فالأمر متوقف إذن على العلم بالأسباب والوسائط؛ لأن الإنسان كيفما فعل إنما يفعل دائما بقصد الوصول إلى غاية واحدة وهي سعادته، فإذا تصور أنه يستطيع الحصول على سعادته منفردا دعته محبة ذاته إلى اتباع السبيل الذي يرسمه له علمه، وإذا علم أن سعادته لا تحصل له منفردا، بل يحتاج فيها إلى التعاون مال إليه كما يظهر من المقابلة بين تصرفات الإنسان في حالتي الخشونة والتمدن.
ما أطوعه، وما أطمعه
2
في نظام الاجتماع صدوع هي كالسوس تنخره، ولا بد أن تقوضه ولو طلي بقار الظلم، وصفح بعسجد الوهم، يتنازع الاجتماع منذ القديم قوتان تتنازعان فيه قياد الإنسان، لكن كل منهما من سبيل.
هاتان القوتان كانتا في الأول مجتمعتين، وكان هولهما شديدا، ثم انفصلتا، ولكنهما بقيتا متحالفتين، وسوف يعم اختصامهما حتى تلاشي الواحدة الأخرى، فيسود سلطان الحقيقة ويتقوض سلطان الوهم.
ولكن الاجتماع يخطو في ذلك خطوة خطوة، وكل خطوة تنقضي فيها أجيال، وتقضي على آمال.
فالإنسان وإن زج في الظلمة مقهورا، فلا يخرج إلى النور إلا مقسورا: ألا ترى لسان حال الجماهير يقول في كل جيل: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.» حتى يحار العقل في أي حالتيه الإنسان أسعد؟
لا ريب أن العلم إذا عم وبلغ الدرجة القصوى بلغ الإنسان منتهى السعادة، ولكن - حتى يعم - أي أشقى من الإنسان السابح بين الحالتين يتنازعه سلطان القوتين وهو ليس بالجاهل فيرع ولا بالماكر فيزع؟
ولكن الإنسان وزع أم ورع، ضلع أم ظلع، ماكرا وغبيا، واحد في مرماه.
كنت يوما في محفل ، وإذا السلطتان بأبهى مظاهرهما، ثم قفلت راجعا إلى بيتي، فرأيت البواب جاثيا يصلي ويداه إلى وجهه وكفاه مبسوطتان وهو يحدق إليهما، ويتمتم كأنه يقرأ عليهما وردا وأثر الاجتهاد باد عليه، فقلت في نفسي: قسمة ضئزى. ثم نظرت إلى ما به من الاعتقاد الراسخ، فقلت: ولكنها تعزية كبرى. فما أصعب الإنسان، وما أطوعه! وفي الحالين ما أطمعه؛ ذاك يرث الأرض، وهذا يريد أن يرث ... ملكوت السماء.
نامعلوم صفحہ