ما يتبقى کل لیلہ من اللیل
ما يتبقى كل ليلة من الليل
اصناف
الجانب الآخر من لعنة الكتابة كان عاطفيا، ربما لشيطاني ابن مدينة القضارف الذي تعرفه أمي دورا كبيرا، هنا أستطيع أن أقول: إنها شيطانتي؛ لأنها أظهرت عداوة للمرأة ومقتا حامضا مستخدمة شيطنة الجن، ومكر النساء الذي ذكر في بعض الكتب السماوية وألمح إليه السيد بوذا نفسه ذات صفاء لتلامذته، الدليل على ذلك أنني عازب الآن، بيتي يخلو تماما من تلك المخلوقة الرقيقة؛ ذات الصوت الحنون التي تربت على كتفك في الصباح الباكر طابعة قبلة دافئة على خدك المعشوشب بالشعر الرمادي، أو على شفتيك الجافتين نتيجة لعطش أصابك في حلم ليلة الأمس الصحراوي، أو كوابيسك الكثيرة التي تتواصل نومة بعد نومة، بأنك تشوى في مقلاة بالجحيم مثل ديك رومي ليلة عيد الميلاد، تقريبا كل النساء اللائي عشقتهن - وهن كثيرات بالطبع - وكل النساء اللائي عشقنني - وعددهن مقدر ومعقول - اللاتي تزوجتهن وطلقنني - وهن لسن كثيرات كما يتبادر على ذهن البعض، حتى الصديقات المقربات وغير المقربات، مثل سلمى، ومي، وعلوية، وسونيا، وماريا، وسلوى وغيرهن - اتفقن على جملة واحدة قلنها لي في أوقات شتى بطرائق مختلفة وأساليب عدة، وفقا للغاتهن الأم وطريقة نطقهن للكلمات، وسعة خيالهن، ونوع العلاقة التي تربطني بهن: «أنت عندك حبيبة واحدة، وهي الكتابة، ولا قلب لك ولا تعرف كيف تحب»، كن يغادرنني غير مأسوف علي، وحيدا مصابا بلعنتي، أو مع شيطانتي، أو بنت إبليسي التي وهبتني مجدا أدبيا، ولعنة طازجة مباركة بلا نساء، ومطاردة دائمة من قبل السلطات، وحسدا وغيرة من جانب الكثيرين، ووحدة لا حدود لها.
الكتابة ملعونة ولاعنة، وهي مضرة بالمجتمع؛ لأنها رجس من عمل الشيطان، هي محاولة منه يائسة لتدوين ذاكرة الانحراف البشري؛ لذا يصطاد هذا الجني من البشر أصحاب الخيال الثر، وأغلبهم من ضعاف الإيمان الذين يعانون من وهن الذاكرة مصحوبا باختلال التوازن النفسي، حيث يحاولون معالجة ذلك عن طريق فعل التدوين، وخلق الأكاذيب السردية البالغة الغرابة، كثير منهم ملحدون! بعضهم تنبذه مجتمعاته الخيرة المؤمنة، وترمي به في الفيافي والمنافي البعيدة، ثم تعود في وقت ما آسفة، وتتوجهم بما تشاء من الألقاب المدهشة، هذا إذا نجوا من الذبح الرحيم، في الغالب يحدث ذلك بعد قتلهم بالإهمال أو المدى، إن المجتمع يخاف من كل الكتاب والكتب، حتى تلك المقدسة؛ لذا كانوا يقتلون الأنبياء خوفا من اللعنة التي قد تجرهم إليها زبرهم، ورحمة بالأنبياء أنفسهم، أما المؤلف المحظوظ هو المؤلف الذي لم يكتب كتابه بعد، الذي لم يعلن عن لعنته، إلا أنه يظل مثل القنبلة اليدوية، يمكنك أن تحتفظ بها في بيئتك طالما لم تنزع فتيلتها ، أما إذا فعلت، فعليك أن ترمي بها بعيدا وتلقي بنفسك على الأرض محتضنا التراب بكامل جسدك، مخفيا أذنيك تحت كفتيك الباردتين، صارخا بأعلى ما أوتيت من صوت كما في أفلام الحرب.
31 / 7 / 2013
ما بين الرواية وقرينتها
الناظر إلى الروايات المنشورة في هذه الأيام في السودان، وكثير من الدول العربية، يلاحظ أن هنالك خلطا كبيرا بين ما هو سرد فني، يمكن تصنيفه كعمل أدبي ثم تجنيسه كرواية، وبين ما هو ليس سوي تسجيل لثرثرة يومية أي «مؤانسة».
