إهداء
للمطر القروي
شوف
محض تشه
الأعظم في الوحدة
سكة البيت
العالم لا يشم صراخ الأرواح بدارفور!
صلاة الجسد
ما يتبقى كل ليلة من الليل
وحده يبقى الشاعر من الليل
غريب عنك، الورد
سيرة المخلص
ليس حبا
صوت الظلام
شتاء
أمل
عصافير
أبد
قبح
وعد
علم
أوطان
طرق
جرح
النار
وحدة
أحزان
هروب
أمل
حرية
رفقة
هلوسة
سماؤه
عبق الذنب
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
بغم الأسماء
بغم الخطيئة
بغم ويلتاه
بغم الشجرة
ثمار البيت
طيور تقول لك: صباح الخير
سيرة ذاتية للشاعر مايا كوفسكي
جمهرة النشوة
ظفر
بئر الرغبة
اللحن الأكثر قدسية وشبقا
في مديح الحانثات
ليس من طليق بيننا
قلبك منفاك الأعظم
امرأة مثل دبيب النمل على الجرح
نشيد الشتات
ما لم أقله للسيد
لعنة الكتابة وكتابة اللعنة
ما بين الرواية وقرينتها
استثمروا في المستقبل، فإن المستقبل يدوم طويلا
مانديلا
المثقفون السودانيون والمصنفات الأدبية والفنية
البيت
عندما غنت فيروز لأمي
الناشر الشبح
عمان مدينة تحرسها الآلهة تايكي
حوار مع وداد الحاج
إهداء
للمطر القروي
شوف
محض تشه
الأعظم في الوحدة
سكة البيت
العالم لا يشم صراخ الأرواح بدارفور!
صلاة الجسد
ما يتبقى كل ليلة من الليل
وحده يبقى الشاعر من الليل
غريب عنك، الورد
سيرة المخلص
ليس حبا
صوت الظلام
شتاء
أمل
عصافير
أبد
قبح
وعد
علم
أوطان
طرق
جرح
النار
وحدة
أحزان
هروب
أمل
حرية
رفقة
هلوسة
سماؤه
عبق الذنب
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
بغم الأسماء
بغم الخطيئة
بغم ويلتاه
بغم الشجرة
ثمار البيت
طيور تقول لك: صباح الخير
سيرة ذاتية للشاعر مايا كوفسكي
جمهرة النشوة
ظفر
بئر الرغبة
اللحن الأكثر قدسية وشبقا
في مديح الحانثات
ليس من طليق بيننا
قلبك منفاك الأعظم
امرأة مثل دبيب النمل على الجرح
نشيد الشتات
ما لم أقله للسيد
لعنة الكتابة وكتابة اللعنة
ما بين الرواية وقرينتها
استثمروا في المستقبل، فإن المستقبل يدوم طويلا
مانديلا
المثقفون السودانيون والمصنفات الأدبية والفنية
البيت
عندما غنت فيروز لأمي
الناشر الشبح
عمان مدينة تحرسها الآلهة تايكي
حوار مع وداد الحاج
ما يتبقى كل ليلة من الليل
ما يتبقى كل ليلة من الليل
تأليف
عبد العزيز بركة ساكن
إهداء
إلى روح الجميلة، النظيفة، النقية، الشفيفة، مريم بنت أبو جبرين، أمي.
عبده بركة
للمطر القروي
لا، بل ما يشبه ضفيرة شعر من أجلي وحدي، ومن أجلي جاء المطر القروي حزينا، على كفيه بقايا نعاس ورسم حناء قديم، رماد فلوات الصيف الماضي، جاء المطر القروي يفتش عني في بحري، في الشجرة، على أسفلت طريق الثورة بالشنقيطي، في أتني على مقهى منسي، خلف الكافتيريا في أبي جنزير، وفي الحافلة الباردة إلى أم درمان مشينا، تقاولنا، فتشابهت علينا الطرقات والمستشفى، بائع الفاكهة العجوز والبقال على الأسفلت وكل صفوف الناس ... سألنا عن هذا وعن هذا، عن ذكرى الهندي غاندي، كنا اثنين ورابعنا عينان، في تلك الليلة يقول الراديو: مات على إثر رصاصات الأعداء جنود شتى ...
تعرفنا على سبعين ... كان السبعون سبايا جيش المهدي، أكبرهم جدي - أحد الميتين القتلى بحربة «شنقا شنقا» - يكفر جدي - وأنا أيضا - بالمهدي وخليفته، بعثمان دقنة وسناجك الترك المبيوعين، يكره تجار الرق الجلابة، يحارب ضمن صفوف الجان مع الشيطان، الأشجار، القنطور، الأفيال والعبيد: المهدي ...
وأنا وحدي يا حبي، أحمل عينيك قنابل من طين أسود وصلصال لايوق، أحشو بالدم وبالطين فمي، وأقاتل حتى الموت ... لا أشكو أو أصرخ، أتبين وجهك في الغابات وزرائب الأقنان، وأتعرف على صوتك من بين ملايين الثكلى.
من منا أكثر ترياقا؟
من منا أكثر أشواقا؟
من منا أكثر ليمونا وجروفا وطحينا؟
أتبين قيدك أيضا من سجن إلى سجن إلى أخشاب المشنقة السنطية البلهاء ... أتبين قيدك درويشا درويشا، وأغازلك وتبتسمين من تحت رداء الجوخ المثقوب الأسود ... أتبين قبح جمال النادل والكمساري والمطر القروي، يفتش عني، وراء النهد المسموم أدس عناويني، رقم الهاتف الجوال، تذاكر العودة إلى النهر وتميمة أمي المجلوة بعصارة لبن العشر، يفتش عني المطر القروي، رعد قبيلة الحبش، هضاب كرن وعبد القادر الجيلاني ، ولا يجدي في قول القائل، أو إيمان الكافر، ولا وطوطة جريح الحرب.
هناك تنامين على وجع، لا تستيقظ أسماك الرغبة في جعبته، ولا مطر يغسل فضيحته، ولا غاردنيا.
فراشات العالم كله لا يمكنها خلق زهرة، ولا تستطيع قبلة - مهما كانت دافئة وحقيقية وعميقة - استخدم العاشق فيها كل بساتين القلب، آيات الطير، كتاب طوق الحمامة، الكماسترا والروض العطر، لا تستطيع أن توقظ شفة أنامها الموت ... قولي للمطر القروي: كيف بعثته؟!
شوف
شاهدته، أنت دائما تخفينه خلف أشياء كثيرة، أنا شاهدته خلف أشياء كثيرة وتآلفت معها جميعا، أولها البحر ونوس أغصان النيم، وآخرها البحر يسبح فيه الزيتون المصري، ومن شاهد يقول الحلاج: «يا موسى، من رفع رأسه كما وأشرف إلى ما لا يحل له، سأشرف على الخلق هكذا، وأشار إلى الخشبة» رأيت صدرك، وأشرت أنا إلى البحر ... ثلاثون عاما نقضيها في الخرطوم بعيدا عن وصف المكان والرمل، مثل الماء يأتي من الهضبة والنجيل الوسيم والماشية ... ثلاثون عاما ما استرحت على السنطة، ولم يغرقني ماء أغسطس الأسود، عرفت أسماء البلاد جميعا بكل لغات الزمن المتسامحة، وعرفت ألقاب البنات يهمسن بها في سكة المدرسة وعلى الكراسات، عرفتها، ثلاثون عاما ثمن تلك النظرة، ويعود الثور العجوز إلى سنة المراهقة الأولى مثل جعران ثمل يفقده النزق لذة المشي، وشاهدت مثل الأشياء الكثيرة، ورد ولوسينا تغمض عينا من الشمس للعصفور، كنت وحيدا وباليا، مرميا على قارعة البنت، كثيرا جدا كالنمل، يتعب مغاريف الكناس، العابد وآكل النمل، مثل هذا الكم الهائل مني كنت مفردا، منفردا بالانتظار الطويل على صفوف السفر، قرأت ليقربني الحرف أكثر، أبعدتني الكتابة، قرأت ليرسم الحرف سحلية الروح «يفعل ذلك الولد صلاح إبراهيم».
أبعدتني المشاهدة أقرب.
قرأت لأجسد النطق، وأوحد ما بين الحرف والجسم.
أبعدتني الرؤية عن كشف الذات ... تهت ... شاهدته تحت كومة أشيائه الكثيرة. «عاتبني الخليفة بالمقلمة، وقال لي: من أنت ومن أنا؟ فرأيت الشمس والقمر والنجوم وجميع الأنوار، وقال لي: ما بقي نور في مجرى بحري إلا وقد رأيته، وجاءني كل شيء حتى لم يبق شيء، فقبل بين عيني، وسلم علي، ووقف في الظل»، «النفري»، من يطرق الباب يدخل، ومن يفتح الباب يواجه الخارج وما يسميه البعض الهواء، سوف لا ينجيك من هذا السعير غير السفر، هنا كل شيء أعددته لملاقاتك، أنا لا أتحدث عن العشب والطائر والجلوس، أنت تعرفين كيف يقام لك القداس افتداء من السحر، سأحررك أولا من يد النخاسة ورجال الدين، وسوط السائط ونشيد سليمان.
أسلط عريك للكلام وحده، وحده الكلام يجيد المحاورة.
شاهدت صدرك يا شجرة الآيلانسس، شاهدته تحت الورق المصفر والحدأة وبقايا ما ترك النسر والضوء والوطاويط وأرملة القط والصغار ... تحت ستار كثيف من شمس الخريف.
والآن لم يبق من الميلاد غير الموت.
على وجهك.
محض تشه
كل ما تعلمه الجندي في حياته تحصده طلقة واحدة، والسيدة التي اختلقتها من أجل الحب يسحبها التيار نحو بقايا السفن المنسية وكنوز رومانس، عصور تعرف الآن بعطرها وشيء من اللوتس الأسود، على شاطئ النيل يجلس النوبيون يروون لي كيف بنى جدي الهرم الأكبر، ثم تزوج ببنت صانع التوابيت الحجرية في مصر السفلى، أنا لا أضحك ... أرسم في شفتي لية فمك، وردة خدك العميقة، أبحر في ماء شفيف ينطلق نحوي، يسكرني وتصطف البنيات الجميلات المشيطات، سوقهن تهرع في الوقوف ... ويهتم الشعراء، ينشدون يقولون: إن العالم أجمل، وإنه الآن أحلى، وإن الليل تملص من قبضة الشرطي وهراوته، والتهم كلاب الحرس البنية، وأنا وأنت على المقهى، نحملق في عيني بعض، نتشهى أن نترك وحيدين، وأن يمضي الناس إلى ما شاءوا ... أن نترك والنادل ينعس، يتمطى، يجمع كرسيا على فنجان بارد وزجاجة ماء فارغة، عقب سيجارة بينسن، لفحة مريلة عصير العاشقة المحزون، رماد سجائرنا، فليتركنا نحملق في عينينا، نتشهى أن نرقص في العشب أو الماء أو الرمل، وأن نبني بيوتا من وقت يتكسر بين أناملنا، ويسيل لعاب الليل ... الليل ... الليل، وتبقى آخر فتاة للأسفلت، ولا امرأة أخرى غيرك تمشي بساقين شهيتين إلى موقف أم درمان ولا ... غير الشرطي البارد يمل صوتا ورصاصا وحافلة لا تمضي إلى أين ... رجال لا يمضون إلى أين ... كماسرة يتخذون من الأسفلت لباسا وينامون.
وأنت آخر عذراء في تلك الليلة تنظر في عيني عميقا، وتتعشق أن يتركنا النادل إلى أنفسنا وحيدين، ويتركنا النادل، المدينة لا تعرفني، وأنت القروية لا تعرفين سر الغربة، ولا تفهمين معنى أن يتركنا النادل ننظر في عينينا، نتشهى أن يتركنا النادل وأن يمضي ... غدا، غدا، يكتمل الفجر، تستهويني رؤية قبر الجندي ونبش حبيبته من موت قد يخدعنا أو يدل القاتل عنا ... أعرف أنك لا كالأم، ولا كالبنت، ولا كالعاشقة، ولا بنت الليل، وأعرف أن وجودك في المقهى محض تشه، وأعرف أني أخترق الليل إليك كالمتسول للدفء وللرائحة.
