرآن. الأول يعلمنا التساهل إلى حد أن ينسى الإنسان نفسه في مصلحة قريبه؛ أي أخيه. والثاني يجعل الفقير شريك الغني في ماله؛ إذ يفرض له عليه نصيبا منه. وكلاهما فيهما من الحكم الرائعة والآداب العالية ما يجعلهما في مبدئهما الاجتماعي مطابقين لمرامي أعظم الفلاسفة المصلحين الاجتماعيين اليوم. ولو جاز لي أن أبين ماهية الفرق بينهما لقلت إن الدين المسيحي يوسع المجال للنظر، والمحمدي للعمل؛ أي إن الأول دين التجريد، والثاني دين المحسوس، ولكنهما يلتقيان في نقطة واحدة، وهي إصلاح الإنسان في دنياه - ومن غريب المفارقات أن أتباع الأول ساروا شوطا بعيدا في الحياة العملية، وأتباع الثاني وقفوا متقهقرين! - وهذا لا يخالف ما قلناه فيهما، وإنما يؤيد مبدأنا من أن حقيقة الأديان لا دخل لها في العمران.
وكلاهما يدعو الناس إليه بطريقة واحدة سلمية؛ فالإنجيل يقول: «علموهم وبشروهم.» والقرآن يقول:
لا إكراه في الدين . وإذا طرأ عليهما ما خالف ذلك في بعض العصور وفي بعض المواقف، فلدواع اجتماعية ليست من جوهر الدين، وكأن كلاهما في هذا الإرغام سواء. هذا هو مبدأ الدينين الاجتماعي.
ولكن الباحث الذي يتعقب كلام كل من الكتابين يجد فيهما كثيرا من مثل قوله:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم
بعد قوله:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا ، ومثل قوله: «ما جئت لألقي سلاما، بل سيفا.» بعد قوله: «من لطمك على خدك الأيمن فحول له الأيسر.» إلى غير ذلك من المفارقات التي لا يذهب مغزاها على العاقل ولا مكانها من القول، ولكن قد تضر كثيرا بالجاهل، وتكون عنده سببا للتشبث السقيم، وللأخذ في سباسب الجدال العقيم، فتضر بالدين وبمصلحة العمران معا. لذلك رأى العقلاء من المؤمنين في النصرانية والإسلام وجوب رد مثل هذه القضايا المشتبهة التي قد تلتبس على الأفهام، فتبدو مخالفة لمصلحة الاجتماع، إلى مبدأ الدين الجوهري الذي تقدم ذكره، والذي هو غرض الشارع الحقيقي، وتأويلها بحسب ذلك، حتى صار الاجتهاد أمرا لازما في الدين. والحق يقال إن رجال الدين في الإسلام قد برزوا في هذا الأمر كثيرا في العصور الأولى، وفاقوا النصرانية فيه؛ لأن كبار أئمتهم كانوا من كبار الفلاسفة أيضا لا في الدين، بل بمعنى الكلمة الحقيقي، حتى بلغت علوم الفلسفة التي أخذوها عن اليونان في نهضتهم الأولى أقصى مراقيها، بخلاف النصرانية؛ فإن الفلسفة طمست فيها على عهدها الأول، وعدت من المحظورات، فيما خلا النظريات المتعلقة باللاهوت المسيحي، وبقيت كذلك إلى عهد الانشقاق العظيم الذي حصل في النصرانية في أوائل عصور النهضة في أوروبا.
وأول من أجاز الاجتهاد في الإسلام أبو بكر بعد موت النبي في قتال أهل الردة؛ إذ كان الاعتقاد أن من تشهد لا يجوز قتاله على تركه شيئا من الدين، وهذا كان رأي أكثر الصحابة. أما أبو بكر الخليفة الأول للإسلام فنظر إلى المسألة من وجهها السياسي، وخاف عاقبة التراخي مع العرب الذين امتنعوا عن تأدية الزكاة، فقال: «لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى الرسول لقاتلتهم على منعه.» ومضى بنفسه إلى قتالهم، وجرى الإسلام على خطته من جهة الاجتهاد كل مدة النهضة.
وقد قال الغزالي، وهو من كبار أئمة الإسلام في أول القرن السادس للهجرة، بوجوب التأويل في قضايا الدين والتوسع فيه؛ لما رآه من التخاذل في ظاهر الدين والعلم في أمور كثيرة، فخاف أن يقف ذلك في سبيل العلم، ثم يعبث بالدين، فقال ما ملخصه: «إذا بدا لك تناقض بين الدين والعلم فاعمد إلى التأويل؛ ذلك خير من أن ترمي الدين بتهمة الضعف.» ولذلك كان كل دين لا يتسع فيه مجال الاجتهاد كثيرا مقضيا على أممه بحكم الضرورة.
2
ومما تقدم يتضح لك أن لا فرق بين الإسلام والنصرانية في غايتهما الاجتماعية ومبدئهما في هذه الغاية، ولكن الناظر إلى العمران اليوم يجد بونا بعيدا بين الأمم التابعة لكل من الفريقين، فلماذا هذا الفرق؟
الناس في نظرهم إلى الدين فريقان: فريق يغلبه الهوى، فيندفع بتيار التشيع والتحمس الأعمى، فيقضي على الصبغة الدينية التي تخالف صبغته كيفما كان حال الأقوام المصطبغين بها، حسنة أم رديئة. ومثل هؤلاء لا شأن لنا معهم في بحثنا هذا، وهم في مجموعهم قذى في عين العمران، وشجى في حلقه، معطلين كانوا أم مؤمنين، مشركين أم موحدين، نصارى أم مسلمين، من هذا المذهب أم من تلك الشيعة، والمؤمنون منهم شر على الدين من سواهم.
وفريق يبحث فيه بحث العالم الاجتماعي، ولكن قد يخونه النظر، فينظر إلى الدين في مرآة الشعوب التي تدين به، ومن أعراض الكلام، ويحكم على الجوهر من العرض، ويؤيده في حكمه. هذا ما يغلب عليه مما يكون قد رسخ فيه من أثر التربية الأولى؛ فإن البدائه التي تقوم به في الذهن تتجرد عن كل روية (وكلامنا في أصحاب العقول الراقية). ويدلك على ذلك الاندهاش العظيم الذي يرتسم على وجهه عندما تصادره فيها لأول مرة، خصوصا إذا كان يعتقد فيك العلم ويتوسم بك نزاهة الغرض، كأنك ارتكبت جناية عقلية ذبحت بها أمامه كل القوى الراشدة، ثم لا يلبث أن يطرق مفكرا كأنه داخله الريب؛ ولذلك كان الشك أول مراتب الرشد.
وقلما يسلم باحث اجتماعي، مهما كانت مداركه راقية، من مفعول هذه التربية الأولى؛ فإن سلم منها من جهة الدين لم يسلم منها من جهة الوطن والسياسة التي تقتضيها مصلحة هذا الوطن، وفي اعتقاده أن الوطن دين ثان، وقليل ما هم أولئك الذين يتملصون من مفاعيل هذه العوامل الثلاثة، فيجعلون دينهم الإنسانية ووطنهم العالم أجمع.
وما دعاني إلى هذا البسط إلا ما رأيته في هذه الأيام من الحركة الشديدة في الأفكار بسبب ما جاء في كتاب اللورد كرومر من علاقة الأديان بالعمران؛ فقد تعرض اللورد في كلامه على المصريين وعلى الأمم الإسلامية قاطبة لجوهر الدين الإسلامي، وجعل القرآن العقبة الكئود في سبيل ارتقائها والمسئول عن تقهقرها.
وقد تصدت الجرائد الإسلامية للرد عليه. والحق يقال إن كلا الفريقين سلك مسلك الحرية في القول والمحقق في البحث، إلا أنهما لم يسلما مع ذلك من سلطان هذه العوامل. وفي اعتقادي أنهما حاما حول الموضوع، وقليل من تلمس طرقه من بابه. اللورد اندفع كثيرا، فلم ينظر إلى دين القرآن إلا من خلال أولئك الذين وقفوا دونه، ووقفوا به حيث أرادوا. وهم وقفوا محجمين، فلم يروا أن يجسوا بأصابعهم موضع الألم. وهذا الذي حملني على التعرض لهذا البحث مع ما فيه من الوعورة؛ فلعل صوتي الضعيف يكون كالشرارة، وإن أحرقت وآلمت في بعض المواقف فلا تعدم من العقلاء أنصارا، فتكون نارها بهم نار الخليل بردا وسلاما على أمم لا ينقصهم من دينهم شيء لكي يسيروا في العمران مع الأمم المتمدنة جنبا لجنب، ويحفظوا للشارع مجد أثره.
واللورد كرومر من أعاظم رجال العصر وأصحاب العقول الراقية، ولصوته دوي في محافل العالم المتمدن، وهو من نادرة الرجال السياسيين، يقول ما يفتكر ولا يماري، وهو في حكمه لم يوارب، بل قال ما يعتقد أنه الحق الصراح، إلا أن ذلك كله لا يوجب أن يكون قوله حقا؛ فهو إذن أخطأ - والخطأ تسرب إلى حكمه من كل ما تقدم - حيث قال إن شريعة القرآن لا توافق العمران في كل عصر وإن وافقته في بعض العصور، ونفس قوله هذا حجة عليه؛ لأن العمران لا يتسامح في شرائعه. ولو قال إن الأديان لا توافق مصلحة العمران لكان في قوله نظر، لا بالنظر إلى مبادئها، بل لخروج دعاتها بها أحيانا كثيرة عن جادتها، ووقوفهم بها في سبيله. أما وقد قال قوله، فالذي يصح على دين يصح على آخر، والقضايا التي استند إليها واعتبرها من جوهر الدين كان يمكنه أن يعتبرها في الدين الإسلامي كسواها في سائر الأديان مما يمكن تجاوزه، لولا أنه رأى استمساك رجال الدين بها، وقيامهم في وجه المصلحين منهم كأنها من غرض الشارع، ولذكر أن خلافهم فيها وفيما ضاهاها من المسائل الاجتماعية لأشبه شيء بالمناقشات الدينية التي كادت تقضي على أمم النصرانية في عصور الجهل، والتي أحدثت تأثيرها السيئ في الأمم الإسلامية كما هو اليوم.
وما مثل رجال الدين الإسلامي فيها إلا مثل رجال الدين في أوروبا لما قاموا على غليلي يكفرونه لأنه قال إن الأرض تدور، وفي كتبهم أن يشوع أوقف الشمس، ثم ثبتت حركة الأرض ولم يمس جوهر النصرانية بأذى، وهل يعقل أن القرآن الطامح إلى أبعد المرامي الاجتماعية يكون قد أراد بمثل هذه القضايا أن يجعلها غلا في عنق العمران؟ وكيف لا يجوز حملها على محمل المجاز، وكتب الدين مشحونة بأمثال هذا الكلام من المجاز والاستعارة، ولا سيما القرآن ؟
3
وبالحقيقة إن علاقة الدين بالعمران من حيث تأثيره في ارتقائه وتقهقره ليست إلا عارضة، وإلا ما ارتقى العمران وتقهقر وهو تحت سلطان دين واحد، وإذا كان قد وقف ورجع القهقرى مرارا كثيرة بسبب الأديان فما ذلك بسبب تعاليم الدين نفسه، بل من الذين ادعوا الزعامة عليه، فقصروا في إدراكه أو تاجروا به.
وتاريخ الاجتماع شاهد عدل على ما نقول؛ فاليونان بلغوا من التمدن شأوا بعيدا، وكانوا من المشركين بمعنى الكلمة الحقيقي؛ أي كانوا يعبدون آلهة كثيرة، ومثلهم الرومان، وكانوا يعبدون الأصنام. وقد تقهقر الروم على عهد النصرانية حتى انحلت عرى ملكهم، وقام العرب وشادوا على أنقاض دولهم ودول الأكاسرة ملكا باذخا، وهم حديثو العهد بالدين. ولقد كانت أوروبا في العصور الوسطى في حالة سيئة جدا مع انتشار النصرانية فيها، إلى درجة لم يكن الناس يرون السعادة إلا بالاعتزال في الأديرة والصلاة على قارعة الطريق. ولولا الانشقاق العظيم الذي حصل فيها من قيام بعض رجال الشجاعة كلوثر وما جر ذلك بعده من اضطرام نار الثورة الفرنساوية التي حطت من صولة الأكليروس والحكام؛ لما أغنت النصرانية أممها شيئا، ولما ارتقوا إلى ما هم عليه الآن.
والذي أصاب النصرانية أصاب الإسلام نفسه؛ فراح فريسة مطامع الطامعين من الحكام ورجال الدين من ضعاف الأفهام وأصحاب الأغراض، وسقط الشعب في مهواة الجهل، فأخذ يتقهقر وسواه يتقدم، وجنى على الدين حكم الحاكمين عليه.
فترى مما تقدم أن الدين نفسه ليس العقبة الحقيقية في سبيل العمران، بل رجال الدين أنفسهم، وأي برهان على ذلك أسطع من سهولة ارتقاء اليابان؟ فإنها لما تحاكت مع أوروبا، وقام فيها عاهل يفهم قيمة الارتقاء بنشر العلم، وتأييد الصناعة؛ نشطت وارتقت بسرعة لا مثيل لها في التاريخ؛ وما ذلك إلا لأن الحائل دون ارتقائها كان السلطة الحاكمة، فلما زال هذا الحائل لم تصادف الأمة عقبات أخرى من رجال الدين؛ لأنهم هناك ليسوا شيئا يذكر؛ لأن الدين عندهم شذرات من شرائع أهمها البوذية، وهي تعاليم أدبية اجتماعية أكثر منها دينية.
ولقد ردت الجرائد على هذا الطعن كل بحسب ما تراءى له أنه معزز للدين، ولكني أقول بكل أسف إنهم لم يريدوا أن ينظروا إلى الحقيقة كما هي، فلم ينظروا إلى تقهقر العالم الإسلامي والأسباب التي دعته إلى هذا التقهقر، وهم في موقف اليوم يغبطون عليه للمجاهرة بالحق. نعم إن الحق يجرح، ولكن الإنسان الذي يبحث في جسمه عن محل الألم ليداويه يفلح أكثر من الذي يحاول أن يخفيه. ولو فعلوا لخدموا الدين وخدموا أنفسهم بالتنبيه إلى مواطن العلة للنهوض من الوهدة التي سقطوا فيها بسبب جهل زعماء الدين، الذين هم وحدهم المسئولون عما جنوا على العمران وعلى أممهم وعلى الدين نفسه بالاشتراك مع الحكام، فساقوهم بعصي المظالم عصورا متطاولة، ولفتحوا أمامهم الباب واسعا لإدخال الإصلاح بينهم ولو بثورة في قلب الأمم الإسلامية تحديا بمن سبقهم من الأمم الأخرى، ذلك خير لهم من فنائهم بالابتلاع شيئا فشيئا كما هو الواقع اليوم.
فالمنصف لا يسعه أن يلقي على القرآن تبعة تقهقر الأمم الإسلامية، بل على الرؤساء من رجال الدين والحكام. فإذا أرادت الأمم الإسلامية أن تجاري الأمم المتمدنة في ارتقائها فالقرآن لا يحول دونها، كما أن الإنجيل لم يكن الباعث على نهضة تلك، وما عليها إلا أن تجاريهم وتضرب الضربة الشديدة على أيدي الرؤساء عموما؛ لتكشف بالعلم سجوف الجهل المسدولة على عقول الشعب.
وإني لأستغرب من جرائدنا مع ما أظهرته اليوم من الحمية لنصر الدين، كيف أنها لم تقم قيامتها اللازمة لنصر رجل جهر بالحق منذ عهد قريب لتطهير الدين من البدع الشائنة، ولمنع وقوع الحيف عليه، ولم يسمع حينئذ إلا صوت أولئك الذين ضربوا على يد الضارب على هذه البدع، ولم يسمع لهم صوت اليوم كأن الدين معايش، وهي لو فعلت لنصرت الدين نصرا مبينا، ومهدت السبيل ل «لوثر» يصلح من عقائدها، ويدفع عن القرآن تهما ما أنزل الله بها من سلطان. ولعل الصوت القاسي الذي جاءهم اليوم من وراء البحار ينبههم أكثر إلى هذا الفرض الواجب، فيهبون هبتهم إلى هذا الإصلاح ، ويقولون ونحن نردد معهم:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
المقالة السابعة
ماذا قرأ وماذا رأى1
الإنسان لا يرى الحقيقة لأنه أعرق في جهلها، وإذا رآها لا يريد أن يعرفها لأنها تروعه، فيدور حولها ويروغ منها لأنه ألف التمويه في كل شيء، وإنه ليفضل أن يكذب على نفسه إذا عرفها من أن يقولها. ***
هيولي تملأ الفضاء متحركة حركة دائمة، لا أول لها يعرف ولا آخر يوصف، كأنها سلسلة حلقات متصل أولها بآخرها، أو نقطة من محيط دائرة لا يعرف أين تبتدي ولا أين تنتهي.
زوابع تثور، فتتحول جواهر تتضام دقائق فذرات فأجساما فأجراما، تسبح في هذا الفضاء، تنقسم شموسا تضيء وأقمارا تستمد وسيارات تدور، وثوابت ليست ثوابت إلا بالنسبة إلى سياراتها، وإلا فالكل في فلك يدور.
قوى تتجاذب متبايناتها وتتنافر متشابهاتها، تتحد بها أجزاء المادة صنوفا، وتنتظم صنوفها صفوفا، فيها الرفيع والوضيع، والبسيط والمركب، نماؤها من ظاهر بطيئة النماء بطيئة الانحلال.
معدن نام وما هو بحي، منفعل وما هو بحاس، يتعاظم وما هو بباق، وينحل وما هو بفان، متحول وإن لم يبد لك في الحال، متغير ولكن على مر العصور والأجيال.
قوى تنتظم إلى أن تفقد الانتظام، تستولي على المادة فتحولها في الحال إلى أجسام تتغذى وتحس وتتحرك، سريعة النماء سريعة الانحلال، نماؤها من داخل بالقلب والإبدال.
حي ينقسم نباتا يتغذى، وحيوانا يحس ويتحرك، ينبت من بذرة قد لا تراها العين فيتعالى ويتعاظم، ثم يموت ولا يموت، بل يرد إلى المادة ما استعار منها، ثم يرقد في بذرة عائدا من حيث أتى.
معدن ونبات وحيوان، هي موضوع الإعجاب والاستغراب، تراها منفصلة وليس بينها فواصل، أفق الواحد متصل بأفق الآخر كأنه منه ومتحول عنه.
مواد الكل واحدة مرجعها إلى الهيولي، وقواه واحدة مرجعها إلى الحركة، والهيولي والحركة سيان فلا تنفصلان، والهيولي فرض لبسيط المادة، والحركة حقيقة بينة تتحول إلى كل القوى المعروفة، وترد إليها كل القوى المعروفة: الحرارة والنور والكهربائية والمغناطيسية والحياة نفسها. فالحركة أصل الكل.
الكل باق لا يدثر ، وما هي إلا صور تمر وأشكال تتحول وأوضاع تتغير في حلقة هذا الدور.
أدوار تنتظم أياما، وأيام تنتظم شهورا، وشهور تنتظم فصولا، وفصول تنتظم سنين، ثم يعود الدور.
ينبثق نور فيبدد غياهب الظلماء، ثم يعقبه ليل بهيم يسد منافس الغبراء، فيدور اليوم. يطلع القمر هلالا كأنه الطفل وقد أهل، ويكتمل بدرا، ثم يتناقص عائدا على بدئه كأنه يمثل حياة الإنسان بالزيادة والنقصان، فيدور الشهر.
يبدو وجه الطبيعة كالحا كأن الموت قد حل، وتلبس الأرض ثوبا قاحلا كأنه جلد الهرم، وتتلبد غيوم كأنها الهموم، وتلمع بروق كأنها الآمال في وسط المصائب، وتقصف رعود كأنها غضب الآلهة، أو صراخ أهل الجحيم وهم يعذبون فيما يقولون، وتعصف رياح تصفر كصوت البوم، على الرسوم، وينعقد البخار سحابا فتتفتح عيون السماء كأنها تضحك ضحك القنط من فارغ الأمل، أو تبكي بكاء الثكلى من دنو الأجل، فتتفجر عيون الأرض ضاحكة لضحكها أو باكية لبكائها، فتسيل الجداول والأنهار، وتسترد البحار ما أعطت، فتتعاظم كبرا وتنتفخ عجبا، كأنها تقول:
هذه بضاعتنا ردت إلينا ، وتذبل عيون المسيل كأنها تتذكر الآية
إنا لله وإنا إليه راجعون .
فإذا انقضى الشتاء انبسط وجه السماء، وافتر له ثغر البسيطة باسما، وبرزت الأرض كالعروس تتهادى بحلة سندسية، وأخضلت الغصون كأنها القدود، وقد لانت وتمايلت طربا كأنها الخصور وقد دقت، أو القلوب وقد رقت، وتفتقت الأنوار من أكمامها كأنها وجوه الحسان وقد برزت من حجابها، وفاح أرج الأزهار على نغم الأطيار، فانتعشت لها الأنفاس كأنها الأعراس والكل فيها فرحون.
فإذا انقضى الربيع أقبلت الطبيعة مثقلة كالرجل وقد فارق زمن الصبا، وأقبل على زمن الجد والكد، ينظر إلى ما زرعه في ماضيه، وما يحصده في حاضره، وما سيدخره لمستقبله.
فإذا انقضى الصيف جاء الخريف بذبوله واصفراره، كالشيخ وقد فرغ منه الأمل، يتوقع حلول الأجل. وهكذا ينتهي الحول ويرجع الدور.
وفي وسط ذلك كله قائم ذلك الكائن العجيب ملتقى النقيضين، ومجتمع الضدين، أضعف من النبات والحيوان في بنيانه، وأقوى الكائنات بمستنبطات جنانه، عاقل جاهل، يرتفع بأفكاره تارة إلى السها حتى يقال:
إن هذا إلا ملك كريم ، وينحط بأعماله طورا إلى الحضيض حتى يقال: «إن هذا إلا شيطان رجيم.» حيوان إلى أقصى درجات الحيوانية وما هو بحيوان، إله إلى حد المعجزات وما هو من سكان الجنان؛ ذلك هو الإنسان.
وقف على البسيطة عاريا جائعا خائفا كأن أصله ليس من هذا المكان، وذهل أنه هو الإنسان «المطرود من الجنان»، البرد يؤذيه، والحر يعييه، والجوع يضنيه. فسكن المغائر، وخصف أوراق الشجر عليه، ورعى النبات كالسائمة، وأكل أشلاء الحيوان كالكواسر.
نظر إلى الحيوان فراعه ما رآه فيه من القوة واكتمال العدة، فارتعدت فرائصه خوفا منه، وليس له براثن تقيه أو مخالب تحميه، فعمد إلى كهوف الأرض يختبئ فيها عنه، وتسلق الأشجار العالية هربا منه.
عمد إلى الحجارة يحكها حكا ليصنع منها سلاحا يذود به عن نفسه، ويسطو به على سواه. فاخترع السلاح واهتدى إلى الصيد، وتطاير الشرار من احتكاك الحجارة فاكتشف النار، واهتدى إلى أكل طعامه مشويا بعد أن كان يأكله نيا، وكان ذلك أول «اختراع» وأول «اكتشاف».
نقب في الأرض فاهتدى إلى المعادن، ورآها تلين في النار، فاصطنع منها العدد، وتفنن وأتقن، وشعر بنفسه أنه نال بها قوة ذللت له الطبيعة، فبنى البيوت واصطنع الكساء من ألياف النبات، وشق الأرض وزرع وحصد، واستثمر النبات وذلل الحيوان، وكاد يتذكر «أنه المطرود من الجنان».
رأى الأرض واسعة ومطامعه شاسعة، فامتطى الحيوان جوادا يقطع به مفاوز الغبراء، وبنى المركبات لنقل الأثقال واستطلاع مناجع الكلاء.
ضاقت به الأرض على سعتها، واعترضته البحار فبنى المراكب، وأخذ يجذف في عرض الماء، ثم اصطنع الشراع، واستقبل به مهاب الهواء. وهكذا أصبح سيد البر وسلطان البحر.
رأى التعاون أدعى إلى القوة، فانتظم جماعات، وبنى المدائن، واختط الممالك، وشاد الحصون المنيعة والقصور الرفيعة، وغرس الحدائق تجري من تحتها الأنهار، كأنه أراد أن يعيد بها «الفردوس الضائع»، وتأنق في المأكل واللباس والأثاث، وأغرب في الكماليات بعد الحاجيات حتى تخطاها إلى الزخارف.
نظر في العلوم فحفظ المعلوم، وطلب المجهول فانكشفت له أسرار الطبيعة، فاستخرج من كنوزها وأسر قواها، فاستسرى البخار واستنطق البرق، فاستعاض عن الشراع ببواخر تمخر في عرض البحار، وعن الجياد بقواطر تسابق الرياح، وتقرب الشاسع من الأقطار.
طمح ببصره إلى العلياء، فأخذ يحدق في القبة الزرقاء، وقد كان ظنها «جلدا» مصفحا وكواكبها أنوار سكان السماء، فما لبث أن اخترقها بذكائه، فعرف حقيقتها ووقف على تركيبها، وقاس ما بينها من الأبعاد كأنها منه «على قاب قوسين أو أدنى».
رأى الطبيعة قد دانت له قريبها وبعيدها، عاليها وسافلها، ظاهرها وباطنها، جمادها ونباتها وحيوانها، فعتا وتكبر، وطغى وتجبر، وشق عليه أن ليس أمامه جبار «يهدد كل جبار عنيد» ليقول له: «فها أنا ذاك جبار عنيد.» حتى شاد من الأوهام حقائق، وقام يناصب آلهته العدوان، كأنه تذكر أنه «طريدها في سالف الأزمان».
رأى كل ذلك، فرآه حقيرا في عينيه ذليلا لديه، «أي مكان يرتقي؟ أي عظيم يتقي؟» فلم يجد أصعب على نفسه منه هو نفسه، فسعى ليقهر بعضه بعضا، ويسود بعضه على بعض؛ إنسان على إنسان، وقبيلة على قبيلة، وأمة على أمة، وفرد على أمة. فسن الشرائع، ووضع القوانين توافق أميال القوي وتهضم حقوق الضعيف، فظلم وهو ينادي بالعدل، وتجبر وهو يعلم الناس التواضع، وعتا وهو يوصيهم بالحلم.
شرائع أصلها «العادات»، وقوانين لم تتخط المألوف، ثبتت على مر الأزمان، مع أن العادات تتغير، وكذلك الإنسان. شرائع لم يقتصر فيها على المعاملات، بل تناول بها ما وراء المنظور؛ لكي تكون أوقع في النفوس وأبلغ للمنى.
رأى كل ذلك دونه، فصبا بنفسه إلى ما وراء الطبيعة، فبنى من الأوهام أبراجا، وامتطى من الغرور معراجا، وقال في نفسه: «لعلي إله ولا أدري. ألست سيد هذه المخلوقات وسلطان هذه الكائنات؟ فهل يصح أن يكون عنصري كعنصرها وحظي كحظها؟ يوم يروح ويوم يجيء، وأرحام تدفع وأرض تبلع. لا، فأنا من عنصر أعلى؛ لذلك نفسي تصبو إليه، أصلي منه ومرجعي إليه، فأنا إله في صورة إنسان أو إنسان في نفس إله.»
إله ولكن عبد شهواته وأسير احتياجاته، يرتدي ثوبا كثفت هيولاه، إليها مرجعه ومنها قواه. إله ينحل كالجماد ويتغذى كالنبات ويتألم كالحيوان. فإذا انحل لم يترك غير كثيف المادة، وإذا اغتذى فلا يغتذي إلا منها، وإذا تحرك فلا يتحرك إلا فيها وبها. إله يولد وما هو بباق، ويموت وما هو بفان. يمثل الفصول في أدوارها والمادة في أطوارها. ينشأ بذرة كالنبات والحيوان، ينمو مثلهما، ويتعاظم مستعيرا عناصر المادة إلى أن يهرم، فيرقد في بذرته عائدا من حيث أتى بعد أن يكون قد رد إلى الطبيعة ثيابا عارية وأخلاقا بالية، استعارها منها ولم يكن له غنى عنها.
علم ذلك كله في هبة مرت مر السحاب، حطت من كبريائه وكسرت من خيلائه، ارتسمت له الحقيقة فيها مجردة عن زخرف الكلام وبهرجة الخيال. في هبة انتعاش هو منتهى الحياة وابتداء الموت، كالانتعاش الذي يسبق انطفاء النور. استيقظ فيها كالنائم وقد انتبه، فرأى الحقيقة مرتسمة أمامه بأحرف نافرة تنفذ الأبصار ولا تفوتها العين، قرأها ثم رقد. ماذا قرأ؟ وماذا رأى؟ لم يقل.
المقالة الثامنة
حول مقالتي
1
بحث بسيكولوجي سوسيولوجي أو أخلاقي عمراني
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
كنت جالسا ذات يوم بين فريق من نخبة الأدباء، فسمعتهم يتحدثون بما جاء في «كتاب مصر الحديثة» من التعريض بدين القرآن، وما أحدثه ذلك من الثورة في الأفكار، وما ترتب عليها من المناقشات في الأندية والمجالس والردود في الجرائد. ورأيت مدار بحثهم قائما على المسائل الخلافية التي لا ينضب البحث فيها، ولا تأتي بجدوى غير إثارة الضغائن واحتدام الخصام، واشتداد الجدال على أمور لا طائل تحتها يظنها الباحث من جوهر الدين، وهي عند العاقل ليست منه في شيء. ورأيت أن البحث على هذه الصورة لا يزيد نار الخلاف إلا استعارا، ويزيد الانشقاق بين أصحاب الأديان المختلفة، ولا يفيد أصحاب الدين الواحد فائدة عمرانية البتة. يدخلون لبحث بهوى التشيع، ويخرجون منه بنار التحمس، وكل يخيل له أنه محكم العقل فيما يذهب إليه، وأنه على هدى وسواه في ضلال مبين، وما منهم من يشك فيما يقول ، ولا يذكر أنه إنما شب على هذا الدين أو ذاك المذهب كرها لا طوعا، طبقا للحديث النبوي: «كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه.»
ولا يخفى ما في هذا الكلام من الحكمة الرائعة والفلسفة العالية، وكأني أشرت إلى ذلك في كلامي على التربية الأولى، وما لها من الأثر الراسخ في الذهن حتى يصير فيه من البدائه التي تفوق طور الروية، فلا تقبل تمحيصا ولا تطيق جدالا.
وكأن الحقيقة بدت لي في غير ما هم فيه يخوضون، فرأيت أن في المسألة نظرا دقيقا، وكأنما الكل عنه غافلون، فقلت لهم إني لا أرى رأي أحد منكم، لا رأي صاحب كتاب «مصر الحديثة»، ولا رأي كل منكم على اختلاف منازعكم الدينية؛ فالدين في نظري لا علاقة له رأسا بالعمران من حيث تأثيره في ارتقائه ووقوفه وتقهقره، أو هو تأثيره واحد فيه؛ لأن كل الأديان أصولها واحدة في كل الأمم، وتصبو إلى غاية واحدة اجتماعية، وهي إصلاح أمور الإنسان في معايشه، ولا يؤثر فيه إلا نزعات رجاله في أحكامه الفرعية. فإذا عملوا بموجب الدين، وحكموا العقل في تطبيق هذه الأحكام على مصلحة العمران بحسب روح كل زمان؛ لم يصده ذلك عن الارتقاء.
وعزمت على الكتابة في الموضوع؛ لأني قلت في نفسي إن لم يوجه تيار البحث في هذه المسألة الوعرة إلى هذه الجهة، فإنه يستحيل زحزحة الأفكار عن مألوفها بالسرعة اللازمة لتحقيق هذه الأمنية المنشودة، وهي ارتقاء الإنسان في العمران، وإلا فهناك تيار آخر سيله جارف يسير بسرعة البرق، سوف يقضي علينا إذا كنا لا ننهض لمقاومته بسرعة تحاكي سرعته، وبمعدات تحاكي معداته. وأبديت فكري هذا لكثيرين، وأكثرهم استصوبوا رأيي، ولكني رأيت بعضهم يشك في النتيجة، ومنهم رجل ذو علم وأدب وقف مطرقا ولم يتكلم، وكأني قرأت على وجهه أنه غير واثق من عملي؛ لعلمه بما أنا عليه من المبادئ، وما انطوى الجمهور عليه من الانطباع لفهم الأشياء كل على هواه، فيصعب علي أن أخوض لج هذا البحث وأخرج منه سليما من دون أن أمس شعائر أصحاب دين في دينهم، وهناك الطامة الكبرى. ولما أبديت له أن كلامي سيكون على علاقة الدين بالعمران، وهذا لا يستلزم البحث إلا في جوهر الأديان، وأن النزعة العمرانية في هذا الجوهر تكاد تكون واحدة في سائرها حتى الاجتماعية منها، وأن الأحكام الفرعية في كل دين يلزم أن يرجع فيها إلى هذا الجوهر؛ رأيت كأني أقرأ على وجهه أكثر من ذلك، وهو اعتقاده بأن الإسلام ليس في أحكامه المرونة اللازمة لتطبيقها على مصلحة العمران، فتذكرت عند ذلك أثر تلك النشأة، وقلت إذا كان هذا مفعولها في ذي عقل راجح، فما بالك في سواه؟ وما قلت قولي هذا إلا لاعتقادي بأنه ما من دين يجوز أن يقف حائلا في سبيل الارتقاء إذا حكموا العقل في أحكامه المتعلقة بالمعاملات. ومنهم من نصحني بالعدول لئلا أصادف ما لا أحب؛ علما منه بأن الناس يذهبون في تأويل كل أمر مذاهب، ويخرجونه كما يشاءون وكما تشاء أهواؤهم، فلا يبعد أن يرموني بغير ما أقصد، ويدفعوني إلى ما أكره.
أما أنا فآفتي - إذا كان ذلك يعد آفة - أنه متى بدت لي حقيقة تستهويني حتى لا أعود أضبط نفسي عن إبدائها، وعذري في ذلك أن الحقيقة لا يكفي أن تعلم، بل يجب أن تقال أيضا، وإلا بقي الناس في العمى وساءوا مصيرا. وقلت إذا كان الاجتهاد الذي هو ركن من أركان الدين الإسلامي لا يذلل هذه الصعوبات، فالذنب ليس على القرآن، بل على الرؤساء الذين بيدهم الحل والربط في هذه الأحكام، وباب الاجتهاد لا يجوز أن يقفل مهما قال المتقولون من أنصار التقهقر ما دام الدين دينا والعمران عمرانا. ولا بد لي، كيف كان الأمر، من نصر القرآن إعجابا به وبصاحبه وإن كنت خارجا عن دينه؛ فالحقيقة أعم من أن تكون ضالة المؤمن وحده كما يفهمون، ونصرها واجب على كل منصف.
وكيف لا يحق لي الإعجاب بصاحب هذا الكتاب والناس قد بلغ إعجابهم برجل مثل نابليون إلى أن عدوه من خوارق الطبيعة، ولو قلت عاطفة التقى لألهوه. والظاهر أن الناس لا يعظمون إلا كل فتاك بهم. والفرق بين الاثنين اجتماعيا كالفرق بين الثريا والثرى، وهل يقاس بالمصلح الحقيقي رجل سفاح كنابوليون ضحى لمطامعه كل غاية اجتماعية، وبنى على أنقاض الثورة الفرنساوية الجليلة المبدأ، التي هدمها بيده بعد أن استخدمها لمقاصده، ملكا متداعي البنيان، لا غاية فيه إلا فخر الفتح، وتأييد المطامع الذاتية وحدها؟ وشاد قانونا عده الناس آية في المرامي الاجتماعية، وما هو، كما قلت فيه ولو كبر على مريديه، إلا مجموع شبهات وظنون فيما هو كائن وما يكون، على ما بين ذلك المصلح ونابوليون من التباين العظيم في روح العصر الذي قام كل منهما فيه. وما من أحد يستطيع أن يقدر الضرر الذي أحدثه نابليون قدره بتحويله مبدأ الثورة الفرنساوية إلى خدمة أغراضه، وبضربه على يد العمران بقانون كان له كالغل في عنقه والقيد في رجله، حتى إذا مشى مشى به متثاقلا.
وهل ينكر التمدن فضل دين القرآن عليه، يوم كانت الشعوب المعول عليها في ذلك العهد منغمسة في الترف لاهية به عن العلم، فكان الإسلام محيي رفاته، وناشر لوائه، وحافظ كنوزه. ولولاه لربما كان قد قضي على علوم اليونان وآدابهم وفلسفتهم، ولا أقول إنه هو الذي نقلها كلها، وإنما صانها من أيدي أولئك الذين لو بقوا وشأنهم لعبثوا بها، ولم يدعوا شيئا منها يصل إلينا.
وإعجابي بصاحب الشريعة المحمدية لا يقل عن إعجابي بصاحب الإنجيل، وما في شريعته من الحض على التساهل وحب الإنسان بعضه لبعض، مما لا يمكن أن يصح بدونه عمران، ولا فرق بين الشريعتين في جوهرهما اجتماعيا حتى ولا دينيا. كيف لا وقد قال كلاهما إنهما أتيا لا لينقضا الناموس، بل لإكمال أعمال النبيين قبلهما؟ ولقد عرف الناس لهما هذا الفضل من الوجهة الدينية، فأقاموا لهما المعابد من مساجد وكنائس، آثارا ناطقة بمجدهما، ولو أنصفهما العمرانيون لأقاموا لهما آثارا مدنية (عفوا سادتي لا تكفروني، لكم دينكم ولي دين) تنطق بمآثرهما الاجتماعية، فيعرف جميع الناس على السواء فضلهما، وتزول الحوائل من بينهم، فيندفعون في العمران مرتقين، بدلا من أن يقوموا فيه بعضهم على بعض متخاذلين متقهقرين.
وبعد أن وطنت النفس على ذلك قمت وكتبت مقالتي «القرآن والعمران» متكلا فيها على نفسي، حتى إذا كان هناك تبعة أتحملها وحدي، وقد تخلصت بذلك من تهمتين؛ تهمة التعصب وتهمة التوكل، اللتين يرمي البراهمة بهما أتباع الأديان السامية. فقد ذكر الدكتور «هوج» أن البراهمة قالوا له، منددين بتعصب النصارى لدينهم واضطهادهم لمخالفيهم: «إن هذا التعصب فيهم دليل على ضيق العقل؛ لأن العاقل لا يضطهد أحدا لدينه.» ولما أرادوا المفاخرة قالوا له: «أنتم تجعلون كل اتكالكم على الله، وأما نحن فلا نتكل إلى على أنفسنا، ودينكم مصدره من شعب من أصل سامي، وهذا الأصل أدنى من أصلنا، وليس عنده فكر فلسفي غير مستعار.»
والبراهمة كما في الملل والنحل ينتسبون إلى رجل منهم يقال له «برهام»، قد مهد لهم نفي النبوات أصلا، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوه، منها أنه قال: «إن الذي يأتي به الرسول إما أن يكون معقولا، وإما ألا يكون معقولا؛ فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه، فأي حاجة إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولا، فلا يكون مقبولا؛ إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية، ودخول في طور البهيمية.»
والظاهر أني نجحت في مقالتي أكثر من نجاح البراهمة بالاتكال على أنفسهم؛ فما انتشرت في المؤيد حتى صادفت استحسان كثيرين من عقلاء الأمتين المحمدية والمسيحية، بعضهم صرح بذلك على صفحات المؤيد، وبعضهم بكتب خصوصية لي، وآخرون مشافهة في حديث معي. ولما آنست ذلك من الذين يهمهم أمر هذا البحث أكثر من سواهم، طلبت منهم أن يؤيدوني بكتاباتهم في الجرائد خدمة لأمتهم فأحجموا، فعلمت أن الحرية فيهم لم تتجاوز حد الفكر، ولم تصل بهم إلى القول، وخصوصا النشر، كأنهم يخشون سطوة الجمهور أكثر من ربهم. واعتذرت عنهم أن ذلك منهم لقلة ثقتهم في هذا الجمهور خوفا من شره، ولشدة طمعهم برحمة الله. ولولا علمي بناموس الأفعال المتجمعة وما يترتب عليه بعد حين من الأفعال العظيمة، لقلت إني أخطأت المرمى، وإن مقالتي جاءت قبل أوانها. على أن أثرها مهما كان اليوم قليلا فسينضج بالاختمار، كما يختمر العجين وتنضج الأثمار، ويصير مع الزمان شيئا عظيما.
ولكن مقالتي لم تعدم منتقدا، وهذا ما كنت أتوقعه؛ لعلمي أن ما من عمل حسنا كان أو رديئا إلا ويجد أنصارا مستحسنين وخصوما مهجنين؛ فالحسناء لا تعدم ذاما، كما أن الفولة المسوسة تجد كيالها الأعمى. فأنا لم أستغرب قيام بعضهم للرد علي، ولا أنا ممن يكرهون الانتقاد أو يدعون العصمة، ولا أنا أجهل قول المثل: «من ألف فقد استهدف.» وإنما الذي استغربته صرف كلامي إلى غير وجهته، وتأويله على غير مفهومه، وهو بالحقيقة اجتهاد هنا إلى حد الشرود عن المقصود. والحق يقال إن أعمال العقل غاية في الغرابة، ولولا ذلك لما اختلف الناس في نظرهم إلى الشيء الواحد، وإلى هذه الغرابة أفضل أن أنسب اختلاف نظر الذين نظروا في كلامي على ما فيه من التعيين الواضح، لا إلى قصد سيئ منهم.
ففريق من النصارى زعم أني عرضت بالدين المسيحي، ونشر أحدهم في جريدة الوطن مقالة أنكر علي فيها استشهادي ببعض آيات الإنجيل ناسبا إلي وضعها في غير موضعها، كأني فهمتها كما يدل عليه ظاهرها غير معتبر المقام الذي وردت فيه. ولو أنصفني لعلم أني ما ذكرتها إلا وأنا في مقام بيان أظهر فيه ما في كتب الدين من كلام الاستعارة والمجاز الذي يتسع فيه مجال التخريج والتأويل؛ حثا على وجوب الاجتهاد في قضايا الدين كلما وجد بينها وبين مصلحة العمران ومصلحة العلم أقل اختلاف؛ لئلا نجني على العمران وعلى الدين نفسه معا إذا استمسكنا بتلك القضايا استمساكا أعمى. وبعضهم ألمع إلى ما يشم منه أني متحيز فيما كتبت لا ناصر حقيقة. وهؤلاء هم الذين يقرءون كل شيء كما هو في باليات قحوفهم. فليعلم الذين لا يدركون معنى ما يكتب أو ما يقال أني حتى اليوم ما تحيزت إلا لما اعتقدته الصواب، فأنا لم أكتب ما كتبت إلا لاعتقادي أنه الحق، ولم أجعل لعاقل سبيلا لأن يرميني بتهمة التحيز لدين من الأديان أو لقوم من الأقوام، وما قصدت بذلك إلا خدمة مصلحة الإنسان في العمران.
ومنهم من قام يناقشني في المفاضلة بين الدينين، وهو خروج عن بحثي، كما أوضحت ذلك في ديباجة مقالتي، فقام في الرد علي يظهر تحامله على الدين المسيحي، وليس في بحثي ما يجعل له أقل مسوغ لأن ينحو معي هذا النحو، فجذبني من سماء التجرد للكليات إلى أرض المشاحنات في الجزئيات، ونصبني في مقام رجل مسيحي أو أقول قوله، وأخذ يغرف لي من تلك الألوان ما شاء وشاء سخاؤه، وأنا من فضله أصيب حتى امتلأت معدتي، وهو أدب رائع. ولا شك أنه انقاد إلى ذلك بهوى التشيع وهو يقرأ مقالتي، فذهل عن مسلكي فيها، ونسي في تحمسه الغاية التي قصدتها منها، وقام يضرب على هذا الوتر المضلل والمنفر، والذي يرجح عندي ذلك قوله: «قرأت مقال فلان (أي مقالتي) الساعة.» أراد بذلك أنه قرأها في الساعة التي بعث فيها برده إلى الجريدة، فكأنه لم يتروها جيدا، فما وصل إلى آخرها حتى كان قد نسي أولها حيث أقول:
ليس من غرضي هنا أن أتكلم على الأديان كشرائع موحاة، ولا أن أبين مزية دين على دين، ولا أن أدخل غمار البحث في قضايا كل دين لإقرارها أو تخريجها إلى ما يوافق، بل أن أبين حقيقة علاقة الأديان بالعمران من وجهها الاجتماعي.
ثم قارنت بين أصول الأديان، واتصلت فيها إلى نتيجة اجتماعية واحدة، وبنيت عليها بحثي.
ولعله أراد بذلك أن يجاري أكثر كتابنا فيما اصطلحوا عليه من مثل قولهم: «ما حملني على أن أكتب في هذا الموضوع إلا إشارة من لا تسعني مخالفته، فقمت على ما بي من المشاغل وضيق الوقت وقلة البضاعة.» إلى غير ذلك من كلام الكبر في التواضع؛ ليبينوا للناس فضلهم وسرعة خاطرهم. ولو تدبروا الأمر جيدا لعدلوا عن مثل هذا الكلام البارد، ولعلموا أن الإسراع وعدم التأني لا يقيانهم ملاما إذا أخطئوا، ولا يكسبانهم زيادة فخر إذا أصابوا، كما أن التدبر والتردد ليسا دليلا على العي. وأما أنا فالله يشهد والناس يشهدون أني ترددت كثيرا، ولولا أن فوجئت من كل جهة، ولولا خوفي أن ينصرف الجمهور بذلك عن فهم مقالتي على حقيقتها؛ لما عمدت إلى الرد واضطررت إلى هذا البيان.
ولقد أعجبني قول أحد أفاضل المسلمين في انتقاده على منتقدي إذ قال: «لو قال قوله هذا في مقال وجهه إلى سواك لربما كان له فيه وجه، أما وقد قاله في وجهك فما وجهه فيه وأنت تدافع عن دينه؟» قلت لعله كبر عليه أني جعلت أصول دينه كأصول سواه، فاعتبرني شر نصير، فدفع إلي كتابا كان قد جاءني به وقال: «خذ اقرأ.» فقرأت:
اعلم أن دين الله في كل الأمم واحد لا تختلف أصوله باختلاف الأمم وأحوالها وأزمانها وأمكنتها، وإنما الذي يختلف باختلاف ذلك هي الأحكام الفرعية. وذكر الآية:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين ...
إلخ.
2
والذي حملني على هذا الظن ذكره دين البراهمة في هذا المعرض، وهو لا ينظر إلى النصرانية بأحسن من نظره إليه، فهو يأبى أن يسلم بأن أصول دينه كأصول دين سواه. فاعلم يا صاحبي، قبلت أم لم تقبل، أن أصول الأديان المختصة بالعمران واحدة حتى في الأديان الاجتماعية. قلت الأديان الاجتماعية لأنه يوجد دين يجوز أن يسمى كذلك ليس فيه شيء مما هو مصطلح عليه في سائر الأديان، وأساسه الأدب والإنسانية، وبعبارة أخرى الفضيلة، وهو دين بوذا الذي هو أكثر الأديان انتشارا بعد دين المسيح؛ فإن البوذيين يبلغون 450 مليونا، والمسحيين 475 مليونا.
وهذه شذرة من تعاليم هذا الدين تنبئك عن أصوله. جاء في الملل والنحل قال: «ودون مرتبة البد (أي بوذا) البوديسعية، ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق، وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية، وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه، وبالامتناع والتخلي عن الدنيا، والإعراض عن شهواتها ولذاتها، والعفة عن محارمها، والرحمة على جميع الخلق، والاجتناب عن الذنوب العشرة : قتل كل ذي روح، واستحلال أموال الناس، والزنا، والكذب، والنميمة، والبذاء، والشتم، وشناعة الألقاب، والسفه، والجحد لجزاء الآخرة.» انتهى. وهي كما ترى أشبه شيء بالوصايا العشر عند النصارى.
ولم تقتصر الأديان على أخذ الفضائل عن بعضها مما يعد من أصول الدين، بل أخذت أيضا بعض العقائد الدخيلة عل الدين. فالبراهمة وهم أصحاب الفكرة، كما يقول الشهرستاني، لتمييزهم عن البوذيين أصحاب المحسوس، يعظمون أمر الفكر، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول. فالصور من المحسوسات ترد عليهم، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضا. فهو مورد العلمين من العالمين. فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة والاجتهادات المجتهدة، حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن مغيبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال؛ ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلا من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة، فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكأدهم ثقله. انتهى. ألا ترى أن ذلك يشبه التصوف وحلقة الذكر الدخيلة على الإسلام؟
ولم ينتشر هذا الرد في المؤيد حتى قال بعضهم لمن كان معه حين اطلاعه عليه: «قل للشميل إنه يستأهل.» وكأن أقل ما أراد بذلك أني وإن كنت قد نظرت إلى الحقيقة فلم أنظر إلى طبائع القوم واستعدادهم. وقال غيره: «جدح جوين من سويق غيره.» يريد أني جنيت هذه الجناية على الدين المسيحي، فكأني جدت من مال غير مالي، فخاف على نصيبه منه، ولا مسوغ له على هذا الخوف مني عليه.
فكأن حضرة الفاضل كامل السويفي لم يكتف بأني جعلت مدار بحثي على أصول الأديان، متجنبا البحث في الوحي والمفاضلة بين دين ودين، والكلام على قضايا كل دين حتى يمكنني التوفيق بين جوهر الأديان ومصلحة العمران، كما قلت في أول مقالتي، بل أراد أن يجرني للبحث معه في طبائع الأديان وحقائقها، وأن يلبسني إما قلنسوة راهب وإما عمامة شيخ (مليح بعد هالكبره جبة حمرا). ولو جاريته للزمني أن أجول معه جولة في قضايا كل دين، وأن نغرق كلانا والجمهور معنا في هذا البحر اللاقرار له، الذي هو علم اللاهوت وعلم الكلام (ولقد أنصف العرب بتسميته بهذا الاسم)، وهذا ما لم تصب نفسي إليه حتى اليوم. فلا نعلم حينئذ من أي مضيق نركب، ولا في أي لج نخوض، ولا على أي شط نحط ونقع في تيه نفقد معه خيط أريانا. وهذا ليس محله في هذا المقام مقام تمهيد العقبات الحائلة بين تقارب الأمم، وبينهم وبين ارتقائهم في العمران. وإني لأشكر لحضرة العالم المتبحر الفاضل الجيزاوي؛ لأنه كفاني الخوض في هذا البحث، فأظهر جليا بمقالته البديعة التي نشرت في المؤيد ما يصح أن يعتبر في الخلاف بين الدينين فصل الخطاب في هذا الباب عند ذوي الألباب.
وأما استشهاده بمن ذكرهم من كبار الكتاب الأوروباويين ليثبت أن النصرانية أضرت بالاجتماع في أوروبا، فقد قلناه في مقالتنا الأولى، ولكننا لم نعتبر هذا الضرر من جوهر الدين، بل من الرؤساء من رجال الدين والحكام، كما أننا لم نعتبر تقهقر الأمم الإسلامية إلا لهذا السبب عينه، واعتبرنا نهوض النصرانية وارتقاءها هذا الارتقاء الباهر إنما هو لنبذها العقائد التي أدخلوها على الدين وليست من جوهره، حتى صار الدين عند القسم الكبير المتنور منهم عند المؤمن صلة القلب إلى الله، كما في قول شاعرنا الأديب نقولا أفندي رزق الله:
إنما الدين موعد واتفاق
بين هذا الورى ورب البرية
وحتى صار عند غير المؤمن موضوع بحث اجتماعي بالنظر إلى ما في مبادئه الاجتماعية من الموافقة للعمران. وكثيرون يعجبون بهذه الموافقة، فلا يجعلون البحث في حقائق الأديان سببا للمنازعات الاجتماعية العقيمة، تاركين لكل واحد الحرية في أن يعبد ربه كما يريد، ناظرين فيها إلى تلك المبادئ العمرانية التي تجعل مصلحة الإنسان القريبة في دنياه اشتراكية بين أفراده، وأي دين لا يعلم ذلك؟ وهذا الذي نظرنا إليه في أصول الأديان، فعظمناها تعظيما لم يفقنا فيه باحث ديني مهما كان متحمسا في إيمانه ، فهل يجوز بعد ذلك أن ينحى علينا بأنا غضضنا من دين لنصر آخر؟
على أن العمراني الذي يريد أن يجعل بحثه في العمران لتطبيق نواميسه على قول فلان وفلان أو دين من الأديان؛ إنما مثله كمثل الذي يحاول أن يطبق المطبوع على الموضوع، فيتسامح بما لا يجب أن يتسامح به من المطبوع، ويستمسك بما لا يجب أن يستمسك به من كل موضوع ومشروع، فيركب متن الضلال، ويهيم في فيافي الخيال، فينطق بما لا يفهمه سواه، ولا يفهمه هو نفسه، ويحسب أنه أتى ببدائع الإعجاز في الاستعارة والمجاز، فيجني على ذلك المشروع من حيث يظن أنه يخدمه، ويجني على العمران نفسه.
أما نحن فننظر إلى العمران ومرشدنا في نواميسه ذلك الكتاب البسيط المفتوح أمام كل إنسان، والذي يستطيع أن يفهمه كل واحد إذا قرأه بإمعان، ألا وهو كتاب الطبيعة، الذي هو أساس كل قياس صحيح؛ أي أساس كل منطق سليم وبيان.
على أني لا أعلم، كيف أن الدين الذي فيه مثل هاتين الآيتين: «حب قريبك كنفسك، وحب الله فوق كل شيء.» و«كما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم.» الجامعتين فيهما كل واجبات الإنسان نحو ربه ونحو قريبه؛ يجوز أن يقال فيه مثل قول أديبنا السويفي من أنه دين شرك بالله ودين خراب في الدنيا، ولا أناقشه في اللاهوت؟ ولعل له في علم الاقتصاد نظرا جديدا يخالف قولهم: «الإنسان مدني بالطبع.» ويعلمنا أن «التكافل في العمران غير التكافؤ في قواه»، فتعمر حينئذ الدنيا عنده بالتفريق والتخاذل والاكتفاء والانفراد والاستئثار، فيتألف المجتمع بانفراط عقده - وما هي إلا لآلئ منثورة - ويتقدم تقدما سرطانيا متباريا في مشي القهقرى، حتى يبلغ ما بلغنا إليه في هيئتنا الحاضرة من الارتقاء الدركي (وإن شئت إلا الموضة اليوم فالرقي)، الذي صارت سماؤنا فيه كسماء خيل المعري وهي تعب، وصارت عقولنا فيه أضيق من دوائر جماجمنا، ومرامي نظرنا أقرب من أرانب أنوفنا منا. وهل قارئ كتب مثل هؤلاء الأساطين في العلم والأدب والفلسفة الذين ذكر لنا أسماءهم يجوز له - مع كل سعة هذا الاطلاع - أن يقف في فهم كلامهم على مثل هذا الاكتفاء؟ وما هو لعمري لو درى إلا مثل اكتفاء القارئ في قوله:
فويل للمصلين . على أن غرضنا هنا ليس هذا، فما باله يدفعنا للنظر في حقيقة الأديان والمفاضلة بينهما، ولم نقصد في كل ما كتبنا إلا مصلحة العمران بالتوفيق بينها وبين أصول الأديان بما تراءى من الإمكان؟ وهل في مقالتنا الأولى غير ذلك حتى يقوم علينا المسيحيون يتهموننا في أننا تعرضنا للدين المسيحي، والمسلمون يناقشوننا في المفاضلة بين الدينين؟ إنها لمصيبة.
وقبل أن ننتهي من هذا البحث أريد أن أجاري حضرته مجاراة كلية للوصول إلى النتيجة المترتبة على كلامه، والتي وقف عندها. فأنا أسلم له جدلا ب «أن العالم المسيحي [كما يقول] لم يرتق إلا بعد احتكاكه بالعرب، وأن المسيحية عثرة في سبيل الارتقاء، وأن الإسلام هو موجد هذه المدنية الباهرة.» فقط يبقى عليه أن يقول لنا لماذا إذن أتباع النصرانية ساروا في مضمار التمدن شوطا بعيدا، وأتباع الإسلام وقفوا متقهقرين؟ فإن قال إن الأسباب اجتماعية، عدنا إلى حيث افترقنا وكنت مصيبا. ولعله لا يقول غير هذا القول؛ لئلا يجني حينئذ جنايتين على العمران وعلى الدين نفسه. أم هو يريد بهذه المغالطات التمويه حتى يبقى حجاب الجهل مسدولا على عقول الناس؛ ليبقوا كما في قوله:
صم بكم عمي فهم لا يرجعون ؟ أما نحن فنميل إلى ما هو أدعى لمصلحة العمران من مثل قوله:
وما جعل عليكم في الدين من حرج ،
يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . وهذا ينطبق كل الانطباق على ما رمينا إليه في مقالتنا الأولى إنارة للأذهان؛ لكي يعلم الجميع على السواء
إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ننشر هنا المقالة التي أشرنا إليها في هذا الرد، والتي نشرت في المؤيد بتاريخ 30 مارس سنة 1908 دعما لمقالنا، ولو أنها ليست لنا؛ لما فيها من الفائدة في هذا الموضوع؛ حسما لهذه المسائل الخلافية التي يتذرع بها المتنطعون في الأديان لإثارة الفتن بينهم. وقد نشرت بتوقيع «محمد صادق الجيزاوي»، وهو - في علمنا - اسم مستعار، ولولا أننا لم نستأذن صاحبها لصرحنا باسمه الحقيقي، وهو من خيرة علماء المسلمين وأفاضلهم، وهذا نص هذه المقالة مع بعض حذف.
كلما خمدت زادوها سعيرا
من أجل كرومر قامت في هذه الأيام ضجة دينية بين المسلمين والنصارى في هذه البلاد؛ فالمسلمون قد فرحوا إذ ظنوا أنهم قد فازوا على كرومر بقولهم كما قال، وصولتهم في التبشير والتنفير كما صال؛ والنصارى لم يجدوا من الذوق أن يجادلوا في بعض ما سمعوه عن دينهم؛ لعلمهم بأن كرومر تخطى الحدود، وأتى بما لا ينتظر من مثله، فأحرج صدور إخوانهم.
ولكن أحرجت هذه الضجة أيضا صدور الذين يعتقدون أن الارتقاء إنما هو بتربية العقول، ومزاولة الشئون الاجتماعية باستقلال أفكار، وأن الديانات كلها سواء من جهة أنها لا تضر بالاجتماع إذا كانت عقول أهلها مرتقية، كما أنها لا تنفع فيه إذا كانت عقول جماعاتها متدينة، وشاهدهم على ذلك أن أهل دين واحد ارتقوا يوما وانحطوا يوما، والاعتقاد لم يفارق قلوبهم، والعبادة لم تبرح معابدهم وبيوتهم.
هؤلاء قوم يحسنون الظن بالديانات، ولا يرونها عوائق عن التقدم والتمدن، وإنما يرون أن تشيع أهل كل دين منها وتحاملهم على دين الآخرين قد أحدث ويحدث فظائع من نتائج البغضاء والنفور، فيودون لو ينتهي هذا التحامل والتجادل في الدين، ويقولون إذا لم يمكن قطع حبال هذا الجدل فلا ينبغي أن تبقى منصوبة إلا بأيدي فريق مخصوص لا يمد بشيء البتة من القوى المادية، فتتنازل الأقوال والأقوال وتنتهي على لا شيء الأحوال؛ لأنه لم يعهد أن الجدال أفاد في تغيير المذاهب، وإنما تغيرها أسباب أخرى لسنا في صدد تفصيلها.
ومن عرف الدكتور شبلي شميل كان ذلك حسبه أن يعرف مقصده من المقالة التي كتبها في هذا الصدد، ونشرها في المؤيد؛ أي يعرف أنه يرمي إلى تفنيد الجدل والحث على خير العمل، أما من لم يعرفه فربما ظن أنه مسيحي كتب ينتصر لدينه بطريقة حبية. •••
كان من جملة الذين لم يعرفوا هذا الحكيم ولا قصده حضرة الكاتب محمد كامل السويفي، الذي نشر يوم الخميس ردا على الدكتور فتذكرنا إذ قرأناه أن كرومر بتصديه للمفاضلة بين الدينين إنما كان موقد النار، وأن قومنا كلما خمدت هذه النار زادوها سعيرا. فإن بعض الذين يكتبون الردود في هذا الموضوع يقابلون كرومر بمثل ما صنع، وينسون أنه ليس من الضروري إذا أخطأ سليم مثلا بشتم ملة جرجس أن يخطئ جرجس بشتم ملة سليم، وينسون أن للدين المسيحي أهلا هم إخواننا في لساننا ووطننا، تغيظهم لوائح التحامل على دينهم وروائح تفضيل غيره عليه.
ولولا أن كان قبيحا عدم وجود من يدعو بيننا إلى أسباب الوئام، وينكر علي أسباب الخصام بقدر الإمكان؛ لما وجدنا من اللائق أن نأتي ما ننكره من الخوض والمماحكة في هذه المسائل، ولكن تلك الضرورة من الدعوة إلى الوئام هي التي حملتنا على تذكير حضرة الأديب كامل السويفي ببعض كلمات. •••
رأيت في كلام حضرته مواضع كثيرة جديرة بالأخذ والرد معه، ولكن ليس هذا من مقاصدنا، ولا ندخل فيه، وإنما نقتصر هنا على سبعة مواضع قد رأينا التذكير فيها أوجب، والحاجة إلى الإيضاح فيها أمس وأدعى. جاء في عرض كلام الدكتور ما يفيد أن الدين المسيحي دين توحيد كالدين الإسلامي، فأنكر صاحب الرد وقال: «إن دين النصارى دين تعديد لا دين توحيد.» فاعلم أيها الأديب أن النصراني يبتدئ عقيدته بقوله: «أومن بإله واحد ... إلخ» فالإله واحد عندهم كما هو عندنا. وأما ما نسمعه في صفات المسيح ابن مريم، فإنها فلسفة لا نعرفها نحن ولا يعرفونها هم، وقد حملهم عليها بعض النصوص التي هي عندهم مقدسة، وكل دين لا يخلو من أمور تحمل أهله على فلسفة كان في غنى عنها لولاها.
وقد جهل أكثر كتاب المسلمين عقيدة النصارى في الإله الواحد الذي ليس بمادة، كما جهل أكثر كتاب النصارى عقيدة المسلمين، ولكن لظهور الصعوبة في فلسفة العقيدة النصرانية يقول النصارى: «إن في الدين شيئا هو فوق العقل.» ويعدون ذلك من مفاخرهم في تدينهم، فيظن المسلم أنهم يريدون بقولهم فوق العقل أنه غير معقول. وليس هذا هو المراد، بل المراد أن العقل لا يكاد يدركه. وكان مثل هذا القول شائعا ومعروفا عند المسلمين أيضا، ولكن بعض كتابهم في هذه الأيام الجديدة قاموا ينادون بأن الدين الإسلامي وحده دين العقل، ويفسرون بأن العقل يدرك كل شيء فيه. ولسنا ندري كيف يدرك العقل أمور العالم الغيبي، مثل أنهار اللبن والعسل التي في الجنة، ومثل عالم الأرواح المجردة وعالم الملائكة، ولا نعرف كيف يستطيع أولئك العقلاء تفسير النار التي رآها موسى
فلما أتاها نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى ، أي عقل يدرك حقيقة هذا النداء الذي سمعه موسى فخر صعقا؟ وأي عقل يدرك حقيقة نفخ الله في فرج مريم كما جاء في القرآن المجيد بنص هذه الآية:
ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا .
النصراني يقول الإله واحد كما يقول المسلم، ثم يقول النصراني إن عيسى كلمة الله وروح الله، وهكذا يقول المسلم أيضا، والنصراني يقول إن مريم عذراء حملت بعيسى الذي هو روح الله وكلمة الله من غير أن يمسها بشر، وهكذا يقول المسلم أيضا. فأنا أسأل إخواني المسلمين أن يبينوا لي الفرق أولا بين هذه التعابير، وأن يفهموها جيدا قبل أن يجادلوا النصارى على التعبير بالآب والابن والروح القدس، وقبل أن يسألوا عن الفلسفة التي تبين أن هذه الكلمات الثلاث تدل على حقيقة واحدة ظهرت في ثلاثة مظاهر، وما نار موسى عن القاري ببعيد.
إني لأعلم أن هذا المبحث سيستغربه إخواني المسلمون، وربما جلب في الظنون، ولكني لا أبالي بظنونهم في سبيل حقيقة مهمة أكره أن يجهلها إخواني، وأن يجهلها النصارى أيضا، وهي أن ديني الفريقين مبني على الإيمان بالغيب،
3
وعلى تصديق الرسل
4
بما جاءوا به من أخبار الملائكة والشياطين والجن، وأول الخليقة، وخبر آدم، وأخبار رسل الله وكتبه
5
التي بعثها إليهم، والغرائب التي حدثت بإذن الله، نحو ولادة عيسى، ثم صفات الله الذي ليس بمادة، مثل أنه متكلم، وقد كلم موسى، وسميع يسمع الذي يدعوه، وبصير يكره كشف عورة الإنسان في خلوته لأنه يراها، ثم صفات الجنة موعد المتقين، وما فيها من العنب والرمان والنساء الحسان والولدان وصفات النار موعد الكافرين، وما فيها من آلات العذاب وصنوف العقاب أبد الآبدين ودهر الداهرين على جرم هو عدم تصديق الإنسان بما لا يدركه عقله.
فيا أخا العقل ومن يريد كل شيء من الدين بالعقل، إياك ثم إياك من الوقوف في العالم الغيبي مع العقل، إذا كنت ترجو تلك الجنان وتخشى تلك النيران، فإن كنت لا ترجو ولا تخشى ما هنالك فإياك ثم إياك أن تدعي الدين؛ فإنك كاذب بشهادة أهل كل الملل أجمعين. ها قد أبلغتك الحقيقة، والله يعلم أني لك من الناصحين.
فإذا علمت ذلك يا صاحب العقل من المسلمين فاعلم أن المسيحي يسلم إلى الله في إيمانه بعالم الغيب تصديقا لمتى ومرقس ويوحنا وبولس، وإذا علمت ذلك يا صاحب العقل من النصارى فاعلم أن المسلم يسلم إلى الله في إيمانه بعالم الغيب تصديقا لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، وإذا علمتما أنه لم يسلم أحدكما في هذين الإيمانين المتشابهين بمجرد عقله، فاعترفا بأنكما متشابهان في سبب الإيمان وتصافحا؛ فإنكما في هذا الباب إخوان.
وأزيدك أيها المسلم بيانا في أن النصراني يؤمن بإله واحد، فأقول إن القرآن المجيد لم يسم النصارى مشركين، كما لا يخفى، بل سماهم أهل كتاب، وأجاز أكل ذبائحهم والتزوج بنسائهم، ولم يجز هذا ولا هذا في الذين سماهم مشركين. وقد اشتبه الأمر على بعض العلماء من الأقدمين، فسأل عالما آخر: «كيف لا يكون النصراني مشركا وهو يقول إن الله ثالث ثلاثة؟» فقال له: «إن الله الذي لم يسمه مشركا أعلم مني ومنك.»
هذا ما رأيته واجبا من بعد أن رأيت وسمعت كلمات القاصرين في هذه المباحث العميقة لدى المؤمنين بالغيب، والعقيمة لدى الذين لا يريدون إلا ما يشهد به الحس أو العقل بسهولة، فإن أقنع ونفع فنعما ذاك ، وإلا فليتجادل القوم ما شاءوا أن يتجادلوا حتى تطلع الشمس من مغربها، أليس كذلك؟ •••
وجاء في عرض كلام الدكتور أنه جعل الأديان بمثابة واحدة من حيث علاقتها بالعمران وتأثيرها في الاجتماع، فأنكر ذلك عليه صاحب الرد. وقد طال المقال فضاق المقام عن الإسهاب في هذا الموضوع؛ فلذا أكتفي بكلمة واحدة، وهي أن صاحبنا يسلم معنا ومع الدكتور بأن ديننا الإسلامي لا ينافي العمران، فافرض أنك لا ترى دينا آخر له هذه المزية، وأن ديانات الأقوام الآخرين قد خربت ديارهم وقطعت نسلهم؛ فلذلك لم يبق في الصين من نسمة ولا حجر على حجر، ولم يبق في أوروبا وأمريكا من ديار ولا نافخ نار، فما الذي يضرك إذا كان دليلك الحس ودليله الخيال أن تجامل من حولك من الذين يتدينون بالنصرانية، إخوانك في الوطن واللسان، الذين لم يبق لهم من إخوان في الدين إلا أربعمائة وخمسون مليونا فقط! نعم أقول لك ما الذي يضرك إذا لم تفاجئ القوم جيرانك بأن ليس بيدهم إلا دين يخرب الديار ويفني البشر؟ •••
بقي شيء واحد مما أحببت الكلام فيه، وهو أنه جاء في عرض كلام الدكتور أن الزواج والطلاق ليسا في الإسلام والنصرانية من المسائل التي يقيد بها الاجتماع، وقد قال صاحب الرد بأن ذلك صحيح في الإسلام دون المسيحية. ولولا أنني ما وصلت إلى هذا المقام حتى مللت لشدة كراهتي الجدل في الدين، لأسهبت في هذا الموضوع أيضا، ولكني أعدل عن ذلك إلى توجيه نظر الكاتب إلى كتاب الوجود؛ ففيه صحائف الأمم، وهناك يجد أن لاجتماعها سننا قد راعتها الديانات كلها. فالمسيحية جاءت في هذه الأبواب بوعظ ونصائح، ولم تجئ بشرع حاتم يجب تأييده على الملك والحاكم. فهذا سر اختلاف طوائفهم في هذه الأبواب قديما وحديثا، فمن تمسك بهذه النصائح من ملوكهم وشعوبهم بنوا عليها قوانينهم في هذه المسائل، ومن رأى مندوحة في تفسيرها وتأويلها وجواز مخالفتها اجتماعيا، تراهم توسعوا فيها على قدر ما آنسوا أن العادات تساعدهم. وبهذا البيان تعرف صحة قول الدكتور.
وبعد ، فإنني قد عملت ما علي من الإرشاد إلى وجوب التفاهم وآداب المناظرة ومراعاة الأوقات فيها، وأرجو بعد ذلك أمرين: الأول من حضرات الكتاب المسلمين، أرجوهم إذا مدحوا دينهم ألا يذموا دين غيرهم. والثاني من حضرات الأدباء المسيحيين، أرجوهم ألا يظنوا الدين الإسلامي هو الذي يأمر بذم غيره من الديانات، بل هو يأمر بالحكمة والموعظة الحسنة. انتهى ببعض اختصار.
المقالة التاسعة
رأى وقال1
كل شيء في الكون سلسلة: العالم المادي والعالم المعنوي على حد سوى. وكما نشأت الأحياء الراقية من أحياء أدنى، وهي من مواد الطبيعة، هكذا نشأت الأديان من الاعتقادات، وهذه من الخرافات، وهذه من قلة تعرف الإنسان لظواهر الأشياء التي حوله وتوهمه فيها. ***
آيات بينات، وحقائق باهرات. ضلال استمسك به الناس كأنه العروة الوثقى، كل حزب بما لديهم فرحون، وهدى إذا ذكروه فإنما هم يهمسون.
أناس يجوعون ويعطشون ويموتون، نظروا إلى ما حولهم، وإذا الأرض تخرج لهم ما يأكلون مريئا ويشربون هنيئا، فقالوا: «أمنا ارحمينا ولا تحبسي عنا قوتا يغذينا وماء يروينا.» وارتفعوا إلى ما فوق، وإذا البرق يكاد يخطف أبصارهم والرعد يصم آذانهم، فانخلعت قلوبهم من هول ما يبصرون ويسمعون، فأغمضوا جفونهم، وجعلوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، وخروا خاشعين.
أوهام أصلها أحلام، تطوف بالناس وهم نيام، فينتقلون وهم في مكانهم مقيمون، فقالوا الإنسان اثنان؛ جسم مقيم، وروح يهيم، يفارق ثم يعود، ولا ينفك إلا إذا حل الموت الزؤام، فينطلق في منفسخ الوجود، يذكر المعاهد والعهود. وما ذلك إلا ذكرى ما كانوا يعلمون لو كانوا يفقهون.
رأى الأوائل أنهم يرقدون ثم يستيقظون، ويغمى عليهم ثم يفيقون، وقد يدفنون كأموات فيقومون، فداخلهم أن الموت رقدة، ثم يبعثون بعثا تحيا به أجسادهم وتعود إليها أرواحهم، ذلك خير لهم من موت يكرهون، فدفنوا معهم كل ما كانوا يحتاجون إليه في الحياة الدنيا من طعام وشراب ولباس ومتاع وسلاح به عن حياضهم يذودون، وعبيدا يخدمونهم في الحياة الأخرى، وأعدوا لهم البلايا رءوسها في الولايا، يركبونها يوم يحشرون.
من الناس القوم الأشرار، ومنهم القوم الأخيار ، فانتشرت أرواحهم في الأرض كل يعمل على شاكلته، فخافوا الأرواح الشريرة، ولاذوا بالأرواح الصالحة يتعوذون بكل ملك كريم من كل شيطان رجيم.
آباءنا، كنا بررة وأنتم أحياء، وما نعقكم أمواتا، فما نحرمكم من كل ما كنتم به تتمتعون؛ فقد أعددنا لكم طعاما مما كنتم تأكلون، وشرابا مما كنتم تشربون، وزودناكم كل ما كنتم إليه تحتاجون، وحنطنا أجسادكم تحنيطا وأعددنا لها القبور؛ لتحفظ إلى يوم النشور، وقد زيناها بالزهور؛ لعلكم عنا ترضون، وإيانا تذكرون.
ذكرى لم يكن يقصد بها سوى الإكرام، ثم استرضاء خوفا من زوال منفعة، ثم تجسم الوهم حتى ضاع الرشد في هوى حب النفس، فقاموا يعبدون ما يجدون.
حيوانا يجاور القبور، أو نباتا ينبت على هذا المكان المأنوس والمهجور. قد يتعالى وتنزل أصوله إلى باطن القبر المعمور؛ فلعل روح الحبيب انتقلت إلى هذا الجار القريب. وما كانوا إلا واهمين فيما كانوا يزعمون.
تناسخ تمسخ به أرواح الأشرار، وتترقى به أرواح الأخيار، خالط الناس فيه جميع أصناف الكائنات، حتى اختلط عليهم أبشر ما يرون في صورة حيوان وجماد ونبات، وباتوا في أمورهم حيارى لا يدرون.
وهموا أن الحياة الأخرى كالحياة الدنيا، مساكن الموتى فيها إنما هي مساكن الأحياء أو هي قريبة منها؛ عنها يرحلون، وعليها يترددون، ثم لمع نور ضئيل في ظلمات الأوهام، فأبعدوها إلى الغابات والحراج، فالبراري فالجبال الشاهقة، حيث صارت أقرب إلى الغيوم والارتفاع منها إلى السماء، بعد أن كانوا قد هبطوا بها إلى أعماق الجحيم، قبل أن استقل به الشياطين وفصلوه عن النعيم، فأكرموها في الحيوان والأشجار، فالحجار فالقفار، حتى وقفت بهم الآمال، على أعالي الجبال، لما رأوا فيها من المهابة والجلال. وهم يهيمون فيما راحوا عنه يبحثون.
عبدوا أبا كريما، أو ملكا عاتيا أو حليما، أو حيوانا نافعا أو شريرا، أو شجرة في العراء، يستظل بها من الرمضاء، أو بئرا يردونها في الصحراء، أو حجرا أسود سقط من العلاء، أو نهرا يروي رياضهم، أو نارا يصطلون بها، أو طبائع تميل إليها شهواتهم، باتوا في سبيلها متهالكين. عبدوا ذلك كله دفعا لمكروه، واستجلابا لمنفعة. معبودات تعدادها تعداد الكائنات، فأنواع المنافع فأصناف القوات. وما كانوا إلا أوهامهم يعبدون.
احتجبت عنهم آلهتهم، فقالوا صعدت إلى السماء. فقصدوا الجبال الشاهقة يناجونها منها، فبرزت لهم الشموس الساطعة، والكواكب اللامعة، فانبهرت أبصارهم من جمالها وهم إليها ينظرون، فقالوا إن هي إلا آلهتنا أو مساكن آلهتنا، نعبدها أو نعبدها فيها. وما كان آباؤنا على هدى فيما كانوا يعبدون.
2
غابت عنهم معبوداتهم، فطلبوها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فأقاموا لها التماثيل والأنصاب يذكرونها بها في المصائب، ومازجتها الأوهام، فنحتوا منها الأصنام، يقصدونها في المهمات، ويستنجدونها في الملمات. لقد ضلوا فيما كانوا يقصدون ويستنجدون.
وقفوا عند ذلك زمانا طويلا، ألوف السنين تعد فيه كأمس الدابر، والأفكار في اضطراب وحيرة، والاعتقادات متناقضة غير متوافقة، مقطوعة موصولة غير متناسقة، والعالم ميدان ترمح فيه الأرواح والأشباح، والصور المريعة والخيالات الشنيعة، فانفتح الباب واسعا للسحر والسحرة والشعوذة والمشعوذين والرقى والطلاسم، كل يجد في ذلك مصلحة له؛ المضللون والمضللون. أما هؤلاء فأهل مكر، وأما الأولون فأغبياء. هؤلاء ليسوا على هدى من علمهم، وما كان أولئك بمخطئين.
آلهة يرضون ويغضبون، ويحبون ويكرهون، ويعشقون ويتزوجون، ويولدون ويلدون، ويتحالفون ويتحاربون، يسكنون الجبال، ويترددون على الغياض، ولهم مواقف تذكر مع البشر، يهيجون البحار، ويثيرون الرياح، ويحبسون الأمطار، ينزلون إلى أعماق الجحيم، في طلب نفس صديق لهم من الناس، ويصعدون بها إلى النعيم. آلهة صورهم الناس على صورتهم وبكل ما هم إليه يميلون، وجعلوهم نظيرهم طوائف ومراتب بعضهم فوق بعض، ولهم رئيس عظيم له يخضعون، وإليه يرجعون، ذلك والناس في ضلالهم يعمهون، وإذا بصوت زاجر خرج من وسط هذه الظلمات، ونطق بهذه الكلمات:
3
أربا واحدا أم ألف رب
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
كذلك يفعل الرجل البصير
ذلك كان نشوء الإنسان في الأوهام، قبل مجيء الثلاثة العظام: موسى اليهودية، وعيسى النصرانية، ومحمد الإسلام.
المقالة العاشرة
كشكول طبيب
1
أودع هذا الكشكول كل ما يدور في الخاطر من منظور وغير منظور ومنقول ومعقول، غير متعمد ترتيبا، أو ضامن صوابا، أو متكلف عناء لانتقاء الألفاظ أو الإبداع في المعاني، أو التأنق في الإنشاء، غير فاتح كتابا، أو مسهد جفنا، أو جاهد فكرا، أو مختلس وقتا،
2
أو مصلح خطأ، أو متوخ حقيقة، مدفوعا إلى الورق عن غير قصد، مادا ساعدي إلى الدواة عن غير جهد، وممسكا القلم بيدي عن غير سابق علم بما أخط، محققا ما يؤثر عن العلماء - والعلماء كالشعراء قد يصدقون وقد لا يصدقون - من أن الوظيفة تكون العضو. فقد روي عن كثيرين من الكتاب أنهم لا يستطيعون إبداء فكر أو إنشاء سطر، ولا يعرفون ماذا يكتبون - ولعلي واحد منهم - حتى يمسكوا القلم بيدهم، فيقبضون عليه وهو مثلم كقناة مهدي السودان، فإذا هزوه على القرطاس أصبح كأنه سيف بطل أم درمان الذي أثبت للناس حقيقة كبرى طبل العالم لها وزمر؛ ألا وهي أن الحضارة أرقى من البداوة، والعلم أفضل من الجهل، وأن الرجل المدجج بالسلاح أقوى من الأعزل، فاسترد عن مقدرة ما أضاعوه لا عن عجز، وإنما هي المصلحة تؤتى من أبوابها.
وقد ذكر أناس تغلب عليهم الشراسة إذا حملوا العصا، ويبالغون في الكياسة إذا لبسوا القفاز، ولعل هذا هو السبب الذي لأجله لم أحمل عصا في عمري، وأنا أكره لبس القفاز؛ لا لأني أريد أن أبقى بين السكر والحنظل.
لا تكن سكرا فتأكلك النا
س ولا حنظلا تذاق فترمى
3
بل لأني أعتقد فيه عدم الصحة، وأقل أضراره حبس اليد وحبس البخار الجلدي، وأنا أكره كل تقييد. ولعل هذا الذي حمل القيصر أيضا على إصدار منشوره طالبا نزع السلاح، يريد بذلك أن يعجل مجيء الدور الثالث من أدوار حكم العالم؛ إذ يؤثر عن أهل التثليث أنهم يعتقدون أن العالم حكمه أولا الآب بالجبروت، ثم الابن باللين، وسيأتي عصر يحكم فيه الروح القدس بالرحمة.
أخط كل ذلك غير مقاوم ما بي من الكسل والملل، أو مجاهد في سبيل العمل، كأني صرت من أهل التمني لا أحب أن ألقي دلوي في الدلاء، خوفا من أن يجيء بحمأة وقليل ماء. وأنا أكره التقتير ولو مع اليسر، وأفضل عليه البذل ولو مع العسر. أنام على القرطاس حتى يجف الحبر على القلم إن لم يأت الفكر عفوا، ولا أبذل أقل عناء لحث مطايا الأفكار للجري في هذا المضمار، فإن أقبلت قابلتها بالترحاب، وإن أدبرت أوصدت وراءها الباب. ولا أكلفك أن تقبل كلامي كالنقد في اليد. أتناول تارة البحث في الحقائق قررت أم لم تقرر، وطورا أخوض عباب الأحلام أحلام اليقظة وأحلام المنام، ولو كانت دون حلم القيصر مقاما؛ فقد جاء في كشكول أرباب السياسة أن أحلام الملوك ملوك الأحلام. وأنا بعيد جدا عن هذا المقام.
وكأني بالقيصر يدعو طوائف الحيوان، من كل شرقاء ولود وصماء بيوض، للاجتماع في مؤتمر تتفق فيه على نزع سلاحها، فيقلم الأسد مخالبه كما تقلم السيدة أظفارها، ويكسر الخنزير أنيابه حتى إذا افتر يفتر عن لؤلؤ رطب وعن برد، ويقص الفيل خرطومه لئلا يبقى كأنف ابن حرب، ويتخلى كل واحد عما خصته به الطبيعة من سلاح يذود به عن حوضه، فكأنه يقول للإنسان: ضع حدا لقوى عقلك لتقف عن استنباط الوسائل التي هي عنوان قوتك وضمان استقلالك، ولا تغتر بقول الشاعر:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فإن مثل هذا القول حديث خرافة اليوم، وتنازل عن مطامعك، وارض بما أنت فيه، صغيرا فقيرا فصغير فقير، وغنيا كبيرا فغني كبير. فليرض كل واحد بحالته، ولا يطلب الخروج عنها. ولو أصاب واضع منشور نزع السلاح لخفض من استبداده، ودعا إلى ذلك إخوانه في المعمور، وبدأ بإصلاح بلاده، ورد من قفاره الشاسعة آلافا من النفوس، واستخدمها في المنافع العمومية عوضا عن قطعها من الهيئة الاجتماعية لذنوب سببها جور حكومة لم تعرف للجمهور حقا تطالبها بالعدل، فتقول: «عدلك ظلم لي.» وتطلب منها نشر العلم، فتقول لك: «جهلك أضمن لحقوقي، فكيف تريد مني أن أتنازل عن هذه الحقوق الموروثة التي تجعلك أنت لي، وأنت تريد أن أكون أنا لك؟ أتجهل أني أنا الكل وفي الكل، ألست أنا ظل الله على الأرض؟ فإن مررت بي فلا ترفع نظرك إلي، بل اخفض رأسك، واضرب بجبينك موطئ قدمي، وارفع عجزك؛ فإن بذلك احترام الملوك. وإن خالفت هذه الفروض الواجبة لي عليك وطالبتني بحقوق لا أعترف لك بها، فإن هناك قفارا شاسعة تعلمك الأدب.» هذا هو نظام تلك الحكومة التي تطلب اليوم نزع السلاح.
ولعل القيصر يمزح، أو هو يمتحن عقول الناس، وخصوصا أصحاب الجرائد الذين يتهافتون على كل كلمة تسقط من أفواه الملوك تهافت الجياع على القصاع، ويستمسكون بها كأنها الدر والجوهر، مثبتين أنهم كسائر الناس ينظرون إلى من قال لا إلى المقال. ولا يصح أن يكون القيصر قد قصد غير ذلك، أو ما يماثله مع بقاء احترامنا لمداركه؛ لأن مثل هذا القول ينقض ناموسا طبيعيا لا يستطاع نقضه، ولو شرع فيه قيصر يحكم على الملايين من البشر؛ لأنه ناموس يحكم على ما هو أعظم وأوسع من حكمه، يحكم على الطبيعة من جماد ونبات وحيوان، ألا وهو ناموس تنازع البقاء.
ويخطئ من يظن أن إعداد السلاح والتأهب للنزال والكفاح مضر بالهيئة الاجتماعية موقف لنجاحها، بل هو بالضد من ذلك موجب لارتقائها؛ فناموس تنازع البقاء في الطبيعة هو قاعدة ناموس النشوء والارتقاء، وكلما قل التنازع وقفت حركة الارتقاء، بل دار دولابها إلى التقهقر والتاريخ الطبيعي، بل تاريخ المجتمعات البشرية شاهد عدل على ذلك، ألا ترى أن الأمم التي صرفت قواها عن استنباط وسائل الدفاع كيف وقفت حركتها، وقلت اختراعاتها، وضعفت مصنوعاتها، وطمست علومها، وساد الجهل عليها، حتى حل بها القضاء بحكم تنازع البقاء؟ ومن ينكر أن الاستعداد للحرب منذ حرب السبعين قد بلغ مبلغا لم يسبق له مثيل في التاريخ؟ ومن ينكر مع ذلك أن تقدم الهيئة الاجتماعية في هذه السنين القليلة في العلوم والصنائع والشرائع يفوق ما حصل الإنسان على ما يضاهيه في قرون كثيرة؟ فطلب نزع السلاح مخالف للنظام الطبيعي من جهة وموقف لحركة الارتقاء من جهة أخرى، ولعل قيصر الروس حسد إمبراطور الألمان على نيل شهرته بالشدة، فأراد أن يباريه في الحصول على هذه الشهرة باللين، فطلب للناس عصرا لا يروى إلا عن تخيلات المتقشفين وأحلام الزاهدين.
المقالة الحادية عشرة
المرأة والرجل وهل يتساويان؟
1
مسألة كثر تحدث الخاصة بها، وذهبوا فيها رأيين متضادين، وطالب القائل بتساويهما بحقوق المرأة المرتبة على هذا التساوي، والتي اهتضمها الرجل، في زعمه، من قانون البشرية صلفا وعتوا، أو كما تقول المرأة لأنه هو الذي سن هذا القانون، فآثر نفسه فيه استبدادا حتى أنكر عليها النفس التي يفتخر بها على سائر المخلوقات. وأنكر هذا الحق من ذهب ضد مذهبه، ونسب دعواه إلى غيرة أعماها الهوى، ورأي أضله الوهم. وقد شحذ المتباحثون في المسألة قرائح أمضى من القواضب، وجردوا ألسنة أحد من الأسنة وبروا لها أقلاما أقوم من قدود الهيف إذا أخجلت سمر القنا، وطعنوا بها طعنات أوقع من لحاظهن إذا رنت سهامها في القلوب، وتجاروا في مضمارها تجاري خيل الطراد في يوم الوغى؛ فمن آخذ بنصر المرأة ارتفع بها إلى أوج البشرية، وقال ما هي بشر إن هي إلا ملك كريم. ومن متحامل عليها انحط بها إلى حضيض البهيمية، وقال إن هي إلا متاع خلق للرجل، وليست بشرا سويا. وكلاهما تجاذب في القول طرفي الإفراط والتفريط، وادعى نصر الحق، وما اتبع في نصره إلا الهوى.
ولم يفت نبهاء قومنا جولة في حومة هذا المجال؛ فقد سمعتموهم في هذه الجمعية يتباحثون ويتناظرون مستمطرين دراري المعاني من سماء الألفاظ حتى كدن يلقطن باليد، وشهدتم مواقع نزالهم في حلبة المقتطف الأغر وغيره من الجرائد الوطنية، ورأيتم كيف أن هذه الحرب قد اتقدت نارها في قلوبهم، وحمي أوارها في رءوسهم ونعم المرام، إلا أنه لا يؤاخذني كماة هذه الحرب وفرسانها إذا قلت إنهم جالوا بنا إلى غير محسم نزاع، ووقفوا بنا على غير موقف هدى، حتى تخيل للقارئ والسامع أن المسألة ككثير من المسائل الخلافية سلسلة لا تنتهي حلقاتها، ودور لا يعرف طرفاه، وما ذلك في اعتقادي إلا لأنهم ولجوها من غير بابها؛ ولذلك رأيت أن أقرعها من الباب الذي يدخل منه، وأنخعها من الوجه الذي يختلف إليه. •••
ذهبت طائفة من أهل النظر إلى أن المرأة مساوية للرجل في العقل. وفي اعتقادنا أن المبحث طبيعي محض؛ أعني أنه من مباحث علم الحيوان المعروف بالزوولوجيا، أو بالحري من مباحث علم الإنسان الذي هو فرع منه، والمعروف بالأنثروبولوجيا، ولا يصح أن ينظر إليه من غير هذا الوجه، أو يقطع فيه حكم بدونه. والأنثروبولوجيا لا كما يفهمه المتقدمون علم أقرب إلى النظر، وإلا اتسع بنا مجال القول، وتهنا في فيافيه، ووقعنا في بلبال لا يجمعنا فيه سوى فوضى الاختلاف، وخرجنا منه كما خرجنا إليه، وربما تشعبت المسألة دوننا إلى فروع كثيرة أفضى بنا الولوج فيها إلى الإعراض عنها، والتوغل في أمور جدلية لا طائل تحتها، كما هو دأب الذين لا يستندون في بحثهم إلى أساس متين مرشد لبرهان المستطلع، كابح لجماح المشط؛ ولكن كما يفمهه المتأخرون؛ علم يبحث فيه عن الإنسان من حيث كونه حيوانا وإنسانا معا في تركيبه وقواه وأفعاله. فمساق الكلام على هذا المنهج يسهل علينا فهمه، ويقينا فيه عثرة الشطط، فلا نرتفع به محلقين إلى «لا أوج»، ولا نهبط به سافلين إلى «لا قرار»، بل نضعه في مقامه الطبيعي. •••
وأولا ننظر إليه في الأنواع، أي أنواع الحيوان المختلفة. فمن المعلوم لأهل النقد من علماء طبائع الحيوان أن الأنثى أشد من الذكر في الحيوانات السافلة، وأضعف منه في الحيوانات العالية، ومساوية له فيما كان بينهما، وذلك قاعدة مطردة إلا فيما ندر، والنادر لا يعتد به. فأنثى النحل والزنابير والفراش وكثير من الأسماك والحشرات أشد من الذكر،
2
وأنثى الطير والحيوانات اللبونة وسائر ذوات الفقر العالية أضعف منه غالبا.
