وهذه شذرة من تعاليم هذا الدين تنبئك عن أصوله. جاء في الملل والنحل قال: «ودون مرتبة البد (أي بوذا) البوديسعية، ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق، وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية، وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه، وبالامتناع والتخلي عن الدنيا، والإعراض عن شهواتها ولذاتها، والعفة عن محارمها، والرحمة على جميع الخلق، والاجتناب عن الذنوب العشرة : قتل كل ذي روح، واستحلال أموال الناس، والزنا، والكذب، والنميمة، والبذاء، والشتم، وشناعة الألقاب، والسفه، والجحد لجزاء الآخرة.» انتهى. وهي كما ترى أشبه شيء بالوصايا العشر عند النصارى.
ولم تقتصر الأديان على أخذ الفضائل عن بعضها مما يعد من أصول الدين، بل أخذت أيضا بعض العقائد الدخيلة عل الدين. فالبراهمة وهم أصحاب الفكرة، كما يقول الشهرستاني، لتمييزهم عن البوذيين أصحاب المحسوس، يعظمون أمر الفكر، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول. فالصور من المحسوسات ترد عليهم، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضا. فهو مورد العلمين من العالمين. فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضة البليغة والاجتهادات المجتهدة، حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم، فربما يخبر عن مغيبات الأحوال، وربما يقوى على حبس الأمطار، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال؛ ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلا من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة، فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله، ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكأدهم ثقله. انتهى. ألا ترى أن ذلك يشبه التصوف وحلقة الذكر الدخيلة على الإسلام؟
ولم ينتشر هذا الرد في المؤيد حتى قال بعضهم لمن كان معه حين اطلاعه عليه: «قل للشميل إنه يستأهل.» وكأن أقل ما أراد بذلك أني وإن كنت قد نظرت إلى الحقيقة فلم أنظر إلى طبائع القوم واستعدادهم. وقال غيره: «جدح جوين من سويق غيره.» يريد أني جنيت هذه الجناية على الدين المسيحي، فكأني جدت من مال غير مالي، فخاف على نصيبه منه، ولا مسوغ له على هذا الخوف مني عليه.
فكأن حضرة الفاضل كامل السويفي لم يكتف بأني جعلت مدار بحثي على أصول الأديان، متجنبا البحث في الوحي والمفاضلة بين دين ودين، والكلام على قضايا كل دين حتى يمكنني التوفيق بين جوهر الأديان ومصلحة العمران، كما قلت في أول مقالتي، بل أراد أن يجرني للبحث معه في طبائع الأديان وحقائقها، وأن يلبسني إما قلنسوة راهب وإما عمامة شيخ (مليح بعد هالكبره جبة حمرا). ولو جاريته للزمني أن أجول معه جولة في قضايا كل دين، وأن نغرق كلانا والجمهور معنا في هذا البحر اللاقرار له، الذي هو علم اللاهوت وعلم الكلام (ولقد أنصف العرب بتسميته بهذا الاسم)، وهذا ما لم تصب نفسي إليه حتى اليوم. فلا نعلم حينئذ من أي مضيق نركب، ولا في أي لج نخوض، ولا على أي شط نحط ونقع في تيه نفقد معه خيط أريانا. وهذا ليس محله في هذا المقام مقام تمهيد العقبات الحائلة بين تقارب الأمم، وبينهم وبين ارتقائهم في العمران. وإني لأشكر لحضرة العالم المتبحر الفاضل الجيزاوي؛ لأنه كفاني الخوض في هذا البحث، فأظهر جليا بمقالته البديعة التي نشرت في المؤيد ما يصح أن يعتبر في الخلاف بين الدينين فصل الخطاب في هذا الباب عند ذوي الألباب.
وأما استشهاده بمن ذكرهم من كبار الكتاب الأوروباويين ليثبت أن النصرانية أضرت بالاجتماع في أوروبا، فقد قلناه في مقالتنا الأولى، ولكننا لم نعتبر هذا الضرر من جوهر الدين، بل من الرؤساء من رجال الدين والحكام، كما أننا لم نعتبر تقهقر الأمم الإسلامية إلا لهذا السبب عينه، واعتبرنا نهوض النصرانية وارتقاءها هذا الارتقاء الباهر إنما هو لنبذها العقائد التي أدخلوها على الدين وليست من جوهره، حتى صار الدين عند القسم الكبير المتنور منهم عند المؤمن صلة القلب إلى الله، كما في قول شاعرنا الأديب نقولا أفندي رزق الله:
إنما الدين موعد واتفاق
بين هذا الورى ورب البرية
وحتى صار عند غير المؤمن موضوع بحث اجتماعي بالنظر إلى ما في مبادئه الاجتماعية من الموافقة للعمران. وكثيرون يعجبون بهذه الموافقة، فلا يجعلون البحث في حقائق الأديان سببا للمنازعات الاجتماعية العقيمة، تاركين لكل واحد الحرية في أن يعبد ربه كما يريد، ناظرين فيها إلى تلك المبادئ العمرانية التي تجعل مصلحة الإنسان القريبة في دنياه اشتراكية بين أفراده، وأي دين لا يعلم ذلك؟ وهذا الذي نظرنا إليه في أصول الأديان، فعظمناها تعظيما لم يفقنا فيه باحث ديني مهما كان متحمسا في إيمانه ، فهل يجوز بعد ذلك أن ينحى علينا بأنا غضضنا من دين لنصر آخر؟
على أن العمراني الذي يريد أن يجعل بحثه في العمران لتطبيق نواميسه على قول فلان وفلان أو دين من الأديان؛ إنما مثله كمثل الذي يحاول أن يطبق المطبوع على الموضوع، فيتسامح بما لا يجب أن يتسامح به من المطبوع، ويستمسك بما لا يجب أن يستمسك به من كل موضوع ومشروع، فيركب متن الضلال، ويهيم في فيافي الخيال، فينطق بما لا يفهمه سواه، ولا يفهمه هو نفسه، ويحسب أنه أتى ببدائع الإعجاز في الاستعارة والمجاز، فيجني على ذلك المشروع من حيث يظن أنه يخدمه، ويجني على العمران نفسه.
أما نحن فننظر إلى العمران ومرشدنا في نواميسه ذلك الكتاب البسيط المفتوح أمام كل إنسان، والذي يستطيع أن يفهمه كل واحد إذا قرأه بإمعان، ألا وهو كتاب الطبيعة، الذي هو أساس كل قياس صحيح؛ أي أساس كل منطق سليم وبيان.
نامعلوم صفحہ