وأعرف أنك لا ... إلا أن تأتي إلي، وأن تلتئم اللوحة وأن نسقط.
الأعظم في الوحدة
اتخذت لنفسي صفة من صفات الناس، سوف لا يحسدني فيها حاسد غير نفسي ... وهي الفاسد ... ولأنني لم أكتف بأن أكون فاسدا فحسب، فأنا المفسد والمفسد والفسود الفسد، الفسيد، والفساد الفساد ... ويعرف العارفون أني أفسدهم معرفة أعرقهم مفسدة، وأني أحب - إذ أحب - في الناس أضلهم، فالضالون هم وحدهم من يعرف طرقا أخرى غير طرق الهداية، وهي سبيل بعيدة، شاسعة، مرعبة، وعرة، ولكن بها لذة ذاقوها وظلوا عليها وسوف لا يحيدون، وطرق الهداية طيبة وباردة، وأنها تميت الروح في الجنة، إنها كقفص من الثلج، وإني أسلك سلوكا هو الأسوأ في النبات، أقبل الطائر والثعبان في آن واحد، وهو الأجمل في الحيوان ... أعلم الشر ولا أتقيه، والأغرب في المسافة ابتداء في كل خطوة من جديد ولا نهاية لي، والأقبح عند الرجل ... إني لا أقول حبيبتي، ولكني أقول حبيباتي، والأحلى في البنت: رجل في القلب يزيده اتساعا، وإني أحب في البيت الفراش، وفي النساء عليه، تعلمت من صديق صيني: الرجل الفاضل يخاف على المرأة من كل الرجال إلا نفسه، أما الفاسد فهو الذي يخاف على نفسه من كل النساء، إلا التي تعرف اسمه.
كنا في البيت طائر ووردة ... في السكة يبقى الليل وحيدا يتحسس ظلمته ... كنا في البيت كشيئين طويلين بليدين، ولكنا الأعظم في الوحدة ... الصبر أضيق أبواب الفرج، والأم تصنع من مزق الفقر فطورا ... الأم تعلمني كيف أحيك الصبر لباسا يتسلل من بين خيوط التيل ... يمتد إلى ما دون الركبة، يتحسس دفء النظرة وكركرة البنت ... الأم تعلمني الفسق الطيب، ونحن نمد أيادينا للناس، نستثمر كنز الفقر ونضحك ... من علمني الحرف؟ من يبصق على وجهي الكلمات؟ من يعرف اسمي غير الجن وأنت؟
كنا نتجول في وقع الحزن علينا ... قالت أمي وفي يدها بقية قرش وقديد يتحرك فيه الوحش المقتول منذ سنين: لم ينفعك بعد بسم الله غير الوحش ... ضحكنا ... كانت أمي تشبه وجهي يسود كثيرا في الفرحة، ويصبح جميلا كالأسفلت حين الجوع ... كبرت ... تعلمت الإغواء ... يأتي الرجل حزينا مرتبكا يباعد بين الفخذين، يمص قليلا من ثدي ... يعبث ببقية ثوبي ينزعه، يستفرغ في رحمي، يستفرغ في رئتي، يستفرغ في نهدي، يستفرغ في بقايا الليل، يتبول في أودية القط فضيحته، أو يصرخ مندهشا، قالت أمي تهمس في أذني: الصبر أضيق أبواب الوحش ولوجا للذة.
اليوم يمر كألفي عام ... اليوم يمر كزنديق يهرع نحو الله، يحسبه الناس صفيقا، ويحسبه السلطان نبيا مرسلا ... اليوم يمر تحت إبط البنت يدغدق ذاكرة الشيخ، كان الفاسد مثل الليل يموت وحيدا في الظلمة، يأتيه الشعراء كأجمل أطيار الجنة. كالأم ... في ذاكرتي سجني، وأنا أتخذ السجن قلعة حرية ... أستعمل أوردتي حديد السجن وقلبي مطرقة الحداد، أصيغ الفقر سلاسل ذهب وخلاخل فضة ... اليوم يمر كقديس أعمى يرى بالقلب في الظلمة أكثر ... لم يشهد ملكوت الله ... لم يقرأ توراة ... لم يحفظ إنجيلا ... لم يتل قرآنا ... يرى في الظلمة نبض الإنسان ... جاء الشعراء الأموات يحتطبون الأجساد الكاذبة في سوق النخاسة ... أعرفهم ... غناء السلطان يميزهم، يحترفون رويال الصمت ... الأم تقول لهم: انتبهوا يا شعراء الريح، انتبهوا للأرض.
في بيتي جسدي ... وأنا أمتلك فيما أورثني جدي جسدي ... أمتلك الشجر الوارف والأصداف ... أمتلك البحر ... أمتلك الفرجة في وجعي ... أمتلك العصفور طليقا في السموات ... أمتلك الأرض ... الحرب تعيق الحرب ... السلم يعيق السلم ... الفلاح يدق الفأس يحيل الأشياء إلى ضوضاء مثمرة ونقيق.
يا صوتي، يا امرأتي وبكائي وحدي، يا درويش الروح وقدس الأقداس، يا ليل الفاسد ونصرته، يا لحظات الشبق الأكرم، يا من ناديت ما أسمعت سوى جرحك ... يمضي اليوم ثقيلا كالبهجة، منتعظا كمسمار الأشياء، يضل الدرويش سبيلا مأهولا باللذة ... يا سيتيت المدن المنسية في الفشقا، يا من يعرف اسم الوشم وكنيته: أنت حبيباتي، وأنا واحد ممن تعشقين.
الدمازين
21 / 6 / 2009
سكة البيت
لقد كنت مرهقا مثلكم، لم أستطع أن أميز ما بين التاج والمقصلة، كنت نعسا فتغافلت عن سكة البيت، جئت إلى هنا لألتقي بكم، لأرسم بحرا في أكفكم وأغرقكم فيه، كنت شجاعا كما كنتم وأنت تهربون من الموت إلى اليابسة، غريبا، عارفا، نزقا ومحبوبا مثل أرنب في مخيلة ذئب؛ لذا لا تحرموني نعيم المشنقة، حبلها ندي مثل كف أمي، وخشيش نصلها موسيقى عصافير الكروان، من تذوق طعمها لن يفارقه، ومن لبس حريرها تشهى فراشها، فهي حيث لا وسط بين الفكرة وبين الفكرة.
هكذا غنى الأستاذ محمود محمد طه، أو يظن أنه، أو غني له، أو تغنى به البعض، وظلت الحقيقة بين بين إلى يومنا هذا، الرجل علمنا الطريق إلى الحياة وأخطأه، عرفنا بالله وتنحى بقلبه عن الملل وفكرة الأمس، وقال لي: إذا ضللت فتخير في السبيل أكثرها ظلمة؛ لأنها وحدها تحتاج إلى نور قلبك، وقال لي: أنت لا تعرف من شأن نفسك بقدر ما تعرف هي من شأنك، فلا تتبع سبيلي؛ لأنك ستضل، ولا تتبع سبيل غيري؛ لأنك ستضلله، ولا تكون نفسك إلا بقدر ما تخشى السقوط في هاوية الجسد، وقال لي: من سقط في هاوية الجسد، ثم بكى.
سلام عليك في المكان، وسلام على نخلة!
ظللنا نعد الشباك والأغنيات إلى الفرائس، شربنا لأجلها خمرا من كرم التشهي والارتباك الحميم، وقلنا لبعض النساء الجميلات إن تحاكيناها، أن يقعن في لجة الشرك الزنيم، وأن ينثرن من أرياش أجنحتهن عاصفة تخبرنا بأن النساء الجميلات قد وقعن في المصيدة، وأن الفرائس الآن تنتظر نصل السكاكين وثرثرة الشواء، وقال لي النساء كالعاصفة يجرحن قلبك حيثما خبرنه، ثم يغسلن روحك بالغيث، وقال لي: إذا صدتهن فاعلم أنت الفريسة.
سلام علي في لجة الانتشاء، وسلام عليها كواحدة من ورد الحديقة وماء خطايانا الشفيف، وقال لي: في سكة النهر النهر، وقال لي: إذا خيرت ما بين هذا وذاك، فاخترني لأنني هذا وذاك، وقال لي: الوطن ليس كالحرب، تخسره أو تكسبه في معركة، ولكنه كالأم لا يمكنك أن تفصل لبنها عن لحمك. ثم كاد يقول لي شيئين ...
كنت جميلا وبوجهي خربشة مخالب البلاد الكبيرة، وكلما كبر أولاد الجيران ابيضت أسنانهم واسودت وجوههم وأصبحوا كغربان البشارة، إلا أنا، كبرت بلا أسنان ووجهي مقدس كقرد التبت، تراه في الليل قصائد شعر، وفي لحظة العشق كقنديل يضاء ويطفى بقبلة بنت، ورفسة نهد، طنين سرير الحنين القصي، وقال لي: إذا رأيت أصبت بداء الذي قد رأيت وكنت حبيسا له، وإذا خاطبك الجاهلون صرت منهم.
وقال لي: يا بركة، الليل الليل، وقال لي في الليل ليلك.
15 / 3 / 2010
العالم لا يشم صراخ الأرواح بدارفور!
أشم بأنفي الأصوات، وأنفي لغتي بين المعنى والمبهم، أنفي ثرثرة الأضداد، أنفي أسئلة لإجابات توغل في الإبهام وفي التاريخ ...
جاءوا في الصمت، كانوا جندا وصراصير قتلة، كانوا زرازير أبابيل، وأنا أقود قبيلة جدي لهدم الغفلة، أركب فيما يركب أبنائي فيلا، في السر توسوس لي نفسي أن أفعل، أن أطرد من أرضي شبح الموت الآثم: الموت! يقول جدي عبد الكريم إدريس آدم: الموت الكافر.
كانوا ما يسميه السحرة جنجويدا، حكاما وسلاطين ومسلمين، من عرب النيجر وجمهورية تشاد، مثل جراد من طينة جن وكلاشنكوف، مثل أزيز الطلقة وآآآآهة سيدة مغتصبة، ونسائي العشرون وبناتي التسع وأولادي الخمسون، سكارى من عطر البارود، وجدي يعلن أن النصر في حد الصبر وتقبيل النار، يعلن أن الله يؤرخ للقتلى بدماء نحيب المغتصبات، وأنفي تشتم كلام الله، مثل نبي يتسول في العرش يندس بين حروف العلة والمجرور، يحسبه الحراس ذبابة تقوى، وأحسبه موسيقى تدفئ روحي في الجنة بنار الإفك.
بلدي دارفور، ووطني ما يخرج من مني حامض من سرة جدي، أمي تحبل بالأحجار وبالماء، وعلى عينيها بقايا ما ترك الجند من الليمون واليوسفي على شاطئ خور معوج كثعبان، بلدي لغتي كذاكرة الأطفال، تهوم بين السحر وما بين الأحلام وبيتي، تحبل امرأتي بالطين وبالشمس السوداء الشبقة، وطني حيث تنبت في النطفة امرأة ورجال وهوام.
لن يقتلنا الموت أو الإهمال، لن يمحو ذاكرة الأرض تبول ناقتهم في الرمل، فالرمل يقاوم مثل البنت، ومثل اللغة وأنفي.
صباح الخير، العالم يغشاه نعاس، العالم لا يشم صراخ الأرواح بدارفور.
8 / 3 / 2010
صلاة الجسد
أبناؤنا المشردون على جسدك الحار، يرقصون على إيقاع نبضك، يتمرجحون في هدوء أنفاسك وابتسامتك الناعسة ... أنت مسجاة هنالك بكامل إرادة الوقت والقهوة، بكامل صراخ العشيبات المصطفاة في سبيل النشوة، يمهدن سبل الرب، ينشدن صلاة الجسد: أحبك، أحبك، أحبك، ألف نجم وطائر، زرافة في سافنا كوما قنذا الغنية، وأنت مثل ماء يتدفق بين صخرتين طيبتين كأحجار موسى، تبعثرين جسدك في المكان ... تتشهين الشيء أن تذوبين في ...