ويستفاد من هذا أن امتياز الأنثى على الذكر من صفات الحيوانات المنحطة في سلم النشوء، وأن امتياز الذكر عليها من صفات الحيوانات المرتقية. وسنبين أوجه الامتياز. وهنا الطريق وعر، والمسلك صعب، فأرجوكم أن تتبعوني فيه متزودين جانبا من الصبر.
ففي الطيور والحيوانات اللبونة التغذية أقوى في الذكر منها في الأنثى، والدم أشد، وفيه من الكريات الحمر الصالحة للتغذية أكثر مما فيها، ومن الكريات البيض القليلة الصلاحية لها أقل (كوينكود وكرنيلوف)، وفي المليمتر المكعب من دم الرجل مليون من الكريات الحمر أكثر مما في دم المرأة (ملاسز). •••
والرجل يأكل أكثر من المرأة، ولكنها أنهم منه؛ أي إنها تشره فيه أكثر منه. والتنفس أقوى في الذكر منه في الأنثى. وإذا تساوى الرجل والمرأة في القد، فتسع رئته من الهواء نحو نصف لتر أكثر من رئتها. وهو يتناول من الأكسيجين المطهر للدم أكثر منها، وإن كانت تتنفس أكثر منه، وتزيده نفسا واحدا في الدقيقة من سن 15 إلى سن 50 (كواتلت). وهو يفرز من الحامض الكربونيك المتحصل من احتراق الأنسجة أكثر منها في جميع الأسنان (أندرال وغفرت). وحرارته أكثر من حرارتها، وكذلك حرارة الديك بالنسبة إلى الدجاجة.
وقوة ضغط الدم أعظم في الذكر منها في الأنثى، وإنما نبضه أبطأ من نبضها، والفرق من 10 إلى 15 نبضة في الدقيقة بين الرجل والمرأة، و18 بين الأسد واللبوة، و10 نبضات بين الثور والبقرة، و12 نبضة بين الكبش والشاة.
وعظام المرأة أخف من عظام الرجل، وفي عظامه من المواد الترابية أكثر، ومن المواد الحيوانية أقل، ومن كربونات الكلس أكثر، ومن فصفاته أقل مما في عظامها (ملن أدوار).
والرجل يستعمل يمناه أكثر من المرأة، والمرأة تستعمل يسراها أكثر من الرجل (دلوني). ومنكبها الأيسر أعظم من الأيمن بخلاف الرجل، كما في فروع البشر السفلى (هرتين وليفون). والترقوة بالنسبة إلى العضد أطول فيها منها فيه (بروكا)، كما أنها أطول في السود منها في البيض.
والذكر أعظم من الأنثى، كما هو معروف، في الحيوانات الأهلية. والرجل يزيد المرأة اثني عشر سنتيمترا طولا (توبينار)، وهي أخف منه وإن ظهرت أسمن؛ لتغلب الشحم فيها الذي يكسب بدنها استدارة وهشاشة، ويستر عضلها بخلاف الرجل، فإنه قليل الشحم نافر العضلات صلب البدن، وهي بارزة الفكين أكثر منه في الشعوب الهندوجرمانية (توبينار).
وقدم المرأة أكثر انبساطا وأقل تحدبا من قدم الرجل (دلوني)، وذلك يدل على الانحطاط. وذوات الغنج والدلال يحاولن إخفاء ذلك بالأحذية المصنعة ذات الكعب المتطاول.
وصوت المرأة أعلى من صوت الرجل، وكذلك أصوات إناث الحيوانات أعلى من أصوات ذكورها.
وعضل الذكر أغلظ وأشد من عضل الأنثى كما في الحيوانات الوحشية والأهلية، وقوة المرأة من سن 25 إلى 30 مقاسة بالدينامومتر ثلثا قوة الرجل في هذا السن، وحركاته أضبط من حركاتها؛ ولهذا يفوقها هو، ولا تدركه هي في فني الموسيقى والتصوير.
وجمجمة الرجل أكبر من جمجمة المرأة (بروكا والجمهور)، وسعتها في الرجل الأبيض 1446 سنتيمترا مكعبا، وفي امرأته 1226 (هشك). والجمجمة أقل ارتفاعا وأطول في المرأة منها في الرجل (بروكا).
ودماغ الذكر أثقل من دماغ الأنثى، فدماغ ذكر الكورلا، وهو نوع من القرود، يزن 540 غراما، ودماغ أنثاه 470. ومعدل وزن دماغ الرجل 1323 غراما، والمرأة 1210، والفرق 113 غراما (بروكا). ولا يحمل هذا الفرق على صغر قد المرأة بالنسبة إلى الرجل؛ فإن قامة المرأة بالنسبة إلى الرجل هي كنسبة 927 إلى 1000، وأما وزن دماغهما فهو كنسبة 909 إلى 1000.
وبإجماع الأنثروبولوجيين مقدم الدماغ، الذي هو مقر القوى العاقلة الرفيعة، أصغر في المرأة منه في الرجل، سواء هذبا أو كانا على الفطرة، وهذا الفرق 54 سنتيمترا مكعبا راجحة من جانب الرجل (هشك)، ومؤخر الدماغ الذي فيه مركز العواطف أكبر في المرأة منه في الرجل؛ ولهذا قيل: «إن المرأة تحيا بقلبها، أي بعواطفها، والرجل يحيا بعقله.»
ونصف دماغ المرأة الأيمن أكبر من الأيسر بخلاف الرجل. وهذا يفهم منه لماذا المرأة تياسر، أي تذهب ذات اليسار، والرجل ييامن، أي يذهب ذات اليمين. وهذا ظاهر حتى في عرى ثيابهما وأزرارها، فإن حركة التزرير في المرأة يسارية وفي الرجل يمينية، كما يمكن تحققه من إرسال النظر إليهما. وهذا يدل على أن الاختلاف بين الرجل والمرأة من أصل الطبع.
و«دلوني» أول من نبه النظر إلى ذلك، وقال إن حركة المرأة اليسارية، أو التقريبية كما يسميها أيضا، دليل على الانحطاط؛ لأنها تشاهد في الحيوانات كالقرود وفي فروع البشر السافلة، وإن حركة الرجل اليمينية، أو التبعيدية كما يقول أيضا، دليل على الارتقاء . •••
فهذا نظر تشريحي وفزيولوجي، يبين منه هذا الفرق بين الرجل والمرأة. وأما من الوجه الأدبي فقد اختلفوا في: هل المرأة أنبل خلقا من الرجل أم لا؟ وتوجد مؤلفات كثيرة في مدح المرأة وذمها. وقد ذهب مؤلفون كثيرون إلى أن المرأة أنهم من الرجل وأكسل وأشبق وأبخل، وأكثر عجبا وكبرا وحسدا، وأشد حنقا وحقدا. وفي العصور الوسطى طرح أحد المجامع هذه المسألة مطرح البحث، وهي: «هل للمرأة نفس؟» ولا نظن أن احتقار المرأة بلغ هذا القدر في عصر من العصور أو عند شعب من الشعوب.
وجميع الحكماء والفلاسفة المتقدمين كأبقراط وأرسطو على أن المرأة أحط من الرجل، ويضيق بنا المقام عن استيفاء جميع ما قالوه في ذلك من مدح وذم وتسنيع وتشنيع؛ فنحن لذلك نغفل أقوالهم، ونعتمد لحل المسألة على مباحث المتأخرين المبني أكثرها على علم مقابلة أفعال الإنسان المعروف عندهم بالدموغرافيا.
من المقرر المتفق عليه أن المرأة أقل ارتكابا للجرائم من الرجل. قال كواتلت: «والذي يمنعها من ذلك إنما هو خجلها وحياؤها، وحالها من الرضوخ، وعوائدها التي تحجبها، وضعف جسدها.» وقال غيره: «إن التسميم الذي هو سلاح الجبناء هو في الغالب سلاحها، وهي أحيل من الرجل وأخدع منه؛ لأنها أضعف منه، والحيلة والخداع سلاح الضعيف. إن استقوتك استعطفتك ببكائها، وإن استضعفتك قتلتك بكبريائها.» والجمهور على أنها محبة ومحسنة أكثر من الرجل، إنما إحسانها لا يغني ولا يطاق، وقلما تفعله إلا لغرض ديني.
وأما من الوجه البسيكولوجي أو العقلي، فمن المقرر أن القوى العاقلة تابعة لحالة الدماغ، أو بالحري لمركز هذه القوى فيه، وهو في الحيوان العالي، كما تقدم، أعظم في الذكر منه في الأنثى؛ ولذلك كان الذكر أعقل من الأنثى بإجماع الحكماء والطبيعيين.
وقد اتفقت جميع الشرائع على أن تعامل المرأة معاملة القاصر المحتاج إلى وصي، وسببه ما بها من الخفة والطيش. وأما زعماء المساواة فيدعون أن هذه الشرائع قد ضحت المرأة للرجل؛ لأن الذين سنوها إنما هم الرجال. ووصف علماء الأخلاق المرأة بأنها لاهية متقلبة مفرطة أكثر من الرجل ، وجميعهم على أنها مطبوعة على الخرافات والعناد والتشبه والتمسك بالعادات القديمة أكثر من الرجل، وعلى أنها مهذار مخواف أكثر منه. وقال بروكا العالم الأنثروبولوجي إن المرأة أقل إدراكا من الرجل. وهو أيضا رأي داروين كبير الطبيعيين في هذا العصر، قال ما معناه إن الرجل والمرأة إن تجاريا فالسابق السابق هو، وهل يبلغ الظالع شأو الضليع؟
ونقل دلوني عن التجار والصناع أن المرأة تثابر على العمل أكثر من الرجل، إلا أنها أقل إدراكا منه. ويقرب عملها من أن يكون ميكانيكيا أكثر من أن يكون عقليا؛ ففي المطابع تحسن إعادة صف الكتب المطبوعة، ولا تحسن صف الكتب المخطوطة كالرجال؛ لأنها لا تفهمها نظيرهم. وقال أيضا: «إذا قيست المرأة بالرجل في أوروبا وجدت متأخرة عنه نحو قرن؛ فبينما الرجل يشتغل بالتاريخ والفلسفة والعلم تشتغل هي بمطالعة الأقاصيص وكتب الأدب. نعم، إنه حصل اليوم في أوروبا وأمريكا ثورة في خواطر النساء، فنهضن يطالبن الرجال بالأعمال التي انفردوا بها، وينازعنهم المراكز العلمية، وقد صار عدد غير قليل منهن طبيبات، غير أنه لا يعلم أنهن سرن إلا على خطواتهم مقلدات غير مخترعات، وعلى المستقبل أن ينبئنا بما إذا كن يستطعن أكثر من ذلك.»
والخلاصة من كل ما تقدم أن الذكر في الأنواع العالية يمتاز على الأنثى بشدة التغذية، وبالنتيجة بالقوة العضلية والعقلية أيضا؛ لأنه يوجد نسبة بين الحياة النباتية الخارجة عن سلطان الإرادة وحياة النسبة الواقعة تحت هذا السلطان. فالرجل لما كان يتغذى أكثر من المرأة، ويولد قوة أكثر منها؛ كان ضرورة أقوى منها جسديا وعقليا.
ومما ينبغي التنبيه إليه هنا أن الفرق بين الذكور أشد منه بين الإناث، وذلك يرى في الحيوان والإنسان؛ فإن الرجال من الشعب الواحد بل من العائلة الواحدة يفرقون بعضهم عن بعض في القامات ولون الشعر والقوة العضلية والصوت والمشارب حتى الخط أيضا، أكثر جدا مما يفرق النساء بعضهن عن بعض. وشدة التباين من علامات الارتقاء كما لا يخفى على علماء هذا المذهب. •••
هذا نظر في المسألة من حيث الأنواع، وإذا نظرنا إليها الآن من حيث الفروع البشرية ، أعني بالمقابلة بين الشعوب المختلفة، فنجد نفس النتيجة التي وجدناها في الأنواع؛ أعني أن المرأة تنحط عن الرجل كلما كان الإنسان أعرق في الحضارة والمدنية، وتساويه أو ترتفع عنه كلما كان أقرب إلى البداوة والخشونة جسديا وعقليا. وشهادات السياح التي تؤيد ذلك لا يحصيها عد، فنقتصر منها على ذكر اليسير فرارا من التطويل: حكى بستيان في رحلته أن نساء همج أفريقيا أشد من الرجال، وأنهن يسدن عليهم ويحاربن نظيرهم. وهن كذلك على شهادة مينرس في جزيرة كمشتكا وجزيرة جافا وفي بعض قبائل أمريكا الجنوبية وفي كوبا. وحكى فولي أن المرأة تسود على العائلة في بعض قبائل السود، حتى إنها تضرب الرجل.
وقال بروكا: «إن طول عظم الزند في الأسود بالنسبة إلى عظم العضد باعتبار طول العضد مائة؛ هو 79,43، وفي امرأته 79,35، والفرق ثمانية أجزاء من مائة جزء؛ وفي الأوروباوي 73,82، وفي امرأته 74,02، والفرق بينهما عشرون جزءا من مائة جزء. وعليه فالأوروباوي أعلى من امرأته أكثر من الأسود بالنسبة إلى امرأته السوداء، والفرق بين الجنسين في حجم المنكب هو في الشعوب المتمدنة أعظم منه في الشعوب المتوحشة، وهذا الفرق يقل كلما نزلنا من الأصول العليا إلى السفلى. والفرق بين الرجل والمرأة في القامة أقل في الشعوب السفلى منه في العليا، ومعدله بين الأوروباويين 86 مليمترا حسب تعديل كواتلت، و12 سنتيمترا حسب تعديل توبينار. وأما في الشعوب السافلة فهو أقل من ذلك جدا، وفي البوشمان والبتغون يكاد الجنسان لا يفرقان بالقامة.»
وأما الفرق في سعة الجمجمة بين المرأة والرجل فهو 37 سنتيمترا مكعبا من جانب الرجل لأهالي أستراليا (دفيس)، و59 لأهل الصين، و129 لأهالي كلدونيا الجديدة (بروكا)، و149 لقبائل الإسكيمو، و150 لعموم سكان فرنسا، و203 لسكان بريطانيا، و221 لسكان باريس، على قول بروكا. ورجحان هذا الفرق من جانب الرجل يكون أعظم كلما كان الشعب أرفع (هشك وبافيس). •••
وحكى بوشت أن النساء في السودان يشبهن الرجال في الصورة، وذكر غيره عن غيرهم ما يضاهي ذلك؛ مما يستفاد منه أن اختلاف الصورة الظاهرة بين الرجل والمرأة يكون أقل كلما كان الشعب أدنى. وما هو كائن اليوم في القبائل السافلة الحاضرة كان أيضا في القبائل السافلة الغابرة. ومما ذكره دلوني، دليلا على ذلك، أن بعض الشعوب في القديم كان النساء يحكمن عليهم كسميراميس وكليوبترا وزنوبيا ... إلخ. ونحن وإن كنا نعتقد صحة القاعدة، وهي أن تغلب الرجل على المرأة من ضروريات الارتقاء والضد بالضد، إنما لا نعتقد صحة الاستشهاد الذي أتي به عن الملكات المذكورات؛ لأنه لا يبعد أن تكون سيادتهن قد استتبت لهن لأسباب أخرى، إما لإرث ملوكي، وإما لنبوغ غير اعتيادي، وقيامهن بعبء الملك ليس دليلا قاطعا على أن كل نساء شعوبهن كن أرقى من رجالهم، وإلا لوجب أن نطلق هذا الحكم على ضيوفنا الذين تحكم عليهم ملكة وهم أرفع جدا من أن يوصفوا في المقام الذي يضعهم فيه هذا القول، بل هم أرفع من كل شعب آخر، وهم هم السابقون في مضمار الارتقاء البشري بلا منازع. وذكر ديودوروس أن رجال الصقالب ونساءهم في القديم كانوا متشابهين، وبخلاف ذلك اليونان والرومان؛ فإن الفرق بين الرجل والمرأة عندهم كان عظيما جدا جسديا وعقليا.
والغريب أن نساء الأجيال التي عاشت قبل التاريخ كانت نسبة سعة جمجمتهن أعظم منها في نساء اليوم. قال بروكما: «وهذا يظهر منه أن المرأة كانت في ذلك العهد تقاسم الرجل الأعمال أكثر منها في هذا العهد.» والخلاصة مما تقدم أن امتياز المرأة على الرجل قد يرى أحيانا في الشعوب السافلة الحاضرة والغابرة، ولكنه لا يرى البتة في الشعوب العالية، وإنما يرى فيهم عكس ذلك؛ أي امتياز الرجل على المرأة دائما. •••
ولنتقدم الآن إلى النظر في المسألة من حيث الأسنان، وهنا نجد أيضا نفس النتيجة التي وجدناها في الفروع والأنواع؛ أعني أن الإناث يمتزن على الذكور امتيازا إلى أجل في أول سني العمر، ثم يستتب الفوز بعد ذلك لهؤلاء. فقد ذكروا أن البنات يفقن الصبيان في الطول من سن 10 إلى 15 سنة، وبعض الأنثروبولوجيين زعموا أن البنت من سن 10 إلى 12 تكسب رطلا أكثر من الصبي في السنة، وأما بعد السنة السابعة عشرة فالإناث يقفن والذكور يستمرون على النمو. والحال كذلك أيضا في العقل؛ ففي المدارس التي يجتمع فيها الصبيان والبنات معا رأوا أن البنات لغاية سن اثنتي عشرة سنة يسبقن الصبيان ويفقنهم ذكاء، وأما بعد ذلك فالصبيان هم السابقون.
ويستفاد مما تقدم أن المرأة في النمو أسبق من الرجل جسديا وعقليا وأدبيا، وهذا ما حمل بعضهم على أن يظنها أعقل منه، وقد علل بوفون الطبيعي الفرنساوي إبطاء الرجال بقوله: «إن الرجال لما كانوا أكبر وأقوى من النساء، أعني لما كان بدنهم أشد وأعظم، وعظامهم أصلب، وعضلاتهم أقوى، ولحمهم أكنز مما في النساء؛ كان من الضروري أن يكون زمن نموهم أطول من زمن نموهن.» وقال كابنيس: «إن المرأة أسرع نموا وانحطاطا معا من الرجل، لا تلبث أن تشب حتى تهرم، وليس بين انتقالها من سن الصبا إلى سن الهرم فترة تذكر.»
والنمو السريع دليل على الانحطاط. ويرى، حسب مباحث دلوني، في جميع الإناث كما يمكن تحققه من النظر إلى سرعة نمو إناث الحيوانات الأهلية بالنسبة إلى ذكورها، وإنما كانت هذه السرعة في النمو التي ترى في الحيوانات وفروع البشر السفلى علامة انحطاط لأنه يعقبها وقوف النمو دائما. قال بخنر في كتابه الذي عربناه تحت عنوان «شرح بخنر»، صفحة 91، ما نصه: «إن في الطبيعة ناموسا عاما، وهو أن صغار الحيوانات والقرود والبشر الذين هم من أدنى جنسهم، يتشابهون أكثر من البالغين في تكوين الجمجمة وقابلية العقل، فإن صغار القرود خاصة يشبهون أطفال البشر جدا باستدارة جمجمتهم، ولا تتميز فيهم صفات القرد إلا مع السن، وحينئذ تظهر المباينة، فتبدو الانخفاضات والبروزات، والشكل الزاوي، وبروز الوجه عن الجمجمة. وكذلك يحصل في الأخلاق، فتزداد القرود شراسة وقساوة، ولا تذعن للتربية كلما زادت في السن. وهكذا أيضا أولاد السود كما يعلم من روايات يوثق بها؛ فإنهم يظهرون في المدارس ذكاء وقابلية للتهذيب لا مزيد عليهما، فإذا بلغوا أشدهم تخلقوا بأخلاقهم الوحشية، وخسروا كل ما اكتسبوه بالتعليم كأن لم يكن شيء من ذلك.» أعني أن الصفات الجسدية والعقلية تكون مشتركة بين صغار الأنواع والفروع في أول سني الحياة، ثم تتباين فيهم بمقدار تباين الأنواع والفروع نفسها، فيقف نمو بعضها السافل أو يسير في خطته، ويستمر نمو البعض الآخر المرتقي. والوقوف علامة انحطاط، واستمرار النمو علامة ارتقاء. •••
وفي الجملة، فمعظم الفرق بين الرجل والمرأة يكون في الكهولة، أي عند منتهى النمو، وأقله في سن الصبوة والشيخوخة، سواء نظرنا إلى البدن كله أو إلى عضو من أعضائه؛ فإنه لا يوجد فرق ما بين الذكر والأنثى في الحياة الجنينية، ثم يكون الفرق قليلا عند الولادة، ويبلغ معظمه في الكهولة، ثم يتناقض في الشيخوخة.
فالطفل يكون أطول من الطفلة عندما يولدان بسنتيمتر واحد، فإذا بلغا منتهى النمو، أي متى صار هو رجلا وهي امرأة، زادها بستة وثمانين مليمترا حسب تعديل بعضهم (كواتلت)، وباثني عشر سنتيمترا حسب تعديل غيره (توبينار)، ثم يميلان للتساوي بعد ذلك؛ لأن الرجل يقصر أكثر من المرأة.
ولنا نفس النتيجة من مقابلة الوزن؛ فإن معدل وزن الطفل المولود حديثا 3250 غراما، والطفلة 2900 غرام؛ أعني أن الذكر يزيد الأنثى 350 غراما، وقلما يفرقان بعد ذلك إلى ما بعد السنة الثانية عشرة، ثم يزيد هذا الفرق جدا برجحان الذكر، ويبلغ حسب تعديل بعضهم (كواتلت) من أربعة إلى خمسة كيلوغرامات، ثم يتناقص في الشيخوخة. وذكر بعضهم أن هذا الفرق بينهما كيلوغرام من سن 2 إلى 7، و«6» كيلوغرامات من سن 14 سن إلى 21، و«7» من سن 21 إلى 28، و«11» من سن 41 إلى 56، ثم يتناقص إلى «9» من سن 56 إلى 63، وإلى «8» من سن 63 إلى 70.
وأما حجم الجمجمة فحسب تعديل بعضهم (ليثرزيك) أن دائر جمجمة الذكر عند الولادة أكبر من دائرة جمجمة الأنثى بسنتيمتر واحد، ثم يزيد هذا الفرق بعد البلوغ؛ لاستمرار نمو جمجمة الرجل ووقوف نمو جمجمة الأنثى بعد ذلك.
وأما وزن الدماغ فحسب تعديل كولكر يزيد دماغ الذكر عن دماغ الأنثى بأربعين غراما عند الولادة، و50 عند سن سنة واحدة، و70 عند سن 3 سنين، و110 في سن 10، و150 من سن 20 إلى 60.
ثم يتناقص هذا الفرق من بعد السن المذكور، فينقص دماغ الرجل في الهرم 84 غراما من معدل وزنه عند منتهى النمو، ودماغ المرأة 59 غراما. وهذا الفرق التشريحي يرافقه فرق في القوى العاقلة والأدبية، ومنه يفهم لماذا يشترك الذكر والأنثى بالألعاب في سن الحداثة، ثم يفترقان كثيرا في العقليات في سن البلوغ، ثم يتقاربان ثانية في الهرم؟
وعلى هذه النسبة أيضا يجري باقي الفروقات في شكل العظام والتغذية وتركيب الدم ... إلخ. وأما النبض فهو 136 في الجنين الذكر، و138 في الجنين الأنثى. وذكر بعضهم أن هذا الفرق، أي زيادة نبض الأنثى على الذكر، هو نبضة واحدة من سن 2 إلى 7، و«6» نبضات من سن 14 إلى 21، و«7» من سن 21 إلى 28، و«10» من 35 إلى 42، و«11» في سن 50، ثم «9» من 56 إلى 63، و«8» من سن 63 إلى 70. ويطول بنا الشرح جدا لو أردنا استيفاء باقي الفروقات مفصلا؛ لذلك نكتفي بما مر.
والخلاصة مما تقدم أن الأنثى تفوق الذكر في بعض الأمور في الاثنتي عشرة سنة الأولى، ثم يفوقها الذكر بعد ذلك في الجمعيات المتمدنة إلى منتهى النمو حينما يبلغ الفرق معظمه، وهذا يكون بين سن 40 و50، ثم يتناقص هذا الفرق في الشيخوخة والهرم.
وهذه الملاحظات المتقدمة المأخوذة من علم مقابلة الحيوان وتشريح الأعضاء ومنافعها، تنبئنا لماذا يميل الجنسان، أي الذكر والأنثى، لأن يفترقا كلما صعدا من طبقات البشر السفلى إلى العليا. ففي الطبقات السفلى تكون الصفات العقلية والأدبية بين الرجل والمرأة متساوية؛ لذلك كانا كلاهما أقرب إلى الاتفاق من الاختلاف، وليس الأمر كذلك في الطبقات العليا الرفيعة المدارك؛ فإنه لما كان فيها الفرق بين الرجل والمرأة عظيما كانا أقرب إلى الاختلاف؛ لاختلافهما بالأفكار والإحساسات والمشارب ... إلخ. وهو أكثر في سكان المدن منه في سكان القرى، وآخذ في التزايد سنة فسنة، كما نبه الحكماء إلى ذلك منذ زمان طويل. •••
على أن زعماء المساواة يدعون أن هذا الفرق بين الرجل والمرأة جسديا وعقليا سببه عدم تساويهما في الرياضة والتعليم، وأنه إذا تساوت أحوالهما المعاشية والتهذيبية تساويا في القوة والعقل . وإذا دققنا النظر لا نجد هذا الاعتراض في محله؛ ففي العصور الغابرة حيث كانت الأمم غارقة في ظلمات الجهل لم يكن أحد الجنسين يعلم أكثر من الآخر، وفي هذه الأيام نجد في البلدان المتمدنة عددا وافرا من الجنسين متروكين على الفطرة، بحيث لا يصح أن يقال إن هذا الفرق نتيجة التعليم والتهذيب، بل اليوم إذا نظرنا إلى الفنون التي تعلمها النساء كما يعلمها الرجال وأكثر منهم أيضا كفن الموسيقى في أوروبا، فلا نجد من النساء من نبغن كما نبغ الرجال. ومع أن عدد المتعلمات هذا الفن أكثر من عدد الرجال، فلا تجد منهن من ألفت فيه أو استنبطت شيئا جديدا، بل جميع المؤلفين من الرجال.
وما قيل عن فن الموسيقى يقال أيضا عن فن التصوير، وكذا صناعة الطبخ نفسها، فحتى الآن لم يستطع النساء أن يبارين الرجال المتعاطين هذه المهنة، مع أن عددهن بالنسبة إلى عددهم وافر جدا. والمانع في هذا وسواه ليس عدم تساوي الرجل والمرأة بالوسائط، بل عدم تساويهما بالقابليات كما ترى في المدارس التي يعلم فيها الصبيان والبنات معا؛ فإن البنات كما تقدم يفقن الصبيان لغاية سن 12 سنة، ثم يتقهقرن عنهم بعد ذلك، مع أن الوسائط واحدة في الحالين؛ وما سبب ذلك إلا لأنهن من طبعهن أضعف منهم قابلية، وإلا لما وجب أن يتأخرن عنهم بعد هذا السن لو كن من طبعهن قادرات. وسبقهن الصبيان في أول سني الحياة دليل على سرعة نموهن بالنسبة إلى نموهم، وهذه السرعة من علامات الانحطاط، كما قلنا فيما تقدم.
والخلاصة من جميع ما تقدم أن غلبة الأنثى على الذكر لا ترى إلا في بعض أنواع الحيوانات السفلى، أو في بعض فروع البشر السفلى، ولا يرى تساويهما إلا فيما كان فوق ذلك قليلا، كما في بعض الأنواع الحيوانية والفروع البشرية السافلة، وكما في أحداث الأمم المتمدنة ومشايخهم؛ إذ إن الطرفين يستويان في كل أمر. وأما في الأنواع الحيوانية العليا، وفي فروع البشر المرتقية، وفي منتهى النمو؛ فالغلبة دائما للذكر جسديا وعقليا وأدبيا ، ولا تكون غير ذلك إلا إذا انقلب الموضوع وانعكس المطبوع.
وعليه فنطلب في المستقبل ألا يقدر لنسائنا أن يتغلبن على رجالنا أو يساوينهم، ولا نظن أن نساءنا يرضين غير ما طلبنا؛ بناء على ما عهدن من سنن الارتقاء. •••
فهذا أيها السادة نظر عام يضع المسألة في مقامها الطبيعي، ويرشدنا إلى الحكم فيها حكما صحيحا عادلا، فلا نحقر المرأة كما فعل شوبنهور الألماني أحد فلاسفة هذا العصر حيث جعلها تحت العجماوات، وقال إنها من شر المخلوقات، وهو قول فيلسوف كانط؛
3
ولا نبالغ في تعظيمها كما فعل ديدرو الفرنساوي أحد فلاسفة العصر الحالي، حيث جعلها فوق الرجل، وقال إن الذي يتكلم عنها ينبغي له أن يغط قلمه في قوس قزح، ويرمل خطه بغبار أجنحة فراش الحقل، وهو تصور شاعر غاو، بل نضعها في مقامها الحقيقي الذي يليق بها، والذي جعلت فيه؛ أعني عضوا لازما للهيئة الاجتماعية، تابعة للرجل في ارتقائه، مساعدة له متممة ما نقص من كماله، مخففة عنه مشاق الحياة الداخلية كما هو يذلل لها مصاعب الحياة الخارجية، حاضنة أولادها تحت جناحي حنوها وتدبيرها عن طبع وتهذيب كما هو يسهر على راحتهم بعين سعيه وإقدامه عن سليقة ومعرفة، لا تنازعه هي ما لا تجديها المنازعة فيه نفعا، ولا يبخسها هو حقا اعترف لها به مقامها في الهيئة الاجتماعية، متقاسمين الأعمال كل منهما في دائرته غير متطاول إلى دائرة سواه؛ وبذلك يتم نظام العائلة البشرية، التي هي أم الاجتماع الإنساني.
المقالة الثانية عشرة
«المرأة والرجل وهل يتساويان؟» رد
1
هم في ضميرك خيموا أم قوضوا
ومنى جفونك أقبلوا أم أعرضوا
وهم رضاك من الزمان وأهله
سخطوا كما زعمت وشاتك أم رضوا
ما بال ربات الحجال وذوات اللطف والدلال برزن من خدورهن غضابى، وأوسعنني لوما وعتابا، وفتحن علي حربا أعدى من حرب البسوس، وأظلم من يومي سعد وبوس، وما أتيت ضدهن بمنكر، ولا ارتكبت في حقهن ذنبا لا يغفر؟
أو ماذا رأين في مقالتي «المرأة والرجل وهل يتساويان؟» من قصد التحامل عليهن والإجحاف بحقوقهن ، حتى نفخن في البوق، وهجن بنات جنسهن في الأقطار، وتألبن علي جماعات متفقات لأول مرة، وتربصن في مناوأتي تربص الآساد ، وعهدي بهن أنفر من الظباء، وأنا لم آت فيهن إلا بما قرره الواقع وشهد به الحال؛ انتصارا لهن من القوم الظالمين؟
أقصرت في مدحهن، أم لم أبالغ في وصف محاسنهن، أم لم أعترف بحقوقهن؟ ألست القائل فيهن: «وبروا لها أقلاما أقوم من قدود الهيف إذا أخجلت سمر القنا، وطعنوا بها طعنات أوقع من لحاظهن إذا رنت سهامها في القلوب.» أفلا يعجبن بهذا الإطراء؟ أولست القائل أيضا: «ولا يبخسها هو (أي الرجل) حقا اعترف لها به مقامها في الهيئة الاجتماعية، متقاسمين الأعمال كل منهما في دائرته غير متطاول إلى دائرة سواه؛ وبذلك يتم نظام العائلة البشرية، التي هي أم الاجتماع الإنساني.» أفلا يرضين بهذه المساواة؟
على أني أجلهن عن أن أنزلهن منزلة من يقول: «إن النساء لا يرضيهن شيء.» ولعل في الأمر دسيسة يد مبرقعة، وما هي بذات برقع (سامحها الله)،
2
افترت علينا ذلك، فاقتضبت عباراتي، وحولت إشاراتي، وأبدلت قولي، وغيرت منقولي اعتداء علي وتملقا لهن، وصلت بيننا نار هذه الحرب، وهن منها، يشهد الله، براء، وأنا لست منها في شيء، بل تراني أقدم فيها رجلا وأؤخر أخرى، وإلا فهن أرفع من أن يعددن تقرير الواقع تحاملا والإنصاف إجحافا.
قد وقع الصلح على غلتي
فاقتسموها كارة كارة
لا يدبر البقال إلا إذا
تصالح السنور والفارة
رحماكن سيداتي، لو كان لي أن أصف المرأة كما أريد وأشتهي لوصفتها كما قال أحد شعراء الإنكليز: «إن الله خلق الرجل أولا على سبيل التجربة، ثم خلق المرأة أخيرا؛ لتكون من طينة أرقى.» ولكن من أين لي ذلك؟ وأنا لم أتجشم البحث في هذا الموضوع، وأجعل نفسي هدفا لسهام الأغراض، إلا منقادا للعلوم الطبيعية لا للتصورات المجونية، كمؤرخ يصف الوقائع ويشهد الأحوال ابتغاء رفع شأن المرأة في العمران بمعرفة مقامها الطبيعي فيه، ولا ذنب لي إلا ذنب الصادقين في الود المخلصين في القول، وإلا فما المانع من أن تساوي المرأة الرجل؟ ولماذا لم تتغلب عليه، بل تركته يسن الشرائع المجحفة بحقوقها، ويقوى عليها من أول الأمر ؟
وأنى يمكن أن تكون بينهما هذه المساواة وهما مختلفان بالطبع من أصل الفطرة في التركيب والقابليات والواجبات؟ فطلب المرأة مساواة الرجل كطلب الرجل مساواة المرأة أمر مستحيل. وإني لأعجب كيف يحاول بعض الناس إثبات هذه المساواة، وما مثله إلا كمثل من يحاول أن يساوي بين أعضاء الجسد المختلفة. ألعله يجهل أن اختلاف التركيب يوجب اختلاف القوى والأفعال؟
فبقي علينا إذن وقد تقرر هذا الاختلاف كما تقرر بين أعضاء الجسد، أن نعرف نسبته فيهما. ولا نبحث في ذلك من حيث أهميتهما في الجسم الاجتماعي؛ فإنه لا خلاف في أن كلا منهما عضو مهم شديد اللزوم لكمال الهيئة الاجتماعية، كما أن كل عضو من أعضاء الجسد شديد اللزوم لكماله. وقد تداركت ذلك في مقالتي السابقة حيث قلت: «بل نضعها (المرأة) في مقامها الحقيقي الذي يليق بها تابعة الرجل في ارتقائه، مساعدة له متممة ما نقص من كماله، مخففة عنه مشاق الحياة الداخلية كما هو يذلل لها مصاعب الحياة الخارجية، حاضنة أولادها تحت جناحي حنوها وتدبيرها عن طبع وتهذيب كما هو يسهر على راحتهم بعيني سعيه وإقدامه عن سليقة ومعرفة.» بل نبحث في نسبة هذا الاختلاف من حيث تفاوتهما في القوى جسديا وعقليا. •••
يعلم قراء المقتطف الأغر أني نشرت في عدديه السادس والسابع بتاريخ هذا العام مقالة تحت عنوان: «المرأة والرجل وهل يتساويان؟» ضمنتها خلاصة مباحث الطبيعيين وعلماء الأخلاق المتأخرين، وصرفت فيها النظر عن أقوال المتقدمين، ولم أورد من أقوالهم إلا شيئا يسيرا على سبيل الاستطراد لا الاستشهاد، وقيدت نفسي كل التقييد بعلوم الاختبار، واقتصرت على ذكر الوقائع المقررة، واجتنبت على قدر الطاقة التعرض للأسباب إلا فيما ندر، كل ذلك لكي أحصر الموضوع في دائرة لا يجد فيها المتقولون محلا لكثرة الظنون؛ حسما للنزاع، وحرصا على الحقيقة أن تحجبها غياهب الأوهام، وتخدشها عواصف الأغراض؛ إذ هي كما قيل:
خطرات النسيم تجرح خدي
ه ولمس الحرير يدمي بنانه
وقد رأينا مما قرره علماء طبائع الحيوان، كما قلنا فيما سلف، أن الأنثى أشد من الذكر في الحيوانات السافلة، وأضعف منه في الحيوانات العالية، ومساوية له فيما كان بينهما، واستنتجنا من ذلك في امتياز الأنثى على الذكر من صفات الحيوان السافل، وأن امتياز الذكر عليها من صفات الحيوان العالي، وأبنا ذلك هناك مفصلا بآيات بينات طبيعية وأدبية وعقلية، وظننت أن هذا البيان كاف لأن يكون القول الفصل؛ لما فيه من الصراحة والوضوح، والاستناد إلى الأدلة التشريحية والفزيولوجية والبسيكولوجية التي يقال عندها: «قطعت جهينة قول كل خطيب.» وما قصدت إلا أن أجعله قاعدة يختلف إليها عند البحث في هذا الموضوع، وما أتيت فيه بحرف يشير إلى وجوب تحقير المرأة وإهمال تعليمها، بل بالضد من ذلك قصدت أن أبين مقامها الحقيقي في الهيئة الاجتماعية، وأن أنبه إلى أهمية هذا المقام؛ لئلا يشغلها عنه شاغل يشمخ بها إلى ما سواه، فتقصر فيه ويصيبها، كما في قوله:
حسد القطا فأراد يمشي مشيها
فأصابه ضرب من العقال
ولئلا يذهل الرجل عنه فلا يوفيها حقوقها، فيسوء مصيرا، وكل ذلك حرصا على انتظام العائلة البشرية، وتحسن حال الإنسان في العمران بمعرفة كل من الرجل والمرأة حده فيقف عنده. وكنت أنتظر من السيدات أن يعددنني بذلك نصيرا لهن وخير نصير.
وصاحبا كالزلال يمحو
صفاؤه الشك باليقين
وأن أرى منهن تصويبا ينشطني في الدفاع عنهن إذ أدخل الموضوع من أبوابه؛ لأن المدافع عنهن في غير أساليب الصواب يكون لهن شر نصير. ولكن لا أعلم كيف أقابل حضرات السيدات اللائي تصدين للرد علي زاعمات أنهن وجدن في مقالتي مطاعن، ففوقن نحوي سهام اللوم والتعنيف. ولولا الخوف من أن يستحكم هذا الظن في أذهان جمهورهن بمطالعتهن مقالات نصيراتهن، ويتناسين حقيقة مقالتي لتقادم عهدها، فينصرفن إلى الوهم بأني متحامل فيها عليهن؛ لاقتصرت على مقابلتهن بالشكر لقاء إطنابهن في مدحي، واستغنيت عن هذا الإيضاح الذي لا أرى، والحالة هذه، بدا منه، ولاكتفيت مئونة الرد على اعتراضاتهن؛ لقيام بعضها على الوهم، وسقوط البعض الآخر من نفسه بمراجعة نفس مقالتي. (1)
أنكرت علي حضرة السيدة الفاضلة م. أ. ي قولي: «إن الفرق بين المرأة والرجل في القوى إنما هي من أصل الفطرة.» وذهبت خلافا لي إلى أنه من فرق التعليم والرياضة والعادات، وزعمت أنها تؤيد قولها من كلامي المتناقض، حيث قالت برشيق عبارتها: «أجترئ أن أقول إن بعض أقواله متناقضة. أوليس هو القائل مع العلامة بروكا إن زيادة اتساع الجمجمة في النساء قديما عما هو عليه حديثا كانت «لأن» المرأة كانت في ذلك العهد تقاسم الرجل الأعمال أكثر منها في هذا العهد؟» واستطردت من ذلك إلى القول: «فما المانع من أنه لو دامت لها هذه المقاسمة إلى هذا الزمان لبقيت مثله أو أسمى منه؟» أقول نعم النتيجة لو صحت المقدمة، ونعم الحجة علي لو صح النقل عني، فعفوا أيتها السيدة لم أقل ذلك، وهذا قولي: «الغريب أن نساء الأجيال التي عاشت قبل التاريخ كانت نسبة سعة جمجمتهن أعظم منها في نساء اليوم، قال بروكا: «وهذا يظهر منه «أن» المرأة كانت في ذلك العهد تقاسم الرجل الأعمال أكثر منها في هذا العهد».» لا «لأنها» وهو على حد قولي أيضا بعدما تكلمت عن تقارب الرجل والمرأة تشريحيا في أوائل الحياة، وتباينهما في أواسطها، ثم تقاربهما بعد ذلك: «وهذا الفرق التشريحي يرافقه فرق في القوى العاقلة والأدبية، ومنه يفهم لماذا يشترك الذكر والأنثى بالألعاب في سن الحداثة، ثم يفترقان كثيرا في سن البلوغ، ثم يتقاربان في سن الهرم.» فعلى مقتضى قول حضرتها يجب أن يفهم من هذا القول أيضا أن اقتراب الرجل والمرأة وافتراقهما تشريحيا هو لاشتراكهما وافتراقهما بالألعاب، والمفهوم بالعكس. ولا يخفى ما بين القولين من الفرق في المعنى، وإن لم يكن بينهما إلا زيادة حرف واحد في اللفظ. فمفهوم كلامي نتيجة، ومفهوم كلامها سبب. وهذا الخطأ منها في النقل هو سبب هذا الوهم في نسبة التناقض لكلامي؛ ولضيق المقام أكتفي بالتنبيه إليه لإزالة هذا الوهم، ولا أشك في أنه من حضرتها خطأ سهو .
ولا أنكر بأن التعليم والرياضة والعادات ... إلخ تؤثر جدا في حال المرأة، ويجب أن تستخدم لخيرها، ولكن لا أسلم مطلقا بأنها إذا تساوت فيها مع الرجل ساوته في القوى؛ لأسباب أعدها جوهرية في تكوينها وقابلياتها وواجباتها، هذا إذا كنا نسلم أن القوى والأفعال مرتبطة بتكوين الأعضاء. ألا ترى أن الأشغال التي تعلمها النساء كالرجال وأكثر منهم، كفن الخياطة والطبخ والرسم والموسيقى، لا تستطيع المرأة أن تساوي الرجل فيها، كما قلت في مقالتي السابقة. على أن نفس مساواتها له بالتعليم والرياضة والعادات لو تأملناها جيدا لوجدناها، إلا فيما ندر، ممتنعة عليها من أصل التكوين؛ فطلب المرأة، والحالة هذه، مساواة الرجل فرض مستحيل لا يجوز لها أن تضيع وقتها فيه، وهذا لا يحط من قدرها؛ لأن عليها واجبات أخرى مهمة جدا، إذا أحسنت القيام بها لم تعدم حقوقها في الهيئة الاجتماعية. (2)
اعترضت علي حضرة الفاضلة السيدة ر. ح اعتراضات شتى لا يسعني ضيق المقام إلا أن آتي الجواب عليها اقتضابا لكثرة خصيماتي، ووجوب الرد على كلهن صبة واحدة لئلا يعتبن علي؛ إذ إن السيدات يصفحن عن كل ذنب إلا ما تشم منه رائحة التفضيل بينهن.
قالت إني بحثت في المرأة والرجل بحث الطبيعيين لا بحث أهل النظر، وعابت علي إيرادي بعض أمور عن المرأة أقرب إلى البحث النظري منها إلى البحث الطبيعي، مثل قولي: «إن الرجل يأكل أكثر من المرأة، ولكنها أنهم منه، وإن الذي يمنعها من ارتكاب الجرائم إنما هو خجلها وحياؤها، وحالها من الرضوخ، وعوائدها التي تحجبها، وضعف جسدها، وإنها أحيل من الرجل وأخدع؛ لأنها أضعف منه، والحيلة والخداع سلاح الضعيف.» ولا أنكر بأن من هذه الأمور ما هو أقرب إلى علوم النظر، إلا أني أقول أيضا إني لم ألتزم البحث في الوجه الطبيعي إلا لكي أجعل للوجه النظري مجالا أوسع وقيمة أعظم بتمهيد السبيل له حتى يقل خطؤه ويكثر صوابه؛ إذ لا يخفى أن العلوم النظرية ليست إلا الاستقراء والاستنتاج المبنيين على أمور مسلمة هي عندهم كالحقائق، فكلما كانت هذه الأمور المسلمة أقرب إلى الصواب كان الاستقراء والاستنتاج المبنيان عليها أصح كذلك. وأي شيء أصح من العلوم الطبيعية التي هي في حكمها كالعلوم الرياضية؟ ولذلك كان كثير من أحكام النظر المبني على هذه العلوم حكمه كحكم اليقين. على أن من الأمور النظرية المتقدم ذكرها ما هو مبني على المراقبة والاختبار؛ فقول حضرتها: «فبأي مقياس قاسوا نهامة الرجل والمرأة حتى عرفوا أنها أنهم منه؟» مردود عليه بالقول إنهم قاسوها بمقياس المراقبة، وإن لم يرضها ذلك فبمقياس «الأكل»، ولا أعلم ما الذي ساءها من هذا القول، وهو ليس قولي، بل قول جمهور العلماء المتبحرين في درس طبائع الحيوان ومراقبة أفعاله، وإن لم يقنعها ذلك فنحن نأتيها بتعليل فلسفي ينطبق على هذا القول لعلها تقنع؛ فلا يخفى أن بين عوائد الرجل وعوائد المرأة بونا بعيدا، فالرجل كثير الحركة كثير السعي، والأشغال التي تطلبها احتياجاته شاقة، وتطلب منه جهدا جهيدا وسعيا عظيما خارج مسكنه، فلا يتأتى له أن يتناول الطعام إلا في أوقات متباعدة؛ ولذلك كان لا يجلس على الطعام إلا وقعات قليلة ويأكل كثيرا، بخلاف المرأة؛ فإن سعيها قاصر على تدبير منزلها، وحركتها بالنظر إلى ذلك قليلة، والأشغال المطلوبة منها وإن كانت مهمة إلا أنها غير شاقة بالنسبة إلى أشغال الرجل وهمومه، وهي دائما في البيت، وهو دائما بعيد عنه؛ ولذلك كانت تأكل أقل من الرجل، وتجلس على الطعام وقعات أكثر منه؛ ولهذا كانت أنهم منه.
وأما كون الذي يمنعها من ارتكاب الجرائم «إنما هو خجلها وحياؤها، وحالها من الرضوخ، وعوائدها التي تحجبها، وضعف جسدها»؛ فهو قول بعضهم، وكنت أود أن أسلم مع حضرتها بأن الذي يمنعها من ذلك إنما هو «لأنها أميل إلى السلام وحب الاتفاق وكره المآثم والشرور» إلى آخر ما قالت؛ لأني أريد أن تكون لها هذه الصفات لولا أن هذا التعليل نفسه قاصر، ويحتاج إلى تعليل آخر يعرف منه لماذا هي كذلك؛ فلا شك أنها كذلك لأنها أضعف وأذل من الرجل، وهذا يولد فيها الخوف، ولأنها محجبة وإن لم تبق مقنعة، وهذا يولد فيها الخجل والحياء، وما أدلهما من صفتين لا أرضى للسيدات أن يخجلن منهما.
وعلى نفس هذا التعليل يعلل لماذا المرأة أحيل وأخدع من الرجل، لكن لما كانت حضرتها لا ترى وجه إقناع في قولي «لأنها أضعف منه، والحيلة والخداع سلاح الضعيف»؛ كان لا بد لي من بسط الكلام عليه على وجه أعم تأييدا لهذه الحقيقة النظرية التي هي في ثبوتها كالحقائق الطبيعية المقررة. ولا ننظر إليها في أنواع الحيوان، حيث نرى آلافا من الأمثلة التي تدلنا على أن الحيلة هي كل قوة الحيوان الضعيف لردع عدوان الحيوان القوي عنه أو لأخذه في شركه، ولولا ذلك لما أمكن بقاؤه حيا مع خصمه القوي؛ بل ننظر إليها في أحوال الأمم في العمران. فلا يخفى أن الشرائع الحاكمة على الأمم كانت في بدء الأمر استبدادية ظالمة، ولم تزل غير متساوية في كل الأقطار، ومعلوم أن الاستبداد يورث الخوف في قلوب الرعية، فلا تجد ما يحميها من غضب حاكمها المستبد سوى التملق له والرياء به. والرياء يورث الخداع والكذب وما شاكل، ويستحكم فيها ذلك بطول لبثها محكومة بالاستبداد، وينتقل في نسلها بالوراثة خلفا عن سلف، حتى يصير فيها أخيرا طبيعة لا تزول منها بالتعليم والحرية، حتى يمر عليها منهما بقدر ما مر عليها من عصور الجهل والاستبداد؛ ولذلك كنت ترى القوم الذين عاشوا تحت ظل الاستبداد واستحكم فيهم الرياء، قوما لا يصدقون ولا يصدقون، وقلما تجد بينهم صديقا مخلصا ولو خرجوا إلى نور العلم والحرية، ولست تجد بينهم ذلك حتى يمر عليهم فيه بقدر ما مر عليهم محجوبين عنه. وما قيل هنا يقال أيضا عن الرجل والمرأة، وكلامنا عام لا يجوز النظر فيه إلى شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، بل إلى عموم البشر في العمران؛ فإن الرجل لجهله استبد في أول الأمر، وخافته المرأة فاستسلمت له، وأقبلت عليه متملقة كي تنجو من جوره. ولا يكفينا أن ننظر إلى نساء الشعوب المتمدنة، بل فلننظر إلى نساء الشعوب التي لم تزل غارقة في الجهل؛ فلا نكاد نجد امرأة تخاطب زوجها إلا كعبد ذليل أمام سيده المستبد، فكيف يمكن لهذه المرأة أن تكون غير محتالة ومخادعة؟ وكون المرأة أحيل وأخدع من الرجل لا يحط من شأنها بقدر ما يحط من شأن الرجل الذي هو سبب ذلك فيها. على أني لا أنكر بأن هذه الصفات المذمومة في المرأة الجاهلة تنقلب - وهنا أوافق حضرتها - إلى مزايا ممدوحة في المرأة المتهذبة، بحيث تصير فيها فضيلة واتضاعا وطاعة وصبرا وطهرا وعفافا ومحبة وشفقة وحنوا، إلى آخر ما وصفتها به من جليل المزايا وحميد السجايا. (3)
إني أشكر لحضرة السيدة الفاضلة م. م الأولى على إطنابها في مدحي، وأوافقها على أن الرجل إذا كان يمتاز على المرأة بشدة البدن فالمرأة تمتاز عليه بجمالها واعتدال قوامها ولطف تركيبها وغضاضتها وبضاضتها. أقول وبذلك قوتها. وقد أشرت إلى هذه الامتيازات في مقالتي السابقة، خلافا لقولها إني أهملتها. ولا أخالفها في أن انبساط قدم المرأة وكونها تزر ثيابها عن اليسار خلافا للرجل مسألة مختلف في مدلولها، ولكني أنكر على حضرتها نسبتي إلى التحامل عليها والإجحاف بحقوقها، ولا أسلم معها بأمور ثلاثة، وهي؛ أولا: إنكارها كون بطء النمو دليلا على الارتقاء وسرعته دليلا على الانحطاط. ثانيا: قولها إن حواس المرأة أرقى من حواس الرجل. ثالثا: كون ثقل الدماغ ليس دليلا على كبر العقل.
أما كون بطء النمو وسرعته دليلين على الارتقاء والانحطاط فأمر مقرر، وإني أستغرب كيف أن حضرتها ترتاب فيه. ويكفينا للحكم فيه أن نلقي نظرنا إلى ما حولنا لنتأكد صحته في مواليد الطبيعة؛ النبات والحيوان حتى الجماد أيضا. ألا ترى سرعة نمو النباتات السافلة وبطء تكاثر الحيوانات العالية؟ ولا أوجه نظرها إلى الأحياء المكروسكوبية التي تتكاثر ملايين وتنمو، وتبلغ أشدها وتهرم وتموت في أقل من ساعة؛ فإن مراقبة هذه لا تتيسر إلا للخاصة، بل إلى الفرق بين النباتات المحولة كالأعشاب، والنباتات المعمرة كالأشجار مما تعرفه العامة، فأي فرق بينهما في سرعة نمو الأولى وبطء نمو الثانية؟ وما قيل عن النبات يقال أيضا عن الحيوان، وبه يعلل أيضا سرعة نمو البنات وبطء الصبيان؛ إذ لا يخفى أن البنات يسبقن الصبيان لغاية سن 15 سنة، ثم يقفن ويستمر الصبيان على النمو كما قلت في المقالة السابقة.
وأما كون حواس المرأة الخمس أدق من حواس الرجل فقول مبني على أدلة تشريحية وفزيولوجية مغلوطة، والذي أعلمه علم اليقين، بناء على ما هو مقرر في هذين العلمين، أنها دون حواس الرجل. ولنا على ذلك أيضا برهان آخر عملي، وهو امتياز الرجل على المرأة في جميع الأعمال التي تحتاج إلى ارتقاء هذه الحواس، حتى الأعمال الخاصة بالمرأة نفسها، كفن الخياطة والرسم وما شاكل. وقد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم. فلو كانت حواس المرأة أرقى من حواس الرجل حقيقة لاقتضى أن تمتاز عليه في هذه الأعمال، بل في جميع الأعمال اليدوية والعقلية أيضا؛ لاحتياجها جميعها إلى الحواس الظاهرة التي هي أبواب العقل. على أن بناء هذه الحواس هو كبناء جميع المجموع العصبي، ولا يخفى أن هذا المجموع أرقى في الرجل منه في المرأة، ولا يعلم سوى أن المرأة أشد انعطافا من الرجل؛ أعني أن عصبها ينفعل أكثر من عصبه؛ لذلك كانت تتأثر أكثر منه. وشدة هذا التأثر العصبي ليس دليلا على شدة العصب، بل على ضعفه، كما لا يخفى على علماء الأمراض، فكون أعصاب المرأة ألطف تركيبا وأدق بنية شاهد عليها لا لها.
وأما مسألة العقل وارتباطه بحجم الدماغ فأمر مقرر، خلافا لما زعمت حضرتها، والنظر في هذه المسألة، كما في جميع المسائل، لا يصح الحكم فيه إلا بالنظر إلى الكل لا إلى الجزء، وإلا فهناك أسباب كثيرة يكون فيها كبر الدماغ مرضيا لا فزيولوجيا، فهذا لا يعول عليه، وهذا هو موضوع الخلاف في تلك المناقشة التي أشارت حضرتها إليها، والتي وهمت منها ما ظنته دليلا على الضد؛ فكبر الدماغ الفزيولوجي يرافقه دائما إتقان في نسيجه وارتقاء في بنائه. ومن المقرر المعلوم أن معدل ثقل الدماغ هو أقل في شعب سافل منه في شعب عال، وفي أقل الناس عقلا منه في أعقلهم، وفي النساء منه في الرجال، وغير ذلك نادر، والنادر لا يعتد به. ويوجد أيضا نظر آخر هو سبب هذا الوهم؛ فلا يخفى أن الدماغ لا يبقى حجمه ولا وزنه على معدل واحد في سائر أطوال الحياة. فذلك الجاهل البليد وذلك العالم الفيلسوف المتقد ذهنا في بعض أطوار حياته، أو في إبان صحته، قد يطرأ على دماغهما قبل موتهما أو في مرضهما ما يغير تركيبه، فإذا وزنته بعد موتهما وجدته إما كبيرا جدا خارقا للعادة، أو أصغر مما يلزم، فتحكم على أن القول بنسبة العقل إلى كبر الدماغ خطأ، ويكون الخطأ حقيقة في حكمك نفسه. وهذا هو سبب أكثر الخلاف في هذه المسألة، وإلا فلا خلاف إذا نظر فيها إلى الكل.
وأما ما ذكرته من فضائل المرأة، وأنها المعزية الحزين والمفرجة المكروب، والصابرة على مضض العيش ونغص الحياة، والراضية بمشاركة الرجل في سرائه وضرائه ... إلخ؛ فأوصاف نسبية، ولا تدل على شيء مما نحن بصدده، ويشترك الرجل فيها أكثر منها أحيانا، وقد تقدم الجواب عليها في الرد السابق، وهي لا تثبت لها إلا بالتهذيب الصحيح، وإلا فتنقلب فيها إلى ضد ذلك، وتكون المرأة حينئذ بلوى الرجل المكدرة صفوه، والمنغصة عيشه، والزائدة حزنه، والجالبة كربه والقاصفة عمره. فالذي يذكر لها تلك الصفات الحميدة ينبغي ألا يذهل فيها أيضا عن هذه الصفات الذميمة؛ أقول ذلك لا بقصد التحامل عليها، ولكن بقصد استيفاء الموضوع؛ لأننا في معرض نحاول فيه تقرير الحقائق، فكما أن المرأة المهذبة ملك كريم، هكذا المرأة الجاهلة شيطان ذميم، وما أحرى هذا القول أن ينبهنا جميعا إلى تربية المرأة، والاعتناء بتهذيبها تهذيبا صحيحا يزيد جمالها جمالا، لا تهذيبا مبهرجا يزيدها شرا ووبالا. (4)
إني أقول ردا على خطاب حضرة السيدة الفاضلة م. م الثانية إنه لم يلجئني ملجئ للتحامل على النساء، ولكني قصدت في مقالتي تقرير الواقع، ولا أنكر أن المنتصرين والمنتصرات ضدي كثار كما قالت، ولكني أقول إن الحق لا تهوله الكثرة؛ فكم فئة صغيرة غلبت فئة كبيرة بإذن الله. وإني أسلم معها بأن المرأة، على خفة عظمها ودقة عضلها، لا يوقفها عن الدفاع عن نفسها صلابة عظم الرجل وغلظ عضله؛ لأني لا أجهل أن لها سلاحا آخر غير سلاح القوة؛ هو سلاح الحيلة والدهاء.
سألت حضرتها ثلاث مسائل: (1) هل كانت المرأة في أول عهد الاجتماع مساوية للرجل؟ (2) هل هي في الحالة الحاضرة مساوية له؟ (3) هل تكون مساوية له في المستقبل؟ وأجابت على كل ذلك بالإيجاب، بل ربما توسمت فيها سبقا عليه أيضا. وأنا أوافقها في جوابها على السؤال الأول، وإن كنت أخالفها في التعليل الذي يصرفني عن بسطه هنا ضيق المقام، وأخالفها كل المخالفة في جوابها على السؤالين الأخيرين. أما كون المرأة مساوية للرجل في الحالة الحاضرة، فليس لها عليه دليل سوى قولها: «إن المرأة أقدر على أعمال الرجل مما هو على أعمالها؛ بناء على أن من النساء من نبغن في الطب والفقه وحسن الملك.» ولما كان الجواب على ذلك مستدركا في مقالتي السابقة بقولي: «لا تبعد أن تكون سيادتهن قد استتبت لهن لأسباب أخرى؛ إما لإرث ملوكي، وإما لنبوغ غير اعتيادي.» قالت حضرتها: «فنحن لا نقول الخلاف؛ لأننا نعلم أن الرجل منذ أتيح له وضع القوانين والشرائع، وتفضيل نفسه على المرأة، وهضم حقوقها وامتيازاتها؛ لم يعد يتهيأ لها تولي المناصب العظيمة.» فبم تجيب حضرتها يا ترى لو سألناها: «لماذا «أتيح له وضع القوانين والشرائع وتفضيل نفسه عليها ... إلخ»، ولم يتح لها ذلك؟» لا شك في أنها تجيب: «لأنه أقوى منها.» وبذلك تجيب أيضا لو قلنا لها عن طبيباتها وفقيهاتها «إنه لا يعلم أنهن سرن إلا على خطوات الرجال مقلدات غير مخترعات»، وعن مليكاتها «إنهن لم يحكمن حكمهن إلا بمساعدة الرجال»، ولا يحسن الملك بهن إلا إذا كن فيه صورة لا حقيقة، كما في ملكة أرقى الشعوب اليوم، وإلا فيسرن بالملك إلى الوبال، كما دلت عليه التواريخ. وأما قولها: «إن المرأة ستكون مساوية للرجل في المستقبل، بل أرقى منه.» فهذا لا دليل لها عليه، ومناقض لما علم من سنن ارتقاء الرجل والمرأة، حيث تقرر أن الأنثى أقوى من الذكر في الحيوانات السافلة، ومساوية له في الحيوانات المتوسطة، وأضعف منه في الحيوانات العالية، اللهم إلا أن تكون تخاف على الهيئة الاجتماعية في المستقبل من الانحطاط، فيتحقق قولها، ولا أظن أن حضرتها تعد لمستقبل الهيئة الاجتماعية مثل هذا الشر.
على أني أعجب غاية العجب من تحامل حضرات السيدات علي، وتوهمهن بي سوءا، وأنا لم أبخسهن شيئا من حقوقهن، بل بالضد من ذلك، بحثت في أمرهن بحثا طبيعيا لتقرير مقامهن في العمران، وهذا يعد انتصارا لهن لا تحاملا عليهن، أو ماذا يقلن (وهن لا يحتملن مني ذلك) في الشرائع التي يدن بها، والتي تجعلهن تحت الرجل بدركات، وتحظر عليهن أمورا كثيرة لا تحظرها على الرجل. أليست هي القائلة فيهن: «المرأة ضلع من الرجل، والرجل رأس المرأة.» حتى لا نأتي إلا بأخف ما قالت فيهن، أو ماذا يرغبن في مزاحمتهن الرجال، وطلبهن المساواة بهم، أيرغبن أن يشتغلن أشغالهم؛ فإن كان كذلك فلقد طالما جد الرجل وكد وسعى في طلب الرزق حتى كل ومل، والمرأة عائشة على نفقته مرتاحة من أتعابه، خالية من تجشم أهواله، فلتتفضل حضرتها إن كانت تجد من نفسها قوة وتجند منها الجند، وتؤلف العمال، وتشيد الأعمال، وتسعى وتجد وتكدح وتكد في طلب العيش؛ فقد آن لها أن تشتغل، وللرجل أن يستريح. فإن كانت تستطيع ذلك فلتقدم عليه، فيكون لها به أجر المحسنين، وإلا فلا تضيع الوقت الثمين في طلب المستحيل، ولترض بمركزها؛ فإنه ليس أقل أهمية من مركز الرجل. (5)
لقد طاب لي المقام وطال بي الكفاح والصدام في هذه الحرب مع السيدات، حتى صار الخروج منها إلى حرب ذوي لحى وشوارب
3
غبنا وأي غبن! ولذلك أقتصر في الرد على جناب الأديب «خ. س» بالإشارة إلى الوهم الذي جعله يعترض اعتراضه علي في مقالته التي وضعها تحت عنوان: «الرجل والمرأة وهل يتساويان؟» حتى إذا انتبه إليه أصلحه، وهو في قوله أولا: «والذي يلوح لي أن الأنثى والذكر متساويان في القوة أصلا، ثم كلما ارتفعت في سلم النشوء انحطت قوتها ... إلخ.» وثانيا في قوله: «ولما كان القائلون بامتياز الأنثى على الذكر قوة في الحيوانات السافلة لا بد لهم من مستند يقررون به قولهم، فنطلب إلى الدكتور شميل أن يفيدنا عن بعض مستنداتهم هذه.» فنجيب حضرته على القول الأول بأن المسألة ليست من قبيل اللوح حتى يلوح له بالحدس والتخمين، ولكن من قبيل اليقين المقرر بالمراقبة والاختبار؛ وعلى القول الثاني بأنه لو انتبه إلى معنى قولنا: «فمن المعلوم لأهل النقد من علماء طبائع الحيوان أن الأنثى أشد من الذكر في الحيوانات السافلة ... إلخ» لعلم أن المراد بهذه الشدة أن الأنثى أكبر من الذكر في جسمها، وأشد في بنيتها وأقوى في قوتها، كأنثى النحل والزنابير والفراش وكثير من الأسماك والحشرات. فهذه هي المستندات التي يطلبها حضرته. وفيما عدا ذلك فإني شاكر لحضرته على انتصاره لي وإطرائه علي، والسلام ختام.
المقالة الثالثة عشرة
القضاء على القضاء1
ما خلص الإنسان من شباك علم اللاهوت وامتيازات الرؤساء حتى وقع في حبائل أشد وأدهى، وهي علم الحقوق أو اللاهوت الاجتماعي كما صار إليه اليوم، والثورة التي يقتضيها تغيير هذا النظام المعقد سيكون هولها شديدا؛ لتأصله في قلب الاجتماع، وامتداده إلى أعماق نظاماته، ولكن اليوم الذي سيتخلص الاجتماع منه، ويرده إلى شكله البسيط، سيكون نعمة عظيمة أيضا؛ إذ تنصرف القوى الضائعة فيه بذلك إلى تمهيد السبيل القويم لسرعة ارتقائه الارتقاء الحقيقي. ***
لو أنصف القاضي استراح الناس
إليك أكتب أيها القارئ العاقل والعاقل المتأمل، ولا أطلب منك علما واسعا وفلسفة بديعة وحكمة بليغة، بل أطلب منك عقلا حلت قيوده وتفتحت منافذه، وأقام التفكر مقام الاعتقاد والبحث مقام المقرر، يقدر مستنتجات العلم قدرها، ولا يبخس مستنبطات العقل حقها، فأعرني سمعك قليلا، ولا أكلفك حلما طويلا قبل أن ترميني بالإغراب لاستغرابك عنوان مقالتي، وتقول: «من ذا الذي يريد قلب الموضوع وتغيير المطبوع؟» لأني على يقين بأنك إذا أمعنت نظرك، وسرت معي شوطا غير بعيد في هذا البحث الاجتماعي؛ لم تعد ترضى بالوقوف عند الحد الذي أوقفتك عنده تعاليم وضعها الناس على ما بهم من الجهل والغواية، وأدخلوها إلى عقلك بالإرهاب والترغيب حتى رسخت فيه، وصارت في اعتقاده قضايا مسلمة لا تقبل التغيير، وجرت على ألسنة الناس مجرى الأمثال، واعتبروها من الحكم الباهرة، وهي لو تفحصتها وجدتها أوهى من نسيج العنكبوت، يمزقها التمحيص تمزيقا ولا تثبت على جمر الانتقاد، بل لو دققت البحث فيها جيدا لاستغربت جدا، كيف يستطيع العقل أن يضل هذا الضلال، ويحيد عن الجادة المثلى، والأمثلة التي أمامه من الطبيعة كثيرة ترشده إلى خلاف ذلك، وتعلمه طريق الصواب؟ والطبيعة هي الكتاب الوحيد المنزل الذي ينبغي أن يعول عليه وأن نرجع في أحكامنا إليه. •••
جرى على ألسنة الناس مجرى الأمثال قولهم: «لو أنصف الناس استراح القاضي.» وربما لم يخطر على بال أحد أنه سيقوم أناس يعتبرون مثل هذا القول خطأ، ويرون الصواب في عكسه، ويؤيدون قولهم بأدلة تنطبق على العلم ويقبلها العقل، ولا يجرحها إلا كثرة عدد الجمهور المستغرق في سبات الاقتناع، والراقد على أديم التواتر.
والعلماء والحكماء لا يهمهم ذلك، ولو نالهم منه صدمة قوية زعزعت أركان مصالحهم، ولكنها لا تستطيع شيئا على أفكارهم، والمستقبل لهم؛ أي لمبادئهم. فهؤلاء الناس يقولون: «لو أنصف القاضي استراح الناس.» ويريدون بالقاضي هنا القضاء عموما، لا الأحكام الخصوصية التي يصدرها القضاة أحيانا كثيرة وتكون عرضة للانتقاد، كحكم المحاكم الأهلية في قضية الاختلاس الذي وقع في إحدى مصالح الحكومة، إذ أفلتت القوي عملا بقوله:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له
وتتقي مربض المستأسد الضاري
وخففت العقاب على المرتكب الأصيل، وشددته على الشريك. فمثل هذا الحكم لا يوجد له لفظة تقوم بوصفه في قاموس اللغة الفصحى، ولا يوجد له ذلك إلا في اللغة العامية. واللغة العامية، ولا يخفى، تعبر أحيانا كثيرة عن معان لا تصل إليها اللغة الفصحى، فالعامة تطلق على مثل هذا الحكم اسم «حكم كريوني»، وربما لم يعدم العلماء وصفا لمثل هذا الحكم ينطبق على علم الأعصاب الحديث، فأطلقوا عليه اسم (حكم هستيري)، فمثل هؤلاء الناس يعتبرون أن عدم الإنصاف كائن في القضاء نفسه، وهو سبب متاعب الإنسان في العمران. •••
فالقضاء هو إحدى الشريعتين العظيمتين اللتين تتوليان قياد الهيئة الاجتماعية، وهما الشريعة الدينية والشريعة السياسية؛ فبحسب حال هاتين الشريعتين تكون حال الإنسان في العمران.
وقد انقضى الزمان الذي كان الجهل سائدا فيه على العقل، والذي كان الإنسان يقول فيه:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همسي
فليس للإنسان شرائع منزلة إلا ما أنزل جهله عليه من الخرافات والأوهام، فشرائع الإنسان من صنع الإنسان، وهي تابعة لحاله من الانحطاط والارتقاء. حقيقة توجب الفخار لقائلها بمقدار ما تجلب العار على مقاوميه. •••
فالعقاب الذي هو أساس الشرائع عموما والقضاء خصوصا أثر من آثار الهمجية، وبقية من بقايا توحش الإنسان الأول. وما دام هذا المبدأ الفاسد أساس القضاء، فإصلاح الهيئة الاجتماعية به أمر مستحيل، بل إذا دققنا النظر جيدا وجدنا أنه سبب الشر «الكثير في العمران» كالقتل والسرقة، وخصوصا الكذب الذي هو أصل كل الشرور، وإن لم يكن سببها الحقيقي فهو السبب المساعد على إنمائها. قال هولباخ: «إنا لا نرى هذا القدر من الجنايات على الأرض إلا لتضافر كل شيء على جعل البشر أشرارا جانين؛ فإن دياناتهم وحكوماتهم وشرائعهم وتربيتهم والأمثلة التي يرونها نصب أعينهم تدفعهم إلى الشر، فما عسى ينفع تعليم الفضيلة التي يذهب أصحابها غنيمة باردة في هيئات اجتماعية ترفع شأن الجاني وجنايته، وتجل قدر المسيء وإساءته، ولا تقاص أقبح الذنوب إلا إذا كان مرتكبوها ضعافا. فإن الهيئة الاجتماعية تقاص الصعاليك لذنوب ترفع شأن أصحابها إذا كانوا كبارا، وكثيرا ما تقضي بالموت على أناس لم يرتكبوا القبيح إلا لفساد أحكامهم بالاعتقادات الفاسدة التي تكون الحكومة قائمة بتعزيز شأنها.»
فإن هذه الشرائع التي لم ينظر فيها إلا إلى العقاب للانتقام، وهذه المعاملات التي لم يقصد منها إلا القسوة للإرهاب؛ هي التي ولدت أكثر الصفات الرديئة في البشر. ولا نرجع إلى العصور الخالية، وننبش قبور الذين عذبتهم الغايات السياسية والمصالح الدينية ، ليس من الأفراد فقط، بل من الجماهير والأمم، لنثبت صحة هذا القول، بل ننظر إلى عصرنا الحالي؛ فإن الطمع الشديد المستحوذ على أهله، والجنوح فيه إلى استعمال الحيل والخداع والكذب، دليل على انحطاط في تقرير الحقيقة والصدق، وارتقاء مخيف في نمو الكذب، وعلى من الذنب؟ أليس على الهيئة الاجتماعية نفسها؟ أليس الإطناب في تعظيم هذه الرذائل والإرشاد إليها جاريا على الألسنة مجرى الحكم؟ كما في قول الشاعر:
إن لم يكن عندك حظ
فليكن عندك حيلة
وما هي الحيلة يا ترى؟ أليست الخداع؟ وما هو الخداع؟ أليس الكذب؟ وبلسان من عبر الشاعر بقوله:
والصدق إن ألقاك تحت العطب
لا خير فيه فاعتصم بالكذب
أليس بلسان الهيئة الاجتماعية نفسها حتى صار الكذب شيئا لازما في الحياة الخصوصية كما في الحياة الاجتماعية، في صناعة الحب كما في صناعة الحكم على الجماهير؟ ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يكذب لأنه رآنا نعاقبه على الصدق، وأن يسرق لأنا حجبنا عنه ما يحتاج إليه؟ فالكذب عادة الذنب في انتشارها على الهيئة الاجتماعية، وهو الذي يجرنا إلى ارتكاب الجناية، وهذه الهيئة التي تعلمنا ذلك وتجرنا إلى ذلك هي التي تطلب معاقبتنا على ما اكسبتنا إياه بالعادة، ومكنته فينا بالوراثة. •••
وأنواع العقاب الكبرى ثلاثة: القتل، والحبس، والتعذيب. فبهذه العوامل البربرية الثلاثة يسطو القضاء على الهيئة الاجتماعية التي وكلت إليه صيانة مصالحها. ومما يدلك على أن هذه العوامل الثلاثة من آثار التوحش زوال بعضها وتلطيف البعض الآخر؛ فإن التعذيب الذي كان سلاح القضاء في عصور الخشونة كاد يزول من أكثر الممالك المتمدنة، وقل القتل، واصطلحت حالة السجون نوعا. فبعد أن كان الجاني يلقى في أعماق السجون المظلمة محجوبا عن الهواء والنور اللذين من بهما الخالق على الأخيار والأشرار، صار يسمح له بأن يرى النور ويستنشق الهواء. وهذا الإصلاح الطفيف المعيب الذي يفتخر به القضاء اليوم هو عار على القضاء، ووصمة تخجل منها الإنسانية، ولا يستطيع أن يفاخر به أقل الإصلاحات التي حصلت في أقل الفروع المعاشية التي تهم الهيئة الاجتماعية.
وما دام القضاء لا يتخذ مبدأ له دفع الشر عن الهيئة الاجتماعية، وتوفير النفع لها عوضا عن العقاب للانتقام؛ فهو بعيد عن الغاية التي تطلبها منه هذه الهيئة، وهي صيانة مصالحها وتمهيد طرق إصلاحها.
وبم يكون دفع هذا الشر وتوفير هذا النفع؟ أبالإعدام الذي هو نقص في الشرائع، كما أن البتر نقص في الطب، ولا يجوزان إلا إذا تعذر الإصلاح؟ أم بالتعذيب وبالأشغال الشاقة، وهي معاملة خشنة تمكن الإنسان من الأخلاق الوحشية، وتبعده عن الإنسانية؟ أم بالسجون التي هي قبور في الحياة لا يكتسب الإنسان فيها إلا فساد صحته من سوء الغذاء وقلة الهواء والنور والنظافة، وفساد أخلاقه لما بها من سوء المعاملة، وعدم الاعتناء بالتربية الحسنة، يأكل الإنسان فيها ويشرب وينام، وقد يجتر كالحيوان، ويقل عنه في أنه لا يعمل عملا مفيدا، ولا يكتسب عملا مفيدا؟ سقوفها تمطر البق، وأرضها تنبت القمل، وجدرانها تشف عن الرذائل، أفي مثل هذه الأماكن المعدة في الأصل للانتقام نأمل أن نصلح الجاني، وأن توفر نفعه للهيئة الاجتماعية؟ كلا ثم كلا.
فالهيئة الاجتماعية نظلمها، وأي ظلم، إذا كنا نظن أنها تطلب منا أن نقتص لها من جناتها انتقاما منهم، حاشا ثم حاشا أن تطلب ذلك من نفسها ضد نفسها، وهي في صحة عقلها، وبالحقيقة من هم الجناة؟ أليسوا من الأفراد الذين يؤلفون الهيئة الاجتماعية نفسها؟ فلقد انقضت تلك العصور الخشنة؛ عصور الجهل التي كانوا يغفلون فيها مصالح الأفراد، ولا يدركون قيمة لهم، كأن ليس لهم حق في الحياة الاستقلالية، وليس لهم شأن في الحياة الاجتماعية، ولا يستحقون رحمة بهم ولا عطفا عليهم من الإنسانية، ولكن نور العلم الوهاج الذي يزداد كل يوم نورا، والذي هو نبراسنا الساطع في ظلمات هذا الوجود، ودليلنا الذي لا يضل في مجاهل هذه الحياة؛ آخذ في تمزيق غياهب الضلالات التي أورثناها الجهل، وكل يوم يهتدي به العقل إلى تعظيم شأن الأفراد في الاجتماع الإنساني كما هو شأنها في الاجتماع الطبيعي، لتأييد دعائم الاقتصاد السياسي الذي هو نوع من الاقتصاد الطبيعي؛ لأن الأفراد هم الأساس الذي تبنى عليه الجموع، وتنشأ منه الجماهير، وتتألف منه الهيئة الاجتماعية؛ فالعبث بحقوق الأفراد عبث بحقوق الهيئة الاجتماعية نفسها. •••
ومن ينكر أن السجون على حالتها الحاضرة هي منشأ الجرائم والرذائل وكل الشرور التي تتأصل في الهيئة الاجتماعية، فلا شك أنه من القحة على جانب عظيم، وإنه لعار على القضاء أن يكون الأخير في الاستفادة من مكتشفات العلم والصناعة، وسائر معدات التمدن. ولئلا أرمى بالجسارة والتحامل، أقول لنقابل بين المستشفيات في الماضي ومعاملة المرضى فيها والمستشفيات اليوم ومعاملتهم فيها، وبين السجون في الماضي والسجون اليوم ومعاملة المسجونين فيها. فقد جاء في الكورسبوندانس مديكال بتاريخ 31 مايو من هذه السنة عن المستشفى المعروف بأوتل ديو بياريز، الذي هو أقدم مستشفيات أوروبا (فإنه أنشئ في سنة 651) نقلا عن تقرير تنون في سنة 1786 ما نصه: «وكانوا يطبخون في قاعات المرضى الطعام المعد لهم، وكانوا يضعون عدة أشخاص في سرير واحد، حتى كان الداخل إليها يكاد يختنق.» •••
بل ننظر إلى معاملة المجانين في المارستانات في الماضي كيف كانوا يضربون ويعذبون ويهانون، ثم ننظر إلى ما صارت إليه المستشفيات والمارستانات اليوم من الإتقان البالغ الغاية القصوى من توفير أسباب الراحة والاعتناء بالصحة، حتى صارت تحاكي قصور الملوك. لننظر إلى ذلك ونقابله بحالة السجون والمسجونين في كل المعمورة، هل توجد نسبة بين الإصلاح المعيب الذي حصل في السجون، والإصلاح البالغ الغاية في المستشفيات؟ والذنب في ذلك على من؟ أليس على القضاء نفسه الذي لم يعرف أن يستفيد من أتعاب الإنسان كما استفاد سواه، بل الذي لا يزال مستمسكا بالقديم المتنقل إليه من عصور غلب جهلها على علمها، معتبرا أنه ما وجد إلا للإرهاب والعقاب والانتقام، وهو بذلك يزيد مصائب الهيئة الاجتماعية، خلافا لما يطلب منه، وهو إصلاحها وتخفيف ويلاتها، كأن أهل السجون لا يستحقون هذه العناية؟ فكيف استحق مرضى الأجسام اعتناء رجال الفضل والحكومات بهم، ولا يستحق مرضى الاجتماع منهم ذلك؟ لأن أهل السجون ليسوا بالحصر إلا مرضى في الهيئة الاجتماعية، سواء كان بالمعنى الحقيقي أو بالمعنى المجازي. •••
بل أهل السجون هم مرضى بالمعنى الحقيقي؛ مرضى في عقولهم، مرضى في شهواتهم، مرضى في إرادتهم، مرضى في قوتهم المتصرفة. فمعلوم لكل ذي عقل، ولا نحتاج إلا إقلاق العلماء والاستشهاد بأقوالهم لإثبات ذلك، أن أصحاب الجرائم قسمان؛ قسم يرتكب الجرم بقصد الكسب أو شهوة أخرى، وقسم يرتكب الجرم مندفعا إليه بأسباب أقوى منه من دون أدنى روية أو تبصر في العواقب. فالأول يسرق ويقتل ويرتكب الفحشاء، ولا يستطيع القضاء غالبا أن يمد إليه يدا؛ لأنه عاقل يتخذ الاحتياطات اللازمة لستر جريمته. فهذا المسئول عن عمله، والذي يجب على القضاء أن يعاقبه، فليبحث عنه لا في السجون وعلى مصاطب المحاكم، بل في القصور على فاخر الريش ووثير المهاد. فالمجرمون ليسوا كلهم في السجون، كما أن المجانين ليسوا كلهم في المارستانات، وليس منهم في السجون إلا المرضى بالمعنى الحقيقي. فعوضا عن أن نعاملهم كما يعامل إخوانهم في المستشفيات، نرانا شاهرين فوق رءوسهم سيف ديموقلس، أي سيف النقمة، للاقتصاص منهم، وهم أولى برحمة الطبيب. •••
أقول أولى برحمة الطبيب ولا أبالغ، ولو عارضني معارض لهب لنصرتي من أرباب العلم والذكاء ألوف، كل واحد بمقام آلاف من أبي الطب أبقراط المتوسد في قبره من عصور طويلة، إلى شركو وبال ولمبروزو من مشاهير علماء هذا العصر، وأتباعهم الذين يعدون اليوم بالآلاف، وخصوصا هذا الأخير الذي يرأس المدرسة الحديثة التي تبحث عن طبائع المجرمين. فلنسمع ماذا يعلمنا شركو عن متشيطني الأمس ومصروعي اليوم الذين كثيرا ما يصيرون مجرمين؛ فقد كان الناس في العصور الخالية يعتبرون الهستيريات (أي المصابات بالهستيريا، وهو مرض عصبي، واللواتي يصنعون لهن الزار في هذه البلاد) أن بهن شياطين، فكانوا يحاولون إخراج هذه الشياطين بكل ما لهم من الوسائل الدينية والسرية، فإن لم تنجح عمدوا إلى تعذيب الأجساد التي كانوا يزعمون أن الشياطين حالة فيها بكل أنواع العذاب، كالجلد والصلب والتقليب على شوك الحديد والحريق بالنار، بعد أن كانوا يقيدونها بسلاسل الحديد ويلقونها في أعماق السجون المظلمة. هذا ما كان يفعله رجال الدين ورجال السياسة بمثل هؤلاء المساكين قبل شركو ومن تقدمه من أفاضل المصلحين، وما كان عدد المتشيطنين ليقل بهذه المعاملة الوحشية. وأما اليوم فمن فضل شركو الذي أفاد الإنسانية من هذا القبيل في سنين قليلة أكثر من كل الشرائع قبله، صاروا يعتبرونهن من طائفة المرضى الذين يجب الرفق بهم، ومعالجتهم في المستشفيات البالغة الغاية القصوى من الإتقان، وما زاد عدد المتشيطنين بهذه المعاملة الحسنة، بل قل جدا؛ مما يدل على أن الشياطين أنفسهم يذعنون للمحاسنة أكثر منهم للمخاشنة. •••
و«بال» يعلمنا أن المجانين ليسوا كلهم في المارستانات؛ فإن أفعال العقل المختلفة قد تختل من جهة مع بقاء الجهات الأخرى سليمة، مما يمكنهم أن يعيشوا بين الناس بحالة لا تختلف ظواهرها عن حالة العقل السليم. فإذا طرأ عارض هيج الجانب الضعيف ظهر الاختلال في العقل، وربما جر ذلك صاحبه إلى ارتكاب الجناية، وسيق إلى المحاكم. قال «ماريليه»: «يوجد بين الذين تحكم عليهم المحاكم عدد كبير من المختلي الشعور، وإذا دققنا النظر نجد أن أكثر الجرائم صادرة عن أناس غير مسئولين؛ فالمعتوهون وضعفاء العقول، والذين بهم حئول وراثي، وأصحاب الصرع، وأصحاب الهذيان المزمن، قد يصيرون مجرمين إذا عرضت لهم الفرص بسبب ما بهم من الخلل في القوى العقلية، وهذه الفرص كثيرا ما تعرض لهم فيغتنمونها.»
ولا ريب بأنه سيكون للمبروزو في المستقبل في إصلاح المجرمين نفس الفضل الذي كان لشركو في معاملة أصحاب الأمراض الهستيرية. ولا نبعد كثيرا عن الزمان الذي سيضطر فيه القضاة أن يتمموا دروسهم الشرعية بالإقامة، ولو سنة في مستشفيات الأمراض العصبية، ليروا بأعينهم ويجسوا بأصابعهم أوجاع الإنسان؛ ليعرفوا كيف يجب أن يحكموا فيها. •••
والحاصل مما تقدم أن القضاء ما دام أساسه العقاب، وما دامت السجون لا تتحول إلى مدارس تعلم فيها الصناعات وتهذب فيها الأخلاق، وتتحول فيها قوى المجرمين إلى منافع، وإلى مستشفيات يعالج فيها مرضى الاجتماع كما يعالج فيها مرضى الأجسام، مدارس ومستشفيات بالغة الغاية القصوى من الإتقان؛ فهو عار على الإنسانية، وعقبة كبرى في سبيل إصلاح الهيئة الاجتماعية.
المقالة الرابعة عشرة
«القضاء على القضاء»
1
استئناف
العادة أن الكاتب إذا نشر شيئا في إحدى الصحف، ولو كانت سيارة، يمس شخصا آخر، سواء كان انتقادا أو مدحا أو طعنا، أن يرسل نسخة من العدد المنشور فيه ذلك إلى صاحب الشأن؛ افتراضا منه أنه غير مشترك في تلك الجريدة، أو تنبيها له إذا كان مشتركا.
وكثيرا ما وقع لي مما دلني على أن هذه العادة الحميدة المتبعة في البلاد المتمدنة غير مرعية في هذه البلاد بين كتابنا، وخصوصا عند جرائدنا، ولا يخفى ما يوجب ذلك من المؤاخذة، ومن ضياع الفائدة أحيانا كثيرة. وما حملني على التنبيه إلى ذلك الآن إلا ما وقع لي مع جريدة السلام الغراء التي تطبع في الإسكندرية، فإنها نشرت مقالة لحضرة الكاتب البارع الشيخ نجيب الحداد، رد فيها على مقالتي «القضاء على القضاء» التي نشرت في أحد أعداد البصير الأغر، ولم يبلغني خبرها إلا بعد نشرها بثلاثة أيام، ولم يتيسر لي الحصول على العدد المنشورة فيه إلا في اليوم الرابع؛ إذ قصدت إدارة جريدة الأخبار البهية، وسألتها أن تنيلني هذه الأمنية، وقلت في نفسي: «هذا عقابي على محاولتي نقض العقاب.» ولم أدر أنه أخف العقابين.
فاغتنمت هذه الفرصة لإبداء ملاحظتي من هذا القبيل، ورجائي أن كتابنا وجرائدنا عموما يقبلون ذلك مني من وجهه الحميد، ويضمون هذا الواجب إلى ما لهم من الفضل في إعلاء شأن الكتابة والصحافة في بلادنا العربية. •••
وقد تصفحت هذه المقابلة بما يجب على كل امرئ من الاعتبار للأفكار والاحترام للأشخاص، تاركا الأعراض والأغراض متمسكا بالجوهر. وشكرت حضرة الكاتب على حسن ظنه بي، وإطرائه علي بما توهمه بي من قوة الحجة وحسن البيان وحب الخير والإحسان، وإن لم يشفق علي في انتقاده، ولم يعترف لي بشيء من صحة البرهان؛ إذ عد مقالتي نسيج أضاليل وأباطيل وزخارف أوهام تجوز على بعض الأفهام، وتناقضا من أغرب ما ورد عليه، وضعف نتيجة مما تكفي أفهام القراء للحكم فيه. ولا عجب؛ فإن الناس ينظرون إلى الأشياء كل واحد من الجهة التي ألفها. وأنا لم أكن أشك لما كتبت ما كتبت، وخالفت فيه من خالفت ووافقت من وافقت، أني سأصادف عقبات تميد لها الجبال الرواسي، وألقى مقاومات تشيب لها النواصي؛ فليس من السهل هدم بنيان راسخ تنزل أسسه إلى أصل الإنسان وتمتد إلى الحيوان، وتقطيع سلاسل تربطه إليها من يوم هام في الأوهام، وحل عقائد صقلت عقدها، لشد ما تقادمت حتى صارت كالعروة الوثقى، ومنشؤها أضغاث أحلام، وأصل كل ذلك فيه بعيد، وأثره فيه حتى اليوم شديد.
نعم لم أكن أشك في ملاقاة كل هذه الصعوبات، ولم أنخدع بحكم الجمهور الصارم في أمري، ولكن الذي لم أكن أتوقعه صدور مثل هذا الحكم القاسي ممن هم في مقام الخاصة كحضرة الشيخ الفاضل، والخاصة هم قادة العامة، وواسطة مرقاتها من حضيض الجهل إلى ذروة العلم؛ إذ لا فكر للعامة إلا بهم، ولا رأي لهم إلا منهم.
