أن تكون النيازك آتية من عوالم فيها أحياء وحاملة جراثيم حية، وغني عن البيان أن جميع النيازك لا تستطيع أن تقوم بهذا الأمر. مثال ذلك النيازك المؤلفة من معدن كان مصهورا من شدة الحرارة؛ على أنه يوجد نيازك شبيهة بصخورنا، يمكن للجراثيم أن تستقر في شقوقها، بل نعرف نيازك تتضمن مواد عضوية شبيهة بالراتينج. فهذه المواد وإن لم تكن الحياة نفسها إلا أنها فيما يرجح متكونة عن كائنات حية، أو فيها وجه لهذا الفرض، فانتقال الجراثيم بمثل هذه النيازك، إذن، ممكن.
ولكن يقوم على ذلك اعتراض؛ وهو أن النيازك التي تخترق الهواء تمر فيه بسرعة عظيمة جدا، هي على تقدير لوكيار: من 40 إلى 60 كيلومترا في الثانية، فتسخن إلى درجة تصير فيها نيرة من شدة ضغط الهواء. ودرجة الحرارة التي قد يبلغها النيزك، والحالة هذه، تختلف من 4000 إلى ستة آلاف درجة، فلا تستطيع الجراثيم أن تبقى حية في كل هذه الحرارة؛ إذ قد تبين من الامتحان أن البزور قد تقوى على احتمال 100 إلى 120 درجة من الحرارة الجافة بعض ساعات، وأما على حرارة 150 إلى 200، فإنها تموت، والمكروبات تهلك في جميع أشكالها. غير أن النيازك لا تبلغ جميعها هذه الدرجة من الحرارة، ومن المؤكد أن التسخن هو غالبا سطحي. وقد سقطت نيازك كانت فاترة وغيرها كان باردا، وفي سنة 1860 تساقطت في درمسالا في الهند قطع كانت بحال وصولها إلى الأرض بالغة من البرد درجة صقعت منها الأكف التي لمستها.
وتعليل ذلك بسيط؛ فالنيازك، التي هي عبارة عن محطمات الكواكب، قبل أن تصل إلى الأرض تمر في فضاء بارد جدا، تختلف درجة برده من 50 إلى 150 تحت الصفر، فإذا صادمت الهواء فقد تسخن في كل كتلتها إذا كانت صغيرة، ولا تسخن إلا في سطحها ويبقى باطنها باردا إذا كانت أكبر، فمن الممكن، إذن، أن يصل إلينا بعض النيازك من دون أن يسخن كثيرا، فإذا كان حاملا في بعض أجزائه الباطنة بعض الجراثيم فليس من الضروري أن تحترق.
ولكن يرد علينا حينئذ اعتراض آخر، وهو: إذا كانت الجراثيم لا تحترق، فمن يضمن لنا أنها لا تموت من شدة البرد؛ لأن برد الفضاء شديد؟ ولكن الامتحانات الحديثة قد ذهبت بهذا الاعتراض؛ إذ قد تبين منها أن البزور وأنواع البكتريا تحتمل بردا شديدا من دون ضرر، لا درجة 50 أو 100 فقط، بل 200 تحت الصفر. فمن الجراثيم ما بقي حيا مائة ساعة في هواء درجة برده 190 تحت الصفر و118 يوما على درجة تختلف بين 37 و53 تحت الصفر. وهذه المعلومات كثيرة الفائدة إذا ضممناها إلى غيرها مما علم في هذه السنين الأخيرة.
فقد كان المظنون إلى أيامنا هذه أن البزور، ولئن ظهرت بحالة نوم، فلا تزال الحياة تعمل فيها، وإذا كانت تبدو لنا واقفة فما ذلك إلا في الظاهر فقط، فهي لا تزال تقضي بعض الوظائف الجوهرية كالتنفس والمبادلات الغذائية ولكن ببطء وضعف كليين، والحال أن ذلك خطأ؛ فإن هذه الوظائف الحيوية تقف وقوفا تاما على درجات البرد المذكورة، كما تقف عندها في الأجسام الكيماوية ألفتها وخصائصها المميزة لها، كما تبين من الامتحان. •••
وبالحقيقة كيف يمكن التصديق ببقاء وظيفة التنفس وسائر الأفعال الحيوية عاملة، ونحن نرى بزورا في الفراغ لا تفرز مقدارا من الحامض الكربونيك يشعر به بالحل الطيفي، ونرى بزور البرسيم (القرط) تبقى ست عشرة سنة في غاز الأزوت والكلور والهيدروجين والكحول الصرف، ثم تنبت إذا أخرجت إلى الهواء والرطوبة والحرارة. وحب الحمص المخنوق ضمن الزئبق يبقى حيا بعد خمس سنين، إلى غير ذلك من الامتحانات التي يكاد يكون التبادل الحيوي ممتنعا فيها؟ ففي مثل هذه الأحوال لا بد من التسليم بوقوف الحياة وقوفا تاما بحالة لا هي الموت؛ لأن الحياة ما زالت ممكنة، ولا هي الحياة؛ لأن الحياة هي التبدل والحركة، بل هي حالة متوسطة بين الموت والحياة، وعليه: فلا خوف على الجراثيم من برد الفضاء إذا صح انتقالها إلينا من الأجرام الأخرى بواسطة النيازك.
وما بسطنا كل ذلك هنا إلا من باب الفكاهة العلمية، لا تأييدا لهذا الرأي الذي هو في اعتقادنا غريب جدا، كما تقدم، والشيء بالشيء يذكر، فمن غرائب أحلام العلماء ما خطر في القرن الماضي لأحد مشاهير الجراحين والعلماء الطبيعيين، المدعو: هنتر، بالنظر إلى وقوف ظواهر الحياة كما تقدم. وهذا يدلك على أن هذا الفكر ليس حديثا. فقد خطر له أن يجرب إيقاف الحياة، وأجرى امتحاناته على بعض أنواع الحيوانات الدنيا، فجرب أن يوقف حياتها بالبرد فنجح في ذلك، ولكنه لما أراد إيقاظها بالحرارة وجدها لا حياة لمن تنادي.
وله من وراء ذلك غرض عظيم، قال في بيان هذا الغرض ما نصه: «قد ظننت أنه يمكن إطالة الحياة إلى ما لا نهاية له بإجلاد إنسان، بوضعه في مكان بارد جدا، واستندت في ذلك أن كل عمل ومن ثم كل خسارة في مادته تقف، والحالة هذه، إلى أن يسخن ثانية، وقلت في نفسي: إذا أراد إنسان أن يقف السنين العشر الأخيرة من حياته لإجراء هذا التعاقب بين العمل والراحة يمكن إطالة حياته آلافا من السنين، يوقظ فيها كل مائة سنة مرة، فيقف على كل ما جرى في العالم مدة رقاده، وكنت معلقا كل آمالي على نجاح هذا المشروع، ولكن «امتحاناتي خانتني»» انتهى.
فترى مما تقدم أن هنتر كان يحلم بالخلود الجسماني للجميع، ولكنه لم ينجح، والظاهر أن حلمه لن ينجح. على أننا لا نريد أن نثني عزم أحد من الراغبين ...
المقالة الثالثة
نامعلوم صفحہ