ومثلي كما لم يعلمه الله، خائن وماكر، لا يثق في حنين يموء كهر جبلي شبق ... صلاة لأجلك وحدك، أقلد فيها إفك الحمام، وصدق الذئاب، وفسق الدجاجات وأبكي؛ لأني أغني بصوت وأبكي بصوت، وأجني ثمار النهود التي تزهر فيك بصوت، أدعو وأعلم أن الإله يجيب دعاء الشقي، أصلي صلاة الجسد، لرب يظلل ليل البنات الجميل بجناحي، وأنت البنيات ينمن في خاطري، يخفن الرجال جميعا إلا أنا الوحيد في جوقة الجوارح، يعطي الطمأنينة والخوف والجن وشهوة الانتشاء بذات الألم ...
أصلي لأجلك صلاة الجسد، لا سورة تقرأ، لا توراة، لا إنجيل، لا كماسترا، لا مشيل فوكو أو فوكوياما، لا فيدا، لا سرديات كتلك التي في كتاب الموتى، لا النفري، لا شيركو بيكاس، لا شيخ سنار التقى فرح، لا دون جوان خليع ... ليس سوى بوذا ينقط ميلاد عيسى المسيح بحبر اللوتس، يدير بوصلة القيامات والأمهات الجميلات إلى وقتنا المتقد ... صلاة لأطفالنا في الجسد ... ما بين صدرك ونهدك ونعليك، ما بين شارب اللذة وسكينة الجنجويد في رقاب المساكين ...
أصلي لأجلك صلاة الجسد، مثل النخيل يلطف وجه السماء المحرق بالشمس والانتظار، مثل الدليب والدوم، تعلو بأوراقها وتسقط أبناءها كأبنائنا المشردين في الأرض ... أصلي لأجلك وحدك صلاة الجسد ... امنحيني صلاة تصلى لأجلك، لأجلك وحدك صلاة الجسد ... كن في الليل والغربة نفس المسافة ما بين ليل وغربة ... نفس الجسد ... أحبك، أحبك، أحبك، أحبك كثيرا كحبة رمل، كذرة تبر وحنظل ... أحبك جدا كشدو طيور الكلج، كوخذ ضمير الحمام ... أحبك أيضا وأنى، ولكن، وثم، وبعد، وليت التي ثم ماذا وكيف ... صلاة لأجلك وحدك، كأطفالنا المشردين فوق أديم الجسد، بلذة الرمل الذي نغني له، أحبك وكنا يمر القطار بعيدا رويدا رويدا، تهمس لي: «بحب ... حبيبي، بحب.»
أمد يدي للسماء وقلبي، أستعين بشيخي وسيدي النفري، بالمواقف والمخاطبات، أصلي وأسلم، أشبع الوقت والميتين ... رأيتك عند الصباح البهي تحلبين النعاج، تثقو بلحن سليمان النعاج، نشيدا لأنشاد الجسد ... كنت تنثرين وردك ملء المساء، كغاردينا البعاعيت مسمومة ومشتهاة، يفوح عطرك، يسكر شهوة الاتعاظ الغبي لدينا «وحش السرير الزنيم»، وأنا مثل غن يهيم بزوجة ملك، وأنت سلطانة تغوي خلا يخون ويوفي بحب يغني: لنا ما لنا من حنين لنا، لنا ما لنا من جمال.
يا هذه، يا مجدلية الروح، يا مريمي، ومريمي الأخرى وفاطمتي ...
الدمازين
2 / 1 / 2010
ما يتبقى كل ليلة من الليل
سوف لا يدق الجرس الإلكتروني اليوم، سوف لا يدق، والريح الطائعة السكري سوف تتجنب العبور وإهداء صفيرها المجاني؛ لأنها تحتفظ بالأشياء من أجل أن ترقص على أفرع الشجيرات الحذرة.
كانوا يكتبون الجوابات للصبيات تحية لاستدارة أطرافهن وانتباه أجسادهن، وفي ذكرى اللقاءات التي لم تتم.
أنا أكتب إليك لا لأجل هذا ولا ذاك، فقط لأنني أتخلص من سحرك برسمه على جدار الكهف، ثم رميه بالحجارة الحادة وإحاطته بالتمائم، أحمد أبو جميزة الذي تعرفينه الذي خلص أبي من القيد، وحرره ثلاثين مرة في يوم واحد، كنت وأصحابي الأطفال نهتف خلفه وهو يحمل «كوكابا» ويحارب الضالين، كنا نشجعه مندسين في طفولتنا وأحلامنا الصغيرة، ومن كرات ثمار العشر نصنع قنابل الغد ونهديها إلى أفراس أبي جميزة الصافنات، وهي تطحن الغبار الحار، وتمزجه بعرق الجند الفقراء، تخطف الدم من شرايين العدو قطرة قطرة.
لا يمكن لأية سيدة أن تأخذ نقطة حبر، وتدعي النبوة، وتسجح في رشاقة وغنج، وأنا لا تدهشني وسوسة النسرين ولا جموحك، لا تبطل تميمة أجدادي السحرة تلك البسمة الممطرة؛ لأنني ببساطة أعرف أين مكمن الجهل في علم العالم، وأتبصر بذات إيروسيتك علم الجاهل بدأب النملة وصبر السيالة: أحدق ...
هنا، أينما يممت وجهك أنت تصلي نحوي ثم، قد لا أجد مبررا لنزعهما معا في آن واحد، أن يمسخني الحب عبدا، وأن أحمل نفسي في قفاف السوقة، وأدعو الناس أن اشتروني، من أجلك تبقى الفراشة زهرة تحلم بالطيران.
أليس بالإمكان فعل ما هو أكبر من الحب والعاطفة والجسد وضفائر تسدلها البنت آخر الليل لرجل تمزق أحشاءه أقلام كثيرة؟! أليس هناك ما هو أقوم وأدق وأمتع وأجن وأفسد وأحن وأصلح من الجسد؟! أليس بالإمكان أن يتكور الصوت الآتي عبر هواء الأقمار قناة تخلقها ذبذبات اللغة قليلا فقليلا؟! تخرج من أذني إلى أرض الكوخ بلا تاريخ أو أقطان، ورطانات بلا وطن، عارية كالصوت أقبلها وألثم غفلتها وأنبهها على كفي، على صدري، على شجري، على الدنيا ... على كرسيك أقرأها ضلالاتي وأفسدها وأفسدني، وأبني في صباحاتي لها ظلا بئيسا، قصير العمر لا يغني ولا يفنى.
ما لدي سوى ذهب مغشوش بالرماد يسميه العاشقون الصدق، وأسميه: أمل ... ما لدي سوى ما يتبقى كل ليلة من الليل يتجنبه السكارى في نباح الكلاب وحذر القطط.
ما لدي هذا المطر الذي يأتي من النهر خلف كوخي بين شارع المدرسة ومنازل بائعي النيفة الباردة، على الريح.
لديك القليل الذي يدرك ما لم يدركه الكثير الكثير، مثل شرارة الجمر التي سرقها برومثيوس.
لديك هذا الحلم، سوف تقتسم نصف الرغيف ونصف الأغنية ونصف الرغبة، والنصف الآخر الذي يخص البحر وحده نهديه إلى جنيات الماء العذراوات.
وما يخصنا للسحابة. «أظننا وحدنا الآن»، وهذا القمر أعمى لا يشتم الرائحة.
وحده يبقى الشاعر من الليل
أجل، أبيعك بقبلة ، يا سيدتي، وورقة نحاس صفراء، تلوحين لي من بعيد شاكرة أم غاضبة لا أفهم، يداك تعرفان السر، أصابعي تتفقد حموضة الشجرة وتتوهم - بين لحظة وأخرى - أن ينفجر الكنز المسحور ينثر أقمارا كثيرة وبرتقالات وزيتونا وزيتا!
لا يدهشني القطن الأسود، سوف تثارين وتقبلين ثمن القبلة ملحا، والمجد الذي يبنيه الأطفال على الرمل الذهبي، بالتأكيد في شكل قصور وقطاط وذرة شامية، مجد لا يقاس بمسبار اللحظة، أو اللذة، أو حتى طنين الجسد.
بقدر ما يوحي لي الحبر أحبك، حبا كثيرا يكفي قشلاقا حدوديا من الطمأنينة وسر الليل، قد نتبادل نشوة الجسد، ونحتفي بالروح، ونهتف على بقايا الورق والأصباغ والأصدقاء بما يكفي من سخرية، ولكنا أبدا لا نكتفي من الحنين الأسود الزاهي، لا يكفي الليل كله ولا المرقد وسقسقة ماء الحياء الحار، تنامين على كفي طوال العمر، وتحلمين مثلك مثل العصافير الصغيرة.
العمر كله ثم الأقمار بين نهديك دون هدى أو سكرى، مثلي يبللها العرق النقي الحلو، فتموء الأصابع الرشيقة، تأتي أقمار لا تعرفها الأقمار إلا بالندى، ترضع الأطفال - وهم يكبرون ويزدادون سوادا - ويبقيني الحرس خارج أسوار المدينة موسما بعد موسم، أتحمل ثقل الريح، ونهيق الرعد، وحوحة البرق المشاكس على أسوار المدينة، وحدي أحبك.
أسمع الآن طنين الصمت، وأرى كما يرى الحالم ذراعيك تبرزان من بين السواد، تلوحان في الهواء وتقبضان لا شيء، أو الملائكة الذين يوجدون حيثما يحصون لحظات الجسد الخفيفة طازجة بآلاتهم الحاسبة، واحدة تلو الأخرى.
هي ذاتها دهشة كل شيء، يحدث للمرة الأولى، هي ذاتها مأساة أن ينتهي ...
هي ...
ذاتها ...
أن نعيش لنهدم ما بناه الميتون، كم قبلة تبقت من هذا الليل، كم لمسة ساق وعنق، وشوشة إبط حنون، كم نخلة تنتظر عند الباب مولد يسوع، يحترق جذعها شوقا لرعشة متوحشة، تنطلق عبر خلايا الجسد كعنكبوت مسحور، أطرق أبواب المدن التي تحاصرنا، أنادي جميع الحراس بأسمائهم وألقابهم وكنية حبيباتهم ونسائهم، وأقول لهم: إني أعرف كيف يسمون أطفالهم، وإني أفهم سر بنادقهم التي لا تطلق النار أبدا، ولكنها تخيف وتقتل وتسرق الدم من الشرايين؟!
حينها يفتحون البوابات، تستيقظ العصافير والوطاويط والعناكب المتوحشة، فأستقبلها بأحضان عطشة، تطل امرأة تبدو دائما في الظل وشهية تحت ضوء الشمس وعفر الرمال.
آه ... سبعون عاما، وغدا يوم جديد، له شمس مكرورة وذات الآذان وثغاء البقر، وله ظل ذات الشجرة البعيد، سوف يتمطى هذا الصباح بيني وبينك، راميا بأجنحته الكثيرة في الفراغ الأخضر والطين والحر والراديو، وما تبقى لي من بخور مسحور، لا شيء يبقيني مستيقظا غير ذاكرة الطين الحار تزحف مثل جيوش النمل المشئوم.
كم قبلة تبقت من الليل كيف يصير ليلا؟ كم نشيد وبوليس يذرع الطريق المظلمة غاديا ورائحا في خوف فطري؟ كم أنثى ...؟ كم لحظة عميقة تحسبها الملائكة دهرا ونيفا؟
كم أغنية؟!
كم حبيبة حافية تخوض النهر، ثم تجلس على ضفاف لا اسم لها، تمشطها حوريات القاع السحيق بزيت الماء، ويدلكنها برمل الشطآن الشهي تحت عرديبة أسميها - عندما نلتقي - نفح وردة الكرب المنسية وتحكي:
على أنهار سيتيت ...
حيث جلسنا ...
وبكينا ...