وغاية ما كنت أتوقعه مخالفتي في بعض الأوجه مع الموافقة، ولو على البعض الآخر، وأقل ما كنت أنتظره أن تحدث مقالتي في العقل تأثيرا يحدث فيه تفكيرا يزحزحه عن مألوفه المتقادم عليه، ويطلقه من عقاله المربوط فيه، ويجيز له النظر في كل شيء وانتقاد كل شيء، ويسهل له سبيل الارتقاء والخروج عما ألفه بالعادة وتمكن فيه بالوراثة، وصار في اعتباره من البديهيات التي لا تقبل النقض؛ لأنا إن لم نطلق العقل من عقاله كيف نطمع بأن نزحزحه عن ضلاله؟
إلا أن حضرة الشيخ لم ينظر إلى مقالتي هذا النظر، ولم ير فيها هذا الرأي، ولم يرق له ما فيها من المبادئ، ولا ما يترتب عليها من النتائج، فلم يرق له قولي: «إن العقاب الذي هو أساس القضاء أثر من آثار الهمجية وبقية من بقايا توحش الإنسان الأول، بل هو سبب الشر الكثير في العمران.» وأغفل قولي: «إن لم يكن سببه الحقيقي، فهو السبب المساعد على إنمائه.» فكنت بذلك في نظره «كالذي يثبت أن المقدمة تزول إذا زالت النتيجة، وهو عكس القياس العقلي تماما؛ لأن الشر في الدنيا إنما كان أولا، ثم كان العقاب من بعده؛ فهو كالداء الذي لم نوجد له الدواء إلا بعد وجوده. والفاضل الشميل يقول: «إذا منعنا العقاب منعنا الشر.» أي إذا كسرنا زجاجة الدواء زال الداء.» ا.ه. •••
ولا نصعد إلى أصل الإنسان في الحيوان لنبين كيف تولد الشر؛ لأن حضرة الشيخ ربما كان لا يوافقنا على ذلك، وإن كان من الحقائق المقررة اليوم، بل نكتفي بالقول إن الإنسان وجد في أول الأمر على الأرض وكل شيء مباح له، ويصعب أن يكون كثير الشر في هذه الحالة طالما يجد كوخا يأويه، وأرضا تخرج نباتا يغذيه، وماء يرويه، ثم حظر على الضعيف ما نالته يد القوي، والحاجة تدفع الضعيف إلى السعي وراء رزقه، والأثرة تحمل القوي على الاستبداد بما ملكت يداه، فنشأ عند ذلك الملك بوضع اليد عن قوة. وكيف يستبد المالك بملكه إن لم يحمه بمعاقبة كل من مد إليه يدا؟ ثم كيف يسع الضعيف أن يقصر يده عن أن يمدها إلى ما به قوام حياته؟ فنشأت السرقة، ثم أخذ يتفنن في الشر كلما زاد علما وزاد صاحب الملك استبدادا فيه. ومن هذا نستفيد فائدتين؛ أولا: الاستبداد والعقاب صنوان، وهما قديمان في الإنسان غريزيان فيه يوم كان أقرب إلى الحيوانية. وثانيا: هما سبب أكثر الشرور التي لجأ الإنسان إليها في أول الأمر؛ دفعا للظلم ورضوخا لحاجات ضرورية لا يسعه أن يصم أذنيه عنها.
فالعقاب لم يوضع في أول الأمر ردعا للشر؛ لأن الإنسان الذي يسعى وراء رزقه لا يعتبر سعيه شرا، وسعيه في أول الأمر كان وراء رزق مباح ما لبث أن حظر عليه باستبداد يد أقوى من يده فيه، وهو من آثار التوحش كما رأيت. ثم كثرت المحظورات بتكاثر عدد الناس وانتظامهم في جمعية كبرى، وتسلط القوي على الضعيف، ووضعت الحدود على ما شاء الأقوياء، ونظمت الشرائع على هذا المبدأ، ثم ألفها الإنسان بالعادة، وسوى نفسه عليها؛ لأن الإنسان في استطاعته إن لم يستطع أن يغير الأحوال له أن يغير نفسه لها. وهكذا بعد أن كان العقاب سببا للشر صار بحكم هذه الحدود رادعا له . •••
فبهذا الاعتبار يزول ما نسبه إلي حضرة الشيخ من تقديم النتيجة على المقدمة، ويستوي القياس العقلي. ولا إخال حضرته إلا يعلم حقيقة الأسباب والمسببات؛ فالشيء الواحد يكون سببا أو نتيجة بحسب الوجهة التي تنظر إليه منها. ومهما يكن من ذلك، فإن ضربه مثل كسر زجاجة الدواء لشفاء الداء فيه شرود؛ فإن هذا المثل لا يصح إلا إذا صح قياسه، وصح أن العقاب هو الدواء اللازم الذي لا يقوم مقامه دواء لشفاء أمراض الاجتماع؛ لأن نسبة القضاء إلى أمراض الاجتماع إنما هي كنسبة الطب إلى أمراض الجسم، وما نسبة العقاب إليه إلا كنسبة الدواء إلى الطب. والاختبار يدلنا على أن الدواء متغير، وسير الهيئة الاجتماعية في أمر العقاب دليل على أنه يمكن الاستغناء عنه، واستبداله بطرق تدفع عن الهيئة الاجتماعية شر الجاني، وتوفر لها منفعته بإصلاحه لا بالعقاب، بل بمعاملته معاملة الجاهل والمريض معا، كما أبنا في مقالتنا السابقة.
على أن العقاب لا يسعه أن يصلح الجاني، ولا أن يقوم اعوجاج الهيئة الاجتماعية، لا بصورته القديمة ولا بصورته الحاضرة، وهو في كلا الصورتين وحشي، ونسبته إلى الهيئة الاجتماعية واحدة. فلما كان يتناول العذاب والقتل للتشفي والانتقام، كان الإنسان في حالة من الهمجية تبعده جدا عنه اليوم. فإذا كان العقاب قد تلطف اليوم، فالإنسان قد ترقى كذلك. فإذا كنا اليوم نرمي الأقوام الذين تقدمونا وكانوا يستعملون العقاب على صورته القديمة بالتوحش، فسيقوم أبناؤنا من بعدنا ويرموننا في العقاب الذي نستعمله اليوم بالتوحش كذلك، بل العقاب على صورته الحاضرة ما زال مفسدا للأخلاق مساعدا على إنماء الشر، يدخل به الجاني إلى السجن بشر ويخرج منه بشرور. وخوف العقاب لا يردع جانيا عن جنايته، ولا يرد فاسدا عن فساده، بل يحمله على الكذب خصوصا. وفي الشرائع الاجتماعية ينبغي أن تكون وجهة الشارع إصلاح الفاسد، لا حمله على التفنن في أساليب الفساد خوف العقاب . ولو جاز لي أن أسر إليك ما تخاطب به ربك عند اعترافك له بخطاياك لأبنت لك أن الإنسان يخجل من أن يكون الدافع له نحو ربه خوف العقاب أو الطمع في الثواب (لا خوفا من جهنم ولا طمعا في النعيم، بل حبا بك يا رب)، أو يكون مثل هذا القول كذبا. •••
ولا أدري بأي قياس عقلي جاز لحضرته أن ينكر أن خوف العقاب هو الذي علم الإنسان أن يكذب، وكيف يفهم قوله: «إننا لم نعاقب المجرم لأنه يصدق، بل لأنه يقر بذنبه في ذلك الصدق.» ومتى علم الإنسان أنه إذا صدق في إقراره بذنبه يعاقب، ألا يرى حضرته أنه يحاول حينئذ عدم الإقرار به؟ وما هو الكذب يا ترى غير ذلك؟ وأليس خوف العقاب من قول الصدق في ذلك الإقرار هو الذي حمله عليه، أم لا يجوز لنا أن نقصد النتيجة البعيدة من قولنا: «ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يكذب؛ لأنه رآنا نعاقبه على الصدق؟» وهل يجوز أن يفهم منه غير ما تقدم؟ أما كان يغنينا هذا الفهم عن التلاعب بالألفاظ حرصا على المعاني؟ فمهما يكن من ذلك، أليس خوف العقاب هو الذي يدفعنا إلى الإنكار؟ فأقل شرور العقاب الكذب، وهو أم المعاصي، ألا ترى الطفل الصغير قبل أن نعوج طبيعته المستقيمة، أو نزيد اعوجاجها إذا كانت عوجاء بتربيتنا له التربية السيئة، كيف يميل إلى قول الصدق، ولا يعدل عنه إلى الكذب إلا خوفا منا ومن عقابنا؟ فإذا كسر ابنك صحنا أو زجاجة دواء ولو فارغة، وسألته بأنس أقر لك بالحقيقة، فإن بادرته بالتهديد والوعيد أو كنت قد عاقبته على ذنب سابق، فأنا أضمن لك أنه لا يقر لك مطلقا، ويحاول بكذبه النجاة من غضبك؛ ولهذا السبب، ولسوء معاملة الوالدين لأولادهم، كان أكثر الأطفال ينشئون كذابين، فهل ينكر هنا تأثير العقاب في إفساد طبائع الأطفال؟ •••
أم بأي قياس عقلي يرى التناقض في هذه الحقيقة الواضحة في قولي: «ألسنا نحن الذين علمنا الإنسان أن يسرق لأنا حجبنا عنه ما يحتاج إليه؟» وهل له أن يفهمنا كيف تولدت السرقة في الإنسان أولا؟ ولا نخاله إلا يسلم بأن السرقة نشأت في الأصل عن احتياج الإنسان إلى شيء حجب عنه، وهذا الشيء في أول الأمر كان من الضروريات لحياته؛ لأن احتياجاته الأولى كانت بسيطة جدا لسد جوع أو إرواء ظمأ. وقد أبنا فيما تقدم كيف حجبت عنه هذه الحاجات الضرورية، وكيف اضطر أن يسلك للاستحصال عليها بالالتجاء إلى السرقة وغيرها من الوسائل التي صارت ذنوبا، ووضعت لأجلها الحدود وسنت الشرائع، ولا نريد من ذلك الرجوع بالإنسان إلى الإباحية التي تجعل كل شيء مباحا له، وإنما غرضنا أن نبين أن الشرائع التي وضعت في الأول لصيانة حقوق القوي - التي صارت حقوقا بالطرق التي تقدم بيانها - لم تستدرك مراعاة حقوق الضعيف؛ فلم تفرض على القوي ما يكون بمثابة تعويض للضعيف على ما اهتضم من حقوقه ولا ذنب له إلا ضعفه، بل جعلت كلها لصب جام النقمة على رأسه. وهذا الذي يسعى رجال الإصلاح في كل الأقطار لتحويل الأنظار إليه لاستدراكه.
وأما إلماعه في عرض ذلك إلى ذكر الفوضوية والاشتراكية، وذكرهما على أسلوب يوهم القارئ أنهما وصمة لا يريد أن ينسبهما إلي لئلا أتلطخ بعارهما؛ فلا أريد منه أن يخجل عني منهما إذا فهمهما بمعناهما الحقيقي، وكما أفهمهما أنا، فما هما إلا أخوات تلك الجمعيات أو بناتها - ومنها الجمعيات المسيحية في أول عهد النصرانية - التي ما فتئ الإنسان يؤلفها منذ صار عقله قادرا على أن يفهم مبدأ الشرائع وما فيها من الحيف، والتي ليس لها غرض سوى مقاومة أصحاب السلطة، وتحويلهم عن اعوجاجهم، وحملهم على السلوك في سبيل أقرب إلى مصلحة العموم.
ولولا فضل هذه الجمعيات في كل العصور، على اختلاف أسمائها واتفاق معانيها، لما تزحزح الإنسان شبرا عن المكان الذي أجلسته فيه شرائعه الأولى. والفوضوية أو الاشتراكية لا تطلب حقيقة إلا ما نراه كل يوم في نظام الطبيعة الصامتة من اشتراك الجمهور في مصلحة الجمهور، واعتبار الأفراد ضروريين للجمهور، وإلزام الجمهور بمراعاة مصلحة الأفراد. فلو وجد في الحكومات (وسوف يوجد في المستقبل) نظام مثلا ينظر إلى مصالح الأفراد، بحيث يجعل الجمهور ينتفع من قوى كل فرد ، ولا يضيع قوى فرد، ويجعل هذا الفرد ينتفع كذلك مما فيه من القوى؛ ألا كنت تظن أن الحالة الاجتماعية تكون أصلح مما هي الآن، فتقل مصائب الأفراد، وتقل الشرور وتكثر منافع الجمهور؟ ولا يخدعنا في غايات هذه الجمعيات ما نراه من الوسائط المشجوبة التي يعمد إليها أكثرها، فنظنها الغاية المقصودة منها؛ فما هي بالحقيقة إلا سلاح الضعيف لمقاومة القوي وتحويل الأفكار إليها، وإيقاظ العقول الخامدة وتنبيهها إلى التبصر والافتكار. •••
ثم دفع قولي إن العقاب من آثار التوحش القديم، قال: «وكان دليله على ذلك تعديل القصاص وتلطيف أنواع العقوبات والعذاب، فكأنه بذلك يستدل على أن كل شيء يجري فيه الإصلاح بعد حدوثه يكون فاسدا في أصل وضعه، وأن القضاء ما دام يمكن إصلاحه فهو فاسد الوضع، وأن العقاب ما دام يصلح ويلطف فهو ظلم من أصله ولا وجوب له في هيئة الاجتماع. فإذا قلنا له إن الطب ممكن الإصلاح دائما (وهو في مقالته قد شابه بين الطب والقضاء)، فهو إذن من آثار التوحش الذي لا وجوب له في هذا العهد ... إلخ.» ففيه من التكلف والاضطراب ما لا يخفى، ويجرنا إلى مبحث يصرفنا الاشتغال فيه عما نتوخاه في بحثنا من المعاني. فأنا لم أقل إن القضاء لا وجوب له، وهو للاجتماع كالطب للأبدان، وهل يجوز أن يستنتج ذلك من طعني في العقاب، أم هل العقاب هو القضاء نفسه، أم ليست نسبة العقاب إلى القضاء كنسبة الدواء إلى الطب؟ فإذا حكمنا بفساد الطرق العلاجية (والطب قديم، وقد تغيرت هذه الطرق فيه جدا) بدليل تعديلها أو تبديلها، فهل يلزم من ذلك أن نستنتج أن الطب لا وجوب له؟ وهنا يعذرني حضرة الشيخ إذا أظهرت منتهى استغرابي، ورحم الله الشيخ جمال الدين الأفغاني؛ فإنه كان كلما عرضت له مشكلة من هذا الطراز لا يجد جوابا عليها أحسن من قوله: «سبحان الله!»
وأما كلامه في السجون فلا يختلف عن كلامنا؛ فهو يوافق على إصلاحها، إنما يخالفنا في غايتها؛ فهو يريدها أن تبقى محلا للعقاب، ويزعم أن الإصلاح لا يتم بدون ذلك. وهو بذلك متفق مع نفسه؛ لاعتباره العقاب الدواء الأفضل لتقليل الجرائم. ونحن نريدها مدارس ومستشفيات لتهذيب الأخلاق وتقويم المعوج من الطبائع. وغرضه أن يدفع الشر عن الهيئة الاجتماعية، ولو بتضحية هذه الهيئة لقلة اعتداده بالأفراد، وغرضنا دفع الشر عن هذه الهيئة مع توفير المنفعة لها بتوفير أعضائها. وقد تقدم أن العقاب بمعناه وطرقه لا يفي بذلك، بل هو عقبة كبرى في سبيله. هذا وإني في الختام أشكر حضرة الشيخ الفاضل؛ لأن مقالتي لم تذهب عنده من دون صدى، وإن كان على غير ما أحب؛ فلكل منا فكر يلزم اعتباره، فهو يرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأنا أرى أن في الإمكان أبدع جدا مما كان. •••
المقالة الخامسة عشرة
إحناء وإنحاء
1
اشتد القر، وأقرسني البرد، وبيوت القاهرة لا للحر، ولا للصرد. فلجأت إلى وقود الفقير، وهو في الشتاء دفاء، وفي الصيف سعير. فقمت أمشي متثاقلا كأني من أسد الشرى، أو من صيد الشرى، وما لي من بأس ولا شرى. فيتهمني الناس بالعجب، وأنا أرمقهم بالعجب، كأني لا أدرك ما بهم من العبامة، وكأنهم يجهلون ما بي من الوصب. وما زلت أنحو نحوي، وأراهم كأنهم ينحون علي، حتى شعرت كأن سلطان غلهم قد أفرغ إلي، فتذكرت ما قلت:
مصر هل أنت غير ما هن إن لن
شدادا وإن قسونا ركاكا
ذاك خلق من صنع فرعون لما
شاد أهرامها تناغي السكاكا
ولكم نصرتهم في معمعة، فذكرت قول ابن صعصعة:
فاقطع لبانة من تعرض وصله
ولشر واصل خلة صرامها
ولولا خوفي أن يشكل الإيماء، حتى على واضع رسالة الغفران، ومجيز الشعراء في الجنان؛ لما ذكرت هنا البيت، ولاكتفيت بالتلميح عن التصريح. وما ضرب صاحبها على هذه الغنة، إلا ليقول لنا إن الشعراء قد يكونون من أهل الجنة، وحولهم الحور والولدان، والقيان والدنان، يغترفون من أنهارها بمرافد من عسجد، وهم فيها متكئون على أرائك من زبرجد، وكأني أرى عليها حافظا وأحمد،
2
هذا يسيغ وذاك يزرد.
وما كدت أفرغ من هذا الإنحاء، ومن التأمل فيما في الأخلاق من الإحناء، حتى عارضني من صدني عن الطريق القويم، وأرجعني من سماء ما كنت فيه أهيم، فرفعت نظري وإذا أنا بصديق قديم، فقلت: «من أين، وإلى أين؟» فقال: «اليوم أتيت من غربتي، ونزلت إلى الشوارع أفرج كربتي، فهل لك أن تقبلني معك في الطريق؟» فقلت له: «نعم الرفيق!» وإذا بصوت يصدع، تتبعه حوافر تقرع، وشيء كالصندوق قائم على عجل يشق هذا المجتمع، فقال لي: «ما هذا الذي أرى؟ رجل يسابق الجياد، فأين السبق؟»
3
قلت: «هذا باق من عصر سبق، وكأنه من بقايا عصر الصوان، لما كان الإنسان، في مقام الحيوان، وهذا الصندوق يصون مفترشا لأكبر عين من الأعيان، ولكن ذلك قد قل؛ لأن عندنا اليوم ما هو أجل.» وإذا بصفير يكاد يمزق أذن الأصم، وشيء مندفع كالسهم، فقال: «ما هذا؟» قلت: «من السيارات، التي أمطرتناها سماء المضاربات، والذي عليها، ولا يغرنك حسن بزته، لص، ولكن انظر إلى الناس كيف يرفعون له القبعات، ويغترفون بها الثرى؛ لأنه أثرى كما ترى.» قال: «وهذا الذي أراه، كأنه في نعمى تفوق نعماه؟» قلت: «هو من سلالة الوزراء، ولكن عرشه اليوم في الصحراء وعلى الماء.»
ثم علت الضوضاء، فقال: «ما هذا الصخب؟ كأن الناس في شغب.» فنظرت وإذا بالناس يتجمهرون، ثم ينفضون، والمركبات وقوف، والكل عجل ملهوف. فقلت: «هذا موكب الأمير.» فهش وبش، وتهيأ للسلام، فقلت: «مهلا، وقد يمر الربع والنصف قبل أن يركب، وقبل أن يمر الموكب، وما هذا إلا تمهيد الطريق للمسير.» قال: «وكيف؟ أفي هذا التعقيد تمهيد؟ أما ترى ما في هذه المصادرة، من المنافرة؟ وكأني أرى هناك أن بين بعض الناس ورجال الحفظ مهاترة، هؤلاء يصدونهم عن الطريق، وأولئك يتذمرون من هذا التعويق. ألا ترى أن الأمير لو أخذهم فجأة لراءهم على ما هو أحب، والمفاجأة أدعى لإظهار الحب؟» فقلت له: «لعل الأمير لا يعلم؛ لأنه يحب شعبه ويريد أن يحب.»
وما زلنا نسير، ويسألني عن القليل والكثير، حتى أقبلنا على بناء لا بالفخيم ولا بالذميم، وقبل أن يبادرني بالسؤال، قلت له: «هذا ملهى تمثل فيه مختلقات الخيال، من الوضع المناقض للطبع، ولولا مناجاة النفوس بألحان الموسيقى لكان كل ما فيه ملفقا على الطبيعة تلفيقا.»
ثم التفت وقال: «وما هذا الذي أرى الناس فيه يدخلون ويخرجون؟ ألعله مصلى؟» قلت: «كلا.» ثم قلت له: «مه وصه.» ثم همست في أذنه وقلت: «هناك أناس جالسون على منصاتهم كالأرباب، يقضون في مصالح الناس بلا ارتياب، يلبسون أردية كاهل المساخر، حتى أصبحوا في كل أعمالهم يستمسكون بالأعراض ويعرضون عن الجواهر، مفتونون بقانون ليس للعدل فيه أم ولا أب، وبنظام أعقد من ذنب الضب. هذا يصعب الدخول فيه والخروج منه على العالم الفطحل، وذاك يتيه فيه صاحب الحق ويصول فيه صاحب البطل، والطريق الوعر صعب المسالك والطريق السهل أقرب إلى العدل.» فقال: «دعني من التحكك بهم، وإني لغني عنهم بإذن الله.» قلت: «لا يعلم ذلك إلا الله.»
ثم قفلنا راجعين، فإذا به يقول: «فما هذا النقض؟» فإذا الناس كأنهم في شجار ونقار، يرتفعون بعضهم فوق سنام بعض، كأنهم من خلف ذلك السلف. قلت: «هذا معهد في الصورة صغير، وفي المعنى كبير، فهو نادي إخوان، اكتشفوا سرا ولا سر «مركوني»، وقد يشبه سر «لموان»،
4
فيلعبون على الهواء من غير حبل البهلوان. وهذا سبب ما ترى في البلاد من الرخاء.» قال: «وأين الرخاء؟» قلت: «قل إذن من البلاء والخسران.» •••
وإذ نحن في التجوال رأينا جمعا يموج كالبحر الزاخر، تجلله السكينة والوقار والمهابة والجلال، حتى إنك لتحسبنه ساجيا وهو مائر، فقال: «وهذا الجمهور؟» قلت: «هذا يوم تجلي الشعور، ولعله أعظم يوم في تاريخ مصر، من أول الدهر.
5
فسلام على الروح التي في الحياة مثلته، وألف سلام على الأمة التي بجليل هذه المظاهرة أحيته، ويا حبذا تلك المنابذة، من جمهور التلامذة، ويا حبذا ذلك النفور!» •••
ولكي تعلم الفرق بين ما ترى وما تقدم، أذكر لك ما كان عليه القوم، قبل اليوم؛ إذ كانوا يصادرون، فلا يفوهون، كأنهم لا يشعرون، وإذا أحس أحدهم فكأنه ملجم، حتى قلت يوما من كلام ظاهره الهزل وباطنه الجد، وبالضد يتبين الضد، وذلك في أوائل الاحتلال على عهد اشتداد الخصام، بين المقطم والأهرام:
في مصر قامت ثورة
بين المقطم والهرم
من عهد عاد ما سمع
نا مثلها بين الأمم
جاشت عليه «جيوشه»
حتى إذا كادت تهم
لاقت عنى من «هوله»
كادت تشيب لها اللمم ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وتساقط الأشلاء واص
طبغت مياه النيل دم
تلك المياه وأين من
محمرها صافي الديم
كست الطبيعة حلة
خضراء فاضت بالنعم
حرب ولكن نارها
برد لإيقاظ الهمم
وتنبهت من بعد طو
ل رقادها تلك الرمم
قال: «نعم الانقلاب.» ثم قال: «وما مصير الأحزاب، بعد هذا المصاب؟» قلت له: «ما دام «دنلوب» لا يقال ولا يئوب، فلا خوف عليهم أن يفقدوا ناصرها، فهو كل يوم يشد لهم أواصرها، ولأجله فليحمدوا الاحتلال، في كل حال.»
ولما أعيانا التعب، وكنت قد دفئت قمت أداري ما بي من الوصب، فركبنا عربة عند الأصيل، وقصدنا النيل، إله مصر المحيي، وغيثها المروي، حتى وصلنا إلى النهر، فوقفنا بين الجزيرة والجسر، والمركبات تمر أمامنا مرور السهم، فتذكرت قول علي بن الجهم،
6
وإذا بصاحبي يقول: «وما هذا القصر القائم على ضفة النهر؟» فقلت: «هذا قصر العميد الجديد.» قال: «وهل كان قبله عميد؟» قلت: «كان قبله قرم عنيد.»
7
قال: «وهذا؟» قلت: «لا رخو ولا شديد،
8
كأنه يسير بقوة الاستمرار، أو بالاتكال على الأقدار، وليس فيه شيء من تلك الأثرة، كأننا معه في زمن الفترة، فإما ذلك منه دهاء ووراءه نقمة، وإما صفاء ووراءه نعمة، وأما اليوم فلا حديث للناس على عهده إلا بالأزمة.»
9
ا.ه.
المقالة السادسة عشرة
الإذكار والإيناث
1
إن نظر ديوزن اليوم في سبب تولد الذكر والأنثى يقرب جدا من نظر القدماء؛ فقد قال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي في عرض كلامه على تولد الأجنة: «إن من الناس من يولد إناثا، فيستحيل أن يولد ذكورا؛ وذلك بسبب استحالة المزاج، لا بسبب أن الزرع تارة خرج من الذكر وفيه أجزاء عضو الذكر، وتارة خرج من الأنثى وفيه أجزاء عضو الإناث.» وهو قول صريح بأن اختلاف جنس المولود ناشئ عن استحالة في الزرع لاستحالة في المزاج لا عن سبب آخر، وهو من أعجب ما وصل إلينا عن القدماء في شأن القول بالتحول. ولا يخفى أن استحالة المزاج إنما تكون بالتغذية، وهو عين مذهب ديوزن، والتغذية حاصلة في الزرع أيضا. والقدماء علموا ذلك؛ فقد قال محمد بن زكرياء: «إن الزرع في غاية القلة، فلا بد من قوة غاذية تزيد في جوهره حتى يصير بحيث يمكن تكون الأعضاء منه.» وهو عين مذهب الفزيولوجيين اليوم.
وقد علل الرازي ذلك بما لا يختلف عن تعليل ديوزن معنى وإن اختلف عنه لفظا، قال: «إن السبب الأصلي للذكورة سخونة الزرع، والأنوثة برده.» ولا يخفى أن سخونة المزاج وبرودته حالتان من أحوال التغذية، والبرودة أو، كما يقال، الرطوبة أيضا تكثر في أصحاب خصب البدن المفرط، وبعكس ذلك السخونة أو اليبوسة، فإنها تغلب في القضيف، وهذا هو نظر ديوزن، حيث قال إن كثرة الغذاء سبب الأنوثة، وقلته سبب الذكورة. ثم ذكر لهذه السخونة أسبابا منها: «أن يكون زرع الأب غالبا في الكيفية والكمية على زرع الأم.» وهو كقول ديوزن: «كلما غلبت قوة أحد الوالدين التناسلية على الآخر، غلب أن يكون النسل من جنس الغالب.» ومنها أيضا: «حصول هذه السخونة بسبب الأغذية والبلدان والفصول والأعراض النفسانية والحركات البدنية، أو ما يتركب منها.» وهو يعم ما يتناوله مذهب ديوزن على الإطلاق؛ لأنه إذا ثبت أن التغذية سبب الإذكار والإيناث، فلا يعود في الوسع إنكار ما للأحوال الخارجية والنفسانية من التأثير في ذلك، بناء على ما لها من التأثير على القوة الغاذية نفسها، وبناء على ما لهذه الأسباب من الأثر البين، وعلى كثرتها واختلاف نتائجها باشتراكها مع سواها ومع بعضها. وقال أيضا: «وإذا تعددت أسباب الذكورة لم يلزم في من أشبه أباه في الذكورة أن يشبهه (في الصورة)، بل ربما أشبه الأم، أو ربما أشبه جدا بعيدا.
2
وليس يبقى له زرع؛ فقد حكي أن واحدة ولدت من حبشي بنتا بيضاء، ثم إن تلك ولدت ابنا أسود.»
3
ومما ذكره في المشابهة مما يجل النظر فيه عند المتأخرين قوله: «وأما المشابهة في الصورة والشكل، فقد عرفت أن زرع المرأة ليس فيه إلا القبول، وزرع الرجل ليس فيه إلا التأثير؛ فإن أطاع زرع المرأة لقبول صورة الأب، ومادة الأب لا شك أنها تقتضي تلك الصورة، لا جرم يخرج الولد على صورة الأب؛ وإن كان لا يقبل إلا صورة الأم اضطرت القوة الفاعلة إلى أن تفيدها تلك الصورة، فلا جرم يخرج الولد على صورة الأم؛ وإن كان لا يقبل لا هذه الصورة ولا تلك، حصلت صورة أخرى استعدت المادة لقبولها بحسب أسباب معدة جزئية لا يحصى عددها.»
وقد بسط الكلام على هذه الأسباب، قال: «وقال قوم من العلماء إن من أسباب الشبه ما يتمثل عند العلوق في وهم الرجل أو المرأة من الصور الإنسانية تمثلا متمكنا. أقول [والقائل الرازي] والذي يدل على صحة ذلك وجوه؛ أحدها: أنا نرى الحيوانات البرية قريبة التشابه بعيدة عن الاختلاف، ونرى الصور الإنسانية قوية الاختلاف بعيدة التشابه، ونرى الحيوانات الأهلية متوسطة في ذلك؛ وما ذلك إلا لأن الإنسان بسبب إحساساته وتخيلاته الكثيرة تختلف صور أولاده، وأما الحيوانات فتخيلاتها قليلة جدا؛ فالحيوانات البرية لما كانت محسوساتها قريبة التشابه لا جرم كانت إحساساتها كذلك، وكانت صورها متشابهة، وأما الحيوانات الأهلية فلما كانت محسوساتها مختلفة وتخيلاتها قليلة، كانت في التشابه والاختلاف في حد التوسط. وثانيها: أنا نرى الإنسان تختلف أحوال بدنه بحسب اختلاف أحواله النفسانية من الغضب والفرح وأمثالهما، فما المانع أن يكون لذلك أثر في اختلاف الزرع؟ وثالثها: أن الرعاة يشهدون لاختلاف حال الأنعام بحسب اختلاف محسوساتها في الألوان والأحوال، وإذا صح ذلك ثبت ما أمر به الصادق المصدق من أن الإنسان ينبغي أن يتخيل حال المباشرة صور الصديقين الصالحين.»
ومثل ذلك قال ابن سينا في كلامه على الإذكار، حيث ذكر أن الإذكار هو في حرارة زرع الذكر وغزارته وثخنه، أي في غلبته على زرع الأنثى، وفي البلد والفصل، ومما قاله في ذلك: «إن الريح الشمالية تعين على الإذكار، والضد على الضد.» وما قال ذلك إلا لاعتقادهم أن الريح الشمالية تجفف الأبدان. ثم ذكر تأثير الأحوال النفسانية واستحضار الصور في الذهن عند المباشرة على نحو ما ذكره الرازي، قال: «ويكون الإنسان في أسر حال وأطيب نفس وأبهج مثوى، ويفتكر في الإذكار، ويحضر ذهنه الذكران الأقوياء ذوي البطش، ويقابل عينيه بصورة رجل منهم على أقوم خلته وأنبل هيئته.» وليس في هذا الأمر شيء من الغرابة إذا اعتبرنا ما تقدم من تأثير الأحوال النفسانية وسواها في التغذية، إنما لا ينبغي أن يطمع فيه بأكثر مما تقتضيه الأحوال؛ لكثرة الأسباب التي تعترض ذلك، وثانيا لأن أثر الأشياء، وإن يكن ينطبع على الأعضاء، إنما لا يثبت فيها إلا على مقدار ملازمة عامله لها، ويضعف كلما كان مفارقا.
ومما ذكر الرازي في ذلك قوله: «والذكر من الأجنة تمام تكون خلقته أسرع من تمام تكون الأنثى؛ وذلك لأن الذكر أقوى حرارة وأقل رطوبة؛ فالزرع الذي هو مادته يكون كذلك.» وهو نتيجة لازمة لما قدمه هو وديوزن في سبب الإذكار والإيناث. ولعل علم تولد الأجنة يثبت ذلك؛ فإن المولودين في الشهر السابع يغلب كونهم ذكورا. نقول ذلك عن ظن لا عن يقين.
واعلم أن التغذية المفرطة وقلة الحركة ربما أورثا العقر أيضا؛ لما ينشأ عن ذلك من احتباس العضلات وضعف القوة الحيوية. ودليلنا قلة نتائج الحيوانات المسمنة التي لا تعمل في الأرض، بخلاف القضيفة المجهودة في الأعمال الشاقة، فإنها كثيرة النتاج غالبا؛ ولذلك كان يكثر العقر في المنعمين القليلي الرياضة المكثرين من الغذاء؛ ولهذا كان أحسن علاج لهم الإقلال من غذائهم والإكثار من حركتهم، حتى تنشط أبدانهم، وتعتدل قواهم، وتحسن أفعالهم؛ أي تنتظم وظائفهم.
وفي هذا المعنى أيضا
4
قال بقراط: «لكل شيء سبب طبيعي، وبدون سبب طبيعي ليس يكون شيء .» وكلما تعمق العلماء في مباحثهم تحقق لهم صدق هذا القول. ولقد طالما عد الناس تولد الذكر والأنثى من الأسرار التي يقصر العلم من إدراكها، والظاهر أن هذه المسألة، كسواها من المسائل الطبيعية، لا تخرج عن هذا القيد؛ فقد ذكر «هكل» من عهد غير قريب في كتابه الأنثروبولوجينا، وكتابه تاريخ الخلق الطبيعي، أن التذكير والتأنيث من أفاعيل التغذية. وقد ذكرت الجرائد في هذه الأثناء كتابا لأحد العلماء المدعو ديوزن، طرق صاحبه فيه باب البحث عن سبب التذكير والتأنيث، وقال فيه إن زيادة الغذاء وشدة التغذية سبب تولد الأنثى، وقلة الغذاء وضعف التغذية سبب تولد الذكر. وقد أورد على ذلك براهين كثيرة وأدلة مختلفة. وقد ذكر المقتطف في عدده الماضي تحت عنوان «سر التذكير والتأنيث» ملخص هذا الكتاب بأوفى بيان وأحسن أسلوب، ومرادنا هنا أن نذكر ثلاثة أدلة ترجيحا لهذا القول، وهي:
أولا:
أن النحل إذا ماتت ملكته عمد إلى نحلة من النحل الجاني، الذي ليس بذكر ولا أنثى، وحولها إلى أنثى تقوم مقام الملكة التي ماتت؛ وذلك بوضعها في بيت خصوصي أكبر من سائر بيوته، وبالاعتناء بغذائها والزيادة فيه. ومعلوم أن بيض النحل الغير الملقوح يولد الذكور، والملقوح يولد الإناث، ومعلوم كذلك أن البيضة من الكائنات الحية التي تغتذي، وأن اللقاح من الغذاء، وهذا كله دليل بين على أن الجنسية نتيجة التغذية.
ثانيا:
قد تبين من امتحانات «دزن» و«يونغ» على دعاميص الضفادع أن الدعاميص التي يكثر غذاؤها يغلب تحولها إلى إناث، والتي يقل غذاؤها إلى ذكور.
ثالثا:
أن في الحمل التوءمي ثلثي التوائم ذكور، كما يعلم من علم الإمبريوجنيا؛ أي علم تولد الأجنة، وسبب ذلك قلة الغذاء. فإذا استوت تغذية التوءمين، كأن لم يكن لهما سوى كيس واحد ومشيمة واحدة متصلة أوعيتها بعضها ببعض، كانا كلاهما من جنس واحد، إما ذكرين وإما أنثيين. فإن كانت المشيمة مزدوجة، فتختلف تغذية التوءمين غالبا، ويكونان غالبا من جنسين مختلفين. وكل ذلك يوافق ما ذكره ديوزن من أن كثرة الغذاء تولد الإناث وقلته تولد الذكور، وهنا أيضا ترى الأسباب الطبيعية تقوم مقام الأسباب الغائية.
المقالة السابعة عشرة
فكرة الخير والشر
1
قال الشاعر العربي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلم
وقال المقتطف: «كنا نراقب في هذه الأثناء ولدين صغيرين، صبيا وبنتا، عمر الصبي نحو سنتين، وعمر البنت نحو أربع سنوات، فرأيناهما يكذبان ويخدعان ويحتالان. ولو رآهما علماء الفلسفة الأدبية الذين يقولون إن أصول الآداب مودعة في نفس الإنسان ولا تنفك عنها البتة؛ لغيروا اعتقادهم.»
وذهب فريق إلى ضد ذلك، فقالوا إن أصول الآداب مودعة في الإنسان، فهي في نفسه وعقله، وإن فكرة الخير عامة مطردة في البشر، وهي لازمة ضرورية، وغير ممكن أن تنفك عن القوى البتة.
قرأت ذلك في المقتطف، وتذكرت المثل: «النفس أمارة بالسوء.» وقلت في نفسي: «لماذا هذا الاختلاف العظيم بين جمهور المفكرين؟ فلا بد أن يكون هناك أسباب جعلت كلا من الفريقين يرى رأيا مضادا للآخر، فما هي هذه الأسباب؟»
كل إنسان، علت مداركه أو انحطت، تراه اثنين في آن واحد، يحدث فيأمر بالمعروف، ويعظ فيحث على الفضيلة، ويكتب فينهى عن المنكر، ثم يفعل فنجد أفعاله في الغالب مناقضة لأقواله. ويشتد هذا التناقض أكثر عند النظر إلى هذا المعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه بحسب الوجهة التي ينظر إليها منها، فلا بد لذلك من سبب جوهري يغفله الباحثون في هذا الموضوع.
أكثر الباحثين في أفعال البشر ينظرون إليها كأنها أفعال مجردة، وقلما ينظرون إلى العلاقة التي بينها، وإذا نظروا إليها فمن أطرافها البعيدة، وهي شديدة الاختلاط كثيرة التضاعيف كالحلقات المتسلسلة، يحار العقل فيها إن لم يردها إلى بسائطها.
أفعال الإنسان قائمة على مبدأ مشترك بين سائر الكائنات؛ فناموس الألفة في الجماد وحب الذات في الإنسان من مبدأ واحد وغايتهما واحدة، أي حفظ كيان كل واحد منهما، وأفعالهما البسيطة، أي المجردة عن كل روية، واحدة أيضا في دفع الأذى وجلب المنفعة، وتسمى طبيعية في الجماد وبديهة في الحيوان والإنسان، وهي كائنة أيضا في النبات، ولا عبرة بالاسم، وإنما العبرة في أن كلا من العوالم الثلاثة، من جماد ونبات وحيوان، خاضع لنفس هذا الناموس في حفظ كيانه . فإذا نظرنا إلى هذه الأفعال والغاية المترتبة عليها، وهي حفظ الذات، لا يسعنا إلا أن نقول إن الغاية الأولى منها ليست الشر، بل الخير، وخير المحبة ما ابتدأ بالذات، كما في المثل المعروف.
ولا ينكر أن هذه الأفعال يترتب عليها حدوث الشر أيضا؛ فإن الجماد الذي يفك ائتلاف سواه لخيره الذاتي إنما يضر بذاك السوى، إذا اعتبرنا مثل هذا الحل إضرارا، وكذلك النبات الذي تنطبق أوراقه على الذباب الواقع عليه حتى يموت، والحيوان الذي يفتك بسواه لمصلحة نفسه؛ فإن مثل هذا الفعل المترتب عليه الخير الذاتي لم يقع بدون إضرار. فإن كان القصد من البحث في هذا الموضوع معرفة الفكرة الأولى المرتبة عليها هذ الأفعال، فلا يسعنا إلا أن نقول إنها الخير؛ لأن الشر حدث معها عرضا ضرورة لتعذر وقوع ذلك الخير بدونه. وأما إذا كان القصد الخير مجردا والشر مجردا، فالبحث حينئذ يستنفد قوانا ولا يأتي بطائل؛ لأن الخير والشر مجردين ليسا في هذا العالم.
وفي أفعال الإنسان تختلط الأمور كثيرا جدا لاشتراك الروية فيها، وتختلف أيضا لاختلاف هذه الروية وما استفادته من الاختبار، ولكنها لا تختلف في الغاية التي تصبو إليها، وهي حفظ الذات، حتى ولو أنكر الإنسان نفسه، وأتى أفعالا تخالف هذا المبدأ في الظاهر، فلا ينكرها من جهة إلا حبا بها من أخرى؛ خوفا من عقاب أو طمعا بثواب.
ومهما اختلفت الروية فمحورها واحد. هنا اثنان كل منهما ينظر إلى مصلحة نفسه؛ فهذا تدله مداركه على أن مصلحته لا تتأتى له مع مصلحة سواه، فيستأثر بالمنفعة أو ما يظنه كذلك، ويتعمد الإضرار بسواه، ويقدم عليه مطمئن الضمير، معتقدا أنه يفعل خيرا، كما في منازعات الأديان والأوطان مثلا؛ وهذا يرى باختياره أن مصلحته لا تقوم إلا بمصلحة سواه، فلا يخطئها وهو عالم، كما في مسائل العمران عموما.
وأما الاستشهاد بالطفلين وكذبهما واحتيالهما وخداعهما، فليس بالدليل القاطع ؛ فالكذب ليس من طبيعة الطفل، ولا من موجب له لديه؛ فالطفل يصدق حتى يعلم أن صدقه قد يجني عليه، فيعمد إلى الكذب دفعا للضرر؛ فالكذب عارض على الطفل من جنس تربيتنا له. خذ طفلا ارتكب ما نعده نحن ذنبا، ولم يعرض له في نفسه ولا شاهد في سواه ما يحمله على التروي قبل الإقرار، واسأله: «من عمل هذا؟» فلا شك أنه يجيبك على الفور بقوله: «أنا.» فإذا عاقبناه عليه كما هو الغالب، أفتستغرب بعد ذلك إذا لم يصدقك إذا أتى أمرا غير جائز في عرفنا نحن لا في عرفه هو؟ لأن الطفل لا يعرف الجائز من غير الجائز في أول الأمر، ولا يعرفه إلا منا، وكيف يعرفه منا إلا بالعقاب، ولا يرى نجاته حينئذ إلا بالكذب، فيكذب ويكذب، حتى في ذنب ارتكبه على مرأى منك. وهذا ما حملني على القول في بعض مباحثي: «نحن الذين علمنا الإنسان أن يكذب؛ لأنا عاقبناه على الصدق.» وأنا لا أظن أن هذه القاعدة تخل إذا أحسنا المراقبة جيدا. وعلى فرض أنها أخلت فلا يكون ذلك حجة على هذا المبدأ، بل تأييد لناموس آخر هو ناموس الوراثة؛ إذ لا يخفى أن الصفات الأدبية، حسنة كانت أو ردية، تنتقل بسهولة في النسل. ومن الجاني حينئذ على هؤلاء الأطفال الأبرياء؟ ألسنا نحن الذين نعاقبهم على ذنب تطرق إليهم منا؟
ويا ليت الأمر اقتصر على ذلك، بل نحن في كل أعمالنا أمامهم مثال رديء، وهم أطوع من ظلنا في تقليدنا، وأشد طواعية من الشمع في انطباع أفعالنا فيهم. نكذب أمامهم ونكذب عليهم، ونعلمهم أن يكذبوا عنا، ونروعهم، ونمنيهم بكل ما يتبين لهم كذبه بعد قليل، فماذا تنتظر من طفل ينشأ في مثل هذا الوسط؟ على أن الكذب، على ما يظهر، قد صار شرا لازما في هيئتنا الاجتماعية كما هي؛ فهو عدة التاجر الماهر، والسياسي المحنك، والإمام الهادي، والقاضي العادل، والمحامي الفاضل، والطبيب النطاسي، والصحافي الصادق، والوطني الغيور. وقد حلق الشاعر فوقهم بقوله:
الصدق إن ألقاك تحت العطب
لا خير فيه فاعتصم بالكذب
المقالة الثامنة عشرة
لطمة على خد العالم
1
حكم على دريفوس، فساء فأل قوم وسر آخرون. ولا ندري هل جار القضاة في حكمهم أم عدلوا، والذي ندريه أن الناس كثيرا ما يرون بعيني أهوائهم لا بعيني عقولهم، قضاة كانوا أم حكاما أم من عامة الشعب. وذهب قوم إلى أن الحكم جاء بنتيجته بردا وسلاما على الأمة؛ إذ وقاها من شر ما كان يخشى من القلاقل لو كان على ضد ذلك. واسترسل في القول إلى أن الحكم وإن لم يكن عادلا، فهو حكم سياسي. يريد بذلك أن فيه من الحكمة ما يربى معه النفع على الضرر. وتضحية الأفراد للجماهير تجوزها نواميس العمران، كما هي جائزة في نواميس الطبيعة الصامتة، وزعموا بذلك أن البلاد وقيت شر ما يتأجج في صدور الأمة من نيران الأحقاد والضغائن، وأن الحكومة أمنت على نفسها من القلب، والوزارة من الإبدال. والذين يرون هذا الرأي لم ينظروا إلا إلى الأسباب القريبة، وذهب عنهم أن الأسباب الجوهرية أبعد من ذلك وأعرق في قلب الأمة؛ فالخطر على الحكومة لا يزول بانقضاء قضية دريفوس على أي الوجهين، وقلق الأمة لا يهدأ بذلك؛ فالأمة الفرنساوية لا تزال، كما كانت من عهد مائة سنة، لسان شعوب أوروبا، تنطق عن حاجاتهم، وتمثل عواطفهم. فأوروبا اليوم على وشك وقوع ثورة تمثلها فرنسا، أشبه بالثورة التي كانت من عهد مائة عام، وأسبابها فساد نظام الأحكام، ونقصها عن احتياجات الهيئة الاجتماعية.
هذا هو سبب القلق الحقيقي المستحوذ على أوروبا كافة، والذي نراه اليوم في الغاية القصوى في فرنسا، ومن يقول فرنسا يقول عصب أوروبا الذي تحس به، وعقلها الذي تفتكر به، ولسانها الذي تنطق به، خلافا لأولئك الذين يرون في حوادث فرنسا المتتابعة منذ سنوات ما يطلق لسانهم المعقول، وعقلهم الخامل، ونظرهم القصير، فيجورون عليها في الحكم؛ إذ يرمون رجالها بالطيش وقلة الروية، وعدم التبصر بالعواقب، ولماذا؟ لأن طبائع رجالها المتحركة تخالف طبائعهم الميتة، وعقولهم المتنورة تخالف عقولهم المظلمة، ونفوسهم المتهيجة تخالف نفوسهم المستميتة في الذل والخاضعة للظلم. والغريب أن هؤلاء الذين كان أمثالهم يجورون في الحكم على فرنسا في الثورة الأولى يعترفون جهارة اليوم بأنه لولا تلك الثورة لما ارتقى الإنسان واصطلح نوع الأحكام إلى ما هما عليه الآن، ليس في فرنسا وحدها، بل في أوروبا كلها، بل في العالم قاطبة.
وهؤلاء الذين يعترفون بذلك اليوم يؤاخذون شعب فرنسا على عدم رضاه من نظام أحكام كانت تصلح له من مائة عام، ولم تعد تصلح له اليوم؛ لأن الهيئة الاجتماعية المتمدنة ارتقت كثيرا عما كانت عليه من مائة سنة، مع بقاء نظام الأحكام على حاله؛ فجمهورية فرنسا كما هي اليوم، والحكومات الملكية في سائر الممالك ليست بالحكومات التي تصلح اليوم لشعوب أوروبا، ولن تصلح لهم في المستقبل. فاضطراب فرنسا وعدم رضاها من نظام جمهوريتها لا يفيدان، كما يتوهمه قصار النظر، أنها تميل للرجوع إلى الملكية، أو أنه إذا قام فيها ملك حازم يستطيع أن يقبض عليها بيد من حديد، ويسير بها كيف شاء. فهذا حلم يجوز على عقول الأطفال، ولكن لا يجوز على الذين يدركون بعض الشيء من أسرار العمران؛ ففرنسا لن تعود إلى الملكية، كما أن أوروبا ستنتقل إلى الجمهورية، ولكن الجمهورية التي تطلبها فرنسا عن حاجة في النفس مندفعة إليها بالطبع، لا عن إجهاد في قوى العقل. والتي تتوقعها أوروبا هي الجمهورية الحقيقية الديمقراطية التي تصبح فيها الأمة الكل والحكومة لا شيء، بخلاف حكومات أوروبا وجمهورية فرنسا اليوم؛ فإنها كلها متقاربة في نظاماتها، متساوية في نقصها، ولو اختلفت في أسمائها، وكلها مقصرة عما تتطلبه الهيئة الاجتماعية اليوم وفي المستقبل القريب، وأقرب الحكومات الموجودة اليوم إلى الحكومة المطلوبة جمهورية أمريكا، ولو كانت دون المطلوب.
فمسألة دريفوس سواء انقضت أم لم تنقض، فالقلاقل لا تزول من فرنسا؛ لأن أسبابها أعم من أن تقتصر على فرد أو تختص بحزب؛ فالأيام حبالى، ولا بد من أن تلد ثورة لا تذكر معها ثورة القرن الماضي، تشترك في أوروبا، لا كما اشتركت في الماضي بقيام الدول كلها على فرنسا، وانقياد بهائم شعوب تلك الأيام إلى دولهم انقيادا أعمى لنصر الجهل على العلم، والظلم على العدل، والتقييد على الحرية؛ أي لنصر ظالميهم على أنفسهم. فالثورة المستقبلة، والتي تتمخض بها الأيام اليوم، لا تكون لقيام الأمم بعضها على بعض، ونشوب الحرب بين الدول، خلافا لحلم قيصر الروس الطالب نزع السلاح، والانقياد فيها إلى تمويهات مؤتمر لاهاي الطالب تأييد السلام. وإذا أصبحت الحرب بين الدول المتمدنة ممتنعة اليوم، فليس السبب أحلام القياصرة، ولا ضخم ملكهم، ولا مداولات أقطاب السياسة في ذلك المؤتمر السخري، بل السبب الحقيقي في أن الحرب اليوم أصبحت تدميرا وتخريبا على المتحاربين الفائز فيها والمخذول، والمهاجم فيها والمدافع، والمعتدي والمعتدى عليه يمحقان محقا ويسحقان سحقا؛ لكثرة الآلات المهلكة التي استنبطت في الربع الأخير من هذا القرن، وقوتها في التدمير. وأمم أوروبا لم تعد اليوم عمياء البصيرة والبصر حتى تقدم من دون تبصر بإيعاز دولها على هذا القضاء المبرم والفناء المحتم؛ ولذلك يصح أن يقال هنا الحرب أنفى للحرب.
فالثورة المنتظرة، والتي لا بد منها، هي ثورة تنصر الشعوب فيها بعضها بعضا، والأمم بعضها بعضا، ينصرون بعضهم على حكوماتهم ونظاماتهم لقلبها وإبدالها بما يكون أوفق لروح العصر، وأحفظ لمصلحة الجمهور. ولا سيما أن الأسباب الداعية اليوم إلى النفور من نظامات الهيئة الاجتماعية وأحكامها، هي أثقل جدا على عاتق الأمم مما في عصر الثورة الأولى؛ فالثورة الأولى أسبابها الاستئثار بالأعناق والأرزاق لشرف المولد، وقد كان الناس قليلهم يدرك حق المساواة، وأما اليوم فالثورة هي بين العمال وأصحاب المال، أي بين قوى العقل المستنبط واليد العاملة، وبين فساد نظام الأحكام واستئثار رجال المال، حتى أصبحت مستنبطات العقول وأعمال الأيدي خادمة لأولئك، يستفيدون منها هم وقلما يستفيد منها هؤلاء، والناس قل من لا يدرك منهم اليوم هذا الإجحاف.
وكان في الإمكان تدارك الشر لو أن الحكومات لا تنقاد انقيادا أعمى لأصحاب الأموال، أو كان هؤلاء يخفضون قليلا من كبريائهم، ويعترفون بحقوق من لولاهم لبارت تجارتهم وقل استثمار أموالهم، ولكن الله لما أراد بمعسكر فرعون شرا قسى قلب فرعون، ولا أظن شيئا يثير هذه الأحقاد ويبلغ بها الدرجة القصوى مثل النبأ البليد الذي جاء كاللطمة على خد الإنسانية، والذي وافتنا به شركة روتركي، تنبئ العالم أجمع بأن المساعي بين أصحاب المعامل والأموال متجهة إلى إحباط أعظم معرض في العالم؛ أعظم معرض تتجلى فيه المدنية بأبهى مجاليها، أعظم معرض يفتخر به العلم على الجهل، أعظم معرض يتباهى به الإنسان بما استنبطه عقله وصنعته يده، فكأن أصحاب الأموال يتهددون العالم أجمع بقحة لا تماثلها قحة، بأنهم سيطمسون بما أوتوه من سلطان المال أنوار العقل، ويعيدون عصور الجهل. لقد ساء فألهم، وما هم بذلك إلا خاسرون يبحثون عن حتفهم بظلفهم؛ فإن هذا النبأ الشنيع سيكون له تأثير شديد في الجمهور، كما كان له ذلك في الأفراد، ويعجل تلك الثورة المنتظرة التي تقلق الهيئة الاجتماعية منذ سنين، والتي بلغت أقصاها في هذه الأيام، ولا بد من ذلك لقوم يعقلون.
المقالة التاسعة عشرة
القتل الاجتماعي
1
الناس في كل أطوارهم على مبدأ واحد؛ فهم لا تنبههم الحوادث بنفسها مهما كانت شنيعة، ولا تنبههم إلا بمصاحباتها؛ فالقتل بأشنع صوره جار في كل يوم بين أفراد الناس وفي الحروب، بل وفي الرعايا الآمنين، وفي كل ذلك قلما تنتفض أعصاب الهيئة الاجتماعية انتفاضها لقتل رئيس أمة كسلطان أو ملك أو رئيس جمهورية. ولعل هذا هو السبب الذي لأجله يتعمد الفوضويون وسائر الناقمين على نظامات الهيئة الاجتماعية قتل أحد هؤلاء الرؤساء، لا انتقاما منه أو تشفيا من هذه النظامات، وقد يكون المقتول من أفضلهم والأشرار منهم آمنون، بل تنبيها به للأفكار وإثارة لحركة الخواطر، فلا يقف البحث حينئذ على الفعل نفسه بين استحسان وتشنيع، بل يمتد إلى أبعد من ذلك كثيرا، فيتناول موضوعات كثيرة اجتماعية تتناسى معها الجناية الأولى الصغرى، وينتبه فيها إلى تلك الجنايات الأخرى الكبرى التي تجلبها تلك النظامات الحائفة، التي تضحى فيها الأفراد والجموع، وتبذر القوى، وتصد عن استعدادها للنفع إن لم تدفع إلى التخريب، والراضي عنها الجمهور المستغرق في سبات الاقتناع بقوة العادة، أو الاكتفاء، أو المطامع الميسورة، حتى لا يظن أن في الإمكان أبدع مما كان.
فزحزحة الأفكار عن هذا الاعتقاد السقيم، الذي هو سبب جميع مصائب الاجتماع، هي غاية كل مصلح في الهيئة الاجتماعية يسعى إليها عقلاء المصلحين باللين، كبث الأفكار السامية، والحث على نشر التعليم والانتقاد، وكل ما من شأنه أن يدعو إلى الإصلاح، بالطرق السلمية البطيئة بنتائجها في كل الأحوال، ويسعى إليها الناقمون منهم الذين فرغ صبرهم بالعنف، ولو أن فيه تضحية أنفسهم على مبدأ دفع الشر بالشر لما يحدث ذلك من الرعدة التي يقصدون بها نخع أعصاب تلك الهيئة البالية من حاكم ومحكوم، وظالم ومظلوم، فيهب أصحاب الحقوق المهضومة كمن نشط من عقال للمطالبة بما هضم من حقوقهم، فوق أرض أصبحوا فيها كأن لا حق لهم أن تقلهم، وتحت سماء كأن لا حق لهم أن تظللهم، وينتبه الظالمون فيخففون من وطأتهم، ولا تعميهم مصالحهم عن مصالح سواهم.
ومن ينظر إلى تاريخ العمران من يوم نشأته إلى اليوم، لا يسعه إلا التسليم بأن مطالب الناقمين في كل عصر حق مهضوم. ولولا ذلك لما سار الاجتماع مرتقيا بإقرار الفريقين على النحو الذي سار عليه، تارة بالسكينة والهدوء، وتارة بالثورات والقلاقل، جريا على سنن ناموس النشوء والارتقاء الطبيعي حذو القذة بالقذة. والإصلاح المطلوب لا تزال الحاجة إليه ماسة اليوم كما كانت من قبل، والفرق ليس إلا نسبيا فقط؛ فكما أن الحاجة إلى الارتقاء في العالم الطبيعي لم تقف بعد، كذلك الحاجة إلى الارتقاء في العالم الاجتماعي، أي العمران، لم تنته أيضا، فلا يجوز لعاقل أن يقف عند حد قول الخاملين أو المكتفين أو الطامعين المنتفعين بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان.
فقتل ماكنلي رئيس جمهورية الولايات المتحدة قد شغل الجرائد، ودار على ألسنة الناس، وأقلق الرءوس المتوجة أكثر من قتل شعب آمن يؤدي الجزية لحكومته وهو صاغر، أو قتل الألوف المؤلفة في هذه الحرب الجائرة الجارية في جنوبي أفريقيا، وأكثر من قتل مصالح الجمهور في كل يوم، وفي كل حكومة من حكومات الدنيا، ولو أنها في أعلى ذرى الإصلاح. شغلهم جميعا لا للبحث في أدواء الاجتماع ومداواتها بإزالة ما يسببها من المطامع والمظالم والمغارم، بل للضرب على أيدي الظالمين، يعنون بذلك الفوضويين، حتى اجتمع العاهلان العظيمان اللذان يقبضان اليوم على دفة الدنيا، وأخذا يفكران لا بالخفض من كبريائهما، وإصلاح شأن الجماهير بما يدفع البلوى ويقلل الشكوى، بل بالوسائل التي تضمن لهما صولجان الملك ليسوقا به الأنام كالأنعام، وتضمن لفئة من لصوص الاجتماع أسباب السلب والنهب، يصادرون ويرابون ويجمعون المال بالاحتيال للاستئثار بمنافع الأعمال التي لا ينال القائمون بها إلا ما يتبلغون به من العيش. لصوص يسرحون ويمرحون، وتحميهم الشرائع التي تعززها الحكومات.
على أنه وإن كان الجمهور قد نظر إلى هذه الفعلة الشنيعة بنفسها من حيث شناعتها فقط، إلا أن أناسا، وإن كانوا قليلين، نبهت فيهم الخواطر للبحث في أسبابها بما دعا الاجتماعيين لتعيين مواطن الداء لوصف الدواء وتقريب الشفاء، ولو أن هذا القريب بعيد جدا في تاريخ الاجتماع ولكنه أقرب من الأبعد، وكل خطوة فيه إلى الأمام تعد نقضا لحجر من ذلك البنيان الهائل الذي شادته أيدي الظالمين على مناكب الغافلين.
المقالة العشرون
كتاب فوضوي
1
حكم «جوري» محكمة السين بباريس على الفوضوي أتيفان بالإعدام لمحاولته قتل اثنين من رجال الحفظ. وأتيفان المذكور هو فيما نعلم أول فوضوي متعلم واسع الاطلاع بعيد النظر الفلسفي، حاول ارتكاب الجناية بنفسه، كما يظهر من الكتاب الآتي الذي كتبه إلى أحد أصدقائه بعد القبض عليه بأيام قليلة. وفي نظرنا أن المحكمة ارتكبت جناية في حكمها عليه بالإعدام، كما يتضح من تدقيق النظر في الكتاب المذكور. ولو كانت أدق نظرا في الأمور وأوسع اطلاعا في علم الأخلاق، لوجدت لها مخرجا يحفظ الرجل، ويصلح ما به من الضعف للانتفاع بما به من القوة، ولكن الجوري كما أن له حسنات في حل قيود القانون له سيئات في أن رءوس أكثر أعضائه غالبا فارغة من الأفكار السامية، وفي أن أحكامه متناهية تتناول أحد الطرفين ، وليس فيها شيء من أحكام القانون التي بين بين، والكتاب هو معربا:
باريس، في 30 يناير سنة 98
صاحبي العزيز،
أخذت كتابك الذي تخبرني به عن اضطرارك إلى تغيير عنوانك، وأشكرك على زيارتك لوالدي؛ فقد أخبرني أن زيارتك وزيارة باقي الأصدقاء كانت أعظم معز لقلبه في وسط أحزانه.
تقول إن الفياري مصيب. وأنا لا أنكر أن في كتابه في «الحكومات الظالمة» أفكارا كثيرة جليلة، إلا أنه ليس بينها فيما أذكر سوى فكر واحد صحيح، وهو قوله: «إن الخطر من القول أو الفعل سواء في عصره وفي الحكومات الظالمة.» على أن هذا الرجل المتعشق للعدل، نظير سائر فلاسفة عصره، ربما كان يستقبح وجود أناس متهالكين في سبيل الحرية، مع أنه كان يدعوهم، ولكن الذي لا أقدر أن أسلم به قوله إن اليونان والرومانيين كانوا بالحقيقة رجالا. وهم لم يكونوا رجالا أكثر من معاصري الفياري، ولا أكثر من رجال هذا العصر.
والثورة الفرنساوية التي بلغت فيها المنازعات لأجل الحرية السياسية مبلغ جميع منازعات العصور القديمة، بل فاقتها بعظمتها، دليل واضح على ما أقول. وهب أنه لم يقل ذلك إلا عن اليونان في غزوتها مقدونيا، وعن الرومانيين في عهد الجمهورية؛ فإنه مخطئ فيما يقول.
وبالحقيقة فإن الفياري، كسائر فلاسفة عصره، كان يسير نحو المستقبل، وعيناه متجهتان إلى الماضي. والإنسان الذي يمشي على هذه الكيفية قد يتقدم، وإنما تقدمه يكون صدفة لا يعرف إلى أين يسير، هل يسقط في حفرة أم لا؟ فهو لا يدري إذا كان يمشي إلى الأمام أم يدور على نفسه، ولا يدري حتى يعود من حيث أتى.
وهذا عين الذي تم في الثورة؛ فإن الثورة لوقوع ذمامها في أيدي أناس كانت أنظارهم شاخصة إلى بلاد اليونان وروما كان يقتضي أن تفسد؛ فإن جميع الذين تقدموها كانوا مغرمين بالقدماء. ألم يصرخ سان يوسف من أعلى المنبر قائلا: «العالم خال من أيام الرومانيين، ونابليون إنما أتى ليملأه بإرجاعه ملكهم.» والفياري كان مولعا بالحرية القديمة كالآخرين، وإن كنت تريد أن تعرف ماذا كانت تلك الحرية فاسأل أسرى السبرطيين.
فإذا كنا نريد أن نسير إلى الأمام، وإذا كانت الإنسانية تريد أن تسير إلى السعادة وإلى الحرية، فلتنظر إلى ما حولها، ولتتعرفه جيدا، ثم فلتختر غرضها، ولتسر إليه دون أن تعرج إلى هنا وإلى هناك، غير مهتمة بما وراءها، ولا بما يفتكره عن ذلك الأقدمون.
والعلوم تكاد تكون جميعها قد تحررت بفضل الطريقة الاختبارية من قيود التقليد، إلا علما واحدا يهمنا أكثر من الجميع، وعليه تتوقف سعادتنا، وهو علم السوسيولوجيا، أي علم الاجتماع، فإنه بقي واقفا؛ لأننا لم نشأ تقطيع هذه القيود احتراما لما تناقله الخلف عن السلف، وهذا هو السبب الذي نحن لأجله لا نزال تعساء.
ولقد بقي كبلر يبحث 15 سنة حتى وجد نواميس حركة السيارات؛ لأنه لم يستطع أن يحرر عقله من التقيد بقيود النقل.
فقد راق لأرسطو في القديم أن يثبت - ولا يعلم لماذا - أن الكواكب كائنات كاملة، وأن الحركة المستديرة حركة كاملة، فكان يلزم أن تكون حركة الكواكب كذلك.
وبقي علماء الفلك قرونا عديدة يجهدون العقل ويخالفون الواقع لكي يثبتوا صحة ما أثبته أستاذهم من قبلهم، ولم يجسر أحد منهم أن يتساءل: لماذا الكواكب هي أكمل من سائر الكائنات؟ وبماذا الحركة المستديرة هي أكمل من سائر الحركات؟
وبسبب هذا الاستمساك المقدس بأقوال المعلمين وهذا الاحترام للأقدمين، بقي كبلر خمس عشرة سنة يحسب ويعيد الحساب، حتى وجد أن السيارات تتحرك في إهليليجيات تشغل الشمس أحد محترقيها.
وإذا علمنا أن نيوتن اكتشف ناموس الجاذبية العام بتبحره في نواميس كبلر لتعليلها، وأنه من هذا الاكتشاف العظيم يبتدئ تاريخ أعظم العلوم العصرية، أعني علم الفلك الرياضي؛ نرتعد جزعا من عظم العاقة التي كان تعليم أرسطو يقيمها في سبيل تقدم الإنسانية، لو مات كبلر بعد أربع عشرة سنة من أبحاثه.
ففي علم السوسيولوجيا، كما في كل شيء آخر، إذا كنا نريد التقدم بسرعة ينبغي علينا أن ننظر إلى كل شيء، وألا نحترم شيئا غير ما يعلمنا إياه الاختبار.
نعم، إن التعاليم القديمة تضغط علينا، فإن جميع شرائعنا وعاداتنا وتعاليمنا الدينية والأدبية والسياسية والاقتصادية منتقلة إلينا من الماضي، وتمنع المستقبل من أن ينفتح لنا.
جميع هذه التعاليم أصولها في الماضي القديم، ليس في القديم العلمي فقط، بل في التوحش الأول من الحيوانية.
وأسبابها جميعها أفكار مسلم بها عموما، وهي بعد أن ولدتها ساعدت على نموها وحفظها. وهذه الأفكار تظهر لنا من المراقبة أن أصولها موجودة بحالة بداهة في الحيوانات التي تكوينها يشبه تكويننا. فالحذر من أن نأخذ أمثلتنا عن الأقدمين، كما فعل الفياري وفلاسفة العصر الماضي، إذا كنا نريد أن نبلغ السعادة في الحرية التي لا حد لها. انتهى.
هذا هو الرجل الذي حكمت عليه محكمة باريس بالإعدام لمحاولته القتل، كأنها أرادت في حكمها أن تثبت على نفسها ما جاء في كتابه من الحقائق التي سيؤيدها المستقبل، ويحكم عليها لأجلها بالقتل أدبيا. فإن الأفكار المنطوي عليها هذا الكتاب كلها حقائق لا يرتج منها إلا ضعاف العقول. وما ذنب كاتبه في محاولته ارتكاب الجناية إلا زيادة التحمس قبل زيادة بلادة الهيئة الاجتماعية، والتحمس كثيرا ما يؤدي إلى التهور، والذنب إنما يكون على هذه الهيئة وحدها.
المقالة الحادية والعشرون
الاشتراكية
1
في كتابك لي على صفحات «المؤيد» طلبت مني أن أثبت حقيقة وأدفع شبهة. طلبت أن أبين لماذا أدافع عن الاشتراكيين، وأن أتوسع في الموضوع «لأن ما كتبته على صفحات «الأخبار» لم يكن مقنعا»، وأن أدفع عن نفسي «سوء الظن بي»، كأن الاشتراكية وصمة وأنا قد تلوثت بحمأتها، وأنت لا تريد لي ذلك، أو أنك تريد أن أبين الحقيقة الناصعة، وأن أخرج منها طاهر الذيل. فشكرتك على حسن ولائك، ولو أني أعجبت أكثر بدهائك.
كنت أفهم قبل اليوم أن الاشتراكية في نظر خصومها مطلب بعيد المنال، فإذا هي فوق ذلك وصمة تعرض صاحبها لأقبح المظان، ليس في نظر الجمهور فقط، بل في نظر الخاصة أيضا.
فخفف عنك أيها الصديق؛ فما هي بأول وصمة ألصقت بي ثم عاد الناس إلى الهدى.
من ربع قرن نشرت في اللغة العربية مذهب داروين، ولم يكن معروفا فيها من قبل، فقامت القيامة علي من كل صوب كأني جئت أمرا إدا، حتى بلغ التحمس من بعضهم أن قصدني للتعرف بي، لا للسلام والكلام، ولكنه ضل السبيل، فقصدني في غير المكان الذي أنا فيه، واعترضته البحار، فأطفأت منه جذوة تلك النار، ثم مرت السنون، والناس بيننا يرتقون، حتى صار مذهب داروين بيننا (أو كاد) كمذهب كوبرنيخ في الكون، أو غليلي في الأرض، وحتى بلعهما في جوفه.
وما الاشتراكية كما يرميها خصومها بأضغاث أحلام، ولا أصحابها ظلام طغام، فهي لا تركب بمطالبها متن الخيال وتحلق بالإنسان إلى جنات النعيم، ولا تكبله بحبال الخبال وتزجه في قعر الجحيم، بل تريد أن تمهد له سبل السعادة على هذه الأرض، فتسترد له الفردوس الضائع، تسترده من أيدي مردة الاجتماع وأبالسته، فتخفض من كبرياء، وترفع من نفوس، وتقرب بين صولجان الملك وعصا الراعي حتى يتم تكافؤ الفضل بينهما.
أراني ركبت متن الخيال في قولي إنها تريد أن تمهد له سبل السعادة على هذه الأرض. والأولى أن أقول إنها تريد أن تقلل من ويلاته، فتضمن له حاجاته وتصون حقوقه بعد أن تفرض عليه واجباته، وترفعه من تحت مواطئ الأقدام إلى مقامه كإنسان، وتعلمه أنه عضو من الاجتماع لا يجوز أن يبقى عالة عليه غير نافع، وأنه عامل فيه لا يجوز أن يبقى غير منتفع، وأن تبادل المنفعة ينبغي أن يكون على قدر العمل.
هذا هو مبدأ الاشتراكية، ومن ظن غير ذلك فهو واهم، وهذا هو المبدأ الذي أدافع عنه، فهل فيه مأخذ علي لعاقل، أو مظنة بي لجاهل؟
والاشتراكية ترجمة لفظة سوسياليزم الإفرنجية، وضعها كتابنا الأولون وجرى عليها الجمهور. وهي خطأ في التعريب جر معه خطأ أعظم في الفهم والصواب. الاجتماعية من الاجتماع، أي العمران، وأصحابها الاجتماعيون، ولكننا جاريناهم هنا عملا بالمثل القائل: «خطأ مشهور خير من صواب مهجور.»
وهي ليست مذهبا من المذاهب، بل هي نتيجة لازمة لنظر الإنسان في الاجتماع. وهي قديمة كالاجتماع نفسه، ومثبوتة في تعاليم الفلاسفة وسائر المصلحين في جميع العصور . وكلما ارتقت مدارك الإنسان وزاد اختباره زادت انتشارا واقتدارا، وهي لا تعلم اقتسام المال (كن مطمئنا على ثريوتك أو ثريتك، ما شئت وما شاءت النحاة تصغير ثروة)، بل العدل في تقسيم المنفعة بين العمل ورأس المال.
ولا بد لي قبل التوسع في الموضوع أن أزيل وهما وقع لك، واحذر أن يجرك ذلك إلى وهم آخر لا أقصده، فلا أعود أعرف كيف أتخلص منك وأنت كشبكة الصياد.
فأنا لم أقم «في الأخبار» للمدافعة عن خطة، بل عن مبدأ أعتبره مشتركا بين سائر المصلحين - والاشتراكيون أعظمهم اليوم - وهو إصلاح مركز الإنسان في العمران، وما دفعني إلى ذلك إلا ما كتب هناك مما يوهم أن الاجتماع على هدى، وأن الاشتراكيين يدفعونه إلى الضلال؛ لئلا يكون لذلك تأثير سيئ في الأفكار المتقلقلة التي تحتاج إلى تنشيط، فيجبنها عن التوغل في فيافي هذه المباحث، ويرميها في الجمود.
ولذلك لم أقف عند الأسماء، ولم أبخس أحدا حقه، فساويت بالفضل بين جميع الذين ناهضوا الاجتماع في سائر أطواره بقصد الإصلاح من الفلاسفة المصلحين إلى دعاة الأديان أنفسهم، ولم أنكر فضل أولئك الذين تطوعوا في هذا الجهاد، فكانوا كالأعضاد فيه، ولو أنهم أتوا أحيانا أعمالا مشجوبة قضت عليهم، وذهبوا فيها شهداء نظام الاجتماع.
ولا ريب أن الاشتراكية هي الدعوة المنصبة نحوها الأفكار، والمعقود عليها الآمال اليوم. وهي وإن كانت متفقة في الغاية إلا أن فيها اختلافا كثيرا في الآراء، شأن كل فئة في دعوة مثل هذه كثيرة العقبات، وأي مذهب من المذاهب الكبرى، علميا كان أو فلسفيا أو دينيا، لا تكثر فيه المسائل الخلافية من دون أن تمس جوهره بشيء.
ولذلك رأيت أن البحث في هذا الموضوع الشاسع الأطراف البعيد المرمى، لا يأمن صاحبه الزلل والخبط في تيه فيافيه، إن لم ينخعه من أقوم السبل وأصحها، وأي أصح من رد الشيء إلى أصله ووضعه في محله؟
فالاجتماع طبيعي هو وكل ما فيه مستفاد من الطبيعة، والنواميس التي تسوس نظامه هي نفس نواميسها، وأعظم هذه النواميس اثنان؛ أحدهما يوجب التنازع، وهو تكافؤ القوى في العمران كتكافئها في الطبيعة. والآخر يوجب الارتقاء، وهو تكافل العمران بتوفير قواه كتكافل العالم أجمع بتوفير قواه في ارتقائه.
فالاجتماع شديد التنازع قليل التكافل؛ لشدة ما فيه من التبذير في القوى التي له؛ ولذلك لا يزال منحطا جدا بالرغم عن اندفاعه البديع في القرن الماضي؛ لأنك كيفما جلت بنظرك فيه رأيت أمورا يأنف منها الطبع وينكرها العقل، وقد ينفر الإنسان منها حتى لا يقدر أن يضبط نفسه عن القيام ضدها. تراها في شرائعه ونظاماته وعاداته ومعاملاته، في كلياتها من حيث الغاية منها والباعث عليها، وفي جزئياتها من حيث تطبيقها على كل فرد من أعضائه، حتى إن البحث فيها لا ينضب.
أوليس من العار على الإنسان الذي يمتاز عما سواه من الكائنات بقوة العقل والاكتساب بالاختبار أن ينتظر ارتقاءه من الطبيعة نظيرها، وهو القادر أن يتصرف فيها بما له من المدارك لمصلحته؟ ويا ليته اقتصر على ذلك، ولكنك تراه دائما يستخدم هذه المدارك لإقامة العقبات في سبيل ارتقاء العمران، ولكم صده عنه وقضى عليه بالتقهقر؛ لشدة التباين بين أعضائه في العقل والعلم والقوة، وقامت الأثرة مقام تبادل المنفعة، فارتفع قوم إلى الأوج وانحط آخرون إلى الحضيض، وكلما قل هذا التباين قلت العقبات لاقتدار الأضداد حينئذ ووجوب الإصاخة لهم.
وهل العمران، كما هو الآن، يستفيد من قوى كل فرد، أو يعرف أن يستفيد منها؟ أوليس هذا هو التبذير بعينه؟ وإن كان لا يعرف، أفلا يكون هو الذي يدفع هذا الفرد إلى الإضرار بنفسه وبالمجموع كله عملا بناموس هذا التكافؤ؟
كثيرون يطرقون هذا المبحث، ويكثرون فيه من المن على الإنسان، فيطلبون الإصلاح له؛ لضعيفه وسقيمه، ومن لم تمده الطبيعة بالقوة الكافية للحصول على ما تستقيم به أموره، يطلبونه له رأفة به وشفقة عليه. أما نحن فنقول إن الإنسان في الاجتماع في غنى عن رحمة الراحمين وشفقة المشفقين، فلا نطرق هذا البحث بتحريك العواطف، ولا ندع للإنسان على الإنسان منا؛ لأننا ننظر في ذلك إلى المصلحة المشتركة. ففي العمران كما في الطبيعة لا يضيع شيء، ولا يضيع تأثيره. والتأثير الذي يحدثه الفرد في الاجتماع لا يدرك أهميته إلا الذي يقدر ناموس تكافؤ القوى في الطبيعة قدره، فكم من تأثير إذا نظرت إليه مباشرة يتراءى لك عديم القيمة، ثم بالانتقال والتفاعل يتحول مع الزمان، ويصير ذا شأن عظيم في الطبيعة. ولنا في الأفعال المتجمعة مثال محسوس، مثل الشرارة للبارود، وعليه المثل: «سبب النار شرارة، وسبب الشر كلمة.» ومن هذا القبيل الزلازل وسائر نكبات الطبيعة الفجائية.
فعلى هذا الناموس تتمشى أفعال الإنسان في العمران، فإذا أحسنا أو أسأنا إلى الاجتماع فإنما نحسن ونسيء إلى أنفسنا، وما نصنعه في سوانا يرده لنا هذا السوى «بفرطه»، كما يقال في لغة الماليين. فالاجتماع، كما ترى، أكبر مراب، ولكن على عكس المرابين؛ فهو يرد لك كل شيء تنفحه به برباه، ولو تبرعت به تبرعا ووهبته له هبة. خذ مثالا لذلك الأمراض، هنا أناس جمعوا بذكائهم أو دهائهم الأموال على ظهور العمال، فسكنوا الأحياء الفسيحة الأرجاء، تنفذها الشمس، ويلعب فيها الهواء، وتحف بها الحدائق، وبنوا فيها القصور يمرحون فيها على وثير المهاد وفاخر الرياش، وتحوطوا بكل ما تصح به الأجسام وتنفى الأسقام، وعلى قيد قصبات منهم أكواخ متراكمة بعضها فوق بعض كالتلال، يزدحم السكان فيها كالذباب، لا شمس ولا هواء ولا ماء إلا ما يكفي للاختمار، وجعلها بورة البوار ومعمل الدمار، حيث تجد الأمراض مرتعا خصيبا. فماذا يقيك من شر ما جنيت أيها المطمئن بعزلتك، وأنت شريك جارك في الماء والهواء والغذاء حمالة الأمراض ونقالة الوباء.
وهذا مثال آخر من أمثلة كثيرة يضيق عنها الحصر، وتتجدد أمامك كل يوم، وتدلك على نقص نظامات تلك الشرائع القائمة على مبدأ تأييد القوي وإرهاق الضعيف. غني يتقاضاك مالا لا يزيد في غناه بلغة، والله يعلم من أين أتى، وكل ما في مسكنك من المقتنيات لا يفي بسداده، وإنما يكفي ليصون عيالك. فالقانون الذي لم يعرف كيف يستفيد من عملك لينتفع بك وينفعك يقضي عليك، ولو أدى ذلك بك وبعيالك أن يأويكم العراء، ويصدر القاضي، وقد مات منه الضمير، حكمه مصدرا باسم مليك البلاد ... إلخ، ثم يصب البلاء على العباد. فعلى من اللوم إذا تراكمت أمثال هذه الأفعال بناء على هذا الناموس، وأحدثت تأثيرها المتجمع في الجموع، فقاموا يصادرون الاجتماع، ويحدثون الثورات، كالثورة الفرنساوية، وثورة العمال القائمة اليوم، والتي سيكون هولها أشد من تلك إن لم تدفع بالحكمة؛ لانحصار تلك في بقعة من الأرض وفي شعب من الشعوب، ولانتشار هذه في كل العالم المتمدن؟ بل على من اللوم إذا تمادوا وركبوا على متن الغلو، ولسان حالهم يقول:
ماذا يهمني إذا خربتا
ما دمت خربانا أنا وأنتا
منعما تبيت فوق الريش
وذا أنا أبيت في الحشيش
إن لم يكن على الحصى في البرد
تحت الشتاء وغطاي جلدي
ولولا نهضة رجال الثورة في الماضي، وسريان روحهم الحية في أعقابهم؛ لبقي الإنسان يرسف في قيود الجهل حتى اليوم، ولتقهقر الاجتماع عما كان عليه أيضا بالرغم عن ناموس الارتقاء العام، أما وقد بلغ التنبه في الأفكار مبلغه اليوم فلا خوف عليه أن يتقهقر؛ لانتشار العلم، وانتشار مبدأ الاشتراكية بسبب ذلك، واقتدارها على تنفيذ مطالبها، بل كلما تقدمنا ستزداد هذه الحركة الارتقائية سرعة، وتقرب الأمم بعضها من بعض، فتقل الحروب، ويتفرغ الإنسان للاشتغال لمصلحة العمران. والغريب أن كل واحد منا في حديثه وكتاباته كل يوم يخدم دعوة الاشتراكيين ولا يدري، وقد يخدمها من حيث يريد مناهضتها أيضا. ولعل هذا التمهيد الوجيز كاف لأن يقنعك، أيها الصديق، بأن مبدأ الاشتراكية ليس مما يخجل منه، ولا هو مما يجب أن يحجم عنه.
المقالة الثانية والعشرون
المريض
1
عركت صروف الزمان، وجسست بإصبعي مصائب الإنسان؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الفقير في أقصى الفقر يسكن كهفا كالقبر، أو يتوسد الغبراء ويلتحف بالسماء؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الفاعل يشتغل في الحر، والعرق يتصبب من بدنه كالقطر؛ ليطعم سواه من جناه، ولا يناله من ذلك إلا نزر يسير، لا يفي بحاجة زوجته العارية، ولا يخمد صوت أولاده الجياع ، فيطوون الليل على الطوى ملتفين على أنفسهم، وبعضهم على بعض ضاغطين معدهم بأيديهم ليخففوا ما يعانونه من ألم الجوع، وليس لهم ما يتدفئون به من البرد غير حر أنفاسهم. رأيت ذلك فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الكريم وقد أخنى عليه الدهر، وأسقطه إلى أدنى مهاوي الفقر؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الأم تبكي ولدها، والزوجة بعلها، والأخ أخاه، والابن أباه؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الجاني المحكوم عليه بالقتل، واجف القلب مشتت العقل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
ذقت ذل السؤال بعد عز الأفضال، وعرفت خيبة الأمل، وصبرت على تغطرس أصحاب المال؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت المفضول فوق الفاضل، والفصيح يداجي الأبكم، والعالم يخضع للجاهل، والعاقل يخاطب من لا يفهم؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيتك تصنع المعروف فتجازى بالمتلوف، وتصادق من يخدعك، وتسمع من لا يسمعك؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستر، والفقير الجائع يتلصص لسرقة رغيف من الخبز الأسمر، والقانون يكافئ ذاك برفع القبعات، ويعاقب هذا بالسجن سنوات؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت معالم الظلم تشاد فوق الناس تحت لواء العدل ودعوى الهداية، والعالمية تسري عليهم تحت قلانس المكر وعمائم الجهل؛ فلم أجد أشقى من المريض.
رأيت الحر يرى كل ذلك ولا يجد بدا من الصبر عليه، فلم أجد أشقى من المريض.
وأي أشقى ممن أظلمت الدنيا في عينيه، وارتجت الأرض تحت رجليه، وصغرت نفسه حتى أصبحت الحياة المحبوبة عبئا ثقيلا عليه؛ إذا شرب الماء الزلال المعقم، وجده مرا كالعلقم؛ أو ذكر أشهى الطعام لديه، جاشت نفسه عليه؛ أو توسد وثير المهاد، فكأنه يتقلب على شوك القتاد؛ مفكك الأوصال، إذا كلف قطع خيط القطن خانته القوى؛ مقطع الآمال، إذا قدمت له خزائن الأرض أعرض عنها ورآها هي والعدم على حد سوى؛ ليله طويل بما يعانيه من الآلام التي تحرمه لذة المنام، فإذا طلع النهار زال ما كان قد أمله فيه من زوال الأسقام.
الأصحاء يحلمون بالأموال يحشدونها، والمدن للكسب يفتحونها، والمراتب العالية ينالونها، يحلمون بالزوجات، والبنين والبنات، والقصور الشاهقة، والأملاك الواسعة، والحدائق الغناء، ولا يقفون في أحلامهم عند حد. والمريض المسكين لا يطلب إلا أمرا واحدا يفديه بكل حطام الدنيا، يفديه بماله، يفديه بأمياله، يفديه بكل ما له من المطامع من واقع وغير واقع، يفديه حتى بجزء من عمره، بل بعمره كله؛ إذا وجد أن لا خلاص له من الأسقام إلا بتجرع الموت الزؤام، يطلب ما لا يراه الأصحاء، ولا يراه إلا هو، يطلب الصحة التي هي تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى، بل أي رجل تجوز عليه الشفقة أكثر ممن تمكن منه الداء، وعز به الشفاء، غنيا كان أو فقيرا، صعلوكا كان أو أميرا، حتى لم يبق عنده في قوس الأمل منزع، ولا في النفس منزع، فإذا كان هذا حال المريض الأمير، فما قولك في حال المريض الفقير؟
فالفقير المعدم، والجاني المكبل بالحديد، والثكلى التي لا تريد أن تتعزى، والرجل الذي أخنى عليه الدهر بعد العز، والحر الذي يصبر على مضض البلوى؛ يجدون في نفس شكواهم مصرفا لهمومهم، وفي قواهم الصحيحة منعشا لآمالهم؛ فالجائع إذا أعيته الحيل تطاير الشرر من عينيه، وشد حبلا من مسد على حقويه، ونهض على ساقيه يطارد بهما الغزلان، وشمر عن ساعديه يتسلق بهما الجدران، ولبس من ظلام الليل ثوبا يقيه كالحجاب، من عين كل مرتاب، يتلصص تارة ويسرق أخرى؛ منتقما لنفسه من ظلم الإنسان، ومن فساد ما سنه من الشرائع في العمران. والثكلى تتناثر دموعها الحرى، فتخفف ما بها من ألم الجوى، كأنها تبدد بها سحب الهموم، كما يبدد مطر السماء سحب الغيوم. وأما المريض المسكين، فلا تفيده الشكوى إلا زيادة البلوى، وقد يخفت صوته فلا يقوى عليها، وقد تشل حركاته حتى لا يستطيع أن يعبر عنها، فيرسل إليك نظرا منكسرا ذليلا، يقطع الصلب، وينفذ القلب، يقطع صلبا لا من صلب الحديد، بل من عصب وعظم، وينفذ قلبا لا من قلب الحجر، بل من لحم ودم.
فيا أيها الذين لا يزال بهم بقية تتأثر أكثر قليلا من الحجر، والذين لم تضرب مطامعهم على أبصارهم غشاوة، ولم يختم الله المال على قلوبهم، إن كنتم من أهل الإحسان الذين يريدون التقرب حقيقة إلى الله المعبود، أو من أهل الفخر الذين يفاخرون بأشياء هذا الوجود؛ فدونكم وإغاثة أخيكم المريض، بل إغاثة أنفسكم - فمن منكم يضمن لنفسه السلامة من الداء - بتخفيف مصابه، وتقليل أوصابه، بما في وسع الإنسان بحسب تدرجه في العمران. وليس لذلك أصلح من المستشفيات، والإكثار منها على ما بلغت اليوم من الإتقان فهي قبل المعابد، إن كنتم تفقهون، وكأني بكم جميعا تؤمنون على ذلك، ولكن لا أعلم لماذا لا تفعلون. أينقصكم فيها المجد، وهي عنوان المجد والفخر؛ أم الأجر، وهي منتهى الأجر؟ فلينهض منكم بضعة أناس من علية القوم، يؤلفون جمعيات متفرقة من كل جنس ومذهب وموطن، تجمع المال بالاكتتاب من الفقير قبل الغني، كل حسب مقدرته، كما تفعلون في بناء المعابد التي تخدمون بها مطامع الإنسان أكثر مما تخدمون بها إرادة الله. وأنتم أيها الأغنياء خاصة، فإني أعرف منكم الغني الكبير الذي جمع من المال القناطير، ومات ولم يترك سوى ذكر الاختلاس من أموال الناس، أو الذي بنى شاهق القصر الذي لا ينفع لا للسكن ولا للقبر، ألم يكن مثل هذا الإحسان أفضل ذكرى وأدعى إلى الفخر؟ وأمام من تريدون أن تفتخروا؟ أليس أمامنا؟ فإذا ذممناكم فالذنب عليكم، ورحم الله من قال:
ومن يك ذا فضل ويبخل بفضله
على قومه يستغن عنه ويذمم
المقالة الثالثة والعشرون
بمعزل عن الناس (أو «حلم في اليقظة أو يقظة في الحلم»)
1
صدر المشير هذه المقالة - والعهدة عليه - بالكلام الآتي، قال:
محرر المشير حرامي.
سرقة جائزة. «الدكتور شميل في السماء.»
أعترف لقراء المشير أنني ارتكبت في هذين اليومين جريمة اللصوصية، «ولعل ذنبي لا يكون أعظم من ذنب حواء وآدم؛ فإنهما سرقا تفاحة لأنها كانت لذيذة الطعم، وأنا سرقت مقالة من منزل الدكتور شميل لأنه كان بخيلا بها.» فإذا وصل هذا العدد من المشير إلى صديقي الدكتور الفاضل، وذهب إلى مكتبه، وفتش على ما كان فيه فلم يجده، وتحقق ما أقول؛ فأرجوه ألا يعاقب البواب أو الخادم؛ إنه هو الذي فتح أبواب منزله لطالبي فضله، وإلى القراء البيان.
بلغني من مقالة قرأتها في المقطم بقلم الدكتور شميل أنه مصاب بحدار (روماتيزم)، فهرولت إلى منزله العامر أعوده نحو الساعة السادسة مساء، فقال الخادم إن الطبيب خرج في عربة للنزهة. فدخلت إلى مكتبة الدكتور، وجلست بين الكتب والأوراق التي بخط حضرته في عرينه، وأردت أن أسلي نفسي بالقراءة ريثما يعود، ثم حانت مني التفاتة إلى مكتبه، وإذا هناك أوراق مبعثرة مكتوبة، فدلتني سليقة الصحافي التي عندي أنها أصول مقالة يكتبها الدكتور، وحملتني الوقاحة المذمومة في كل إنسان إلا الصحافي على الاطلاع عليها، ونظرت إلى ما حولي فلم أر من يراقبني، فأخذت تلك الأوراق وقرأتها، وإذا هي مقالة بدأ بها الدكتور شميل، وكتب منها ثلاث أوراق لا غير وبدأ بالرابعة، ثم الظاهر أن الحدار أصابه وهو يكتبها، فتركها على أن ينجزها متى شفي.