وهذا يثير سؤالا قديما حديثا عن علاقة الواقع بالعمل الفني، فالواقع في طبيعته المعطاة ليس فنيا؛ أي أنه ليس سرديا جماليا في كل تمظهراته، من ناحية الصورة ومن ناحية الحكاية، واللون والصوت وما إلى ذلك، لا نقول: إن تمظهرات الطبيعة حولنا ليست جميلة، ولكنها لا تصبح عملا فنيا، ولكن هذه الصورة وهذا اللون والصوت والحكاية - والزمن أيضا - أدوات في يد الفنان، إنسانا كان أم حيوانا، أو حتى الطبيعة نفسها من ريح ومطر وموج وبركان، بوعي وبغير وعي، لتتحول إلى عمل فني بديع، يتحمل القراءات المتعددة بعدد المتلقين، بل حتى بالنسبة للمتلقي الفرد تتجدد القراءة بعدد مرات التلقي، وتحدث متعة في النفس، وأسئلة، وهذا عين الجمال.
بذلك تصبح الرواية هي فن سرد الحكاية وليست الحكاية ذاتها، واللوحة هي أيضا صورة الشيء كما عكسه الفنان وليس الشيء ذاته، إن صورة الإنسان أو الحيوان، أو المنظر الطبيعي هو ليس عملا فنيا، ولكنه يبقى كذلك بعد أن يعمل عليه الفنان بأدواته، وهذا من البدهي والمعروف.
أقرأ في العادة كل الروايات التي أحصل عليها من المكتبة، لروائيين شباب أو كبار، وأحبذ الأعمال الصادرة حديثا، وأهتم أكثر بالكتابات السودانية الحديثة والأسماء الجديدة في الرواية بالذات، ولاحظت أن بعض الأعمال جميلة وجيدة، ولكن البعض بالرغم من أنها كتبت في زمن به موركامي، بابا كويلو، وماركيز، وباموك، وقبل مئات السنين كان هنالك الكبير دي سيرفانتس، في وقت بلغت فيه الرواية شأوا بعيدا من ناحية التقنيات السردية والجمالية، إلا أن الكثيرين يحاولون أن يبدءوا من الصفر، وينتجوا حكايات يومية بذات أدوات سردها الشفهية، فتصيب الرواية القارئ بالنعاس الشديد، كما تفعل الأحاجي التي نشأت لتنويم الأطفال، ويمكن تسميتها أشباحا، أو قرائن للرواية، سألت أحدهم ذات مرة: لم لا تقرأ ما كتب أو يكتب حتى تكون مواكبا؟ قال: إنه يريد أن يكون أصيلا، وألا يتأثر بأحد!
يعجب بعض القصاصين بالنكتة، ومع أن للنكتة أدواتها وطبيعتها، ويقوم بكتابتها في شكل قصة قصيرة، البعض قد تستهويه حكاية سمعها في محفل ما، حكاية مدهشة، ويقوم بكتابتها كما هي، فتصبح قرين تلك، والبعض قد تستميله الأسطورة، أو الحادثة التاريخية، أو السيرة الشعبية، أو السيرة الغريبة لأحد الأشخاص، الذين سمع عنهم أو عايشهم، وكل ذلك ليس سوى سرديات الطبيعة اليومية، والرواية هي عمل الخيال، أقصد أنها ابنة الخيال المدللة، مثارا هذا الخيال في أحيان كثيرة بذلك اليومي سابق الذكر، وإذا ظل الخيال بعيدا عن العمل الروائي، ولم يعمل فيه بنسب متفاوتة، سيبقى العمل المكتوب إما تاريخا - نكتة أو تسجيلا لأسطورة، سيرة ذاتية - أو غيره؛ أي أنه يحاكي الطبيعة، أقصد أن يقوم الفنان بما تقوم به الكاميرا، أو أداة التسجيل الإلكترونية، وفي الواقع هي أكثر براعة منه وأكثر دقة، ولا يكفي أن يكون هنالك راو؛ لكي يصبح العمل رواية فنية.
وهذا الخطأ وقعت فيه كثير من الروايات التي كتبت على عجل؛ لتؤرخ لثورات الربيع العربي التي لم تكتمل إلى الآن، فكان أكثرها عبارة عن تسجيل لثرثرة الثوار، أو الحوادث التي وقعت لهم وبهم أو عليهم، والتغيرات الفعلية على أرض الواقع، في الحقيقة كان هم البعض إدراك سوق الثورات لا أكثر، هذا السوق مربح وكبير، حيث حدثني صديقي المترجم البلجيكي بروفسير اجزافيه لوفان، أن كثيرا من دور النشر الفرنسية المتخصصة في الترجمة من العربية، لا تقبل نشر الأعمال المترجمة هذه الأيام ما لم تكن عن الربيع العربي، وبعض المترجمين الأوروبيين أيضا يفضلون أن يكون العمل الروائي عن الربيع العربي، والكتاب العرب يعون ذلك جيدا، فهذا هو مزاج القارئ الأوروبي الآن، أو ما يحب أن يقرأه من أعمال عربية.
نامعلوم صفحہ