مثلك يا حبيبتي ينبع النهر من العاصفة، وتخونه حدأتان، فتلقيان به إلى الأرض حيث الجنة التي يصنعها، ويصبح موضوعا لها ... ما تبقى من الليل قبلتان ... غمزة نجم، شرطي نعسان، بقية ماء في الكأس، وردة تذبل تدريجيا، شظايا عطر تبرق هنا وهناك، ضفائر مبعثرة على الفراش، وقلم فارغ ...
وشاعر ينام وحده على قهقهة المروحة العجوز.
غريب عنك، الورد
بعيد عنك إنما قريب في كل الأشياء الأخرى، بعيد عنك بلا اسم، ولا جغرافية، ولا كلمات، بلا رجعة تنحدر الطريق الناعمة نحو أنامل السيدة التي نحبها جميعا، ويعلن طائر الكلجكلج أنها لن تجيء إلى المزرعة إلا إذا بعدنا عنها مرمى حجارة كثيرة، مرمى ليل بأكمله وفكرة، صمت:
قلبي يحدثني بأنك متلفي
روحي فداك عرفت أم لم تعرف
بعيد عنك، قريب من الموت والحمى، أرسم جندا من الصراصير والبراغيث، أسمع صوت أمي يدمر ويحرق ما بيني وبين الأشياء من تشوك وجمود.
تهرب الجرذة.
ما لي سوى روحي ... وباذل نفسه
في حب من يهواه ليس بمسرف
حبيبتي، حان الآن أن أكشف القناع عنك، وأهدي اسمك ورسمك وميلادك والطرق السرية التي نخوض بركها المسحورة لكي نلتقي، حان الآن أن يعرف قليل من الناس، كيف إذن أسرفت روحك في الهجر، كيف نقيم جسر الجسد روحا بيني وبينك من الوردة ...
حان الآن لصديقاتك الحزينات ولأحمد وشجيرات اللوسيان الآسيات أن يرون كيف أعريك من الوشم وخاتم الفضة القديم أنهض الجرح، وإن تناءت داره.
حان الآن أن نتنحى قليلا عن السر للماء يلقي عليه تحية الطهارة، تجففه شمس نوفمبر الرمادية، حان وقت الاحتراق بالماء غليا ...
لقد تدنسنا أنا وأنت بريح زكية، هبط بها شيطانان مع آدم وحواء، من الجنة، سمي لي الشيطانين باسميهما يا حبيبتي، سمي باسمي، حرفي وحرفك لا ينتظمان في كلمة إلا أن تنفك دائرة إبليس، أن يخترقك المطل، فتدفعين نحوي كل شيء يا حبيبتي، كل شيء مرة واحدة، كل بؤس الجحيم في المواعيد غير المنجزة، الانتظار الطويل على برودة الأسفلت وحذر العسكر، لا أريد كل شيء، كل شيء يا حبيبتي يرغب في وسوسة الابتسام.
الأحذية معدة جيدا، فراش الصغار، فرشاة الأسنان الناعمة، ترقب المهد يضيق مع دقات ساعة الحائط ...
الأحذية معدة جيدا ...
بعيد عنك، أقرأ نشيد الإنشاد تحية لقبلة لم يدركها كلانا، كانت تهرب من لسانك برعب أسطوري بين زحمة المشاة يشعلون الآن غابة من غبار المدينة، يلعنون المطر والحب في كأس واحدة لا تميت.
حان الآن أن أشرح معنى أنك الآن أقرب عندي من نجم نسيه الليل في القرية، أدهشه الأطفال عند الصباح، واحتموا بالاختباء بين أثواب أم كبيرة.
مدي لي ذراعين وفخذين وخصلة ونهدين، شعرا، أناملك المغلفة بداء اللذة، حديقة ورد الحمار وقمرين ... مدي إلي الآن ... نخلك ... والكلام ... «وقال لي: كله لا أنظر إليه ولا يصلح لي».
مدي لي الصباح،
أشتهي نجمة ومجرة.
سيرة المخلص
بقدر الصمت الذي تعرفينه، لبست البنت ضفيرة شعر مشاكسة على عجل، النساء فاكهة الليل، يحتمين باللغة والاستعارات من شبح الموت، يقشرن لي البرتقال ويطعمنه للسلاحف الكسولة، وهن يقرأن الكمسترا في المقاهي على جادة الطريق للمارة ولي، أنا لا أفهم في رؤية يوحنا أكثر مما وعيته من رسالة الغفران ومنامات الوهراني والكوميديا الإلهية، وكل ما يحاول أن يشوه علاقتي بالله، يتعذر علي فهمه، حتى النساء - فاكهة الليل - حينما يتوقفن عن الكلام فإنهن يقلن كل ما هو أكثر روعة، لم أره، لم يكلمني، لم يرسل إلي رسلا، ولا ملائكة ولا كتابا، لا شجرا ولم يهدني نجدا واحدا، ولكنني لسوء تقدير مني لم أقرأ، لقد ظل كل شيء على ما هو عليه، هذا سر الحب الذي يربطني به، ليس الخوف، ليست التقوى، ولست طمعانا في الجنة، وهواؤها أنقى مما أحتمل، ولست راغبا في النار، أحرقت بها مرارا، لا يعيبها شيء سوى الدفء.
كل شيء ظل كما هو.
لست تقيا، لست نقيا، طمعا ولا أعرف شيئا من العلم يقوي حجتي ويمهجني، مثلي ذرة من الغبار عالقة بما لا مكان، بغير إحداثيات ولا تاريخ ولا زمن ولا مستقبل ...
بهذا القدر من الإيمان، ظل كل شيء كما هو، وحدها عدم الطمأنينة سيدة الموقف، هي الأجمل، وهي التي أعطت معنى لهذا القلق النبيل، الذي يهدم في البيوت المتصدعة بفعل الطوفان، وحركت ما يبدو ثابتا للسائحين، وحده الحب ينجيك من المهزلة، وادعاء أن الأشياء هي الأشياء ...
ولن تنجو ...
لا الحب ولا الجهل والسهر، لا الشعر كلا، سوف تسقط في الفخ بألف اسم وعنوان.
سوف يسقطون.
سيسقطون.
صغير هو الكون، إني أختنق الآن، أريد أن أطل برأسي إلى الخارج، أبحث عن كوة ولو بحجم أنف واحدة، بحجم مليار أنف، إني أختنق الآن، تحاصرني النجوم والشموس والأقمار والمذنبات تخر، ما أضيق الكون يا حبيبتي!
سوف يسقط بعد قليل، دعي الأطفال يذهبون في النوم، تهدأ الفئران قليلا، ويسكت النعاس عازف الطبل والمغني وتيار الكهرباء، دعي الريح تسأل النوس الخجول.
من أجملهن حبا؟
من أجملهن حبا؟
التقينا أول مرة، هي ذاتها التي عرفتنا فيها الحية بالسبيل إلى الأرض، اللذة التي هي أعظم من الخلد.
وقلت لي حينها: قد نمل الخلود.
ودفعت في فمي قبلة كبيرة من ثمر الزقوم.
فشاهدت.
شاهدت ...
ضحكت الحية الجميلة، تشيعنا نحو الأرض، لقد استجاب الرب لدعاء الجسد.
نحمدك سبحانك على هذه اللعنة اللذيذة، على هذا السقوط البهي.
التقينا أول ما التقينا على طريق وعرة وكنت نور عيني ... «لقد فقأ عيني أوديب ظانا أنهما عيناه ...»
وكنت - وما زلت - نبض قلبي. «كنت ومحمود محمد طه على مشنقة واحدة.»
حبيبتي، لا يلام الجسد عندما يفعل عمل الجسد، ولا تلام الروح إذ تعشق.
من يستغرب الريح إذا هبت؟!
ليس حبا
لا أريد منك شيئا، أحتاجك كلك، حتى عثرتك في الدرب، لية فمك واندهاشاتك، وأريدك أكثر أن تمضي، تخرجي من حياتي نحو نهايتك التي أعرفها جيدا، أن تعودي جمرة في الجحيم، حيث خلقك الله هناك منذ البدء.
وأريدك لأتمم بك صلاة قرأت فيها الطواسين والمنامات والمواقف والمخاطبات وسفر سوزانا و«عيناك يا حبيبتي يمامتان» وشيركو بيكة س، قرأت فيها
سلام قولا من رب رحيم .
وبسم الله، صلاة لا تكتمل إلا بحضورك، شيطانا شيطانا، وريشة وريشة، وطحلبا طحلبا ووهما، درويشا درويشا، سأحبك أكثر لأنني سأفقدك في زحمة الجسد، لا شيء تبقى لي من الروح غير الجسد، لا شيء تبقى لي من الجسد غير الصلاة، و«إلا» التي تخص إبليس وحده.
كل ما استطعت أن أفعله لأجلك فعله قبطان الحياة معك، كل ما لا أستطيع أن أحتمله غناه عصفوران على أيكة المسافة، والبص السريع، وصياح ديك الفجر الكاذب.
أنا لا أدخر لك شيئا سوى بقية من المواقف، سوى قليل كبحار العالم كلها، وفيروز سوى الطين الخصب والويكة وسمك التمبيرة، أدخر لك عاطفة ستعصف بي وبك، وتحطم أشرعة اليابسة فترك وترتاح من علة السفر المستحيل، أريدك - والآن - لأنني لا أرغبك، ولأن اشتهاءك آخر طلقة لآخر جندي في آخر معركة فاسدة؛ لأنك طاووس الروح، وناقوس كنائسها، وباخوس حاناتها، ومجدلية مسيحها، ووردة قبلتها؛ لأنك أقل قليلا من يوم القيامة.
استيقظ الآن ... آن أنامه الرهق والجري على الأسفلت ومشابهة الفئران وقنديل الكتابة الحزين، استيقظ الآن جمهور شاهد دموع المسيح على حبر التلمود، وشاهد مريم ولم يعترف.
استيقظ الآن وحش السرير اللئيم الزنيم أكثر قداسة وياسمينا وهلعا، استيقظ الطاسين على المصلبة الباردة وفوران سؤال الصوفي يلح، ويلح، ويلح، ويلح على السوط واللسان، والحاكم، والساكتين، والشعر، والله كائن بالمدينة منذ أن خلقها الله.
قد أشتاق إليك، قد أحبك، قد أشتهيك، قد أساررك، وقد نبتلى بالقصص وحكايا الرقيق وسوق النخاسة، والمهدي المنتظر يطرق باب التجار نقرة نقرة، يحاول حشرهم عبر ثقب الإبرة إلا من أبى. وقد نقضي النهار عند شيخك «البرعي»، أو عند شيخي «كتاب الطواسين». قلت: قد أحبك، غير أني أجزم وأقسم بأن تلك الركعة التي لم تتم تختبئ فيك مراوغة خجلة وعارية مثل هبوب السموم، كل ما يقال عن الحب قد قيل عن الله ليبقى جميلا، وكل ما قيل عنك قاله النور عثمان أبكر في «أوراق الابن العاق» ورقصة رامبو في هرر برسم حبشيتين، ونقطة وطير الحمام.
إن الذي بيني وبينك ليس حبا، إن ما بيني وبينك الأسفلت ومزرعة القطن وبعض الوقت.
خشم القربة
3 / 10 / 2004
صوت الظلام
يمر الظلام خلف القطية الكبيرة على أطراف أصابع رجليه اللينة، يمسك أنفاسه في قسوة لا تخلو من طرفة ومرح، أنا والقط نسمع وسوسة العشب الناضج لأصابعه، أسمع همس الأفكار الشاسعة التي تعصف في عقله بالكلمات الموزونة وعبارات قبرات الليل والصراصير المتمدنة البليدة.
يسمع القط لا شيء، يمر الظلام خلف ألف قطية كبيرة ومزيرة، والجميلة النقية سوف لا تحمل قفاف الحياة وسلال المرح مرة أخرى، يشتاق إليها الدرب وطلائع الليل الغبشاء، كلبان يبحثان في الكوشة المنزوية عند الكمبو الصغير، رد السلام، وتفقد الجيران والأصحاب وأخبار الحواشة، الحزن ... الفجر ... الجان ... سائق الكارو ... مورد الخضار ... يمر الظلام ناعما، أسود، ترقص أجنحته البيضاء، فتثير الورود الناعمة وأشجار اللوسينا العالية المتعالية، تقبل ملائكة قريبات من لعبة الطفل، مثل عصفور ضل بوصلة الطبيعة، كنت وما زلت أجوب البحار عائدا من طروادة روحي ... آه ... آه ...