والمقالة المذكورة بيان مفاوضة بين الروح الأسمى والدكتور، فلما قرأتها ذكرت ما ورد في التوراة عن يعقوب؛ إذ صارعه الله وضرب حق فخذه فانخلع، فقلت في نفسي إن يعقوب لما صارع الله ضربه على فخذه فخلعه، وهذا صديقنا الدكتور صارعه اليوم فضربه بحدار حتى لا يتمم مقالته، ولكن جاءت الضربة الأخيرة على الفخذين. أما أنا فأخذت أوراق المقالة ووضعتها في جيبي قائلا للخادم إن الطبيب تأخر، وأنا لا أستطيع الانتظار. وها أنا أتحف القراء بما بدأ بكتابته الدكتور شميل ولم يتممه، فإن عاد يوما ما فرضي عني أرجوه أن يوافينا بما كان يريد أن يجعله تكملة لها.
وهذا نص المقالة المسروقة:
دع رجال الصحة يطاردون الطاعون، والناس من وجهه يهربون، فإما هم غالبون، وإما هم مغلوبون. فالعالم قديم، والناس يمرون فيه مر السحاب بلا حساب، والفوز ليس دائما من العلم أو العمل؛ فقد يكون من الصدفة، وقوم يقولون من القدر، وما هو علم الناس وما هم يعملون، دعهم في ضلالهم يعمهون.
واعتزل الناس ومجالسهم وهواجسهم ووساوسهم، واركب معراج الفكر في سماء الخيال محلقا إلى ما وراء المحسوس، وأغمض عينيك لئلا يستوقفك بهاء الكواكب اللامعة، ويسحرك جمال الشموس الساطعة، واسدد أذنيك لئلا يستهويك حفيف الأفلاك في دورانها، فتلتبس الحقيقة عليك بين آثارها وأعيانها. فإذا قطعت كل هذه العقبات، وقطعت كل صلة بينك وبين الكائنات؛ دخلت في العالم الأعظم عالم القوات، بل أصبحت والقوة الأولى متداخلين تعلم ما تعلم، عليما بكل ما يجهل الناس، والله أعلم.
ذلك صوت سمعته وأنا في سنة الكرى، أتقلب من الحمى على جمر الغضا. فراعني ما سمعته في المنام؛ لئلا يكون نذير الحمام، ولكن شاقني جدا خبر ما سأرى، فتجلدت وقلت في نفسي ما هي إلا رقدة، أسرعت أم أبطأت؛ فلعل في الأمر هدى، فلا تدع الصوت يذهب من دون صدى، ولا تجبن كأبيك آدم يوم عصى.
ثم قلت أيها الصوت المتصل إلي عن غير طريق الحواس الظاهرة؛ لأني أسمعك وحدي ولا يسمعك سواي، كأنك مني أو كأني فيك، من أنت؟ ألعلك الضالة التي ينشدها الناس في كل زمان؟ ألعلك صوت مدبر هذه الأكوان؟ ألعلك أنت الله الديان؟ ولكن قل لي: ما الذي أوجب بي هذا الاهتمام، وأوجب خرق النظام، حتى جئتني قبل يوم الحمام؛ لأني وإن لم أكن من سكان القصور، فلم أصر بعد من سكان القبور؟ ألعلك استبطأتني فأتيت إلي، كأنك تريد أن تحاسبني قبل يوم الحساب، وقبل أن يزال عن النفس الحجاب، كأني وحدي مخطئ والناس كلهم مصيبون؟ لكني لا أرى إصابتهم ملأت العالم خيرا، ولا خطئي جلب عليهم ضيرا، فأنا غير آسف على الدنيا؛ لأني لم أر فيها يوما واحدا حبب إلي الخلق، وأنت تعلم - إذا كنت كما يصفون - أني أقول الحق، وأني لم أكذب في عمري إلا من حيث كذبتني أمالي، ولم أسئ إلى أحد ولو ساءت به حالي.
2
وما ذنبي إلا لأني وضعت ثقتي في غير محلها، وصدقت ما بي من القوة فصرفتها في غير أهلها، بل أنت تعلم أني كنت أحسن الناس نية، وأسلمهم طوية. فقومي يقولون إن عثرتي من عدم التكافؤ. وقومك يقولون إنها منك. وذهلوا عن تبعة ما نسبوا إليك من مثل هذا التواطؤ، كأنك لم تعطني القوة إلا لتعظم علي ألم السقوط من شاهق، ولم تجعل كل هذا الامتياز إلا لترميني من حالق. فأنا لم أقصد ذلك لأحد من الورى، فأنا أحسن منك إذا كنت أنت كما الناس يرى. وأنا غير خائف من الأخرى؛ لأنه إذا صح قول قوم فالعدم خير من هذا الوجود، الذي لا يستطيع العاقل إلا أن يرى فيه صغر الموجد والموجود. وإذا صح قول آخرين فأنا لست بخائف إذا انتصب الميزان؛ لأني أدفع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. أم لا يجوز في محكمة الله الديان، ما يعد العدول عنه اليوم استبدادا في محكمة الإنسان؟ فأنا لا أخاف من الوقوف أمام محكمة العقل الأول، ألم تقل لنا إنك عدل، بل رحمة في كلامك المنزل، وإن كنت قد ملأته من التهديد والوعيد، ما لا يليق بالخالق مع العبيد؛ لأنك أردت أن تجعلهم مسئولين عما أنت وحدك مسئول عنه، وتنسب إليهم ما هم في شرع الحق براء منه ...
فقال الصوت: «مهلا أيها المعجب بجنانه، المغالي بقوة برهانه وحسن بيانه، المدعي القوة والضعف ملء جوارحه، والمتظاهر بعدم الخوف والجبن ملء جوانحه. يدل على ذلك ما أتيته من الإسراع في الدفاع، قبل أن تعلم حقيقة الصوت أيها المرتاع. فأنت ما زلت بعيدا عن هول يوم الموقف، فأبق دفاعك إلى ذلك اليوم، إن كنت ترجو فيه من منصف.»
فقلت: «من أنت إذن أيها الصوت الذي أشكل علي أمره، وعظم لدي سره؟» فقال الصوت: «أنا صوت الشعور العام.» وتهيأ لتتمة الكلام، فأصابتني رعدة خلتها القاضية على حياتي، وأرتني مماتي قبل يوم مماتي، ثم أفقت وإذا أنا في عالم تحار في وصفه العقول؛ لأنها لم تألف فيه من المناظر، وتقصر دونه الألفاظ والمعاني؛ لأن معانيه لم تمر من قبل بخاطر. فأخذت أمسح عيني لأجلو بصري، وأنا لا أحس بيدي، ولا أهتدي إلى عيني، وأفرك جبيني كي أستحضر فكري، وأنا لا أهتدي إلى جبيني. فقلت: «ما هذا أيها الدليل؟ أهدى ما أرى أم تضليل؟ فأنا أشعر بنفسي أني موجود، ولكن أين أنا من الوجود؟» فقال الصوت: «أنت قد قطعت الآن عالم الكائنات، ودخلت في العالم الأول من عالم القوات» (المشير).
إلى هنا وصل الدكتور في مقالته، ثم أصابه الحدار، كما أصاب فخذ يعقوب من قبل.
وفي عدد 24 يوليو نشرت في المشير جواب الدكتور شميل على كتاب أرسلته إليه أسأله فيه إذا كان حاقدا علي، وأسأله أن ينجز المقالة، وهذا نصه:
مصر، في 18 يوليو سنة 1899.
حضرة الفاضل صاحب المشير المحترم.
أخذت كتابك. أما أنا فغير حاقد عليك لسرقتك لي، والسرقة جائزة إذا لم تكن مضرة، وإذا نفعت مع ذلك فهي لا تعد جريمة كما يعدها القانون المفتون به أناس كثيرون، ولكنني أنا لست به بمفتون. فإذا كانت سرقتي، كما تقول، قد أفادتك شيئا فأنا لم تضرني بشيء. أما طلبك تتمة المقالة المسروقة، فأنت تعلم أن ما وصلت يدك إليه منها إنما هي مسودة كتبت على نية التنقيح والإتمام، ثم فاجأني الداء فقطع حبل أفكاري، ولم أستبل منه إلا من بضعة أيام، ولكني أراني به قد رددت إلى عالم الحقيقية، وصرفت عن عالم الأحلام. فأنا الآن منهمك بالماديات، ولا أدري متى يجوز لي الاشتغال بالروحانيات. فإجابة طلبك ليست ميسورة في الحال، ولا أستطيع أن أعدك به في الاستقبال، ولا سيما أن مصارعة الآلهة ليست بالأمر السهل. وها أنا شاهد من بعد، ويعقوب شاهد من قبل؛ على أني وإن طمعت بحلم الآلهة، فلا أطمع بحلم البشر؛ ولذلك جاء في الأمثال: «ليس كل ما يعلم يقال، ولا كل ما يكتب ينشر.»
3
فها قد بسطت لك أمري، فاقبل عذري.
الدكتور شبلي شميل
المقالة الرابعة والعشرون
الانتحار:
1
بحث اجتماعي بسيكولوجي
لقد تعددت حوادث الانتحار في هذا القطر في الأيام الأخيرة، خصوصا في الإسكندرية ومصر، حتى خيف من انتشار هذه الآفة الاجتماعية بالاقتداء بين شبابنا الشديدي التأثر القليلي التبصر، كأنها مرض ينتشر بالعدوى.
بل هي مرض حقيقي من أمراض الاجتماع. فالاجتماع كما وصفه بعض علماء السوسيولوجيا، جسم يشبه جسم الحي في تكوينه ووظائفه وأطواره، وله نظيره أمراض تشبه أمراضه بأسبابها ونتائجها وطرق انتشارها، والفرق بينهما نسبي فقط في كبر الجسم وطول العمر. فالاجتماع حيوان هائل، وألوف السنين ليست بالشيء الكثير في حياته.
والبحث في أمراض الاجتماع هو بحث بسيكولوجي سوسيولوجي، يتناول البحث في قوى العقل وأميال النفس، والأسباب الاجتماعية التي تؤثر فيهما، غريزية كانت كالوراثة العامة الراجعة إلى الاجتماع نفسه والخاصة المتعلقة بالأهل، أو مكتسبة كالتربية البيتية والمدرسية ونوع التعليم؛ مما يجعل هذا البحث وعر المسالك.
فالانتحار مرض من أمراض الاجتماع يهم المجتمع الإنساني بأسبابه ونتائجه، فهو ينزع من هذا المجتمع أعضاء هم غالبا في مقتبل العمر، والموجود مهما يكن خير لهذا المجتمع من المفقود، خصوصا إذا عرف المجتمع بشرائعه أن يستفيد من قوى هذا الموجود النافعة؛ لأن الإضرار بهذا المجتمع ليس من أصل الطبع في نظام هذا الكون، بل من الأمور العارضة بالنسبة إلى تطبيق الوضع على الطبع. فالانتحار مرض عارض لعدم تطبيق الموضوع على المطبوع وأسبابه في نظامات هذا الاجتماع وتعاليمه.
فالإنسان ليس كائنا واحدا في جسمه وطباعه وعقله وأخلاقه، بل هو ابن الفطرة وابن المكان والزمان أيضا. فالإنسان الفطري ليس لنا مثال يمكننا من وصفه وصفا ثابتا، وغاية ما يقال فيه إنه معد إعدادا تاما لقبول تأثير المؤثرات فيه، طبيعية كانت أو أدبية. ولا يمكن لنا ذلك ولو رددناه إلى الحيوان؛ لأنه في هذه الحالة أيضا يبقى متأثرا ولو لعوامل المكان. إنما بالتجريد يمكننا أن نتخيله بصفاته البسيطة الشاملة لعامة هذا الكون، وأول هذه الصفات فيه حب الذات، وأبسطه، أي حب الذات، ما كانت الغاية منه المحافظة على الحياة. فالإنسان الفطري هو إذن محافظ على حياته المادية لا ينوي لها شرا، ولا يبغي بها بدلا. فالانتحار ليس من طبع الإنسان، ولا هو من طبع الحيوان، وما نسب إلى بعض الحيوان من ذلك على ندرته لا يجوز أن يحسب من هذا القبيل، وأكثره عن جنون حقيقي يصيب الحيوان كما يصيب الإنسان، وقتل النفس فيه نتيجة لا غاية مقصودة، كما هو في الانتحار.
بل لو بحثنا في طبقات البشر السفلى التي هي أقرب إلى الفطرة لم نجد ما يحملنا على الخروج عن هذا المبدأ؛ فالإنسان المتوحش إذا أوذي بمصلحته أو عورض في إرادته، يحاول أن ينتقم لنفسه لا بقتل نفسه، بل بقتل من حال دونه وتصدى لإيذائه. وإن خاف على حياته من خصمه، ولم يجد مفرا لنجاته من يده؛ يفضل أن يقع صريعا وهو يدافع عنها أملا بالنجاة وطلبا للانتقام، من أن يقتل نفسه بيده.
فالانتحار ليس في صفات الإنسان الفطرية ما يحمل عليه، ولا هو معروف عند الإنسان المستغرق في الهمجية، بل هو طارئ عليه من نوع التربية والتعليم. ويلزمنا أن نصعد إلى عصور الجاهلية الفاصلة بين عصر التوحش وعصر التمدن، بمعنى أنها آخر الأول وأول الثاني؛ حتى نجد بعض حوادث منه من وقت إلى آخر بعيد، وفي ظروف خصوصية نادرة. فلا يخفى أن الصفة الأولى التي تنبهت في الإنسان في هذه العصور، أي عصور الجاهلية، هي الأنفة؛ ولذلك كانت حوادث الانتحار في هذه العصور مقتصرة على أمر واحد ليس فيه شيء من صغر النفس أو قلة العقل كما نرى اليوم، كأن يقع الإنسان في أسر عدوه، أو يخشى الوقوع في أسره وقد سدت في وجهه سبل الدفاع، وهو هالك في الحالين، فيفضل أن يقتل نفسه بيده ليحرم عدوه من لذة الإيقاع به، وهو في كل ذلك لم يتخط حب الذات؛ فمدافعته عن نفسه يحمله عليها حب ذاته، وقتلها بيده لئلا تهان بيد عدوه، يحمله عليه حب ذاته أيضا.
ثم جاء عصر التمدن بما خالطه من التعاليم المتباينة والمبادئ المتناقضة، من اجتماعية ودينية وأدبية، فقوى في الإنسان عواطف وأمات عواطف وحول عواطف؛ فقوى في الإنسان الخيال، وأضعف فيه الثقة بالنفس والاعتماد عليها، وصرفه عن الحال بالمآل، فصغرت الحياة الدنيا في عينيه حتى احتقرت الحياة المادية، وعظمت الحياة الأخرى حتى صارت تفضل عليها الحياة الأدبية.
ولم يقتصر الإنسان على بسيط هذه المبادئ، وإلا لم يكن الشر عظيما، خصوصا إذا كانت النتائج متفقة معها، بل وقع تناقض كلي في تربيته وتعاليمه. فبعد أن بذلوا الأبدان إلى حد التقشف، ورفعوا الآمال إلى مقام الأماني؛ عادوا فرفهوا الأبدان إلى حد الترهل، مع التصرف بالمبادئ الأدبية بما لم يضعف من قوتها، بل حول وجهتها وأفسد غايتها، فضعف الجهاز العصبي المستولي على العواطف بالتربية المرهلة للأبدان، وتمادي العقل في الخيال حتى تناهى في الضلال، وكثر التناقض بين الحياة النظرية والحياة العملية، فكثر الانتحار بين الموسرين؛ لأسباب أدبية تهيج بها العواطف، متطرفين فيما تربوا عليه من أن قتل الآمال لأشد من قتل الأجساد. وكثر بين الفقراء لأسباب اجتماعية تضيق عليهم المذاهب، فعمدوا إليه متعزين بقول الشاعر:
والموت أطيب من حياة مرة
تقضى لياليها كقضم الجلمد
ولا يفهم من ذلك أن الانتحار من آفات التمدن بدليل ما نراه اليوم، بل التمدن الصحيح ينبغي أن يزيل أثره بالكلية من المجتمع البشري بإصلاح التربية وتقويم المبادئ، بل هو من آفات تمدننا الحديث؛ لما فيه من النقص والتذبذب في كل شيء. فنحن حقيقة في دور من أدوار ارتقاء الإنسان، ينبغي أن يعد في تاريخ المجتمع البشري طور الانتقال. فنحن في هذا الطور لم نبق على همجيتنا البسيطة، ولم نبلغ مقام التمدن الصحيح. ولقد مر علينا في هذا الدور قرون ونحن نتقلب متذبذبين بين الوقوف والتقهقر واستئناف السير، وسيمر علينا قرون كثيرة أيضا قبل أن نبلغ هذا المقام. وأدوار الانتقال في حياة الجموع كما في حياة الأفراد شديدة الخطر؛ فكما أن الخطر على حياة الأفراد يشتد في طور انتقال الطفل من الرضاع إلى الفطام وفي التسنين، هكذا الخطر يشتد على حياة الجموع في انتقالها من طور إلى طور، وكثيرا ما يعرض لها في هذا الطور ما يوقف سيرها ويوجب تقهقرها. وتاريخ الاجتماعات البشرية مشحون بالأدلة على أن هذا الوقوف وهذا التقهقر حصلا لها في حياتها مرارا عديدة، فاضطرت أن تستأنف السير. والله يعلم ما يلزم لذلك من الزمان الطويل.
ويطول بنا الشرح لو أردنا أن نبين أوجه النقص في تمدننا الحديث، الذي نتباهى به اليوم كأنا بلغنا به القدح المعلى، وما يعترضه من المخاطر التي يخشى منها على حياة العمران، مما يوجب وقوفه وتقهقره أحقابا طويلة. ولا نطيل الوقوف على هذا التمدن «النيئ» في حياة الأفراد في حركاتهم المصطنعة التي ليس فيها شيء من الرجولة، التي هي منتهى الأدب الحقيقي، كأن يثبت الإنسان رجليه على أطراف قدميه، ويحني رأسه إلى الأمام، ويبرز بعجزه إلى الوراء، ويبسط كفه لا إلى حد العطاء، ويضم أصابعه مبالغة في العياقة، ويمد ذراعيه على زاوية، لا هي بالمنفرجة ولا هي بالقائمة، ويثبت كتفه كأن بها حدورا تؤلمها الحركة؛ يظن بذلك أنه بلغ منتهى الكياسة، وما بلغ به إلا انحطاطه إلى مقام أجداده القرود. أو كأن يقف صنما على كلتا قدميه، ويثبت ساقيه، ويأخذ بعجزه، وجزعه يطول ويقصر، وينحني وينبسط، باسطا كفه بسط المستجدي، مادا يده إلى الأرض، ورافعها إلى رأسه وفمه، مكررا ذلك بسرعة تخطف الأبصار، كأنه يغرف بها شيئا من أحد طرفيه ليضعه في الطرف الآخر، وما يغرف بها إلا جهله ليدل به على قلة عقله (إشارة إلى السلام الإفرنجي والتركي).
وهذا التصنع الذي يعده بعضهم من التمدن، ويا حبذا التوحش عنده، لا يقتصر على حركاتهم فقط، بل يتناول حديثهم ومعاملاتهم وصداقتهم، إن صحت أن تسمى صداقة، وسائر آدابهم. فجميعها لا يتجاوز حد التكلف، ومبدؤهم فيها التبطن، على حد قول المثل الفرنساوي: «جعل الكلام لتضليل الأفكار.» أو على حد قول الشاعر العربي:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلب
ولا يخفى ما في ذلك من الرخاوة العديمة الطلاوة، ومن النقص في الآداب الخصوصية والعمومية معا، ومن إفساد أخلاق المجتمع البشري عموما. وأقل أضرار ذلك التضليل لفقد الحرية الدالة على الشهامة وعلو النفس.
وإذا نظرنا إلى هذا التمدن المشحون بالمبادئ المتناقضة في حياة الجموع، تبدى لنا هذا النقص جليا في نظاماته وأحكامه وتعاليمه؛ مما يجعل الخطر على التمدن الحقيقي من الوقوف والتقهقر شديدا جدا. فلولا هذه النظامات الناقصة والأحكام الفاسدة والتعاليم المضللة، لما رأينا المئات من الألوف يذهبون جوعا وبردا وقتلا بالسيف والأمراض، ولما رأينا هذا التأفف من الهيئة الاجتماعية بسبب ذلك، وهذا التحفز منها لقلب هذه النظامات؛ انتقاما للضعيف الرازح تحت عبء الظلم من القوي السابح في بحور الغرور. ولا يخفى ما في ذلك من الخطر على المجتمع نفسه، ولا نظن أن عصرا من العصور بلغ فيه توتر العلاقات التي تربط أعضاء هذا المجتمع بهذه النظامات مبلغه في هذا العصر لاتساع الفهم. فإما أن تنقح هذه النظامات إلى ما يكون أصلح للحال، وإما أن تقطع رباطاتها لزيادة الشد، فيقع المجتمع في أواخر هذا القرن، أو أوائل القرن القادم، في هرج لا تذكر معه ثورة أواخر القرن الماضي بشيء.
وقد يتوهم القارئ أن إسهاب الكلام على التمدن الحالي ونظاماته وتعاليمه وسائر آدابه، كما تقدم، خروج عن الموضوع وغلو في النظر. والحال أن اعتبار ذلك أمر لازم في مثل بحثنا؛ لأن أسباب انتحار الأفراد تمتد أعراقها إلى أصل المجتمع البشري، وتتخلل كل طبقاته؛ فآداب الأفراد من آداب الاجتماع، وأخلاقهم من أخلاقه، وقواهم العقلية وعواطفهم من قواه العقلية وعواطفه. فالاجتماع مسئول عن كل ضعف يظهر في الأفراد. ولا شك أن الانتحار ضعف في العقل يجر إلى صغر في النفس، سببه تقوية بعض العواطف بسبب التربية، وإماتة البعض الآخر وتحويلها إلى غير وجهتها الحقيقية بالتعاليم المتناقضة، وعدم انطباقها على العمل.
فبهذه التربية التي يفرط فيها أصحاب اليسار في البيوت والمعلمون في المدارس، والتي يفرط فيها أصحاب العسر كذلك؛ يرهل البدن وتضعف أعصابه، فيصير سريع التأثر؛ ولذلك كان يكثر الانتحار في سن الصبا ما بين خمس عشرة سنة وخمس وعشرين سنة؛ إذ يكون الجسم رطبا رخصا؛ فالتربية البيتية تضعف البدن بالترفه، والتربية المدرسية تقوي العواطف، وتفسح المجال واسعا للخيال إلى حد الضلال، مع عدم مراعاة تطبيق ذلك على المعاملات. فيخرج الشاب من بيته ومن المدارس، وهو على هذه الحال من وهن المبادئ، إلى المجتمع البشري، حيث يصادف كل شيء على عكس ما قد تربى، وضد ما قد تعلم. فتشتد فيه الانفعالات، وتعظم عليه الصعوبات. ولا سيما إذا كان ممن قد تعلق على قراءة كتب المجون، التي يبالغ أصحابها في تجسيم ما بني على المخيلة وتعظيمه مع بعده عن الواقع، حتى يصبح الإنسان اثنين متناقضين؛ إنسانا بالوسط الذي يعيش فيه، وإنسانا بما تربى عليه. فيصير بذلك متأثرا لأقل سبب وأحيانا لغير داع. وكتب المجون هذه شديدة الضرر في تهييج عواطف الإنسان. على أن نهج بعض الكتبة فيها في أواخر هذا القرن النهج الطبيعي لتقرير الحقائق كما هي، خطوة حميدة ستقلل الضرر الناشئ عنها.
والانتحار يكثر في الأحداث لأسباب عشقية تسهل مداواتها ومعاكسات لا تصعب ملافاتها، لو كانوا أقوم تربية وأكثر خبرة؛ ولذلك هو يقل جدا بعد سن الأربعين. وإذا حصل حينئذ فلغير هذه الأسباب؛ لأسباب يزعمون أنها تمس الشرف، كما لو تورط إنسان مستقيم لزلة قدم، فاستعمل مالا ليس له بناء على أن يرده لصاحبه بعد أن يصلح زلته، فيبدد المال ولا ينهض من عثرته، ويخشى افتضاح أمره، فقد يقتل نفسه؛ أو وقع في مرض عضال تأكد عدم شفائه، ولم يعد يطيق عذابه، فقد ينتحر فرارا من العذاب، وإذا كان للانتحار مسوغ فربما كان هذا الأخير، أي المرض، أصدق مسوغ له.
وفلسفة الانتحار يختلف تعليلها بحسب الأسباب والسن؛ ففي العشق يقصد المنتحر التخلص من عذاب ليس في طاقته احتماله، وربما قصد بانتحاره إرضاء حاسة وهمية، هي قهر الحبيب إذا كان يعتقد أن حبه شاغل مكانا من قلبه، أو كان يعتقد فيه وجود عاطفة الشفقة فقط، وقلما ينتحر لمعشوق يعتقد فيه الخلو من هاتين العاطفتين أصلا. وفي معاكسات الأهل يقصد تكديرهم، كأنه ينتقم لنفسه منهم على عدم مجاراتهم له في أهوائه. وأما الذي يبذل حياته صونا لشرف نفسه، فيقصد بذلك ترضيتين؛ إحداهما تخليص وجدانه من عذاب ما تجلبه عليه الإهانة. والثانية تلطيف هذه الإهانة بما يظن أنه يهيئ لها من الأعذار لدى الجمهور.
والمنتحر ليس بمجنون حقيقة، كما ربما يظن البعض، لأنه في انتحاره يعقل؛ أي إنه يفعل أفعالا مغياة لا تخرج كلها عن حب الذات. فإذا بذل حياته المادية فلاعتقاده أن الحياة الأدبية أفضل، أو لأن عذابه تجاوز حد طاقته، أو لأسباب أخرى ذاتية. والدافع له إلى ذلك ضيق في العقل وصغر في النفس للأسباب الاجتماعية السابق ذكرها. ولو أصلحت تربيته على المبادئ المتينة، لعلم أن الشرف الحقيقي لا يكون بقتل النفس، ولو بعد زلة كما يظن من لا حزم عنده، وتساعده التربية الاجتماعية، بل بمصادمة الطوارئ بعزم ثابت وجأش قوي، لعله يستطيع، ولو في المستقبل البعيد، أن يعوض على من أضاع عليه متاعه، وإلا فيكون قد جاهد جهاد الأبطال، ولم يمت موت الأنذال. وإن الشهامة التي يزعم الأحداث أنهم يأتونها بانتحارهم لمعشوق زاد دلالا، أو قهرا لأبوين لم ينيلاهم منالا؛ ليست شهامة، بل الشهامة في تلقي الصعوبات بصدر رحب وقلب لا يهاب؛ للتغلب عليها.
وأما الانتحار الذي يكون سببه الفقر، فما الباعث عليه إلا ضيق المذاهب على الإنسان، فتقل حيلته في تحصيل رزقه، وفطرته لا تساعده على ما عدته الهيئة الاجتماعية جنايات. فهو لا يجد من نفسه ميلا للسرقة أو اللصوصية، فتصغر همته بإزاء الصعوبات الكثيرة، فيطلب النجاة من الذل بالموت.
والانتحار هنا يكون غالبا مقرونا بالقتل، فيقتل الرجل معه امرأته وأولاده، كأنه يريد أن ينجيهم مما هو واقع فيه، معتقدا أنهم يشعرون شعوره في مركزه. وربما حملته محبة نفسه عن شعور مبهم على ألا يدع نفسه يترك هذه الحياة من دون شريك له في مصابه، فيعمد إلى قتل من هم أقرب إليه، وقتلهم أسهل عليه. والمسئول في هذه الجناية الفظيعة نظامات الهيئة الاجتماعية بلا ريب. وربما وضعنا مقالة في فرصة أخرى أبنا فيها كيف يمكن ملافاة نقص هذه النظامات بما تقل معه مصائب الإنسان، ولا يخرج عن حد الإمكان في هذا الزمان، حتى لا يظن قصار النظر أننا نهيم في الأوهام، وأن مباحثنا أضغاث أحلام، وحتى يتضح لهم أنهم هم أنفسهم ليسوا في يقظة بل في منام.
المقالة الخامسة والعشرون
رجال الغد
1
إذا شئت أن تعرف مستقبل أمة فابحث عنه في أطفالها؛ فهم نتاج الماضي وعنوان المستقبل. ابحث عنه في صحتهم وفي تربيتهم وفي تعليمهم، من يوم يحبل بهم أجنة إلى يوم يولدون ويربون في حجر أمهم، إلى يوم يخرجون من المدارس وينضمون إلى الهيئة الاجتماعية أعضاء عاملين.
فعلى صحتهم وكثرتهم يتوقف نمو الأمة، وعلى حسن تربيتهم وتعليمهم يتوقف نجاحها؛ فالأم أول عامل يؤثر في الطفل وأهمه، وتأثيرها فيه أشد من تأثير الأب؛ فهي تغذيه من دمها أشهرا، وتسقيه لبنها أشهرا، وتربيه في حجرها سنين. وما يكتسبه الطفل من أمه بالإعداد الطبيعي والتربية الأدبية والتعليم العقلي قد لا تقوى عليه المؤثرات اللاحقة، ومهما قويت فلا تزيل أثره.
تصور أما حمقاء لا تعرف من قوانين الصحة إلا الأكل حتى على الشبع، ومن أدب التمدن إلا البهرجة والتزين بالحلي العاطلة، وهي عاطلة من حلي الآداب الحقيقية، ومن العلوم غير ما تقوى به الأوهام، وتفسد معه الأحكام. عقلها أوسخ من بدنها، تدفع العين عن طفلها بالقذارة، وتمنعه عن إتيان ما لا يجوز بتخويفه بالغول والبعبع، بعد الأب والطبيب، وتدفع به بعد أن تغذيه بدم الجهل وتسقيه لبن الحمق إلى مرضع لا تفضلها في شيء من هذا القبيل، وتنقص عنها في فقدان الحنو الوالدي الذي هو من العواطف التي تؤثر في اللبن تأثيرا عصبيا، وتكيفه تكييفا حسنا يستمرئ به الرضيع. فماذا تكون حالة هذا الطفل المسكين صحيا وأدبيا وعقليا؟ لا شك أنها تكون رديئة جدا.
ثم قابل هذا الطفل بطفل أم هي على نقيض ما تقدم؛ عاقلة، متهذبة، متعلمة، متحلية بالآداب الصحيحة، عالمة أن نبلها قائم ببساطتها في معيشتها لا ببهرجتها، وأن جمالها قائم بترتيبها ونظافتها، لا بطلي وجهها. ليس للأوهام عليها سلطان يدفعها إلى الاستمساك بالخرافات، وزرعها في رأس طفلها حتى يشب على الاعتقادات الفاسدة والأحكام الباردة، بل تربيه تربية تجعل عقله حرا غير مقيد بقيود الجهل والأوهام، تحافظ على صحته بالمبالغة بنظافة جسده وملابسه، والاعتناء بطعامه وشرابه، ونقاوة هواء غرفته، متحاشية التأنق الذي يجر إلى الرفاهة المرهلة للأبدان والآداب، حافظة له شيئا من الخشونة الجائزة المقوية للأجسام والأخلاق.
فإن مثل هذا الطفل يشب صحيحا أديبا عاقلا، ليس فيه شيء من ميوعة المترهلين أو خشونة الجافين، متحليا بالرجولة التي هي من صفات الحازمين، مقداما ولو زلت قدمه، جليدا ولو خارت هممه، سخيا ولو نضبت كفه، كريم الأخلاق، يملكه المعروف ولا يلتئم للمتلوف، يعذر حيث يجب العذل، فللجهل عذر لا يفوت ذوي الفضل:
كريم يقيم العذر في موضع العذل
فللجهل عذر لا يفوت ذوي الفضل
إذا ما رأى المعروف في بذل نفسه
جفاها ولم يقبل فداه سوى البذل
والحكم بين الطفلين كالحكم بين الأمين لا يقبل التردد، وهذه النسبة تختلف بين أطفال أمة واحدة لاختلاف الأمهات، والغلبة حينئذ للأكثرية، كما أنها تختلف بين أطفال أمة وأمة، والغلبة هنا للأمة المتمدنة. فإذا خرج الطفل من حجر أمه إلى المدارس صادف هناك عقبات كثيرة، كثيرا ما تهدم جسمه وتطفئ نور عقله، من سوء المعاملة في التربية وفساد التعليم. وهذه المسألة المهمة جدا في مستقبل الطفل ومستقبل كل أمة تحتمل بسطا واسعا إذا أردنا الإلمام بكل أطرافها، والمقام لا يحتمل ذلك، فنقتصر فيها على كلام إجمالي يكون تمهيدا للتوسع في هذا البحث لمن أراد. ولا نطيل الوقوف على المدارس الصغرى؛ فإن عدمها أفضل من وجود كثير منها، ونحصر كلامنا في المدارس الكبرى. فنقول إن التعليم على ما هو شائع، وخصوصا في مدارس المشرق؛ ناقص جدا، فنظام المدارس في التعليم والتربية قديم لا ينطبق في جملته على احتياجات العصر ومقبولات العقل وسنن الارتقاء؛ فالأسباب الصحية مهملة في أكثرها للغاية، من حيث نظافة الهواء والماء والمأكل والملبس. فإن القائمين بهذه التربية أكثرهم لا يعتنون بذلك، وربما عده بعضهم من الأمور المخالفة للمبادئ القائمين بتأييدها، فعدوا القذارة نوعا من التقشف الفضيل، والنظافة إفراطا في الترهل الذميم. وكثيرا ما يكون ذلك سببا لأمراض تؤدي إلى الموت بعد الاعتلال. خذ مثلا لذلك من أمثلة كثيرة، وهو مثال السكين والملعقة والشوكة التي يستعملها التلامذة في طعامهم؛ فإن كثيرا من المدارس حتى اليوم لا يسمح بغسل هذه الأواني إلا مرة في كل أسبوع.
والتربية ناقصة كذلك، وأكثر القائمين بها أناس يجهلونها، فيعدون العقاب ومعاملة التلامذة بالخشونة والقساوة من القواعد الأساسية، ويساوون فيها بين العموم، لا يفرقون بين تلميذ وتلميذ، جاهلين الحكمة من قول الشاعر:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
أي إن استعمال العصا حيث يمكن الاكتفاء بالتوبيخ اللطيف مضر كاستعمال هذا في موضع ذلك. والأمثلة على ذلك كثيرة، وكل واحد منا في وسعه أن يذكر كثيرا منها. وأروي لك مثالين وقعا لي في مدرستين متباينتين في التربية، وبينهما فترة طويلة؛ أحدهما: أني كنت ذات ليلة قبل ميعاد النوم واقفا مع صفي في مكان مكشوف للهواء، وفي أيام الشتاء، فخانني الصبر من طول الانتظار، وقرصني البرد، فتأففت من ذلك طالبا العجلة، فلم يرق ذلك في عيني الملاحظ علينا، وكأن رجلا أحمق اسمه الأب بيانكي، أحق به مستشفى المجاذيب من مدرسة يتولى تربية الصغار فيها، فعاقبني للحال عقابا أوسخ من عقله، فاعترضت فشدد العقاب، فرضخت للظلم لصغر سني وضعفي، وحفظت الغل في قلبي حتى اليوم، ولو كان لي حينئذ قوة تمكنني من الدفاع عن نفسي لنتفت ذقنه شعرة شعرة.
ثم وقع لي بعد ذلك بسنين في مدرسة أخرى ما أخجل أنا نفسي من ذكره؛ فإني طلبت يوما وأنا على المائدة طعاما غير موجود، وكان ذلك جائزا لنا، فأباه العشي علي، فغضبت لذلك جدا، وقمت من عن المائدة، واندفعت إلى المطبخ كالآلة العمياء، وتناولت الشيء الذي طلبته، ثم رميت به إلى الأرض ودسته تحت قدمي، ثم رجعت إلى مكاني وأنا أنتظر العقاب على ذلك، وأقله الطرد، وكان للمدرسة رئيس من أفاضل الرجال، عاقل حكيم اسمه الدكتور بلس، أطال الله بقاءه، فأبلغوه الأمر، فكأنه نظر إلى سوابقي الحسنة، وربما راعى اجتهادي في الدرس كذلك، فأمهلني يومين ولم يقابلني، وأنا أنتظر من دقيقة إلى أخرى أن يطلبني. فلما كان اليوم الثالث كنت في ساحة المدرسة وحدي، فرأيته مقبلا علي وبيده كتاب، فجمدت في مكاني، وعلاني اصفرار الوجل، وخفق قلبي، فلما دنا مني تبسم ومال إلى أذني كأنه يريد أن يسر إلي أمرا، وقال لي بصوت منخفض: «إذا غضبت مرة أخرى فلا ترتب على غضبك عملا إلا بعد أربع وعشرين ساعة.» وتركني. فبقيت جامدا في مكاني لا أتحرك، وعلاني احمرار الخجل، واستولى علي الدوار، ولا أعلم كم بقيت في هذه الحالة لا أنتقل من مكاني، وإنما الذي أعلمه أنني اعتبرت بهذا العقاب كثيرا، وحسبته أشد من الضرب والطرد، وأدعى إلى الإصلاح.
وأي قساوة وحشية تفوق ما أرويه لك عن معاملة المعلمين للتلامذة في بعض هذه المدارس الكبرى؟ فإني يوم كنت تلميذا وسني بين 11 و12 سنة، كان ملاحظ غرفة منامتنا كلما رأى تلميذا مكشوفا وهو نائم يوقظه بضربه بعصا رفيعة على رجليه عوضا عن أن يغطيه كما كان يفعل أبوه أو أمه، مع أن عمل الضرب لا يوجب على حضرته صرف قوة أقل مما يوجب عمل التغطية، فماذا يفعل هذا الطفل المسكين القاصر عن معرفة الجائز وغير الجائز، وعن معرفة متى يكون مسئولا ومتى لا يكون، إذ يرى مثل هذا الوحش المتولي أمر تربيته يفعل ذلك، سوى أن يقوم في اعتقاده أن تكشفه في نومه ذنب لا يغتفر، ولكنه ذنب ليس في طاقته أن يجتنبه؛ فتقل ثقته بنفسه، ويقع في رعب قد يؤدي به إلى الخمول. وأذكر أني كي أتقي هذه المعاملة الوحشية عمدت إلى اللحاف وثبته في السرير، ثم فتقت ملحفته، وصرت أدخل جسمي بين اللحاف والملحفة كأني في كيس، ولكني كنت حينئذ كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ فقد اتقيت بهذه الحيلة عصا الرقيب، ولكني وقعت بين أنياب البق؛ لأن مسامير اللحاف، كما يسمونها، كانت ملآنة بقا.
ولذلك ينبغي أن يكون المعلمون من الذين تربوا جيدا، وبرعوا في علم الأخلاق؛ حتى يدرسوا طبائع كل تلميذ، ويعاملوه بحسب طبيعته. وينبغي أن يكونوا كذلك من النبهاء؛ ليلاحظوا ميل كل تلميذ وقابلية عقله؛ ليردعوه عن الفاسد، وينشطوه في الاستعداد الحسن. والأكثرون لا يفهمون مقدار الضرر الناشئ عن عدم مراعاة ذلك؛ فإن عقولا كثيرة من أذكى العقول ينطفي نورها كل سنة في المدارس من سوء المعاملة، ومقاومة أميال العقل. ولا ريب عندنا أن المستقبل سيجعل فن سياسة الأطفال فنا قائما بنفسه، تؤلف فيه المؤلفات، ويتلقنه المعلمون في مدارس خصوصية تجيز لهم التعليم، كما يفعل اليوم للأطباء والمتشرعين.
أما التعليم في المدارس فقسمان: العلوم الأدبية، والعلوم الطبيعية. أما العلوم الطبيعية، ويدخل تحتها العلوم الرياضية، فلا يعترض عليها؛ لأنها واحدة في كل المدارس، وهي من أصدق العلوم، وتأثيرها في العقل جيد جدا؛ إذ تربيه على القياس الصحيح.
أما العلوم الأدبية فواسعة جدا، ويدخل تحتها علوم اللغة، لا من حيث وضعها ونشؤها؛ فإن ذلك من المباحث الطبيعية الحسنة والمهملة في المدارس، بل من حيث تعليلها. والمنطق والفلسفة العقلية، وعلم الآداب والسياسة واللاهوت، إلى غير ذلك من اجتهادات العقل وأوضاعه، ففيها كثير من المبادئ التي يدخلونها في رءوس التلامذة قسرا كأنها قضايا مسلمة، وكثير منها ما يكون مغلوطا. ويربون العقل عليها حتى يفقد ما له من القوى الذاتية، ويصبح كأنه مصنوع على قالب معلوم، وناهيك بهذا المصنوع المبني على المغلوط. وبعد أن يصنعوه على هذه الصورة يفرغون فيه العلوم، حيث تبقى فيه عقيمة أو تظهر بمظاهر متناقضة؛ ولذلك كان أكثر الذين يقيمون في هذه المدارس زمانا طويلا، ويدرسون دروسها القانونية، يخرجون منها متعلمين كثيرا، ولكن فاقدين كل امتياز ذاتي في عقولهم. وأكثر الناس الذين امتازوا بخاصة ذاتية في عقولهم هم من الذين لم تسمح لهم الأحوال، إما لمرض وإما لسبب آخر، باتباع هذه الدروس القانونية على النسق المعول عليه في أكثر المدارس، ونجوا بذلك من الوقوع تحت سلطان هذه التربية العقلية.
فالمدارس لا يجوز لها أن تضغط على العقول لتصنعها على قالب معلوم، وتضيق عليها المذاهب، بل يلزم لها أن تعدها إعدادا عاما، وتوسع لها المنافذ حتى يسهل عليها التصرف في العلوم التي تعلمها، والبحث في جميع الأشياء التي تعرض لها.
وبين المدارس الموجودة بيننا فرق عظيم في ذلك، وأفضلها ما هجر الخطة الأولى، وكان أقرب إلى الخطة الثانية. والفرق بين تلامذة المدرستين واضح، وأرجحية الجانب الواحد لا تحتاج إلى بيان، ولو كانت حكومات المشرق من الحكومات المرتقية لاهتمت بهذا الأمر جدا على الأسلوب الذي ألمعنا إليه، والذي يحتاج بسطه إلى تفصيل طويل.
ولو كنت ناظرا للمعارف - لا أقول ذلك من باب التمني - لأكثرت التردد على المدارس، لا في الحفلات الرسمية للأكل والشرب والطرب على نغم الموسيقى، واستماع خطب المدح الباردة، ومبادلة العبارات الفارغة، بل للوقوف على أحوال التلامذة في أدق أمورهم؛ في مائهم وهوائهم وغذائهم ونظافتهم ومطبخهم وأسرتهم وملابسهم، فضلا عن طريقة تعليمهم، بل للوقوف على حال المعلمين من ذلك أيضا؛ فإني أذكر أن معلما من معلمي المدارس الكبرى حضر مرة للتداوي عندي، فلما كشفت لباسه الأسود كدت أتقيأ ما في معدتي من شدة سواد قميصه لشدة قذارته، فكيف يرجى ممن هو بهذه القذارة في جسمه أن يكون أنظف من ذلك في عقله، وأن يكون مرشدا لهؤلاء الأطفال إلى ما يصح به جسمهم ويذكو عقلهم وتسمو آدابهم؟
ولا ريب أن بعض المدارس أصلح من البعض الآخر في هذه الأمور، وأن كثيرا منها اصطلح جدا عما كان عليه من عشرين سنة، خصوصا في أوروبا، إلا أن البعض الآخر لم يزل كما كان عليه من عهد أربعين أو خمسين سنة، خصوصا في سوريا ومصر من البلاد التي يهمنا التعليم فيها. والإصلاح الذي حصل في المدارس في النصف الثاني من هذا القرن هو في جملته دون الممكن ودون المطلوب، خصوصا إذا قسناه بالإصلاح الذي حصل في المستشفيات والفنادق. ولا ندري كيف تصبر الهيئة الاجتماعية والحكومات المتمدنة على ذلك مع علمها أن هؤلاء الأطفال هم رجال الغد؟ فعلى صحة أبدانهم يتوقف نماء الأمة، وعلى صحة عقولهم يتوقف نجاحها.
وإهمال الرحمة بالأطفال بالغ الغاية القصوى في بلاد المشرق، وإذا ألقينا نظرنا إلى الأطفال في هذه البلاد خصوصا، ضاق علينا قاموس اللغة لوجود ألفاظ تعبر عما يجيش في النفس من الاحتقار لرجال الأحكام ولهيئة البلاد نفسها، ولا سيما بعد أن عدوا أنفسهم في عداد الحكومات والأمم المتمدنة يتقلدون كأنهم لا يعقلون، فيؤلفون الجمعيات للرفق بالحيوان، كأنهم استوفوا ما يلزم لنوع الإنسان، مع أن الحاجة إلى إقامة الجمعيات للرفق بالأطفال خصوصا في هذه البلاد أشد وأولى. فلا نظن أن العاهات التي تشوه الأبدان، والوفيات التي تذهب بالأرواح، بالغة في بلاد مبلغها في هذه البلاد. فالرفق بهؤلاء الأطفال من أول واجبات الأمة وواجبات الحكومة إذا كانتا تريدان أن تعملا عملا معقولا مشكورا، ولا أقل من أن تنشئ لهم المستشفيات الكافية.
ولا تستغرب أيها القارئ إذا قلت لك إن في كل من تركيا ومصر لا يوجد مستشفى واحد للأطفال؛ فالحكومة تعتذر من عدم وجود المال (إلا إذا شاءت)، وغالب أغنياء الأمة ليس فيهم من يفهم قوة هذه الأعمال؛ لجهلهم وقلة عقلهم، مع أن الذي أنفقته حكومة تركيا ومصر على سياحة إمبراطور غني، كان في إمكانه أن يسوح على نفقته وما تنفقه الأمة من وقت إلى آخر على الاحتفالات الصبيانية البليدة كان وحده يكفي لإنشاء مستشفيات تأوي فيها أطفال البلدتين معا.
والمضحك المبكي أن الحكومة والأمة اللتين لا تهتزان لهذا الأمر الجلل تنتفض أعصابهما رعبا لعمل مشجوب، يأتيه بعض الرعاع من وقت إلى وقت آخر بعيد، كالإيقاع بعظيم يسهل تعويضه لهوس تسهل مداواته، ويأس تسهل ملافاته، فتقوم قيامتهما، وتبثان العيون والأرصاد، وتأخذان البريء بجريرة المذنب، كأن القيامة قد قامت ويوم الحشر قد دنا. وأغرب من ذلك أن هذه الغيرة قد امتدت إلى جرائدنا في هذه الأيام، فقامت تجسم الأوهام، وتؤكد المزعوم، وتحذر وتندد وتنبه رجال الأحكام إلى خوف بعيد عنها قريب منهم. كأنهم أحرص منهم على حياتهم، وأشد استمساكا منهم بنظاماتهم، مع بعدها عن امتيازاتهم، منادية بالويل والثبور، ذارة الرماد على مسترسل سطورها، كأنها خافت على قصور أصحابها أن تنسف ، وأموالهم أن تسلب، وأرواحهم أن تنهب، وهم منها أفرغ من فؤاد أم موسى، حتى أرواحهم لم يبقوا على استقلالها مدفوعة بعوامل لا يصح أن تسمى الانعطاف؛ لأن هذه الحاسة النبيلة كثيرا ما تخونها في حوادث أشد من أعمال الفوضويين ضررا، وأكثر منه مساسا بهم، فكم نرى الحاكم الواحد يضحي مئات الألوف من النفوس والملايين من الأموال على مذابح الطمع والجهل، ولا تنبس ببنت شفة، فلو كانت هذه الحاسة الشريفة هي التي تدفعها إلى ذلك، لوجب أن تظهر فيها على نفس النسبة، وحينئذ لملأت العالم ضجيجا وعجيجا، فالحكمة تقضي في مثل ذلك أن يبحث عن السبب لملافاته من أصله. فالفوضوية والاشتراكية وكل الجمعيات المقاومة للنظام الحالي، بقطع النظر عن كونها صالحة أو غير صالحة، دليل على أن الهيئة الاجتماعية تشعر بتعب موجود حقيقة تقصر النظامات الحاضرة عن تداركه، فإصلاح هذه النظامات لإزالة هذه الأسباب أحق وأولى. وما إهمال تربية الأطفال الذين فيهم بحثنا من جانب هذه الهيئة والنظامات إلا سبب واحد من أسباب كثيرة اجتماعية داعية إلى تأفف الهيئة الاجتماعية.
فلعل جرائدنا تجد في هذا الموضوع ما يشغلها البحث فيه أشهرا وسنين فتفيد وتستفيد، وخصوصا نحن الشرقيين الذين نشعر بثقل وطأة الأجنبي، ونحاول التخلص منه؛ فهذا لا يتم لنا إلا إذا وجهنا كل قوانا إلى الاعتناء بأطفالنا الذين هم رجال الغد حتى نستطيع أن نناظر بهم من هم أرقى منا، وحتى لا نبقى بهم كما قال الشاعر:
صبياننا في القبح مثل شيوخنا
وشيوخنا في العقل كالصبيان
المقالة السادسة والعشرون
الاشتراكيون
1
قرأت مقالة في الاشتراكيين، وغاية ما فهمته من الانتقاد عليهم أن شكواهم من نظام الاجتماع فارغة ومطالبهم أفرغ، وهي على ما بها من الوهن غير واضحة حتى يهتدى بها.
وقائل ذلك لم يقل لنا رأيه في نظام الاجتماع نفسه كما هو اليوم، وكما كان في الأمس. والمتبادر إلى الذهن من سياق الحديث أنه حديث في العهدين. على أن نظام الاجتماع كما هو اليوم ليس الذي كان بالأمس، فهو اليوم أصلح نوعا منه في الماضي ليس في كله، بل في بعض المجتمعات التي عليها مسحة من التمدن، ونسميها نحن متمدنة، وإلا فهناك حتى اليوم مجتمعات كثيرة يود الإنسان لو لم يكن من أعضائها.
فلماذا تغير هذا النظام ويتغير مع الأجيال من أردأ إلى رديء، ومن رديء إلى حسن بالتدريج؟ وما هو الباعث على هذا التغيير؟ وما هو كذلك شأن مثل هؤلاء الناقمين على هذا النظام في هذا التغيير، فوضويين كانوا أو اشتراكيين أو مقلقين أو مصلحين أو فلاسفة إلى دعاة الأديان أنفسهم، على اختلاف منازعهم وحسب كل عصر؟ ولعل المدقق يوافقني على أن شأنهم في ترقية الاجتماع عظيم. وليس شأنهم هذا بالنظر إلى تعاليمهم ومبلغها من الصحة والموافقة، بل بالنظر إلى موقفهم تجاه الاجتماع؛ فإن هذا وحده كاف لإيقاظه ومنعه من التقهقر، وتمهيد سبل الارتقاء له.
ولذلك كان أول خاطر يجب أن يخطر للباحث المدقق عند ذكر الناقمين ليس الطرق التي يتذرعون بها، والخطط التي يسنونها لمقاومة نظام الاجتماع؛ إذ قلما نجد حينئذ اثنين متفقين، ولا ما يخامر بعضهم من المطامع، فالنفس أمارة بالسوء، وكل مصلح إذا استبد يحتاج إلى مصلح يصلحه؛ لذلك كان وجود الضد في نظام الاجتماع من أعظم مقومات الإصلاح، وكلما اشتد الضد اشتد التنازع واشتد التغير أيضا، سنة العوالم في نشوئها، بل الخاطر الذي يجب أن يخطر له هو: لماذا هذا القلق المستحوذ على الاجتماع، والذي لا يفارقه في كل أطواره، كما يدل عليه تذمر المتذمرين وثورات الثائرين في كل العصور؟ فلا شك أن السبب هو نقص نظاماته عن توفير الراحة له، وارتقاء العمران في الأجيال يدلنا على أنه يمكن إصلاح هذا النقص.
فإلى هذا يجب أن يتجه أولا خاطر الباحث المفكر والمصلح المدبر، عندما يسمع ذكر مثل هؤلاء الناقمين لا إلى شجبهم وتقريعهم وتسفيه تعاليمهم؛ مما يوهم لأول وهلة أن الاجتماع كما هو على هدى، وهم يدفعونه إلى الضلال. وإذا انتقدناهم فللتنبيه إلى ما قد يكون أصلح لفائدة الاجتماع، ولا يجوز لنا أن نرمي مطالبهم بأنها أضغاث أحلام قبل التثبت، فكم من مثل هذه الأحلام المزعومة في الماضي صارت حقائق رائعة اليوم! ولا أن نئول تعاليمهم على غير الحق إضعافا لها، فلقد طالما قال لنا خصوم مذهب داروين إن مذهبه يعلمنا أن الإنسان متسلسل عن القرد؛ أي إن القرد نفسه سيرتقي حتى يصير يوما ما إنسانا نظيرنا. والحال أن مذهب داروين لا يعلم ذلك، بل يعلمنا أن القرد والإنسان من أصل واحد، وأن القرد أقرب الحيوانات إليه.
كذلك خصوم الفوضويين والاشتراكيين وسائر الناقمين على الهيئة الاجتماعية، يقولون لنا بعد أن يوسعوهم من التقريع واللوم إن أكثر مطالبهم أحلام يمكن تحقيقها، ويجعلون في رأس هذه المطالب اقتسام المال - والمال أحب الأشياء إلى الإنسان - يريدون بذلك أن ينفروا الناس تضليلا لهم لئلا يهتدوا فتسوء مصالحهم؛ لأن مطلب توزيع المال بالسواء لو وجد في تعاليمهم كما يريده خصومهم لدل على سخافة ما بعدها سخافة. وكيف تمكن المحافظة على هذه المساواة لو أمكن هذا الاقتسام؟
فتعاليم رجال الإصلاح تتناول غاية أعظم، وتستند إلى مبادئ أرسخ، وكلها حقائق ممكنة، كما يدل على ذلك درس أحوال العمران في أطواره المختلفة، فكيف نطبق بين ارتقائه في العصور واعتراضنا على الناقمين، وهو عليهم واحد في كل العصور؟
فالمصلحون الاجتماعيون الطبيعيون يرمون في نظام الاجتماع إلى غرض طبيعي ممكن، هو توفير قوى هذا الاجتماع حتى لا يذهب منها شيء سدى، وحتى لا يبقى فيه أحد غير نافع ومنتفع معا. فهم يطلبون من الإنسان أن يفعل في نظام اجتماع الإنسان ما يفعلونه اليوم بقوى الطبيعة نفسها بتوفيرها والانتفاع بها، وهذا ما نسميه «ناموس الاقتصاد الاجتماعي الطبيعي». ولولا أن هناك أناسا نظريين ربما جاز أن يطلق على نظامهم «ناموس الاقتصاد الاجتماعي القانوني»، لما قلنا هنا «الطبيعي»؛ لأن الاجتماع في الحقيقة طبيعي، هو وكل نواميسه مستفادة من الطبيعة، فإذا رددناه إليها فإنما نكون قد رددنا الشيء إلى أصله ووضعناه في محله.
فهل في نظام الاجتماع اليوم ما تتوفر معه هذه الغاية؟ أم هل في شرائعه مع ما هي عليه من سخافة المبدأ وقلة الأحكام ما يؤملنا أن يبلغها في عهد قريب؟ ولا نستنصر الكثرة والشهرة؛ فالناس مهما عظمت مكانتهم على ضلال حتى يهتدوا. أفلا نرى أن القيام في وجه هذه النظامات واجب لزحزحتها عن مألوفها، ودفع الاجتماع في السبيل السوي لبلوغ الغاية منه؟ أم لا نرى الفائدة من وجود مثل هؤلاء الناقمين على نظام الاجتماع، وقيامهم على اختلاف منازعهم لمصادرته في نظاماته وشرائعه، تارة باللين وأخرى بالعنف، هذا بالترغيب وذاك بالإرهاب، هذا بالجحيم وذاك بالنعيم، هذا بمقاومة الجهل وذاك بنشر العلم؟ أو لا تروعنا مخاطرتهم بأرواحهم وتعريضهم مصالحهم للعبث بها، حتى لقد بلغ التحمس ببعضهم إلى حد الهوس، ولو أن لكثيرين منهم من وراء ذلك أحيانا كثيرة مطامع قريبة؟
فهل مثل هؤلاء يجوز لنا أن نسميهم كسالى لأنهم لم يحركوا سوى قلمهم، أو كبار البطون لأنهم يطلبون للاجتماع مرتعا أخصب، أو صغار العقول لأنهم يطلبون له مطالب تتراءى للجمهور في حينها أنها أحلام، ثم يرتقي الاجتماع فتبدو حقائق باهرة؟ بل ما القول في الفلاح الذي يحرث الأرض ويكد حتى يسمن سواه، وليس لخدمته من خدمة سواه له مكافئ؟ بل ما القول في ذلك الجندي الذي يسرح في النهار كالسائمة، ثم يرد في المساء إلى زريبته نظيرها، ولو عقل أكثر منها لما رضي ذلك لنفسه؟ أولا يظن أن الذود عن الأوطان حتى واكتساح البلدان يمكن بغير التجنيد على ما هو مألوف؟ ولا يخفى أن كلامنا في العمران عموما ككلامنا على نواميس الكون، لا على عالم من العوالم، وإلا اختل التوازن.
أنا لا أنكر أن الطرق التي يتذرع بها الناقمون أحيانا كثيرة مشجوبة، إلا أنه يظهر أن مثل هذا الهز لازم لإحداث التأثير المطلوب، وهو إيقاظ الغافل وتنبيه الفكر للبحث؛ بدليل أن نظام الاجتماع نفسه على ما هو عليه اليوم فيه من الفظائع ما هو مشجوب أكثر، ولكنا ألفناه فلا نتحرك له.
وليعلم أني لم أقف عند الأسماء؛ لأن مرماي الغرض، ولم أسهب البحث في الجزئيات؛ لأن المقام لا يسعها أولا ولأنها العرض، وإذا ضللنا السبيل مرة فلا بأس من طرق سواه، ولأني قبل كل شيء - وهذا المهم - أريد أن أقرر كلية كبرى حاصلة وأخرى ممكنة. أما الأولى فنقص نظام الاجتماع كما هو عن توفير مصلحته كما ينبغي أن تكون. وأما الثانية فتكافل العمران بتوفير قواه. وكل مسعى في هذا السبيل من أين أتى فهو محمود، ويلزمنا أن ننظر فيه نظر الباحث المستفيد، لا أن نقف في وجهه لصده، وإذا وقفنا فلتحويله إلى ما يتراءى لنا أنه الأصلح.
المقالة السابعة والعشرون
الاشتراكية
1
قرأت في المقطم شذرات مختلفة في الاشتراكية، بعضها مناقض للآخر بحسب نظر كتابها فيها.
الناس ينتقدون الاشتراكية كما يفهمونها، لا كما هي أو كما يجب أن تكون، شأنهم في أكثر المسائل الاجتماعية.
الاشتراكية، أو كما سميتها الاجتماعية أيضا، قلما نظر الكتاب فيها، حتى زعماؤها أنفسهم، من الوجه الوحيد الذي يجب أن ينظر إليها؛ ولهذا كثرت الآراء فيها، وكثر الاختلاف بينهم، وكثر انتقادها أيضا؛ لأن الجميع نظروا فيها إلى المسائل الفرعية، ولم ينظروا إلى الأصول التي يجب أن تقام عليها الفروع.
الاشتراكية كما يجب أن تكون ليست مذهبا فلسفيا اجتماعيا حتى يجوز لكل واحد أن ينظر إليها كما يشاء، أو كما يدله فهمه.
الاشتراكية نتيجة لازمة لمقدمات ثابتة لا بد من الوصول إليها، ولو بعد تذبذب طويل.
الاشتراكية كالاجتماع نفسه ذات نواميس طبيعية تدعو إليها، ولكن الاجتماع نفسه هل يبحث فيه الباحثون اليوم جميعهم بحثا طبيعيا، ما خلا كبار الطبيعيين الذين يعدون على الأصابع؟ هل ينظر العمرانيون إلى الاجتماع نظرا طبيعيا بحتا؟
الباحثون في الاشتراكية وفي الاجتماع نفسه أكثرهم من أصحاب النظر أو من قصاره في تاريخ الاجتماع الطبيعي.
متى اتصل الناس في مباحثهم الاجتماعية والفلسفية إلى رد كل شيء إلى هذا الأصل الطبيعي، سهل تفاهمهم وقل خلافهم، وأسرعوا الخطى في ارتقائهم.
مضى على الناس عصور تضيع أصولها في أقصى ظلمات التاريخ قبل أن يستقروا في مباحثهم على هذا المبدأ الطبيعي. هذا المبدأ الطبيعي هو بالحقيقة ابن أمس؛ لأنه منذ أمس فقط أصبح من العلوم الثابتة، وكم يلزمه من الزمان حتى يهدم علوم الناس النظرية! ومع ذلك فهو قد زعزعها بما لم يتسن لعصر قبله أن يفعله بالقوة التي زعزعها بها.
العلوم النظرية ليست نظرية بالحقيقة إلا بالنسبة إلى كونها أقيمت واتسعت على مبادئ اختبارية قليلة ومغلوطة غالبا، وإلا فليس هناك فلسفة نظرية محضة، حتى ولا الدينية نفسها.
الفرق بين الفلسفة النظرية والحقيقية أو العملية هي أن هذه بنيت على معرفة أتم بالطبيعة، واختبار أعم في ارتباطها بعضها ببعض، والفلسفة النظرية جهلت ذلك أو تجاهلته، وخصوصا أهملت هذا الرابط. وسوف تلتقيان في نقطة واحدة تردهما إلى الطبيعة؛ فالمصلح الطبيعي ليس حالما أو واهما أو متمنيا، وإذا خانه علمه أحيانا كثيرة فلا ينفي ذلك صدق إدراكه الذي يدله عليه أن في الإمكان أصلح مما كان.
الاشتراكية لا تضر الاجتماع؛ لأنها تطلب للاجتماع ما تطلبه نواميسه نفسها، بل بالضد من ذلك تنفعه؛ إذ تؤيد الفضيلة، وتصد عن الرذيلة، باتباعها سبل الاجتماع القويمة؛ لأن الفضيلة ليست إلا انطباق أعمال الاجتماع على نواميس الاجتماع، والرذيلة مخالفة هذه النواميس.
الناموسان العظيمان اللذان يسوسان الاجتماع، هما تكافؤ القوى في العمران، وهذا يوجب التنازع؛ والثاني تكافل العمران بتوفير قواه، وهذا يوجب استخدامها كلها لمنفعته.
فالاشتراكية لا تطلب سوى أن تسير في الاجتماع على هذين الناموسين، بحيث لا يضيع فيه شيء من قواه يمكن صرفه إلى منفعته.
لا شك أن الاشتراكية إذا أريد بها الاشتراك بالمنفعة من غير الاشتراك في العمل تكون حلما باردا، وإذا كانت الاشتراك في هذه المنافع على غير نسبة الاشتراك في العمل، فلا شك أنها تكون جورا ومميتة لكل اجتهاد، ولكن إذا كانت الاشتراك في العمل والاشتراك في المنفعة على نسبة هذا العمل، ألا تكون حينئذ عدلا وأكبر حاث على الاجتهاد؟
ما قولك في رجل ينال أجرا معلوما على عمله، وآخر ينال فوق هذا الأجر كذا في المائة من الأرباح على نسبة العمل وأهميته، فأيهما يجد أكثر من الآخر؟ وهل تقل أرباح رأس المال بذلك؟
ما قولك في رجل به كفاءة لأن يأتي أعمالا نافعة جمة، ولكنه ينقصه شيء إداري كمعرفة وجود العمل مثلا. وهذا ليس بالشيء النادر في الاجتماع؛ فمثل هذا الرجل المهم قد يموت جوعا إذا ترك وشأنه، وهذا أقل الشرور منه لولا أنه يخشى أن ينقلب عضوا شريرا في الاجتماع كثير الضرر، كما هو الغالب. فلو كان في الاجتماع نظام يعرف كيف يستفيد من مثل هذا الرجل وينفعه معا، ألا يكون ذلك أصلح لحال الاجتماع؟
ما قولك في نظام اجتماعي يهتم بشئون الأفراد، فينشئ إدارات تهتم بوجود أعمال لكل العمال كل حسب طاقته - وهذا ليس من الأحلام - ويقيم المستشفيات على نسبة السكان، ويوفر وجود الماء للجميع على حد سوى، ويقدم الصابون والكساء الأول البسيط لكل معوز (لأن الموسر لا يقبل ذلك) تيسيرا للنظافة التي هي أول دعائم الصحة؟ فهل أفراد الاجتماع الذين يتكفلون بذلك كل على حسب طاقته، يغبنون من عملهم هذا؟ أفلا تربو أرباحهم عموما على خسارتهم ماديا وصحيا وأدبيا من توفير وسائل العمل للعمال؟ ألا يزيد هناؤهم في صحتهم وصفاؤهم في راحتهم؟ ألا يقل التذمر في الاجتماع حينئذ؟ أولا يصبح الاجتهاد عنوان الفضل الصحيح، ويكون ذلك أكبر حاث على العمل والجد؟ وهذا ليس حلما إلا في رءوس الذين تستثقل طباعهم الخروج عن المألوف، وهذا النظام ولا ريب نظام الاجتماع المستقبل.
وما قولك أيضا في نظام المحاكم عموما كما هي اليوم؟ فكأن واضعها ظن أن الإنسان ما خلق إلا لكي يقضي عمره كله في دعوى تعرض له في حياته، كأن ليس له شغل آخر، وما هي النتيجة؟ إن الدعوى الواحدة تؤجل من شهر إلى آخر ومن سنة إلى أخرى، حتى ينقضي عمر صاحبها فيها، وربما تركها ميراثا وحيدا لأولاده، وبئس الميراث تصرف فيه قوى الإنسان إلى جهة واحدة، وأية جهة!
ألا ترى أن المحاكم لو كانت موزعة في كل مدينة بل في كل بلد على نسبة سكانه، بحيث إن دعاويهم تنقضي في أقصر الأوقات لهم أو عليهم، أما كان ذلك أربح حتى للخاسرين أنفسهم؟ أوليس هذا تبذيرا قبيحا في هذه القوى، ومنعها عن الانصراف إلى شئون أخرى أنفع للاجتماع، أم ذلك من الأحلام التي يحلم بها حالمو الاجتماع أيضا؟
الاجتماع كما كان في القديم وكما لا يزال حتى اليوم ليس نظاما طبيعيا، وكل موضوع ومشروع فيه مخالف لهذا النظام، ولكنه بحكم نواميسه الطبيعية التي هي أقوى من كل ناموس وضعي سائر بالضرورة إلى هذا النظام، وإنما هو سائر إليه بعد اضطرابات وثورات وقلاقل قد تكون فيها مئات السنين كأمس الدابر بسبب نظاماته الموضوعة، ولكن هذا السير قد يسرع أيضا بناء على ناموس تجمع القوى. وهنا يظهر فضل عقل الإنسان؛ فكلما ارتقى الإنسان وزاد اختباره استخدم هذا الاختبار لتقصير هذه المدة.
ولا ريب أن القرن الماضي هو الذي امتاز باكتشاف سر الاجتماع وتقرير قضايا العلوم الطبيعية، وهو الذي امتاز أيضا بوضع الفلسفة العملية على قواعد علمية متينة، وسيكون تأثير هذه الفلسفة عظيما في إصلاح الاجتماع، وستقيه من التذبذب الكثير، وتمنعه من التقهقر، وتدفعه في الارتقاء بسرعة تتمشى فيه على نسبة حسابية؛ لأن القضايا القائمة عليها هذه الفلسفة اليوم ثابتة وفي حكم القضايا الرياضية نفسها، والاضطرابات التي نشاهدها اليوم ليست إلا لنفض الغبار القديم.
المقالة الثامنة والعشرون
الحزب الاشتراكي:
1
على المبادئ الطبيعية
أيها الوطن الأغر (المصري)
تمنيت علي - وما كنت حالما - أن أؤلف حزبا اشتراكيا يزج بنفسه فيما بين الأحزاب في هذه البلاد، فصدعت بالأمر، ودعوت أولي العقل والحجى والنهى والعلم والمعرفة والاختبار، فأنشئوا في الحال الحزب المذكور، وقرروا بروغرامه. وهذا أهم ما جاء فيه من الكليات:
القسم الأول: تقويضي تمهيدي
أولا:
أن تجمع كل الكتب السقيمة التي يضيع أولها في آخرها، والتي يضيع الإنسان عمره فيها، وهو يقرأ ولا يفهم، وتوضع على ظهور حملتها، ويشحن الجميع في بالون يسير بهم إلى القطب الشمالي؛ لعلهم يؤلفون هناك مملكة يكون بردها على نسبة واحدة بين ذلك الإقليم وتعاليمهم.
ثانيا:
أن تلغى مدرسة الحقوق، وتمزق كتب القوانين وكتب الاقتصاد السياسي، وسائر العلوم الكلامية.
ثالثا :
أن يوقف تنفيذ بروغرام الجامعة كما قرروه؛ لئلا تزيد معاهد العلم النظرية واحدا فتزيد البلوى.
رابعا:
أن تلغى المحاكم المختلطة؛ لأن شرها مركب من أساسها ومن نظامها، فلا يطل علينا قضاتها من سماء أولمبهم حتى يعودوا إليه مسرعين، ولا يزالون هكذا بين لقاء ووداع، وتأجيل في الدعاوى، وتأخير إلى أن تنقضي أعمار أصحابها. وهل تهمهم مصالح الجماهير أكثر مما كانت تهم حياة الناس ذلك الحاكم المصري الذي يحكى عنه أنه قال ذات يوم العبارة الآتية: «وهل نحن استلمناهم بعدد؟» استدراكا لخطأ ذهبت فيه نفوس كثيرة ظلما.
خامسا:
أن تلغى المحاكم كافة على صورتها الحاضرة، ما دام مبدؤها ذلك العلم الاقتصادي الذي يعلم أن تبذير قوى الاجتماع من دعائم ارتقائه.
سادسا:
أن تلغى شركة احتكار المياه، وسائر الشركات الاحتكارية التي تمس المنافع العمومية.
سابعا:
أن تلغى الجرائد السياسية التخريفية، وأن يناقش أصحابها الحساب على كل كلمة تغرير وتضليل من مثل قولهم: «مسلم وقبطي ودخيل ونزيل.» حتى يبرزوا الحجة التي بيدهم والموقعة بختم محكمة السماء، والتي تخولهم حق الاستئثار بملك الله دون سواهم من عباده، وأن يجلد أصحابها جلدة على كل كلمة سخافة وقلة عقل. وقرروا أن الجلد يكون بخيوط ناعمة جدا ومن يد طفل، واعتبروا أن هذا العقاب كاف، وربما لا يقوون عليه لكثرة التكرار.
القسم الثاني: إنشائي بنائي
أولا:
أن ينشأ معهد علمي كبير، يعلم فيه علم نشوء الأرض والأجرام السماوية، وعلم الأحداث الجوية والأقاليم واختلافها وتأثيرها في الإنسان وفي العمران ... إلخ.
ثانيا:
أن يقام على أنقاض مدرسة الحقوق مدرسة للكيمياء والطبيعيات والميكانيكيات والرياضيات وعلم الأفلاك.
ثالثا:
أن تنشأ الجامعة لتعليم التاريخ الطبيعي والاجتماع الطبيعي والاقتصاد الطبيعي، وتطبيق ذلك على الإنسان والطب وسائر العلوم الحيوية والأنثروبولوجية.
رابعا:
أن تنشأ هيئات قضائية على غاية البساطة في كل مدينة وفي كل بلدة على نسبة سكانها، بحيث لا يتأخر الفصل في الدعاوى مهما كانت مهمة (وحينئذ لا تبلغ هذه الأهمية) إلا أياما معلومة؛ حرصا على مصلحة المتداعين، وعلى مصلحة الاجتماع نفسه؛ لئلا ينمو فيهم حب التداعي إلى صرف قواهم كلها في هذه الجهة، فيخسر الاجتماع بهم بقدر ما تزيد فيهم هذه الملكة.
خامسا:
أن يتولى الاجتماع نفسه توزيع المنافع العمومية الضرورية، من مثل الماء مثلا، مجانا على عموم الناس.
سادسا:
أن تنشأ كتاتيب في كل مدينة وفي كل حي وفي كل قرية على نسبة السكان، يعلم فيها الأطفال مبادئ العلوم الطبيعية البسيطة، يفهمون منها طبائع الماء والهواء والجماد والنبات والحيوان، ويوضع لهم شبه تعليم طبيعي يعلمون منه حقيقة الإنسان ومركزه في الأرض.
سابعا:
أن تنشأ جرائد تعلم الناس كيف يجب عليهم أن يكونوا نظافا في أجسامهم، في ملابسهم، في مآكلهم، في مساكنهم، وخصوصا في عقولهم. وتعلمهم أن كل نظام حولهم في الأرض والسماء، في الجماد والنبات والحيوان، خاضع لنواميس طبيعية لا تزعزع، وأن سيرهم على هذه النواميس يقيهم عثرات كثيرة في معايشهم صحيا وماديا وأدبيا، وأن آدابهم يجب أن تكون مستفادة من آداب الطبيعة نفسها. يعلمون كل ذلك لكي يعلموا أن كل عضو في الاجتماع له حقوق وعليه واجبات، وأن الاشتراك في المنفعة يتحتم له على قدر اشتراكه في العمل، وأن المكافأة إنما هي للاجتهاد لا للصنيعة، وحينئذ يظهر الفضل الصحيح، وينتفي الفضل الكاذب.
هذا أهم ما جاء في هذا البروغرام، وسأوافيكم بما يجد من هذا القبيل.
أرأيت الآن يا صاحبي كيف أن المجون يصير جدا؟ وكيف أن الأحلام تصير حقائق؟ وكيف أن التي يسمونها اليوم يقظة هي الحلم بعينه؟ ولكنه يا للأسف حلم وسخ.
المقالة التاسعة والعشرون
وكما تكونون يولى عليكم:
1
تركيا الفتاة وتركيا العجوز
من دقق النظر في تاريخ الاجتماع البشري رأى أن نصيب الأمم من تقدم ووقوف وارتقاء وانحطاط وانتشار وانقراض، يتوقف على عوامل طبيعية يضمها ناموس عام، يسمى «تنازع البقاء»، يؤدي ضرورة إلى ناموس آخر، يسمى «الانتخاب الطبيعي». فما من أمة قامت أو انقرضت، ارتقت أو انحطت، إلا كانت عوامل هذين الناموسين هي القاضية في ذلك. فإن كانت الأرض على سعتها قد ضاقت بالإنسان الأول، وهو اثنان على قول البعض، حتى قام الواحد على الآخر وقتله، أو كان طوائف متفرقة على سطحها قامت على بعضها حتى ذل البعض وفاز البعض الآخر ، على قول الآخرين؛ فما ذلك إلا لأن الإنسان كسائر الأحياء لا يستطيع أن يفر من حكم هذين الناموسين؛ فالتنازع سنة هذا الكون، والانتخاب نتيجة هذا التنازع. هذا شأن الإنسان في العمران منذ أول عهده، وما زال هذا شأنه حتى اليوم، ولن يزال كذلك حتى المنتهى.
والحكومات مظهر من مظاهر الأمة، وهي تختلف باختلاف الأمم، فكلما ارتقت أمة في العمارة ارتقت حكومتها كذلك، وهو معنى قوله: «وكما تكونون يولى عليكم.» فلا ينتظر أن تكون الحكومة أصلح من الأمة التي نشأت فيها، بل لا تلام الحكومة إذا داست بأخمصها رقاب الرعية، وهل تداس رقاب تأبى أن تداس؟ وإن من ينتظر الإصلاح عفوا من أية حكومة كانت يجهل لا شك تاريخ نشوء الأمم في العمران، وها التاريخ أمامنا يعلمنا أن الحكومات في كل زمان ومكان هي آخر من يذعن للإصلاح إذ لم تقم العقبات في سبيله. وهل بلغت أمم أوروبا مبلغها من التمدن اليوم بفضل حكوماتها؟ لا لعمري، إنما بلغته ولا تزال مجدة فيه بفضل تألبها واتحاد كلمتها، ورفع الرءوس المطأطأة، وتقويم الظهور المقوسة، والمشي على الأقدام لا الزحف على الركب، وربط حكوماتها كما تربط القرناء، وإتلالها كما تتل السائمة، وجرها وراءها قوة واقتدارا. والأمم التي لم تستطع ذلك لعدم توفر أسباب القوة فيها عفاها الدهر، واستغرقها التنازع، ولم يبق لها إلا آثارا، ولم يبق لها أثرا، وتركها خبرا مسطورا. •••
وأسباب القوة في العمران كثيرة، وترد إلى أربعة تعد دعائم؛ اثنان طبيعيان، وهما العدد والجنس؛ واثنان أدبيان، وهما الدين والعلم. ولا ريب أن كل أمة كثر عديدها ولم يشب جنسها اختلاط، وتوحد دينها، وبلغ العلم فيها أقصى مبلغه في عصره؛ بلغت من القوة مبلغا حقق لها الفوز في ميدان التنازع، والضد بالضد؛ فوحدة الجنس ووحدة الدين لازمتان لاتحاد الكلمة، وإلا كثر الانشقاق، وهو من دواعي الضعف. والعلم ضروري جدا لإتقان الصناعة والزراعة وسائر الفنون التي تكثر معها الثروة، والثروة عصب الاجتماع كما يقول الإفرنج، وزد على ذلك أن العلم بإتقانه الصناعة يتفنن باختراع الآلات التي تكسب المنعة في الدفاع وتحقيق الفوز في المهاجمة، وهو أعظم العوامل لتقليل الانشقاقات الناشئة عن الأديان. فإذا علم ذلك لم يصعب علينا الحكم على مركز كل أمة في الحال، وما هو مقضي لها أو عليها في الاستقبال. •••
فالأمة العثمانية - وكلامنا فيها - إذا نظرنا إليها من هذا القبيل وجدنا جميع الأسباب السلبية متوفرة فيها؛ مما يجعل مركزها في الحاضر حرجا، ومستقبلها مشكوكا فيه. ولا نقول إن صعوبة مركزها من عددها؛ فإن عددها وإن لم يكن كثيرا جدا إلا أنه ليس بالقليل، فلا يصح أن يكون سبب الضعف، ولكنها مؤلفة من أجناس مختلفة، فمنها التركي والعربي والأرمني والكردي والبلغاري واليوناني ... إلخ؛ وأديان مختلفة، فمنها المسلم والمسيحي واليهودي والدرزي والمتوالي، وتحت كل منها قبائل وطوائف؛ مما يجعل اتحاد الكلمة بينها في حكم المستحيل، ولا سيما إذا اعتبرنا حالة العلم فيها، فإنه يكاد يكون شيئا لا يذكر. والقسم الأعظم من الأمة في جهل عميق، ولو كان العلم منتشرا فيها انتشارا كليا لقلت جدا الانشقاقات الناشئة عن اختلاف الأديان والشعوب، وكبر الأمل باتحاد كلمتها، وتوسمنا خيرا في مستقبلها، وتزيد قيمة ذلك كله اعتبارا في نظر الباحث إذا قسناها بالأمم المجاورة التي هي معها، بحكم ناموس الاجتماع، في تنازع دائم. فأي فرق بين معدات الأمة العثمانية من هذا القبيل ومعدات باقي الأمم، وهي حقائق محزنة لا يسع المؤرخ الصادق إلا الاعتراف بها؟
وإذا كان هذا حال الأمة العثمانية، فهل تستطيع المقاومة زمانا طويلا والتنازع بينها وبين الأمم الأخرى في حد حدته ومعظم شدته، وهي بعيدة عن التكافؤ والتفاضل؟ إنما هو عليها لا لها، وإذا كانت لا تستطيع المقاومة، فما هو مصيرها يا ترى؟ وهل يرجى نهوضها؟ وبأي الطرق يكون ذلك؟ •••
يعلم الباحثون في طبائع العمران أن كل أمة مهما كان أمرها، مرتقية كانت أم منحطة، لا بد أن تتنازعها قوتان غريزيتان فيها ؛ إحداهما تركن إلى المحافظة على الحالة الراهنة، والأخرى تميل إلى الطفرة عنها. واصطلح السياسيون على أن يطلقوا على الأولى اسم حزب المحافظين ، وعلى الثانية اسم حزب الأحرار. ويؤلف الحزب الأول من الهيئة الحاكمة ومن تابعها من الشعب، والثاني ينشأ في الهيئة المحكومة، ويكون في أول الأمر مؤلفا من أفراد قليلين. وهذان الحزبان يختلفان قوة بحسب حال الأمة من العلم، فهما متكافئان غالبا في الأمم المتهذبة، ومتفاضلان في الأمم التي يكون العلم فيها غير موزع على السواء، ويكون الفوز كله للمحافظين، أي للحكومة، في الأمم المستغرقة في الجهل، حتى قد لا يشعر بوجود حزب آخر سواه. ولقد مضت القرون الطوال، ولا يسمع في الأمة العثمانية صوت غير صوت الحكومة، وربما لم يسمع سواه زمانا طويلا أيضا لقلة انتشار العلم في الأمة، لولا أن أسباب التمدن الأوروبي انتشرت انتشارا عظيما في هذا العصر، بحيث لم يعد في الإمكان إقامة الحواجز ضدها ومنع تأثيرها، إن لم يكن في العموم ففي الأفراد.
وما يسمى اليوم حزب تركيا الفتاة دليل على أن هذا الحزب الذي بقي صوته خافتا لقلة عدده وضعف عدته، قد دبت فيه روح الحياة حتى صار له صوت يسمع وطبل يقرع. وكنت أود أن أتحاشى الكلام في هذا الحزب لولا أن كثر فيه اللغط، وركب فيه كل كاتب مركبا يسير به على هواه، حتى كثر فيه الضالون وقل المهتدون، وظن البعض أنه ألعوبة كأبواق الصابون؛ تملؤها الأنفاس، فإذا انفجرت لم يكن من ورائها نار، حتى ولا هواء يزيد النار اشتعالا إذا أصابت نارا أطفأتها أو حياة أماتتها. ويحق له أن يظن هذا الظن إذا أخذ الأشياء بظواهرها، وقاس الحقيقة على المجاز، وخلط بينه وبين بعض الذين يكثرون من الجلبة والصياح. فإذا برق الذهب ولاح، وهطل غيث الدينار الوضاح؛ تراكضوا إلى المرح، والسابق السابق منهم الجواد. فهؤلاء ليسوا حزب تركيا الفتاة، وإنما هم حزب المارقين المنافقين الذين اتخذوا اسم هذا الحزب وسيلة لشفاء حزازات في الصدور، وقضاء لبانات في النفوس. وهم بعملهم هذا قد جاروا على دعوة هذا الحزب بجرأتهم المتجاوزة الحد في الخصام، وإحجامهم على أيسر سبيل عند نيل المرام، ولكنه إذا تدبر الأمور تدبر العاقل الخبير علم أن هذا الحزب موجود حقيقة؛ فهو مؤلف من كل عاقل هذبه العلم وعلمه الاختبار، ودرس الأمم درس المقابلة، وعلم أسباب القوة في العمران، فرآها متوفرة في الأمم الناجحة فحمدها، وغير متوفرة في أمته فأسف عليها. والعقلاء في الأمة كثيرون.
فالحكومة تخطئ إذا كانت تظن أن هذا الحزب قاصر على بعض الأفراد الذين ركبوا متن الحدة في المقاومة، وجانب منهم غير مخلص في الدعوة، كما تبين لنا. وتخطئ أكثر إذا كانت تظن أنها باسترضاء هذا البعض الساخط تتمكن من ملاشاة هذا الحزب، فالحزب نشوءه في الاجتماع ليس عارضا حتى يسهل استئصاله، بل هو نشوء طبيعي جار على مقتضى نواميس طبيعية، ولن ترى لنواميس الطبيعة تحويلا. وإن كانت تظن أن استرضاء هذا البعض يضعف حجة هذا الحزب عند الآخرين من الأمة الذين لا أفكار لهم إلا ما يفتكره لهم الغير، حتى لو قام غيرهم وحذا حذوهم لم يصدقه الناس؛ فربما كان ظنها مصيبا بعض الإصابة، وإنما ربحها من هذا الجانب لا يوازي خسارتها من الجانب الآخر؛ إذ ينتقض عليها المتزلفون لها عن غير اقتناع، وهم الأكثر؛ لأنهم يرون أن سخط غيرهم كان أدعى لاستدرار النعمة من تزلفهم، فينقلبون ساخطين. ومهما يكن من ذلك كله، فما هو إلا أمور عارضة لا تؤثر شيئا في حقيقة الدعوة نفسها. •••
ولكن هل يفوز حزب تركيا الفتاة؟ فهذا هو الأمر الجوهري الذي يهم كل عثماني أن يعلمه. وللجواب على ذلك لا بد لنا من إلقاء النظر إلى الأمة عموما، وما تدخره من المعدات، وما يكتنفها من الموانع. فإذا نظرنا إلى الدعوة من حيث كونها صفة من صفات الاجتماع نقول إن الفوز محقق له؛ لأن الذي يدركه البعض لا بد أن ينتشر على تمادي الزمان، ويعم الأمة كلها لانتشار العلم الذي لا بد منه. وإذا انتشر العلم وكثر عدد المتهذبين من الأمة حتى أصبح العدد الأهم، سقطت الحواجز التي تفصل بين عناصر الأمة المختلفة، وخصوصا الترفض الديني، فاجتمعت كلمتها وقويت حجتها.
ولكن الذي يروع عقلاء هذا الحزب طول الزمان اللازم لوصول الأمة إلى هذه الغاية، وهو يخشى قبل ذلك أن يتحقق فيها قول المثل: «قبل أن يصل الدواء من العراق، يكون العليل قد فارق.» وهذا هو السبب الذي يحمل القسم الأعظم من عقلاء الأمة على أن ييئسوا من نهوض الأمة إلى إصلاح حالها مع حفظ استقلالها؛ لشدة التنازع الذي لا تنفك عوامله تعمل فيها من خارج، وهي لا قبل لها على المقاومة. فالأمة العثمانية في نظرهم مقضي عليها بحكم النواميس الاجتماعية، التي هي في صرامتها كالنواميس الطبيعية، بالتشتت والانفصال؛ فقد أدركتها الشيخوخة، والمريض قد أشرف على الموت، فلا يقيها دهاء تركيا العجوز ولا تخبط تركيا الفتاة، دهاء وتخبط لا يفيدان إلا تعجيل الانحلال بزيادة الاختلال.
المقالة الثلاثون
انحطاط الشرق:
1
الأدبي والعقلي
الشرق لفظة تعم بلادا واسعة وأقطارا شاسعة، مختلفة الأطوال والعروض والحر والبرد والخصب والجدب. تضم فيها أمما وشعوبا وقبائل متبايني الأصل والفصل، مختلفين في الشكل وفي قابليات العقل. تجمعهم اليوم جامعة واحدة هي تراخي النظام، وفساد الأحكام، وانحطاط المدارك العقلية، وفساد المبادئ الأدبية. لا علم يقيهم، ولا علم يحميهم، فهم بحكم تنازع البقاء معرضون للذل والشقاء، يعملون لأسيادهم أهل الغرب، وأسيادهم بهم يعيثون، فينقادون إليهم صاغرين إلى يوم يمحقون؛ لأن ناموس التنازع في الطبيعة صارم لا يرحم، فالضعيف مقضي عليه أمام القوي بالمحاق أو الضياع بالاستغراق. فجدير بكتاب الشرق أن يرثوه، فهو ميت في صورة حي، وإذا أبنوه فلا ينصفوه لئلا يشددوا عليه الملام، والضرب في الميت حرام، بل فليشفقوا عليه، وإن كان الإشفاق لا يرضاه أهل الاستحقاق؛ لأن فيه من اعتقاد المسكنة بالمشفق عليه ما تأباه النفوس الكبيرة. فمقاومة عدو لي يعترف بفضلي أحب إلي من إشفاق يأتيني من أهلي.
فيا وطني ما خانني فيك خائن
من الحب أو أني رضيت به ندا
أريدك في عز ولكنني أرى
على غير ما أرضى أرى العز قد ندا
فإن جرت في حكمي فما أنا جائر
فما أنا إلا باحث لم يجد بدا
جرى علماء الأخلاق اليوم مجرى أكثر الطبيعيين القائلين بالنشوء، فعدوا الإنسان الأدبي والعقلي كالإنسان الطبيعي ابن الفطرة وابن المكان وابن الزمان أيضا، فاعتبروه قابلا للارتقاء والانحطاط في آدابه وفي قواه العقلية، بحسب العوامل المختلفة التي تؤثر فيه من طبيعية وأدبية. والفطرة ليست بالحصر إلا استعدادا مكتسبا في الأصل من طبيعة المكان.
والشرقي، كما نريد به هنا, يدخل تحته الصيني والهندي والأفريقي والعربي والتركي والعجمي أيضا، وإن اختلفت مراكز البلاد التي يقطنها بعض اللاحقين بهذه الأجناس، مما يجعلهم في مركزهم الجغرافي واشتقاقهم الأنثروبولوجي أقرب إلى أهل الغرب منهم إلى أهل الشرق، إلا أنهم تجمعهم اليوم جامعة الوقوف والتقهقر في تاريخ العمران. ويطول بنا الشرح جدا لو أردنا استيفاء وصف كل من هذه الأجناس بحسب طبيعة بلاده وشرائعه وتعاليمه؛ لأنه وإن كان الجامع اليوم بين هذه الأجناس واحدا، وهو التقهقر الأدبي والعقلي، إلا أنهم يختلفون فيما بينهم كثيرا في ذلك، ويختلفون كذلك في الأصل وقابليات العقل بحسب طبيعة البلاد، ويختلفون أيضا في مركزهم الاجتماعي بحسب شرائعهم وتعاليمهم.
ولا شك أن طبيعة البلاد أثرها في الإنسان شديد، كما ذهب إلى ذلك أبقراط في كتاب الأهوية والمياه والبلدان، حيث قال في الفرق بين أهل آسيا وأوروبا ما خلاصته:
إن أهل آسيا تغلب عليهم السكينة ورقة الطباع، لما هم فيه من رغد العيش، بسبب خصب بلادهم واعتدال فصولهم؛ ولذلك لم يكن لهم شجاعة الرجال، ولا الصبر على المشقة، ولا الثبات في الأعمال، ولا علو الهمة، وطنيا كان أصلهم أم غريبا. ويغلب فيهم حب اللذات على كل شيء، بخلاف أهل أوروبا الذين هم معهم على طرفي نقيض من هذا القبيل؛ لصعوبة إقليمهم وقلة خصب بلادهم.
