إلا أن عموم الناس لا يفهمون ذلك، فتغرهم الأمثال، والأمثال، ولا يخفى، تجري مجرى الحكم، ويشجعهم خصوصا انطباق السجع، فيقولون: «كثرة الوفاق نفاق.»
أم أتكلم عن السجون، فقد مر بك ذكر هذه اللفظة عرضا، وهي موضوع يستحق الالتفات، كيف لا؟ أليست السجون المكان الذي نختاره للراحة من عناء الأشغال، وتبلبل البال، إذ تضيق بنا الحال؟ فالاهتمام بأمرها مما يهم كل إنسان، فهي بين الفنادق والمستشفيات. ومن يضمن لنفسه، كبيرا كان أو صغيرا، أميرا أو صعلوكا، غنيا أو فقيرا، عالما أو جاهلا؛ أنه لا يحل يوما ما ضيفا على الحكومة في هذه البيوت المروضة للأبدان المروقة للأفكار؟ ونحن في عصر بلغ فيه التأنق والاعتناء بالفنادق والمستشفيات مبلغا عظيما، وما ذلك إلا لأن أحوال البشر اقتضت ذلك؛ لأنه لسوء الحظ أو لحسنه زادت احتياجات الإنسان بالتمدن، حتى صار انتفاء أسباب الراحة التي تعودها يجلب له الضرر. ولسوء البخت كذلك، الناس في الهيئة الاجتماعية طبقات، فلا يقاس العالم بالجاهل، ولا يعامل المتعود على التأنق بالمعيشة كالمتعود على قشف العيش، فإنزال الرفيع إلى مقام الوضيع لا يناسب أحيانا كثيرة، والعكس جائز هنا.
والسجون وجدت لحبس الرجل عن الشر، وترويض أفكاره مدة سجنه، فإذا لم تستجمع كل الوسائل الصحية والأدبية انقلبت فائدتها، وزادت الأخلاق فسادا إذا كانت فاسدة، وربما أفسدتها إذا لم تكن كذلك. وكما أن الذنوب التي يرتكبها البشر درجات، فالعقاب يجب أن يكون درجات كذلك، لا في مدة السجن، بل في نوع السجن أيضا. ومن الذنوب ما هو أرفع مقاما من سواه ولو عاقب عليه القانون، فالذنوب السياسية والكتابية غالبا قلما يعد السجن فيها إهانة حقيقية تلبس صاحبها وصمة عار لا تمحى. ونعني بالذنوب الكتابية الذنوب التي يرتكبها كتاب لهم شأن معدود في عالم الكتابة، لا الكتاب المتطفلون الذين لا شأن لهم مطلقا. فحبس مثل هذا المذنب مدة لا يراعى فيها مقدار ذنبه والضرر الذي نشأ عنه، والضرر الذي يلحق به في حبس واحد مع القاتل والسارق والمرتكب، بل حبس المتعلم والمتهذب مع من لا تربية له ولا خلاق، وفي مكان غير متوفرة فيه أسباب الراحة والصحة، كما هو شأن أكثر السجون.
7
لا شك أنه مفسد للصحة، مفسد للأخلاق. ولا نظن أن القصد من السجن إدخال الأمراض على الجسد والعقل لقتلهما وقتل مستقبل الإنسان، خصوصا لذنوب كثيرا ما تكون هوائية. وإني أتصور في نفسي أنه لو وقع لي مثل هذا الأمر، وأخذت إلى السجن لسقطة قلم أو زلقة لسان،
8
وعوملت هذه المعاملة؛ لخرجت من السجن وعيناي تقدحان شرارا لا أطلب إلا الانتقام. وأؤكد للجميع بأن طباعي الحقيقية تأبى الإضرار عمدا حتى بالحيوان، بل أميل جدا إلى تحمل الضيم، وأمثالي في الدنيا كثيرون. فلماذا نفسد أخلاق مثل هذا الإنسان، ولا نحاول إصلاح جانب الضعف فيه، والانتفاع بما فيه من القوة؟ فالعقاب يلزم أن يراعى فيه أشياء كثيرة غير مستدركة لا في السجون ولا في القانون.
والقانون، وما أدراك ما القانون، مجموع شبهات وظنون، فيما هو كائن وما لا يكون، بل هو عقبة في سبيل تقدم الإنسان في العمران، ولو أغضب ذلك سادتنا القضاة والمتشرعين، ورموني بالجهل، وعدوني متأخرا عن عصري خمسة آلاف سنة أو متقدما كما يريدون. وقد عده الناس لبونابرت الحسنة الوحيدة بين سيئاته الكثيرة، وهو شر ما جنت يداه على الإنسانية، فلا قتله الألوف المؤلفة من البشر، ولا تخريبه المعمورة مدة ربع قرن، يقاس بشيء من أضرار هذا القانون الثابت. فالشريعة ليست من العلوم الرياضية حتى تدون في بنود كقضايا مسلمة تجري مجراها، ولا تنقح حتى يتفاقم ضرها ويكثر شرها. فالشرائع لا تعاقب ذنوبا بل مذنبين، كما أن الطب لا يداوي أمراضا بل مرضى ؛ فهي أبسط من ذلك جدا في أصولها، وأشد اختلاطا في فروعها، فالأحكام الاجتهادية أفضل جدا من الأحكام القانونية. ولا نظن أن البلاد التي تعول في أحكامها على الاجتهاد لا على القانون، كبلاد الإنكليز، أسوأ حالا من البلاد القانونية، إن لم تكن أصلح منها بكثير. أقول ذلك ولا أقصد به أمرا معلوما أو أناسا معلومين، وأرجو ألا يحمل الناس كلامي على ما بين طائفة الأطباء والقضاة مما بين السنور والثمثم (كلب الصيد)، خصوصا بعد حكمهم الجائر في باريس على المنكود الحظ الطبيب «لابورت»؛
9
مما أثار غضب الأطباء عموما على المحاكم، وسلقوها في جرائدهم بألسنة حداد.
نامعلوم صفحہ