كم أغنية وكم أغنية وكم أغنية ...
مسكينة قفة السوق، إذ لا تجد إجابة لدهشتها عن الصباح، لماذا أنا هنا؟ أين الصديقة والرفيقة ابنة الدرب والقعاد؟!
ولماذا تصرخ النسوة يرمين بسوقهن العجلة على الدفلات، ولا ينتبهن للقطط الصغيرة بين هنا وهناك.
مسكين جدا الليل يحبو خلف القطية الكبيرة، تلاحق أنفاسه التعبة الخائفة، أسمع همس الليل في أذن الظلام، قوالاته ووقفته، أسمع دقات قلبه البيضاء الرقيقة مثل قول أحبك، المتوحشة ... نعرف أن عد العمر ذرة نقطة يعني الكثير بالنسبة للقلب، وأنه خال من الأصفر والأحمر والبنت، القلب أبيض كالأسفلت، وأنا والقط وحدنا، يخيفنا همس الليل في أذن القط، يخيفنا النداء ...
من؟!
ماذا؟!
الملك؟!
يمكن دا الموت؟!
دعونا نذهب إليه، أين هي أحذيتنا القوية الدافئة، فلنتركها في البيت تحت عنقريب الراحة، أين هي ستراتنا، فساتين الجمال، أقمصة النوم، البناطلين القوية القطنية الزرقاء، أين القطع السوداء الحميمة، التي تغمض عينيها خجلا عندما تلمسها أصابع الآخر المعرورقة المرتجفة، فلنغلق عليها دولاب الملابس، أين الأصدقاء، دعهم يذهبوا إلى العمل، قد لا نحتاج إليهم.
فقط نحتاج بتهوفن، المقطوعة التاسعة يطرق الباب؟!
أنا والقط عازفان وحيدان بغير إناث وأطفال وأحذية ذات كعوب عالية.
بغير بقايا خصل على الفراش، نخاف همس الليل في أذن القط، ولا شيء يقضي على جرأة الليل، سوى صوت بتهوفن يخترق الأشياء.
قال لي القط (تستدير عيناه وتستطيلان وتتثلثان في آن واحد): لا يستطيع كل رجال العالم أن يصبحوا أنثى واحدة، ولا حتى قطة صغيرة عجفاء.
ابتسم، فتبدت أسنانه السوداء مثل حبات من الجواهر المسحورة، فأخافتنا أكثر، أنا والقط لم نكن في يوم ما وحيدين، كان دائما معي، وكنت دائما معه.
رجلان، أو قطان، أو ...
قط ورجل، لا تدهشنا أية امرأة لا نعرفها، ولا نتشهى غير أن نترك وشأننا لا نبوءات أو قصص.
ينتفض القط إذا سمع النداء، يقعد فوق المكتبة، الكمبيوتر، تربيزة الطعام، أشعار ناظم حكمت، صورة الأسرة، فانوس المذاكرة الكهربائي المشاكس، ديوان ابن الفارض، دولاب الملابس فوق رأسي تستطيل، تستدير، تتثلث عيناه، يبتسم فتبدو أسنانه أكثر سوادا ورعبا فتخيفنا.
أنا والقط لا نطمئن للمناداة بعد العاشرة مساء.
لا نطمئن إلى النساء.
القط و ...
أنا ...
خشم القربة
9 / 12 / 2004
شتاء
ها هو الشتاء يزهر مرة أخرى، ها هي النعاج الخجولة تقضم الورود المرتعشة.
أنا وحدي ...
أحاول حشوك بالمواكب والذكريات، أحاول أن أنفخ فيه من روحنا، مثل نعجة خجولة، الخوف نائم عند عتبة بيتنا الصغير، يقرصه البرد.
ليس لدى الشاعر ما يفعله.
تهب الريح، يستنشقها.
تتحول في رئتيه إلى دخان، تبصق محنتها، ليس لدى الشاعر ما يأكله، الجرو الأغبش يسكن في المرحاض، يعلن ثورته الكلبية ... تستيقظ شهوته، وليس لدى الشاعر ما ... ليس لديه كتاب يكتبه أو امرأة، يتجول بين النون وبين النون، يستمني على الوهم الأخضر والعزلة، فليس لدى الشاعر امرأة، ليس لديه نشيد.
أمل
ليس بأشجارك غير أشجاري، بليمونك غصن من الفجر، ليس بعينيك الطيبتين غير فكرة واضحة ونصف أغنية.
أمل: يا غجرية المساءات الحالمة، ويا طفلة الشجر الوارف.
خشم القربة
2000
عصافير
داهمتني العاصفة الثلجية وأنا في طريقي إلى الملجأ، فارتبكت العصافير الصغيرة الراكبة على كتفي ورأسي، وأخذت ترتجف من البرد، أخذت ألتقطها وأضعها داخل معطفي ما بين دفء جسدي، ودفء الصوف، إلى أن شحن المكان بها تماما، كانت سعيدة مرحة تزقزق في عندما انجلت العاصفة، أطلت الشمس بوجهها الذهبي الجميل من بين الغيم، صرخت العصافير بهجة، مئات العصافير وهي تحلق دفعة واحدة داخل معطفي الصوفي الدافئ، لتطير بي بعيدا، بعيدا نحو الشمس.
أسيوط
1992
أبد
أنت الوحيد ولا أحد
أنت الغريب ولا بلد
أنت المسافر للأبد
حزن الملاجئ كلها والأرصفة.
الشقراب 1996
قبح
أنا ذاتكم التي تهربون منها،
وتعوفونها.
قال القبح.
وعد
بيني وبينك عام من العشق، غاب من الذكريات، بيني وبينك مشروع قبلة، ووعد قديم بأن نلتقي ...
علم
أنت جاهل إذا كنت تجيد كل اللغات، وتعجز عن مخاطبة شجرة.
أوطان
إنك قد لا تجد وطنا يحتويك، ولكنك - بلا شك - تحتوي أوطانا في ذاتك.
طرق
كل الطرق التي تبدأ من قلبي تنتهي إلى الله.
جرح
نجيء من الجرح، نمضي إليه.
النار
همس شيخ حكيم في أذني:
احذر النار.
شكرته، ثم همست في أذنيه:
احذر النار.
صاح مستغربا :
أية نار؟!
وحدة
كلما كنت معوزا محتاجا، كلما أحسست بأني غريب.
أحزان
وا شوقاه لأحزاني التي لم تأت بعد! أين يا ترى تنتظرني؟ في دهاليز أية زهرة، في أزقة أي قلب يا ترى؟!
هروب
قال لي السجان: اهرب، اهرب، اهرب، نظرت إلى عينيه الرماديتين، إلى غدارته الملقاة على كتفه، أطلقت ساقي للريح، دخلت زنزانتي، أغلقتها علي، صرخت طالبا النجدة.
لجدي
لجدي أمنية واحدة، أن يظل حيا للأبد، وعندما تحققت أمنيته، مات ...
أمل
لا تعطني خبزا، ولا تعلمني كيف أصطاد، ولكن أفسح لي طريقا للأمل، ولو بقدر لقمة عيش.
طريق
قلت لها: ما أقرب الطرق إلى قلبك؟
قالت: قلبي.
قردة
خذوا عني كل النساء، خذوهن وأعطوني قردة واحدة تحبني.
لكن لا أحد يفهم هارون الرشيد.
حرية
كسرت بوابات المدينة فانطلق، نحو الذي لا ينغلق.
أنت
أراك في كل شيء وردة
أرى
نفسي
طائر طنان ...
نشيد
للشجرة أوراق، أزهار، شوك، أغصان، أفرع، جذع، طيور، طلوع ونزول ...
ثمار، ثعابين، ضب، عقرب، نمل، شياطين، قشور ولباب.
رائحة، تنفس، كلورفيل، نوس، حفيف وظل.
يحتاج الشاعر امرأة شجرة.
رفقة
لست وحدي
معي الحزن.
خشم القربة
2005
هلوسة
نعم، اكتبوا ما شئتم، بأية لغة كانت، بأية عبارات، بأي أسلوب عن أي شيء. قالت جدتكم فرجينيا وولف: كل الموضوعات تصلح للكتابة.
اكتبوا في الإنسان، الحرية، الجنس، السياسة، الدين، الوطن، المرأة ... آه المرأة، أسطورة الخلق ومعجزة الخالق، دليل الكافر المنكر إلى الله، اكتبوا عنها، قولوا إنها جميلة ساحرة مشتهاة، خبيثة رائعة فاسدة ومقدسة، مفسدة، نبية وطاهرة، انحتوا جسدها، ارسموها، لونوا صدرها بالرمل أو بما شئتم من ماء البحر، اكتبوا في الروح، الحب، الخيانة، الحرب، اللغة، الحاكم، المحكوم، نعوم شومسكي، كارل ماركس، الديكتاتورية، الديمقراطية، البترول، الحرب، يهوذا الأسخريوطي، عن الله، سلمان رشدي، اكتبوا آيات شيطانية، هيا ... انطلقوا، هي زي الأقلام والأوراق، هي زي المطابع تنتظركم، تلك الفرش، ألوان الزيت والإكليرك، كل مواد الأرض مواد وموضوعات للرسم، ارسموا، انحتوا، لونوا، بولوا إذا شئتم في أنف التاريخ، انتقدوا، كونوا فكتور هارا، هنري ماتيس ، الصلحي، بول كلي، شيخ إمام، مصطفى سيد أحمد، ناظم حكمت، مظفر النواب، عبد الله ديدان، أحمد مطر، ماياكوفسكي، محمود محمد طه، كونوا أنفسكم كما يقول بوذا، اكتبوا مسرحيات نزقة، شعرا كافرا لعينا مثل شعر رانيا محجوب، موسيقى جميلة، أفلاما، أغنيات، نثرا لا ينتمي، ما شئتم ... أعني ما شئتم، تبا، لقد حلت كل أجهزة الرقابة، سرح الأمنيون، المراقبون، البصاصون، حراس النوايا، وأرسل أعضاء لجان المعاينة، إجازة النصوص، مجالس المصنفات إلى محرقة التاريخ، بلا بعث، أنتم الآن أحرار: كتاب وروائيون، رسامون، النور عثمان أبكر، مي التجاني، مغنون، ملحنون، حفار وقبور، خياطون، ممثلون، سينمائيون، مسرحيون، لمياء متوكل، ناقدون، مخصيون، مثليون، مردة، تنابلة، فنانون من كل صنف وجهة مثل الشعراء، الآن أطلقت أياديكم، فأطلقوا العنان لمخيلاتكم، أبدعوا طالما خلقتم لذلك، مسئوليتي الشخصية والمهنية، ومسئولية الدولة أن ترعى إبداعكم الحر المتميز، فقط أرجوكم أن تضعوا قول بودلير نصب أعينكم: لا تخلطوا الحبر بالفضيلة، أحبائي ما تنتظرون؟ ألم ...!
ملحوظة : تلك كانت هلوسات وزير ثقافة أصيب بمس من الجنون.
خشم القربة
أبريل 2005
سماؤه
استيقظت فجأة - أو قل كما هي عادتي - في آخر الليل، دفعني قلق لئيم إلى أن أتمشى قليلا في الطرقات الفارغة، طالما كان هناك قمر وأنجم قليلة، وجو معتدل ورغبة في المشي، مررت ببيته عند أول منحنى الطريق، لا شيء غريب، فصوته ما زال بذات العمق وذات الدفء، يحلق حول المكان كسحابة من النشوة والحب والورع مترنما:
يا قريب ...
يا بعيد ...
يا مافي ...
يا قريب، يا بعيد، يا مافي ... ويسرع النداء حتى لا يكاد يسمع منه سوى:
ييب ... ييد ... في.