ولكن الاقتصار على هذا الأثر لا يكفي في مثل بحثنا؛ فإن الإنسان وإن يكن ابن المكان فهو ابن التربية والتعليم أيضا. وقد فطن إلى شيء من ذلك أبقراط نفسه حيث قابل بين حكومات أوروبا وحكومات آسيا، فقال إن أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا؛ بسبب طبيعة بلادهم، وبسبب نوع أحكامهم أيضا ، فإن أهل أوروبا تحكمهم شرائعهم، وأما أهل آسيا فتحكمهم ملوك، وشتان بين النجدة التي يقوم بها من يدافع عن نفسه، والنجدة التي يظهرها من يدافع عن غيره.
ولا ريب أن أثر العوامل الأدبية في الإنسان شديد جدا، وربما كان أشد من أثر العوامل الطبيعية، حتى ذهب الباحثون في طبائع الحيوان إلى أن الإنسان لم يتغير في بدنه كثيرا من يوم اتخذ الكساء واصطنع السلاح وبنى البيوت. يريدون أن يثبتوا بذلك أن الإنسان قادر على مقاومة الطبيعة بالصناعة. وأهم هذه العوامل العلم، قال لتري معقبا على أبقراط ما نصه: «إن أبقراط يقول إن طبيعة الإقليم والشرائع هي التي تجعل أهل أوروبا أشد نجدة للحروب من أهل آسيا. ومعلوم أنا رأينا، على تراخي الأيام، أن الفرس الذين غلبهم اليونان لم يقدر عليهم الرومان بعد ذلك، وأن اليونان ضعفوا جدا في عهد سقوط سلطتهم وذبول شوكتهم، وأن العرب أتاهم يوم كان لهم فيه نصر في الحروب مبين، وشرف ينطح السماك بروقيه، وعز يقلقل الجبال. فمثل هذه الأمثلة تكفي لأن تبين أن النجدة للحروب لا تختص بإقليم دون آخر. وكذلك يقال عن الأحكام؛ فإن النجدة لا تتوقف عليها، كما أنها لا تتوقف على الإقليم، بل على النظام وعلم الحرب؛ فإن نفرا قليلين منظمين من الأسوجيين ظهروا على الروس الكثيرين الغير المنظمين في موقعة بلتاوا، والإنكليز قد جندوا من الهنود جنودا شديدة البأس في سنين قليلة، وقد كان للمصريين على عهد محمد علي جنود باسلة. فالإقليم والحكومات أثرها في نجدة الحرب قليل، والنظام والعلم هما اللذان يفعلان كل شيء.» وهذا القول مع ما فيه من الانحياز إلى جانب دون آخر، كما أبنا ذلك في محله، صحيح باعتبار أن العلم من أقوى الوسائط المؤثرة في الإنسان والمغيرة له. ولنا مثال حديث في اليابان اليوم، وما أظهرته من النهضة الاجتماعية والحربية في سنين قليلة، حتى ظهرت على الصين التي تزيدها نحو عشرين ضعفا في عدد السكان بفضل العلم.
فطبيعة بلاد الشرق بما توجب من الراحة للبدن تفسح للعقل مجال الخيال؛ ولذلك كان الأنبياء كلهم من المشرق. وطبيعة بلاد المغرب بما توجب من المشقة على البدن تربي فيه النهضة والإقدام؛ ولذلك كان أكثر الفاتحين من المغرب، إلا من قام من الشرق لدعوة دينية تدخل في حكم المؤثرات الأدبية؛ ولذلك أيضا كان أهل الشرق، كما قال الشهرستاني، ميالين للبحث عن ماهيات الأشياء وحقائقها، وأهل الغرب ميالين للبحث عن طبائع الأشياء وكيفياتها؛ أي إن هؤلاء أهل عمل، وأولئك أهل نظر قد يجر إلى الكسل. وربما كان هذا من الأسباب الطبيعية التي لأجلها لا يستطيع الشرق أن يناظر الغرب إذا تساوت عندهما المعدات الأدبية.
فالشرق إذن لا يستطيع أن يناظر الغرب إلا إذا فاقه في المعدات الأدبية. على أن الشرق اليوم - ونحصر كلامنا في الأقوام الذين تجمعنا وإياهم جامعة الوطن والسياسة - متقهقر جدا عن الغرب في هذه المعدات لقلة العلم فيه، وثقل وطأة الوهم عليه. ولا يخفى ما لذلك من الأثر السيئ على العقل والآداب؛ ولذلك كانت قوى العقل في الشرق اليوم ضعيفة والآداب متراخية. ونعني بالآداب هنا لا كما يفهمها البعض؛ تلك الآداب الذاتية الرخوة التي لا تتجاوز النفس، ولا ينظر فيها إلى الكل، كالصوم والصلاة مع تربية الضغائن والأحقاد ضد من لا يصلي صلاتك ولا يصوم صومك، فينسيك ذلك الجامعة الوطنية والسياسية في جنب الجامعة الملية في بلاد كثر فيها تفرق المذاهب والأديان، أو تلك الآداب السطحية المنتقلة إلينا من سفساف آداب المغرب، كالهشاشة والبشاشة، والمفاخرة باللباس والطعام، وإيلام الولائم، والتأنث في الحركات، وسائر أنواع المجاملة التي لا تتجاوز حد اللفظ مع التبطن والرياء المتصلة إلينا إما بالوراثة وإما بالتقليد، مع التواء المقصد منها علينا؛ لتمسكنا بالظواهر والأعراض، وإغفالنا الجواهر والأغراض؛ بل نريد بها تلك الآداب الرفيعة الاجتماعية التي تدل على ارتفاع المدارك، والتي ينطبق عليها قول المثل: «عدو عاقل خير من صديق جاهل.» كالحزم والعزم والشهامة ، وكرم الأخلاق الحقيقي، والصدق والإخلاص، ومحبة النفس من وراء محبة الغير، ومحبة الوطن فوق كل شيء، مما يبعث إلى التعاون والتعاضد للقيام بالأعمال الجليلة العمومية التي يقوى بها الفرد؛ لأنه ينظر فيها إلى قوة الكل، ومعرفة أقدار ذوي الفضل منا للانتفاع بما خصوا به من المواهب؛ لتنشيط هذه المزايا في الجمهور، لا قتلها فيهم لقتلها فيه حسدا ولؤما. والإغضاء عن الهفوات في جنب الحسنات، لا تحقير هذه وتعظيم تلك؛ تشفيا من الاجتهاد، وانتقاما من الذكاء. فإن الفرق بين الغرب والشرق في ذلك كالفرق بين أعمال الرجال وأعمال الأطفال.
ذكروا أن لامرتين الشاعر الفرنساوي الشهير بلغت ديونه نحو ثلاثة ملايين فرنك، فقامت الأمة ووفتها عنه بجمع المال بالاكتتاب، ولم يمنعه ذلك من تجديدها، ولا منع هذه الأمة من تجديد الاكتتاب لوفائها، فكيف لا يقوم بين أمة هذا اعتناؤها برجالها رجال ك «لامرتين» وأعظم من لامرتين بطبقات. و«ولطر سكوت» خسر أموالا طائلة في التجارة، وانكسر عليه نحو خمسين ألف جنيه، فعمد إلى التأليف ووفاها من كتاباته؛ لأنه كتب لقوم يقرءون، ويدفعون ثمن ما يقرءونه. بل لنعتبر بمثل بطل السودان، وما صادفه من العناية البالغة الغاية القصوى من أمته وحكومته مما لا يزال صداه يرن في الآذان، ولنقابله بمعاملة حكومات الشرق وأممه لأبطاله إذا ظهر فيه أبطال، فأقل عقاب لهم على اجتهادهم وامتيازهم الإقصاء إلى الأقطار الشاسعة، أو الوضع تحت القفل والمفتاح، حيث يطمس ذكرهم ويتناسى فخرهم. فكيف لا يقوم من أولئك رجال يبذلون قواهم ودمهم لخدمة وطنهم وأمتهم؟ وكيف لا تنمو فيهم مواهب الذكاء والإقدام على جليل الأعمال؟ وكيف لا ينزوي هؤلاء في بيوتهم متقاعدين عن خدمة وطنهم؟ بل كيف لا تموت فيهم همم الرجال؟
والغريب أن انحطاط الآداب في شرقنا بلغ مبلغا لا يعهد له نظير في سوانا، فترى الصعلوك منا يظهر بمظهر الإمارة على أمير قومه، والأمير منا يتناهى في الحقارة والدناءة لدى صعلوك أجنبي. فالواحد منا جبار على ابن جنسه ولو فاضلا، وذليل لدى الغريب ولو أنه أذل من بيضة البلد. فمتى بلغت الأمة هذا المبلغ من الدناءة فأي خير ترجو منها؟ وأي نهضة علمية أو أدبية أو اجتماعية ترجو من مثل هؤلاء الأقوام، الذين لا تجمعهم جامعة ولا تقوم لهم قائمة إلا بسيف كسيف محمد أو بونابرت يعمل في رقابهم، ويسوقهم سوق الأنعام؟
ولا شك أن حكومات الشرق هي التي ساعدت على فساد الأخلاق إلى هذا الحد؛ فقد تقدم أن الفرق من عهد أبقراط إلى اليوم بين حكومات المغرب وحكومات المشرق أن تلك تحكمها شرائعها، وهذه تحكمها ملوك. وإن تعدلت الأحكام في بعض ممالك الشرق اليوم فما تعديلها إلا صورة لا معنى؛ فإن ملوك الشرق ما زالوا فوق شرائعهم. فأماتت حكوماتهم من الأمة عواطف الشهامة والإقدام بما ثقلت به على كواهلهم من الإذلال، وسائر ما يجر إليه الاستبداد، وقوت فيهم كل الصفات الدنيئة الهادمة لصروح الاجتماع بما أخمدت من قوى العقل بإطفائها نور العلم. وأثر ذلك فيهم لتقادم عهده شديد، وزواله منهم بعيد. فلا عجب بعد ذلك إذا رأينا الغرب باسطا فوق الشرق يديه، طامحا ببصره إليه، مزمعا أن يقبض عليه. سنة الطبيعة في التنازع، ولن ترى لسنة الطبيعة تبديلا.
المقالة الحادية والثلاثون
سيادة الأمم ومستقبل الملوك
1
رأيت أن أتشبه بالأنبياء وأنا أجهل صناعتهم؛ لكي أقول قولا يكثر مجازه ليتسع تخريجه، فلا تكذبه الوقائع، وترضى به العقول الحريصة على المأثور، ولو أنها تأنح في تأويله كالمعضل. فأنبأت منذ ربع قرن أن أوروبا لا ينقضي عليها القرن التاسع عشر حتى لا يبقى فيها ملك يلبس البرفير والأرجوان، ويحمل الصولجان ويسوق بها حمر الإنسان. وها نحن الآن في العقد الأول من القرن العشرين، والملوك كالآلهة على عروش مجدهم، والناس كالسائمة في حقول جهلهم. فكنت بنبوتي الكاذبة نبيا كاذبا، حلت له أحلامه فاعتبرها حقائق. أثبت بذلك على نفسي جهلي بطبائع الناس، كما أني أثبت عليها خلوها من الذكاء الشرقي، فلم أراع أثر الدهور، في مقوسي الظهور، ولا وطأة المداس، في مطأطئي الراس، كما أني لم أراع في مقالب الدهاء، نعومة ملمس الرقطاء، لاستطلاع مناجع الكلاء.
على أني لا أكون عادلا إذا جرت كل هذا الجور في الحكم على نفسي؛ لأن نبوتي إن لم تصح كلها صورة فقد صح جلها معنى. وما خطئي إلا في ضربي الأجل وتعييني الزمان، ولو قلت بعد زمان لا يطول لأمنت الانتقاد، ولحاكيت بالحصافة أرباب السياسة، ولكن الناس طبائع، فهذا يستمسك بالأعراض، وذاك لا ينظر إلا إلى الجواهر، وأنا ممن لا يقفون عند الصور، بل ينظرون إلى المعاني، لا كما ينظر بعض كتابنا من قادة الأمة، فيستحصلون من التبر ترابا، ثم ينبشون القبور، ويسيغون من السم شرابا يخدرون به أعصاب الأمة لئلا تنشط من العمى، فتبصرهم في صور أجدادهم قبل العصر الحجري قرودا تقهقه وعجائز يلطمن؛ بل أنا أنظر من خلال ذلك إلى الزبد، ولو أنها كما في الخرنوب درهم دبس في قنطار خشب، فكأنني حر كأحرارنا، ولكني غير دستوري، فلا أقيد الحرية بالقانون ولو سن القانون لها؛ لئلا أكون به حرا في استبداد أو مستبدا في حرية. وما أغرب هذا القول في هذا العصر الدستوري، خصوصا بعد هذا الانقلاب الأخير الذي كنت أول المتمنين له، ولكن آخر الحالمين به، حتى قلت فيه لشدة يأسي منه، في مقال عنوانه «وكما تكونون يولى عليكم»: «لا يأتي الدواء من العراق حتى يكون العليل قد فارق.» وهذه نبوة ثانية لي كاذبة - على الأقل الآن - فكأني العاطوس في معطس الدهر، فكلما قلت قولا كذبتني الحوادث، حتى صرت أتمنى أن تنفتح لي أبواب الجحيم؛ لأكون على يقين من الفوز بجنات النعيم.
وهذا هو السبب الذي لأجله لم أقبل أن أنتظم في جمعية مشروعة انتظاما قانونيا، ولو انضممت إلى مبدئها، وكنت في طليعة الذائدين عنه؛ لأني أريد أن تبقى لي حرية القول والعمل للبلوغ إليه غير مقيد فيه بنظام أو زمان. ولقد غر بي بعضهم من كتاباتي في أول نشأتي، وظن أن الذي يكتب ما أكتب لا يمكن إلا أن يكون عضوا في تلك الجمعية الكبيرة السرية التي عفا جوهرها تقادم العهد ، ولم يبق منها اليوم إلا تلك السخافات التقليدية والتهويلات الإرهابية، والتي فاقت في الاحتفاظ بها كل تقليد. فكتب إلي يطلب مني أن أدخله في الفرع منها الذي أنا منه، وما كان أشد حيرتي حينئذ للجواب بما يدحض الظن ولا يؤلم العواطف؛ لأن تحويل الظن نفسه جرح، وإن كانت الكهولة لا تتألم منه إلا أنه في الناشئة أليم. فكتبت له، واقتصرت على هذا القول كأنه جملة إنشائية: «أما أنا فلا أختص بجمعية دون أخرى، وإنما أنا عضو في جمعية كبرى من ضمنها جمعيات.» فلم يبطئ أن كتب إلي أن أدخلني في هذه الجمعية. فكان استغرابي حينئذ أشد من حيرتي، وفضلت هجر الصمت على ألم التقويم بالرد، والرجل لا أعرفه، ولا أعرف اسمه اليوم، فليطمئن من ذكر الحادثة.
وما ذكرتها إلا بيانا لسطوة النظامات الموضوعة على العقول ولو المتنورة، حتى إنه ليزول جوهرها ولا يبقى إلا عرضها، ولا يزول سلطانها. فكم من نظام وضع لمبدأ حسن، ثم كان النظام نفسه مزيلا لحسناته مطفئا لنوره! وبقي نظامه راسخا لا يتقلقل، حتى تهب عليه عواصف الثورات، فتقتلعه عنوة كما تقتلع الأعاصير بواسق الأشجار من جذورها، ولكن بعد إضاعة الزمن الطويل؛ أي إلى أن تبلغ الأفعال المتجمعة ضده مبلغها الهائل من الانتشار والشدة، ولولا ذلك لسار الاجتماع في ارتقائه على وتيرة واحدة مع الطبيعة في نظامها الطبيعي الذي هو بالحصر: «لا نظام إلا قدر المنفعة.» وسرعان ما أسمع المعترضين من أحرار ومتقهقرين، مقيدين وغير مقيدين، دستوريين وغير دستوريين، إلا الذين استهواهم نظام الطبيعة المطبوع، ولم يفتنوا بنظام الاجتماع الموضوع؛ يصخبون ويقولون متعوذين: «كأنك تدعو الاجتماع إلى أن يكون الناس فيه فوضى لا سراة لهم.» وما هي إلا ألفاظ وضعوها هم وآباؤهم ما أنزل الله بها من سلطان، وإلا فاللانظام الذي ندعو إليه ليس بدعة، أوليس هو رائد أبدع قوى الطبيعة كما هو شأن الحياة؟ أوليست مركباته أبدع مركباتها كما هو شأن الأحياء؟ فكما أن الطبيعة ترقى إليه، فالاجتماع لا بد من أن يتحول كله إليه ، وما وقوفنا في سبيله بمحض إرادتنا وبنظاماتنا إلا جناية فوق جناياتنا الأخرى عليه.
وعدم احتفالي بالإعراض هو سبب عدم احتفالي بالنظامات الموضوعة ، غير ناظر من خلالها إلا إلى المبدأ والجوهر، ولا يراد من ذلك أني أبدي احتقاري لها في غير مقام الانتقاد، بل بالضد أنا من أشد الناس احتراما لها في مواقفها، فإني لأدخلن الجامع والكنيس والكنيسة وفي نفسي تأدب فوق خوف المتقين، ومع ذلك فلم أسلم من شرها؛ فقد وقفت مرة أمام قاض - غير موقف المتهم - فما عتم أن نظر إلي مقطبا، فبسطت له وجهي لعله يحل قطبة من قطب جبينه، وكأنه استعظم سلطته، فأراد أن ينتقم بها لأجداده عن خمس عشرة ألف سنة مضت، فانتهرني كأني أجير في باب أمير، وما علمت أني أسأت الأدب بحضرته إلا بعد أن دلني على أن يدي التي كانت هنا يجب أن تكون هنا. فصدعت بالأمر صاغرا صونا لكرامتي من أعظم في هذا المأزق الحرج، ثم مر بخاطري بسرعة البرق التاريخ الطبيعي والاجتماعي وأثر الماضي في الحال، وسرعة هذا الانتقال، وترحمت على الخليل فعذرته، وعلمت لأول مرة أن التأدب غير الأدب الحقيقي.
واللانظام الذي ندعو إليه ليس كأوس الأقدمين، ولا فوضى المحدثين، وإنما هو نظام أيضا ولكنه متحرك، فلا يستقر على مر الأجيال حتى تضيع به الغاية التي وضع لأجلها، بل يتغير لكل حال صونا لهذه الغاية. ولو راعى الناس في شرائعهم ذلك لما بدا فيها كل هذا الوهن، ولما سببت كل هذه الحروب بين منكر ومقر، وكافر ومؤمن، وناقم وراض، وبين الشيع من كل حزب، ولما بدا مصلح الأمس رزءا على مصلح الغد، ولكن هي الأعراض أربت على الجواهر، وكان ضررها في الاجتماع أشد؛ لأن الاجتماع عاقل، فأضاف إلى تباطؤ سير الطبيعة المطبوع تثاقل نظامه الموضوع.
ولكن نواميس الاجتماع كنواميس الطبيعة، مصيرها فيه إلى الارتقاء، ولو أدت به إلى الوقوف والتقهقر أحيانا، وسرعتها فيه كسرعتها بالقلب كمربع البعد، واستخدام الإنسان قوى عقله الصائب فيه تزيد هذه السرعة سرعة على نفس هذه النسبة. ومن يوم خطت أوروبا خطاها في سبيل العلم الحقيقي، وأخذ ظل الأوهام يتقلص من العقول؛ صار الأمل كبيرا بسرعة هذا الارتقاء . ولا نريد بهذا القول أنها على وشك بلوغ الغاية القصوى فيه، وإنما هي اليوم على فجر النهضة الحقيقية. ولا ريب في أنها ستكون الأولى في الاستفادة، وسيكون شأنها شأن المنارة التي يستضيء العمران بها في العالم أجمع؛ لسهولة ارتباط بعضه ببعض، وسيطرة بعضه على بعض اليوم؛ بفضل مكتشفات العلم ومخترعات الصناعة. وأول خطاها في هذا السبيل ستكون تأييد سيادة الأمم سيادة حقيقية، وسقوط سيادة الملوك. ولا يستتب لها ذلك على قواعد متينة حتى تنتشر وتتأيد فيها الاشتراكية الصحيحة المبنية على تقاسم المنفعة على نسبة الاشتراك في العمل، لا كما يفهمها البعض من خصومها. وإن من يقابل بين حالة أوروبا قبل حرب السبعين وما آلت إليه بعهدها من الارتقاء الحقيقي في كل شيء يرى أن سيادة الملوك في احتضار من ذلك اليوم، بل من يقابل بين حالة الشعوب الجرمانية من عهد غير بعيد وما هي عليه اليوم من الاشتراكية العظمى، يستعظم مجرى الأفكار فيها لخلع تلك السيادة، ولا يتوقف تقريب أجل ذلك إلا على حركات عاهلها اليوم؛ لأن شدة الضغط تسرع الانفجار، وهي حركات لو كانت في عصر نابليون لألهبت العالم، ولسجد لها كل معجب بسلطان الفرد، ولكنها اليوم حركات يزدري العاقل بها، وقد لا تضر إلا مؤتيها.
المقالة الثانية والثلاثون
حلم هو الحقيقة
1
بت ليلتي وعوامل متناقضة تتنازعني، قليلها يوجب الشكر ويجلب الهناء، وكثيرها يلهب الفكر ويمزق الأحشاء. وإذا بي كأني في قاعة تسطع فيها شموس الأنوار، وتجعل الليل أبهى من النهار، مكتظة بأناس طلوا الظاهر، فما زادهم الطلاء إلا نميمة شفت عما في الباطن، وهم يشهدون تمثيلا من عالي الوضع، ولكن مبتذل الطبع. رأيت الحب يتضرم فيقدم، ويتألم فيحجم، ثم يتهتك فيشين، وينقم فيخرب العالمين، والناس يعجبون ويصفقون، ثم يقولون هذا هو الأدب الرائع. فسألت فقيل لي: «هذا ملهى الرجال.» فقلت: «بئس الأطفال!» وخرجت.
وإذا بي في قاعة مظلمة كأنها الليل الدامس، ثم انبثق نور لامع مزق سجفا من ذلك الليل المدلهم، وإذا الجبال والأودية والأنهار والبحار والمناجم والمصانع والحيوان والنبات والإنسان والبلدان والمدن، تمور مورا، وتنتقل بي وأنا في مكاني بين الأقطار الشاسعة، والأعمال النافعة. فقلت: «ما هذا؟» قيل: «ملهى الأطفال.» فقلت: «نعم رجال المستقبل!» ثم خرجت.
وإذا بي في قاعة كأنها القطب البارد، قام فيها رجال يتكلفون الجلال، ويحدثون بأنواع الكمال، وإذا بهم في قرون الجهل والضلال، يصفون الكلام بانسجام؛ ليلهوا الناس عن الحاضر بالغابر. فالتفت مع الملتفتين، ومددت رجلي مع المادين، وما انتبهت إلا وعنقي من التلفت إلى الوراء يكاد ينحر، ورجلي أمامي تتعثر، فصرخت من الألم: «ما هذا؟» فقيل لي: «الجامعة.» قلت: «ما هي إذن بالنافعة.»
ثم انتقلت، وإذا دوي يصم الآذان، كأن فولكان القدير يتهدد البشر بصواعقه، وشرر يتطاير كأن جهنم استبطأت الناس فتهادت إليهم نارها فأوغلت، وإذا أنا في مكان رهبت منه رهبة إجلال؛ إذ رأيت هراقلة البشر يغالبون الطبيعة فيغلبونها، تعصف بالنار رياح كيرانهم كأنها نفخ الأفاعي، فيذيبون بها الحديد كالشمع، ويصبونه صبا كالزيت، ثم يصنعون منه أسلاكا أدق من لعاب العناكب، وينهالون عليه بمطارقهم، فيدعونه صفائح أرق من دين الكافر، فقلت: «ما هذا؟» قيل لي: «ورش بولاق.» فقلت: «نعم المسجد!»
ثم انتقلت، وإذا أنا في بناء فخيم، يملأ أربع زوايا المسكونة، مزوق الظاهر، مزخرف الباطن. فنظرت، وإذا في جهاته الأربع أقوام يتشاوسون، يطولون ويقصرون، ويقومون ويقعدون، وغيرهم ينوحون ويتخبطون، أو يستطيبون ما يكرهون. فخرجت ولم أسأل، وقلت: «الجهل بهم خير من العلم.» وإذا بعاصفة حملتني، ثم وقفت بي على شاطئ بحر، رمله كحصباء الدر، فأجلت طرفي من «مفقش الموج إلى مبسم الثلج»، وقلت سلام عليك أيها الوطن الحبيب. وإذا أكمة كأنها كرسي الجوزاء قائمة، تطل على ذلك البحر، وعليها بناء فخيم، أو هو سلسلة بنايات تناطح السحاب سموا، وكأني فيها، فرأيت ميازيب العلم تتدفق منها، كالبحر الزاخر، علوم المعادن والحيوان، علوم النبات والإنسان، علوم الطبيعية والكيمياء، علوم منافع الأعضاء وطب الأبدان، علوم الفلك والأحداث الجوية، وعلوم اللغات بقدر ما يستطيع الإنسان أن يفهم ما يعلم، وأن يعبر عما يفهم. فتذكرت عهدا مضى، وقلت هذه مرضعة العلم الصحيح. وذكرت قولي فيها يوم فصالي عنها:
أيا نسمات الريح مني تحملي
سلاما على ربع أطال تغزلي
ويا ربع بلغ في حماك تحيتي
عروسا بكأس العلم في الشرق تنجلي
عزيزة أمثال ودان وصالها
تقول وقد ماست بثوب التدلل
لقد طالما ألقى الرحيق محرما
ألا فاشربوا من ذا الرحيق المحلل
فسلام عليك أيتها المدرسة الكلية وألف سلام!
ثم صحوت، وإذا الحقيقة كالمنام.
المقالة الثالثة والثلاثون
الزلازل غضب الآلهة؟
1
لا ريب أن الإنسان، كما كان وكما هو اليوم، لا يستحق رحمة من خالق ولا عطفا من مخلوق. نهم جشع ظمئ لا يرويه شيء يلهمه، فتاك غدار سفاح لا يردعه دين أو أدب، ولكنه مخلوق ... فهل خلق مستودعا للشر وقارورة للفساد؟ ولماذا لم يخلق وديعا كالحمل وطاهرا كالحمامة، وهما دونه في مراتب الخلق، ولم يخصا بما خص هو به من حلو آمال وجميل مآل؟ حتى قام عليه إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب المنتقم، وأمطره نارا وكبريتا، ونسف به الأرض حمما لذاعا، ودفنه حيا تحت التراب يقاسي هول العذاب، وكأن في إمكانه أن يخفف عنه مشقة هذا الغضب، ويخفف عليه عذاب هذا المصاب، لو جعله أقوم خلقا وأصلح خلقا، وما ذنبه وهو ليس كذلك؟ بل ما ذنب هؤلاء المساكين الذين فتكت بهم الطبيعة العمياء، فانشقت الأرض بهم وابتلعتهم، وجرفهم الماء إلى قعر البحار؟ ولماذا كانوا عبرة لسواهم ولم يكن سواهم عبرة لهم، ولا فضل لسواهم عليهم؟ ولماذا لم يكن المحق شاملا، وهو عين الصواب لو صح القول؟ فاتقوا الله يا دعاة الله، وكفوا عن نسبة مثل هذه المظالم إليه، وأعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولا تجمعوا فيه بين النقيضين، وتعيدوا لنا به عصر تيمورلنك وملوكنا الجبابرة السفاحين، فلا تجعلوا الزلازل من غضب الآلهة، وهي من الطبيعة الغشيمة وشرها أعمى. فليرحم الإنسان الإنسان، ولا يشدد القضاء عليه في مصابه، وهو ليس أصلح في نجاته منه في نكباته.
هل دريتم بما جنيتم فمظلو
مون أنتم وأنتم الظالمونا
المقالة الرابعة والثلاثون
نظرة هامة في مسألة عامة:
1
انتقادية فكاهية
ما لي أراك أيها القلم تتعثر وعهدي بك أجرى من السيل، وتتثلم وعهدي بك أمضى من السيف؟ أفراغ جيبك أفرغ جعبتك؟ وفراغ الجيوب أملأ لوطاب العقول وأفسح لمجال الأفكار. أم تراكمت دونك العقبات، فخشيت قول الشاعر: «الجود يعدم والإقدام قتال.» ونسيت قوله في صدر البيت: «لولا المشقة ساد الناس كلهم.» أم لعلك نسيت قولك:
رب ساع بالعزم وهو ضئيل
دك طودا من راسيات الجبال
أم كبرت عليك المطامع فثبطت منك الهمم؟ أولست أنت القائل:
رب ساع بالحزم وهو ضئيل
صار قيلا من أعظم الأقيال
أم راعك أن قراءك لا يبلغون نصف العشر ولا نصف نصفه،
2
فتذكرت قولك:
قد يني المرء لاقتضاء استواء
ووفاق لسائر الأحوال
وذهلت أنك أنت القائل:
غير أن الإنسان يفعل في الأح
وال ما قد يفعلن في الأشكال
أم تزاحمت عليك المواضيع، وانهالت عليك الأفكار، فوقفت بينها حائرا كما وقف حمار «بوريدان» بين حزمتي الحشيش،
3
لا تعرف بأي تبدأ ولا أيا تختار. أتبدأ بقولك: «الإنكليز يصلحون، فلماذا يكرهون؟» كأنك تريد أن تثبت هنا حقيقتين متناقضتين، ولو بحثت عن السبب لزال منك العجب، فالإصلاح واقع لأنه ينطبق على مبادئ هذه الأمة العظيمة، وحكومتها لا يسعها إلا أن تسير على رغائب الأمة؛ لأن قيادها في يدها. فمصر تحت سيطرة الإنكليز انتظم ريها، واتسعت زراعتها، وأثرى فلاحها، وصارت حياته ذات قيمة، وانتظمت ماليتها حتى صارت موضع ثقة العموم، وبلغت الحرية فيها مبلغا تفتحت له أبواب السجون، فالإصلاح حقيقي ولو ابتلعت
4
بواخرها في البحر، وأغرقت بسنديلتها في البر، فالبواخر في البحر معرضة للحيتان، والأرض في البر معرضة للطغيان، ويقال أن ستبقى راية مصر تخفق في البواخر فوق راية الإنكليز، كطربوش صاحب المؤيد فوق قبعة القبطان.
5
وأما كرههم فحقيقي أيضا، وله سببان: الأول طبيعي؛ فهم دخلاء في البلاد، والدخيل لا يحب ولو جلس في أخريات الناس، فكيف به إذا جلس في صدر البيت؟ على أن هذا السبب ليس بالجوهري؛ فهو غالبا يزول إذا رأى أهل البيت في الدخيل كفاءة وامتيازا، وأنسوا منه حسن معاملة وصلاح حال. والسبب الثاني، وهو سبب هذا الكره الحقيقي، عتو بعض أفراد الإنكليز، وصلفهم واستبدادهم وتغطرسهم، وإساءتهم إلى الذين تربطهم بهم روابط المصلحة في دوائر الحكومة. فالحق يقال إنه يوجد بين هؤلاء الأفراد من لو شد إلى قرن لم يقو عليه ... اثنان. على أنه كما يوجد فيهم عتاة يوجد فيهم أيضا من لو وضعته على جرح لكان كالبلسم كما في كل أمة، وقد تعود الناس إذا رأوا إساءة من فرد أن يطعنوا على هذا الفرد بالطعن على جنسه، حتى يظن الذين يسمعونه أن كل أبناء جنسه من طرزه، فيتوهمون أن أعمال هذا الفرد المغايرة تنطبق على سياسة حكومته ورغائب أمته. وهو خطأ؛ فإن حكومة الإنكليز وأمتهم لا ترضيان عن سلوك مثل هذا الفرد لو علمتا به. والذي يزيد عتو هؤلاء الأفراد الذين هم على أمتهم شر من الأعداء جبن مرءوسيهم، وانقيادهم لتحكمهم حتى يتمادوا في احتقارهم. وعندنا أدلة كثيرة على أن اللورد كرومر لا يسمح باهتضام الحقوق إلى هذا الحد، ويكون جذلا مسرورا إذا كان الناس يرفعون إليه شكاويهم، ولا شك أنه ينيلهم حقهم إذا كانوا محقين. فلو جرى الناس والجرائد على هذه الخطة عوضا عن الطعن العام الذي يوغر الصدور لخدموا الأمتين؛ أمة الإنكليز لأنها تعلم مكان الضعف فتداويه، والأمة المصرية لحصولها مع الإصلاح العام على احترام الحقوق الشخصية. فتقوى روابط الألفة بين الأمتين. وانقياد فرد لفرد وأمة لأمة قضاء طبيعي؛ فالمجاملة والحالة هذه خير من المخاصمة العقيمة؛ فقد قال إمام الشعراء:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
6
أم أتكلم في موضوع «كثرة الوفاق نفاق»، هؤلاء يقولون إن الإنكليز كل أعمالهم سيئات، وأولئك لا يرون لهم إلا حسنات. ومهما حاول كل من الفريقين تأييد رأيه فلا نظن أن ذلك ينطبق على الواقع، والعقل لا يسلم بإمكانه، فتقع الريبة، وتسوء الخدمة التي يتوخاها كل واحد من خطته. ونعني بهذه الخدمة الخدمة العمومية. وقد لا نشك نحن بأن كلا من الفريقين قد يكون مخلصا في دعواه، ولكن زيادة التحمس كثيرا ما تؤدي إلى تجسيم الوهم على حد قوله:
وهمناك أن تعطي فلو لم تجد لنا
لخلناك قد أعطيت من شدة الوهم
إلا أن عموم الناس لا يفهمون ذلك، فتغرهم الأمثال، والأمثال، ولا يخفى، تجري مجرى الحكم، ويشجعهم خصوصا انطباق السجع، فيقولون: «كثرة الوفاق نفاق.»
أم أتكلم عن السجون، فقد مر بك ذكر هذه اللفظة عرضا، وهي موضوع يستحق الالتفات، كيف لا؟ أليست السجون المكان الذي نختاره للراحة من عناء الأشغال، وتبلبل البال، إذ تضيق بنا الحال؟ فالاهتمام بأمرها مما يهم كل إنسان، فهي بين الفنادق والمستشفيات. ومن يضمن لنفسه، كبيرا كان أو صغيرا، أميرا أو صعلوكا، غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا؛ أنه لا يحل يوما ما ضيفا على الحكومة في هذه البيوت المروضة للأبدان المروقة للأفكار؟ ونحن في عصر بلغ فيه التأنق والاعتناء بالفنادق والمستشفيات مبلغا عظيما، وما ذلك إلا لأن أحوال البشر اقتضت ذلك؛ لأنه لسوء الحظ أو لحسنه زادت احتياجات الإنسان بالتمدن، حتى صار انتفاء أسباب الراحة التي تعودها يجلب له الضرر. ولسوء البخت كذلك، الناس في الهيئة الاجتماعية طبقات، فلا يقاس العالم بالجاهل، ولا يعامل المتعود على التأنق بالمعيشة كالمتعود على قشف العيش، فإنزال الرفيع إلى مقام الوضيع لا يناسب أحيانا كثيرة، والعكس جائز هنا.
والسجون وجدت لحبس الرجل عن الشر، وترويض أفكاره مدة سجنه، فإذا لم تستجمع كل الوسائل الصحية والأدبية انقلبت فائدتها، وزادت الأخلاق فسادا إذا كانت فاسدة، وربما أفسدتها إذا لم تكن كذلك. وكما أن الذنوب التي يرتكبها البشر درجات، فالعقاب يجب أن يكون درجات كذلك، لا في مدة السجن، بل في نوع السجن أيضا. ومن الذنوب ما هو أرفع مقاما من سواه ولو عاقب عليه القانون، فالذنوب السياسية والكتابية غالبا قلما يعد السجن فيها إهانة حقيقية تلبس صاحبها وصمة عار لا تمحى. ونعني بالذنوب الكتابية الذنوب التي يرتكبها كتاب لهم شأن معدود في عالم الكتابة، لا الكتاب المتطفلون الذين لا شأن لهم مطلقا. فحبس مثل هذا المذنب مدة لا يراعى فيها مقدار ذنبه والضرر الذي نشأ عنه، والضرر الذي يلحق به في حبس واحد مع القاتل والسارق والمرتكب، بل حبس المتعلم والمتهذب مع من لا تربية له ولا خلاق، وفي مكان غير متوفرة فيه أسباب الراحة والصحة، كما هو شأن أكثر السجون.
7
لا شك أنه مفسد للصحة، مفسد للأخلاق. ولا نظن أن القصد من السجن إدخال الأمراض على الجسد والعقل لقتلهما وقتل مستقبل الإنسان، خصوصا لذنوب كثيرا ما تكون هوائية. وإني أتصور في نفسي أنه لو وقع لي مثل هذا الأمر، وأخذت إلى السجن لسقطة قلم أو زلقة لسان،
8
وعوملت هذه المعاملة؛ لخرجت من السجن وعيناي تقدحان شرارا لا أطلب إلا الانتقام. وأؤكد للجميع بأن طباعي الحقيقية تأبى الإضرار عمدا حتى بالحيوان، بل أميل جدا إلى تحمل الضيم، وأمثالي في الدنيا كثيرون. فلماذا نفسد أخلاق مثل هذا الإنسان، ولا نحاول إصلاح جانب الضعف فيه، والانتفاع بما فيه من القوة؟ فالعقاب يلزم أن يراعى فيه أشياء كثيرة غير مستدركة لا في السجون ولا في القانون.
والقانون، وما أدراك ما القانون، مجموع شبهات وظنون، فيما هو كائن وما لا يكون، بل هو عقبة في سبيل تقدم الإنسان في العمران، ولو أغضب ذلك سادتنا القضاة والمتشرعين، ورموني بالجهل، وعدوني متأخرا عن عصري خمسة آلاف سنة أو متقدما كما يريدون. وقد عده الناس لبونابرت الحسنة الوحيدة بين سيئاته الكثيرة، وهو شر ما جنت يداه على الإنسانية، فلا قتله الألوف المؤلفة من البشر، ولا تخريبه المعمورة مدة ربع قرن، يقاس بشيء من أضرار هذا القانون الثابت. فالشريعة ليست من العلوم الرياضية حتى تدون في بنود كقضايا مسلمة تجري مجراها، ولا تنقح حتى يتفاقم ضرها ويكثر شرها. فالشرائع لا تعاقب ذنوبا بل مذنبين، كما أن الطب لا يداوي أمراضا بل مرضى ؛ فهي أبسط من ذلك جدا في أصولها، وأشد اختلاطا في فروعها، فالأحكام الاجتهادية أفضل جدا من الأحكام القانونية. ولا نظن أن البلاد التي تعول في أحكامها على الاجتهاد لا على القانون، كبلاد الإنكليز، أسوأ حالا من البلاد القانونية، إن لم تكن أصلح منها بكثير. أقول ذلك ولا أقصد به أمرا معلوما أو أناسا معلومين، وأرجو ألا يحمل الناس كلامي على ما بين طائفة الأطباء والقضاة مما بين السنور والثمثم (كلب الصيد)، خصوصا بعد حكمهم الجائر في باريس على المنكود الحظ الطبيب «لابورت»؛
9
مما أثار غضب الأطباء عموما على المحاكم، وسلقوها في جرائدهم بألسنة حداد.
وعلى ذكر الأطباء أقول إن هذه الطائفة - وقاك الله شرها - كثيرة النفع كثيرة الضرر؛ إذ يتوقف عليها صحة الأبدان وحياة النفوس، فإصابة منهم قد تحيي، وغلطة قد تودي. وهم من هذه الجهة يتشابهون كثيرا مع القضاة. والفرق بينهم، كما قال بعضهم، أن الأطباء يدفنون أغلاطهم في الأرض، والقضاة ينشرونها في الهواء (إشارة إلى دفن الميت وتعليق المشنوق)، وهم لو اقتصروا على ما سنه لهم أبوهم أبو الطب أبقراط، حيث قال: «على الطبيب أن يتوخى منفعة مريضه، فإن لم يستطعها فليتجنب الإضرار به.» لوجدوا لهم من أنفسهم عاذرا، ولما استحقوا كبير ملام؛ لأن الطب كما قال أحد حكمائهم: «يشفي نادرا، ويسكن غالبا، ويعزي دائما.» ولكن الأطباء بشر كسائر الناس، يختلفون نظيرهم في العقول والأخلاق، فهذا يعتمد على البساطة في طبه كما يكون بسيطا في ملبسه ومعيشته، وذلك على ذر الرماد في عيون المرضى، كما يذره في عيون سائر الناس في سائر أحوال معيشته، فلكي يصف لك قدح ماء يستقطر البحر، ويستمطر السحب، ويستسيل الجمد، ومنهم من ينظر إلى مريضه شزرا، ويجلس إلى جانبه ويعيره ظهرا.
10
وربما أراد أن يدل بذلك على خفة الداء، لا على قلة الاعتناء. ومنهم، وكنت أود ألا أذكر ذلك، من يقصد تكثير الربح كأنه شريك الصيدلي (أعوذ بالله من شر الصيادلة، فهؤلاء يلزم لهم فصل مخصوص)، فعوضا عن الدواء البسيط يعدل إلى المركب ، وعوضا عن أن يصف لك بعض قمحات في مقدار من الماء، يمزجها ويقسمها أوراقا أو حبوبا أو برشانات تزيد على المائة عدا ، ويشغلك يومك وليلك في تجرع هذا الدواء على الساعات والدقائق، والله أعلم بالعواقب. والحق يقال إن الذنب ليس كله عليهم، فالناس لا يرضون عن طبيب إلا إذا قلبهم ظهرا وبطنا فيما يلزم وما لا يلزم، وعادهم صباح مساء، وظهر عشاء، وكتب لهم من الدواء ما يخرج به من عند الصيدلي مستغيثا بالحوذي ومركبته. فعن الأول يقولون إنه «معتن» ولو لم يفهم شيئا، وعن الثاني إنه «شاطر» ولا يصفحون عنك. ولو فهمت حالة المريض من مجرد تحديق نظرك فيه، وشفيته بدواء لم تتعد به دائرة المطبخ؛ فإنهم لا يزالون يرمونك بالإهمال والجهل، ولا يريدون أن ينسبوا ذلك إلى نظرك الدقيق.
على أن الأطباء مهما بالغوا في الدهاء، فالمرضى يفوقونهم في ذلك؛ فكثيرا ما لا يكافئونهم بغير تمزيقهم بلسانهم. وأنا أنصح لك كلما سمعت أحدا يذم طبيبا أن تسأله إذا كان دفع له حسابه، فغالبا تجد أنه لم يدفع؛ لأن الذين يدفعون قلما يذمون. وزد على ذلك أن الأطباء أشبه شيء بالضرائر، ليس بينهم عصبية تحمي مصالحهم، فليس لهم رأي عام كما يقولون، ولو كان لهم ذلك لما تجاسر القاضي الذي حكم على «لابورت» المذكور أن يصب عليه ذلك الحكم الجائر. فقد قال بعضهم: «لو اعتصب الأطباء بعد الحكم على لابورت ثلاثة أيام امتنعوا فيها عن تأدية وظائفهم، لرأيت القضاة على أبوابهم يستسمحون.»
وعلى ذكر الرأي العام، أقول إن كثيرين يذهبون إلى أن الرأي العام في الشرق اسم بلا مسمى كالغول والعنقاء، ومع ذلك فنحن نسمعه في الجرائد كثيرا، ونفاه بعضهم عن المصريين بحجة قلة انتشار التعليم بينهم، وفي الأمر نظر.
11
المقالة الخامسة والثلاثون
شواغل
1
انقطعت عنك أيها البصير زمنا طويلا أو قصيرا حسب أميال كل قارئ، ووقع كتاباتي عنده موقع الاستحسان أو الاستهجان لشواغل تهون لدى البعض وتعظم لدى البعض الآخر. والناس يختلفون فيما به يتأثرون، فهنا رجل يخوض بحار الأفكار، ويصادم تيارها الجارف، ويقف سدا في وجه الحوادث كأنه الطود الراسخ. لا تقلقله ريح زعزع، ولا إعصار ينسف الرمال ويقتلع الأشجار، وينتصب مخروطا يصل السماء بالبحار، كأنه التنين الحران، ولكن رأسه في السماء، ورجله في الماء. يصادم كل ذلك بجنان لا يرتاب، وقلب لا يهاب، ولكن يحار ويتعثر لشيء يذكر ولا يذكر، قد لا يعتد به سواه ممن ينوء تحت عبء أقل القليل مما ذكرناه.
شواغل غير الشواغل التي أشار إليها «أتوس»
2
في وصفه لي وصفا عقل لساني وأطلق فيض قلبي، فلم يبق لي غير دمعة شكر أسالتها عيني على دمعة فكر أسالها قلمه البليغ. شواغل لو قام لها الحريري من قبره ونظر إلى ما حوله، لبدل قوله:
أصطاد قوما بوعظ
وآخرين بشعر
وأستفز بخل
عقلا وعقلا بخمر
بهذا القول:
أصطاد قوما بمال
وآخرين بمال
وأستفز بمال
عقلا وعقلا بمال
ولكسر القلم، وأنشأ مقالة سماها: «رثاء القلم، في بلاد الرمم.» افتتحها بقوله:
ما لي أراك حزينا أيها القلم
هل مات قومك يا مسكين كلهم
ماتوا ويا ليتني ما عشت بعدهم
أما تراني وحولي كلهم رمم
قف أيها القلم قبل أن تتهور من حالق، فما عهدي بك ممن يتجر بالكلام، هل غرك أن المثالب تشرى وتباع، وتهتز لها عروش الملوك في الأصقاع
3
ونسيت قولك: «الناس مذاهب، والنفوس مراتب.» أم خشيت الملام،
4
وما قلت حتى اليوم غير الحق، وما نطقت بغير الصدق؟ يعترف لك بذلك العدو قبل الصديق، ونفسك من وراء ذلك لا ترتاب؛ لأنك في كل ما تقول تعرض عن الأشخاص، ولا تشدد الطعن إلا على المبادئ. فما أنت ممن يحب في البحث التعرض للآحاد، بل تتصدى للجموع، ولا الوقوف على الجزئيات، بل تتخطاها إلى الكليات. تشهد بذلك مباحثك كلها، والكتابة مرآة الأفكار، والأفكار صور الأميال، فلا تخالف أميالك؛ لأن الشر في الدنيا إنما نشأ عن مخالفة هذه الأميال لاعتقاد الأوائل أن العنصر الغالب في الإنسان هو الشر، فحاولوا في تعاليمهم كلها مقاومة أمياله الغريزية، وعلموه أن يخالفها، فاكتسب صفات غير صفاته الطبيعية، صفات مشوهة، يجهد الإنسان نفسه لتطبيقها على طبيعة مختلفة عنها في المبدأ، تنقلب شرا إذا خلا بنفسه عن نظر الرقيب؛ مما يدلك على أنها صفات مصطنعة لا طبيعية. ولا يصح هذا المبدأ حتى يصح أن جمال الصناعة أفضل من جمال الطبيعة، و«ليس التكحل في العينين كالكحل»، حتى صارت كل أعمال الناس مصانعة تنطبق على قوله:
أرائيك فليغفر لي الله زلتي
بذاك ودين العالمين رياء
فالإنسان لم يكذب إلا لأنهم عاقبوه على الصدق، ولم يسرق إلا لأنهم حجبوا عنه ما يحتاج إليه. ولا ريب أن كثيرين يستغربون هذا القول، واستغرابهم له هو الباعث على ذكره؛ لأن استغراب الشيء يحدث في العقل رجة كثيرا ما تكون في أول الأمر ضد هذا الشيء والمنبه إليه، إلا أنها لا تلبث أن تحمل هذا العقل نفسه على التفكير والبحث. وهذا يزحزحه عن مألوفه المتقادم عليه، ويطلقه من عقاله المخمول فيه. والكتابة إن لم يكن فيها ما ينبه الأفكار بسطا أو إلماعا، ويفسح للعقل مجال البحث؛ لم يكن فيها شيء مفيد، وكانت كبيت الشعر المستوفي قواعد الوزن والإعراب الخالي من المعنى؛ أي كأكثر أشعار هذا العصر.
5
وهذا الميل في الإنسان إلى تشويه الأخلاق، أي الصفات الأدبية، ظاهر فيه أيضا في تشويه الخلق، أي الصفات الطبيعية، مثل: تشريح الخدود عند الزنوج، والوشم عند أكثر قبائل الشرق، وتشويه الرجلين عند الصينيين. وذكر أبقراط جيلا من البشر كان يطلق عليه اسم المكروسفال، أي الرءوس المتطاولة، كان يشوه رءوس أطفاله حتى تتطاول. وذكر شعبا من الصقالب كان يشوه صدور بناته بإزالة ثديهن الأيمن بالكي بالنار وهن طفلات.
6
وقد جرى الناس في تشويه الأخلاق مجراهم في تشويه الأجسام، وهم في الحالين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إلا أن تشويه الصفات الطبيعية قلما يكون له أثر يتجاوز الواحد من الناس، وقلما ينتقل بالوراثة، فلا يخشى تأصله. ولعل صعوبة انتقاله بالوراثة هو الذي صرف الناس عنه بسرعة أعظم من سرعة انصرافهم عن تشويه الأخلاق حتى قل ذلك اليوم، وانتفى أكثره من بين الجمعيات المتمدنة، وانطفأ أثره بانطفاء المشوهين أنفسهم. وأما تشويه الأخلاق فأرسخ أثرا وأسهل انتقالا بالوراثة، وأصعب انتباها إليه؛ ولذلك لا يزال أثره شديدا حتى اليوم في أعظم الجمعيات المتمدنة. ولهذا نرى الناس في تعاليمهم الدينية والأدبية حتى الطبيعية حاولوا إدخال هذا المبدأ، فعلموا قهر النفس، وعدوا ذلك من الفضائل والمداجاة، وعدوها من حسن السلوك والدهاء. ومن قهر النفس إلى انفجار غضبها وارتكاب المنكر، ومن المداجاة إلى الرياء والكذب، لا يوجد إلا خطوة. فتولدت في الإنسان أميال لم تكن فيه، واكتسب عيوبا كثيرة كان يمكن ألا يعرفها. وكثير من الأمراض العصبية نشأ وتأصل وانتقل في نسله بسبب ذلك. ولم يقتصر ذلك على العلوم الأدبية، بل العلوم الطبيعية نفسها لم تسلم من هذا المبدأ؛ فلقد طالما عدوا أميال الطبيعية ضلالات، فاجتهدوا في مقاومتها، فكم من مريض بات يتقلى على جمر الحمى، فلا يسمحون له حتى ولا بالهواء، ويشكو الظماء فلا يجودون عليه بجرعة من الماء، وربما أكثروا له من الدثار، وأوقدوا في غرفته النار.
وإن العقل ليحار كيف تولدت هذه التعاليم؟ وكيف تمكنت من الناس حتى صار التمسك بها يعد فضيلة وصوابا، والخروج عنها رذيلة وخطأ؟ وربما لم يكن الوقوف على أصلها متعذرا، والعلم بنشوئها ممتنعا، إلا أن الإفاضة في ذلك تدفعنا إلى مبحث يطول به الكلام، ولا يسمح به المقام، وربما عدنا إليه في فرصة أخرى.
المقالة السادسة والثلاثون
القضاء المبرم:
1
في اليد والقبلة والدرهم (صحية فكاهية)
لا نقصد بذلك يد الظالم التي يمدها للفتك بك، ولا قبلة المداجي الخائن الذي يبيعك بأبخس الأثمان، ولا درهم جاسوس السوء الذي يتقاضاه ثمن هدر دمك؛ وإنما المراد به أمر عادي جار كل يوم في المعاملات بين الناس، وهم على تمام الولاء والإخلاص، غافلين عما قد يجره عليهم أحيانا من السقم والبلاء.
ذهب الأطباء إلى أن أمراض الإنسان ناشئة عن أجسام حية، تتوالد وتنمو كما ينمو الحيوان والنبات، صغيرة جدا لا ترى إلا بالآلات المعظمة، سموها مكروبات، منتشرة في الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نشربه، والأرض التي نطؤها، وعالقة بكل شيء لنا به اتصال، وإذا نجونا منها أحيانا فلضعف فيها أو لقوة فينا . فالهواء الأصفر الضارب اليوم في البلاد على أسلوب غريب لم يسبق له مثيل في تاريخ الأوبئة، والحمى التيفوئيدية التي تفتك بنا كل سنة فتكا ذريعا، والتدرن الكثير الذي لا يبقي ولا يذر، والدفتيريا التي هي طاعون الأطفال، وغيرها من الأمراض الكثيرة الخفيفة والشديدة؛ أسبابها مكروبات خاصة بها تصل إلينا غالبا عن طريق الفم بالطعام والشراب. وقد عرفوا أيضا طرق إهلاكها، فهي لا تقوى على النار التي تطهر كل شيء، فإذا نقي الطعام والشراب منها مع ما في عصارات المعدة من الحوامض المفسدة أمن الناس شرها. ونقاوة الماء تكون بالترشيح، وأفضل من ذلك غليه، ونقاوة الطعام تحصل بالطبخ الجيد. تلك أمور لا نقصد الإفاضة فيها هنا، وقد صارت معلومة اليوم، ومرادنا فقط أن ننبه إلى انتقال جراثيم الأمراض بواسطة ثلاثة عوامل مهمة، وهي: «اليد»، و«القبلة»، و«الدرهم.»
فاليد أهم أعضاء الإنسان في المعاملات، يمدها إلى كل شيء، ثم يردها إلى فمه وعينيه، فإن لم تكن نقية كانت سببا لنقل العدوى، وهي العضو المستعمل للسلام مصافحة. والسلام باليد عادة لا نبدي رأيا في قبحها أو حسنها، وإنما نقول إنها شديدة الخطر؛ إذ إن الناس يتفاوتون في الاعتناء بنظافة أيديهم، وقد يحملون بها جراثيم أمراض كثيرة، وربما استغربوا إذا قلنا لهم إن السلام مصافحة قد يكون سببا لإيرادهم حتفهم، ولإتلاف عضو من أعضائهم كالعين. ولاتقاء ذلك على الناس جميعا أن يعتنوا بنظافة أيديهم، وما ضن الله عليهم بالماء، فالفقراء والأغنياء (ونستثني من ذلك سكان مصر والإسكندرية) في التمكن من الحصول على ذلك سواء، فلا يعذرون. ونعم ما فرضته عليهم بعض الشرائع لو أنهم يفعلون! ونعم العادة المصطلح عليها أهل الشرق، وهي غسل أيديهم قبل جلوسهم على الطعام! وأفضل منها غسلها كلما تمكن الإنسان من ذلك.
والقبلة، وما أدراك ما القبلة، صلة القلب بين العاشق والمعشوق، وصلة النفس بين الأم والولد ، وربما توسعوا فيها بين الصديق وصديقه، وهي هنا صلة لا نعرف لها اسما؛ إذ إنها غير طبيعية، فأمراض الفم والرئتين كثيرا ما تنتقل بواسطة القبلة، فكم من طفل بريء أصيب بداء رديء بقبلة من مرضعته! وكم من عاشق أخذ الداء بقبلة من عشيقته! وهنا نستميح العفو من سادتنا الشعراء، فليس برد الأنياب دائما ريح الخزامى أو نشر القطر، كما في قوله:
كأن المدام وريح الخزامى
وبرد الغمام ونشر القطر
يعل به برد أنيابها
إذا غرد الطائر المستحر
ولا الريق دائما بالشهد كما في قوله:
فقمت أرشف من شهد اللمى وأنا
أقول «هذا شفاء فيه للناس»
على أن الشعراء يتبعهم الغاوون، وهم في كل واد يهيمون، وكثيرا ما ينطقون بما لا يصدقون، فالحذر من القبلة؛ فكم تورث الجسم علة، والقلب دبلة.
وأما الدرهم المفرق بين الأم والولد، فلا مشاحة في أنه عصب الهيئة الاجتماعية، كما يصفه الإفرنج؛ إذ تتوقف عليه قوة الأفراد والأمم. وكما أنه عصبها سيكون يوما ما سببا لتمزيقها أيضا بما سيحدثه من الكوارث والقلاقل بين الشعوب؛ لانحصاره في جانب، وانحساره عن الجانب الآخر وهو الأكبر. ولسوء البخت هذا الحصر آخذ في الزيادة يوما عن يوم بما لم يسبق له مثيل في تاريخ العمران. وهو علة الاضطرابات الداخلية الحاصلة في كل مملكة، وتألف العصابات لمقاومة أصحاب المال. وإن لم يتدارك ذلك أرباب السياسة بالحسنى لا بالعنف، يخشى أن يكون سببا لخراب الممالك. هذا بالنظر إلى الاقتصاد السياسي، وأما إذا نظرت إليه طبيا فإنك تراه يصدق عليه قول الحريري:
تبا له من مارق ممازق
أصفر ذي وجهين كالمنافق
فإن الدراهم يتداولها الناس بأيديهم، ويضعونها في جيوبهم، ومنهم من يضعها في فمه! فتحمل جميع المكروبات التي تصادفها في طريقها، وتنقلها من واحد إلى آخر، مكتسبة كل مرة مكروبات جديدة على حد اكتسابها بالربا. ومن العادات السيئة إعطاء الدراهم للأطفال، فإنهم لا يتأخرون عن أن يضعوها في فمهم، فإذا كان عالقا بها جرثومة مرض كالزهري أو الدفتيريا أو السل، فتصور الضرر العظيم الذي يقع على الطفل من ذلك.
فهذه أيها القارئ اللبيب عوامل ثلاثة لنقل الأمراض، مهمة جدا، نبهناك إليها حتى إذا عرفت الداء سهل عليك الدواء، راجين لك بذلك النجاة من شر المكروبات، وهذا أفضل ما نتمناه للقراء الكرام على رأس هذا العام.
المقالة السابعة والثلاثون
لحس الأصابع:
1
نصيحة طبية
رأيت فتى يلعب بالنرد، وهو كلما أراد نقل حجر أرسل إصبعه (السبابة) أولا إلى فمه ولحسها بلسانه، وهكذا كان يفعل قبل نقل كل حجر، وكان يفعل ذلك بسرعة وخفة لا يحاكيه فيهما سوى ذوات الأيدي الأربع، كأن الأمر فيه عادة مألوفة ليس للروية فيها أدنى دخل. وهذا ما استلفت نظري إليه خاصة؛ لأني رأيته وأنا مار في الطريق، فذكرني ذلك عادة كثيرين من الناس، تراهم دائما يشركون ألسنتهم في كل ملموسات أيديهم. فالقارئ في كتاب يلحس إصبعه عند تقليب كل ورقة من أوراقه، والبائع يلحسها عند فرز كل بضاعة، واللاعب عند تناول كل ورقة من أوراق اللعب، وبعض الكتبة يلحس الحبر عن الورق كلما أراد محو شيء كتبه للفور.
وهي عادة قبيحة جدا وقذرة، وبعضها مناف لآداب المجالسة، وتجعل مجالسك يتقزز منك. وهي على العموم مضرة بالصحة، وقد تكون واسطة لنقل أمراض قد يكون بها القضاء على الحياة؛ إذ لا يخفى أن الأمراض تنتقل بسهولة عن طريق الفم، كالسل والحمى التيفوئيد والهواء الأصفر، وسائر الأمراض البسيطة والوبيلة.
ولا يخفى أن اليد أقذر عضو في الإنسان؛ فهي التي يصافح بها عند التسليم، ويتعرف بها كل ما يقع تحت نظره من الملموسات، ويقبض بها كل أنواع العملة. والعملة أقذر ما يتعامل به البشر؛ لانتقالها في الأيدي الكثيرة، ومن فم إلى فم كما يفعل أكثر السوقة من الناس، وكما يفعل الأطفال أنفسهم كلما وقع إليهم شيء منها. وإذا تحرينا جيدا نجد أن العدوى بالأمراض عن سبيل اليد هي على نسبة أعظم جدا منها بواسطة الطعام والشراب في الذين لا ينتبهون إلى هذه الصلة بين اليد والفم.
ولعل هذه الإشارة الوجيزة تكفي لحمل الذين يصل إليهم علم ذلك على الإقلاع عن هذه العادة المزدوجة القبح بقذارتها وضررها بالصحة، ولعلها تكفي أيضا لتربية الإنسان نفسه على الحذر من يديه، واعتبارهما من حين ما يخرج من بيته إلى أن يعود إليه عدوتين له، لا يأمن على نفسه منهما، فلا يقربهما من فمه حتى يغسلهما جيدا بالماء والصابون، ويكثر من الغسل كلما تيسر له ذلك.
ويا ليت الناس يقلعون عن المصافحة باليد التي هي من شر العادات، ويستغنون عنها إما برفع اليد إلى الرأس أو برفع العمارة عنه إذا كانت قبعة يسهل رفعها.
واليد إذا لم يتق الإنسان شرها هي أعظم جان عليه؛ فهي التي تجره إلى مواقف الردى في المحاكم والأمراض؛ ولذلك إذا وجب على الإنسان أن يحذر لسانه مرة، وجب عليه أن يحذر «يده» ألف مرة.
المقالة الثامنة والثلاثون
ضحايا الجهل (أو «الإنسانية المظلومة»)
1
لو تجرد الإنسان مما غرس فيه من بواعث التفريق بعلة الأديان، لما أتى منكرا بحق أخيه الإنسان.
على أن الأديان تنهى عن المنكر، وهي كسائر الشرائع التي يقصد منها إصلاح العمران تعلم العطف على الإنسان.
ولكن الأديان، كسائر مخترعات البشر، تتحول من النفع العام حتى تصير وسائل للكسب في أيدي الذين اتخذوها تجارة لجذب الدنيا، ولو بالقضاء على الإنسان.
رؤساء الأديان من كل دين وملة علموا الناس حتى اليوم غير ما تأمرهم به الأديان، وكم قاموا يبيعون دينهم بدانق، وفرطوا بمال الأيتام، وكم خدموا به أغراض عتاة حكامهم؛ ليتقسموا معهم الدنيا، ولو داسوا الدين بالأقدام.
قامت النصرانية في العصور الوسطى بفظائع تقشعر لها الأبدان، حاشا للإنجيل أن يكون الآمر بها، وما قام بها إلا أولئك الذين هزءوا بالدين ليسحقوا به الإنسان بالاتفاق مع الحكام الظلام.
ولو كانت النصرانية تأمر بهذه الفظائع لما رأيناها، في الممالك التي ارتقت بالعلم، شديدة العطف على الإنسان، إلا التي لا يزال الجهل مخيما فيها، والتي لا يزال اليهود يذبحون فيها على مذبح الجهل ذبح الأغنام؛ مما يجعل الذنب كل الذنب على أولئك الرؤساء الطغام.
الإسلام دين اجتماعي ينهى عن كل شر، لا يقاتل إلا الذين يقاتلونه، ولا يعتدي على الإنسان، ويأمر بالذود عن المستأمنين الآمنين في ظله، وحاشا أن تأمر بغير ذلك شريعة القرآن؛ فالقرآن بريء من الفظائع التي ارتكبت وترتكب كل يوم بعلة الدين في مملكة بني عثمان.
فيا مقلنسي الجهل ومعممي الضلال، أين رأيتم في أديانكم ما يسمح لكم أن تزرعوا في رءوس أتباعكم الجاهلين التفريق بين الناس إلى حد التباغض والتقاتل، حتى قامت اليوم قيامتهم يقتلون بعضهم تقتيلا في الوطن الواحد، يعتدون على الآمنين لخلاف لا علاقة له بالدين؟
لو قامت الإنسانية في كل الدنيا، ونسرت لحم رؤساء الأديان، الذين هم وحدهم المسئولون عن كل الفظائع التي ارتكبت، ولا تزال ترتكب باسم الدين، نسرة نسرة لما وفت حق الانتقام منه؛ لما جنوه حتى اليوم على الإنسان.
عفوكم أيها الأنبياء الكرام، على قول، ويا أيها الرجال العظام، على قول آخرين، مما جناه باسمكم على الإنسانية هؤلاء الجهلة الطغام، الذين قلتم فيهم إن لهم عينين ولكنهم لا يبصرون، وأذنين ولكنهم لا يسمعون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون.
المقالة التاسعة والثلاثون
الأمم والحروب
1
الأرض واسعة جدا، وحتى الآن لم يملأها الإنسان؛ فهذه قارة أفريقيا على سعتها تعد أقل القارات سكانا، وأضعفها فيهم نسبة، ومجاهلها الواسعة غنية جدا، ولكنها لا تزال على الفطرة بكرا حتى اليوم، لم تطأها رجل فاتح، ولم تبقر بطنها يد عامل؛ فخيرها محفوظ في تربتها لا محراث يشقها، وكنوزها مدفونة في جوفها لا معول ينبشها.
وهذه بلاد روسيا على ضخامة ملكها وكثرة شعبها لا تزال متسعة جدا للإنسان، وصحراء سيبيريا لا تزال موطنا للدببة تسرح فيها وتمرح، ومنفى لمساكين الأشقياء، وللأحرار الذين عبثت بهم أيدي الظلام، فقطعوهم عن جسم الإنسانية ليهنأ لهم العيش، ورموهم هناك في جب العزلة يلبسون المسوح من جلود الدببة، ويقتاتون بيابس العشب وصديد القديد، ويعاملون ولا معاملة الإنسان للحيوان، بل أشد من معاملة الحيوان لعدوه الحيوان، إلى أن تموت نفوسهم، أو يقضى عليهم جوعا وبردا وعريا بعد آلام في النفوس هي أشد من عذاب الأجسام.
وهذه بلاد الصين، فمع أنها تعتبر منملة البشر، فمساحتها فوق ما تضم من الناس بكثير.
وهذه بلاد الهند، فحراجها لا تزال ملجأ وحوش الغاب، وأوديتها مواطن الأفاعي، ومستنقعاتها موارد الحتوف.
وهذه قارة أمريكا، وحكومتها أرقى الحكومات، وشعبها أرقى الشعوب، فاتحة أبوابها لكل عامل نافع تجود عليه بالأرض ليعمل فيها ويزيد في عمرانها.
وهذه المملكة العثمانية تستطيع أن تأوي فيها فوق ما فيها من السكان أضعافا مضاعفة.
وهذه أوروبا المتمدنة اليوم، المتضايقة أكثر من سواها، لم تبلغ الدرجة القصوى من العمارية.
فأنت ترى أن الأرض لا تزال واسعة جدا على الإنسان رغما عن تشاؤم المتشائمين وإحصاء الإحصائيين، تقوم بأوده مهما زاد في عدده، إلى أن يتاح له ركوب متن الهواء لافتتاح السماء، والمهاجرة إلى الأجرام، والسفر إليها بمراكب الحقيقة بعد مطايا الأحلام.
فالتنازع بين الإنسان ليس سببه المدافعة عن القوت، والحروب ليس الدافع إليها الخوف من الجوع، وإنما هي المطامع تحمل الإنسان على قتل الإنسان، والمطامع هي جوع النفوس، وهو أشد هولا من جوع الأجسام.
ألا ترى أن الإنسان، كما جاء في أساطير الأولين وفي كتب الدين، ما صار اثنين حتى قام قايين على هابيل وقتله؛ لأنه ظن أن الله فضله عليه إذ خصه بالضرع، وهو لم يخصه إلا بالزرع، والتفضيل مشكوك فيه؟ لا غرو إذا بقي الإنسان حتى اليوم أعرق في المطامع وأميل إلى الشر؛ لأنه بحكم الرواية من نسل قايين اللعين.
وهي حكمة عرفها السلف عن طبيعة الإنسان في حب التنازع؛ لأنه ابن هذا التنازع في ناموس الوجود، فعبر عن هذه الحقيقة الصادعة بذاك المجاز الرائع.
وأعمال الإنسان في جاهليته الأولى لم تخرج عن ذلك، فلم يكن الواحد يهب من رقاده حتى يعلو ظهر جواده متأبطا شره للنهب والسلب والتمثيل بعدو له لم يره قبل طعنه بسنان رمحه، أو ضربه بحد سيفه. ولا يزال يرود في طلب غنيمته بين الظعن والمضارب، ولا يرجع إلى الخيام إلا تحت جنح الظلام، ولا يهنأ له عيش حتى ينام على إثم، حتى صار ارتكاب مثل هذا الوزر عنوان الفخر الذي لا يعلو عليه فخر، فدبج الأصمعي قصة عنترة عبس العرب، ونظم هوميروس ملاحم أخيل اليونان، هذا يفتخر بأنه جندل أعداءه حتى تركهم، كما في قوله:
وقرا الطير والكلاب القيولا
وذاك بوصفه أبدع حقيقة في إيراده عدوه أشنع مورد، حيث يقول:
تحوم عليه عقبان المنايا
وتحجل حوله غربان بين
فوصفها كما رآها في حقيقة حالها تأكل منه حتى تشبع، وتحجل حوله حتى تجوع، ونهمها لا يدعها تفارقه. ولم يزل هذا شأن الإنسان حتى في انضمامه أسرا وقبائل وأمما تربطه بعضه ببعض صلة الرحم فالمنبت فالمصلحة.
وما انقضاض الإسكندر المكدوني بجحافله على الشرق، ونابليون على الغرب، وأنيبال في اقتحامه الأهوال، وقطعه الجبال، وما نهم كسرى في مجده، وتعسف نيرون في ظلمه؛ عن ضيق في الأرض أو شظف في العيش، وإنما هي مطامع أفراد ضاق بنفوسهم فسيح الغبراء، حتى لو افتتحوها لوقفوا يفكرون في: كيف أنهم يفتتحون السماء؟
ملوك سودتهم نفوسهم، وهونت عليهم ركوب الأهوال واقتحام المخاطر، فاندفعوا ورءوسهم على أكفهم مقامرين غير هيابين، وساعدهم جهل الجماهير فسادوا عليهم، ورموا بهم من كل حالق، فاندفعوا يدفعون بأرواحهم ثمن مجد سواهم، يحصدهم الموت بمنجله، وملوكهم يتمتعون بثمار فوزهم، ويرفعون على جثثهم قباب مجدهم. هكذا كان شأن الملوك في كل العصور، من كل عصامي جبار، إلى كل عظامي بليد. يوم كان الملوك كل شيء، وكانت الأمم لا شيء؛ لا غرو إذا كانوا كل حين في مطمع، وكل يوم في حرب. وكم أثاروا حروبا هدرت بها دماء الرجال، ورملت النساء، ويتمت الأطفال، لقضاء شهوة بهيمية. وحمر الناس يظنون أنهم يقضون واجبا عليهم.
ما أرفع الإنسان إذا عز، وما أدناه إذا ذل! ذاك يناصب آلهته العدوان، وهذا ينحط إلى أن يحاكي الحيوان. وما زال ذلك إلى أن انقضى زمن الخاصة أو تداعى، وقامت سيادة العامة أو كادت، فتنبهت في الأمم عاطفة المصلحة، تجمعهم فيها تارة جامعة الأديان، وطورا جامعة الأوطان، وأثاروا لأجلهما حروبا تشيب لها الولدان. وقد ضعفت تلك اليوم كثيرا في مجامع الأمم الراقية، ولكن جامعة الأوطان ما زالت عزيزة الجانب، يتذرعون بها إلى إثارة الفتن بين الأمم، وحملها على تقتيل بعضها بعضا. على أنه كلما ارتقى الناس قلت الحروب، وزاد الحذر منها بزيادة معداتها؛ إذ ليس أمنع للحرب من الاستعداد للحرب؛ ولذلك قل الخوف من الحروب بين الأمم المنيعة. وكلما ارتقى الإنسان أدرك أن التساهل والتسامح أدعى لمصلحة العمران، وأن الحياة أغلى ثمنا من أن تضحى على مذبح التوحش والجهل. فإن لم يكن هذا السبب الأخير هو الذي يصد الدول عن الاشتباك في حرب نراها تبرق لها وترعد اليوم، فلا شك أن الذي يصرفها عنها خوفها مما لكل واحدة منها من الحول والطول، فليس من أمة من أمم أوروبا الراقية اليوم ترضى بأن تضرم فيما بينها حربا، ليست الحروب الماضية بالنسبة إليها إلا كالألعاب النارية التي تطلق اليوم في الأعياد، وكل هذا التهديد والوعيد ليس إلا دعوة لاجتماع تتوازن فيه مصالح الجميع، وسينتهي عما قليل كغيوم الصيف تنحل بالندى.
2
المقالة الأربعون
أ ب ت ث
1
نشر البصير في أحد أعداده المتقدمة مقالة عنوانها «أ ب ت ث»، فأعجبني العنوان، وقمت أطالعها وأنا أنتظر أن يكون موضوعها، كما قام في ذهني، الحث على تعليم القراءة البسيطة لعموم الأهالي، خصوصا بعد ما ظهر من الإحصاء الأخير أن البلاد في تأخر عظيم من هذا القبيل. فإن سكان القطر يبلغون زهاء عشرة ملايين، وعدد الذين يقرءون لا يبلغ نصف مليون، نصفه من الغرباء الذين أكثرهم يحسن القراءة، وهذا العدد قليل جدا، ويضعف الأمل بنهوض البلاد من خمولها في زمن قريب. وإذا هي مقالة بليغة تبحث في أصل الحروف الهجائية، تهم المتبحرين في علم اللغات، بعيدة عما قام في ذهني عنها في أول الأمر.
غير أن نفس العنوان أفادني أن نبه أفكاري إلى هذا الموضوع المهم؛ أعني وجوب نشر القراءة بين الأهالي قبل أن نعمم بينهم تلك المباحث التي لا يفقهها إلا العلماء الذين أوتوا من العلم شيئا غير قليل؛ لئلا نكون كالكاتبين على صفحات الماء، أو الخاطبين في الصحراء.
ولا يخفى أن العلم اليوم دخيل في الشرق، أي إنه لم ينتشر فيه على قواعد سنن النشوء والارتقاء، فلم ينشأ في الأمة عن ميل عام فيها إليه دفعها إلى الترقي فيه شيئا فشيئا، بل جاءها من خارج مفاجأة لأسباب طبيعية واجتماعية، هي: تقريب المسافات بين الممالك بالاختراعات العظيمة، وسهولة اختلاط أمم المغرب بأمم المشرق بسبب ذلك. فتألفت من الأولين جمعيات لنشر العلم بين الآخرين، ومقصدها من ذلك نشر لغاتها، وترويج مصنوعاتها، وبسط حماياتها. وبالطبع لم يتيسر لهذه الجمعيات أن توفد وفودها إلى جميع الأماكن على حد سواء، فحيثما تمكنت من هذا الأمر انتشر العلم إلى درجة تعادل انتشاره في أوروبا، مع بقاء البلاد الثانية في ظلمات متلبدة من الجهل.
وهذا القول يصح خصوصا على الممالك العثمانية؛ فإن وفود هذه الجمعيات تمكنت من بعض البلاد تمكنا عظيما، وبلغت في نشر العلم فيها أقصى مبلغه في أوروبا نفسها، كما في بلاد سوريا، وخصوصا ولاية بيروت وجبل لبنان. وقد استفاد من ذلك المسيحيون أكثر من سائر الطوائف؛ فإنك لا تكاد تجد اليوم مسيحيا هناك لا يقرأ مهما كان فقيرا، للمناظرة الشديدة التي قامت في تلك الجهات بين المرسلين الأمريكانيين والمرسلين اليسوعيين، ولكن إذا كان قسم من البلاد هناك استفاد كثيرا في ملة من ملله، فجهات كثيرة من الممالك العثمانية لا يزال أهاليها على الفطرة لا يعرفون الألف من المئذنة، ولا الياء من القصعة.
ومثل هذه الحال تجعل مركز الفريقين صعبا جدا، ومركز الجامعة الوطنية من أحرج المراكز، وحكومات البلاد لم توفق إلى أحسن من ذلك؛ لأنها قامت من الأهالي، فلا يصح أن تكون في استعدادها أصلح منهم، ولكن حب التظاهر، الذي يكون في الضعيف أبلغ منه في القوي، حملها على أن تجاري نظائرها من الحكومات الأخرى التي تعتقد فيها الارتقاء في الصورة فقط لا في الحقيقة، وفي الظاهر لا في الباطن، فأخذت عنها كل ما رأته عندها على سبيل التقليد ، ووضعته في صدر البيت للزينة والتباهي، لا للفائدة والقوة، فشادت في عاصمة بلادها معالم للعلم كالقبور المكلسة تخدع العين ظاهرا، بحيث لو رآها الغريب الذي يكتفي بالظاهر، ولم يسبر أعماق البلاد بالوقوف على سائر أحوال الأمة، لحكم بأن البلاد كسائر الممالك المتمدنة لا ينقصها شيء من معدات التعليم، ولكنه لو طاف البلاد وزار القرى والدساكر، وخبر أحوال الأهالي؛ لضحك من سخافة عقول الحكام على هذا الفخار الفارغ؛ لعدم توفر المدارس البسيطة التي تعلم الناس أن يقرءوا: أ ب ت ث.
ولهذه الأسباب كانت أحوال الأهالي في ممالك الشرق متباينة جدا غير متناسبة، كأرض مختلط غورها بنجدها، فإنك لتجد فيها العالم الكبير بجنب الرجل الذي لا يزال على الفطرة؛ مما يجعل منظر البلاد مشوها كالوجه المشوه، عينان جميلتان وأنف كأنف ابن حرب، ومركزها الاجتماعي مضطربا جدا لعدم تقارب الجمهور في الأفكار والأميال. وإذا امتنع التناسب من أمة في القراءة والعلم خفت صوت الجرائد، ولم يلتفت إلى مطالبها؛ لأن الحكام كسائر البشر ربما ثقل عليهم الإرشاد، فضلا عن أنهم في مراكزهم التي نالوها ببذل النفس والنفيس أحيانا لا يطلبون بعد تحقيق الأمل إلا الراحة من العمل إن لم يخشوا عصا الأمة، وكيف تخشى عصا أمة لا تقرأ ما يطلب لها، ولا تعرف ما تحتاج إليه؟ ولذلك كانت أصمخة آذان أكثر حكام المشرق مسدودة إلا عما يخدش مسامعها الشريفة البالغة الغاية القصوى في الإحساس من هذا القبيل فقط.
وإذ قد بسطنا الكلام على الداء وجب علينا البحث في الدواء. ولا يكفي أن نقول إن الدواء نشر التعليم؛ فهذه الكلمة قد أكثرت الجرائد من ذكرها حتى ألفتها الآذان، وصارت تمر على مسامع الخاص والعام من دون أدنى تأثير يحدث في العقل أقل تفكير. وإذا كررت السؤال وحددت الكلام، بادهك أصحاب الشأن بين تقليب الشفاه وتقطيب الجباه، بقولهم إنا عارفون بما يطلب منا، وقد عملنا كثيرا، ونحن في غنى عن تطفل أمثالك. قالوا ذلك إذا تنازلوا لمقابلتك وسماع كلامك، وإذا قرءوه في جريدتك قالوه في وجه جريدتك آسفين أنهم لا يستطيعون أن يقولوه في وجهك. وما يقول هذا القول إلا جاهل واجباته، مخدوع بنفسه، آمن سيطرة الرقيب . والدليل على صحة ذلك أنه لا يجسر أن يقول هذا القول، بل ينقلب كله آذانا ناصتة في البلاد للجمهور فيها رأي يعتد به. تلك هي أخلاق البشر عموما، والشاذ لا يعتد به، بل يلزمنا أن نبسط الكلام على أقرب الطرق التي تنيلنا ذلك.
ولا ريب أن حكومة مصر من هذا القبيل أصلح نوعا من أكثر حكومات المشرق. قلنا أكثر حكومات المشرق لأن اليابان أصلح منها؛ فقد عملت أشياء، ولكن لا يزال ينقصها أشياء، ربما كانت الأهم لأنها الأساس، بنت للعلوم العالية معالم لا ينقصها شيء من المعدات اللازمة لإتقان العلوم والفنون، ولكنها أهملت التعليم البسيط إلى الغاية القصوى. والإنكليز مع إتيانهم للإصلاح في جميع الفروع الإدارية لم يأتوا في أمر التعليم إصلاحا عظيما، كما ينطق بذلك إحصاؤهم بعد خمس عشرة سنة من احتلالهم للبلاد، والسبب هو أن الحكومة الإنكليزية في فتوحاتها قلما تهتم بالتعليم، ولا تجرد الحسام إلا لتفتح طريقا لنشر ثوب الخام؛ توسيعا لنطاق تجارتها لتحويل ثروة الأمم إلى خزائنها. وإن من يقابل بين آثار احتلالها لمصر العلمية كل هذه المدة مع توفر أسباب السلم، وآثار الاحتلال الفرنساوي على عهد بونابرت مدة سنتين فقط مع كثرة الحروب الداخلية والخارجية؛ يتعجب من أعمال أولئك الرجال، كأنهم كانوا من نسل انقرض اليوم، حتى من نفس الذين هو منهم يسمى نسل الجبابرة، فإن أعمال الحملة الفرنساوية العلمية لا تزال حتى اليوم موضوع إعجاب أصحاب الأفكار في كل الأقطار.
على أن نشر معرفة القراءة في مصر غير صعب، وممكن بسرعة أيضا إذا أرادت الحكومة ذلك، يمكن فيها رفع عدد الذين يقرءون إلى 60 و70 في المائة في زمن أقصر جدا مما يظن؛ وذلك بجعل العلم إجباريا، كما أن التطعيم للجدري إجباري أيضا، وإقامة المدارس البسيطة في كل المدن والقرى على نسبة عدد الأهالي؛ مدارس يعلم فيها أ ب ت ث، وشيء أكثر من «بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين»؛ يعلم فيها المعلمون غير الجلبة والصياح وهز الرءوس والظهور في أماكن ينفذها الهواء أنظف من مذاود البقر، يعلمون فيها أن مصر قطعة من أفريقيا، وأن الصحة تتوقف على النظافة، والنظافة تقوم بغسل الوجوه واليدين والرجلين، وبتغيير الملابس وغسلها بالماء والصابون قبل أن تبلى على الأجسام، وأن النظافة لا تتوقف على الغنى؛ فإن فلاح جبل لبنان أفقر من فلاح مصر، وهو مع ذلك في بعض الجهات أنظف منه بكثير، يلبس الثوب المرقع، ولكنه يلبسه نظيفا، وأن البشر كلهم خلقة الله، ليس بينهم كافر أو مؤمن، ولا طاهر أو نجس، إلا الذي روائحه يكاد يغمى عليك منها، وأن العبادات لا دخل لها في المعاملات،
لكم دينكم ولي دين .
وأنا أسمع من هنا معترضا يقول: ومن أين ننفق المال على مثل هذه الأعمال؟ والجواب أن الحكومة لو اهتمت لما وجدت الأمر ممتنعا. على أنه توجد طريقة، والغاية تبرر الواسطة، سهلة جدا، وهي أن تتكفل كل بلد وكل قرية وكل دسكرة بنفقة مدارسها، تؤخذ من مواردها المختلفة، وما نفقتها بالشيء الكثير إذا توزعت على هذا الوجه. وكنت أود أن أرى حكومة الإنكليز التي بيدها قياد البلاد تتصرف فيها كما تريد لما تريد تغفل أمر التعليم في بلادها مثلما هي متغافلة عنه في مصر، كيف كانت تقوم قيامة الشعب والجرائد عليها؟ وإنما هناك يوجد شعب يقوم، وجرائد يخشى بأسها، وهنا لا يوجد إلا حكومة إن أصابت مرة فقد تخطئ عشرين؛ إذ لا رقيب عليها تحسب له حسابا، لا من الشعب ولا من الجرائد، فلا هم لها إلا أن تأمن شر المعاهدات لقضاء اللبانات، فإذا أمنت ذلك نامت على أذنيها كما يقول المثل الفرنساوي. ولا أفهم كيف ينام الإنسان على أذنيه، والمراد أنها نامت مطمئنة البال من كل بلبال.
على أن اللوم كله ليس على الحكومة وحدها؛ فأعيان البلاد وأصحاب الثروة منهم خصوصا الجالسون في صدر القوم لا يسلمون من الملام؛ لتقاعدهم عن كل الأعمال العمومية التي ينفعون بها أبناء وطنهم، وتكسبهم الذكر الحسن. فإننا لم نسمع بمشروع نافع مدوا إليه يد المساعدة غير بناء زاوية في مسجد، وإقامة وليمة لأمير، وإحسان إلى فقير، والله غني عنهم، والأمير كذلك، والفقير واحد الفقراء. فأين المستشفيات التي تداوى بها الأسقام، وتخفف فيها مصائب العباد التي جلبوها؟ وأي أمير من أمراء مصر، وأي وزير من وزرائها ممن ينفقون عن سعة، وما ينفقون إلا مما جمعوا من عرق الأهالي، وقف شيئا من ماله لإقامة مستشفى وبناء مدرسة، تحديا بالإفرنج الذين يحبون تقليدهم في كل شيء، وفيهم من جمع الملايين، ولا نعرف له أثرا ينفع الجمهور، ينفق عليه من فضل ما جمع؟ فإذا كان هؤلاء الكبار الذين «يفهمون الصورة إيه»، كما يقال في اللغة الدارجة، لم يقدموا على هذه الأعمال؛ فهل ننتظر ذلك من فلان الشيخ وفلان العمدة من أصحاب الثروة الطائلة، الذي إذا افتخر فإنما يفتخر كما افتخر ذلك المتصدي للولاية بأن جده أكل حمل حمار من الخيار؟ يتباهى الواحد منهم بأنه يأكل خروفا على «وقعته»، ويجرع قربة ماء من «شربته»، فهل من رجل خطير ينهض في مقدمة القوم، والأهالي ينقادون لكبارهم، يسعى في جمع شيء من المال للشروع في هذه الأعمال، ويكون عونا للحكومة، فينال خالص الشكر، ويترك من بعده جميل الذكر؛ ليشكرهم المرضى بأفئدة عظم الجميل عندها عظيم ما قاسته من الأدواء، ويشكرهم الأطفال بألسنة تعلمت أن تقرأ ألف باء تاء ثاء؟
2
المقالة الحادية والأربعون
التعليم العملي
1
نحن قد تسرعنا بطلبنا قلب نظام التعليم - لا من نظري بحت إلى عملي بحت؛ فإن ذلك قد يعده بعضهم بدعة في الشرق وفي الغرب أيضا - بل من نظري غالب إلى عملي أغلب، ولكن الذي نسطره بملء الأسف بعد سبع وعشرين سنة من الاحتلال البريطاني، وبعد أكثر من مائة سنة من محمد على الكبير، هو أن المدارس الأميرية المصرية عوضا عن أن ترتقي من هذه الجهة في هذا الزمان الطويل، تقهقرت جدا عما كانت عليه يوم أسسها ذلك الرجل الفطري العظيم؛ فقد كان التعليم العملي فيها - وكل شيء نسبي - أوسع جدا منه اليوم، كان نظامها على عهد مؤسسها يقصد منه تخريج رجال عمليين، يكفون البلاد حاجتها ، ويشيدون استقلالها على أساس مكين. وما مات حتى أخذ ذلك النظام يتفكك، والغاية الحقيقية المقصودة منه تتحول، إلى أن أوشكت العلوم العملية أن تموت، وحتى بلغت العلوم النظرية أوج زهوتها اليوم. والمصري بحكم الفطرة غير محتاج إلى تقوية ملكة العلوم الجدلية؛ فإن قوة النطق فيه مستوفية النمو في كل مراكزها، وإنما هو محتاج ككل شرقي إلى تقوية مراكز قوى العمل.
ولم تكتف الحكومة المصرية بذلك، بل أدخلت في مدارسها نظاما هو في شرع كل منصف بدعة؛ فقد قررت تعليم العلوم الدينية فيها. وقد طرب لهذا القرار جمهور الأمة وأعضاء الجمعية العمومية، وسيصفق له البرلمان البريطاني بكلتا راحتيه، وأقامت مسجدا فيها للمسلم. والعدل يقضي بأن تبني كنيسة للمسيحي وكنيسا لليهودي، وهيكلا للبوذي، ومذبحا للمجوسي، فما من أحد من هؤلاء إلا وله في ذلك حق، والحكومة ممثلة الجميع، وتتقاضى مالها من الجميع، اللهم إلا أن يكون معطلا أو لا يملك فيها شروى نقير؛ فهذا يسقط حقه في الاعتراض، ويحق له إذا كان يملك قيد شبر يدفع عليه الشيء النزر، وحينئذ لا يبقى لزوم لتلك الجامعة الدينية الكبرى، ألا وهي مدرسة الأزهر؛ إذ تصير مدارس الحكومة معاهد دينية بحتة، ولعل قلة اهتمام الحكومة اليوم بذلك المعهد الديني الكبير توطئة لهذا التحويل.
على أن الحكومة لا تعدم نصيرا من متخرجي مدارسها إذا استمسكت بالتخصيص ولم تشأ التعميم، ولا شيء أسهل عليها من استحصال فتوى من مدرسة اللاهوت الاجتماعي التي بجانبها، تصدرها ب «ما» و«لأن»، وتنتهي فيها ب «حيث»، وتكون أطول وأعرض من فتاوى علماء الكلام في الاستحالة والوجود الواجب، تثبت هذا الحق، وتدفع عنها هذا الاعتراض، وتسفه رأي القائلين غير قولها، وربما عدتهم من المصدعين.
على أن الشعوب الضعيفة أول ما تفتح عينيها تحب أن تتشبه بالأمم القوية، وحكومتنا لا تأنف أحيانا أن تنسخ نظاماتها عن نظامات أوروبا ولو أن عليها مسحة من ألف جيل. فأوروبا نفسها شاعرة اليوم بهذا النقص في التعليم، وهي وإن لم تصرح بطلب هذا القلب الكلي في نظامه محافظة على كنز موهوم، وانقيادا لبقية باقية حتى في نظر الخاصة من اعتقاد العامة، أو خوفا من تصعيب المطلب بتعميم الطلب، إلا أنها تأتينا كل يوم بدليل على أنها مسيرة في هذا السبيل إلى غايته الكلية، بما تطلبه من التغيير في الفروع الجزئية.
ومن أحدث الأنباء التي وردت إلينا من هذا القبيل تقرير ضاف وضعه الدكتور رو، صاحب اكتشاف مصل الدفتيريا، لإصلاح التعليم في مدارس الطب، تجد خلاصته في الكلام الآتي، قال:
إن التعليم في مدارسنا ليس كما ينبغي أن يكون. فالأساتذة الذين يعلمون والطلبة الذين يتعلمون متفقون على هذا القول، وجميعهم يعترفون بأن الدروس النظرية متسع المجال لها كثيرا في مواد تدرك فقط في قاعات التشريح، وفي معامل الامتحان، وعند سرير المريض. ولا ينكر أن كلام الأستاذ يحلو سماعه، ولكنه مهما كان بليغا لا يسعه أن يقوم مقام المشاهدة ولا مقام الاختبار. والأطباء الخارجون حديثا من مدارسنا ناقصو الاستعداد، سواء كان لإجراء البحث العلمي أو لممارسة صناعة الطب نفسها. وإذا عرف العيب فلا شيء أسهل من تداركه؛ وذلك بالاستعاضة عن الدروس الكلامية بدروس عملية في معاملنا ومستشفياتنا يتسع المجال فيها للعمل، ويضيق فيها مجال النظر إلا ما يلزم من الكلام لشرحها وتفهمها. انتهى.
وهو كلام حق لا اعتراض عليه، ولكن رو ربي في مدرسة العمل بين أنبيق الكيماوي ومشراط المشرح، وتخرج على أيدي أكبر عالم عملي، وأتى بأعظم اكتشاف طبي علمي عملي معا، فلا غرو إذا رأى هذا الرأي الصائب. ولكن هل يرى رأيه الذين تخرجوا في غير مثل هذا المكان؟ والغريب أن الحقيقة بسيطة ملموسة أمامنا كل دقيقة، ومع ذلك فنحن ندور حولها متلمسين، ولا نريد أن نهتدي إليها ولو وضعوها تحت أنوفنا.
المقالة الثانية والأربعون
ماذا أكتب
1
بينا أنا أفكر في ماذا أكتب به إليك أيها البصير إنجازا لوعدي لك، وأقول مع الشاعر:
إنما المرء مثلما السيف يصدا
عقله ساكنا بلا أعمال
يصدأ السيف بالخباء ولو كا
ن شديد الصقال حد النصال
وإذا بكتابك ورد علي يطالبني بالوعد، ولكنه ورد علي في ليلة ينطبق فيها على قولي:
كم تبيت الدجى وطرفي ساه
يرقب النجم في الليالي الطوال
أنت خال وملء جفنك نوم
وأنا ملؤه حبوب رمال
ولكن شتان بين السهدين؛ فسهد الشاعر عن كلف بالحبيب يعلله الأمل بالوصال، فهو عذاب في انتظار لذة. وأما أنا فعن ألم مبرح أحرمني الرقاد، وتركني ليلي كله أتقلب على سريري كمن يتقلب على شوك القتاد، ليل خلت أنه ليس له آخر، كل دقيقة منه كأنها شهر، وكل ساعة كأنها دهر:
عذاب الفتى في يومه مثل عامه
ولذته في العام يوم وينقضي
ألم يسميه الأطباء داء المفاصل، ويذهبون فيه مذاهب، والأطباء كالشعراء يتبعهم «المغرورون»، وهم في كل واد يهيمون، وأما أنا فأقول مع الشاعر العربي:
وجع المفاصل وهو أي
سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته
والناس من حظي كذا
والعمر مثل الكأس ير
سب في أواخره القذى
ألم انقض على كتفي اليمنى كأنه وخز النصال، وأثقلها كأني كلفت بها حمل الجبال، وعطل حركات اليد كلها فكأنني أصبحت أشل اليدين؛ لأن اليد اليسرى بالتربية، على قول البعض، ومن أصل الفطرة، على قول البعض الآخر، عاجزة عن القيام بوظيفة اليمنى. ومهما يكن من هذا القول فإني في مثل هذا المقام حسدت العسر؛ أي الذين يستعملون يسراهم كما يستعمل سائر الناس يمناهم. ولو كان في ذلك شيء من الانحطاط كما يذهب إليه «دلوني»، ومن نحا نحوه من العلماء الذين يزعمون أن المياسرة، أي استعمال اليد اليسرى، دليل على الانحطاط، والميامنة، أي استعمال اليد اليمنى، دليل على الارتقاء. واستدل من ذلك على أن المرأة أحط من الرجل؛ لأن المرأة تياسر، أي تذهب في حركاتها ذات اليسار، والرجل ييامن، أي يذهب ذات اليمين. وهذا ظاهر حتى في عرى ثيابهما وأزراها؛ فإن حركة التزرير في المرأة يسارية، وفي الرجل يمينية. وأما أنا فأخالف دلوني في ذلك، وأعتبر أن المرأة من هذا القبيل أرقى من الرجل؛ لأنها أقدر منه على استعمال الحركتين.
ولا أعتبر هذا الفرق من أصل الفطرة، بل أكثره من نتيجة التربية، فلو ربي الإنسان منذ الصغر على استعمال الحركتين على السواء لاستطاع ذلك. ولعل الآباء والأمهات في البيوت والمعلمين والمعلمات في المدارس ينتبهون إلى هذه المسألة المهمة جدا في أمر المعايش، فيربون الأطفال على استعمال اليدين على حد سوى، لا على استعمال اليد اليمنى وحدها، زاجرين الطفل كلما عمل عملا باليسرى، حتى يرسخ في اعتقاد هذا الطفل المسكين أن استعمال اليد اليسرى ذنب لا يغتفر.
ولا ريب أن أشد مصائب الإنسان الأمراض، فالمريض ولو كان ذا ثروة يسكن القصور، ويتوسد الحرير، مسكين تجوز عليه الشفقة، فكيف به إذا كان معدما لا يجد مأوى يأوي إليه، ولا فراشا يستلقي عليه، ولا ممرضين يمرضونه، ولا أطباء يعودونه؟ وإذا نظرنا إلى كثرة عدد هؤلاء المساكين في كل مكان، وقلة ما اتخذته الهيئة الاجتماعية من الاحتياطات لتخفيف مصائبهم، فلا نستغرب إذا رأينا الإنسان ينقلب على الهيئة الاجتماعية باللوم والتعنيف، وهو سبب من الأسباب الكثيرة التي تحمل الإنسان على الخروج إلى الفوضى، ومحاولة دفع الشر بالشر، واللوم في ذلك ليس على هؤلاء المساكين الذين أحرجتهم مراكزهم، فأخرجتهم إلى اليأس، بل على الهيئة الحاكمة وعلى رجال الثروة من كل أمة، الذين في مقدرتهم مداواة هذه الأدواء وهم لا يفعلون، فيحملون الحانقين على الهيئة الاجتماعية على الإيقاع بهم، وهم يقولون:
إذا لم يكن غير الأسنة مركبا
فلا يسع المضطر إلا ركوبها
وأفضل الوسائل لتخفيف ويلات المرضى، خصوصا الفقراء منهم، إقامة المستشفيات الكثيرة في كل مدينة. وهذه المسألة إذا نظرنا إليها في بلاد مصر خصوصا وجدنا الحكومة والهيئة الاجتماعية مقصرتين فيها كثيرا؛ فإن المستشفيات الموجودة، صورة لا معنى، هي دون ما تدعو إليه الحاجة بكثير. فإن عدد الأطفال، حتى لا نتكلم إلا عن قسم من أقسام الهيئة الاجتماعية، الذين يموتون، والذين تصيبهم العاهات بسبب الأمراض الكثيرة وقلة الاعتناء، لا نبالغ إذا قلنا إنه يتجاوز الثمانين في المائة، فلو وجدت مستشفيات للأطفال مثلا كافية وافية لهبط هذا العدد كثيرا، وهبوطه ربح للحكومة والهيئة الاجتماعية. فالخطأ في هذه المسألة من وجهين: خطأ من جهة الاقتصاد السياسي، وخطأ من جهة الإنسانية؛ لأنه على صحة هؤلاء الأطفال وكثرة عددهم تتوقف ثروة كل أمة وقوة كل مملكة.
وإنا لنعجب كيف أن شريعة البوذيين تناهت في هذا الأمر حتى أقامت مستشفيات للحيوانات، وشرائع الأمم المتمدنة لا تزال مقصرة به حتى في حق أبناء جنسهم. فقل للذي يتباهى ببناء حائط في كنيسة أو زاوية في مسجد أو بإقامة وليمة لأمير - والله غني عنه، والأمير كذلك - إن كان يقصد بعمله هذا فخرا، فبناء المستشفيات فيه فخر عظيم، وإن كان يقصد به أجرا فأجره من ذلك أعظم؛ فقد اتفقت الشرائع المنزلة على أن علم الأبدان مقدم على علم الأديان، فذكر علها تنفع الذكرى.
المقالة الثالثة والأربعون
كتابنا
1
يستغرب الباحث في طبائع العمران ما وصل إليه أهل المشرق عموما، والذين تجمعنا بهم جامعة الوطن والسياسة خصوصا، من الخمول حتى أصبحوا على عاتق الاجتماع وقرا، لو أطلقت عليهم شريعة النحل لقضي عليهم بالهلاك قتلا؛ لأن النحل الجاني يقتل كل سنة النحل الذي لا يعود له نفع ويعيش على جني غيره، أتغيرت سنن الطبيعة، وضل العلم في تقريره سنن الوراثة؟ أم لسنا نحن نسل أولئك الذين بلغوا في معالم الحضارة القدح المعلى، فنبغ الفينيقيون حتى قبضوا بأيديهم على تجارة العالم، والمصريون حتى صاروا نبراس الأمم، يقصدهم الناس من الأقطار الشاسعة لأخذ العلم والفلسفة عنهم، واستنارت أفكار الفلسطينيين وسكان بادية العرب حتى قام منهم هداة الأفكار، وسنوا الشرائع التي يخضع لها أكثر سكان المعمورة اليوم في معاملاتهم وعباداتهم؟ أو ما هو السبب:
حتى انقضت تلك السنون وأهلها
فكأننا وكأنهم أحلام
ولا نقلق راحة سكان القبور بالبحث عن أسباب ذلك فيما تقدم من العصور، بل نكتفي بإلقاء نظرنا إلى ما حولنا وقصره على جزء منا؛ فإن في ذلك تبصرة لقوم يعقلون، ونسأل أنفسنا لماذا لا ينبغ منا كتاب شهيرون كما ينبغ في كل أمة؟ لأننا مع احترامنا للنزر اليسير من أصحاب الاستعداد الفطري الذين لو ساعدتهم ظروف الزمان والمكان لربما كانوا تمكنوا من إظهار مواهبهم إلى درجة يتحدث بها الخاص والعام، وتعيد لهم في عيون الغرباء ما كان لآبائهم من الشأن، لا يسعنا إلا الإقرار بأن لا كتاب عندنا إذا ذكر كتاب المغرب ذكروا معهم كأنداد ينيرون الأفكار، ويستنزلون درر المعاني من سماء العقول حتى يلقطن باليد، ويسيرون شوطا بعيدا من دون أن تخور منهم القوى. والسبب بسيط إذا علمنا أن الإنسان ابن الضرورة وصنيعة الحاجة؛ فالحاطب إنما يجمع الحطب لقوم يصطلون، والكاتب إنما يكتب لقوم يقرءون. الأول لا يستطيع أن ينتقل من حاطب فقير يحمل الحطب على ظهره، إلى تاجر تعظم ثروته وتتسع تجارته، إن لم يجد من يشتري حطبه. والثاني لا يستطيع أن يصير كاتبا مجيدا إن لم يجد من يقرأ كتبه.
فالشرق في تأخر عظيم من حيث انتشار العلم، وعدد الذين يقرءون فيه القراءة البسيطة فقط شيء لا يذكر، فلمن يكتب هؤلاء الكتاب؟ وكيف تحسن حالهم لتجيد قرائحهم ويتفرغون للاستفادة والإفادة؟ وهم لو تفرغوا لذلك لطواهم الفقر قبل أن يطويهم القبر، وهذا ما حملنا على التنبيه في مقالتنا «أ ب ت ث» إلى وجوب نشر التعليم، وشددنا فيها النكير على الحكومة وأعيان الأمة بكلام أقرب إلى التقريع، بعيد عن الالتماس لاعتقادنا أن فيما ننبه إليه قوة لا ينالونها بدونه، وفخرا تتباهى سائر الأمم بمد يد السبق إليه. أليس ما تراه من افتخار كل أمة بكتابها، وإقامة التماثيل لهم بعد موتهم بمئات السنين، من الدليل المقنع على ما لهم من اليد في تشييد معالم فخرها وإحياء ذكرها؟ ولا يثنينا عن ملامنا أعذار يلتمسها بعضهم للحكومة تخفف من مسئوليتها، كعدم وفاء عدد المعلمين اللازمين لنشر التعليم بالسرعة التي طلبناها، وما إخاله يراها متفانية متهالكة في سبيل هذه الدعوة.
ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكتاب في المشرق سلوك حكومتهم معهم؛ فقد تعودت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها، لا تميز غثها من ثمينها. ولعل السبب عدم مقدرة كثيرين من الحكام على معرفة ما لها من الأهمية، وما لكبارها من النفع في رفع شأن الأمة، وما مثل أكثرهم إلا مثل ذلك الوزير الذي طلب إليه أن ينشط بعض المشروعات العلمية، فأجاب أن مشروعك إن كان منه فائدة فهو ينجح من نفسه. وعذره واضح؛ إذ لا يعرف قدر الشيء إلا ذووه. فمهما أجاد الكتاب في حكومة هذا شأنها، ومهما أظهروا من الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ؛ فلا يصادفون إلا إعراضا منها يحملهم على أحد أمور ثلاثة؛ إما كسر القلم، وإما تحديده ضدها، وإما إذلاله لها. الأول يختاره أكابرهم، والأخير يعمد إليه ضعافهم حتى ينحط مقام الكتابة بهم. وأبلغ من ذلك في الإساءة تخريب ذمم الكتاب ومشتراهم بالمال، لا مشترى قلمهم ومواهبهم لنفع الأمة، بل مشتراهم ليكتبوا غير ما يفتكرون، أو يصمتوا عما يعتقدون. والنتيجة من ذلك في كلا الأمرين قتل الأفكار، وإفساد الأخلاق، وموت الكتاب الذين يفتخر بهم، وما وجدت الحكومات لمثل هذا.
نعم إن غرض الحكومات من ذلك إنما هو كف الأقلام عن توجيه المطاعن ضدها، ولو علمت أن هذا السبيل إنما هو السبيل الوحيد الذي يفتح الباب واسعا لهذه المطاعن، لأنه إذا «مات منهم طاعن قام طاعن»؛ لعدلت عنه إلى السبيل القويم الذي يكسب البلاد إصلاحا والحكومة اعتبارا، وهو تنشيط الكتاب الذين يدل استعدادهم على نزاهتهم وسمو مداركهم، والإصغاء إليهم حتى يقتدي بهم سواهم ممن يجد أن الاقتداء بهم أبلغ لنيل المجد والمنفعة، لا إفسادهم لإفساد غيرهم بهم. فلو سلكت الحكومة هذا المسلك لقل الطاعنون عليها طعنا يقصد منه التهويل أكثر من الإصلاح بسبب سياستها التي ليس فيها شيء من الحكمة، ولنبغ الكتاب المشاهير الذين يرفعون شأن الأمة ويشيدون فخارها. فالفخر في إحياء هذه المواهب، لا بإطفاء نورها وهم يحسبون أنهم يتقون نارها.
المقالة الرابعة والأربعون
أم الجرائد
1
المشهور أن الجرائد من مخترعات أهل أوروبا، وأن أول جريدة مطبوعة ظهرت في مدينة البندقية (فينيسيا) في القرن السادس عشر للميلاد. والذي علم لنا اليوم أن هذه الدعوى باطلة ؛ فالصحافة ليست من منشئات أهل أوروبا، فقد عرفها أهل آسيا قبلهم بزمان طويل، كما عرفوا أمريكا قبل خريستوف كولمبوس، والطباعة قبل غوتنبرغ، وكما عرفوا البارود والبوصلة التي عليها المعول في فن سلك البحار، وكما عرفوا كذلك صناعة الخزف ونسج الأقمشة البديعة التي لا يجاريهم فيها مجار حتى اليوم. والبلاد التي سبقت أوروبا إلى كل ذلك هي مملكة الصين؛ أوسع ممالك الدنيا أرضا وأكثرها سكانا.
فمن ضمن الجرائد المعمرة التي تقرأ حتى اليوم في مملكة ابن السماء، كما يسمون مملكة إمبراطور الصين، يوجد في مدينة بكين (ومعناها عاصمة الشمال) جريدة يومية تدعى «كين بان»، ومعناها المجموعة السنوية، ظهر أول عدد منها منذ ألف ومائة سنة. وجريدة أخرى شهرية تدعى «تسين راو»، ومعناها المجلة، ظهر أول عدد منها منذ أربعة عشر قرنا، والحروف التي استخدمها الصينيون لطبع هاتين الجريدتين من الخشب. «فتسين راو» ابتدأت شهرية، أي تصدر مرة في كل شهر، وبقيت كذلك حتى اليوم. وأما «كين بان» فابتدأت شهرية كسالفتها، ثم وسعت مواضيعها ولم تقتصر على ما يهم الخاصة، بل تقربت من العامة فأكثرت نسخها، وانقلبت يومية منذ سنة 1830 للميلاد، ثم زاد انتشارها كثيرا، فأخذت تصدر ثلاث مرات في اليوم. وسبقت أمريكا وأوروبا في استعمال الورق الملون للدلالة على طبعاتها المختلفة؛ فطبعة الصباح لون ورقها أصفر، وطبعة الظهر أبيض، وطبعة المساء رمادي.
وفي أول نشأتها كانت مقتصرة على تقييد الحوادث السياسية المهمة من دون أن تبدي فيها رأيا، وذكر جميع الأخبار ذات الشأن التي كانت تأتيها من كل جهات الصين وملحقاتها اليابانية والأنامية والكورية، نسبة إلى بلاد أنام وكوريا. وهكذا كانت توقف قراءها على حوادث أيام السنة واصفة الأعياد والاحتفالات والجمعيات، ولم تحرمهم كذلك من فكاهات القصص والحكايات الخرافية، ولا من ترويض العقل بنشر الأشعار التي كان يوافيها بها مشاهير الشعراء.
ثم صارت تبدي رأيها في الحوادث السياسية ، ولكن مع التزام جانب الاعتدال، وتذكر كل ما يقال ويجري في المدينة، كما تفعل أعظم جرائد باريس ولوندرة. ومما يستحق الذكر أن هاتين الجريدتين لم ينصب عليهما غضب الحكام بالتعطيل والإلغاء، ولا ثار عليهما الشعب بالمظاهرات العدوانية. والسبب اعتدالهما في كلامهما، واتفاقهما على مبادئ هي بين الصينيين واحدة لتمسك البلاد كلها بشريعتها، كأنها فيها رجل واحد، ولعدم وجود الأحزاب بسبب ذلك. وربما كان هذا هو السبب أيضا في أن هذه البلاد التي هي بالحصر مهد الإنسان ومنشأ العمران وأم الجرائد التي هي من أقوى عوامل المدنية، لم تتقدم منذ مئات من السنين، بل لبثت واقفة كالبلية رأسها في الولية، حتى حركت عليها مطامع الدول الأوروبية من عظيمة وصغيرة وغنية وفقيرة، فاندفعت نحوها كل يطلب نصيبه، إنكلترا وروسيا وألمانيا وفرنسا، حتى إيطاليا هاجتها المطامع، فكأنها أصبحت كما في قول الشاعر:
لقد هزلت حتى بدا من هزالها
كلاها وحتى سامها كل مفلس
ولعل نفس السبب الذي أوقعها في الخمول سيكون السبب أيضا لوقايتها من الوقوع في حبائل الدول الأجنبية زمانا طويلا، فيتحول خمولها إلى نهضة بمحاكة الدول الغربية لها، واقتباسها عنها أسباب تمدنها، فتهب حينئذ حزبا واحدا وقوما واحدا من جنس واحد ولغة واحدة ودين واحد، فترد عنها مطامع الاحتلال، وتحفظ لنفسها الاستقلال؛ ولذلك يرجح أن الدول الأوروبية تشتغل هذه المرة لمصلحة سواها ضد مصلحة نفسها خلافا للمشهور حتى اليوم، فالصين مستقبلها لها من قبل ومن بعد، والآتي أضمن لها.
المقالة الخامسة والأربعون
الجرائد في الشرق
1
مركز الجرائد في الشرق صعب جدا؛ لأن الجرائد التي تنتشر انتشارا يترتب عليه أثر لا بد لها من معدات كثيرة لا تتوفر لها إلا إذا كان جمهور الذين يقرءون كثيرا، والشرق ولا يؤخذ علينا في تأخر عظيم من هذا القبيل؛ لأن عدد الذين يقرءون محدود، لا يكفي للقيام بنفقات كل ما يكتب وينشر، وربما كان هذا هو السبب الذي لأجله سيبقى الشرق محروما زمانا طويلا من الكتاب الأعلام والمؤلفين العظام.
والجرائد أثرها أعظم جدا من أثر الكتب؛ لانتشارها بين الجماهير أكثر منها، وسلطانها على الأفكار أعظم جدا مما يظنه الإنسان لأول وهلة لاستمرارها، والفعل الضعيف إذا استمر يكون له أثر متجمع عظيم جدا، ومن أمثال العامة «الحبل على تمادي الأيام يقطع خرزة البير.»
فالجرائد قوة من القوات التي يعتد بها في الهيئة الاجتماعية، بل هي القوة الأولى في المجتمع الإنساني، ولها المقام الأول في الحكومات المتمدنة؛ لأنها تستطيع على هذا المجتمع ما لا يستطيعه سواها. فلا صولة الملوك، ولا سطوة الجيوش، ولا قوة القوانين؛ تعادل قوة الجرائد. فالكاتب الذي يخط بقلم ضئيل على القرطاس الصقيل كلمات هينات ربما لا يدري أن كلماته هذه سيكون لها في الجموع أثر لا يصد، ولا يقف عند حد.
وبالنظر إلى ذلك كانت الجرائد كثيرة النفع كثيرة الضرر أيضا، بحسب الخطة التي تسير عليها واللهجة التي تنطق بها. فتكون كثيرة النفع إذا سلكت طرق التنبيه إلى مواضع الخلل، والإرشاد إلى سبل الإصلاح، وبث المبادئ الصادقة بين الجماهير بلغة لا تنحط في الالتماس إلى التذلل، ولا ترتفع في الطلب إلى المخاشنة والضد بالضد. وما من أحد من أصحاب الجرائد الشرقية يجهل ذلك، بل كل جريدة تصدر تبدأ ببيان خطتها والغاية التي تنويها في مقدمة تضمنها من المبادئ العامة ما يرتاح إليه كل عاقل، ويرجو الخير منه كل قارئ، ولكنك إذا تعقبت هذه الجريدة في مستقبل الزمان وجدت أن سلوكها في الجزئيات لا ينطبق على مقدماتها في الكليات، وإذا خلوت بأصحابها قالوا لك: ما العمل؟ فنحن إنما نعيش في مجتمع يصدق عليه قول المعري:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همسي
فنحن إنما نفعل ذلك مضطرين؛ لأنا إذا صدقنا أغضبنا، فنضطر إلى المداجاة أحيانا، وإلى المجافاة أحيانا أخرى، وإلا جفت موارد جريدتنا، وثروتنا التي هي غالبا مجموع أرقام سلبية لا تساعدنا على الاستقلال. وما تعود أهل الشرق في مثل هذه المشروعات التعاون على جمع رأس المال، وهو عار يلحق بأصحاب الجرائد، وإن لم يبرأ منه سواهم، فالحق يقال إن السبب هو في عموم الهيئة الاجتماعية نفسها، فنحن معاشر الشرقيين ما زلنا أطفالا في سلم حياة المجتمع الإنساني، والأطفال لا يؤخذون بمآخذ الرجال، ولا يؤخذون إلا بالترغيب أو الإرهاب، وإلا نفروا منك ولم ينقادوا إليك، وكما تكونون يولى عليكم. وهذا هو السبب الذي لأجله اضطرت أكثر الجرائد المهمة بعد أن قصدت أن تسلك مسلك الاعتدال أن تنحاز إلى أحد الطرفين، وتقسم جرائدها إلى جرائد «فرشة» وجرائد «قمشة»، فمن لم تستطع أن تأخذه بعصا موسى شهرت عليه عصا فرعون، ولكن ضعفت بذلك ضرورة خدمتها العامة، وقويت مطامعها الخاصة. ولا يخفى ما لذلك من الأثر السيئ على الجموع؛ لما لها عليهم من السلطة في تحويل الأفكار.
أقول ذلك عن جرائد مصر المعول عليها، ولا أدمج في سلكها تلك الوريقات البذيئة التي لم توجد إلا لنشر المثالب الصبيانية من دون تعقل، والتي تقضي على الحكومة بأن يكون لها قلم مطبوعات يردع مثل هؤلاء المتطفلين على الصحافة، وليس عندهم أقل رأس مال علمي أو أدبي. وأغفل كذلك ذكر الجرائد العثمانية، أي التي تطبع في الممالك العثمانية؛ فإن هذه الجرائد لا يذكرها عاقل إلا لشجبها والقضاء عليها، لا لأنها ليس لها أدنى منفعة، بل لأنها مضرة وأي ضرر؛ إذ لا شأن لها إلا التمويه والتمليق والتضليل والتغرير. وإني أقسم بكل عظيم لو كنت ناظرا للمطبوعات في الممالك المذكورة، وكان لي بعض السلطة؛ لجمعت هذه الجرائد أكداسا وأحرقتها على مشهد من العموم، وكبلت أصحابها بالحديد، وألقيتهم في السجون إلى يوم يتوسدون تربهم، ويقابلون ربهم، ويجاوبون عن كذبهم.
وكأني بك أيها البصير قد شعرت بصعوبة الخطة وحرج المركز؛ لأن الخطة التي وعدت أنك تسير عليها، وهي خطة الاعتدال، صعبة جدا في مجتمع مثل المجتمع الذي يسير فيه أهل الشرق؛ إذا مدحت لم ترض ممدوحا لأنك لم تبالغ بمدحه، وإذا انتقدت عد انتقادك ذما، فأغضبت في الحالين.
وكأنك علمت أن خطة كهذه لا تنجح إلا في مجتمع بلغ من المدنية والاختبار والتعقل مبلغا يضعف معه سلطان الأفراد، ويقوى سلطان المجموع، فيغلب فيه العقل على الهوى، حتى يقوى على احتمال الانتقاد، ولا يسكر بخمرة المدح، فتقوى أعصابه حتى لا ترجها رجة الغضب، ولا تهزها هزة الطرب.
على أن ما لا ينال كله لا يترك جله، وإني أرى أن المثابرة على خطتك أولى، ونتيجتها للبلاد أنفع، ولو اعترضتها صعوبات شتى لا يجهلها من كان في مركزك؛ لما للجرائد من السطوة على الأفكار وتحويل مجراها، وإنما ينبغي عليك أن توفي خطتك حقها كما وعدتنا في مقدمتك البليغة، وأن تقول الحق ولو عليك، ولا تميل مع الهوى، وأن تجتنب المحاباة والمداجاة، وخصوصا أن تجتنب التذبذب؛ لأني أراك ك «بالع الموسى»، أو كالضفدع في الماء.
قالت الضفدع قولا
فسرته الحكماء
في فمي ماء وهل
ينطق من في فيه ماء
تحوم على الحقيقة، ولا تجسر أن تقولها بكلام صريح خوفا من أن تغضب هذا ولا ترضي ذاك، وأن تجعل لغتك في الطلب بين الالتماس والأمر، وفي الانتقاد بين لين التمليق وخشونة المجافاة؛ أي أن تجعل كلامك كلام رجال يخاطبون رجالا؛ فإن تنهج هذا المنهج فالمستقبل لك.
المقالة السادسة والأربعون
أرق ليلة
1
أرقت ليلتي لأزمة في الصدر هي لي أوفى الأصدقاء؛ لأنها لم تفارقني منذ حداثتي، وكم من صديق يتركك في الطريق! فانتبهت وكأن على الصدر أثقالا، وأخذت أجاهد كأني أعالج أجبالا. ولما قلت حيلتي، وخفت أن تطول ليلتي؛ قلت لعل الذي لا تنجع فيه عقاقير الأطباء تفعل فيه مطارحات الأدباء؛ لأن العلل العصبية كثيرا ما تثور وتزول بالعوامل النفسانية.
ولكن من أين لي في هذه الساعة المدلهمة بالشدودي وحافظ وسركيس والخازن، ونصيبي منهم في النهار لا يكون إلا في ساعة معلومة.
فقمت أطلب ذلك من بطون الأوراق، فمددت يدي إلى ما حولي غير مخير، فوقعت على شيخ المجلات، ناشر لواء العلم في الأقطار العربية كلها، وأظنك عرفت أني أريد المقتطف. وإن لم يكن لأصحابه سواه من الآثار لكفى وحده لتخليد ذكرهم والإقرار بفضلهم، فقرأت فيه «أسابيا»
2
و«الشفاء الغريب»، وقلت لعل بعض العلماء راجعون بنا إلى ما وراء المنظور لحيلة قد انطلت عليهم، أو لغرابة لم ينجل لهم سرها، والأغرب أن شيخ علماء العقليات الماديين «لمبروزو» الشهير مال ميلهم من قبلهم. ولو أنهم اجتهدوا قليلا لربما لم يجدوا صعوبة في تطبيق ذلك على الشائع المعروف من غرائب الطبيعة، ولاستغنوا عن هذه الطفرة، ولكن هذه المرة إلى الوراء، ولكن ماذا نعمل بناموس «الرجعة» والإنسان نسيج متوارثات؟
ثم قرأت فيه قصيدة عنوانها «فكتور هوجو» لنقولا أفندي رزق الله، فاستوقفني منها هذان البيتان:
وبتنا وباتوا مثلما شاء ظلمهم
فريقين سادات قساة وأعبدا
وخافوا اتحادا بيننا فتوسلوا
بدينين للتمزيق عيسى وأحمدا
فقلت من هو هذا المعري الجديد. •••
ثم وضعت يدي الواحدة ومددت الأخرى، وإذا بالمنار يتلألأ فيها بأنوار الجلال، وهذه المجلة أكبر تعزية في قبره لفقيد الأمة والدين، حجة الإسلام في هذا العصر، الإمام الأكبر الشيخ محمد عبده، القائل:
ولست أبالي أن يقال محمد
أبل أو اكتظت عليه المآتم
ولكن دينا قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
والغريب أن الإنسان يستعمل عقله في كل أمر، فإذا وصل إلى الدين عقل عقله، مع أن الأديان بنيت غاياتها على المعقول، ووضعها أناس إن لم نسلم جميعنا بأنهم أولياء كرام فلا خلاف بأنهم رجال عظام؛ أي من ذوي العقول الكبيرة. والظاهر أن الشيخ «رشيد» يتوخى في مناره حل هذا العقال لتجريد الدين من كل ما يشين، مما أدخله عليه صغار العقول من كبار العمائم، وذوي الغايات السافلة من أصحاب المقامات العالية؛ لتسلم له حقيقته، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومما قرأته فيه ترجمة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ولا خلاف في أنه من أكبر أئمة الدين المصلحين والفلاسفة في الإسلام، حتى وصلت فيها إلى قوله عن تربية نفسه بنفسه: «حتى انحلت عني رابطة التقليد، وأنكرت علي العقائد الموروثة.» فذكرني ذلك قوله في أحد كتبه: «لو لم يكن في ذلك إلا ما يشككك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا؛ فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.»
وقوله أيضا في محل آخر ما معناه: «إذا وجدت تناقضا بين العلم والدين، فخير لك أن تعمد إلى التأويل من أن ترمي الدين بتهمة الضعف.» وقلت في نفسي إن أمة فيها مثل هذا الإمام لا يستغرب نجاحها في معترك الحياة.
ثم قابلت ذلك بما قيل ونشر في الكتب وعلى صفحات الجرائد من عهد غير بعيد في أحد المشايخ من ذوي المقامات: «إن من كرامات جده أنه أكل حمل حمار من الخيار.» وقلت إن أمة فيها مثل من تقدم، كيف تأمن العثار؟ •••
وبعد أن فرغت من ذلك مددت يدي، وماذا أجد؟ ولا أخفي عليك بأني شعرت كأني قد سري عني، فقلت هذه مجلة سركيس. وسركيس هو الكاتب المتفنن الشهير، ومجلته هذه على حداثة عهدها قد طبقت شهرتها الآفاق.
فقرأت أولا هجوه، ولم أعجب لاقتراحه ذلك عن نفسه، وهو أعلم من كل صحافي بطرق الرواج، والفخر لا يأتي دائما عن طريقه المألوف، وقد استوقفني في قصيدة المجاز قوله:
فهجاء مثلك ليس فيه تكلف
وأرى مديحك كلفة وعناءا
وهي لناظمها إلياس أفندي فياض المحامي. ثم انتقلت إلى باب حسنات الشعراء، فقرأت الأبيات الآتية:
من كل ناطقة الجلال كأنها
أم الكتاب على لسان القاري
دلت على ملك الملوك فلم تدع
لأدلة الفقهاء والأحبار
من شك فيه فنظرة في صنعه
تمحو أثيم الشك والإنكار
قلت والبرهان بسيط. إلى قوله:
أو بابن داود وواسع ملكه
ومعالم للعز فيه كبار
هوج الرياح خواشع في بابه
والطير فيه نواكس المنقار
3
قلت ويا ليتها كانت أكثر اطمئنانا، ويا ليت ابن داود كان عمر، ولكن الشعراء بباب عمر
4 ...
والأبيات من قصيدة لأحمد بك شوقي، يصف بها دخوله الآستانة يوم عيد الجلوس الهمايوني. ولما فرغت من تلاوة هذه الأشعار قلت مقسما إن أحمد لهو أبو تمام هذا الزمان، إذا علا لا يشق له غبار. •••
ثم لما فرغت من كل ذلك تناولت شيخ المجلات الأدبية بلا منازع، ولو لم يكن له من العمر إلا خمس عشرة سنة، ناشر آداب القوم، وصاحب المقالات الإنشائية الاجتماعية والاقتصادية واللغوية، والروايات التاريخية التي لم يسبق إليها في اللغة العربية. وأظنك عرفت أني أريد لهذا الوصف «الهلال»، وفضل زيدان صاحبه على آداب العرب، خصوصا بعد الفتح الإسلامي، لا يربو عليه فضل؛ فقد حبب إلى الناس مطالعة تواريخ هذه الأمة في نهضتها وكبوتها، وسهلها عليهم برواياته، واستخرج لآلئ تمدنها من مغاصها في مؤلفاته. وفي الأمرين له فضل المنشئ المجتهد والمؤلف المبتكر.
والعدد الذي وقعت يدي عليه هو الأول من السنة السادسة عشرة، وفيه، عدا عروس فرغانة التاريخية وغيرها من المباحث، من المقالات الموافقة للمقام ما يدل على حسن ذوق صاحبه في انتقاء المواضيع، ك «استقلال أمريكا من سلطة الإنكليز»، و«مصر والشام»، و«حرية الصحافة في إنكلترا ومصر»، وفي مطالعة كل منها عبرة لقوم يعقلون، ولا سيما في هذا الدور الذي بلغت فيه عندنا فوضى المطالب مبلغا تاه فيه الزعماء قبل الأحزاب. فدرس أسباب ارتقاء الأمم مفيد لنا، فنجتنب ضلالهم في عثارهم، ونهتدي بهديهم في نجاحهم. ذلك خير لنا من إثارة هذه الحرب بيننا على أحزاب لا وجود لها إلا في رءوس زعمائها، حتى سخر بنا النازلون بيننا من الأمم الراقية من مباحثنا العقيمة، فكأننا نلنا كل ما ارتقت به الأمم، ولم يعد ينقصنا إلا الأحزاب.
والأحزاب يا سادتي، إذا جاز لي هذا القول، هي في نظام الاجتماع من الكماليات، ونحن لا نزال في حاجة إلى أقل الضروريات، ونشوءها لا يكون بإتلالها، بل تنشأ من نفسها متى اكتمل الاجتماع. فزعماؤنا يحاولون أن يخلقوا في نظام اجتماعهم جسما مشوها، ولكي أثبت أن زعماءنا رءوس بلا أجسام فلينهضوا ونرى كم ينهض وراءهم. فاتقوا الله في الأمة التي أنتم هداتها، وانظروا إلى مصلحتها وانبذوا الغايات؛ ذلك أجلب للمنفعة وأدعى للفخر.
أراني تهت في الموضوع، فمن الهلال إلى الأحزاب بون شاسع، ولكن تسلسل الأفكار ينقلك من أقصاها إلى أقصاها لأقل سبب، سنة الطبيعة في كل أعمالها.
ثم قرأت فيه قصيدة لحافظ أفندي إبراهيم في فكتور هوجو، وفيها هذان البيتان:
كتب المنفي سطرا للذي
جاده العفو ألا اقرأ واعجب
أبريء يعفو عنه مذنب
كيف تسدي العفو كف المذنب؟
وحافظ - ولا أطريه - شعره كالبنيان المرصوص، متين لا تجد فيه متهدما، وقد لمته يوما على إقلاله، وقلت له: «ألعل الشهرة أضاعتك؟» فقال لي: «وهل نسيت المكان والزمان أم نسيت ...؟» فأوقفته عني، ووجدته صادقا في القولين، ثم قرأت له فيه هذه الأبيات في «مصر والشام»:
ماذا جنيت وما جناه بنوك
أظلمتهم يا مصر أم ظلموك؟
فبسمت للغرب الطموح وأهله
ومنحتهم فوق الذي منحوك
وعبست في وجه الشآم وإنما
قطر الشآم وإن عبست أخوك
وكأن بها مسك الختام وختام النوبة، وقد انبلج الصباح وقامت الأطيار تغرد، فقمت إلى الورق، ودونت فيه ما خالجني من الأفكار كما رأيت، فإن أحسنت فقل إن من الشر لخيرا، وإن من العسر ليسرا، وإلا فلي تأسية بقول شيخ نهضتنا الحديثة إمام المنشئين الشيخ أحمد فارس:
فصلته لكن على عقلي فما
مقياس عقلك كان لي معروفا
قال في وصف النوبة في الربو؛ أي الأزمة الصدرية المشار إليها في المقالة السابقة:
في نوبة من النوب
5
أعدها شر النوب
6
صحوت من نومي مذ
عورا على صوت النوب
7
لكنما أنغامها
ليس بها داعي طرب
فيها صرير وصفير
وصليل وصخب
خرخرة حشرجة
وكل أنواع اللجب •••
وفوق صدري جبل
يهوي به ثم يثب
ومن جبيني عرق
منحدر مثل الصبب
والأنف مفتوح الكوى
مصفرا لا عن غضب
يجد في سحب الهوا
وكم يعاني من نصب •••
وإذا أنا بالجو مر
بد بأكداس السحب
ينذرنا بمطر
منه كأفواه القرب
كأنني ميزانه
فكيفما مال انقلب
وكلما زادت به
رطوبة زدت كرب •••
فذاك داء مزمن
والطب فيه ما حطب
وقال في هذا المعنى أيضا:
وبي علة في الصدر لو أنها خلت
لنازع ما بي من «أنا» نفس من «أنا»
لقد لزمتني والشقا منذ خلقتي
فصرت ألوفا للشقاء وللضنى
أكاد إذا ما فارقاني لحظة
أشك بوجداني وأنكرني «أنا»
كأني وما بي صرت عكس بني الورى
ففي صحتي دائي وفي راحتي العنا
المقالة السابعة والأربعون
إن من العلم لسحرا
1
كلما زاد الإنسان علما زاد تفننا في العمل، فلا غرو إذا كنا نرى في عصرنا هذا، على ما هو عليه من التدقيق في العلوم والإتقان في الصناعات، أمورا يصنعها البعض، ويشكل كشف سرها على كثيرين، فيتقبلها بعضهم كأمور روحانية، ويحل بها الوهم عنده محل الحقيقة مع أنها ضرب من الشعوذة التي لا طائل تحتها، والموجودة عند جميع الشعوب، ولكن على صور مختلفة تناسب روح كل شعب، وكلها إما من باب صناعة استخدام القوى الطبيعية بطريقة محكمة التوقيع، وإما من باب الخفة. ومن هذا القبيل الكتابة الروحية التي يدعي أصحابها أنها من صنع الأرواح، والتي كثيرا ما يتحدث بها القوم في مجالسهم كأنها من البراهين القاطعة على صحة ما يدعون. والغريب في ذلك هو أن هذه المسألة اخترقت صفوف العامة، ودخلت إلى قاعات العلماء، وجرت المباحثة فيها علميا في الجمعية العلمية الإنكليزية، وشوشت أفكار البعض، حتى تعرض أخيرا لكشف هذا السر العلامة لنكستر، أستاذ طبائع الحيوان في مدرسة لندن، فأدركه، وهاك البيان.
قصد العلامة المومى إليه المدعو هاتر، المدعي الوساطة بين الناس والأرواح، وسأله أن يستدعي له الأرواح للمجاوبة على سؤالاته. ولا يخفى أن الأرواح لا تجاوب جهارا، وإنما تتم عملها تحت مائدة يكون الوسيط ألصق بسطحها السفلي اللوح الحجري المعد لكتابة الأجوبة الروحية، ولإزالة كل شبهة يأمر الوسيط السائل بأن يضع يده تحت المائدة على اللوح، ويضغط عليه بكل قوته حتى لا يتغير وضعه، والقلم يكون موضوعا بين المائدة وبرواز اللوح بحيث لا يستطيع الإنسان أن يستخدمه.
فلنكستر تظاهر بأنه منذهل جدا من أفعال القوات الروحية، وأخذ يراقب حركات الوسيط جيدا، فتأكد بأن هاتر يكتب الجواب بسرعة عند إدخال اللوح تحت المائدة لتسليمه للأرواح، والوقت اللازم لذلك يطيله هاتر تحت علل شتى، ويحدث حينئذ بعض الأصوات ليخفي صوت صرير القلم على اللوح الحجري. وفي هذه الفرصة يكتب الكلمات السحرية إما بالقلم المعد للأرواح، وإما بطرف قلم آخر موجود تحت ظفر سبابته، وقد لاحظ بأن المرفق الذي يبقى وحده ظاهرا من اليد كان يتحرك مدة هذا العمل المهم.
فلما أيقن لنكستر باكتشاف السر حضر في اليوم الثاني ومعه أحد الأطباء، وقدمه كمنكر يريد أن يقنعه، ولكنه هذه المرة لم يستنظر استدعاء الأرواح بعد عرض السؤالات، بل مد يده حالا تحت المائدة، وأخذ اللوح فوجد الجواب مكتوبا عليه. ولا يخفى أن الوسيط لا بد أن يكون ماهرا جدا في توقيع الجواب وسرعة الكتابة.
المقالة الثامنة والأربعون
ظواهر لا تفسر
1
إلى صاحب جريدة «الكوريه دوريان»
قرأت في جرنالكم مقالة تحت اسم «ظواهر لا تفسر»، منقولة عن جريدة «الكنستيتيسيونال» بشأن ما رواه الدكتور «دلفيتش» الإنكليزي من أنه سمع صوت صديقه المتوفى في مدينة حلب يدعوه باسمه، سمع ذلك وهو مار بالقرب من بيت صديقه المذكور في لوندرة، وقد تحقق من أخبار البريد أن صديقه هذا كان يحتضر في الساعة التي سمعه يناديه فيها. والظاهر أن هذه الحادثة المستغربة أدهشت الجمهور، وتخطت أحاديث العامة إلى نوادي الخاصة؛ حيث كانت موضوعا لمباحثات بعض ذوي المكانة في العلم، وحسبها بعضهم برهانا جليا على صحة علم مناجاة الأرواح.
وقد أفاض الكاتب في الموضوع. على أنه جعل جل اعتماده فيه على التاريخ، فسرد عدة حوادث تاريخية شبيهة بما تقدم، أما البراهين العلمية فقلما تعرض لها؛ لذلك رأيت أن أسهب الكلام فيها في المقالة الآتية؛ لعلها تجلو الأمر بعض الشيء.
لا يخفى أن الدماغ هو العضو الرئيسي للحس، وهو يتسلط على كل قوى حياة النسبة، فيتأثر بما ترسله إليه هذه القوى بواسطة أعضاء الحواس التي لا يمكنها إتمام وظائفها إلا بمقدار ما تسمح به حالة الدماغ الصحية باعتبار كونه مادة، فيفهم إذن أن أعضاء الحواس ليست إلا آلات لنقل التأثرات إلى المركز العام الذي هو وحده قادر أن يحكم فيها، فيتقي ضررها بالقوة التي له على إصدار الأوامر اللازمة بحسب حكمه. وهذه القوة في الحكم والأمر والنهي والعمل تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والبنية الموروثة والمكتسبة، بحيث يختلف الشعور والفعل بحسب ذلك كثيرا.
ومن ذلك يفهم عندما نتأثر من الشعور بالسمع أو البصر أو الشم أو الذوق أو اللمس أن هذا الشعور إنما يكون في الدماغ، وليس في الأعضاء الأخر؛ فإن هذه الأعضاء ليست إلا سطوحا ترتسم عليها التأثيرات الآتية من الخارج، والدماغ هو الذي يحكم فيها، وإنما يحكم فيها في مكان هذه الأعضاء نفسها، وهذا ما يجعلنا ننسب الشعور إلى الحواس نفسها حال كونه واقعا في الدماغ حقيقة. وبعبارة أخرى، إن مركز السمع هو الذي يسمع، ومركز البصر هو الذي يبصر، ومركز الشم هو الذي يدرك المشموم، ومركز الذوق هو الذي يحكم على الطعوم، ومركز اللمس هو الذي يدرك الملموس، وليس الأذنان أو العينان أو الأنف أو اللسان أو الجلد. وهذا الشعور سمي شعورا خارجيا.
2
والشعور في الدماغ على طريق الحواس، وهي الناقلة لهذا التأثير والمدركة له، يظهر في بادئ الرأي قولا غريبا وأمرا مستحيلا، ولكننا إذا أمعنا النظر نرى أنه بذلك يحصل الدماغ على نظام أكثر ووضوح أتم في أعماله الكثيرة المتواصلة؛ لأنه لو كان ينبغي لكل إحساساته أن تتم ويحكم فيها رأسا في مراكزها الدماغية بدون معونة الأعضاء الأخر التي هي مراكز مختلفة أيضا لتأثيرات مختلفة؛ للزم أن يكون في وقت من الأوقات في غاية ما يكون من التشويش من تراكم الإحساسات التي ترد عليه، والأوامر المختلفة التي يرسلها على الدوام. ولنا على ذلك برهان أجلى على لزوم هذا النظام من الشعور الصادر من الداخل بدون تأثير خارجي، والذي مصدره على الغالب الذاكرة. فالذاكرة تذكر الدماغ بالتأثيرات المرسلة إليه سابقا من الخارج، ولكنها تذكره بها في الحواس الخارجية الخاصة، كما هو الحال في الشعور المسمى شعورا داخليا.
والشعور الداخلي هو تأثير داخلي محض، لا علاقة له واصلة بالمؤثرات الخارجية وإن بني عليها. ويحصل في الدماغ عن تهيج فيه لأسباب قد تخفى أحيانا كثيرة، بعضه خاص بقوة الإدراك التي تتصور تصورات بسيطة أو مركبة، والبعض الآخر خاص بالذاكرة التي تحضر للدماغ صور الحوادث التي تأثر بها سابقا، وهي إما بسيطة كما يشاهد في الأحلام التي هي من نفس طبيعة التخيلات أو غير عادية، وتكون نتيجة مرض في حالة الدماغ العصبية؛ لأن الدماغ مثل باقي أعضاء الحياة معرض لأمراض عارضة، وقتية أو ملازمة دائمة، عضوية أو وظيفية؛ أمراض يصح أن تسمى خللا عصبيا يكون على جملة وجوه، ويحدث جملة ظواهر، وأحيانا يكون من الأمراض التي تجلب اليأس للمريض والطبيب معا. وفي درس الدماغ وأمراضه ما يوضح لنا هذا الخلل العصبي، الذي شوهد في الماضي وسيشاهد أيضا في المستقبل، توضيحا وإن يكن قاصرا بالنظر إلى جلاء الأسباب كنقص جلاء بقية النواميس الطبيعية والكيماوية والحيوية، إلا أنه يكفي لرفع كل شك يلبك العقول من هذا القبيل.
وبالحقيقة، ما الفرق من جهة المصدر بين صوت ملفوظ وطنين أذن صادرين كليهما من الداخل؟ لا يوجد فرق بينهما سوى أن الصوت الملفوظ مركب أكثر من الطنين الذي ليس هو إلا صوتا بسيطا، فلماذا نتعجب من سماعنا الأول، ولا نعلق أدنى أهمية على الثاني؟ وما الفرق كذلك من جهة السبب بين صورة ترى ومصدرها داخلي، و«بين» قشعريرة عارضة أو رجفان عضو، وكلاهما من مصدر واحد؛ أي إنهما داخليان ليس للأسباب الخارجية الواصلة دخل فيهما؟ والجواب على ذلك أن لا فرق بينهما مطلقا، بل نحن نعلم جيدا بأن رجفانا شديدا عارضا في عضو ما عائد إلى تشويش وقتي في المركز المحرك، أو في الأعصاب الناقلة للسيال العصبي. فإن كان الأمر كذلك في الحوادث المذكورة، فلم لا نسلم بصحة ذلك أيضا في المرئيات والأصوات الداخلية بدون أن نفتش على التعليل عنها فيما هو فوق الطبيعة؟
الدماغ بالنسبة إلى هذا الشعور الداخلي إما صحيح وإما مشوش تشويشا عارضا، وإما مريض تماما كما في الجنون.
ففي الحالة الأولى هذا الشعور الداخلي أو هذه التخيلات، كما يسميها البعض، هي بسيطة؛ يعني أننا نسمع صوتا بسيطا أو مركبا أو نرى صورة أو صورا، ولكن على نوع هو بهذا المقدار سريع؛ حتى لا يكون لنا وقت لتحقيق ما يجري فينا. وهذه الحوادث تعرض تقريبا لكل الناس، وأنا من جملة أولئك الذين سمعوا آخرين يدعونهم باسمهم مرارا كثيرة، وغالبا من أناس أعرفهم، وحدث لي بأني وقفت أحيانا في الطريق لأتحقق الذي يدعوني، مع أنه لم يكن لذلك حقيقة في الخارج، ولم يكن سوى تخيلات.
وفي الحالة الثانية الأمر أهم، فإننا نظن أنا نرى أشخاصا تبقى صورتهم مرتسمة أمامنا مدة طويلة، ونسمعهم أحيانا يتكلمون ويستمرون على حديث طويل فيه بعض الائتلاف. وهذه الحالة أندر مما تقدم، وقد رويت عن كثيرين من أصحاب العقول الثاقبة. وكان جان جاك روسو من هذه الرتبة، فكان كلما انفرد يخال نفسه أنه مع أشخاص يكالمونه. والأحلام هي من هذا القبيل، وتدل على تشويش وقتي في الإدراك.
والحالة الثالثة أشد جدا مما تقدم، الدماغ في حالة التخيل والانخداع الدائم، كما في الجنون. ويختلف التخيل عن الانخداع بأنه شعور داخلي محض، متعلق بانحراف عصبي مركزي، والانخداع متعلق بانحراف محيطي في الأعصاب الناقلة نفسها، فتنقل التأثيرات الخارجية على غير حقيقتها.
والاعتراض الوحيد الممكن في مثل هذه الأحوال هو ما يأتي: لماذا نرى أحيانا أن الأمور تتم كما تنبئ عنها أو توحي بها أو تشير إليها التخيلات؟ فأجيب على ذلك وعن الأحلام أيضا جوابا بسيطا، وهو أن كل ممكن يجوز أن يتحقق، ولكنه لا يتحقق دائما، وهذا ما يجعل أكثر التخيلات لا تتحقق غالبا. هذا وإن عددا عظيما من الحوادث المذكورة في التاريخ القديم حكايات لا طائل تحتها، كما أن الحوادث المأخوذة عن التاريخ الحديث ربما كانت اختراعات المدعين علم ما فوق الطبيعة.
القسطنطينية، في 21 أكتوبر سنة 1876
المقالة التاسعة والأربعون
صدى النفوس:
1
ورجع الصدى
هي قصيدة بعثت بها إلى الهلال، وقد ضمنتها رأيي في اقتراح الهلال على الشعراء: «إن الدين جزء من الوجدان، وأكبر تعزية لبني الإنسان.» وصدرتها بمقدمة في الشعر والشعراء، قلت فيها:
كلمات أملاها علي اقتراح الهلال، تكاد تكون غير مقفاة، ليس لها من رنة الروي ما ألفته الأسماع العادية من تناسب الوقع، والروي للشعر العربي كالموسيقى للغناء، فإن لم تبلغ في إجادة المبنى حد الإفادة في المعنى، فهي لغير شاعر.
شعر ليس له من صناعة النظيم غير الوزن، عاطل من كل جمال إلا حلي الحقيقة، ولكن الحقيقة فيما يقال ليس لها جمال الخيال. فإن فعل في البعض فعل الوباء في الجرذ، فالأطباء كالأنبياء أرسلوا رحمة للعالمين.
موضوع ينبو الفهم عنه، وليس يلزم أن يكون سليما. ولقد قال أحد الحكماء: «إذا قرأت شيئا ولم تفهمه فافحص فهمك أولا، واحذر أن يخونك العلم إذا صدقك الفهم.»
صوت من بين ملايين الأصوات، هل يجزع منه؟ وإن لم يضرب على وترها، فهل يفقدها لذة نغمها؟ وهل تكدر نقطة صفاء البحر العظيم إذا وقعت فيه؟ وإن كدرته فما أعظم حمأته!
ما أحلى الأماني لولا أنها خيال شاعر، وما أمر الحقيقة لولا أنها السبيل إلى الرشاد.
خواطر أوحت بها إلي تلك النفس الطاهرة، صاحبة نفوس الشعراء،
2
فقلت أين نفس القائل:
وإن مديح الناس حق وباطل
ومدحك حق ليس فيه كذاب
إذا نلت منك الود فالمال هين
وكل الذي فوق التراب تراب
من نفس القائل:
أقول للحيان وقد صفرت لهم
وطابي ويومي ضيق الجحر معور
هما خطتا إما إسار ومنة
وإما دم والقتل بالحر أجدر
وأخرى أصادي النفس عنها وإنها
لمورد حزم إن فعلت ومصدر
هذا ما قاله شاعر البداوة على قمة جبل، يلقي عليك به درسا عاليا في الأخلاق، ولم يثنه الإباء عن مأتى الحصافة والحزم؛ لئلا تكون الصلابة القاصمة خرقا في سياسة المنفعة.
وذلك قاله شاعر الحضارة قائما يسأل على أعتاب المدنية، مع أنه أمير شعراء المولدين في صناعة النظم وكبر النفس.
أنت تستطيع أن تترجم شعر هوجو وموسه وروستان، وتستفيد من ذلك غرضا اجتماعيا وبحثا أدبيا أخلاقيا وعبرة تاريخية، ولكنك لا تستطيع أن تترجم شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري، ولا أن تستخلص منه شيئا من ذلك غير بعض الحكم والأمثال مشتتة في تلك الأدغال لا رابط ينسقها، ولماذا؟ لأن هوجو أطل في شعره على العالم أجمع، فنظر إلى الحقائق، وبما له من قوة الخيال وحسن السبك ربطها وكساها من شعره حلة مهيبة رهيبة في النفس، كما كساها موسه رقة وجمالا، وروستان نظر إلى الوقائع فأكسبها من قوة خياله ومتانة شعره وقعا في النفوس جعلها أبلغ في العظة.
فلو عني المتنبي وأقرانه بالأمور نظيرهم، وقصدوا فيها إلى مرام اجتماعية عالية، أكان خانهم خيالهم؟ أوما كانوا فاقوا شعراء الإفرنج في دقة الوصف وقوة التصور وسعة الخيال؟ فعوضا عن أن يتبسطوا في ذلك الأسلوب الجاهلي، ويضعوا لنا ما إذا روي روى مطامع النفوس وظمأ العقول، بل عوضا عن أن ينحوا النحو الذي نحاه بعدهم شعراء الإفرنج في وصف الطبيعة الصامتة والناطقة، وينزعوا إلى أغراض اجتماعية؛ استغواهم ذلك البذخ الذي عاشوا في وسطه، واستهوت الخلاعة نفوسهم، فأذلوا لها قرائحهم، ونهجوا في شعرهم ذلك المنهج الغريب في المدح والغزل والتصابي والاستجداء، حتى غلب هذا الأسلوب على صناعة الشعر العربي، وألفته الطباع، واستسهلته السلائق لعدم الارتباط فيه بقيد، وصار جماله لا يقوم إلا بالإغراب في تلك المعاني المبتذلة.
وكيف يترجم ردف يقعد صاحبه كأنه كثبان عالج، وقلب يحرق بناره الرجلين، ويثب من الصدر إلى العين؟ وقد رأيت قلبا خرج من تحت الإبط في صدمة قطار، ولكني لم أر قلبا تخطى سنن الطبيعة في خروجه من الجسم.
والشاعر العربي الذي يمكن أن يترجم أكثر شعره من غير أن تفقده الترجمة جماله هو شاعر الحقائق القائل:
ما الخير صوم يذوب الصائمون له
ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحا
ونفضك الصدر من غل ومن حسد
ما دامت الوحش والأنعام خائفة
فرسا فما صح أمر النسك للأسد
والقائل:
وقد زعموا هذي النفوس بواقيا
تشكل في أجسامها وتهذب
ولو كان يبقى الحس في شخص ميت
لآليت أن الموت في الفم أعذب
والذين يقولون هذا القول هم الذين يحبون الحياة أكثر من سواهم، والقائل:
كذب الظن لا إمام سوى «العل
م» مشيرا في صبحه والمساء
إنما هذه المذاهب أسبا
ب لجذب الدنيا إلى الرؤساء
ولا شك أن أبا العلاء المعري هو فيلسوف الشعراء قاطبة، وأكثر شعراء العرب علما، وأرجحهم عقلا، وهو الوحيد بينهم الذي ترفعت نفسه عن تلك الدنايا، ومال عقله عن سفساف القول إلى الحقائق ومحاربة الضلال.
لا أقول ذلك حطا من سليقة شعرائنا المولدين من متقدمين ومتأخرين، فإنهم - وايم الحق - أعلى الشعراء كعبا في الصناعة، وأوسعهم خيالا، ولا أقول أسماهم، وإنما أقول ذلك طعنا في أسلوبهم العقيم المبتذل؛ فإنهم وقفوا تلك القرائح المجيدة على أمور لا تفيد القارئ فائدة أدبية أو اجتماعية أو تاريخية، ولو كتبوها نثرا لخجلوا من دنا نفوسهم، وسخروا من إغراب عقولهم.
ولعله كان للمولدين من شعرائنا يد ليست أقل شؤما من يد علماء الكلام في تقهقر التمدن العربي، كما أن تلك الأشعار الحماسية في عصور الجاهلية وأثرها في النفوس كانت مبعثا لقيام دولة العرب في الإسلام، وبزوغ تمدنها، وبلوغها فيه الشأو الذي بلغته.
ولعلنا اليوم على فجر نهضة جديدة؛ فإني أرى من بعض شعرائنا نزوعا إلى وضع الشعر في أسلوب يرمي إلى غاية اجتماعية، ولا نعدم قرائح متوقدة من شعرائنا المطبوعين، فلعلهم لا يلبثون طويلا حتى يرونا منهم أمثال هوجو وموسه وروستان، وسواهم؛ فإن النظم طوع بنانهم، فما عليهم إلا أن يعملوا عقولهم، ويجيلوا نظرهم فيما حولهم، فلا تضن الطبيعة عليهم بمكنوناتها، والاجتماع بأسراره، والتاريخ بعبره. ولا أقل من أن يدخلوا بنفوسهم إلى أعماق نفوسهم.
أما القصيدة فهذه:
فؤادك ما بين المنية والمنى
يسائل أم ما في حجاك من الظما
3
إذا ما ترامى العقل يجلو حقائقا
شكا القلب أن الغبن في ذلك الجلا
4
وما الغبن إلا أن يرى القلب هائما
وتخفى على العقل الحقائق في الدنى
5 •••
لقد قلت إن الدين ضربة لازب
وجزء من الوجدان في أعمق الحشا
6
وإنا إذا لم نعبد الله ربنا
عبدنا ولو إلا
7
أقمناه من صوى
8
فلولا من النفس السجينة بارق
يمزق سجف الجسم ما كان ذا الصبا
9 •••
ولو أنت أعملت الروية لا الهوى
10
لأدركت أن الدين لا صوت بل صدى
11
صدى حبنا البقيا لهول حقيقة
12
وزلفى دلفنا للذي يحفظ البقا
13
وماذا عزاء المرء من بعد موته
إذا حبه للذات لم يدفع الأذى
14
وأنى له دفع القضاء محتما
فلم يبق إلا باسم الوهم مرتجى
15 •••
هو الحب إكسير الوجود بلا مرا
ولولاه ما كان الوجود كما ترى
فكل الذي تلقاه في الكون سره
وهاديه في أفعاله كيفما نحا
هو الحي مولودا هو الميت فانيا
هو النجم قد أسرى هو الصبح والدجى
هو الكل في كل معيدا ومبديا
وما نحن إلا فيه من صور الفنا
وليس فناء ما نراه وإنما
هو العود للأولى هو البعث للألى
قضوا فحيينا وانقضينا بعودنا
إليهم وغير الكل ليس له البقا •••
وما الحب من أدنى فاعلي إلى الرجا
فما فوق إلا الشوق في كبد السها
ترقى بنا حتى النهى وهو دونها
كما في نيوب الليث أو في حشا الصفا
16
حببنا
17
الذي فينا حببنا رجاءنا
حببنا الذي نرجو كحب لمقتنى
18
وهمنا به في الأرض طورا وتارة
صبونا إلى ملك وطورا إلى السما
19 •••
عبدنا به ربا مثيبا معاقبا
ويقضي ولا رد ويقضي كما يشا
رجوناه رحمانا أردناه عادلا
خشيناه جبارا كملك إذا عتا
دعونا إليه الناس بالحلم والتقى
دعوناهم بالنار والسيف في القلى
20 •••
فإن كان هذا الميل هدي نفوسنا
رويدك إن الكائنات به سوا
فأين مكان النفس فيها من القوى
وأين نبي العالمين إلى الهدى
21 •••
وإن كان كالوجدان غير مفارق
فلم لا نراه في جميع بني الورى
22
ووجداننا هل أنت ألفيت أنه
يقوم بغير الجسم إن حل
23
ما استوى
24
ألم تر أنا فيه تحت طوارئ
تعدد
25
فيها أو نعد له الرقى
26 •••
إذا ما منينا بالحقائق مرة
فهل في التمني خير ما يبلغ المنى
27
نقيم به من حائل الوهم معقلا
وكم ذا نلاقي إن نشأ دكه عنا
28
ترى المرء في رشد إلى أفق دينه
هناك يغيب الرشد والصوب والنهى
29 •••
ولوع الفتى فيه ولوع بعادة
ترسخت الأجيال فيها على المدى
30
ولكنها العادات مهما تضاءلت
فناموسها الرجعى وناموسنا الرجا
31 •••
لئن كان في الأديان ردع لجاهل
فكم قد جنى جان علينا بها بغى
وإن كان فيها من عزاء لبائس
ولكنها لا تقنع العقل والحجى
وإن يك للإنسان قسط مؤجل
فهلا هدى هاد بغير الذي هدى
إذا كان مخلوقا كما شاء ربه
فماذا جنى غير الذي ربه جنى
وإن قلت مخلوق وحر مهدد
فهذا مقال لست أفهمه أنا
32
المقالة الخمسون
هل في الوجود عالم آخر؟
1
1
سيدي صاحب الهلال
إني أرتاح دائما إلى قراءة هلالك، وأنتظره بتشوق لطلاوة مباحثه. وقد قرأت في عدده الأخير مقالا لك في: «هل في الوجود عالم آخر؟» استرسلت فيه من مقدمة إلى أخرى إلى وضع هذه الأولية، وهي: «إن نظام هذا الكون يدل على حكمة فائقة في وضعه، ونرى هذه الحكمة في كل عمل من الأعمال المادية.»
ثم نظرت إلى الأعمال الأدبية، فقلت: «أما الأعمال الأدبية فقلما نرى حكمة فيها.» واستنتجت من ذلك أن الحكيم الذي وضع هذا النظام الكامل في العالم المادي لا يعقل أن يدع هذا النظام غير كامل في العالم الأدبي، فلا بد أن يكون قد جعل لهذا الكون «تتمة تسد هذا النقص». ولما لم تظهر لك هذه التتمة في هذا العالم البادي، قلت: «ولا يمكن أن يكون ذلك إلا في عالم آخر نظامه متمم لهذا. وبما أن ذلك النقص متعلق رأسا بالإنسان، فلا يسد ذلك الخلل إلا إذا وجد الإنسان في ذلك العالم، وهو لا يكون هناك إلا مبعوثا.» ا.ه.
وليس غرضي هنا النظر في النتيجة التي اتصلت إليها كما بدا لك، مع ما هو معلوم من ارتباط الأعمال الأدبية بالأعمال المادية نفسها، وارتباط نظام الكل بالكل؛ مما يجعل مثل هذا القول ضعيفا، بل توجيه النظر إلى أن ما أثبته من الحكمة الفائقة لنظام العالم المادي ليس بأقل وهنا مما نفيته عن العالم الأدبي، ولا سيما أنك نظرت إلى الإنسان في هذا الكل كأنه عالم مستقل.
قرأت ذلك في ليلة اشتد حرها، وكثر بعوضها حتى لم يعد يقي منه واق، فحرمت المنام للسع كأنه وخز الحراب أو لذع النار، والفكر لا يهجع، فأخذت أنتقل من موضوع إلى آخر حتى وقفت على سؤالك: «فهل في الحوادث الطبيعية ما ينافي هذا القول؟» أي الحكمة الفائقة في نظام الأعمال المادية، فنظرت ، وإذا بالمنافي كثير، وعجبت كيف أنه خفي عليك! لا سيما وأنك نظرت إلى الإنسان من خلال ذلك نظرا خاصا، وهو في نظامه المادي ليس أكثر استقلالا من سائر الكائنات، ولا أكمل منه في نظامه الأدبي، فخطرت على بالي الأبيات الآتية، أبث بها شكوى، وأصدع بها إلى بيان حقيقة، وهي:
يا برغشا أرقني
من فرط ما حرقني
هل أنت مخلوق الذي
بحكمة خلقني
وأين هي فليفتني
كل حكيم لقن
هل هي بخلق مطلق
أردى ولما يقني
من زائد أو ناقص
أو جالب للمحن
فكل مخلوق به
زوائد كالدرن
زوائد خالية
من كل معنى بين
منقصة للخلق لو
لا أنها في الزمن
كان لها معنى دلي
ل نفعها للبدن
فضمرت إذ أهملت
لسنة في الثفن
وسوف لا تبقى به
كأنها لم تكن
هي حكمة في النشء لا
في خلقها أن نفطن
تربطها بما مضى
مثل بقايا الدمن
والنشء مضطر بها
والخلق فوق السنن
نتيجة لا غاية
من دونها الخلق يني
وغاية الحكمة خل
ق كامل لم يهن
2
حضرة صاحب الهلال
لما كتبت إليك موجزا ومشيرا لم يكن قصدي أن أفتح معك باب المساجلة في مسألة اعتقادية خلافية، تتعلق بالمبدأ والمعاد؛ خشية أن يجرنا الدخول في ذلك إلى أخذ ورد لا ينتهيان؛ لاختلاف نظر كل واحد فيهما بحسب مواقفه وأهوائه، ويوقعنا والجمهور معنا في مغالطات اجتهادية عقلية، لا يكون معها تهافت الفلاسفة وتهافت التهافت شيئا مذكورا.
وإنما كان قصدي التنبيه إلى مسألة علمية بسيطة، لا يصح أن يجاز علينا فيها ما قد يجاز في المسائل النظرية العقلية البحتة، وهي نسبة العالم المادي، الذي قلت إن نظامه التام يدل على حكمة فائقة، إلى العالم الأدبي الذي لم تجد فيه هذه الحكمة، وما قلت قولك هذا الغريب في العلم إلا لتستخرج منه هذه النتيجة الأغرب في الحكم، «من أن الصانع الحكيم لا يعقل أن يتم شيئا ويدع الآخر ناقصا، فلا بد أن يكون قد أعد الكمال للناقص هنا في عالم آخر هو عالم البعث.»
ولا يخفى ما في هذا القول من الاضطراب مع مخالفته للمقرر في العلم الطبيعي من تلازم العالمين الواحد للآخر، وتوقف أحدهما على الآخر. ولو لم تجعل سندك هذا العلم لتقرير مقدمتك ونتيجتك لما جاز لي الاعتراض عليك.
ولقد أشرت فيما كتبت إليك بكلام صريح إلى أن فقد الحكمة من العالم الأدبي، كما تقول، والذي قلت إنه نقص في الخلق، كائن هو نفسه أيضا في العالم المادي نفسه إذا نظرنا إليه نظرك، أي بالنسبة إلى غاية الخلق، وهو واضح جيدا في عالم الأحياء الذي منه الإنسان المقصود بالذات من البعث. وكلامي هناك على ما فيه من الاقتضاب كافل لأن ينبه من ذهب عليه ذلك لا لنقص في العلم، بل لباعث آخر غلبه فيه فصرفه عنه، لعله يراجع نفسه فيصحح حكمه فيما بناه على مثل هذه المسألة العلمية المنافية لغرضه؛ لئلا يكون التشبث بذلك أدعى إلى الوقوع في مغالطات علمية أيضا تكون الجناية فيها مزدوجة على العلم والاعتقاد معا.
على أن بيانك الذي أتيت به بعد ذلك دلني على أنك لم تعبأ بأهمية هذه الأعضاء الأثرية، فلم تعتبرها آثارا منافية لغاية الخلق الاستقلالي، ومنقصة لتلك الحكمة الفائقة في الخلق، بل صرفت النظر عنها، وأخذت تدلني على تلك الحكمة الفائقة في نظام العوالم، وتوجه نظري إليها تارة في الأفلاك وطورا في الأرض، من نظام الأجرام السماوية إلى نظام الأجرام الأرضية، من الإنسان فالحيوان فالنبات حتى الجماد.
والحق أقول إني غير صعب المراس، وإن كنت غير متساهل في القياس، فجاريتك إلى أبعد من مبتغاك، ونظرت معك في نظام الأفلاك، وتحول السدم إلى شموس وأقمار، وزدت عليك بأني نظرت وحدي إلى انحلال هذه الشموس والأقمار ورجوعها إلى السدم، ونظرت إلى حركات الرياح وتساقط الأمطار، وأعجبني منك قولك فيها: «وتسلسل أسبابها.» ونظرت إلى تحليل المواد وتركيبها على نسب محدودة، وقلت في نفسي هل كان يمكن يا ترى غير ذلك، ثم نظرت إلى توالد الأحياء من بيضة أو جرثومة، ثم قلت ما الحكمة من وجود هذه الأعضاء الأثرية التي لا معنى لها في محفظة هذه البيضة أو الجرثومة التي اختصر فيها هذا الخلق البديع المستقل.
نظرت في كل ذلك، فلم أجد في بعض ما أدركته مما أوسعت له مجال الإسهاب تلك الحكمة المقصودة، ولا تلك الغاية المرغوبة، وإنما وجدت في سردها من الإطناب ما هو أدعى في بعض المواقف إلى الإعجاب. على أنك لم تقصد بذلك إلا إكثار الأدلة لبيان الحكمة الفائقة في الخلق، لا بديع ما في قوله
يسألونك عن الأهلة ، ولكنه بيان لو تدبرناه جيدا لوجدناه يرمي إلى ضد ما تقصد؛ فإنك قمت تؤيدني من حيث قصدت أن تناقضني. أقول ذلك لا عن تعنت كما ربما تظن، بل عن برهان، وإليك البيان.
الذين يقولون بالمعاد في غير هذا العالم هم أصحاب الخلق، وهم أصحاب الخلق الاستقلالي أولا - قلت أولا لأن بعض هؤلاء يميلون اليوم إلى القول بالخلق الكلي - فهؤلاء يجعلون كل جنس مخلوق من المخلوقات التي يتألف منها العالم أجمع خلقا خاصا، وأخص هذه المخلوقات عندهم الإنسان الذين خلق كل شيء من منظور وغير منظور لأجله، فهو عالم مستقل بنفسه، علاقته بهذا العالم المنظور عارضة، لا يلبث أن ينفك عنها إلى العالم الآتي غير المنظور الذي هو مقره الدايم، والذي علاقته به جوهرية. أليس هذا هو الاعتقاد الشائع الذي تعلم به الكتب الدينية، والذي هو أساس أوليتك؟
ولنحصر كلامنا في هذا الإنسان الذي هو محور هذا الاجتهاد من كل هذا البحث بالنظر إلى معاده؛ لنرى أولا ما إذا كانت علاقته بهذا العالم عارضة أم جوهرية، وثانيا لنعلم ما إذا كان الذي يطلق على كل الطبيعة يطلق عليه أيضا، أم هو ممتاز علميا يجوز له الانفراد وحده بامتيازات تجعله فوق الطبيعة للتجرد عنها.
لا يجوز لي في هذا المقام بالنسبة إليكم أن أدخل معكم في بيان كون الإنسان في تكوينه حيوانا في أعلى درجة من سلم الحيوان، تربطه به روابط تدل على أنه مرتق عنه، وإن كان في بعض العصور غيره الآن، فإني لا أرتكب مثل هذا الخطأ مع من أعده يعلم ذلك جيدا كما هو مقرر اليوم في العلم، والذي هو نفسه يقول لي: «كم من الحكمة في نمو النبات بتحويل المواد الترابية إلى مواد حية، وفي نمو الحيوان بتحويل المواد النباتية إلى حيوانية، ثم ترجع تلك المواد بعد الموت إلى التراب.» فأنتم تعلمون جيدا أن في الأحياء، وخصوصا في الإنسان، أعضاء أثرية، أي زوائد لا معنى لها في خلقه كما هو الآن، وإن كنتم تقولون مع ذلك: «على أننا إذا تدبرنا هذه الزوائد رأيناها تنحصر في عالم الحياة، وهو جزء صغير من المخلوقات.»
ولا أقف عند هذا القول لأرد عليه بقولي أما كون عالم الحياة جزءا صغيرا من المخلوقات ففيه نظر، سواء نظرنا إليه بالنسبة إلى أرضنا أو بالنسبة إلى العوالم الأخرى التي لا نعلم عنها شيئا من هذا القبيل، وهو في أرضنا ليس صغيرا بالقدر الذي يستفاد من هذا الكلام، وصغيره يكاد يكون مالئا الأرض كلها، ومتخللا كل أجزاء الجماد، وله في تحليله وتركيبه وتحولاته شأن عظيم؛ فإن هذا البحث ليس من غرضنا هنا، بل أقول إنه مهما يكن من ذلك، فعالم الأحياء جزء مهم جدا في بحثنا؛ لأنه يشتمل على الإنسان الذي هو موضوع البعث في العالم الآخر.
وأنتم تعلمون أن هذه الأعضاء الأثرية التي ليس لها معنى في تكوين الإنسان كما هو الآن، كان لها معنى في الماضي يوم كان تكوينه غيره اليوم، وهي كثيرة جدا، وليس المقام مقام بيان وجودها وإثبات عدم نفعها فيه ونفعها في سواه، كما هو مبسوط في محله، وكما تعلمونه جيدا، بل أنتم تعلمون أن هذه الآثار أقوى دليل على تسلسل الخلق وترابطه، وعلى أن الإنسان مشتق من الحيوان بالارتقاء، ولكن بعد هذا العلم، ماذا يكون مقامها في الخلق الاستقلالي؟ وأين الحكمة فيها حينئذ؟ ولا إخالك تعمد هنا إلى القول بأن الحكمة التي لا تبدو لنا فيها دليل على جهلنا، لا على عدم وجودها. وربما كان يجوز مثل هذا التخلص لولا أنك تعلم أن العلم عرف فائدتها لاكتشافه حقيقتها في الأحياء الأخرى الأدنى، وأثبت بذلك ارتباط الإنسان بالحيوان، بل نشوءه عنه، وأقر ذلك على أساس علمي متين، فهل لنا بعد ذلك مناص من إنكار مذهب الخلق الجزئي الاستقلالي؟ وإلا فكيف يمكن لنا حينئذ أن نوفق بين هذا الوصل في المبدأ وذلك الفصل في المعاد، وأن نسند ذلك إلى العلم نفسه؟ بل كيف يمكن لنا أن نوفق بين الحكمة الفائقة في الخلق ووجود مثل هذا العبث في المخلوقات؟ لأن وجود مثل هذه الزوائد غير النافعة فيها، والضارة بها أحيانا، ليس إلا عبثا بالنسبة إلى المخلوق نفسه.
بل كيف يمكن لنا أن نوفق بين هذا النشوء المتسلسل الذي يثبت لنا أن العوالم بمطلقها التي تبدو لنا اليوم كما هي، لم تكن كذلك في الماضي القديم، وبين مذهب الخلق الكامل الذي يقول إن العوالم ومنها الإنسان وجدت بصورتها الحاضرة كما هي الآن؟ فلم يبق أمامك إلا القول بالخلق الكلي، وهو أحسن ما يعتصم به المستمسكون بالخلق؛ إذ ينسبون حينئذ كل تحولات الطبيعة إلى نواميس عامة مخلوقة هي نفسها، وهي العامل الثاني في نشوئها المتسلسل، وإنما يبقى عليهم حينئذ أن يوفقوا بين ذلك ومبدأ الأديان القائل بأن المعاد في غير هذا المكان للإنسان وحده، وهو لم يكن إنسانا كما هو اليوم في أطوار نشوئه، ولا هو مستقل عن سواه في مبدئه حتى يجوز له هذا الاستقلال في معاده، أو أنهم يطلقون البعث حينئذ على العالم كله، لا باعتبار انتقال مواده فيه بتغير صورها، بل باعتبار انتقال الطبيعة كلها بأعيانها من مكان منظور إلى مكان آخر غير منظور. هذا ولا يخفى عليك حينئذ ما يرد على الخلق الكلي نفسه من الاعتراض المعقول من أن الخالق والمخلوق لا يجوز أن يكونا منفصلين، وإلا وجب أن يكون فعل الخلق الصادر من الخالق منفصلا عن الخالق نفسه، وهو خلف، وإن كان متصلا به فكيف يكون هو نفسه غيره، وهو خلف أيضا؟
على أن هذه الأمور المقررة اليوم في العلم، والتي تنفي الحكمة من الخلق، تصبح ذات شأن عظيم في مذهب النشوء؛ إذ تبين حقيقة هذا الترابط الذي تشير إليه في قولك: «ونجد الخلق بجملته تام النظام مترابط الأطراف.» لتوقف كل تغير فيه على تغير في سواه، أو لإحداث كل تغير فيه تغيرا مناسبا في سواه. وعليه فالعالم في مذهب النشوء لم يكن ولا هو كائن ولن يكون إلا منتظما لناموس عظيم فيه هو ناموس التناسب أو المطابقة.
وكما أن العالم المادي مترابط، ومن هذه الحيثية هو تام النظام في كل العصور، فالعالم الأدبي إذا نظرنا إليه نظرا علميا وجدناه لا يخرج عن هذا الحكم، فهو مترابط تام النظام أيضا. ولا يجوز أن يكون غير ذلك، لا سيما وأن كل الأعمال الأدبية متوقفة على نظام المادة نفسها. فقوى الطبيعة من حركة إلى حرارة إلى نور إلى كهربائية إلى قوى حيوية، إلى غير ذلك من تحولات القوى، مترابطة بعضها ببعض، ومترابطة بالمادة نفسها. ووظائف الأعضاء في الأحياء متوقفة على حال هذه الأعضاء كوظيفة التغذية عموما، ووظيفة عضو عضو منها، فكما أن إفراز اللعاب عمل من أعمال الغدد اللعابية، فالعقل نفسه ليس إلا عملا من أعمال الدماغ، بحيث لو انحلت مادة الدماغ إلى بسائطها انحل العقل إلى القوى المودعة في تلك البسائط، ولم يتطاير منه شيء إلى الخارج، حتى الوجدان نفسه الذي يتوهم البعض أنه مزية يمتاز بها الإنسان على سواه، والذي ذكرتموه على صورة تؤيد هذا الامتياز، إذا تدبرناه كما ينبغي يظهر لنا أنه عام على العوالم كلها، مع حفظ النسبة بينها من الإنسان إلى الحيوان إلى النبات إلى الجماد، فكل من هذه العوالم يدافع عن نفسه حفظا لكيانه حسب مرتبته؛ مما يدل على أنه شاعر بذاتيته، ولو لم يكن له هذا الشعور لم يكن له ذلك.
وما أتيت بهذا البيان لأعارض أيا كان في إيمانه، بل لأدفع عن القضايا العلمية المغالطات التي قد نجيزها فيها على أنفسنا وعلى سوانا، فنقطع بها تارة ما يوصل، ونصل بها أخرى ما يقطع؛ لغاية في النفس لنا سابقة، نشوءها فينا معلوم لو تحريناها إلى أصولها. وفي اللاهوت النظري ما يغنينا عن ذلك كله للغرض الذي تدفعنا إليه أمانينا، ويرتاح له وجداننا، لا سيما وأن المسألة مسألة اعتقادية بحتة.
أما قولكم إن كثيرين من العلماء الأعلام لم يستطيعوا النفي البات في مثل هذا المقام، فما ذلك بالبرهان على ثبوت دعوى خصوم النفي الذين لا يستطيعون أن يجدوا في العلم دليلا واحدا للإثبات. وما مقام اللورد كلفن بأعظم من مقام أغاسيز نفسه في العلوم الطبيعية؛ فقد كان فيها أعلم من داروين، ومع أن داروين بنى مذهبه وأيده بأبحاث كثيرة مأخوذة عنه، فقد كان أغاسيز نفسه من ألد خصومه. ولا يثبت ذلك إلا أمرا واحدا، وهو شدة وطأة ناموس الوراثة، وخصوصا ناموس الرجعة، كما دلتنا اليوم تصريحات لمبروزو نفسه على ما جاء في المقتطف من انقياده لشعوذة المشعوذين ووهم الواهمين، واعتبار ذلك من مرجحات الاعتقاد بالأرواح وما شاكل، مع أنه كان من أشد أنصار الفلسفة العقلية المادية.
فالعالم مخلوقا يحملنا على اعتقاد وجود العبث في الحكمة، وهي غير مضطرة، وهو خلف؛ وناشئا يدلنا على أن هذا العبث ليس بالحقيقة عبثا، بل رابطة ضرورية للتسلسل في النشوء. والعالم مخلوقا يحملنا على أن نقطع حيث يجب أن نصل، أو نصل إلى نتيجة كلية لا تنطبق على غاياتنا الجزئية، ولا على شيء من العلم. والعالم ناشئا يدلنا على أن كل ما في الطبيعة منها وبها وإليها.
وعليه فالذي تقول إنه خلق لا ينطبق على الواقع المقرر في العلم، إلا إذا قلنا إنه نشوء، والذي تقول عنه إنه غاية مقصودة لا يصح إلا إذا قلنا إنه نتيجة لازمة، والذي تقول إنه حكمة فائقة هو عبث، إلا إذا قلنا تناسب ضروري لنشوء مترابط، والذي تذهب إلى أنه معاد خاص في غير هذا المكان لا يجوز إلا إذا قلنا إنه عود على بدء في هذا المكان . وهذا ما يقوله العلم، وإن تلجلج في بعض القضايا العلمية المادية، فلا يقول سواه، كما في هذا القول:
هو الكل في كل معيدا ومبديا
وما نحن إلا فيه من صور الفنا
وليس فناء ما نراه وإنما
هو العود للأولى هو البعث للألى
قضوا فحيينا وانقضينا بعودنا
إليهم وغير الكل ليس له البقا
أما الإيمان الذي ترتاح إليه نفوس الأكثرين لأسباب تعليلها واضح في مذهب النشوء، لا يضيق به مثل هذا الحصر، وهو قام حتى الآن على غير العلم، وفي إمكانه أن يبقى في غنى عنه زمانا طويلا أيضا، وليس من الحكمة أن نحاول إلباسه حلة علمية لا تناسبه تنم عن ضعفه، أو تكون به كطيلسان ابن حرب.
وفي الختام إني معجب بك لسعة فضلك، وغزارة علمك، وإن خالفتك في مثل نتيجتك التي اتصلت إليها، والتي كنت أود ألا أحرج لمعارضتها، ولكنك توافقني على أن لا محاباة في العلم، كما أنه لا حياء في الدين. وإن سألت ما الذي أحرجني، قلت مقامك عندي.
المقالة الحادية والخمسون
مناجاة الأحلام وفرع الأوهام
1
لقد كثر الآن تحدث الناس بغرائب أفعال العقل أو النفس كما يقال أيضا، وسائر أفعال الجهاز العصبي الخارجة عن المألوف من مثل التخيلات والشعور بما هو فوق طاقة الحواس الاعتيادية، وانطباق ذلك في بعض الأحيان على الواقع، مما يختلط كثيرا على العامة ويربك الخاصة أيضا. واشتدت المناضلة بين الباحثين، فذهب بعضهم إلى أن هذه الغرائب من خوارق الأعمال التي لا تنطبق على النواميس الطبيعية، وعللها بأنها من أفعال الأرواح المحيطة بنا. ونقل بعض الجرائد العربية تصريحات المستر ستد بما وقع له ولبعض أشياعه، ونسبتهم ذلك إلى مناجاة الأرواح. وقد كتبت مقالة في الجريدة إجابة لاقتراح بعضهم لدفع هذا الزعم نافيا الغرابة غير الطبيعية فيه، ومطبقا الصحيح منها على نواميس العلم الطبيعي وعلم الأمراض العصبية.
ونقل المقتطف مساجلة عالمين طبيعيين يذهب كل منهما مذهبا مخالفا للآخر. فرأيت أن أسهب الكلام هنا للإلمام بالموضوع من كل أطرافه؛ لكي يتيسر للناظر بالمقابلة والاستقراء والاستناد إلى العلم الطبيعي أن يحكم بما هو أقرب إلى الحقيقة. وأنا لا أشك في أن كل ما يجري فينا من هذا القبيل إنما يجري تبعا لقواعد طبيعية نظير سائر ما يقع في الطبيعة، مما هو مقرر اليوم أنه بحث طبيعي بحت، ولا أشك كذلك أن معلوماتنا الطبيعية اليوم كافية وحدها لتعليل ذلك تعليلا يزيل عنه كل غرابة، إلا ما كان من قبيل الغرائب الطبيعية فقط.
إن غرائب أفعال العقل والجهاز العصبي معروفة للإنسان منذ القديم، وأشهرها الأحلام التي تعرض له وهو نائم - وهي تعرض للحيوان أيضا - وقد كانت سببا من أكبر الأسباب لاعتقاد الإنسان أن فيه قوة غريبة عن جسمه تنفك عنه في حالة النوم، وتطوف المعاهد منتقلة من مكان إلى مكان، ومن إحساس إلى إحساس، ثم ترجع إليه في اليقظة، وكثيرا ما تصدق في الأنباء التي تنقلها؛ مما حمل الأكثرين على الاعتقاد بها، وظن بعضهم أنه يمكن من مراقبة أحوالها أن يستخرجوا أحكاما مطلقة، وألفوا الكتب في تفسيرها حشوها تارة بالخطل وتارة بالدجل.
وقد كانت أوهام الإنسان في اليقظة كثيرة جدا في أول الأمر لقلة تعرفه ما حوله من قوى الطبيعة؛ إذ كل ما هو مألوف معروف لنا اليوم كان يبدو غريبا له، وقد بنى عليها كثيرا من أقاصيصه الميثولوجية وحكاياته الخرافية، واشتغل بها زمانا طويلا قبل أن استهلك كثيرا منها بالعلم شيئا فشيئا، وأقرها في مكانها الحقيقي.
وقد كانت الأمراض العصبية، ولا سيما العقلية والهستيرية، نظرا لغرابة ظواهرها بالنسبة إلى سائر أمراض الجسم محل استغرابه، بل موضوع تكهنه وتفزعه، حتى إن الألفاظ التي استعملت للدلالة عليها في كل اللغات تدل دلالة صريحة على الاعتقاد بأنها حالات مستفاضة على الجسم، غريبة عن مادته وعن جوهر قواه، كأن يقال إن بصاحبها مسا أو دخلا؛ إشارة إلى الروح الغريبة الحالة فيه. وكم عذب النساء الهستيريات، وحلت بهن النقم لاعتبارهن ساحرات، وأحرقن أيضا تخلصا من الشيطان الحال فيهن قبل أن تداركهن العلم برأفته.
ولا يزال هذا الاعتقاد شائعا عند كثيرين حتى اليوم ، وإن تلطف بعضهم في تسميته، كأن يقول إن الحال شيخ، ورأفوا في معاملة صاحبه، فأحلوا الرحمة محل النقمة، وعالجوه بالتعاويذ والرقى والقراءات وما شاكل. وكما أنهم نسبوا بعض الحالات العصبية الشديدة الوطأة إلى الأرواح الشريرة، وأفحشوا في معاملة أصحابها، نسبوا كذلك بعض الحالات العصبية التي كانت تبدو لهم ألطف من تلك على الجسم المصاب بها إلى الأرواح الصالحة، ورفعوا أصحابها إلى مقام الأولياء والأنبياء، ثم أخذ هذا الاعتقاد يضعف حتى أثبت العلم اليوم أن مثل هذه الحالات ليست سوى أمراض عصبية كسائر أمراض الجسم، ولها أحكام طبيعية مثلها حتى في غرابتها.
وكأن جمهور المتعلمين الراقين لم ينف الاعتقاد بالمصدر الغريب في مثل هذه الحالات إلا عما كان يبدو خشنا فظا، وأما الجم الغفير فلا يزال حتى اليوم يعتقد أن في اللطيف منها محلا للنظر ومتسعا للقول، وكثيرون يميلون إلى نسبتها إلى الأرواح للاعتقاد المتأصل فيهم، إن لم يكن رهبة فرغبة، والذي هو بقية راقية من مجموع تلك الاعتقادات القديمة الخشنة.
وقد عنيت بهذه المسائل طوائف كثيرة من أهل الأدب والعلم في أوروبا وأمريكا، وخصوصا في إنكلترا، وألفوا لها الجمعيات الكثيرة ليلبسوا البحث فيها حلة علمية، اشترك فيها المقتنع والواهم والمتردد، وانضم إليها الدجال أيضا، وكل واجد في ذلك مصلحته.