خمسون عاما سمع فيها كل من في الحي الصوت، النداء، اعتادوا عليه حتى ما عاد أحد ينتبه له، بل لم يعد يسمع، منذ أن كنت طفلا يافعا ربما كان أول تنغيم متكرر إلى ما لا نهاية أسمعه.
قلت لنفسي: حسنا، لأجلسن وأستمع إليه عن قرب ودون عجلة وعن قصد، وهذا يتطلب أن أمحو عن ذهني صورته النهارية، حيث إنه يعمل بائعا للعطور وألعاب الأطفال، على الأرض قرب سوق العيش، أكثر أهل المدينة صناعة للنكتة، وأعرفهم في الضحك، وأجهلهم في كل شيء آخر، ولم يكن جادا في أمر أبدا، إلا ربما في ندائه المرتب المنتظم المكرر في ساعته ووقته دون انقطاع: يا بعيد، يا قريب، يا مافي ... يا بعيد، يا قريب، يا مافي، يا بعيد، يا قريب، يا مافي ...
قلت: لأبحثن لنظري عن نفاج أشهد به كيف يبدو وهو ينادي، لكن كان الظلام في الداخل دامسا، والصوت الجميل الشجي المنغم الحلو يدفعني على ألا أصدر ما يعكر أو يفسد متعتي، أحسست بأن أحدهم يقف خلفي، بل شممته أولا، كان يغلق شفتيه في ورع وخوف عظيمين، وهو يستمع معي إلى صوته الآتي من داخل قطيته المظلمة: يا بعيد، يا قريب، يا مافي ...
خشم القربة
22 / 12 / 2004
عبق الذنب
سوف لا تحتاجين لأي اسم، سمي جميعهم باسمي، فأنا الولد الواحد في خيمة الصوف الكبيرة: الدنيا، وأنت السيدة الوحيدة في قميص نومها الأسود، أنا وأنت نفعل كل ما يحتاج إليه ما يخصك من جسد وما يخصني، أنا لا أتحدث يا حبيبتي عن كل شيء، أكتب إليك وأغني لك، وأرسم صورتك على خاتم سليمان بن داود، هي الطريقة الوحيدة التي تجعلني أمارس الحب معك بحرية وطبيعية مطلقة، مثل شلال من الماء يمر هنالك، ويمر من هنا بصوت أخضر عذب ... ما زلت أحتفظ بكتاب الكماسترا كله في ذاكرتي النجسة!
سوف تأتي الأسماء على خاطرك سريعة كنافذة القطار، كلها أنا، الدليل على ذلك الحرف النشاز، عند الشبلي - أبو بكر جحدر بن الشبلي البغدادي، والدليل على ضلالة نقطة الشبلي هي لامك، بين نهديك ينمو الطحلب الأزرق، عندما ينضج عطره، يا حبيبتي عندما ينضج عطر الطحلب الأزرق، تتسع دائرة الصوفي المعذب وحوله الأطفال والمرضى والنساء الخفيفات كبذور العشر، الرشيقات، وحوله الدوائر، وهو نفسه بقية دائرتين، الطحلب الأزرق الذي لا ينمو في كل مكان مثل كذبة أبريل.
ماذا تريدين أكثر من ذلك؟! بوذا وأنا فقط الوحيدان اللذان لا يدينان بالبوذية، البقية يجهلون - فيما يجهلون - اسم الله، اسمه الأعظم.
هل تعرفين كيف ينطقه القمري؟!
على الصفصافة!
أنا أعرف كيف ينطقه الطنان، الجرذ، الجبل والليل، كلهم أنا، لا يتوقع الصبية لون قميص نومك الأسود، لا أحد، هي الرذيلة المحببة إلى نفسي، وحيد في سكة الحشد العظيم يوم القيامة، أريد نارا بحجم إيماني ومحبتي ... عذاب عذاب، بطعم الكشف، نار، لي وحدي سوداء، أريد منها دفء الطحلب، لا بأس إذا لم أقاوم غواية اللهب! ليس أمامي سوى هذه الذنوب ربيبة قلبي تكبر بنقاء الدم في شرياني، تكبر، تكبر، تكبر، تكبر حتى لا يسعها القبر ... سوف لا تحتاجين لاسم لا ينتمي إلي، خبرت سكة الجهل ستقودني إلى العلم، ستقودني إلى المعرفة، ستقودني إلى الوقفة، ستقودني إلى وقفة الوقفة، ستقودني إلى الجهل ... خبرت الاسم والإثم والماء، المذلة والهوان، الحبر اللزج الحار الزكي الأسود مثل وجهي، خبرت اللغة ثم جهلتها عندما عجزت ساقي أمام إبطك، وتراخت أوتار بحيرتي أمام نهديك، البرد يحيط بالأماكن كلها، حتى حول نار الصباح، تشعله الأمهات مع الفحم لتدفئة القهوة وأصابع الصغيرة.
كلهم أسمائي، يا حبيبتي، وما هو ليس باسمي، اسمي أيضا: المراجع: «لون الماء لون إنائه» الجنيد. «أنا النقطة التي تحت الباء.» الشبلي. «لا صباح ولا مساء.» البسطامي. «إذا تكلمت فتكلم ... إذا صمت فاصمت.» النفري. «ما في الجبة غير الله.» الحلاج. «ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم.» الغزالي. «أنت أيضا هو.» بوذا.
Your breasts are like bundres of grapes.
I celebrate myself, and sing myself, and what I assume you shall assume, for what belongs to me as good as belongs to you.
Walt Whitman (ط ه) القرآن الكريم.
حسنا هنا طريقتان لقول ذات الشيء: النهر أو النار، والنهر ينقسم إلى وجهتين لا يمكن كتابتهما إلا ثلاث: السماء، أنت، والماء ذاتها.
أما النار - سبحان الله - هي شرط اللذة، خرجت بالأمس من الكون، حملقت بكل جسدي في فراغ لا يخص أي إله، ولم يدع ملكيته أباد أماك ولا عشتار ولا حتى زيوس.
فراغ بحجم كل الأكوان التي لا نعرفها، يسمع له طنين كهمس النحلة للنحلة، خلفه لا شيء وتصطف الأشياء كلها، هنالك أسرار تخص الله وحده لم يطلعنا عليها ولن يفعل، كنت أحملق بكل جهلي وصورتي وجسدي وصوتي وذنوبي العظيمة، لا أجيد طقسا في الشريعة، كنت مغسولا من العقل والفكر والمعرفة، ليس لي سوى جسدي وذنوبي والفراغ الذي لا مالك له ... جنبي المجرات تحتك ببعضها، تتناسل، ويسقط الأنبياء من بين الأنجم الذهبية تأخذهم الريح نحو أراض كثيرة تمد أذرعها متلهفة إليهم، تناديهم بأسمائهم، عرفت لهم أسماء أخرى، ناديت لم يسمعني سوى غبار كوني على حافة الفراغ، كان هو الآخر يحملق نحو ذاته ويندهش كما اندهش. - هي ثانية النهاية.
لقد فسدت ... عندما يفسد الجسد تفسد البصيرة، وأنت إذ تحملق لا ترى شيئا سوى قبح نفسك، وجمال الفراغ، الفراغ، الفراغ ... الفراغ: الفراغ!
حبيبتي!
كم تبقى من هذا الليل؟ أعرف قدره عندما تبحثين بأناملك المرتعشة عن طوق الشعر، وأربطة الحذاء، أو حافظة الصدر، عندما تقولين بصوت نقي معظمه هواء ورغبة ...
هه ...
كنت أسمع صوتك تصلين بطريقة تصلني في الحلم أدعية مخلوطة بإذاعات يختلط الكلام فيها بزقزقة طيور الصباح بالأذان!
كلنا يحب الله، كل واحد منا بالطريقة التي تريح ضميره، كلنا يعرف اسمه الأعظم بلحن وحرف مختلف، هو ما لا اسم له! هذا الورق كثير، قلبي يشتعل الآن أكثر.
لا تهتمي بالصبية، لا يملكون غير اسمي ذاته، هكذا دعيهم على قارعة الخرطوم ترمي بهم المحن والجرائد، تتخاطفهم المجاعات.
عندما نلتقي سنلتقي بكل شيء، في كل شيء، من أجل لا شيء، طهرتنا النار العذبة ...
وسوف لا يتبقى في تلك الليلة شيء ... من الليل ...
مرجع أخير: «لا احترام إنساني، ولا حياء مزيف، لا تحالف، ولا أية انتخابات عامة، تجبرني على خلط الحبر بالفضيلة.» بودلير.
خشم القربة
17 / 2 / 2007
في ذكرى مرور أعوام كثيرة على مغادرة بوذا لمدينة أسيوط
بغم أسيوط
أسيوط في أسيوط، أما الصادق حسين عند دوران روكسي يرقب المارة، في شارع النميس، ثلاث فتيات، ولد واحد، جلال الجميل، النفق الصغير، شارع الجامعة، عند كلية التجارة تقف عربة التاكسي، تنزل فتاة واحدة تمضي العربة بالبنتين، كل ما في جيب محمد الناصر ثمن سيجارة واحدة، سوف يستخدم علبة الكبريت الفارغة كراسة لكتابة ملاحظاته عن محاضرة الدمشاوي الأخيرة، يغني الدمشاوي لسيد درويش، ثم يموت.
أنا لا أحب الفلافل، ولكن الجوع الكافر هو الذي جعل الفتاتين توقفان سائق التاكسي وتطلبان منه أن يشتري لهما جريدة المساء، ستقرآن لأول مرة لعاطف خيري، وحسين تيه باجور، وشكيري توتو كوه، ووداد مرجان، والشاعر الرقيق حمدي عابدين، هل نذهب إلى قصر الثقافة؟ اليوم هو الثلاثاء، البنت الكبيرة حميدة، والبنت الصغرى فوزية أبو النجا، سمر هي أيضا طفلة جميلة ستصير أكبر من المروحة وأكبر من حديقة الفردوس، أنا أعرف ذلك وأيضا سعد عبد الرحمن، تتحرك عربة التاكسي نحو الفرح والجوع والآمال العريضة، دار الاتحاد، أمين حمدنا الله، جفون، أمل الخاتم، بهاء غير موجود الليلة يسهر مع أسامة الكاشف في الإسكندرية، فالموسم مطير، أشجار المسكيت تنمو في كل مكان مجانا، لا ثمن لشيء، تقف عربة التاكسي عند مدخل بيت الطالبات، درويش الأسيوطي، محمد درويش، إبليس الشعراء أحمد الجعفري يغني هو وجمال عبد الناصر على ترعة الإبراهيمية، يدخل، كانت بذاكرتي تعبث الجرذان، ذاكرة جرذ كبير، كبيرة ذاكرة الجرذ الكبير، بوذا يعشق الليل والنهار والسفر، وكتب عم سيد الشهية المتبلة والدوريات الكويتية، عالم المسرح وأقلام صدام حسين، العالم هنالك أقرب، أقرب أكثر من السماء، السماء هنالك تمطر قططا وكلابا.
بوذا يرضع أغنام المهاتما غاندي، ويهرب نحو قمة لاسا، معاوية الزاكي، انتصار، انتصار، انتصار الشايقي، دبي، الفاشر، انتصار الأخرى، أبو ذر وداليا وآمال في جمالها المرعب، جمال كبير البصاصين، تنزل بنت جميلة، ولكنها تقول لجلال الجميل: نتلاقى في جامعة بحر الغزال.
عاطف خيري، اخرج، اخرج، عاطف خيري، عاطف الحاج، عاطف الفوكس، عاطف البحر، عاطف، نادر، عبده، سوسن، سوسن عبد العزيز، عبده نادر، اخرج يا عاطف، أنت لست في المنزل، لست في الحسبان.
معروف عني،
أنك في كأني،
معروف عنك،
أني منك إليك،
أحبك شئت،
أبيت،
بكيت،
ضحكت، أرضت
سموت،
لأنك أني،
وأني،
ذاتك أنت.
معروف عني، أنك في كأني، معروف عنك، أني منك إليك، أحبك شئت أبيت، ضحكت بكيت، أرضيت، سموت؛ لأنك أني، وأني ذاتك أنت، سلام لطيف لا يوق، سلام لأشجار دفلي، سلام لسياب روحي، سلام لأسيوط قلبي، سلامي لقلبي، صديقي محمد فتحي، زكريا عبد الغني، صديقتي البتزا بنادي الحقوقيين، صديقتي جدا اليوم يمضي، والتكاسي تلفظ البنات في الشوارع الجانبية، بوذا وحيدا يواجه بوذا، والناس مشغولون عنه بالناس، والقصص القصيرة والأشعار والروايات تنتظر في دواته، أكره هذا العالم الجميل، أحبه أكثر، ما بين 1963 يوم الثلاثاء وبين 1993، ثلاثون عاما في الحمراء، عزبة السجن، محمد عيسى، عادل خليل شايب، عبد الله إبراهيم عبد الله، عبد الله المبصر، نحن العميان، رياض، تبن، منى، نازك، الحاج حمد الحاج، جوهر، نادر، هجو، هجو اللعين، هجو اللعين جدا، هجو، عصمت، معاوية الآخر، معاوية الأول، أدخل مجهرا أخرج من آخر، الولد الكبير يغني: بلادي وإن حنت علي كريهة، قومي وإن حتموا علي لئام، بوذا يتبول عند حائط المبكى فيلعن، أولئك أصحابي فجئني بمثلهم، كتاب، لسان سليط، مناهل سعيد، زينب، لا أعرف بحرا للمحس غير النيل، زينب حلمي، أطول عنق عنق النخلة، وأجمل عنق عنق النهر، وبوذا يستفرغ ذاكرته في قاع النهر، بوذا يحلم، تنزل حبيبة من عربة التاكسي، تصعد حبيبتان، جلال الجميل، يتأمل وجه ياسر، ينقسم وجه ياسر لوجهين، وجه يخشى الأسفلت، ووجه يشع كالنجم، يذهب الوجهان لحضور البروفة النهائية لفرقة ساورا، الزين بحاري، أمل الخاتم، ابتهاج، موناز، السماني لوال، الصادق الرضي، أخيرا يفشل في صنع فتاة من دمه، ولكن ينجح في أن يسميها نضال، من ينتصر على من، كلتوم فضل الله، الدار صباحي، 012233305، الطريق إلى الله يبدأ من الله، في سنة 1992.
أحبك حبا شديدا.
فيروز، شادي، اللوسينا، حبيبة الصادق، أطيار الكلج كلج، قطية الروح، سلام بلادي في عيد السمك، خشم القربة، بنت النوبة، أحمد سعودية، حماد، كفاح، حسن علي، كوثر حسين، سيحزن الليل، إنه وحيد، يريد ليلا يؤانسه، في شارع روكسي عند الدوران يقف الصادق حسين، لا ينتظر أحدا، ولكنه أيضا لا يريد الذهاب؛ لأن كل الأتوبيسات والميني باص وعربات التاكسي والمترو والقطارات السريعة، لا يمكنها أن توصله إلى كمبو كديس، ولا خميسة ولا عايدة ولا نعمة ولا علوية ولا أحد باستطاعته أن يأخذه إلى ديوانه بالحي الجنوبي، قرب الزاوية شمال الغسال تسفاي، الصادق يحملق في المارة، الصادق حسين في جيبه علبة كليوباترا، ومائة دولار أرسلها له أخوه داود من الولايات المتحدة، له حذاء جديد، وهو لا يهتم بالموضة، يكتفي بالجينز في جميع الفصول، تماما كما كان يفعل في خشم القربة وفي أسمرا أيضا، الآن لا ينتمي إلى أي حزب كان، فقط، حزب المغربين والمبعدين عن كمبو كديس، الذين ليس بإمكانهم حضور يوم السمك في 18 / 8 / 2003، كل سنة وأنت بخير، أحمد زكي، كمبو أحمد زكي، معروف عني، إنك في كأني، كتبت حبيبة ذات يوم لحبيبها واسمه السمندل، أمه سوزان وأبوه المتنبي، قالت له: عد.
قال: من أين؟
قالت: عد وحينها أنتظر خلفك لتعرف أين كنت!
وكانت البلاد شاسعة، والنيل يمتد إلى ما لا نهاية، السمندل لا يعرف أحدا في أستراليا، ولم ير حبوباته من قبل، لا يعرف وجه صالحة، فات منها فوت، والصبر والكدح أبدا لا يعيدان غريبا لوطنه، عبثا، الصادق حسين يقف عند الدوران، تقف عربة التاكسي تنزل صبية، تلقي التحية كيفما اتفق، ثم تنتبه لوجود شخص تعرفه يقف عند الدوار، وجلال الجميل لا يعرف أحدا أنه يحب الجميع، قالت: الصادق، قال: إنه سوف لا يذهب لأي مكان كان وبأية طريق كانت طالما لم تقده هذه الليلة إلى كمبو كديس.
قال لها: لا يوجد يا أختي ملجأ أفضل من الوطن، «قلنا لن يوصلك البحر ...»
قلنا: لن يوصلك البحر ...
عاد أبكر آدم إسماعيل، وفرحت أمه بعودته وزغردت، ولكنه نسي في المهجر كراسة أشعاره الأخيرة، عاد مرة أخرى، سوف لا يشتاق إليه أحد «لسنا في البيت، لسنا في الحسبان».
نعم، سوف لا يشتاق إليه أحد، قلنا لن نشتاق لأحد، نحن هنا في البيت لا نضع أحدا في الحسبان، لن نشتاق إلى أحد، منذ أن غادر أحباؤنا البيت لم يعد البيت للبيت، والبنيات الصغيرات أطلقن ضفائرهن للريح.
أعدنا نحن الضفائر للنهر.
أطلقن ضفائرهن مرة أخرى للمطر.
أعدنا نحن الضفائر للرمل.
أطلقنها للنخيل.
أعدنا نحن الضفائر للودع.
أطلقنها للسوميت.
أعدنا نحن الضفائر للبنات.
فنعسنا ونمنا على أكفنا وكنا - كما تركتمونا - أمينين على الصبيات، فتغازلنا الليل كله، ثم عندما أشرقت الشمس حملن أطفالنا وذهبن لآبائهن بالبشارة، بوذا يرسم في كهف العذراء مريم ليل دير المحرق، الأب ناشد بشاره، البابا كرلس، لا أحد في المغارة، لا وجه يبكي، حبيبتي تقلم أظافرها عند المزلقان، تنبهها خديجة لأمر أهم، كريمة ثابت، آمنة الصعيدية الشاعرة، دكتور مصطفى، عم سعيد صاحب الكتب الشهية، نادي الأدب، الريح تأخذ حبيبتك للريح، والله يأخذ الريح بالريح، لا بأس، سلام من أجل وردة الطين، سلام من أجل كتاب لم نقرأه، سلام لأطفال الشوارع، أولاد الحرام الذين ليست لهم ريح يستحمون بشظاياها، وأنت بارد كجرادة تبيض، بوذا سوف يغادر الآن أسيوط، نعم سوف يغادر أسيوط إلى محاسن، رحلة لم تنته، وسيظل طبق الكسرة على عطر الطايوق ودخان الكتر، كان بول كلب طريد، أغسلته محاسن؟! ما زالت رائحة شوائه تزكم أنوفنا، عاد بوذا يحمل أسفاره الخمسة: كتاب اللبن، كتاب السماء، كتاب الصبيان وكتاب كمبو كديس، أنت لا تسوى شيئا في المنفى، حسن البكري هنا سوف يراك الناس عندما تستحم في الخور، سوف يراك الجميع ويصفقون، ويرميك الأصدقاء بالسفاريك والدراب كما رمي الشنقر والرضي، كما رمي شكيري توتو كوة، يرمونك بالكلج كلج وأم بقبق وصلاح أحمد إبراهيم، بصديق الحلو، سيرمونك بي، وبك وقبلة سريعة من صبية تشتهيها كثيرا وطويلا وقصيرا - ومثل عبد الله ديدان - عندما انفردت بها في زقاق ضيق وهي عائدة من الدكان، ضممتها لصدرك بشدة وقلت في ذات روحك: ديني أنا!
الصبية الآن في البيت، ولكنها لا تنتظر أحدا، لا تشتاق إلى أحد، لستم في البيت، لستم في الحسبان، عند المساء عندما يتهيأ لنا أن العسس في سنة عنا، آخذ صديقي الصادق وبابكر الوسيلة، عبد الله ديدان يقف عند الماسورة يشيل نسوان الكرنقو باقات المياه، وبين مسكيتتين كبيرتين ندخل إلى خميسة، تغمرنا رائحة البيت العطرة، رائحة البلح المعتق، تحتفي بنا، تدير موجة الراديو إلى أم درمان، ويا سعادتها إذا صادفت أغنية، كأنما هيأت ذلك هي بنفسها شخصيا. - ديل إنتو، يا بنت ... يا بنت أديهم البنابر.
وتأتي سلوى بالبنابر، ومنذ أن فعل عبد الله ديدان فعلته، تعاهدنا على أن سلوى زيها زي انتصار، زيها زي صباح، زيها زي عزيزة، جلسنا، لم نتذكر أحدا، لم نشتق إلى أحد، ولو أن خيال الذي يصحى التمرة نصف الليل لم يبرحنا، إلا أن بابكر دفق كأسا مليئة في وجهه قائلا له: لست في البيت؟
أسيوط روحي، البيه مهران، حمدي عابدين: لسنا دائما على ما يرام.
في العراق - عند الباب الشرقي - صنع السودانيون المغربون تمثالا لأبادماك من التمباك، واحتج نفر من الساسة، أعجب بذلك نفر من الساسة، تخاصم عليه نفر من الساسة، انشقوا على أنفسهم عندما باعه أحدهم وقبض الثمن، حدث ذلك في العتبة، وفي ركن السودان بأسيوط، لكن من يوصل الصادق حسين إلى كمبو كديس، إنه مازال عند دوران روكسي، يرقب المارة، السنوات الأخيرة هكذا نغني: السنوات الأخيرة، كتب بوذا في سفر اللبن، عندما عدت من لاسا، عدت إلى نفسي، كنت موزعا بين الصخور، اللالوبات، المسكيتات، الدراب، الخيار، أزهار الليمون، خجل الصبيات، ألعاب الأطفال وشليل، بنات بنات، كنت الدكتور في لعبة المستشفى، اللص في الحرامية والشرطة، والكديس في من نطاك، الرمة في الحراس، التمساح في لعبة النهر، كنت الطيش في الفصل، الغياب، المشاغب، كنت ود أمه، وصديق أبيه، وحبيب أمل، صديق عبد الرحمن، الولد اللي عضه الكلب، اللي البحر، اللي جرى من الثور، اللي رفسه الحمار، اللي شرب المريسة، اللي سأل الأستاذ سؤالا عوقب عليه الفصل كله، كنت موزعا في المكان؛ لذا لم أجدني في لاسا، لا في أعلى قمم التبت، لا عند معبد القردة أو في شوارع روكسي، كان قلبي في صدر هاشيما بنت الكرنفو، ورأسي عند الشنخابي صاحب صاروخ الكيف، يداي في جيب صديريتي، ووجهي في راكوبة مريم يستنشق عطر البن المقلي، لا أتذكر أحدا، لا أشتاق إلى أحد، في الأتنيه جلس شيخان، كانا يتوكآن على عصا واحدة، شيخان طويلان لهما وجهان جميلان، لكن لم يتعرف عليهما أحد، كانا يعرفان المكان، تحدثا لبعضهما: إن في المكان لحمة تخصنا.
لم يتعرف عليهما أجمل الجالسين عندما يدخن سيجارة برنجي، ماو، لم يتعرف عليهما، شخص ليس في المكان من هو أبرع منه في اختراع الشجار الممتع، وأروع الألفاظ السوقية ذات العفن البهيج العفن الشهي، وليد إسماعيل حسن لم يتعرف عليهما المراسي محمد إسماعيل في عنقريبه، المقدود وقربة قرعة البقو تحفل في حضرتها الذبابات الكبيرات الخضراوات، والتي يجيد رسمها صلاح إبراهيم، كان الشيخان شيخين، يتوكآن على عصا واحدة ولهما وجهان جميلان.