فلكي يمكن البحث في هذه المسائل على أسلوب يكون منه فائدة للعلم لم يكن بد من تحليلها قبل تعليلها؛ لمعرفة الصحيح فيها من المختلق، والممكن من غير الممكن، فلا تخدعنا أعمال المشعوذين الذين يأتون أمامنا أعمالا كثيرة غريبة صناعية كوضع الشيء في مكانه، ثم إخراجه من مكان آخر، وكابتلاع السيوف والسكاكين ولم يبلع منها شيء، والتكالم مع أشخاص متباعدين والمتكلم واحد، وغير ذلك من الأمور المدهشة التي يجيزونها على الناظرين، وليس فيها شيء من الغرابة سوى مهارة الصناعة؛ فإن أمرها اليوم معروف للخاصة والعامة، وإنما نقتصر هنا على المسائل المقررة اليوم، والتي يعترف بها العلم.
إن جميع الغرائب التي تعرض للإنسان تطرأ على شعوره، فيحس أو يعلم بما هو فوق طاقة مشاعره وإدراكه في حالته الاعتيادية، وتنحصر جميعها فيما نسميه هنا على وجه الإطلاق بالتخيلات، وإن اختلفت مسمياتها بحسب مدلولاتها، وذلك بقطع النظر عن صحتها وعدمها؛ لأنها في اعتقادنا صحيحة كلها، سواء طابقت الواقع، كأن يرى الإنسان وهو في مكان صورة صديق له في مكان آخر مثلا؛ أو لم تطابق الواقع، كأن يحلم أنه طائر في الجو كما يحصل كثيرا للأطفال في أحلامهم وهم نيام؛ فكلاهما تخيل حاصل، لا يجوز للعلم أن ينفيه لئلا يتلجلج في تعليله، وكلاهما شعور حقيقي وإن اختلف سببهما، كما سيجيء.
وما أطلقت اسم التخيلات على كل هذه الغرائب مع قطع النظر عن أسبابها الظاهرة والباطنة والبعيدة والقريبة، إلا لأضمها تحت اسم جنس باعتبار أن أصلها واحد يسهل تعليلها، وهي تشمل أحلام النوم وأحلام اليقظة كرؤية الأشباح، وسماع الأصوات، والإحساس بالملموسات، ومناجاة النفس التي يطلقون عليها اسم مناجاة الأرواح، وقراءة الأفكار، والوقوف على الأنباء البعيدة، وغير ذلك مما هو خارج عن مألوف الحواس والإدراك. وبالحقيقة كلها في الغرابة سواء، والذي يستوقف النظر في أحدها يجب أن يستوقفه في الآخر؛ فليست قراءة الأفكار بأغرب من الأحلام، ولا مناجاة الأرواح بأغرب من تخيل سماع الأصوات، وكلها من مصدر واحد.
وقبل التوسع في الموضوع لا بد لي من التنبيه إلى أن كل ما يقال عن الإنباء بالمستقبل لا حقيقة له مطلقا إلا ما كان منه في حكم الواقع، كأن ينبئ الإنسان بأمر مقبل يتوقف على أمر حاصل. وهذا يدخل حينئذ في موضوع البحث فيما هو كائن في الحال حقيقة، مثال ذلك: كان عندي مريض منذ عشرين سنة، وكان به اختلاط ذهن هستيري طال به أكثر من شهرين، تقلب المريض فيهما على حالات مختلفة، أظهر فيها عدة غرائب، منها أنه عرض له في طور من أطوار مرضه رعاف تكرر مرارا عديدة. ففي أول الأمر لم نكن ندري بالرعاف إلا من مشاهدته، ولكن بعد أن تكرر صار المريض ينبئ به وبمقداره تقريبا قبل حصوله بأربع وعشرين ساعة، وكان إنباؤه يصدق. وتعليل ذلك بسيط؛ لأن الرعاف الذي كان يحصل لم تكن مهيئاته تقع في الحال، بل لا بد أنه كان يسبقه بعض تغيرات احتقانية وغيرها، فصار المريض أول ما يشعر بها يعرف أنه سيعقبها رعاف فينذر به، ومن شدتها وخفتها ينذر بمقدار الدم الذي سيرعفه. فإنباؤه هذا ليس إنباء بالمستقبل، بل تقرير للواقع؛ ولذلك كل ما تسمعه من قبيل الإنباء بالمستقبل إن لم يكن له مثل هذه المسوغات مما يجعله إنباء بالواقع حقيقة، فهو مخرفة ودجل من قائله.
وما نبهت إلى ذلك إلا لخلط الناس والعلماء أنفسهم في هذه الغرائب، واعتقادهم بأن الإنباء بالمستقبل من الأمور المقررة الداخلة ضمنها. وأعجب من ذلك أني قرأت من مدة قريبة في إحدى المجلات الفرنساوية بحثا لطبيب في هذا الموضوع، وقد عد فيه الإنباء بالمستقبل من الأمور الداخلة فيه. وهذا جهل فادح يستعظم خصوصا من طبيب يجب أن يكون ملما بنواميس هذه الغرائب؛ لأن هذه الغرائب لا تحدث اعتباطا كما يتوهم بعضهم، بل تعرض للناس بناء على نواميس مقررة لا تنحرف عنها، سواء كان في الصحة أو المرض، وتسير فيهما بانتظام على حد سوى.
فنحن الآن بين أقوال ثلاثة من ذوي المقام في الأدب والعلم: تصريحات ستد الذي يزعم أنه يكتب أحيانا متأثرا تحت سلطان الأرواح، وأنه رأى صورة ابنه المتوفى وسمعه يخاطبه؛ ونفي العالم الرياضي نيوكم لهذه الغرائب، ونسبة بعضها إلى هواجس لم يعن بالبحث عن سببها، وإنما نسب صحتها في بعض الأحيان إلى مجرد الاتفاق باعتبار أنها من الأمور الممكنة؛ وتسليم العالم الطبيعي السير أوليفرلدج بحصول هذه الغرائب من تفاعل العقول أو النفوس بناء على مبدأ التلبثيا، وميله إلى ترجيح سببها الروحاني، مما يجعل صدقها نتيجة للشعور بأمر واقع لا اتفاقا، وقد حاول أن ينفي نسبتها إلى الاتفاق بإحصاءات تنفي الصدفة، وتؤيد الارتباط السببي في زعمه.
والحقيقة أن كلا منهم على صواب وخطأ في آن واحد. فستد صادق في قوله إنه رأى صورة ابنه، وإنه يشعر في نفسه بأنه يكتب أحيانا تحت سلطان شخص آخر ، وإنما هو مخطئ في ادعائه أن ذلك من فعل أرواح غريبة عنه. ولو درى أنه مستهوى استهواء ذاتيا من جهة، ومتخيل من جهة أخرى ما في ذاكرته من المحفوظات لأسباب معلومة لنا اليوم جيدا من درس نواميس الجهاز العصبي في الصحة والمرض، بما عبرنا عنه هنا ب «مناجاة الأحلام وقرع الأوهام»؛ لما كان في قوله شيء يؤخذ عليه. ونيوكم مصيب في نفيه التفاعل الروحاني عن هذه الغرائب، ولكنه مخطئ في إنكاره سببيتها الطبيعية، وتعويله في صدقها على الاتفاق وحده، وإن كان للاتفاق دخل في بعض الأحيان. وأوليفرلدج مصيب في أن هذه الغرائب تجري على نواميس معلومة لنا اليوم بالتلبثيا، ولكن خطأه في نسبة ذلك إلى تفاعل العقول أو الأرواح لا يغتفر، ولا سيما أن في المعلومات الطبيعية اليوم مندوحة لنا عن الخروج بها إلى مثل هذا التعليل الغريب.
وقد وقعت أنا نفسي منذ ثلاث وثلاثين سنة في نفس الخطأ الذي وقع فيه اليوم نيوكم بتعليل صدق هذه الغرائب بالاتفاق، وذلك في حادثة طبيب إنكليزي زعم أنه سمع وهو مار في لندن بالقرب من بيت أحد أصدقائه الذي كان يومئذ بمدينة حلب، صوت صديقه هذا يناديه ثلاثا، ثم علم عند وصول البريد أن صاحبه كان في تلك الدقيقة يحتضر. وقد تناولت هذا النبأ في ذلك العهد الجمعيات النفسية في إنكلترا، وهولت به كثيرا، حتى إن الجمعيات العلمية شاركتها في هذا البحث، وكتبت الجرائد فيه مقالات ضافية. وكنت يومئذ في الآستانة، فاطلعت في جريدة «الكوريه دوريان» على فصل طويل عقدته جريدة «الكونستيتيسيونال» الباريسية لهذا الموضوع، ونقلته عنها جريدة الآستانة المذكورة، جاء فيه كاتبه على أمور كثيرة من حوادث التخيلات الغريبة، نسل أكثرها مما وقع لبعض مشاهير الرجال في التاريخ، كنابوليون وقيصر وسواهما، من أنهم كانوا يرون أشباحا، ويسمعون أصواتا تخاطبهم لا حقيقة لها في الظاهر، وذهب إلى أنها من الغرائب التي لا تدرك. فكتبت في ذلك الحين ردا عليه باللغة الفرنساوية، نشر في جريدة «الكوريه دوريان» المذكورة في 25 أكتوبر سنة 1876، ونقلته إلى العربية مجلة الطبيب في بيروت.
وقد حاولت في هذا الرد أن أدفع عن مثل هذه الحوادث كل غرابة غير طبيعية، مستندا في ذلك إلى علم أمراض العقل، وما يعرض من التخيلات وانخداع الحواس في الجنون وفي سائر الحالات العصبية التدريجية التي بين الصحة والمرض، وحصرت تعليل ذلك بما سميته هنا قرع الأوهام، ويراد به قرع محفوظات الذاكرة لمراكز الحواس بالارتداد من الباطن إلى الظاهر، وذلك في الأعصاب المتهيجة المنصرفة إلى التفكير في موضوع ما، أو الملفتة إليه لمناسبة ما، كمناسبة المرور بالبيت الباعث على التذكر بصاحبه. وعللت صحة النبأ إذا صدق قائله بما يأتي: «والاعتراض الذي يوجه إلى ذلك في مثل هذه الأحوال هو هذا: لماذا تتم الأمور أحيانا كما تنبئ عنها أو توحي بها التخيلات؟ والجواب على ذلك وعلى الأحلام أيضا بسيط، وهو أن كل ممكن قد يتحقق أحيانا، ولكنه لا يتحقق دائما؛ ولذلك كانت أكثر التخيلات لا تتم حقيقة.» ا.ه.
أي إنني عللت ما يصح منها بالاتفاق كما علله نيوكم الآن، ولكن الخطأ الذي كان يغتفر حينئذ لا يغتفر الآن بعد أن تقدمت العلوم الطبيعية وباثولوجية الأمراض العصبية هذا التقدم الباهر.
وأزيد على ذلك اليوم بقولي إن غير الممكن لا يتحقق مطلقا، كأن يحلم الإنسان أنه طائر في الجو، أو ساقط من مكان عال وهو لم يسقط، فلا يمكن أن يكون مثل هذا الحلم موعزا به من الخارج، أو معبرا به عن حقيقة واقعة، مع أن صاحبه يحس ويرى أنه كذلك. ويعلل في الأول بقرع الأوهام لذاكرته، وتجسمها لدى حواسه بما يكون قد ذكر له في طفوليته من مثل هذه الأخبار السقيمة، وغيرها من الخرافات السخيفة التي يحشون بها دماغ الطفل. وتعليله في الثاني تعب طرأ على الجسم وهو نائم من وضع أو سوء هضم، وبانتقال الأفكار إلى المتناسبات والحواس في كلل انتقل «به الشعور» من ضيق إلى ضيق إلى هول السقوط.
ولكن هذا التعليل وإن انطبق على الانفعالات الذاتية المنعكسة من الباطن، وصح على كل التخيلات الذاتية التي تعرض للإنسان في الحلم واليقظة، من رؤية الأشباح إلى مناجاة الأرواح، التي هي عبارة عن مناجاة أحلام الإنسان نفسه بناء على ناموس قرع محفوظات الذاكرة للأعصاب المتهيجة وناموس الاستهواء الذاتي، إلا أنه توجد حالات أخرى مصدرها خارجي محض لا ينطبق عليها هذا التعليل، وتعليل صدقها بالاتفاق وحده لا يكفي، مثل قراءة الأفكار والعلم عن بعد مما هو مقرر أمره في العلم، ولا يجوز الشك فيه اليوم.
على أن العلوم الطبيعية والعلوم الباثولوجية العصبية قد تقدمت كثيرا من ذلك العهد، واكتشفت غرائب كثيرة فيها غير خارجة في أعمالها عن نواميس الطبيعة، حتى صار يجوز لنا فهم أكثر أعمال العقل غموضا، واستنتاج المجهول بناء على المعلوم.
غير أن المتصعبين من العلماء - وما تصعبهم لضعف البينة، بل لاقتصارهم في البحث على الجزئيات، ولقلة تعويلهم على الاستقراء في الكليات - لا يزالون يميلون إلى نسبة هذه الغرائب إلى أمور غير طبيعية، مع علمهم الأكيد أنها في غرابتها تسير على نواميس معلومة كغرائب الأمراض العصبية مثلا، انقيادا لأوهامهم التي ورثوها أبا عن جد. وبعضهم ينصاع اضطرارا إلى التسليم بطبيعتها المادية، ولكن ما رسخ في ذهنه بالوراثة يحمله على الوقوف موقف المتردد غير الجازم، متوقعا أن يكشف له العلم نواميس طبيعية جديدة غير معروفة له اليوم. ولو تدبر هذا المتردد والمتمني في سره فشل العلم في نفي أمانيه، لعلم أنه لا ينتظر أن يكتشف في الطبيعة من يوم عرف ناموس تحول القوى نواميس جديدة أصولها الطبيعية مجهولة، بل كل ما ينتظر إنما هو زيادة التوسع في معرفة تحولات هذه القوى، واستخدامها لغرضنا بناء على أنها هي والمادة من أصل واحد. والمعلوم اليوم من هذه التحولات البديعة من حركة إلى حرارة إلى نور إلى كهربائية إلى أشعة رنتجن إلى أشعة الراديوم إلى الأشعة الكيماوية التي ترقق الأجسام وتشففها، واستخدام ذلك لنقل الأصوات بالتلفون، وحفظها بالفونوغراف، وخزن حركاتنا في السينماتوغراف، ونقل أخبارنا في الفضاء بتلغراف مركوني، ونقل المرئيات إلى بعد؛ كل ذلك كاف لأن يجلو لنا اليوم أشد هذه المسائل غموضا.
وإذا أضفنا إلى ذلك علمنا بأن العالم لا فراغ فيه، وهذا يستلزم ألا يضيع فيه شيء، بل يحفظ فيه ويتحول؛ لعجبنا، ليس من عروض هذه الغرائب لنا أحيانا، بل من عدم عروضها لنا غالبا؛ لأن عروضها هنا هو القياس، وعدمه كان يجب أن يكون الشاذ، فإذا كان عروض هذه الغرائب لا يتيسر دائما، فلحوائل طبيعية أزال العلم الطبيعي اليوم كثيرا منها، وأيده علم بسيكولوجية الدماغ والأمراض العصبية نفسها، كما أبنت ذلك في مجلد السنة الثالثة من مجلتي الشفاء في حادثة اختلاط ذهن هستيري من أغرب ما وقع لي ولسواي أيضا.
وبالحقيقة إن أثر كل حركة، مادة أو نبضة فكر، يجب أن يصل إلى كل شيء، ويجب أن يحس به كل شيء بناء على ناموس حفظ القوى. وإذا كنا لا نشعر به دائما فلأسباب مادية، إما لضعف في حواسنا، وإما لضعف الأثر نفسه وتبدده قبل وصوله إلينا. فإذا أمكننا أن نقوي مشاعرنا أو نزيل الحوائل الأخر لم يصعب علينا أن نقف على كل ممتنع علينا في حالتنا الاعتيادية. وقد جاءت الاكتشافات المذكورة سابقا مؤيدة لذلك، كما قلت في الشفاء من أن لا بد لكل فعل من فاعل وقابل وناقل، وقد تمكنا بالتلفون من تقوية الناقل، ووقفنا من قراءة الأفكار على قوة القابل، وتمكنا كذلك بتلغراف مركوني من تقوية الفاعل والقابل معا، وعرفنا كذلك أن هذا القابل قد يشتد تأثره جدا في بعض الحالات العصبية المرضية، إلى حد أن الإنسان يقدر أن يعلم عن بعد شاسع حركات سواه، ويسمع كلامه كأنه على كثب منه، ولكن يشترط في ذلك شروط تجعل هذا العمل خاضعا لنواميس معلومة نظير سائر النواميس الطبيعية، كألا يدرك الإنسان إلا حركات أشخاص معلومين له بهم علاقة معلومة ولو مهما أبعدوا عنه، ولا يدرك حركات سواهم ولو كانوا بالقرب منه؛ لأن أعصابه تكون متكيفة لقبول تأثيرات أولئك لشدة الاشتغال بهم خلافا لهؤلاء.
وإذا كان هناك محل للشك فدرس غرائب الأمراض العصبية الهستيرية كاف لأن يزيله؛ إذ أثبت استطاعة الإنسان لأن يتأثر بالمؤثرات الخارجية، فيرى عن بعد شاسع صور الأشخاص، ويسمع كلامهم بما يفسر لنا جيدا شدة تهيج القابل فيهم ، حتى يصير يحس بما لا يحس به الإنسان عادة، ولأن يفسر لنا كذلك حقيقة التخيلات الذاتية الصادرة من الباطن، والتي هي سبب وهم ستد وأشياعه بأن أرواحا تخاطبهم، أو أنهم يفعلون متأثرين بسلطان غيرهم.
فلا يخفى أن أصحاب المرض العصبي الهستيري موصوفون بقوة الذاكرة، حتى إن في وسع بعضهم في هياج مرضهم أن يذكروا أدق دقائق ما جرى لهم في حياتهم، كأن الذاكرة آلة فوتوغرافية سينماتوغرافية حقيقية، ينطبع على صفحاتها كل ما يمر بها من كلي وجزئي، فإذا عرض ما هيج هذه الصفحات بدا ما كان كامنا فيها كأنه ابن يومه. ومن أغرب ما أتى به المريض الذي أشرت إليه وذكرت حكايته في الشفاء، أنه في أثناء مرضه الذي دام به أكثر من شهرين ذكر تاريخ حياته بالتفصيل، والأعجب أنه ذكر وقائع دعوى كانت له في المجالس دامت ثلاث سنوات، ثم خسرها، وكانت خسارته له سببا لاستيلاء المرض العصبي عليه بعد ذلك على الفور، حتى إنه ذكر المرافعات التي جرت فيها أمام القضاء كأنها منقولة بالحرف، وبفصاحة تفوق طوره جدا في حال الصحة.
فليس بدع أن يكون سبب التخيلات التي من مصدر باطني، والتي تجعل الإنسان في بعض أحوال خصوصية يسمع ويرى ويلمس ما ليس له حقيقة في الظاهر قرع الذاكرة نفسها للحواس المتهيجة، كما في الجنون وما دونه من أحوال اضطراب العقل بالمؤثرات المختلفة في الأعصاب المتهيجة، وهي درجات كثيرة بين الصحة والمرض. ومعلوم كذلك أمر الاستهواء الذاتي حتى تصير أحلام الإنسان لديه حقائق، وحتى يصير بالنظر إليها بوجدانين متباينين بحسب سرعة تغلب أحواله العصبية، يسمع أحدهما يخاطب الآخر، وكثيرا ما يشعر الواحد أنه تحت سلطان الآخر يأتمر بأمره حتى يزول منه الاضطراب العصبي الكلي كما في الجنون، والجزئي كما في الأحوال الهستيرية المتغلبة بحسب نوبها، فيرجع إنسانا اعتياديا لا يتأثر بغير ما يتأثر به الناس عادة.
ومن هؤلاء طائفة من الناس ليس بهم جنون حقيقي أو ظواهر هستيرية ظاهرة للعيان، بل بهم من كل ذلك ظاهرة واحدة مقتصرة على أمر واحد فقط، وهي تهيج مركز واحد من مراكز قواهم العصبية، بحيث يقتصر الاستهواء فيهم على فكر واحد أو شعور واحد، كما هو شأن ستد وأضرابه في اعتقادهم أنهم يكتبون أو يعملون عملا تحت سلطان شخص آخر غريب عنهم. ولا شك أن كثرة اشتغال العقل بموضوع يخافه أو يهواه تعده لاستيلاء مثل هذه الحالة عليه، وإحداث الاضطراب الشديد في جزء من أجزاء دماغه مع سلامة باقيه، كما هو مشاهد كثيرا في عموم الناس لمن يتدبر ذلك كما ينبغي.
والحاصل أن الحوادث الغريبة من مثل التي ذكرها ستد، ليست بالحقيقة هذيانا خاليا من سبب طبيعي معلوم كما يذهب بعضهم، ولا هي وحي أو شبه وحي كما يذهب كثيرون، وإنما هي تخيلات الذاكرة لمعلوماتها الباطنة، أو تأثر الحواس تأثرا قياسيا بالمؤثرات الخارجية البعيدة الطبيعية لوجود كل من المؤثر أو ناقل التأثير أو قابله أو كلها معا في أحوال خصوصية تزيل من بينها كل حجاب، كأن يحول دون الشعور بما يلزم الشعور به في كل الأحوال لولا تلك الموانع العارضة، والتي أزال العلم الطبيعي وعلم الطب كثيرا منها. وعليه فليس غريب في كل هذه الغرائب التي انجلت لنا أسرار جلها إن لم نقل كلها سوى غرابة قلة عروضها لنا، وخصوصا طفورنا في تعليلها إلى غرابة أغرب منها لا أساس لها إلا نقل لا ينطبق على علم ولا يجيزه عقل، حرصا على مبتغيات أوهام ومتمنيات أحلام.
كلمة مرة ولكنها حرة
2
موسى نظر إلى شراهتهم وضررها بالصحة فدلهم على النافع من الطعام، ومحمد إلى قذارتهم فأمرهم بالنظافة، وعيسى إلى اختلال آدابهم وضررها بالاجتماع فحثهم على الفضيلة، فعفوا أيها الأنبياء الكرام، على مذهب المؤمنين، ويا أيها الرجال العظام، على مذهب العقلاء، عفوكم عفوكم ألف مرة على ما يأتيه أتباعكم من الأعمال، ويثيرونه من المباحث الدالة على سخافة العقول، وهم يدعون أنهم أبناء هذا العصر الذي يزعم أصحابه أنه عصر المدنية والعلم.
المقالة الثانية والخمسون
مخاطبة الأموات:
1
تفنيد مذهب ستيد
ستيد كاتب شهير، وقراءه معجبون به لبلاغته، فهو قال قولا لولا شهرته واعتقاد الكثيرين فيه الرجاحة في الرأي والصدق في القول، ولولا موافقته لأماني الأكثرين؛ لما لفت أحدا إليه. ولو قاله سواه ممن ليس له هذه المميزات لعد ذا جنة أو أنه من الممخرقين.
على أن الشهرة لا تقي من العثرة، والإجادة في شيء ليست الإجادة في كل شيء، والإصابة ليست دائما في جانب الإجماع، فالعدد ليس حجة قاطعة أو هو وحده برهان القوة الوحشية فقط، والحقيقة ما كانت أدنى إلى الواقع. •••
الناس في مجموعهم مذهبان متناقضان؛ نظريون وحسيون. فالأولون، وهم الأسبقون والأكثرون، بنوا آراءهم في الطبيعة على تخرصات وأوهام لقلة تعرفهم لها في أول الأمر، وأوسعوا لعقلهم مجال النظر والاجتهاد، فبنوا على هذه الشبهات تعاليم كان الفطير فيها أكثر من الخمير، ثم ألفوها مع الزمان بالتربية والتوارث، حتى صارت لديهم في عداد الحقائق المقررة.
والآخرون، وهم الأخيرون والأقلون، تعرفوا الطبيعة أكثر من أسلافهم، فوجدوا المعلوم كافيا لأن يفسر المجهول، ورأوا أنهم بذلك خطوا خطى صائبة في زمن قصير، الدقيقة منه أتت بأعمال نافعة ملموسة، قصرت عنها تخبطات مخالفيهم في قرون، فاستمسكوا به، ولم يريدوا أن يحيدوا عنه لغير سبب راجح. •••
نظر الفلاسفة الطبيعيون إلى مواليد الطبيعة، الجماد والنبات والحيوان، فوجدوا أن استقلالها ليس مطلقا كما ترمي إليه مذاهب أهل النظر، بل نسبي فقط بالنظر إلى مقامها في سلم التحول والارتقاء، فكما أنه ليس لها مواد مستقلة ليس لها كذلك قوى أو نفوس مستقلة. وقد كان لها ذلك في اعتقاد سواهم قبلهم، بل كان لكل جسم، بل مادة جسم، نفس خاصة قبل أن استأثر الإنسان وحده بالنفس.
ثم نظروا في علوم الأحياء على الإطلاق، فوجدوا أن بين الأعضاء وأفعالها نسبة شديدة، فإذا علت الأعضاء علت الأفعال، وعل الحي نفسه القائمة حياته بها وهلك. وإذا مات انحل إلى البسائط المؤلف كل عضو منها، ولم يجدوا في كل ذلك أثرا لقوة خارجة عن قوى المادة المشتركة.
ثم نظروا إلى الإنسان والحيوان فلم يجدوا الفارق الجوهري الذي يفرق الواحد عن الآخر، لا في تركيب جسمه ولا في جوهر عقله، والفارق النسبي بينهما ليس بأعظم منه بين الحيوان والنبات وهذا والجماد، بل بين أحط فروع الإنسان وأرقاها. فالإنسان عاقل لأنه يعمل أعمالا مغياة، والحيوان يعمل أعمالا مغياة أيضا، وليس من قوة في عقل الإنسان مهما تعالت إلا موجودة في الحيوان بحالة أثرية، وما الفرق إلا نسبي لفرق في التركيب.
ثم نظروا إلى عقل الإنسان نفسه، فوجدوه يتمشى على نفس النظام الذي تتمشى عليه سائر الأحياء في النسبة التي بين الأعضاء والأفعال؛ أي إنه فعل من أفعال الدماغ نفسه، وصار بذلك علم العقل فرعا من علم منافع الأعضاء. •••
ولما كان العقل والنفس واحدا في المعنى، كما كانوا يعتقدون في القديم ويخلطون بينهما، كما تدل عليه لفظة البسيكولوجيا نفسها، التي هي في الأصل معناها علم النفس، والتي تطلق اليوم على علم المعقول؛ صار من الضروري أن ينتقل البحث في النفس من دائرة علوم الكلام التي كانت تجول فيه لا ضابط ولا رابط، وتقيم البرهان إثر البرهان والدليل إثر الدليل لتثبت أن النفس قوة غير ذات مادة تفعل في المادة، وأن يدخل في علم منافع الأعضاء نفسها، وأن تعتبر النفس كالعقل فعلا من أفعال الدماغ خاضعة لجميع المؤثرات التي تؤثر في مادته.
ولكن الرضا بهذا الحد يزيل عن النفس روحانيتها، وهي أوسع من أن تقع تحت حصر في نظر أصحابها، وهم إذا رضوا بأن يتنازلوا عن امتياز العقل الروحاني، فلا يرضون بهذا الدموج النفساني، فضحوا العقل في سبيل النفس، ومالوا حينئذ، ولكن على نوع مبهم، إلى فصلها عنه، وحاولوا في أول الأمر أن يثبتوا لها مركزا في الدماغ مستقلا، ولو مهما كان صغيرا تجلس عليه كالملك على عرشه، تأمر وتنهى وتستبد بالجسم إذا شاءت، وكأنهم لم يبق لهم اليوم مثل هذا المتكأ، فصارت النفس عندهم أوغل في الإبهام، لا يعرفون أين تستقر، ولا من أين تدخل، ولا كيف تخرج، ولكنها مع ذلك موجودة، والتعنت برهان أيضا. •••
فالطبيعيون رأوا كل ذلك، فلم يروا أن يحيدوا عنه، رأوا أن لا شيء في الطبيعة يتلاشى، وأن لا شيء فيها يحدث، فوقفوا عند هذا الحد، وقالوا أن لا شيء معلوما يخرج إلى ما وراء الطبيعة؛ إذ يجيء من وراء هذه الطبيعة. ولو شاءوا أن يبحثوا فيما وراء الطبيعة لتعذر عليهم أن يفهموا استقلال هذه النفوس أو العقول أو الأرواح الذاتي، وهل هي محدودة تحل في الأجسام ثم تفارق، ثم تعود إلى سواها؛ أم هي خصيصة تصنع لكل مولود، ثم تعود لتخزن أو لتطرق وتصب ثانية؛ أم هي كالرديف محجوزة للنجدة عند الحاجة إليها، وما نسبتها من حيث الاتصال والانفصال إلى مكانها، سواء كان ضمن الطبيعة أو وراءها، وهذا «الماوراء» نفسه أو «المافوق» ما هو، وكيف هو، وأين هو، ما دام الطبيعة نفسها مالئة الفراغ كله.
ولما كان الدماغ عضو العقل كالرئتين للتنفس، والمعدة للهضم، والكبد لإفراز الصفراء؛ كانت العلل التي تطرأ على الدماغ تؤثر في العقل أيضا، وهذه العلل كثيرة منها ما هو كلي يلم بكل مراكز العقل، ويحدث ما يسمى بالجنون المطبق، ومنها ما هو جزئي يقتصر على بعض مراكز كالذاكرة مثلا، أو قوة الحكم أو التصور ... إلخ. فإما أن يلم بها كلها أو بشيء منها، فيسمع الإنسان أصواتا غير موجودة، أو يرى أشباحا غير حقيقية، أو يسمع هذا الصوت أو ذاك، أو يرى هذا الشبح ولا يرى ذاك، أو، وأو ... إلى ما لا يقع تحت حصر مما لا يخفى اليوم على علم الطب في جملته، وإن خفي عليه في كثير من ملابساته.
ولهذا قيل: «الجنون فنون.» وزد على ذلك أن درس أحوال الدماغ وسائر الجهاز العصبي - لأن الدماغ ليس مستقلا في الجمجمة كما يتوهم لأول وهلة، بل يمتد في أصوله المشتركة إلى أعماق الجسم، وكل ما يعرض في هذه الأعماق يؤثر فيه - قد أبان لنا أمورا كثيرة هي في عداد الغرائب، من مثل قراءة الأفكار، وسرد الوقائع الحاصلة والتأثر بها، ولو عن بعد شاسع، والاستهواء الخارجي والداخلي أو الذاتي أيضا، إلى غير ذلك مما لا يتسع المقام لاستيفائه هنا. وقد عللنا كل ذلك تعليلا طبيعيا في مقال ضاف في جريدتنا الشفاء من نحو عشرين سنة وأكثر، وقد نقله عنه المقتطف في مجلد سنة 1907، يشمل الكليات، ويرجع إليه في الجزئيات، بحيث تبدو كل هذه الغرائب في حكم المحتمل مع بقائها في دائرة سائر أعمال الإنسان الطبيعية، فيفسر الجلي منها بذلك، ويبحث عن الغامض حتى ينجلي سره الطبيعي على هذا القياس بشرط أن نتأكد صحته؛ لأن الدجل يدخل في كل شيء، والكذب كثيرا ما يلابس كل شيء.
فالآن وقد تقرر هذا التمهيد الضروري لفهم ما يترتب عليه في أمر تصريحات ستيد وأمثالها، نقول إن ستيد الكاتب الشهير والمبرز في فن التحبير متأثر تأثرا شديدا بتعاليم أصحاب المذاهب النظرية، والتي تربيته الأولى وعلومه الأدبية وأشغاله الخصوصية إن لم تساعده على تمكينها، فلم تعمل شيئا لتخفيف وطأتها عنه مع ما به من الاستعداد الخاص. فقضية النفس والحياة الأخرى كما يظهر من كلامه همته جدا مع الميل الشديد به إلى ترجيح الجانب الذي تحلو فيه للإنسان أمانيه، وما فتئ طول حياته تحت سلطان هذا الهاجس مترددا فيه بين الشك المكروه واليقين المحبوب، حتى أصيب من هذه الجهة بنوع من الهوس امتلكه وغلبه على سائر قواه العقلية، ووقع به تحت سلطان الاستهواء الذاتي مع استعداده لقبول الاستهواء الخارجي من هذه الجهة خصوصا.
فهو من هذا القبيل معد إعدادا خاصا طبيعيا لشدة الانفعال، وذكاؤه دليل عليه، ومكيف له بسلطان فوق سلطان إرادته فزيولوجيا، ومستهوى له من الخارج والداخل طبيا. وهذا لا يشين الرجل، ولا يمنع كونه من النابغين في فنه، فلا يجزع، ولا يقم أنصاره للأخذ بخناقي؛ فقد عرض لأناس مشهورين أكثر منه في التاريخ كقيصر ونابليون وجان دارك - مضطهدة الأمس وقديسة اليوم - وسواهم أنهم كانوا يسمعون أصواتا ولا مخاطب، أو يرون أشياء لا يراها سواهم. ولو أمكن للإنسان أن يتحقق بصدق شهادة الآخرين مبهمات شعوره وواضحاته لبدا الأمر لكثيرين أكثر مما هو معروف، ولكن إذا لم يخنك الصدق في هذه المسائل فكثيرا ما يخونك كيفية النظر فيها، وما آفة الأخبار إلا رواتها. فستيد من هذه الجهة أحوج إلى طبيب منا إلى مثل تصريحاته.
فرواية ستيد تنحصر في أمرين مهمين، أحدهما يتعلق به رأسا، كمسألة الكتابة تحت سلطان إرادة صديقته المتوفاة وبإملائها. وهذا تعليله سهل جدا بالاستهواء الذاتي، فكان يفعل ما يفعل من نفسه وهو يظن أنه منقاد فيه لإرادة سواه. نعم هو مسخر فيه إذا صدقناه، وإنما هو مسخر لإرادته المستهواة.
والآخر اتصل إليه بواسطة أصدقائه، وبالاعتماد على روايتهم. وأصدقاؤه هؤلاء من جنسه بالاشتغال في هذا الموضوع، وقد يكونون أخص منه فيه؛ إذ قد يكونون أعضاء من الجمعيات الخاصة المشتغلة بهذا النوع من العرافة الشبيهة بالعلمية، وكلامهم يحتمل الصدق والكذب، فضلا عن أن المروي عنهم إن لم يفسر طبيعيا أو بالصناعة، فهو مع ذلك من السخافات التي لا طائل تحتها. فأصحاب هذه المباحث إما ممخرقون وخادعون أو مستهوون ومخدوعون، ولا يصح أن يكونوا إلا واحدا من هذين الاثنين مهما علا مقامهم. وفي العلم لا يجوز تضحية المبدأ إكراما لعالم أو علماء مهما ارتفعت مكانتهم، كما أنه لا يجوز اليوم في عصر الدستور أن تضحى مصالح الأمة لخاطر عظيم ولو رزح تحت أثقال النياشين، خلافا لمن لا تزال تستهويهم هذه الأعراض في الأمرين حتى اليوم. فإن كان أصدقاؤه غير مخلصين، فماذا يمنع أن يكونوا نقلوا له كل ما ذكره غير مخلصين أيضا، إن كان ما ذكره مما هو بعيد الاحتمال كأمر الصورة نفسها؟ فليس أسهل من نقلها من صورها الفوتوغرافية بالتحليل والتركيب حتى يبعدوا سائر الأعراض، ولا تبقى إلا صورة الوجه فقط بزي جديد.
وأما ما بقي مما يحتمل الصدق والكذب، كأمر العلاقة الخاصة ورسائل ابنه المتوفى، وكرؤية أحدهم لصديقته دون الباقين؛ ففي حال الكذب لا حاجة إلى التعليل، وفي حال الصدق والإخلاص فكله محتمل على مبدأ قراءة الأفكار ، والعلم عن بعد، وتجسم الوهم بالاستهواء ... إلخ. وقد يكون هو نفسه قد أباح بصورة العلامة الخاصة ولم يدر.
ثم إن هذه المعلومات نفسها التي أخبر بها ما قيمتها بالنظر إلى المعلومات التي لا شك كان ينتظرها من أصحابه المتوفين، والتي كانوا هم أنفسهم يعدونه بها. ولو كنت مكان ستيد لما رضيت من أصحابي المتوفين ما داموا قادرين على مخاطبتي إلا أن يخاطبوني رأسا، وأن ينبئوني بالإسهاب بكل ما تتوق إليه نفسي بالصراحة التامة، فيخبروني بمكانهم وحالتهم وانطباقها على المعلوم في هذه الدنيا أم عدمه، وينصحوني فيما يلزم وينهوني عما لا يلزم، لا أن ينبئوني بأمور مبهمة كالأحلام، وبطرائق هي أقرب إلى صناعات المشعوذين من العلم. ولماذا لا يفعلون ذلك، ويجعلون هكذا حياة أصدقائهم وأقاربهم، بل سائر إخوانهم في الإنسانية، سعيدة في الدارين؟ ولعل ستيد نفسه المتحمس في هذا السبيل، والمتطوع في هذا الجهاد العلمي من نوع غريب، والذي يشعر بنقص كل هذه المخابرات المرغوبة يخبر الناس بعد عمر طويل بما لم يأتهم به بشر من قبل، ويحل لهم هذه المشكلة العويصة، اللهم إلا إذا حظر الأمر عليه هناك؛ لئلا تفسد على المحتكرين صناعاتهم هنا، وقد أعطيت لهم امتيازاتها في عهد حكومة الاستبداد الأسمى. أما أنا فلا أظن أن ستيد مع شدة رغبته يقدر على ذلك، لا لهذا السبب ولا لسواه من جنسه، بل لأنه ... لا يقدر ...
هذا جوابي على السؤال الموجه إلي في الجريدة، وهو الأول والأخير، وقد صدرته بمقدمة تمهد السبيل لتفهمه جيدا على أسلوب أقرب إلى العلم منه إلى النظر؛ لأبعد عني المناقشات التي هي أقرب إلى الجدل، خصوصا وأن الموضوع على الطريقة التي ينحوها أصحاب هذه المباحث تلذ للمولعين بالغرائب، وبقراءة الأقاصيص التي هي أقرب إلى الخيال أكثر جدا مما تلذ لسواهم ممن هم أرغب في المباحث الجافة، وأنا لا أميل إلى تلك، وكأني أسمعك بعد كل هذا البيان تقول: «عنزة ولو طارت.»
المقالة الثالثة والخمسون
علموهم ولا تقسروهم
1
جاء في مقدمة بخنر: «ولا يتوهمن القارئ أن مرادنا بذلك قلب الموضوع، وعكس المطبوع قهرا وظلما؛ أي استعمال القسوة لنفي الديانات على حد استعمالها لتأييدها، كلا ثم كلا؛ وإنما القصد أن الحكومات لا تكره الناس على الإيمان، ولا تخمد الأنفاس عن إبداء ما في الصدور، بل تدع كلا وشأنه، وتتحاشى الضغط على العقول.»
ثم قرأت اليوم في الصحف عن الجالية الإيطالية في الإسكندرية أنها يوم تذكار محررها غريبلدي، نصبت في أحد معاهدها العلمية أثرا نقشت عليه الكلام الآتي: «إن العلم والأدب لا يدركان إلا بزوال العقائد والأديان.»
وقلت في نفسي التطرف من طبع الإنسان؛ أولئك أقنعوك بحد السيف، وهؤلاء يريدون أن يحظروا عليك أن تؤم معهدا للعلم وأنت لا تقول قولهم. ومن يضمن لنا أن الذين يقولون هذا القول اليوم لا يعمدون إلى نفس البرهان إذا توفر لهم الحول والصول؟
على أن الدين والعلم بريئان من هذا التحمس؛ فالدين يدعونا إلى الإيمان، ولكنه يقول لنا:
لا إكراه في الدين ، والعلم لا يدعونا إلى الإلحاد، بل يكشف لنا الحقائق. وإذا الدين قال:
قاتلوا في سبيل الله ، فإنما يقول:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، وهذا من حقوق الدفاع العمومية. فإذا جنى عليه دعاته، فأين فضل دعاة العلم إذا حذوا حذوهم؟ وهل تدرك غاية العلم بذلك؟
ولذلك لا أظن أن أحدا من كبار الملحدين يصوب هذا العمل؛ لأن هذا الكلام، معلقا في مدرسة من مدارس الحكومة والأمة، مناف لحرية الفكر التي هي غاية العلم، ولا سيما أن مجموع الأمة لا يقول كله هذا القول، والحكومة ليست إلا ممثلة الأمة، حتى ولو كانت الأمة جميعها على هذا المذهب لما جاز أيضا؛ لأن العلم الذي يعلمنا احترام حرية الفكر، كيف يجوز له أن يعلمنا الإكراه في الإلحاد؟ وإذا أجاز العلم لنا أن نفتكر، ونقول مثل هذا القول، وننشره في الكتب، ونعلمه للطلبة حتى في المدارس مبينين لهم وجه الصواب فيه أو الخطأ في سواه، إلا أنه لا يجيز لنا أن نجعله شعارا نعلقه على معهد عمومي للتعليم. ألا يرى أصحابنا أن ذلك ضرب من التعصب مقلوب الموضوع. ولقد طالما شكونا المضار التي لحقت بنا من تعصب دعاة الأديان ، ودعاة الحرية يريدون أن يعلمونا بصنيعهم هذا التعصب للإلحاد، لا لعمري! إن ذلك لا يقبله أشد الملحدين تعصبا، ولا يقول به منهم إلا المنقادون المقلدون لا المفكرون بأنفسهم، ومثلهم مثل المنقادين في تعصبهم للدين. فالإلحاد وإن كان نتيجة العلم أحيانا إلا أنه ليس غرضه، بل غرض العلم حل العقل من قيوده ليصير حرا، يفتكر لا لغرض معلوم نشأ فيه وتربى عليه، بل ليصير قادرا أن يحكم لنفسه بنفسه.
وإنا لنستغرب منهم ذلك ونحن اليوم في عصر نرى مرجل الأفكار فيه في أشد غليانه، وكلها متجهة إلى غاية واحدة، وهي مقاومة التعصب في كل مقاصده، لا في الأديان فقط، بل في الأوطان أيضا؛ لأن المصلحين الحقيقيين ينظرون إلى العالم نظرا عاما، ويعتبرون الوطن أعم من أن ينحصر في قوم، ويقف عند حد من الأرض؛ ولذلك تراهم في سائر الممالك يسعون لتحقيق هذه الآمال مادين أيديهم إلى ما وراء حدودها، متصافحين على ما بينها من اختلاف المنازع السياسية، كأنهم يريدون أن يحققوا مقاصد كبار الوازعين من أهل الدين بجعلهم الدنيا وطنا واحدا، وأهلها شعبا واحدا، وكيف يتم لهم ذلك إن لم يلتفوا كلهم حول كعبة العلم الصحيح؟ إذ يتخذونه وسيلة لهدم آخر صرح شاده الجهل في العقل، ألا وهو معقل التعصب. فالعلم لا يجوز أن يبني باليد الواحدة ما يهدمه بالأخرى، وإن يفعل فلا يجوز أن يسمى علما. فليتوخ دعاة الإصلاح هذه الغاية في معاهد التعليم؛ فذلك أدعى لاتساع المدارك، وإلا فهم ناشطون بها من عقال للوقوع في آخر.
المقالة الرابعة والخمسون
نفق أوليفر لودج:
1
وهي مقالة خرافية فكاهية
إذا عدت اكتشافات البشر وأعمالهم العظيمة في العصور من أول الخليقة إلى اليوم، فلا ريب أن هذا النفق الذي أنبأنا عنه أوليفر لودج، العالم الطبيعي الإنكليزي والرجل السياسي، أعظمها جميعها.
الإنكليز اشتهروا حتى اليوم بأعظم الاكتشافات العلمية الكبرى، فنيوتن اكتشف الجاذبية العامة، وليل مذهب التعاقب الجيولوجي البطيء، ولستر مذهب الجراثيم في الأمراض، وداروين مذهب النشوء والتحول. فلا غرو أن يكون مكتشف هذا النفق اليوم أوليفر لودج الإنكليزي.
ونفق أوليفر لودج ليس سربا في الأرض يخرج منه إلى مكان في الأرض، بل هو سرب بين الأرض والسماء يخرج منه أهل الأرض إلى السماء وأهل السماء إلى الأرض.
هذا النفق الذي سيقلب العالم قلبا، ويجعل الأرض والسماء مشاعا بين سكانهما - كقنال السويس بعد أقل من ستين سنة - لم ينته الحفر فيه، ولم تتم به المواصلة حتى الآن، ولكنها صارت به على وشك التمام.
وهو وإن كان العمل فيه مشتركا بين سكان العالمين إلا أن الفضل في حفر القسم الأعظم منه لسكان السماء أنفسهم، ومن البشر لفئة صغيرة من عمال الإنكليز النشيطين كستيد ومن لف لفه.
والظاهر من قول أوليفر لودج أن الحاجز الباقي قائما في هذا النفق، والفاصل بين العالمين، قد رق جدا حتى صار يسمع من خلاله صوت ضرب المعاول من الجانبين، وربما صار أرق من دين الكافر. ودليله على رقة هذا الحاجز هو سهولة التخاطب اليوم بين البشر في هذا العالم والأرواح في العالم الآخر، وهو يقول إن هذا الحاجز سيسقط قريبا، وربما لا ينتهي هذا القرن حتى تتم المواصلة الفعلية بين العالمين.
حينئذ يسهل على أبناء البشر معرفة المخبأ لهم، وعلى الأرواح إنباء البشر بما ينتظرهم. ولا بد أن افتتاح هذا الطريق يتبعه تغير في نظام الأرض والسماء، واختلاط بين سكانهما، فيتحقق في هذا العصر ما أنبئ به منذ القديم من أن سكان الأرض سيصيرون بطبائع سكان السماء ملائكة، ويعم ملكوت الله. فطوبى للذين يعيشون ويشهدون ذلك.
إنما يخشى أن السياسة تتداخل في الأمر، فتدعي دولة الإنكليز حق السيادة على هذا النفق، وتضرب عليه رسم مرور، وتحصر الامتياز فيها؛ لأن العاملين فيه من رجالها، ومهما يكن من الأمر فإنها لا تستطيع احتكار هذا الامتياز إلا سنين معدودة، ثم يصبح المرور مشاعا للعموم، كما هو مصير قنال السويس - قبل ستين سنة - ولو بدفع تعويضات لها يكون القول الفصل فيه للاتفاق الدولي، لا لتحكماتها هي نفسها، اللهم إلا إذا بقيت دولة الإنكليز أقوى الدول كافة، ولو مجتمعة تتحكم فيها كما تريد، وهذا بعيد.
ويظهر من مباحث المنقبين في العاديات السماوية أن هذا النفق كما في الميثولوجية كان موجودا في القديم - كما كان قنال السويس موجودا أيضا على قول - ثم سد، أي النفق، لحصول اضطراب بين سكان العالمين كاد البشر يفسدون فيه الملائكة كما في التوراة، فصونا للمصالح السماوية وللفضائل الراقية سد هذا النفق، وقضي على الناس أن يعانوا مشقة فتحه مرة ثانية؛ قصاصا لهم على شرورهم.
فعسى أن يتم لهم هذا الفتح اليوم فيعود الناس إلى معاشرة آلهتهم، كما كانوا في عصور الميثولوجية، وعلى عهد التوراة أيضا، ولكن بالمعروف ليستتب لهم الفتح نهائيا من دون أن يخشوا سدا في المستقبل، وكأن البشر اليوم صاروا أصلح حالا، وأسهل تمازجا من ذي قبل، حتى لا يخشى عليهم أن يقعوا فيما وقعوا فيه من الغضب عليهم في الماضي.
حينئذ يسطر التاريخ لهذا القرن أعظم عمل قام به البشر حتى اليوم في هذا النفق، وينقش على بابه بأحرف من نور اسم أعظم مكتشف، ويسمى «نفق أوليفر لودج»، ويصبح صاحبنا للأجيال الآتية رابع الثلاثة.
هكذا هكذا العلماء النفعيون
2
وإلا فلا، واعلم أن السخافات ليست كلها في الشرق.
المقالة الخامسة والخمسون
المريخ أو معمل الحياة:
1
انتقادية فكاهية
علماء هذا العصر متصاعبون جدا لا يتساهلون في قضايا العلم، فقلما يقبلون قولا لم يعززه البرهان، وبرهانهم ليس قضايا منطقية قد تتناهى فتنقلب إلى غرابة وسفسطة، من مثل قولهم: لك أذن، بل أذنان، وأذن وأذنان ثلاث، إذن لك ثلاث آذان. بل برهانهم برهان الامتحان، وهو برهان الحس والعيان. ولئن كان الحس الظاهر نفسه يخدع ويقع في التوهم أحيانا كثيرة، إلا أنه أقل انخداعا من المشاعر الباطنة وأسلم منها عواقب، ولا سيما أن المشاعر الباطنة منقادة في أحكامها إلى ما تنقله لها الحواس الظاهرة نفسها، خلافا لمن يرى لها الاستقلال.
ولذلك لما أعياهم سر التولد الطبيعي ولم يستطيعوا أن يؤيدوه بالامتحان تلجلجوا، فوقف بعضهم كما وقف حمار «بوريدان» بين حزمتي الحشيش، وانضم إلى طائفة اللاأدريين. وهي حكمة بالغة سل عنها كثيرين من نواب أمة بني عثمان في المبعوثان، بل سل عنها الحكماء النفعيين؛ أي أصحاب مذهب «الأوبرتونيسم» الذين هم في الاجتماع على رأي القائل: «لا يترك الساق إلا ممسكا ساقا.» حكمة لولا أنها أبلغ من حكمة أصحاب المبادئ لما صاغها شعر المولدين في قالب تتبرأ منه فصاحة شعراء الجاهلية، وإن كان يعده البعض بليغا ولكن باعتبار أن البلاغة تناسب بين الصيغة والمصوغ فقط، ألم يقل شاعرهم:
زعم المنجم والطبيب كلاهما
أن لا معاد فقلت ذاك إليكما
إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالوبال عليكما
والعجيب الغريب أن آفة الفهم لم تأتنا في كل عصر إلا من علماء الفلك وأطباء الأبدان، مع أنهم أقرب الناس إلى اختبار عجائب المخلوقات، وهم كل يوم معها في شأن، كأن المثل «ما احتقرك إلا من خبرك، وما استصغرك إلا من عرفك.» صحيح على سائر أحوال الإنسان؛ ولذلك لم يكن نبي بلا كرامة إلا في وطنه.
وانقاد بعضهم في الأصول إلى علماء الكلام الأبعدين، الذين لولا هديهم لما وقف الإنسان في ضلاله عند حد، ولكنهم خالفوهم في الفروع ليجمعوا بين النقيضين، ويمسكوا الحبل من الطرفين، كما هو شأن الكثيرين في الاجتماع، وكما فعل داروين نفسه في العلم. وبعضهم رأى التخلص بالهروب ليدفع الحجة بنفس الحجة، على مبدأ معالجة المثل بالمثل. وهذا شأن السير وليم طمسون، المعروف باللورد كلفن أيضا، وهو من كبار الفلاسفة الطبيعيين والرياضيين. فزعم أن جراثيم الأحياء لم تتولد في الأرض، وإنما أتتنا من بعض الأجرام محمولة على بعض النيازك. وكأن لسان حاله يقول للذين يشكون ويستغربون نحن في الغرابة سواء، والذي لا يصدق فليذهب يحقق.
وأما الذين وقفوا على أرضهم، كالبلايا رءوسها في الولايا، لا يتحولون عنها ولا يثبتون، وهم مع ذلك يكابرون ويتفلسفون، كهكسلي وهكل وبخنر ومن تعلق بزمكاهم، فلا شك أنهم من طينة القذى الذي رسب في قارورة الخلق بعد توزيع النفوس - وما من قاعدة إلا ولها شواذ - فأنكروا على سواهم ما هم خالون منه بحكم الضرورة، وبنوا على الأقلية الشاذة حكما أطلقوه على الجميع.
والظاهر أن العلم لا تهوله صعوبة، ولا تصرفه غرابة، فالإنسان الذي لم تسعه الأرض على سعتها وصغره ما زال من أول خلقه يتطاول إلى الأفلاك، كأنه شاعر أن أصله من العلا، لعله يصنع له أجنحة يطير بها إليها، أو مراكب يركب بها الهواء، كما يركب الماء، فيسافر عليها، وينتقل بين الأجرام كما ينتقل في القارات والمدن، ولكن ما كل مستطاب هين، «ولا بد دون الشهد من إبر النحل»، وحلاوة استرداد الصحة تنغصها مرارة تجرع الدواء. فما كاد يتحقق له حلم السفر في الفضاء، ويتعرض للغرق في أوقيانوس الهواء، كما هو يغرق اليوم في محيط الماء، حتى بدت له صعوبات الحدود كأنها سد الإسكندر، إن وصل إليه فلا يستطيع أن يتعداه، فالهواء لا يتجاوز حدا محدودا، وهو لا يعيش بلا هواء، وإن عرف كيف يذخره لحاجته، فأي هواء يركب غير هذا الهواء لقطع المسافات، ومقاومة الثقل الذي يجذبه إلى الوراء، إلى أن يقع في جو يدفعه ناموس جذبه إلى الأمام أو إلى العلاء؟
ولكن الأمل زاد الإنسان في دنياه، ولولاه لأحجم عن كل عمل فيه مشقة، وقد علمته مكتشفات العلم ومخترعات الصناعة ألا يجزم بممتنع ولا يستسلم لمستحيل، فأخذ يبحث ليعلم أي الأجرام يقصد أولا، فوجد المريخ أقربها منالا، ووجده كذلك أشبهها بطبيعة أرضه، فوجد فيه المياه والثلوج، والليالي والأيام، والسنين والفصول، والمروج الخضراء، ولكنه لم يتأكد فيه وجود الإنسان، حتى ولا الحيوان البري، وكأنه سر من ذلك؛ لأنه يسهل عليه الفتح والاستيطان، فيخلو له الجو، ويستعمر جرما كبيرا لا ينازعه فيه منازع، وأول ما افتكر حينئذ أن يؤلف الشركات لاستثمار تلك المجاهل الشاسعة وللمضاربة بها.
غير أنه عاد إلى البحث، فبدت له أمور كادت توقعه في القنوط؛ رأى الهواء رقيقا جدا لا تكاد تعيش فيه إلا الأحياء التي تعيش بلا هواء، ووجد الثلوج كثيرة جدا تجعل البرد هناك زمهريرا، ووجد الليالي والأيام أطول منها في الأرض، والفصول والسنين ضعفي السنين والفصول فيها طولا، ووجد المياه كثيرة جدا تكاد تعم سطح الجرم، وهي قليلة الغور كأنها مستنقعات نهر الغنج، لا تعيش فيها إلا النباتات المائية كأنها طحالب هائلة، وإذا كان فيها حيوان فهو من أنواع الحيوانات المائية الهائلة أيضا. ورأى كذلك أن الأجسام تبدو هناك خفيفة جدا لضعف ناموس الثقل، فيخشى عليه إذا تمكن من الوصول إلى هذا الجرم واستيطانه، ولم يغرق في الماء، ولم يفطس من قلة الهواء؛ أن يصبح في جوه كالدمى الراقصة على مراسح التمثيل الصامت.
2
ولكن العلم أوسع في أغراضه من أن تتولاه السآمة من غرض لم ينله، فانتبه إلى قول اللورد كلفين في مصدر الحياة، وقال من يدري فلعل اللورد مصيب في دعواه، فيكون المريخ معمل الحياة الأولى، ومهبط الجراثيم التي تولد منها الحياة والإنسان إلى هذه الأرض لكثرة مياهه ومستنقعاته، والماء أصل الحياة كما هو مقرر في العلم، وكما تؤيده الآية أيضا
وجعلنا من الماء كل شيء حي ، ولكنه تبقى لدينا صعوبة نقل الجراثيم من هناك إلى أرضنا، بحيث تقاوم في مسيرها حرارة الغليان وبرد الزمهرير، ولعل العلم يكشف لنا في المستقبل إمكان بقاء الحياة في مثل هذه الشرائط المانعة، كما تحفظ حياة ضيوف «بلوتون» في نار جهنمه ذات السعير.
3
المقالة السادسة والخمسون
العالم بعد 60 سنة
1 (أو «امتياز قناة السويس وحقوق مصر»)
إن الناظر إلى مصالح الأمم والباحث في حقوق الأوطان لا يسلم حكمه من الخطل إلا إذا نظر إلى ذلك من خلال البحث في طبائع العمران ليقف على نواميسه في سيره البعيد، وعلى تقلباته في أطواره المختلفة. والباحث في ذلك لا يسعه إلا الإقرار بأن حركة العمران الارتقائية اليوم أسرع جدا منها في الماضي.
فقد كانت هذه الحركة في الماضي بطيئة للغاية، تمر على العمران آلاف السنين وهو واقف لا يتغير، سواء كان في علومه أو صناعاته أو شرائعه ، يتقلب فيها على غير هدى، ويعود فيها من حيث أتى.
فكانت علوم اليونان وفلسفتهم وشرائعهم وسائر نظاماتهم حتى أوائل القرن الماضي موضوع بحث الأجيال التابعة، يستقون منها ويتخبطون فيها ويتناقلونها لينسجوا على منوالها، كأنها الغاية في الكمال والنهاية في الحسن، حتى رسخ في الأذهان أن غاية الإنسان من ارتقائه في العمران هو الوقوف عند فهم فلسفة أرسطو، وطب أبقراط، وكيمياء هرمس، وعلوم أرخميدس، وتطبيق شرائعه على شرائع تلك العصور المتحيرة في ظلمات الجهل، والموسومة على تباينها بميسم الأثرة والاستبداد.
وكانت الصناعات بسيطة جدا، وقائمة على استخدام قوى الحيوان والقوى الطبيعية الأخرى البسيطة، كهبوب الرياح ومجاري المياه والجاذبية العامة، فكان الناس ينتقلون من بلد إلى بلد ومن قطر إلى قطر على الجمال والخيل والعجلات في البر، والمراكب الشراعية في البحر. ولا يخفى كم كان يقتضي لذلك من المشقات والزمن؛ مما كان يجعل المسافات بين الأقطار متباعدة جدا، والمصالح العامة بين الأمم متباينة كذلك.
وكانت الشرائع بناء على هذا الفصل، والتقاطع بين الأفراد والجموع، وبين البلدان والأقطار بسبب هذا التباعد؛ أميل إلى تأييد المصالح الخاصة المنفردة منها إلى تأييد المصالح العامة المشتركة، فكانت حقوقا ممتازة ينظر فيها إلى مصلحة البعض لا إلى مصلحة الجمهور، وإلى مصلحة كل بلد لا إلى مصلحة العالم. وكانت أكثر الآثار القديمة لخدمة أغراض خاصة لا آثارا ذات شأن في المنافع العمومية، فكانت قصور ملوك كالخورنق والسدير، ومقابر ملوك كالأهرام، ومعابد آلهة كبعلبك، بل صار الملك حقا خاصا يجيز لصاحبه أن يصد به النفع العام. وكما قامت حقوق الأفراد على هذا الأساس الواهي قامت حقوق البلدان والأوطان، وضحوا بذلك المنافع العمومية على مذبح المصالح الخصوصية.
وما زال الإنسان في المجتمع العمراني على هذه الحال، شرائعه لا تتغير لجهله، ومواصلاته لا تختلف، ومصالحه لا تأتلف لبعد المسافات بين البلدان حتى أوائل القرن الماضي، فارتقت حينئذ علومه الطبيعية، واكتشف البخار أولا ثم الكهربائية، ووقف على الرابطة التي تربط قوى الطبيعة بعضها ببعض، فركب البخار، وامتطى البرق، وأنطق الجماد؛ فتقاربت المسافات بين الأقطار المتباعدة، وارتقت صناعاته جدا. والذي شهدناه من ذلك في النصف الأخير من القرن الماضي وفي العقد الأول من هذا القرن لم يذكر له مثيل في مئات الأجيال بل ألوفها، حتى إن الإضاءة التي بقيت آلافا من السنين لم تتغير، السراج الذي كان مستعملا على عهد الفراعنة هو نفس السراج الذي كان مستعملا بيننا من عهد أربعين سنة. أصبحت في هذه الآونة الأخيرة وأمرها كل يوم في شأن من التفنن والإبداع. وقس على ذلك سائر الصناعات، وسائر وسائل الانتقال بين البلدان بالبخار والكهرباء في البر والبحر، وفي الهواء أيضا.
وكما أنه حصل هذا الارتقاء في العلوم والمخترعات والصناعات حصل أيضا في الأفكار، فتغير نظر الإنسان في الشرائع والحقوق والواجبات، فعلم عن يقين أن حقوق الأفراد لا يجوز أن تبتلع في جوفها حقوق الجموع، وأن المنافع العمومية مقدمة على المنافع الخصوصية، وأن الشرائع التي لا يتوفر معها كل ذلك يجب أن تمزق تمزيقا. فضعفت سطوة الملوك، وما عهدنا بقيام الشعب في وجه تبجح بعض العوائل ببعيد. وعلم أن حقوق الأمم هي فوق حقوق كل فرد مهما تعاظم، وحقوق العالم أجمع فوق حقوق كل مملكة، بل علم أيضا أن المصالح المختلطة اليوم يجب أن تجعل وطن الإنسان العالم كله، لا بقعة في الأرض نشأ فيها ودب عليها، وأن لا شريعة يجوز لها أن تحظر عليه هذا الحق الطبيعي المقرر بالعلم والمصلحة اليوم، بل علم الإنسان من كل ذلك أن الشرائع السائدة حتى اليوم موسومة بمسيم الحيف، وأنه يجوز له الانتقاض عليها دفعا لشرها وتعميما لنفعها.
وقد بدت في الاجتماع البشري الراقي حركة هي كل يوم في شدة لنقض القديم وتأييد الحديث. والاشتراكية التي تنتفض لذكرها أعصاب الكثيرين اليوم لأنهم لا يفهمونها على حقيقتها، ليست إلا تمخض الاجتماع بهذه المبادئ الحديثة لإقامتها على أطلال القديم الذي لا بد من نقضه عاجلا أو آجلا، ولكنه أجل بالنسبة إلى نظام الاجتماع قريب. ولا يدري مبلغ سرعة هذه الحركة الانتقاضية الارتقائية إلا من تروى قليلا في مبلغ العلوم والصنائع في ارتقائها السريع في هذا العهد الأخير. وسنن الطبيعة في الاجتماع واحدة، فهي في سرعتها دائما بالقلب كمربع البعد ، بحيث إن الذي كان يلزم له مئات السنين بل ألوفها لأن يتغير في الماضي صار في الإمكان اليوم أن يتغير في بضع سنين.
وما حملني على هذا البيان الموجز إلا ما رأيته من الحركة الانتقاضية الشديدة ضد مشروع تمديد قناة السويس مقابل مبلغ تتقاضاه مصر وتنتفع به قبل انقضاء أجل الامتياز المضروب؛ أي قبل ستين سنة لا تنتفع مصر فيها بشيء. وعجبت جدا لما رأيت أن أكثر الباحثين في الموضوع وقفوا فيه كأنهم في الماضي لا ينظرون إلى ما نحن فيه من الحركة الارتقائية الشديدة، غير حاسبين أدنى حساب لما سينجم عنها من التغيرات الاجتماعية المهمة في المستقبل القريب. وفي نظرنا أن الستين سنة اليوم هي بمقام ستة آلاف، بل ستين ألف سنة من سني الماضي، ستصبح فيها المواطن بالنسبة إلى العالم كالمدن بالنسبة إلى الوطن الواحد، وتغير حقوق المرور بالنظر إلى ذلك.
فعسى الذين يهمهم أمر مصر ألا يذهب عليهم ذلك لئلا يضيعوا برفضهم حقا راهنا محافظة على حق موهوم؛ لأن قناة السويس صارت اليوم للعالم أجمع من المنافع العمومية التي سوف لا يقرها المستقبل القريب أنها من حقوق مصر أكثر مما هي من حقوق الصين أو أمريكا. فعلى الجمعية العمومية إن أحسنت رأيا النظر اليوم، لا في قبول هذا العرض أو رفضه، بل في تعديله، وخصوصا في كيفية صرفه في منافع مصر، فذكر علها تنفع الذكرى.
2
المقالة السابعة والخمسون
إلى جريدة «الوطن» في بيروت
1
أيها الوطن العزيز
افتقدتك هذه المرة، فحسبتك وهمت بي أني أقول باللاوطنية فحنقت علي، فأردت أن تختبرني فاحتجبت عني، فقمت أبحث عنك، وقد قيل لي إنك في شاغل عني بي في التفسير والتأويل في أمر لا يحتاج إلى تفسير، حتى عثرت عليك أمس، فإذا أنت مضطر، وقرأت لك شرحا يزري ب «عرف الطيب»، فزاد إعجابي بك، ووددت لو أني المتنبي لتكون أنت اليازجي، فلا أعدم حينئذ خير شارح لقولي:
لا يصلح الإنسان مجتمعا
ما دام فيه الدين والوطن
كما لم يعدم المتنبي خير شارح لقوله:
فلو سرنا وفي تشرين خمس
رأوني قبل أن يروا السماكا
وعذرتك، ولم أعذل الدافع أو الدافعين لك إلى تسنم هذا المركب، وقد رأيت ذلك «الموكب» على باب «الاتحاد»،
2
بل كان لهم فضل الكير ولك فضل النار لإزالة الصدأ عن حديد الأفكار الراكدة في مستنقع الاقتناع.
مسألة الدين والوطن مبحث وعر المسالك، ومجرد ذكر اسمهما يقلق الأفكار المطمئنة، ولو أنها بحالة اجتماعية لا تحمد ولا توجب الاطمئنان، حتى إنه لتسد لديهما منافذ العقل، ولا تبقى سوى عواصف العواطف، مع أن المسألة بسيطة جدا ككل الحقائق؛ فالدين للآخرة، والوطن للدنيا، والذي يهم الإنسان منهما في هذه الدار هو إصلاح حاله مجتمعا. ولا ينكر أن غرض الشارعين، كل بحسب روح عصره، كان هذا، ولا ينكر كذلك أنهم جاءوا من أول الخليقة إلى اليوم متعاقبين لأجل هذا الغرض، وقد رأوا تعذره على من تقدمهم، أو اختلاف الحاجات بحسب المواطن والعصور. جاءوا متفقين في الكليات مختلفين في المرغبات والجزئيات، ولكنهم جميعهم لم يفلحوا بجعل العالم دينا واحدا ووطنا واحدا، فقامت الاختلافات بين الأديان والمذاهب والمواطن عراقيل في سبيل ارتقاء المجتمع. فرأى العلم أن لا سبيل إلى ذلك إلا بفصل الدين عن الدنيا أولا، فأخذ يبث تعاليمه الصادقة الحرة، والناس يدخلون فيها أفواجا، وكلما زادت بينهم انتشارا زادت حالهم في مجتمعهم صلاحا، ثم رأوا أن العلم كلما انتشر قلل الفواصل بين الأوطان، وذكروا ما كان تخاصمهم بسبب ذلك يجر عليهم من الشقاء.
ورأوا مزايا التعاون الكلي فمالوا إليه، ورأوا أنهم كلما مالوا إليه قل شقاؤهم، وكادوا يكونون سعداء. ورأوا كذلك أن الاتفاق ممكن وليس حلما، فلم يعد يستهوي العقلاء تعليم آخر في مجتمعهم سوى تعليم العلم الذي اعتبروه أنه الدين الحق الذي يستطيع إتيان هذه المعجزة التي عجز عنها سواه، وأرصدوا كل قواهم له، وعلقوا كل آمالهم به، وتركوا للدين الغاية الأخروية يتعلق بها من شاء، على شرط ألا يتذرع بها لمعاكسة سواه في دنياه، كل يبث تعاليمه كما يتراءى له، وإلا اشتد التنازع بينهما على نفقة المجتمع المسكين إلى أن تتم الغلبة لأحدهما، ولكن كلما اشتد التنازع دان حلول أجل وقرب حلول أجل، والغلبة النهائية اليوم للعلم لا محالة.
وبالحقيقة إذا نظرنا إلى الدين والوطن نظرا اجتماعيا، فإن لم نستطع أن نجعلهما وسيلة لترقية المجتمع - وكيف يمكن ذلك مع اختلاف الأديان وتفرق المذاهب، وهو لا يرتقي إلا بالتعاون؟ - فما الحكمة من الوقوف بهما سدا في سبيل كل إصلاح؟ فإذا لم نفصل الدين عن الدنيا، واتخذناه كما هو اليوم وسيلة للشقاق، ولم تتوسع بالأوطان فصددنا بها عنا غوث المدنية بسدود التعصب، ولم نقتبس من محاسنها ما يجعلنا شركاء في العمران، متضامنين متساوين في المساعي، واستمسكنا بما يجعلنا أعداء متخاذلين، ونحن لا نستطيع أن نكون إلا متفاضلين، فماذا تكون النتيجة على المفضولين سوى خسارة الدين والدنيا معا؟ ولا يفعل ذلك الأتقياء العقلاء من أهل الأديان، والمخلصون في حب الوطن، ولا يفعله - وهم العدد الأكثر - إلا الجهلاء منهم، ولا سيما المنافقون المتاجرون بهما، الذين إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون.
هؤلاء هم الذين في كل أمة وزمان يتذرعون بعامل الدين والوطن، ويسطون بهما على الأغرار، ويلصقون بهما العار فيهدمون المجتمع ويهدمون الوطن، ويهدمون الدين نفسه ليبنوا على أطلالها عروشهم إلى حين. وكم قامت أمة على أمة، ومملكة على مملكة، ومذهب على مذهب، لعلة دينية أو وطنية طفيفة كان يمكن حلها لمصلحة الاجتماع على أسهل سبب، مع بقاء الدين دينا والوطن وطنا. وماذا يمنع اعتبار العالم كله وطن الإنسان الأكبر من اشتغال هذا الإنسان لوطنه الأصغر؟ ألا يشتغل الإنسان اليوم لوطنه وهو يشتغل لنفسه معتصما في بيته؟ نعم، إنه يشتغل لنفسه حينئذ أحسن، ويكون ارتقاؤه أسهل كذلك.
وقد كان الناس في الماضي لا يدركون ذلك، فكانوا لأقل سبب يخدم أفرادا منهم ولا يخدمهم يمثلون بأنفسهم وبوطنهم وبالمجتمع كله، ولكن الإنسان كلما ارتقى في العلم علم مزايا الارتقاء بالسلم أكثر، والأمم الراقية اليوم أميل إلى التنازع العلمي والمباراة بإتقان العمل، ولو أبرقت وأرعدت منها إلى التنازع بالحروب حتى غلب بفضل العلم على المجتمع اليوم الارتقاء بالنشوء التحولي على الانتقال بالثورات الهمجية.
هذا من الجهة الاجتماعية، ولقد أجدت أنت الكلام فيها. وأما من الجهة العلمية البحتة، فلا أعلم السبب الذي يثير الضغائن والأحقاد إذا تراءى للبعض أن الأديان متحولة عن الأوهام في الماضي، وأبدى رأيه في ذلك بصراحة حتى يقوم عليه الناقمون ويصدعونه بالكثرة، ويحجونه بالقوة. وماذا يضر ذلك باعتقادهم الخاص والمقام حينئذ يكون أفسح لهم؟ يدعون بعضهم بعضا إلى المزاحمة هناك على كنز دائم، وهم هنا لا يطيقون المزاحمة على كنز فان.
فيا للعجب من هذه المفارقات، استئثاريون إلى حد الجشع هنا، واشتراكيون بل إباحيون هناك! فليستبدوا بأموال الأمم، وليشيدوا بها المعاهد على ما يهوون لترسيخ تعاليمهم في الأفكار، وليستدروا بها المزيد، وليلوذوا إليها، وليقصدوها لقضاء مآربهم، وليحرموا المجتمع من كل ما هو باحتياج شديد إليه، بشرط أن يعلموه مع ذلك التساهل؛ حتى يستطيع سواهم أن يرفع صوته أيضا، ويبدي رأيه بدون أن يكون عرضة للمثالب والتضييق؛ حتى يعدم الصدق بين الناس ملاذا، وينتشر الرياء، وتصير الحكمة مداجاة ونفاقا. وما أعجب مما تقدم إلا خوف الراقين منهم على الأخلاق والآداب إذا تراخت المبادئ الدينية، فلقد ربينا حتى اليوم في مهدهم، واغتذينا بلبانهم كل هذه العصور الطويلة، فهل نحن اليوم ونكاد نبصر قليلا أسوأ حالا منا في الماضي؟ كلا، نحن اليوم أصلح حالا، ومن المسئول عن البقية الباقية الفاسدة الكثيرة فينا سواهم؟
المقالة الثامنة والخمسون
ساعة في الماضي
1
مللت الخروج ولو إلى الحق، وغلبتني عوامل الرجعة ولو أنها ردة إلى الباطل، فرأيت الناس يفخرون بأجدادهم ولو أنهم بهم بئس الأحفاد، فتولتني السآمة من حقارة النسب، ولو زانها كرم الحسب، فقمت أبحث في كتب الحكماء لعلي أهتدي إلى شرف عظامي أضمه إلى فخر عصامي، فوجدت أني من سلالة الآلهة يوم فتنوا بأخلاط الناس فلذت بأجدادي، وزهوت بهم على كل مخلوق وضيع من أبي البشر إلى الذي أبى وتكبر، وكان مقره بهم النار وبئس المستقر، وعلمت أن الطب ليس من موضوعات الناس كسائر صناعاتهم، بل هو صناعة سكان الأولمب، وأن أهله هنا من أهله هناك تربطهم فوق صلة العلم صلة الدم لفهم أحق بتفهم الداء ووصف الدواء، لا كالدعي الذي يندس بينهم، ثم يرميك بدائه وينسل.
فعلمت أن هرمس رب البلاغة والبيان الذي تخرج من فمه سلاسل الحكمة، فتقيد اللسان وتعصمه عن مواقف الخطل ومواطن الزلل؛ أشفق على البشر، فنقل إليهم من صناعة الآلهة على ما رواه القديس أكليمنضوس الإسكندري كتبا ستة في التشريح، ومنافع الأعضاء، والطب، والجراحة، وأمراض العين، وطبابة النساء، ضمنها كنوز اختباره واختبار إخوانه الأطباء في السماء؛ إذ إن كثيرين من الآلهة كانوا يحترفون هذه الصناعة الشريفة، وأشهرهم فيها بلا منازع الجراح الشهير الإله «بيون»، وقد داوى كثيرين من الآلهة المشاغبين، فشفاهم من جروحهم التي كانت تعرض لهم في خصامهم بعضهم مع بعض، ومع البشر أنفسهم، وقد ضم إلى عيادته الإلاهة «ديونه» الجميلة، فكانت تساعده في تضميد الجروح.
فالآلهة وإن كانوا معصومين من الموت إلا أنهم لم يكونوا في عصمة من المرض، بل كانوا يتألمون في حياتهم الخالدة كسائر الناس، ويقصدون الطبيب متسكعين ملتمسين الشفاء منه نظيرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة، فإن «فولكان» بن «جوبيتر» من «يونون» ولد شنيعا جدا، فلما أبصرته أمه راعها ما في صورته الجاحظية من القبح، فرمت به من عالي كرسي مخاضها إلى بحر الظلمات (البحر المتوسط اليوم)، فتهشم، وبقي أعرج أكسح طول حياته.
و«هرقل» قصد أن يزور «أتروبوس» إحدى غزالات خيط الحياة في الجحيم، وكانت من غزالات حبال الهوى أيضا، فاعترضه «بلوتون» في الباب، فطعنه هرقل طعنة نجلاء أدمت كتفه اليسرى حتى أخلى له السبيل، فداواه «بيون» ببلسمه العجيب، وشفاه في الحال، ثم انتقم بعد ذلك من «هرقل»، فطعنه برمحه طعنة لولا صناعة «إسكولاب» لما نجا بها من العرج.
وفي الحرب التي نشبت بين الإغريق والترواديين زج «مارس» إله الحرب نفسه بينهم، فرماه «ذيوميد» بضربة مقلاع محكمة أصابت بطنه، فأخذ يصرخ من الألم كمائة ألف رجل معا، حتى ملأ صراخه الفضاء، ثم هرع وألقى بنفسه بين يدي الجراح الشهير «بيون»، فداواه بمساعدة الفتاة الجميلة «هيبة»، وشفاه.
ولم تكن الإلاهات أنفسهن أقل تحمسا من الآلهة أنفسهم، فكن يخضن معامع الحروب نظيرهم، و«فنوس» ذات الجمال الباهر لم يشفع جمالها بها لدى «ذيوميد» القاسي، فطعنها طعنة شلت يدها، فأدركتها «ديونه» ذات الحنان، والمتطوعة في جمعية الصليب الأحمر الأولمبي، وضمدت جراحها وشفتها. و«يونون» ذات الكيد الذي يضرب به المثل، وأم النساء بذلك، خانها الهوى، فاستقبلت في ثديها الأيمن سهام قوس «هرقل»، فداواها رئيس الجراحين «بيون»، وشفاها.
ولم يكونوا يداوون العلل الجراحية فقط في المستشفى الأولمبي، بل كانوا يداوون الأمراض الباطنية أيضا، وأخص الأمراض التي كانوا يداوونها الأمراض العصبية، خصوصا أمراض العقل. وقد كان «باكوس» إله الكرمة، وسيد المصابين بهذيان السكارى، من أعاظم مشاهير المجانين، وقد عرض له وهو في «دلفوس» نوبة جنون، فتهيأ له أن يبلع المسافات بلعا، فأخذ يطوف في العالم وهو يعدو عدوا سريعا، فالتقى باثنتين من أخواته فأمسكتاه، وكأنه وقع بهما في شرك النخاسين، ولكن «جوبيتر» أبا الآلهة الشفوق رأف به، وأعاد له العضو المفقود وشفاه.
وهرقل سيد المشاغبين جن لكثرة ما قاسى من المشقات في وقائعه الكثيرة، وفي نوبة من نوب جنونه المطبق ألقى بأولاده من وصيفته «مغار» في النار، ولكن جنونه لم يطل به، بل انقلب إلى نوب صرع، وقد شفاه من إحداهن مرة المدعو «أنتيسير»؛ إذ سقاه مقادير كبيرة من الخربق الأسود، ولكن نوب الصرع عاودته بعد ذلك، ولم يشف منها تماما إلا بعد أن أكل مخ الطير المعروف بالسماني بناء على إشارة صديقه «يولاس»، أول واضع لطريقة علاج الأعضاء بالأعضاء المماثلة المعروفة ب «الأوبوثرابية» اليوم.
و«سرس» إلاهة الحصاد كان بها وسواس سوداوي شديد، فكانت تجلس دائما إلى حجر مقطبة الوجه، وبينا هي على هذه الحالة من اليأس التقت بها عجوز تدعى «بوبو»، فوقفت ترقص أمامها رقصا جمع إلى براعة الإفرنجيات خلاعة المصريات، حتى أضحكتها، وأزالت ما بها من العبوسة.
ولما كان الناس غير معصومين من الموت عصمة الآلهة أنفسهم، كانوا بحاجة إلى التداوي أكثر منهم، وكان منهم أطباء كثيرون، وكانوا يشترون الأدوية من هيكل الحمى كما يشترونها اليوم من الصيدليات. و«أونون» وصيفة «أبولون» تعلمت من عشيقها خواص المفردات، ووضعت أساس علم العقاقير النباتية، ولكن الناس رأوا أن علمهم هذا لا يكفي لأن يدفع المرض والموت عنهم، فلاذوا، كما لا يزالون يفعلون اليوم، بقوى ما فوق الطبيعة، يستنجدون الآلهة في أمراضهم. وكانوا يضعون كل عضو من أعضائهم، وكل وظيفة من وظائف جسمهم، تحت سلطان إله خاص؛ فقد كان عندهم إلاهة للعظم تدعى «أوسيلاغو»، يلتجئون إليها في الكسور والخلوع والصدوع، وإله لصيانة عفة العذارى اسمه «هيمن»، وإلاهة لعلل النساء تدعى «منة»، وإله كثير الطرب بالموسيقى اسمه «كربيتوس» لمداواة القراقر والرياح الباطنية!
وكان لهم أطباء مشاهير مثل «بابيس» الذي درس الطب حبا بأبيه ليطيل حياته، و«كوسيت» تلميذ السنطور (وهو الخليط بين الفرس والإنسان) «شيرون»، والذي يرجع له الفضل في رد الحياة إلى «أدونيس» الجميل عشيق «فنوس»، وقد جرحه «مارس» غيرة منه، وقد ظهر له بصورة خنزير بري في غابات لبنان، و«بودالير» الذي ابنه هيباكون الجد الثاني للجد الثالث لبقراط.
وكانت أمراض تلك العصور الميثولوجية كثيرة الشبه بأمراضنا اليوم؛ فالنساء في ذلك الزمن كن يشكون النمش كما يشكونه اليوم، مثال ذلك «فاس» أخت «عولس»، فلم يكن شيء يعزيها عن هذا المرض الذي أفقدها صفاء لون وجهها ورائع جمالها، وكان كل مقترب من مغارة اللص «تمريوس» يحس بمطرقة الصداع تعمل في رأسه حتى قتلته «تزت»، فأزالت المسبب بإزالة السبب، وكانت الفصادة المهملة اليوم فوق اللازم كثيرة الاستعمال في تلك العصور، وقد شفي بها «بودالير» «دمثوس» ملك «قاريا» من مرض حار فيه الأطباء، فكافأه بأن زوجه بإحدى بناته، وبعد خمسة أجيال منها ولد أبقراط. «وعولس» نفسه لم يكن طبيبا، ولكنه اقتبس من معاشرته الأطباء أمورا كثيرة نافعة، وقد داوى مرة «تلفوس» من جرح نبلة أصابته، فشفاه بمرهم صدأ الحديد على مبدأ: «وداوني بالتي كانت هي الداء .» وكانوا يداوون بهذا الصدأ أصحاب ضعف الباه، يسقونهم الخمر وقد أطفي فيها الحديد المحمي، كما يداوون اليوم أصحاب ضعف الدم بالأنبذة الحديدية، أما النساء العواقر فكن يستشفين بالسحر وزيارة الأماكن المقدسة كما يفعل كثيرات اليوم.
ومن حوادث الشفاء الشهيرة في القديم شفاء «فيرون» بن «سزوستريس» ملك مصر، فإنه عمي، فوصفوا له أن يكتحل بمستقطر كلى امرأة لم يقربها غير رجلها، فبحثوا في كل جهة، وتجاوزوا ينابيع النيل حتى عثروا أخيرا على ضالتهم، لا في شخص الملكة، بل في شخص امرأة رجل بستاني فقير. ولما شفي الملك تزوج بها، ثم أحرق كثيرا من النساء اللواتي اعتبرهن علة عماه، وهن في قيد الحياة.
والأرق الذي أضنى العاشق «تريبتولم»، وكاد يقضي عليه من اليأس، شفي منه بقبلة من «سيرس». وبمثل هذا العلاج شفت هيلانة الجميلة «تليماك» الحزين بأن سقته نبيذا مضمخا بمعسول اللمى. و«باتوس» الأخرس حلت عقدة لسانه من رؤيته لأسد غضنفر اعترضه في الطريق. ومعلوم كذلك أن «بنولبس» فقدت ذراعها، فاعتاضت عنها بذراع من عاج. و«أشيل» فقد عظم عقبه، فوضعوا له عقبا جديدة. وإذا استقصينا البحث وجدنا أن كل الطرق الشفائية المعروفة اليوم كانت مستعملة في الطب الميثولوجي، فلا جديد على وجه الأرض.
المقالة التاسعة والخمسون
آيات العصور الميثولوجية
1
ألا قل للذي ادعى أنه ارتقى، فما بر وما اتقى، إنك قد ضللت الهدى؛ فقد كان الإنسان أعز فيما مضى، فضل وغوى، فذل وساء مصيرا.
فلقد كان آباؤنا غطارفة الأرض وأبطال الوغى، إذا مدوا بأيديهم إلى المجد استطالوا إلى العلا، وإن حدثتهم نفوسهم الكبيرة اضطربت أحشاء الجحيم، فانخلع قلب «بلوتون» رب السعير هلعا، وقلق سكان «الأولمب»، ووقع جوبيتر القدير في التفكير.
وكان الآلهة يدانونهم ويختلطون بهم، ولهم معهم كل يوم شأن، يطارحونهم الغرام، في الغياض والرياض، على ضفاف الأنهار، وفي ظلال الأشجار، وحول جداول الماء المترقرق على حصباء كأنها حصى الدر، وينفرون عنهم إلى الغابات، ويظهرون لهم بمظاهر الوحوش الضارية للإيقاع بهم، أو يختبئون لهم فيها جآزر بعيون المها لأخذهم في شراك الهوى. فإذا ملوهم وأرادوا الاحتجاب، تجلوا لهم من وراء الغيوم أصواتا قاصفة كهزيم الرعد، أو من خلال الهشيم لسانا مندلعا من نار، أو شهابا منبثقا من نور، آيات بينات عذابا لقوم وهدى لآخرين، ولا يستنكفون أن يمازحوهم بالكلام، ولو على لسان حمارة بلعام.
وأما اليوم فبئس ما انحط إليه الإنسان، دودة تدب على الأرض وتسعى، منها المبدأ وإليها الرجعى، فنفرت الآلهة عنه ترفعا إلى سماء أولمبها، واحتجبت وراء جبلها المقدس، وحجبت عنه آياتها إلا من مثل ما أوحي به إلى ستيد الغبين، وما هو من ذلك المعدن الكريم إلا سحالة، ومن تلك الكاس المترعة إلا ثمالة، انحط هذا الانحطاط وما درى، وبات مع ذلك فخورا.
فزعم أنه بلغ من العلم حدا قصيا، وأنه امتلك ناصية المعجزات، وكشف أسرار الكائنات، وغره أنه حدد بصره بالآلات المخترعات، وترامى به بين الأجرام، فما هي إلا عشية أو ضحاها حتى استدناها، وقاس ما بينها من الأبعاد كأنها منه على قاب قوسين أو أدنى، ونزل به إلى قلب الأجسام المصمتة ففتح المغلق، ثم استنطق الطبيعة الصامتة، فما لبثت أن تكلمت، وباحت له بسرها المكنون، ووقف على سر نشوء الأحياء، فدفعه الغرور من خلال ذلك إلى تنسم سر التولد، وقرأ المطبوع على صفحات الهواء بخطرات الكهرباء فأنكر الممتنع، وقرأ ما في الضمائر من اختلاج الأفكار، وعقد النيات في القرب والبعد، فقال إني والعالم واحد. وأطنب بهذا الارتقاء، يفاخر به السلفاء.
وما آيات علمه التي يفتخر بها اليوم إلا مما يزدرى به إذا قيست بآيات العصور الميثولوجية معجزات مبتذلات بالقياس إلى تلك المعجزات؛ فقد كان في تلك العصور طبقة من الناس فوق البشر وأقرب إلى الآلهة، تتصرف بقوى الطبيعة العمياء كيفما تشاء، من دون علم وعناء. فالساحرة «سرسه» على رواية هوميروس كانت تخضع لإرادتها حركات الكواكب، وتغير مجاري الأنهار، وتعرف خواص الحشائش السامة ، ولم تكن مع ذلك معصومة من داء الغرام، ترتكب فيه المحرمات إلى الدرجة القصوى، فكأنها به أم بعض ملكاتنا المغرمات الجانيات الشهيرات في التاريخ. فكانت تقطن إحدى الجزر وحولها أربع من الحور الحسان يخدمنها، وهن على شاكلتها، ولم يكن بينهن رجل، فكن يرقبن فيه الأقدار، وويل للذي كانت تدفعه الأمواج إلى شاطئهن. ولولا أن الإله «مرقوروس» رأف ب «عولس» فزوده لسفره بترياق يقيه من شر «سرسه» لما نجا من سحرها، بعد أن هاجت عليه البحار، وأوقعته هو ورجاله في شركها. ولكي تستبقيهم عندها ابتدأت بأن مسخت رجاله خنانيص، واستبقت «عولس» على نية أن تمسخه هو أيضا، ولكنه دفع سحرها عنه وعن رجاله بترياقه، فردهم إلى حالتهم الأولى إلا واحدا اسمه «غريلوس» أبى، كأنه لم ير فرقا بين الإنسان والخنزير إلا في الصورة فقط.
وجوبيتر أكبر الآلهة علق قلبه بهوى أنتيلوب، ولكنه لم يشأ أن تكون صلته بها إلا بصورة «ساتير»، فمسخ نفسه نصف خنزير، وأولدها اثنين على صورته هذه، وكأنه رأى «أوروبا» ملت صور الرجال، فشاطرها قلبه الذي لم يكن يملؤه شيء - كبرميل «الأدانئيد» السائب من قعره - وهو بصورة ثور، وكان على جانب من المجون، يحب أن يلبس لكل حالة لبوسها، فعلق ذات يوم بالفتاة «كليتوريس»، وهي ذات قوام دميم جدا، فطلب إليها أن يكون برغوتا، فأبت إلا أن يكون نملة، فتم لها ما أرادت.
و«يونون» امرأة «جوبيتر» ذات الكبر المشهور لم تكن حسنة الأخلاق كبعلها، ويوم زواجها أبطأت إحدى الحور المدعوة «كيلوني» عن حضور حفلة العرس، فمسختها في الحال سلحفاة، وانتقمت من معشوقات بعلها، فمسخت «إيو» بقرة، ثم مسخت «كليستو» دبا ثاني يوم ولادتها لابنها «باكوس».
أما «باكوس» هذا فكان عنوان الظرف، فجذب قلب «أريغونه» بأن تحول هو نفسه عنقود عنب. ولما مات صديقه «أمبل» حول جسمه الميت إلى كرمة حتى يتذكره دائما في مجلس شرابه، وتحويل الخمور من غير الكحول لاجتذاب القلوب القاسية، وامتلاك القلوب اللينة كثير في أساطير الأولين. و«أبولون» كان يحب الزهور، كما كان باكوس مولعا بالخمرة. فلما غضب على معشوقته «كليتيا» لفرط غيرتها حولها إلى الزهرة المعروفة بالأليوثروب، أي دوار الشمس، لتبقى متجهة دائما نحو الكوكب الذي كانت تعبده، كما أنه حول «أكابثه» إلى النبات المسمى بهذا الاسم.
و«ديانة» الغزالة الشاردة غضبت على «أكثيون» لما فاز عليها في القنص، فحولته إلى أيل. وفنوس ربة الجمال وإلاهة الحب مسخت «أنكزرتوس» حجرا؛ لأن عينه لم تدمع، وقد مرت جنازة فتى كان يهواها فأولته صدودا. وأما «أدونيس» الذي كانت تحبه، فلما مات مسخته شقائق النعمان. و«نبتون» إله البحر تحول ثورا لكي يمتلك قلب «أرنه». و«مارس» إله الحرب غضب على الكتريون لإهماله مراقبة رجوع «الأورور»، أي الفجر، فمسخته ديكا حتى لا يفوته ذلك في المستقبل. و«منرفا» إلاهة الحكمة ساءها تفوق «أرخنة» عليها في صناعة النسج، فمسختها عنكبوتا. وإيزيس المصرية حولت الفتاة «إيفيس» يوم زواجها رجلا نكاية بخطيبها. وفي أساطير البوذيين أن «قادومة» امرأة «شريزة» تحولت إلى أنثى قرد لكي تلد الجنس البشري، ومنها ولد داروين وأولاده.
فيلزمنا والحالة هذه، ولا حياء في قول الحق، أن نعترف بأن هذه التحولات تفوق جدا كل ما يستطيعه تصور دماغ أعظم عالم اليوم، نشوان بخمرة العلم، معجب به. وليس بين علمائنا من يجسر أن يقول إنه رأى في معمله تحولا أو شبه تحول من مثل ذلك وقع لأقل كرية من كريات الأجسام الحية. ولقد ادعى بعضهم أنه رأى الحياة تتولد في قارورة اختباره. وما هو بالحقيقة إلا واهم، ومن منهم اتصل أن يغلب الموت؟ وأما في العصور الميثولوجية، فقد كانوا أرقى جدا منا اليوم، وإحياء الموتى كان عندهم شيئا عاديا مبتذلا ميسورا للغاية.
وفي الحرب بين جوبيتر أبي الآلهة والجبابرة الذين أرادوا أن يصعدوا إلى السماء على جبال أركموها بعضها فوق بعض، أخذ أبو ساتورن أسيرا وقطع إربا إربا، وحفظت قطعه بعضها إلى بعض كما كان حيا، فخاطها «مرقوروس» وأعاد له الحياة. كذلك فعل الجبابرة بباكوس، فأحياه جوبيتر، وفوق ذلك أعاد له العضو الضائع، وكان أخواته قد رمين به بعيدا في تيرينيا.
ومثل ذلك حصل لبلوبس بن تنتال، وقد قطعه أبوه طعاما لضيوفه، فعرف المدعوون بالأمر قبل الأكل، فهاجوا وماجوا ، وجمعوا الأعضاء إلى بعضها إلا الكتف، فكأنها وقعت في يد من يعرف «من أين تؤكل»، إلا أن جوبيتر صنع له كتفا من عاج، وقد أحكمت «منرفا» تركيبها به.
ولقائل: إن هذه المعجزات من صنع الآلهة، وأين منهم البشر؟ على أن التاريخ فيه كثير من حوادث إحياء الموتى بقوى أقل من القوى الإلهية.
حكي عن «هرقل» أنه قتل بقرا ل «بلوتون»، وبحث في دمها، واستخلص منه مادة ترد الحياة للأظلال التي تقطن على ضفاف نهر الستيكس في الجحيم. و«بوليد» الساحر الشهير في بلاط الملك مينوس رأى صلا ميتا، أتاه صل آخر ولمسه بحشيشة معلومة فأحياه، فاقتبس ذلك عنه، وأحيا به غلوقوس بن مينوس سيده، وكان قد وقع في برميل عسل وفطس. ويحكى أيضا عن «أغاميذ» ابنة «أوجه» ملك «أبينس» أنها تعرف بعض حشائش تحيي بها الموتى، وكان عندهم في القديم عين تسمى عين ماء الحياة، وماء الشباب أيضا، فإذا شرب منها القائل:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وإذا به شاب غرانق، وقد صار عشاه حورا معروفا، وانحناء ظهره قواما موصوفا، ولكنهم ما لبثوا أن اهتدوا إليها حتى ضللتهم الآلهة لئلا يشاركوهم في ملكهم.
مسكين قارئ كتاب «أسرار الكون» اليوم بالقياس إلى قارئ كتاب «عجائب المخلوقات» في الماضي!
المقالة الستون
حكم كاذب
1
كذب القضاة، وكذب الأطباء، وصدق المال.
برأ المحلفون «ثو» قاتل مقلق راحته، ومثير غيرته، ومراود امرأته، والمتباهي بفعلته، والمتناهي في قحته.
كذب القضاة - لا لأنهم برءوه - بل لأنهم فقدوا في حكمهم كل شجاعة، فلم يصغوا إلى صوت الضمير وحكم العقل.
وكذب الأطباء، لا لنسبتهم الجريمة إلى جنون طارئ عليه، بل لاعتبارهم الجنون فيه ملازما.
وكذب «ثو» لأنه بعد أن ارتكب الجريمة وثاب إليه رشده جاراهم، وجبن لأنه لم يقض عليهم بالقضاء عليه.
ولم يصدق إلا «قاضي الحاجات» الذي يحل شاش القاضي، ويعقد لسان الطبيب.
ولماذا هذا؟
لأن شرائع الإنسان تريد ذلك.
الإنسان لا يخجل من الكذب نفسه أمام نفسه، بل يخجل بالنظر إلى سواه، فإذا وجد لنفسه مخرجا فيه لم يخجل منه. فهو يخجل من الصورة لا من الحقيقة، ومن العرض لا من الجوهر؛ لذلك كان في كل أفعاله تحت هذا السلطان. «ثو» ليس بالمجنون فيعامل كالمجانين، وإلا فالناس جميعهم شركاؤه في مثل ظروفه، وهو هنا ليس بالمسئول حتى يجب عليه القصاص.
الإنسان مهما عقل، فلا ينجو من أن يكون تحت تأثير عوامل اشتداد الحاجة وتهيج العواطف.
إذا عض الجوع إنسانا بنابه، أو ثار به الغضب إلى الدرجة القصوى فارتكب الجناية سدا لجوعه وإطفاء لغضبه، فهل يعد مجنونا؟
ولماذا المسوغات التي دفعت «ثو» إلى ارتكاب جنايته لا تنجيه من القصاص إلا إذا قضينا عليه بالجنون المطبق؟
نظام الشرائع حكم على المحلفين، فلم يكن في وسعهم أن يحكموا إلا بأحد أمرين، وحكم على الأطباء فاختاروا أهون الشرين، وأفقدهم جميعهم الشجاعة، فكذبوا على العلم، وكذبوا على الحق. «ثو» جنى لأنه ليس في الشرائع ما يصونه من هذا العدوان، والذين برءوه كذبوا لأنهم لم يجدوا فيها مخرجا آخر لنجاته، وإن كانوا قد أظهروا كل هذا الاهتمام فالفضل للأصفر ذي الوجهين.
فويل للفقير!
وسيخرج «ثو» من البيمارستان سليم العقل، ويوضع تحت المراقبة، ثم يطلق من قيودها.
إذا كانت الشرائع حقا فالعقل رزيئة، وإذا كان الغنى قوة فالفقر لا شك جناية. •••
وأما وجوده في المارستان، فلا تضييق فيه عليه؛ لأن ثروته تضمن له كل ما يتوق إليه من الراحة.
المقالة الحادية والستون
إصلاح القضاء
1
كنت قد كتبت كلمة أنتقد فيها القضاء، جاء فيها ما ملخصه:
منصة القضاء مقدسة، لا يجوز مسها كمحراب المصلي، ولكن هذا لا يمنعني هنا من ترديد هذين البيتين:
قتل امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
مسألة فيها نظر
يسطو اللصوص على جمع فيجرحون وينهبون، ويضبطون متلبسين بالجناية، فقد يعفو القضاء عنهم؛ لأن هفوة في الشكل تمنعه عن النظر في الأصل، فيضحي القضاء الجوهر مراعاة للصورة. وهذا كرفض سماع كلام المحامي القانوني إذا لم يكن مرتديا ذلك الثوب «الكرنفالي» أمام مذبح المرافعة . تقوم القيامة بين عناصر الأمة فيكثرون من البذاء، والقول الهراء، والسب والشتم والتقبيح، بما قد يدفع إلى ثورة داخلية، ومع ذلك لا تتحرك الحكومة لهذا الأمر، ولا تجد النيابة مسوغا للتداخل فيه لإيقافه عند حد؛ لأن المحافظة على الآداب العمومية والسلم العمومي ليست من الأمور التي يستدركها القضاء وينهض لها من نفسه، مع أنه قد ينهض أحيانا لانتقاد يمس الأفراد، وقد يكونون ممن لا يصل الانتقاد إليهم بأذى.
تقوم دعوى بين اثنين، فيجدان في ثنايا هذا القانون متسعا لأن يتخاصما ويتشاكلا ويتجاولا في هذا المضمار أشهرا وسنين، وربما تركا هذه الدعوى بعد أن أكلت عمريهما إرثا لأعقابهما، وقضاؤنا يعد نفسه مع ذلك رحمة للعالمين.
وبعد هذا إذا طلبنا إصلاح القضاء في شكله، في أصله، حتى في قضاته، فهل نلام؟ وهو حق للجمهور، وواجب على ولاة الأمر، ولكن على أولئك الولاة الذين يهمهم أمر العباد، وأين هم بعد أن يتربصوا في مناصبهم، ولفعلوا لو دروا أن محاكم اليوم سخرية الغد؟ ا.ه.
فأقام البعض القيامة علي في الجرائد، فكتبت المقالة الآتية ...
المقالة الثانية والستون
من أين أبتدئ؟
1
ليس أصعب من مصادرة المقرر المألوف، هذا يقول لك إنه منزل، وذاك يقول إنه مقرر بالإجماع، وقم ناضل بينهما. وكل قضية من ذلك معقل تخور دونه قوى أعظم الجيوش، فكيف بأفراد لا حول لهم سوى جرأة القول، ولا سلاح لديهم سوى رأس اليراع؟ ولكن رب قول كان ألهب من شرارة الكهرباء، ورب قلم كان أمضى من السيف.
قامت علي قيامة الكتاب من كل صوب لقيامي على القضاء ونظامه، ولم يقم لي حتى الآن نصير إلا في مثوى الضمائر، ولكنه لم يجسر أن يجهر بالحق عملا بقول الشاعر:
إذا قلت المحال رفعت صوتي
وإن قلت الصحيح أطلت همسي
وأما الذين نسبوا كلامي إلى الغرض فهؤلاء دعهم في ضلالهم يعمهون، فما ينالون مني غرضا حتى يشفوا من غرضهم، أو أصاب بمرضهم. وأما الذين وجدوا أن نوري ظلمة، وأن ظلمتهم نور، فدعهم في نور ظلمتهم يتخبطون، وما ربك بظلام للعبيد. وأما الذين أتوني من طريق العقل فإني لا أنكر عليهم ما في كلامهم الراجح من القول السديد، والاعتراض الوجيه، فهم لا ينكرون ضمنا نقص القضاء، ولكنهم يقفون حائرين أمام الصعوبات، فهؤلاء أعيد عليهم قول الإمام الغزالي: «لو لم يكن في ذلك إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث لكفى به نفعا، فإن من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة.»
وهذه حجتي لدى حضرة الفاضل المحقق «ي. ش.» على قوله إنه لولا ما لي من المكانة - وهذا من أدبه - ولولا خوفه مما سيكون لكلامي من الأثر؛ لما عني بالرد على ما كتبت. فأنا أشكره على حسن ظنه بي، ولكن هذا الذي خافه هو الذي دفعني إلى ذلك، ولو علمت أن كلامي سيذهب بدون أثر لما خططت منه حرفا، ولو علمت أن مكانتي هي كما يقول لكسرت من حدتي، ولكن جهلي بما أعلمني به عن نفسي، وعلمي بأن الاستكانة للمألوف توقع في الخمول والاستسلام؛ دفعاني إلى تشديد الوخز. ولولا ذلك لما اضطر العقلاء في المعمورة كلها، من الأنبياء إلى الحكماء وسائر المصلحين، أن يلجئوا إلى العنف في الانتقاد، واستعمال السيف أحيانا لحمل الاجتماع على السير في سبيل الارتقاء، ولو متثاقلا في قيوده. أقول ذلك، لا غرورا مني بأني بلغت مبلغهم، بل لشغفي بالتشبه بهم، ولو أني في سبيل ذلك أجهل فوق جهل الجاهلين.
ولكن من أين أبتدئ؟ فإن الموضوع كالتنين ذي الرءوس الكثيرة، ولو جاريت حضرة السائل في الاقتصار على الرد على أسئلته لقطعنا القول في أشياء مهمة، ولكان فاتنا أشياء أكثر وأهم. وما ضربتها في مقالي إلا مثلا من أمثال، لو أردنا كلانا أن نتعقبها كلها للزمنا أن نلازم القاضي في غرفته، والمحامي في محفظته، والمدعي والمدعى عليه في شكواهما، والاجتماع كله في تظلمه.
وليس ذلك فقط، بل لو جاريته لانصرفنا عن النظر في الكليات التي هي موضوع كلامي إلى البحث في الجزئيات التي يتسع لنا فيها مجال المغالطات ، وينتهي الكلام فيها على غير نتيجة مرضية، وهذا ليس غرضي، بل غرضي هو أن أوجه نظر الباحث إلى أن هذا النظام الموضوع كما هو موضوع لا يفي بالغاية التي وضع لأجلها، وليس ذلك فقط، بل إنه في جملته مناف لهذه الغاية. ولا ريب أن كثيرين سيستغربون قولي هذا لأول وهلة، ولكن استغرابهم هذا لا يلبث طويلا حتى يتحول فيهم إلى تفكير، وهذا هو مستصغر الشرر المقصود لإيقاد نار الثورة في الخواطر إحداثا للإصلاح المطلوب، فلا يمنعهم الوجوم المكتسب بالاعتقاد الراسخ من القيام في وجه كل نظام لا يفي بمصلحة الاجتماع مهما عززته الرهبة.
فالقضاء ليس الغرض منه تشييد تلك المعاهد الفخيمة، وإحاطتها بكل ما يجعلها أمنع من عقاب الجو على اللائذ بها، فلا يدنو منها حتى تصطك ركبتاه، وينعقد لسانه، ويضطرب جنانه، فلا يعرف كيف يدخل إليها، ولا كيف يخرج منها، ولا كيف يطلب منها حقا، ولا كيف يدفع بها حيفا. يرى هناك على منصاتهم أنصاف آلهة وحولهم كهنتهم، فلا يستطيع أن يتقرب إلى هيكل أولئك الآلهة إلا بواسطة أولئك الكهنة، حتى صار القضاء بذلك أشبه شيء بجوقة دينية، مع الفرق بأن كل إنسان يستطيع أن يصلي في المعابد بنفسه، وإن لم يضمن لنفسه الخلاص إلا بواسطة، وأما في المحاكم فالحوائل دونه كثيرة لا يقوى عليها العالم، فكيف بالجاهل؟ وينضب دونها كيس الغني، فكيف بالفقير المعدم؟
فالقضاء أبسط من ذلك كثيرا، ويجب أن يكون أسهل من ذلك كثيرا، وقد يتعذر فهم هذه البساطة على أولئك الذين تعودوا ألا يروا في أحنائه إلا كل تعقيد. وقد رسخت هذه القضية في الأذهان، حتى إن المحامي لا يسر بكسب دعواه بقدر ما يسر إذا ركب فيها متن الإغراب، فخاض في كل يم، ونبش أحشاء الأرض، وحلق في الفضاء، وأخذ يتنقل بين الشعرى والجوزاء، يناجي أحيانا طوائف الجن وأخرى سكان السماء ، وكل ذلك لكي يقول لسامعيه إن أذني التي بجانب رأسي هي هذه. ولو قال غير ذلك فهل يتأثر القضاء، أو يرتضي الزبون؟ حتى صار علم الحقوق بفضل هذا النظام من العلوم الكلامية البحتة التي لم تنضج ولن تنضج، بعد أن كان المأثور عنها أنها من العلوم الوضعية التي نضجت وكادت تحترق.
وهذا النظام إذا أفاد - بعد محتكريه - طائفة من الناس هم الأقوياء والأغنياء، فهو لا يفيد الضعفاء والفقراء، والاجتماع معظمه مؤلف من هؤلاء، فكيف يطمع بعد ذلك بإقامة القسط بين الناس؟ ألا ترى أن المدعى عليه إذا لم يحضر أجاز هذا القانون الحكم عليه بأقصى العقوبات، وجاز للقاضي أن ينطق بمثل هذا الحكم خالي البال مرتاح الضمير؟ وما معنى ذلك؟ معناه أنه إذا لم يعرف المدعى عليه كيف يدفع عن نفسه، كما يحصل كثيرا بمقتضى هذا النظام، أو إذا كان ضعيفا لا نصير له، وخصوصا إذا كان معدما لا يستطيع أن يكفي محاميا، فلا حق له أن يعيش. وحضرة القاضي لا يضطرب في حكمه، وهو يتحصن وراء هذا القانون. ولقائل يقول: إن القضاء يسمي محاميا يدافع عن الفقير. ولكن نحن نعلم كم يكلف ذلك من المشقات الأخرى، حتى يسمي القضاء هذا المحامي. وأنت تعلم أيضا كيف أن هذا المحامي «يكلفت» دفاعه غير المأجور.
بل إن هذا النظام لا يفي بمصلحة الإجماع، ولا يثقل كلامي على طائفة ذات شأن، أجلها كأفراد، وإن أنحيت عليها كمجموع؛ فالاجتماع يشكو من نظامها مر الشكوى، بل هي قيد في رجل الاجتماع، وغل في عنقه. ولولا ما يتسرب إلى أفرادها من مبادئ العلوم الطبيعية بالعرض لا بالذات، لما خطا الاجتماع بها خطوة في سبيل الارتقاء، بل هي بنظامها عبء ثقيل عليه، تمتص دمه ولا يستفيد منها فائدة حقيقة. فهي كالجيوش التي بنظامها تحرم الاجتماع من استثمار الأرض وإحياء الصناعة بأيديها، وتحمله نفقاتها، وكان في الإمكان أن تكون فيه عاملة نافعة.
ومن غريب المفارقات أن أساس علومها العلوم الاقتصادية، ولكن نظامها لا يعرف للاقتصاد معنى، فالوقت في القضاء لا قيمة له، كأن المثل الإفرنجي القائل
Time is money
لا معنى له عندها، وكأن عمر الإنسان لديها كعمر أبينا متوشالح. وقول حضرة المعترض بأن هذا من حسنات النظام الدستوري لإعطاء كل ذي حق الزمان الكافي لتأييد حقه لا يجوز إلا إذا اعتبر نظامه مقدسا، وأنا أقول لحضرته إن هذا من سيئات النظام الاحتكاري لفائدة الحكومة وطائفة معلومة، كأن هذا الحق لا يتيسر له على صورة أنفع له وللاجتماع وللآداب الحقيقية بنظام آخر، حتى ولو كان القضاء حيفا مع قصر الزمن لكانت الفائدة منه أتم؛ إذ تنصرف قوى الإنسان وأفكاره إلى أعمال نفعها أقرب بدلا من انحصارها في موضوع واحد، وصرف العمر في المخاصمات، واستنباط الحيل، وخلق المشاكل، مما يكون ضرره على الاجتماع مزدوجا أدبيا وماديا. وسبب كل ذلك هو النظام الأعوج الذي ابتلع القضاء الحقيقي في جوفه، وأضاع جوهره في أعراضه، وهو لكثرة ما يقتضيه من النفقات لم يعد في الإمكان تعميمه، فاقتصروا فيه على مراكز معلومة، فزالت كفاءته، وتبعها كل هذا العطل، وزادت النفقات العمومية زيادة فاحشة.
ولو أردت أن أؤيد كل قضية مما أقول بأمثلة أتخذها من نظام هذا القضاء كل يوم لنفد الحبر والورق، ولما وسعتني الجرائد، ولنفد صبر القراء قبل أن ينضب هذا المعين. فأترك الحكم فيها للذين يعانونها كل يوم - ولا يعرف الشوق إلا من معانيه - وأكتفي بالقضاة والمحامين أنفسهم، فليرجعوا فيها إلى ضمائرهم واختبارهم، فضلا عما يلحق بهذا النظام من الأعراض التي أصبحت لازمة، وإغفالها يعرض الجوهر للضياع، والتي هي في عرف العقلاء من السخافات المضحكة اليوم.
وأما ضربه المثل بين العلوم القانونية والعلوم الطبية، فليسمح لي حضرته بأن أدفع هذه المقارنة؛ فالعلوم الطبية أساسها العلوم الطبيعية، التي هي في أحكامها كالعلوم الرياضية، والتذبذب هو في الاهتداء إلى أسرارها، والخطأ المتوقف على الأفراد لا يعتد به في بحثنا، ولم أحاسب حضرته عليه. وأما العلوم القانونية كما هي اليوم فقد أصبحت كالعلوم الكلامية، وأساسها النظر، وكأن في الإمكان أن يكون أساسها العلوم الطبيعية، ولكنها حتى اليوم لم تفعل، وهل ينكر حضرته أن الطبيب القاضي يكون أوسع نظرا وأرجح حكما من القاضي المتشرع فقط؟ ومن يجهل اليوم حكم الأسرار الطبيعية في أفعال الإنسان الاجتماعية؟
ولقائل يقول: إن الاعتراض سهل، ولكن العمل صعب، فهل لك دواء لهذا الداء؟ وجوابي على ذلك بسيط فطري. اجعلوا القضاء أبسط جدا مما هو، وعمموه أكثر كثيرا. ما قولك لو كانت المحاكم بسيطة جدا، وموزعة في كل مدينة وفي كل قرية على نسبة أحيائها وسكانها؟ ألا يكون الفصل في الدعاوي أسرع، والنفقات خصوصا أقل، والفائدة الاجتماعية أعظم؟
ومهما بدا هذا القول غريبا لبعضهم فإني لا أخشى أن أقول إن المستقبل لي، أي لكلامي، ولكن هذا لا يتم حتى يتقلص ظل العلوم الكلامية وتعم العلوم الطبيعية، وإن كان مثل هذا البحث لا يفيدنا فائدة قريبة إلا أن ما يحدثه من الأثر ولو صغيرا جدا لا بد أن يختمر على توالي الأيام، ويفعل في العقول فعل الشرارة في الأفعال المتجمعة، فيعلم الجميع على السواء أن الشرائع الموضوعة، والراسخ في يقين البعض أنه لا يجوز مسها، يجوز النظر فيها حتى قلبها رأسا على عقب، إذا كانت غير ملائمة لمصلحة الاجتماع. وهذا هو المقصود هنا.
روزفلت والقضاء
2
إن الذي يعجبني من قول الرئيس روزفلت ليس تنديده بالقضاء لتمسك قضاته بسخافات فنية اصطلاحية تتأخر بها الأحكام، وتضيع معها الحقوق، بل صدور ذلك من رجل في وظيفة عمومية هي أعظم المراكز شأنا. والعادة أن الذين يشغلون مثل هذه المراكز في الهيئة الاجتماعية تضرب الوظيفة على عيونهم حجابا كثيفا. ولكن الرئيس روزفلت ليس موظفا كسائر الموظفين، ولا ملكا كسائر الملوك، بل هو الرجل الاجتماعي العظيم الذي عرف أدواء الاجتماع، وكم حاول أن يجد الدواء لها، خصوصا قيامه ضد شركات الاحتكار التي تفشت جدا في هذا العصر، ولا سيما في العالم الجديد. ولا يخفى أن هذه الآفة من شر الضربات الاجتماعية التي إذا لم تتدارك قبل تفاقم شرها جرت إلى ثورة، ليست الثورة الفرنساوية (وهي قيام الشعب على النبلاء) بالنسبة إليها شيئا يذكر؛ لانحصار تلك إذ ذاك في بقعة معلومة، وأما هذه فهي قيام العمل ضد المال، فشرها لا ينحصر اليوم في بقعة معلومة وفي قوم معلومين، بل سيمتد لهيبه إلى كل العالم المتمدن، ومن يعش يره.
المقالة الثالثة والستون
بئس الإخلاص
1
الانتحار جبن في كل أحواله، وهو اختلال في القوى العاقلة إلى حد الجنون. فإن جاز لنا أن نأسف على منتحر، ونبحث في أمره بحثا نفسانيا وفزيولوجيا لنقف على ما في قواه العقلية من الضعف وسهولة الانقياد، وما في تكوين أعصابه من الوهن وقبول التهييج، إلا أنه لا يجوز لنا أن نبحث فيه بحثا يشم منه رائحة التصويب لعمله، واستحسان العواطف الدافعة إليه؛ لئلا يكون ذلك مشجعا لكثيرين من ضعيفي العقول ومتهيجي العواطف لاقتفاء خطته كلما أحرجتهم الحال، والمحرجات في الاجتماع كثيرة من فقر وسقام، وحب وغرام، ولا شيء أسهل من العدوى بالقدوة، حسنة كانت أو ردية.
ولولا التربية السيئة المبنية على الخيال أكثر من الحقيقة، وعلى الاستسلام للأماني والآمال أكثر من الاعتماد على العمل، وعلى اعتبار الموهوم أكثر من المحسوس؛ لما فشا الانتحار في هذا التمدن المضطرب لما فيه من المبادئ المتناقضة؛ لأن الانتحار نفسه مخالف للمبدأ الأول المنبعثة منه الحياة، والمتوقف عليه حفظها، ألا وهو الألفة وحب الذات.
فالإنسان من يوم يولد إلى أن يموت تتنازعه عوامل التربية المختلفة، من بيتية ومدرسية واجتماعية، وفيها كثير من التناقض أدبيا ودينيا واجتماعيا؛ مما يجعل حياته محفوفة بالمصاعب. فينشأ بسبب ذلك غير مستقل في أحكام عقله، متهيجا في أعصابه، قليل الاعتماد على نفسه، سريع الانقياد لمن يتوهم أنهم أرقى منه. فإذا رآنا نتأسف على منتحر، ولا نشجب عمله في آن واحد كما هو الواجب، نكون كأننا قد دفعناه خطوة بل خطوات للاقتداء به.
ولذلك كانت حوادث الانتحار تزداد على ما تقدم، وكما اقتبسناها من التمدن الحديث، وهو تمدن في طور الانتقال، حيث يشتد الخطر خصوصا بقراءة كتب المجون المتداولة بيننا، والتي أكثرها من وضع القصاصين الفرنساويين في النصف الأول من القرن الماضي وما قبله؛ لشدة ما فيها من تجسيم الخيال إلى حد التناهي في ترهيل العواطف، وإنزال الوهم منزلة الحقيقة؛ ولذلك كانت قراءة مثل هذه الكتب من شر العوامل في تربية الأحداث، وفي التأثير على كل من ليست أحكامه الذاتية قوية فيه. والمطلوب من الجرائد أن تبين بأجلى بيان قبح هذه الأعمال؛ لإماتة مثل هذه العواطف المرضية الباعثة عليها، لا أن تكون سببا لإنمائها.
فالرجولة الحقيقية تقضي على كل إنسان أن يقف أمام كل المصاعب كالطود الراسخ، يدفعها بما في الإمكان، ولا يهتز لها حتى تصرعه قوة واقتدارا، وإلا فهو نذل وجبان؛ فالشجاعة الحقيقية ليست بالانتحار، بل بالصبر على الكوارث.
ومن حسنات النصرانية أنها تحرم المنتحر من التمتع بحق الدفن الديني، ولا شك أن ذلك كان له أثر حسن في النفوس لما كان الدين في سطوته الأولى.
ولولا أنه ورد في مقالة الأخبار اليوم «حب الرجال للرجال» في بعض كلامها ما قد يحبب هذا الأمر لقصار العقول، الذين يؤثر فيهم كلام سواهم؛ لاعتبرتها إلماما بشيء من المباحث البسيكولوجية والسوسولوجية التي تتناول البحث في العواطف وقوى العقل بحسب أحوالنا الاجتماعية، ولما أتيت على هذا البيان الوجيز موضحا أن الانتحار ليس فيه شيء من رجحان العقل ولا نبل العواطف، ولا فيه شيء من الشجاعة التي يفتخر بها بين الأقران في الاجتماع؛ إنذارا للمترشحين الذين قد يستهويهم الكلام الذي هو على ضد ذلك، فيقعون في مثل هذا العمل المشجوب في كل شرع.
المقالة الرابعة والستون
الدين والحق
1
الإنسان لولا الجهل لما وقفت به مطامعه القريبة الخاسرة، وأضاعت عليه غاياته البعيدة الرابحة.
مطامع الإنسان القريبة هي مطامع الحيوان الذي يستخلص قوته بأنيابه من فم سواه، أو يأوي إلى مغارة لا يزاحمه فيها سواه، أو هي مطامع الإنسان الهمجي الذي يسعى لغذائه منفردا، فيقضي نهاره جائعا هالعا، ويبيت ليله خائفا حاذرا، أو هي أسرة تتقي أسرة، أو قبيلة تناهض قبيلة، أو قوم يهاجمون قوما، أو وطن يقوم على وطن. وغايات الإنسان البعيدة تناصر الإنسان في كل مكان، كأنه أسرة واحدة.
فلو عرف الإنسان أن تناصره هذا يوفر له القوت والكساء والمبيت، بحيث يكون آمنا على مقومات حياته؛ لما هجر الراحة إلى العناء، والسعادة الحقيقية إلى الشقاء.
على أن الإنسان من الحيوانات التي لا تستطيع أن تعيش إلا جماعات، فتألف أولا جماعات نبتت في أرض، أو انشقت من صلب. وهو أرقى الحيوانات تحصيلا من الاختبار، فرأى نفسه أنه أثرى بسعة الأرض، وتقوى بالتناصر، فقام يكتسح البلدان، ويضم إليه الأقوام يدمجها فيه ليزيد ثراء وقوة. ولقد مضى عليه ملايين ملايين من السنين قبل أن وصل إلى حالته اليوم.
ولكن الإنسان في كل أطوار ارتقائه في اجتماعه لم يسر سيرا حثيثا، بل اعترضته حوائل كانت تقف به تارة، وتتقهقر به أخرى، فسار متذبذبا، وسيسير كذلك زمانا طويلا قبل الوصول إلى غايته تلك.
وأهم هذه الحوائل مطامعه القريبة؛ لجهله وقصر نظره، فقام المصلح الاجتماعي ووضع له الشرائع تسد مسد هذا النقص، ولكن الإنسان لا يحول عن تلك المطامع مهما كان شأنه، فاستبد الوازع بهذه الشرائع، وقلبها إلى غرضه، فصار من الضروري إيجاد لجام لكبح جماح الحكام.
فقام المصلح الديني زمانا طويلا قبل الشارعين المعروفين، وقد كان الناس يجدون في كل شيء إلها لا يدركونه، ولكنهم يخافونه، ووضع الشرائع الإلهية، وملأها بالتقريع والإرشاد، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والإنسان مفتون بنفسه، لا يخلد فيها إلا إلى الخلود، لعل الحكام يرهبون فيرجعون عن ظلمهم.
شرائع اجتماعية أو دينية بائدة أو بادية قديمة أو حاضرة، غرضها واحد نبيل، وهو إصلاح حال الإنسان في العمران، وواضعوها من أنبل المصلحين غاية.
ولكن الإنسان الذي حارب آلهته في القديم لم يكن ليعجز عن أن يستخدم الآلهة أنفسهم لغرضه، فقام رؤساء الأديان يسطون بها على الحكام والناس، لا لمصلحة الناس، بل لمصلحتهم، ودامت الحرب سجالا بين الحكام ورؤساء الأديان، يتراوحون الفوز، يختلفون تارة ويتفقون أخرى على ظهر الإنسان حتى اليوم.
المصلح الاجتماعي والمصلح الإلهي كلاهما قصدا بشرائعهما أن يضعا في يد الإنسان سلاحا لخيره ضد ظالميه، فحوله الحكام ورؤساء الأديان لصد هذا الخير عنه، ووقفوا به سدا، حتى إنهم صرفوه عن أقرب الأشياء إليه، وهو اكتسابه علما من اختباره، ومن ينكر فلينظر إلى الإنسان في التاريخ، بل فلينظر إلى حال الإنسان اليوم في كل المعمورة بالنظر إلى ذلك. فحيثما كانت سطوة الحكام ورؤساء الأديان عظيمة كان الجهل كثيرا والعلم قليلا، وحيثما كان العلم قليلا كان الإنسان فاقد الحرية، قليل التسامح، صعب المساكنة. وبالضد من ذلك تزول منه هذه العيوب، وتتوفر فيه المزايا ضدها، على قدر نصيبه من العلم الصحيح. فدين الإنسان الحق هو العلم، ومزيته على سائر الأديان أنه نظيرها، يعلم الإنسان ما تعلمه الأديان، ويفوقها في أنه لا يجوز عليه ما يجوز عليها من تحكم الإنسان بها في الإنسان، ولا تقيده نظيرها بزمان أو مكان؛ فالدين الحق هو العلم الصحيح.
المقالة الخامسة والستون
شكوى المستأجرين
1
ومبدأ العرض والطلب
قام في هذه الأيام جمهور من سكان القاهرة والإسكندرية يشكون من تحكم أصحاب الأملاك أنهم يتقاضونهم أجورا فاحشة حق سكنهم، ولم يقصدوا بذلك سوى مظاهرة بسيطة ليس فيها شيء بعد من الاعتصاب الحقيقي، وإنما هي خطوة كبرى نحوه لعل الحكومة تتنبه، وتستعمل حقها الطبيعي المشروع، وتتداخل في هذه المسألة وغيرها من المسائل الأخرى الاجتماعية الحيوية للفصل فيها، بحيث لا يقع حيف على أحد لمصلحة الآخر.
ولقد ذكرت الجرائد ذلك بين مصوب ومخطئ، ومنهم من أراد أن يثبط عزائم المحتجين، فقال إن نجاحهم مشكوك فيه، لا لأن الشرائع عمياء، والآذان صماء، بل لأن المسألة حقوقية، والمرجع فيها إلى مبدأ اقتصادي (اكشفوا رءوسكم) هو مبدأ العرض والطلب.
ولو قال هذا القول قاض أو محام لعذرناه؛ لأن كل مؤمن معجب بمسجده، ولكنه قاله صحافي أقل ما يطلب منه ألا يضلل وهو في مقام مرشد. والجرائد تعتبر مشكاة الجمهور في المسائل الاجتماعية الكبرى؛ ليعرف الجميع على السواء كيف يجب عليهم أن ينظروا فيها؛ منعا للحيف واتقاء للقلاقل التي قد يجر ذلك إليها حرصا على مصلحة العمران نفسه.
ومنع الحيف واتقاء القلاقل لا يكونان بالضرب على عقول الجماهير بسجف التمويه، وعلى أيديهم بعصا الظلم؛ لأن ذلك يشبه أن يكون كذر الرمال على النار، فلا تلبث أن يكون لها ضرام، بل بتعريف كل واحد في الاجتماع ما له من الحقوق فلا يتخطاها، وما عليه من الواجبات فلا يقف دونها. وقول هذا الصحافي يعجبني أكثر من صمت أولئك الذين يعرفون جيدا وجه الحق، ولكنهم يحجمون عن إبداء رأيهم لئلا يخسروا رضا مشترك مالك، والصحافة عندهم ليست إلا حرفة من الحرف، فهي ليست عندهم سوى تجارة رابحة.
من المقرر البديهي الذي لا خلاف فيه أن الاجتماع لا يقوم بفرد ولا بطائفة من أفراد، بل بأفراد وطوائف من أفراد يؤدون أعمالا مختلفة على قدر اختلاف المنافع التي يحتاج إليها الاجتماع، بحيث إن كل واحد من أفراده يؤدي العمل الذي لا يستطيعه سواه، ويستفيد من الآخر المنفعة التي لا يستطيعها وحده. وقد شبه الطبيعيون العمران بجسم حي كبير هائل، وأفراده بمثابة الأعضاء في هذا الجسم، فكما أن الأعضاء لازمة لسلامة الجسم الحي، كذلك الأفراد لازمة لسلامة العمران.
ومن البديهي أن من كان هذا مركزه في الجسم يكون له فيه مثل ما عليه؛ لذلك كان لكل فرد في الاجتماع حقوق على الاجتماع نفسه، كما أن عليه واجبات له. ومن المعلوم أن من المنافع في الاجتماع ما هو ضروري لازم لا يمكن الاستغناء عنه من غير أن يؤذي الاجتماع في أهم أركانه، ومنها ما هو غير ضروري يمكن الاستغناء عنه بدون ضرر، والحق الذي للفرد من ذلك يسمى حاجيا في الأول، وكماليا في الثاني.
فالكمالي مثل التأنق في المأكل والمشرب والبذخ في لبس الوشي وسكنى القصور، فإذا استطعت ذلك فليس لأحد عليك اعتراض، ولا يمنعك أحد أن تتبرع وتهب إذا شئت، ولكن إذا أردت أن تبقى ضمن دائرة حقوقك وواجباتك، فلا سلطان لأحد عليك في أن يجبرك على أن تتعداها، وبقيت المسألة بينك وبين سائر أفراد الاجتماع مسألة تراض؛ أي مسألة «عرض وطلب».
ولكن الحاجي مثل حق الأكل والشرب والمسكن الضروري الذي لا يمكن الاستغناء عنه، وإلا هد الاجتماع من أركانه، هل يجوز أن يقال فيه مثل ذلك؟ فهل يجوز أن يقال لطالب الرغيف ليقتات، والماء ليروى، والبيت ليأوي إليه، إن المسألة مسألة «عرض وطلب» لا بد فيها من التراضي كالتراضي على ثمن خاتم من ماس أو مطرف من خز؟
ومعلوم كذلك أن قيمة كل شيء في العمران تزداد بكثرة الزحام حول المنفعة الحاصلة من هذا الشيء؛ أي إنها تتوقف على عدد الأفراد الذين يتألف منهم الاجتماع. فرغيف الخبز تعظم قيمته إذا كثر طالبوه، وكذلك يقال في المسكن وسائر مرافق الحياة الضرورية، فهل يجوز والحالة هذه أن تنصرف المنفعة من هذا الشيء إلى مصلحة طائفة من طوائف الاجتماع على حساب الغير، مع معرفتنا أن هذا الغير هو المقوم لقيمة هذه المنفعة، حتى يجوز أن يقال إن حقه من هذه المنفعة لا يقل عن حق صاحب الشيء نفسه؟ وإذا صح له هذا الحق جاز له صرف المنفعة إلى مصلحته، كما يجوز لصاحب الشيء صرفها إلى مصلحته أيضا؛ ولذلك كان من وظيفة الوازع القيم على مصلحة العمران أن يراعي في المنفعة مع ذلك ظروف الزمان والمكان أيضا لتعديلها لمصلحة الاثنين، وإلا وقع الاجتماع في الفوضى.
لأن في الاجتماع ناموسا هو ناموس التنازع، يحمل كل واحد فيه بما فيه من حب المحافظة على الذات على أن يجد ويكد بكل ما له من القوى للحصول على أحسن نصيب من هذه المنافع، إلا أن هذا الناموس الذي هو من أركان القوى الاجتماعية اللازمة لارتقاء الاجتماع، لا يبقى نافعا فيه إلا إذا بقي محصورا ضمن دائرة معلومة تتفق فيها المنفعة الخاصة مع المنافع العامة، وإلا انقلب إلى الضد، وأضر بالمصلحتين معا. فلا بد إذن من معدل لهذه المنفعة لتبقى ضمن دائرة هذه الحدود؛ ولذلك كان من أول واجبات الهيئة الحاكمة التي يهمها أمر الهيئة المحكومة النظر في هذه المسألة الحيوية كلما دعت الحال إلى ذلك.
أنا لا أجهل أن هناك ناموسا يده فوق كل يد يعدل كل شيء في العمران، وهو ناموس التكافؤ، ولكني أعلم حق العلم أنه قبل أن يتم ذلك على موجب هذا الناموس يقع الحيف على الكثيرين ، وهذا مضر بالعمران. ومن وظيفة الوازع اتقاؤه، وهذا لا يكون بإطلاق مبدأ «العرض والطلب»، وجعله أساس كل المعاملات على حد سواء، غير فارق بين الضروريات وغير الضروريات؛ أي بين الحاجيات والكماليات.
ولقائل إن الساكن مخير في أن يسكن البيت الذي يناسبه، وهذا يساعد على هذا التعديل. وعلى ذلك أجيب بأن الشكوى ليست من ذلك فقط، بل من اغتنام أصحاب المساكن غالبا فرص وجود السكان فيها لكي يحرجوهم، إما بقبول الزيادة وإما بالخروج؛ لعلمهم ما عليهم في ذلك من الصعوبات، فيضطرون لقبول أحد الشرين، وإلا عرضوا أنفسهم لشر ثالث، وهو قضاء القانون عليهم بناء على مبدأ «العرض والطلب» المعتبر للمالك حقا مقررا.
على أن في جميع الشرائع متسعا لذلك، إلا التي ضربت بالقانون، وأكثر الحكومات حتى تلك التي نظن بأنفسنا أننا أرقى منها تهتم بالأمر. وأما نحن فنأكل الرغيف ممزوجا بالتراب ونشارة الأخشاب، ويتقاضوننا أسعار المآكل كما يشاءون، ويتحكمون في أجور المنازل، وينصرهم القانون؛ وما ذلك إلا لأن شرائعنا صارت بهذا التحوير والتبديل نتفا من شرائع غير ناضجة، وحكومتنا خليطا من حكومات متنابذة. فنحن اليوم معهما كما في المثل القائل: «أسلم الظهر، ومات العصر.» فعيسى أنكره، ومحمد لم يعرفه. فنحن لم نبلغ فيهما مبلغ الحكومات الراقية، ولا حفظنا من شرائعنا حسناتها.
وهنا لي كلمة أوجهها إلى المحتجين، فأقول لهم أنتم محقون في شكواكم، وأنتم في الاجتماع أعضاء لازمون، لكم عليه مثل ما له عليكم، وأنتم مظلومون أيضا، وظالمكم حكامكم وشرائعكم، فلا تنحل عزائمكم، فقط أنصحكم أن تلوذوا في مطالبكم إلى جانب الحكمة، حتى إذا كثر عددكم واشتد تضامنكم، ولم ينصفكم الذين يجب عليهم أن يهمهم أمركم؛ كان لصوتكم صدى فوق كل صوت، وليدكم مدى فوق كل يد.
المقالة السادسة والستون
الحاجيات والكماليات
1
قرأت تعليق المؤيد على ما كتبته بخصوص شكوى المستأجرين ومسألة «العرض والطلب»، وشكرت لسعادة صاحبه الفاضل الشيخ علي يوسف لاهتمامه بالنظر في المواضيع التي بحثت فيها بحثا إجماليا، وإن كان قد خالف نظره نظري في بعضها؛ لأن كلامي لم يذهب عنده من غير صدى، ولعل ما علقه المؤيد لا يكون الوحيد والأخير، وأنا منتظر أن جمهور المفكرين يشتركون في هذا البحث الاجتماعي الاقتصادي، الذي هو لنا أهم جدا من جميع المباحث الأخرى العقيمة السياسية، وما نحن في مركز سياسي يعول فيه على كلامنا بشيء عظيم، فلا أقل من أن نهتم بشئوننا الداخلية؛ لعلنا بتعمقنا في المسائل الكبرى الاجتماعية نلقي أساسا متينا نقيم عليه بناء إصلاحنا المنشود، ولا سيما أن كلامي أعم من أن يقتصر على غرض واحد من أغراض الاجتماع، أو طائفة واحدة من طوائفه، وسأنتظر ما يكون لجمهور كتابنا من الجولة في هذه المواضيع لاستئناف البحث معهم فيها على ما يقتضيه المقام حينئذ.
فإني أشرت في كلامي الماضي إلى جملة أمور اعتبرتها من النقائص في نظام هيئتنا الاجتماعية، سواء اقتصرت علينا وحدنا أو شملت أرقى الأمم اليوم. ووجود النقص في هيئة راقية ليس بحجة علينا للوقوف حيث نحن واقفون، وللإغضاء عن عيوبنا، ساوت عيوبهم أو زادت عليها، مكتفين بهذه المقابلة، وناظرين فقط إلى مقامنا النسبي بالقياس إليهم فيما زاد منها، فما هذا بالدليل الذي يجب أن يمنعنا عن أن نفتكر ونصبو إلى الأحسن. كيف لا والقلاقل التي نراها تمزق أحشاء المجتمعات الراقية، كما نسميها اليوم؟ أليست دليلا كافيا على أن تمدنها الذي تفوقنا فيه شامل لعيوب كثيرة هي سبب هذه القلاقل؟ مما يدل على أنه ليس التمدن الحقيقي، بل طور انتقال إليه، أفلا يجوز لنا، وإن كنا أحط ممن هم أرقى منا، أن نسعى لكي نبني على أساس أحسن؟ وهل من الحكمة أو من العدل إذا كانت نظاماتنا المعتلة المختلة تقيم الحوائل دوننا ودون مطالبنا أن نعتبر هذه المطالب أفكارا عقيمة وأحلاما كأحلام الشعراء؟ وكم من هذه الأحلام الاجتماعية التي كانت تعد هكذا في عصور خلت صارت حقائق باهرة اليوم.
والمسائل التي ذكرتها في مقالي السابق تنحصر فيما يأتي:
أولا:
حق الفرد على الاجتماع كحق الاجتماع على الفرد.
ثانيا:
إطلاق مبدأ «العرض والطلب» على جميع معاملات الإنسان الحاجية والكمالية نقص في الشرائع وحيف عظيم.
ثالثا:
المسكن كالقوت والفحم ... إلخ حاجي، وأهم من هذا الأخير، وما يجوز على الواحد يجوز على الآخر.
رابعا:
إذا عسر الفصل في مسألة المساكن فليس لأن المسألة يجب أن تخرج عن هذا الحد، بل لأن النظامات في الاجتماع ناقصة.
خامسا:
شرائعنا نحن خصوصا ناقصة نقصا مركبا، والحيف يقطر منها من كل أطرافها.
سادسا:
حكومتنا أقل ما يقال فيها إنه لا يصح أن تعتبر حكومة ذات نظام معلوم، فهل من راء غير ذلك؟ ومجال القول ذو سعة.
المقالة السابعة والستون
حق لا صلف
1
وواجب لا رحمة
متى عرف الإنسان في الاجتماع واجباته كما يعرف حقوقه قلت الشرور من بني البشر.
ومتى فهم الإنسان جيدا معنى قوله: «حب قريبك كنفسك.» عرف غرض الشارع الاجتماعي، ونال أجر عمله، إن لم يكن في الدارين ففي هذه الدار أولا.
ومتى عمل بهذه القاعدة الذهبية: «وكما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا أنتم أيضا بهم.» علم أن الاجتماع لا يرجى صلاحه إلا بالعدل في التعاون.
ومتى فهمنا أن الاجتماع لا يقوم إلا بأفراده، علمنا أن حق الفرد على الكل مثل حق الكل عليه.
ومتى علمنا أن هذه الحقوق طبيعية لا وضعية، علمنا أنه لا يمكن الإخلال بها حتى يختل نظام الاجتماع نفسه، وعلمنا أن كل ما نصنعه في الاجتماع من حسن نثاب له، وأن كل ما نأتيه من قبيح نعاقب عليه، لا بالشرائع الوضعية، بل بالشرائع الاجتماعية الطبيعية نفسها.
فإن أصلحنا حال الفقير دفعنا عنا شرور الجنايات، وشرور الأوبئة من فساد أخلاقه، وفساد معيشته بقذارته.
وإن اعتنينا بالمريض دفعنا شرور الأمراض وانتشارها بيننا وتأصلها فينا، فما نفعله مع كل واحد في الاجتماع يجب أن نفعله حرصا على مصلحتنا، ومصلحة الاجتماع نفسه التي هي مصلحتنا أيضا، وما نطلبه منه يجب أن نطلبه كذلك.
فلا استرحام إذن ولا تمنين .
وما دفعني إلى هذا القول إلا ذهولنا عن هذا المبدأ الذي تؤيده نواميس الاجتماع، وآراء المصلحين، والشرائع الدينية نفسها.
هذا الذهول منا واقع في كل أعمالنا، كما تدل عليه شرائعنا المدنية، ولو أقرها الإجماع فالإجماع لا يكسبها متانة ما دام هو نفسه عمل عقل متعدد في رءوس كثيرة، ليس للكثرة فيه مزية على العقل الواحد.
وكما يدل عليه أيضا سلوكنا نحن أنفسنا في أكثر مطالبنا، وخصوصا سلوكنا اليوم في مطالب المستأجرين وسلوك اللجنة نفسها المدافعة عن حقوقهم.
وكأني بالجميع رأوا تراكم الصعوبات من حوائل النظامات ومجرى الأفكار، فقاموا يستلينون القاسي من الشرائع بالاستعطاف، وينبهون الغافل من الحكام بالاسترحام، كما فعلت اللجنة في عريضتها إلى الحكومة، وكما فعل مكاتب البصير نفسه؛ فإنه بعد أن نصر المستأجرين رأى كل هذه الحوائل، فقام يطلب إلى الحكومة أن ترأف بهم كما يرأف الله بعباده. وأخشى أن تعول الحكومة على هذا الهز بالحرف فتكون النتيجة سلبا، وليس لهم هنا عزاء كما لهم هناك في الحياة الأخرى.
فأردت أن أنبه هنا إلى أن مطالب الاجتماع لا تدع سبيلا للواحد أن يمن فيها على الآخر، فالاجتماع كما قلت سابقا أكبر مراب، ولكن على عكس المرابين يرد كل شيء برباه، ولو تبرعت به عليه تبرعا، لعل الأفكار تنصرف إلى النظر في هذه المباحث وأمثالها من وجه التضامن في الحقوق والواجبات؛ فإن ذلك أحق وأنجع.
ولأنه يظهر حقيقة أن أكثر الناس يظنون أن مثل هذه المطالب تهجم غير معقول، وأحلام لا تنال، ودليلنا على ذلك جريدة الأخبار نفسها، مع ميلها فيما نظن إلى نصر المحتجين، فقامت تكتب ما يشم منه رائحة التثبيط. ولعله التوى عليها الأمر لانشغالها اليوم بأمور غير هذا العالم.
على أنه يعجبني جدا ما كتبته جريدة الظاهر، مما يتضح منه جليا أن هذه الأحلام إنما هي حقائق، وقد طمحت إليها أنظار العالم الراقي حتى صارت فيه في حكم الشرائع.
وقد بحثت في ذلك جريدة المقطم في مقالة ضافية بحثا اقتصاديا محكما تذليلا للصعوبات، وتقريبا للمنفعة المشتركة .
والحق يقال إن الشر كله من تصرف بعض الملاك مع المستأجرين المقيمين في ملكهم منذ زمان اعتمادا على الصعوبات التي تنالهم في انتقالهم من مكان إلى آخر؛ فلذلك يختارون أخف الشرور بالبقاء على القديم أو بقبول الزيادة مضطرين، وإلا فإن هناك ناموسا اجتماعيا طبيعيا لا بد أن يعدل كل شيء. وإذا طالت الحال على ما هي - ويخشى أن تطول وتشتد ما دامت الحكومة لا تبدي ولا تعيد - فلا بد من نزول الأجور إلى حد يفوق حد التصور، خصوصا بهذا التشبث من الفريقين.
ونعم ما قام به المحتجون من تنبيه الجمهور إلى ما له من الحقوق للمطالبة بها، ولو لم يكن الآن لمثل هذه المظاهرات سوى تمهيد العقبات الاجتماعية للمستقبل لكفى بها نفعا، إلا إذا اشتد الفريقان، فتكون الفائدة في جانب الأقوى، ولعلهما لا يفعلان حرصا على منافعهما المتبادلة.
المقالة الثامنة والستون
حرية الطباعة وقانون المطبوعات
لم يكن للحكومة المصرية قانون أو مشروع قانون حقيقي للمطبوعات قبل سنة 1879 و1880؛ لأن الحكومة قبل هذا التاريخ كانت حكومة استبدادية، قانونها في الواقع إرادة الحاكم، ولو قيدت هذه الإرادة بنظام في الظاهر، ولأن الجرائد كانت قبل هذا التاريخ قليلة أيضا، ثم كثرت الجرائد، واشتدت المراقبة الدولية على أعمال الحكومة، فرأت هذه أن تضع قانونا للمطبوعات، فأوعزت إلى أحد عمالها الأجانب المقتدرين «بوريلي بك» أن يضع مواد هذا القانون، وظنت أنها تستطيع أن تطلقه على سائر المطبوعات العربية والإفرنجية. والظاهر أنه لم يجد أصلح لذلك من قانون فرنسا، بما فيه من بقايا الإمبراطورية الثالثة، فساء ذلك جمهور الصحافيين، وأخذوا يتقمقمون.
فكتبت حينئذ مقالة تحت اسم «حرية الطباعة»، ونشرتها في جريدة مصر الفتاة التي كانت تحرر باللغتين الفرنساوية والعربية، وتنشر في الإسكندرية، والتي أنشأها في ذلك العهد
1
بعض رجال الحرية من وطنيين وأجانب، تحت إدارة أديب إسحاق صاحب جريدة مصر والمحروسة، وكان من أنصارها العاملين المتحمسين «غوسيو» اليوناني، أحد عمال بنك «الأنجلو إجيبسيان» قبل أن يرقى إلى رئاسة إدارته، وكان ينشر مقالاته فيها بالفرنساوية، فتترجم إلى العربية.
وفي هذه المقالة التي فقدت مني
2
ذهبت إلى أن الآلات التي يخترعها الإنسان ليست سوى أعضاء إضافية متممة لأعضائه الطبيعية، فلا يجوز أن تعامل معاملة استثنائية تخالف معاملة الأعضاء الطبيعية نفسها. فكما أنه لا يشترط على الإنسان لاستعمال رجليه خوفا من أن يسعى بهما إلى الشر، أو يديه خوفا من أن يجني بهما؛ لا يجوز أن يشترط عليه كذلك لاستعمال أعضائه الإضافية. فإذا جنى بها فالقانون الذي يتكفل بمعاقبة جنايات الأعضاء الطبيعية، وهو القانون العام، يجب أن يتكفل بمعاقبة جنايات الأعضاء الإضافية أيضا.
وكأني لم أكتف بذلك، بل اعتبرت واضع بنود هذا القانون مسئولا أكثر، فكأني نظرت أن الحكومة ألفت الاستبداد كسائر الحكومات المتقهقرة، فهي لا تدرك مزايا الحرية الصحيحة المقرونة بالحزم؛ لأن ذلك يتطلب نزاهة وعلما واختبارا لاستخدام الشدة اللازمة التي تقتضيها فكرة الخير من دون أدنى تذبذب، وقلما كانت الحكومات الشرقية نزيهة والمستبد صارم ظالم، ولكنه غير حزوم. وأما واضع هذا القانون - الأجنبي - فلا يجوز له أن يجهل هذه المزايا، وهو يومئذ طريد الحرية على المشهور، فكأني نظرت إليه نظرا أعلى لزيادة تحقير عمله في تجاهله، فأرسلت له المقالة المذكورة ضمن خطاب خاص مختصر، كتبته له بالفرنساوية، وضمنته الكلام الآتي:
عجبت كيف أنكم قبلتم أن تخطوا مثل مواد هذا القانون وأنتم مطرودو الحرية من بلادكم، ولكن الظاهر أن لسماء مصر تأثيرا على العقول.
وأمضيت. ثم مضت السنون وهذا القانون حبر على ورق، ولا سيما أن الدول الممتازة أبت أن تصادق عليه. وقد راق للحكومة مرة - وقد غلبتها نعرة الاستبداد - فصادرت إحدى الجرائد المنتمية لحكومة أجنبية، فكلفها ذلك تعويضا واعتذارا.
وبقي هذا القانون سلاحا مثلما في يد الحكومة كخيال الكروم عند غيبة الناطور، أو حلية - وإن لم يكن كذلك - مدفونة كخطوط الحكومة العثمانية الإصلاحية في العهد الماضي - حساب العهد الجديد لم يدخل في التاريخ بعد - حتى سنة 1888 على عهد الوزارة الفهمية، حيث كان الباعث على إخراجه من قبره سلوك هذا العبد الفقير المخدش للأذهان. وحتى تلك الساعة كنت مخدوعا بنفسي، فلم أكن أعلم بي ذلك، غير أن حكم الإنسان وإن كان قد يجوز على نفسه أحيانا، إلا أنه لها لا يجوز.
ولبيان ذلك لا بد لي من تمهيد صغير آتي فيه على صفحة تاريخية صغيرة. •••
في أول سنة 1886 أنشئت مجلة «الشفاء» في الطب، ولم يكن حتى الساعة صحيفة طبية في مصر، ومجلة الطبيب التي كانت تصدر في بيروت كانت قد توقفت، وكان الطب في مدرسة القصر العيني والمدرسة السورية الكلية لا يزال يعلم باللغة العربية. وقد اشتركت مصلحة الصحة بمائة وخمسين نسخة منه توزعها على أطبائها. وأول ما سعيت به عند إنشائه تأليف جمعية طبية مصرية عربية، وما مرت أشهر حتى ذاع صيت الشفاء وانتشر، وبلغ المشتركون أو بالحري الملصقة بهم المجلة عددا وافرا، أيقنت منه النجاح في الغايتين العلمية والمالية، ولكن إلى حين.
وكأن خبر هذا النجاح كان مهمازا حرك بعض محبي المعارف لإنشاء صحيفة طبية أخرى. وبالفعل ما دخل الشفاء في سنته الثانية حتى كانت مجلة «الصحة» المعروفة قد صدرت، فاستقبلها الشفاء بالترحاب، كما استقبل آدم حواء، وأصبحنا كلانا نرتع في فردوس مصلحة الصحة. والظاهر أن هذا الفردوس لم يكن ليسعنا كلينا، غير أن مجلة الصحة كانت ذات ضلع مع إدارة الصحة، وذات ضلع ناعمة وأنعم من ضلع الشفاء، فأول ما شطحت نطحت، كما يقول وحيد بك، فنشرت في أعدادها الأولى كلاما مفاده أن بعض الناس يرمي مصالح الصحة المصرية بتعضيد الصحة لمعاكسة الشفاء، إلى آخر ما هنالك. وصار رئيس مصلحة الصحة يقرأ الشفاء بعد أن كان لا يقرؤه، ويجد في ثناياه مغامز كثيرة ضده. وصاحب الشفاء ضيق الحوصلة، تأتيه بالورب فيصادرك وجها لوجه، فما طال الأمر حتى صار القرد كما في المثل العامي يلعب بين مصالح الصحة والشفاء؛ أي اتسع الخلف بينهما، وانتهى بسلب الشفاء تعهد مصلحة الصحة باشتراكاتها، بعد أن أجبرها بطريق المحاكم على دفعها له عن السنة الثالثة أيضا.
على أثر ذلك اشتد الخلف بين آدم الشفاء وحواء الصحة، حتى صارت الحال بينهما كما هي بين أكثر الرجال والنساء، فصار الشفاء إذا قال هذا أبيض، قالت الصحة بل أسود، ولكن الصحة كانت في كل ذلك أكثر لباقة ، وإن كان الشفاء أوضح بيانا وأثبت حجة. •••
ثم حدث أن الجمعية الطبية المصرية العربية المنشودة تألفت، وعقدت جلستها الأولى - ولم تطل بعد ذلك جلساتها ككل مساعي الشرقيين - فقام الشفاء على عادة الجرائد يتبجح في أنبائه عنها بقوله: «هذا الذي طالما نشدناه وطلبناه وتمنيناه و... و... و...» إلى آخر ما هنالك من تبجحات الصحف التي لا يتم أمر في العالم إلا وقد سبقت وأنبأت به. فلم يرق للصحة أن تكون الجمعية قد تألفت إجابة لنداء الشفاء، فقامت تدفع مفترياته على زعمها بما كان له كالنقطة للحوض الملآن، أو الشرارة للأفعال المتجمعة؛ إذ إن الشفاء خلافا للقياس الطبيعي كان قد حبل من الصحة لكثرة مساعيها المستترة، وصاحب الشفاء ليس بالصحافي المدرب، ولا هو بالمنتجع الذي يعرف كيف يستفيد، وساءه ما يرى في طبائع أهل الشرق من مساعي التنابذ والتخاذل والمعاكسة والمواربة، حتى تموت فيه كل نفس ناهضة، أو تنقلب إلى الضد، فكتب مقالة شديدة اللهجة ينتقد أهل الشرق في ذلك انتقادا مرا، من كبارهم إلى صغارهم، ومن أمرائهم إلى صعاليكهم، وختمها بهذين البيتين:
سبقتهم إلى التنبيه طرا
بعزم ثابت حر قوي
وكم حرضتهم تحريض عيسى
ولكن ليس لي سيف النبي
فجاء هذا الكلام للخصوم «شحمة على فطيرة»، وتذرعوا به لدى قلم المطبوعات - وكانت طبلة أذنه مستعدة - إلى إصدار إنذار مشدد. قيل - والعهدة على الراوي - إنهم مددوا الوقت حتى أصدروه، ثم ذهبوا وأمضوه من الناظر في بيته. وفي هذا الإنذار تهديد للشفاء بالتعطيل إذا عاد إلى تخديش الأذهان عملا بالبند الثالث من قانون المطبوعات. •••
حينذاك خطر ببالي ما كتبته في هذا القانون يوم سنه، وما كتبته إلى واضع بنوده، فنظمت كل ذلك شعرا في عرض الكلام على الإنذار، وأثبته في الشفاء، قلت:
عجبنا كيف أخلفتم
عهودا قد أجلتكم
شرعتم غير شرع الحق
ما هذا الذي جئتم
كأنكم أضلتكم
سماء قد أظلتكم •••
لكم أعضاء قائمة
بها الأفعال ما عشتم •••
وأنتم مثلنا تدرو
ن ما بالفعل أنكرتم
بأن المرء مخترع
لآلات بها سدتم
لآلات متممة
لأعضاء لها حزتم •••
فلم نسمع بمخلوق
لعل سمعتم أنتم
لينطق أو لكي يمشي
يقال له كما قلتم
يقال له ألا استأذن
وسبقتم وضمنتم •••
فإن نخطئ بأيدينا
نعاقب بالذي صنتم
وحكم متممم الأعضا
ء حكم العضو لا زلتم
وكان ذلك خير ما ظنت الحكومة أنها تقدر أن تصلني به على خير ما ظننت أني أقدر أن أخدم الأمة والحكومة به، اللهم إلا إذا عدت الأمة والحكومة ضدين متنابذين. فقد قال لي بعضهم يوم انتقدت قرار الجمعية العمومية في مسألة القنال ما أرويه بالحرف، قال: «اليوم الوحيد الذي «فازت» الأمة فيه على الحكومة قمت يا حضرة العالم والفيلسوف تنتقد عملنا، فدعنا في جهلنا، ودع علمك لبلادك.» وحتى الساعة لم أكن أدري أن الحكومة اليوم تشتغل بفكرة الشر، وأنها عدوة الأمة، وإن كنت أعتقد أن الخطأ قد يتسرب إلى أشد الأعمال إخلاصا. وقد مر علي وأنا في مصر نحو «أربعين سنة» - ما كفى «باناس» اليوناني وأقل منه لأن تتنازعه الوطنية الفرنساوية - شاهدتها فيها في الحالين، وخبرتها في الطورين، وتعزيتي الكبرى أن وطني أعم من أن ينحصر في بقعة من الأرض، وأن مصر الراشدة أعدل من أن تجور علي بمثل هذا الحكم، وقد خبرتني صديقا مخلصا، كما خبرتها بلادا تنسيك بحسن وفادتها الأوطان، وقوما يعيضونك بجميل عطفهم أهلا بأهل وإخوانا بإخوان، أو أن الصديق الصادق هو الأعمى في كل حال، وإلا فهو العدو اللدود! وبئس مثل هذا الصديق. •••
ودام إصدار الشفاء بعد هجر مصلحة الصحة له سنتين أخريين أيضا، ولكني اضطررت أخيرا أن أوقفه لأن «حساب الحقل ما وافق حساب البيدر»؛ فإن المشتركين الذين كانوا كثيرين في السنة الأولى على الورق، وكانوا سبب هذا النقار والمزاحمة على النضار، كانوا قليلين عند الدفع، فقمت أنقيهم سنة فسنة حتى أصبحوا أخيرا كصبيرة طمسن
3
وزد على ذلك حسن إدارة صاحب الشفاء في الأعمال المالية، كما دلت عليه مضارباته بعد ذلك بالبورصة لعله يثري، ويستطيع وحده أن يضع أساس مشروع مستشفى طالما حث السوريين عليه، فأبوا إلا أن يتسكعوا بمرضاهم على أبواب المستشفيات الأجنبية. وكأن البعض اليوم يريدون أن يكذبوا على الناس بعد مماتهم، كما كانوا يكذبون عليهم في حياتهم، وحتى الساعة ليس لهم ذلك، وما درى أنه بذلك انتقل من «الشفاء» إلى بحبوحة «الشقاء»، وصاحب الشفاء قليل الصبر لا يحب الأمور إلا مستعجلة. وقد أشار إلى كل ذلك في أبيات قصيدة نظمها يصف مسعاه هذا وحبوطه فيه، ووقوعه في حبائل المشاكل، قال:
قلت علي وحدي فهبت بي الأر
زاء تترى رزءا فرزءا دراكا
إلى قوله يعزي نفسه:
رب قوم عابوك والعيب فيهم
لو سما فرعهم لنلت السماكا
يفشل المرء لاقتضاء انطباق
إن تولى أوهى به الإدراكا
ويهون الفتى بأرض هوان
لو تسامت لزاحم الأفلاكا
طال سيفي في غمده مستقرا
وهو لو سل قلما أن يحاكى
يصدأ السيف أن يغل وسيفي
إن تجلى يطاول الأملاكا
كم جلا الحق لو درى الناس معنا
ه لما الظلم ساد فيهم وصاكا
والتبجح رأس مال المفلس، وصاحب الشفاء ليس من غير طينة سائر الناس. •••
وبعد أن أوقفت الشفاء بأيام قليلة توجهت ذات يوم إلى نظارة الداخلية، وكان ذلك على عهد الوزارة الرياضية بعد سقوط الوزارة الفهمية. فلما قابلت الوزير الخطير رجل مصر الكبير سألني: «ما شأنك؟» قلت له على الفور: «جئت لأعطل صحيفة الصحة.» فنظر إلي مندهشا، وقال لي: «كيف ذلك؟» فابتسمت حينئذ وقلت له: «قد أوقفت الشفاء. وفي اعتقادي أن الصحة «باراسيته» فلا تستطيع أن تعيش بعده.» وهكذا كان، وانقضى تاريخان في الصحافة الطبية كان عمرهما قصيرا.
وأما اليوم، فلا شفاء ولا صحة عادا ينفعان بعد أن تحول التدريس في مدارس الطب في مصر وسوريا إلى الفرنساوية والإنكليزية، حتى فقدت اللغة العربية العلمية بذلك أقوى ركن لها، وصار من الراجح ألا يعود لها ذلك لعدم وجود علماء باحثين فيها، ولسرعة سير العلوم الطبيعية حتى صار يصعب عليها اللحاق بها. •••
وكأن هذا الإنذار الذي ضربت به كان الأخير، وأهمل بعد ذلك العمل بقانون المطبوعات، وقامت الحكومة تقاضي الصحافيين أمام المحاكم، وتفتحت لهم أبواب السجون، وأمها منهم الصالحون والطالحون. فقمت حوالي سنة 1898 بحركة في الصحافة، وضممت إلي مدير المؤيد لالتماس العفو عن مجرمي الأقلام، وكان بعضهم مسجونا لذنوب ضد العائلة الخديوية، والبعض الآخر ضد الدولة المحتلة، وكأن المعية كانت أقرب إلى العفو، لولا أن الوكالة البريطانية أبت أن تتداخل في الأمر بحجة أن ذلك ليس من خصائصها، فلم نفلح.
ثم إنه في سنة 1901 كثر التطفل على الصحافة والتهجم على أعراض الناس، خصوصا بما حل من طيف حكومة الآستانة على مصر، فانتقلت الجاسوسية إليها، وأفسحت للجرائد المتدنية موارد الكسب من طرقها غير المشروعة، وبالاتفاق مع الجواسيس، حتى ضج الناس، وشكا أعضاء الجمعية العمومية من هذه الفوضى، وطلبوا إعادة العمل بقانون المطبوعات، فكتبت المقالة الآتية تحت عنوان «فوضى المطبوعات».
4
وهي هذه:
تشكت الجمعية العمومية من تهجم بعض من اتخذ الصحافة وسيلة للوقيعة في الناس، ونهش أعراضهم، وانتهاك حرماتهم، وطلبت من الحكومة وضع حد لما سمته الجرائد «فوضى المطبوعات»، وتبعها أصحاب الجرائد المهمة في هذه الشكوى، وأخذ كل منهم يصف الدواء بحسب ما تراءى له. فمنهم من طلب وضع قانون للسيطرة على المطبوعات، وهو دواء ليس فيه شيء رادع، على ما به من تقييد حرية الصحافة، والرجوع بنا القهقرى إذا تبعته الحكومة. وهذا لا ينطبق على غايات الحكومات الصالحة التي من واجباتها تسهيل سبل الارتقاء. وذهب غيرهم - ومذهبهم أقرب إلى الصواب - إلى أن القانون كاف لتأديب كل معتد. على أن الباحث في أمراض الاجتماع كالباحث في أمراض الجسم، يجب عليه لمعرفة الدواء أن يتعرف أولا أسباب الداء. وليس من ينكر أن المتطفلين اليوم على صناعة الكتابة، المتدنين بها إلى الطعن المحكي عنه، لا يقصدون بذلك سوى التهويل لاستدرار المنفعة لهم، وما الذي يا ترى جرأهم على ذلك؟ لا شك أن الذي فتح لأصحاب الأخلاق الفاسدة هذا الباب الواسع هو الجاسوسية التي فشا داؤها في هذه البلاد في السنين الأخيرة إلى حد لم يعهد له مثيل في مصر، حتى في أعظم أيام استبداد حكامها السالفين، وما يترتب على هذه الجاسوسية من الاسترضاء.
وقد كثرت شكوى الناس والجرائد من هذه الرذيلة التي انتشرت في طول البلاد وعرضها، واستغرب العقلاء منهم كيف أمكن لها أن تمتد هذا الامتداد في عهد الاحتلال (راجع تاريخ أكثر هذه الوريقات الساقطة)، وكثيرا ما يكون للجواسيس اليد الطولى في الحض على هذه المنشورات البذيئة، فيقدمون بها التقارير، ثم يسعون للاسترضاء، فإذا نالوه اقتسموا المنفعة حتى صارت هذه الرذيلة، أي الجاسوسية وما يترتب عليها، أعظم وسائل الكسب في هذه الأيام، وحتى كادت تأخذ بتيارها الجارف الكتاب المجيدين بما تزين لهم من المطامع.
فإذا كانت الجمعية العمومية والجرائد وعقلاء الأمة وكبراؤها يريدون أن يضعوا حدا لفوضى المطبوعات كما يقولون، فعليهم قبل كل شيء باستئصال الأسباب المحرضة عليها قبل أن تجلب على البلاد شرا ليس في الحسبان. فإذا فعلوا ذلك فأنا أضمن لهم بأن المطبوعات تتهذب من نفسها بقوة الانتخاب الطبيعي الذي يميت كل ما كان بذيئا بإغفاله، ويحيي كل حسن بالإقبال عليه، فلا يقدم حينئذ على الكتابة إلا كل نحرير واسع الاطلاع، نبيل الغاية، يقصد النفع لنفسه من حيث ينفع سواه. وإذا قلبت الآية وصرفت القوة المبذولة الآن لزرع أغراس الجاسوسية، ونشر بذورها لإفساد أخلاق الناس بها، واستخدمت ما لها من الوسائل لتنشيط الكتاب المجيدين؛ فإنها تنقي الكتابة من الأدران التي نشكو منها الآن بأسرع مما يظن، وتخدم البلاد خدمة يشكرها الناس عليها، ويذكرها لها التاريخ بالإعظام. انتهى.
وبالرغم من إلحاح الجمعية لم يرجع إلى العمل بهذا القانون؛ لأن مبادئ اللورد كرومر لم تكن ترضى به، ثم سافر اللورد كرومر وخلفه السير غورست، ودامت الحال كأن لا حكومة حتى سقطت الوزارة الفهمية الأخيرة، وقامت الوزارة البطرسية، فكانت باكورة أعمالها إعادة العمل بهذا القانون المدفون، فأوجب ذلك زيادة الشكوى على غير فائدة؛ لأن القانون لم ينفذ بالحرف، والتهويل به أحرج الطبائع التي قد تناسته. والظاهر من مسلك الوزارة الحالية أنها تنوي تنفيذ هذا القانون بأقصى شدته، غير أن الجمعية العمومية التي كانت تطلبه في الماضي ليست ميالة إليه كثيرا اليوم.
على أن العمل بهذا القانون لا ينيل الحكومة في رأينا الغرض الذي تتوخاه منه، إلا إذا كانت تريد أن ترجع بنا إلى الاستبداد الأعمى. وهذا لا ينطبق على مصلحة البلاد خصوصا اليوم، ولا ينطبق على مبادئ الحكومة المحتلة، وإن انطبق عليها فلا ينطبق على مبادئ أمتها، فسيكون وجوده علة للاضطراب والتشويش، تارة من هنا وتارة من هناك.
وإذا كان إلغاء العمل بقانون المطبوعات في الماضي أوجب التطرف من البعض والتهجم من البعض الآخر، فإن إعادته في العهد الأخير لم تأت بالمرغوب، وزادت الشكوى أيضا؛ وذلك لأن الحكومة في الأمرين لم تكن متوافقة مع نفسها، فلم تكن حازمة في الحرية ولا مستبدة في المظاهرة بالشدة، بل كانت حكومة تهويل متذبذبة في الحالين، تشد تارة وترخي أخرى، وما من حكومة تسلك هذا المسلك إلا وترمي البلاد هي نفسها في الفوضى، ثم تسأل الآخرين بعد ذلك عما هي وحدها مسئولة عنه.
فقانون المطبوعات اليوم لا فائدة منه، ووجوده مضر في كل حال، بل يجب دفنه إلى الأبد. والحكومة الحازمة يجب ألا تخشى الحرية، ولا يخشاها إلا الذي لا يعرف ماذا يريد أو ماذا يلزم، فيتذبذب متراوحا بهذا الذكاء الشرقي الذي يعده البعض دهاء، نعم هو دهاء ولكنه دهاء حبله اليوم لا يطول؛ إذ لم يعد ينفع في هذا العهد إلا الصراحة المقرونة بالعلم والحزم. فلا تجرب الحكومة اليوم ما قد يجر لها المتاعب غدا، وعلى البلاد الوبال. فلا تخش الحرية، ولا تخش معها الضرب بيد من حديد عند اللزوم لتقويم الأخلاق ما دام رائدها فكرة الخير، ولتعمم قبل كل شيء التعليم الحر الذي لا يشوبه كدورة الأغراض، ولا أقل من أن تأتي ذلك في المدارس الأميرية، تاركة لأصحاب المنازع الدينية المختلفة أن يتعهدوها في معاهدها الخصوصية، ولا تجار الجهلاء الذين لا يفهمون ما يطلبون، ولا الحكماء الذين يتوهمون أن سياسة الصراحة لا تنطبق على العمل - ولا يدرون أنهم بذلك يرسخون سواها - ما دام المسلك ليس فيه مصادرة لأحد في خصوصياته ، حينئذ يقضي ناموس التنازع الطبيعي نفسه القضاء العادل بين الصحف والكتاب، حتى لا يعود يؤمها إلا كل من توفرت فيه المزايا اللازمة التي تضمن المنفعتين العامة والخاصة، بما يؤديه من الخدمات الصحيحة التي يفهمها الناس حينئذ، ويقدرونها حق قدرها.
تقول إنك تأبى القتل عن خلق
حتى على النمل تخشى وطأة القدم
وفوق رأسك ألقى كلة
5
رفعت
مصبوغة بدم الناموس كالعتم
فقلت والله إني صادق فأنا
لا أستحل لنفسي غير سفك دمي
المقالة التاسعة والستون
الدفن والمدافن وعلامات الموت
الناس في كل العصور مفتونون بما يئول إليه أمرهم بعد موتهم، والأكثرون على أن النفوس بواق، أما الجسوم الفانية فلا يبتون فيها قولا. ولو أن الشرائع جميعها تقول بالحشر وقيامة الأجساد. والمصريون القدماء أشد من كان في عمله متفقا مع معتقده، فكانوا يعتنون بالأجساد بعد الموت اعتناء خاصا يحفظها من الدثور على مدى الدهور، ليسهلوا على النفوس الاجتماع بأجسادها عند الحشر. فكانوا يأتون فيها عملا تمثيليا بالتحنيط يقيها من البلى، ولكنه يجعل ارتداد الحياة إليها - بعد الموت الظاهري - أمرا ممتنعا.
أما الذين لم يكونوا يلجئون إلى التحنيط الديني أو الإحراق الديني، كما يفعل المجوس حتى اليوم؛ فكانوا يعولون لتقرير الموت الحقيقي والدفن على علامات قد لا تصدق. فيبقى الميت المدفون معرضا لأن تعود الحياة إليه، ولكنها تعود إليه ليقضي بعدها بالعذاب الشديد بين جدران القبر وتحت تراب اللحد. ومن يستطيع أن يتصور هول الدقائق أو الساعات أو الأيام التي تمر على المدفون حينئذ قبل أن يعود ثانية ويموت الموت الحقيقي؟ وقد يستطيع ذلك بعض الشيء أصحاب أمراض ضيق التنفس، كالداء المعروف بالربو.
ولا يخفى أن العبد الفقير محتكر لهذا الداء منذ حداثته، وقد كان له أوفى صديق حتى اليوم، ولا أذكر أني جزعت في كل أطوار حياتي من كل أنواع الموت مثل جزعي عند تصور هذا الدفن، وما ذلك مني من تلك «الغفوة» التي لا تحب، بل من تلك «اليقظة» التي ترهب، حتى إني قلت ذات يوم في مرض عرض لي منذ بضع سنين الأبيات الآتية، وهي تعبر عن هذا الشعور بي أصدق تعبير، وإني موردها هنا، ولكن بعد أن أستأذن هذه المرة من كلية الأساتذة ومن أستاذ الاثنين. والأبيات هي:
ادفنوني في القبة الزرقاء
إن قدرتم فذاك أقصى رجائي
لا بقبر في الأرض لا كان قبر
ضيق النقب ضيق الأرجاء
أودعوني المنطاد ينقل جسمي
في فسيح الخلا وصافي الهواء
ولأنل في الممات ما لم أنله
في حياتي من بعد طول العناء
سعة في البقا ولو بت فيها
أكل وحش الفلا وطير السماء
والعلامات المعروفة التي ترافق الموت، والتي يعول عليها الناس حتى اليوم، هي همود الجسم وبرده، وانقطاع التنفس، وانقطاع النبض، ووقوف دقات القلب، ويزيد الأطباء عليها علامات أخرى يحاولون استكشافها كل يوم، وكلها علامات مشكوك فيها.
وفي المجتمعات المنحطة التي لا تشدد الحكومات فيها مراقبة أحوال الدفن، لا تلبث هذه العلامات أن تظهر على الجثة حتى يبادروا إلى إخراجها إلى المدفن، ومواراتها التراب مسرعين قائلين: «ستر الميت دفنه.» وأما في المجتمعات الراقية فينتظرون ساعات معلومة قبل الدفن، ويعولون خصوصا على شهادة الطبيب.
والحق يقال إن الطب مهما دقق في التحري للتأكد من الموت الحقيقي، فلا يسعه إلا الاعتراف بأن كل العلامات المعول عليها قد تخطئ، ما عدا علامة واحدة هي «التعفن». فيجدر بالناس والحكومات والحالة هذه ألا يعولوا في إجازة الدفن على علامة أخرى. ولأجل ذلك يجب أن يكون في كل مدفن محل معد لهذا الغرض، تنقل الجثث إليه، وتحفظ فيه الوقت الكافي حتى تظهر فيها هذه العلامة الصادقة، ثم تدفن.
والغريب أن الناس مع علمهم ذلك وشدة حرصهم على حياتهم وراحتهم، مقصرون في هذا الأمر حتى في أرقى المجتمعات اليوم، مع أنه أهم وألزم وأوجب وأرحم من بناء القبور الفخيمة، وإقامة المآتم العظيمة التي يتباهى بها الأحياء على ظهور الموتى. وأغرب من ذلك تحكم الأحياء في معاملة جثثهم، وكيفية دفنهم بعد موتهم. والمؤمن معذور إذا طلب أن يدفن دينيا؛ لأن ذلك داخل في فروض دينه، وأما غير المؤمن فما عذره إذ يتحكم ويطلب ألا يدفن إلا مدنيا، وهو ينفي كل معتقد؟ أيريد أن يتبجح بقوله للناس بعد موته إنه لا يعتقد بسلطة روحية؟ وهو عمل في منتهى السخافة، وتعصب بارد - خلافا لما توهمه بي صاحب «الزهور» من أني متعصب حار، ولكن ضد الإيمان - أم هو يريد أن يقول للناس بعمله هذا أن اقتدوا بي أن الكفر سمة العقول الراجحة؟ كأنه «الغرض» من بحثه لا «نتيجة لازمة» له، خلافا لجميع الذين توهموا بي من كتابي أني أقصد مقاومة الإيمان لأنصر العلم، والتأليف بين البشر بإزالة كل العقبات من طريقهم، والإرشاد إلى الوسائل التي تسرع ارتقاءهم. ولعل بعضهم لا يتذرع بقولي هذا إلى أني هنا أيضا «أنقض نفسي بنفسي» لأني قلت إن الأديان ذات معد واسعة لا يضيق بها شيء، لكيلا تقوم كل مرة وتقف حجر عثرة في سبيل العلم، ولكن العقل كما قلت أيضا «خزانة كثيرة الأدراج»، والمنازع أهواء غالبا تدور حول العلم إذا هي لم تستطع شيئا ضده. •••
وإذا جاز لي أن أطلب شيئا بعد موتي ممن بيدهم حينئذ أمري، فلا أطلب منهم سوى شيء واحد معقول أستعطفهم فيه شفقة علي، وألتمسه منهم رحمة بي، فأنا لا أخاف الموت، ولا أخاف ما بعد الموت، ولا يهمني أحرقت في النار، أم دفنت في التراب، وصلى علي قسيس أو شيخ أو حاخام، أم لم يصل علي أحد، أو صلوا كلهم مجتمعين يستمطرون لي غيوث الرحمة، أو يستنزلون علي سيوف النقمة، يرفعونني إلى السماء، أو يدفعونني إلى جهنم. فأنا ليس لي أدنى مطمع بما هنالك، ولا أخاف شيئا من كل ذلك، ولا أخاف إلا «يقظة» القبر! فأنا لا أطلب إلا أن أدفن ميتا حقيقيا لا يجوز أن ترد إليه الحياة، ولو في أقل الاحتمالات.
ولا ينكر أن هذه اليقظة من تلك الغفوة نادرة جدا، إلا أن ندورها لا يجعلها ممتنعة. فإذا حصلت مرة في الألف، أو العشرة الآلاف، أو المائة الألف، أو المليون؛ فذلك كاف لوجوب أخذ الحيطة منها ما دام للحياة قيمة. وهي لها ذلك باعتراف الأفراد أنفسهم لأنفسهم، وإن لم يكن لها ذلك حتى اليوم باعتبار الجموع، من دون أن يرى صاحب «الهلال» في قولي هذا تذمرا من الرئاسات ل «هدمها»، لا ل «تقييدها» بما يكون أصلح لمصلحة الجمهور. ولعل ذلك ليس حلما أيضا لا ينطبق على العمل. ولولا «حمزة» الجريدة، وقوله إني «أحاول التأثير بقوة الألفاظ لا بمتانة البرهان»؛ لعولت هنا أيضا على أحكام المقابلة، وقلت كم من أمثال هذه الأحلام في الماضي صار حقائق اليوم.
على أني لا أريد أن «أدفن» الكلام في هذا الموضوع - الذي جرى هنا على القلم من غير تعمد - قبل أن أقدم كلمة شكر مفعمة لجميع الذين لم يثنهم حرج الموقف عن بذل الوقت عن سخاء للكلام عن كتابي، سواء بالإذاعة أو بالإطراء أو بالانتقاد. ومجال القول هنا قد يكون ذا سعة، وربما جردت مني شخصا آخر، وانتقدت نفسي بنفسي، ولكن لا لأستمسك بالعرض لأقتل الجوهر، وأقلب الأشياء عن كيانها في سبيل الغرض، فلا أرى في البراهين الآخذ بعضها برقاب بعض برهانا راجحا، ويا ليت شعري بما يجيبون لو قيل لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. كلمة شكر أزفها إلى جميع هؤلاء الأفاضل ممن ذكروا هنا أو لم يذكروا، حيث نظروا جميعهم إلى كتابي اليوم بغير العين التي نظرت إليه في الماضي، وهو ارتقاء في التساهل، وتحول في المذهب، عسى أن يتصل الإنسان يوما ما بالعلم إلى «دفن» أوهام كم غمت على الحقائق فأذابتها فيها، كأنها هي نفسها الحقيقة المنشودة، يدفنها جثثا هامدة تولاها موت حقيقي لا مبعث بعده، لعل الإنسان «الكلي» يستطيع حينئذ أن يقضي عمره القصير على هذه البسيطة بأكثر أنواع التعاون، وأقل أنواع الشقاء، ولا يكون الخاسر في الحالين.
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
كلمة شكر واجبة
في صيف عام 1909 قصدت ربوع الشآم، وطني الأول ومسقط رأسي، بعد أن رحلت عنها منذ نحو أربعين سنة، لم أزرها في خلالها إلا مرتين أياما معدودة، آخرهما منذ سبع وعشرين سنة قضيتها في القطر المصري، وطني الثاني ومبسط أفكاري، فلم يشأ أهل سوريا أن تنفرد مصر وحدها بالفضل علي، فاغتنموا فرصة وجودي بينهم فغمروني بإحسانهم، وطوقوني بجميلهم مما لا أنساه لهم على مدى الأعوام.
وزادوا على ذلك أن بعض أولي الفضل منهم أرادوا أن يتناهوا في الكرم، فحثوني، مجاملة لي وتشجيعا لسواي، على أن أجمع ما تيسر من كتاباتي المتفرقة في الكتب والمجلات والصحف منذ أكثر من ثلاثين سنة في مجموعة أطبعها في أجزاء على حدة. وكان قد طلب مني مثل ذلك قبلهم بعض أفاضل المصريين، وغيرهم من بعض الأقطار العربية الأخرى، وكنت أنا نفسي غير قليل الميل إلى ما يحب الناس أن يحرصوا عليه من آثارهم مهما كانت، ولا سيما إذا كان لم يبق لهم سواها، فصادف ذلك مني هوى في النفس، وإن لم يخدعني كثيرا في حقيقة نفسي، ولكني مع ذلك وقفت واجما مترددا؛ لأن الأسباب التي كانت متوفرة في الماضي لم تبق لي اليوم، وخفت أن أصادف في هذا السبيل ما قد يسلبني البقية الباقية، ويجدد بي تذكار مثل هذا القول:
لقد كان لي نفس تصان بها العلا
وقصد إلى الإصلاح أنبل من نفسي
فمالت بي الدنيا فقلت سلامة
أيا نفس إني لا أهينك يا نفسي
ولكن دهرا درهم القدر درهم
به كيف ترجو أن يصونك من بخس
ولكن الأفاضل المذكورين لم يشاءوا إلا أن يذللوا كل الصعوبات، فوضعوا أساس المشروعات، ثم قاموا هم أنفسهم يسعون ويجمعون المال بالاكتتاب، وقمت أنا حينئذ متشجعا بهم أعرضه على كل من عهدت به نجدة لإنجاح مثل هذه المشروعات من كرام القطرين، من كل من:
ترى المجد يهدي إلى بيته
يرى أفضل المجد أن يحمدا
وإن ذكر المجد ألفيته
تأزر بالمجد ثم ارتدى
أو ذكر البذل الباذخ اشرأبت إليه الأعناق، وطوقته الأحداق، وفاضت به الذاكرة. فما لقيت منهم إلا كل من لبى متصاغرا كأنه المفضول شأن الجواد الكريم، فحق لهم علي تجاه هذا الفضل «كلمة شكر» أنقشها على «صحيفة فخر» تحفظ لهم ؛ اعترافا بجميلهم، وتخليدا لذكرهم.
ولكني وحقي حرت كيف أذكرهم لأدل على فضلهم؛ فإن عددهم لكثير لدى من يرى «أن الكرام قليل»، وفضلهم في هذا المقام أعظم أيضا، والناس بيننا على ما تعودوا، والفضل الكثير يعقل اللسان الطليق، فكيف بي وأنا حليف العي، وأرى الواجب أكبر مني، فلم أجد حيال هذا الحصر أنطق للفضل بيانا وأثبت للجميل عرفانا من ذكرهم بفضلهم، متبرعين كانوا أو مشتركين أو ساعين، فالجميع بالفضل علي سواء، ليحفظ ذلك لهم في سجل مجموعتي أثرا خالدا يفي عني من الواجب بقدر ما يذيع لهم من حسن الذكر. •••
على أني لا أكون من المنصفين إن لم أستأذن حضراتهم لأذكر هنا أسماء ثلاثة من بينهم، كانوا لمشروعي من أهم الأركان، ومن أكبر الأعضاد لإبرازه إلى الوجود:
الأول:
الخوري بولص الكفوري، رجل الجد والعمل المكافح في سبيل الإصلاح، صاحب جريدة المهذب في زحلة من لبنان؛ فقد كان الواضع لمشروعي والعقل المدبر له.
والثاني:
الدكتور أيوب ثابت من بيروت، من أشد رجال النهضة الإصلاحية فيها إخلاصا؛ فإنه كان اليد العاملة فيه.
أما الثالث:
فهو الخواجا أمين وهبة كرم من الإسكندرية، من الكرم به سجية، ومن:
إذا الناس مدوا بأيديهم
إلى المجد مد إليه يدا
فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم مضى مصعدا
فما لبث أن ذكر مشروعي له وخاف عليه من الحبوط حتى ضمن له الحياة، فبذل له عن سخاء، ووفى له خير وفاء.
فشكرا لجميع هؤلاء الأفاضل على ما أولوني من الجميل. فإن كان في عملي هذا بعض الفائدة فليحمدهم الناس؛ فالفضل كل الفضل لهم، وإن لم يكن فيه ذلك فليحمدوهم أيضا؛ إنما الأعمال بالنيات، وليلحقوا التبعة كل التبعة بي.
الدكتور شبلي شميل
مصر، 10 يونيو (حزيران) سنة 1910
لويس بخنر.
نامعلوم صفحہ