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملة قصصية: أنا ادجار آلان بو ...
قال شيخ جميل لصبية تلعب بجملة شعرية: أنا أوفيد ...
ولكنا قتلنا العمر خارج البيت، فلم نكن في الحسبان، الآن ليست لدينا سوى عصا واحدة نتوكأ عليها ونهش بها على الكلمات، وجهان جميلان، لدينا ظل لا يقي يوم لا ظل إلا ظل الله، بكت الصبيتان قبل أن تمضيا مع محمد خلف إلى مكان قريب، يصنع الأمدرمانيون دائما نصوصهم في مكان قريب، الصادق حسين يلتفت يمينا، يسارا، لا باص، لا حافلة، لا قاطرة، لا نفق، لا تاكسي، لا قدمان، لا حمار أو ناقة تستطيع أن تلقيه في خور قريب من كمبو كديس، أو عند مشرع السقايين، حيث اعتاد في الماضي الالتقاء بالصبيات على الرمل بعيدا عن القيل والقال، لا عند الصفصافات، آسف أنت لا تعرف الصفصافات، لقد نمت بعد رحيلك تأكيدا على غيابك ونكاية بك، نبتت غابة الصفصاف العشوائية على شاطئ النهر، شرق معسكر اللاجئين، عند الشلال، لا نجوى، لا زهور، لا نعمة، لا نزهة، لا جهاد، حماد، لا الحلب المزعجين، لا شجارهم في المغرب، سوف لن تحضر زواج موسى السمح، لن تشاهد صراع النوبة غرب مكتب الأمن، أمام المستشفى في 18 / 8 / 2003 يوم دق السمك السنوي، 012205926، 23 / 2 / 2003 حفلة ختان ولد نعمة أختك، أعرف أنك نسيت اسمه؛ لذا لن أخبرك باسمه، 16 / 3 / 2003 عرس سعاد، نعم للمرة الثالثة، سيتزوجها صلاح، وهو ضابط إداري جديد، أنت لا تعرفه، لكنه سمع عنك، سعاد أخبرته عن كثير من عشاقها، تشاجر معي، تعرفني جيدا أنا لا أفتعل حربا في النساء، لكنه دفعني على ذلك دفعا، فهو شخص جديد في النساء، سوف يتزوجها على أساس أنها عذراء، ما زلنا نذهب لكبري ستة لتناول الإفطار في مطعم حسين، كل يوم جمعة على عربة إبراهيم الديدي، في صحبة عتود أو خروف، أو ما تيسر من خيرات الله، نذهب للرميلة، يغني الدرديري لأبي داود الكاشف أغنيات الحقيبة التي تعجبك كثيرا، لا أحد يتذكرك، لا يشتاق إليك أحد، نغني، نسكر، نرقص نهيص ونبيص تحت أشجار السنط، على رمل الشاطئ، عمر، التاج، حمادة، مساعد الديدي، عادل موسى، جني، عصام، الأعراب، الأسماك، الحدأة، ياسر، وأنا ...
نسيك الجميع، والأنكى والأمر أننا تقاسمنا حبيباتك جميعهن، غازلناهن، قبلناهن، ثم بذرنا في أرحامهن أطفالا، أسمينا الأطفال بأسماء نعرف أنك تكرهها، مثل عايدة، غايدة، رايدة، مثل الكاسح والماحق والبلى المتلاحق، سمينا كبيرهم باسم قاتل محمود محمد طه، منذ أن قتل محمود لم يسم أحد طفله بذلك الاسم البغيض، نكاية بك سمينا أول الأطفال باسم القاتل، لا أحد يتذكرك، لست في البيت - كما يؤكد عاطف خيري - لست في الحسبان، هنا أنا في البيت، أنا وحدي في الحسبان، بوذا يرسم خارطة لمن يريد العودة للبيت. (1)
للذين في السعودية: تمشوا في الشوارع بحرية، غنوا للكاشف ومحمود عبد العزيز، هي أقرب الطرق إلى البيت! (2)
للمغربين في مصر: اضربوا بعصيكم البحر. (3)
للذين في بلاد الفرنجة: حطموا سور الملجأ الذي فيكم، ثم الذي يحيط بكم، والعنوا اليورو والدولار، وكل العملات التي يستحيل الاحتفاظ بها في الجيب، قولوا لبعضكم البعض: لا يوجد منفى أحلى من الوطن.
دكتور السماني في ماليزيا ...
لا أحد سوف يتصل بك، نسي الجميع رقم هاتفك الجوال وعنوانك وصورتك الشخصية، وحبيبتك سوف تتزوج من صديقك في 30 / 3 / 2003. (4)
عاطف خيري: من يوقظ التمرة؟
جلس شيخان في مقعد واحد، كانا يتوكآن على عصا واحدة ولهما ثلاث أرجل، قال الشيخ للشيخ: ما اسم هذا المكان الفسيح؟
قال الشيخ: أظنها روما.
بوذا عاد، عندما عاد من أسيوط عرف الفرق ما بين روما وكمبو أحمد زكي، ما بين روما وكمبو الليمون، وعرف الفرق ما بين السمو أل محمد الحسن، ورجل تبول على واجهة المحال التجارية في التحرير، شوقا لشوق ونادية.
سلام مصر روحي، سلام منفاي الجميل، سلام بنت جوعي، سلام لطائر الكلج كلج على شجرة اللوسينا، لحدأتين على قمة قطيتي، لعبد الله ديدان وهو يحملق بعينين خبيثتين تافهتين، في حشو شجرة طندب تسكنها بومة، سيدة الشاي، متلة بنات الجامعات الصغيرات يبحثن عن معرفة لا تفيد، كلام قاله الجامعة في الكتاب المقدس، يكرره عبد الله في جمال هذا المساء، لا يتذكر أحدا، ولا يشتاق إلى أحد، ودكتور علي شرفي يزداد طولا وبؤسا، ويزداد بيته صغرا وضيقا ولا يمتد ناصر، ولكنه هنا أكثر جمالا، الصادق حسين.
أم صلمبويتي ...
ولا.
كدكاية زول.
لا تعد، ابق في دوران روكسي، هنالك النساء في المينى جيب والميني ميني جيب، الرجال على عجل، الدراجات للسباق والفيلم الهندي، تحياتي لمكتبة مدبولي، أسيوط في أسيوط، وبوذا يحيي ذكرى سنوات كثيرة مرت منذ أن ودع درويش الأسيوطي يوم السبت في نادي الأدب، أستفرغ الذاكرة.
أرمي بكم بعيدا عني، اخرجوا مني كي أراكم أكثر حلكة، كي أدفق عليكم ماء النسيان؛ لكي أحبكم أكثر، ألعنكم، عوض شكسبير في صلعته الجميلة، عبيد، أنس الشرير، اخرجوا، اخرجوا، تدور عربة التاكسي دورتين سريعتين؛ ليضغط السائق على زرار المنبه، يفتح الحارس الباب، تدخل السيارة حرم الجامعة، في كلية البيطرة تنزل بنت جميلة اسمها ياسمين، تعود سيارة التاكسي فارغة لتختفي في شوارع الوليدية الضيقة، تزحف بين عربات الكارو والباعة المتجولين، من على البلكونة يطل وجه عبد الرحمن جربو، ثم يختفي مرة أخرى، باتريشيا الآن وحيدة، كتنق، تمتطي طول قامتها، ترسل أظافرها في الهواء الندي، هواء الصباحات القادمة، سوف يحاول الأطفال تأجيل عيد الفصح من أجل باتريشيا، فالحائك لم يجد منديلا بطول باتريشيا، ولا نخلة يطيل صبرها بها، ولم يجد مرسى لسفن الباشوات والقرصان، حتى يستريح عندها العبيد، والرحلة طويلة سواء أكانت إلى مصر، أو جورجيا ...
الرحلة طويلة، والأغلال تحز معصمي وتأكل ساقي، وكلما أدمى لي جرح بصقت عليه، وكلما رآني السيد أفعل، مشقني بالسوط على ظهري، وسب أمي وأبي والمستنقع الذي خلقني منه الله.
أنتم وصمة العار الوحيدة في جبين الإنسانية.
قالت لي، كتنق، بلغتنا: إنه كلب حقير.
كدت أبتسم لولا الحزن الذي يغمر قلبي، لا لا، لن أبتسم للسيد، ولكن من أجل كتنق وحدها، الصادق حسين تؤلمه الجغرافيا، وبذاكرته مجزرة تعمي دماؤها المسفوكة قلبه، لا أحد، لا درب، لا شجرة، لا سمبرية، لا بنت، لا ولد يقوده اليوم إلى كمبو كديس.
كل البدائل ظلام، والنجم.
أين النجم؟
هنا في الحي الجنوبي، تحت ظل النجم جلسنا، الطيب، إبراهيم، التاج، سليمان والسلطان، حولنا أشجار المسكيت، والتي سوف نستخدمها سواتر طبيعية إذا هاجم العسكر الكمبو، سلوى تغني بلغة الباريا، أنا بصوتي الأشتر أغني خلف سليمان.
ساقني بعجلة وداني كمبو ...
وين يا ناس ...
ساكن جنبو ...
عندما يؤذن للصلاة يوم العيد، نرتدي ما تيسر ونصلي مع المصلين في ميدان المدارس.
من يجرؤ على سرقة عتود سيدة، غير كبسون نفسه، من يجرؤ على شيه كاملا غير منقوص، تحت السنطات الشاهدات على المسرقة، غير إبليس ذاته؟
بغم الأسماء
عبد الله الحارث، صلاح، حلفا الجديدة، علي الكوتش، محمد عبد الجليل جعفر، الأستاذ محمد، عبد المعطي حجازي، أبو حديدة، سيرة العرق والطين، عرق الحصى، حبيته الجميلة، طلال، ظلال، دلدوم، حسن كوكو، عبد العزيز كافي، الشريف موسى، مملكة سنار، الطواوشة، التنابلة، المساليت، الصابونابي، حكومة، جيرمني، سيدة وعائشة وموريس، حي صدام، حلة عم محمد زين صاحب النيفة، حسن مرسال، حسن الكونج، حسن حسن حسن، علي جعفر، ابتهاج، فرحة، زهور عبد الله، عبد الله، صورة، عصافير، ود أبرق، عشوشاي، سمر عبد الله، التجاني عثمان حسين الحاج، شيخ السمانية الصالح العاقل الكريم، طائران، شجرة واحدة، قال إبليس:
إن دخلت الدائرة الأولى، ابتليت بالثانية.
وإن حصلت في الثانية، ابتليت بالثالثة.
وإن منعت من الثلاثة، ابتليت بالرابعة!
قال إبليس:
لو علمت أن السجود لآدم ينجيني لسجدت، ولكن قد علمت أن وراء تلك الدائرة دوائر، فقلت في حالي: هب أني نجوت من هذه الدائرة، كيف أنجو من الثانية والثالثة والرابعة؟
فدخل الصادق الدائرة الأولى، وهي السفر، هب أنه نجى من هذه الدائرة فمن ينجيك من الغربة؟ من ينجيك من الأمريكيين والكنديين والاشتراكيين، وشامل كامل أوروبا؟ من ينجيك من روكسي وعاطف خيري؟ من ينجيك من انهيار الاتحاد السوفيتي ومجازر القاعدة؟ إنهم في كل مكان، الذين صنعوا القاعدة، هم ذاتهم الذين صنعوا انهيار الاتحاد السوفيتي، وهم الذين جندوا شيكيري توتو كوة في الحزب الشيوعي، جنبا لجنب مع روزا لكسمبورغ 1918 بألمانيا، وهم الذين أوحوا لإبليس ألا يسجد لآدم ولا لمخلوق بعده، ربابة، إيقاعات كنيسة مجاورة تتسلل إلى حوش بيتنا، أفراح الحي الجنوبي بعيد السمك لا تحدها كراهية الطارقيلة للقرقور أو البلطي، الدنيا بخير، ولكنها بشر أجمل، والشر جميل وبهيج ورائع! الخير بارد ماسخ ولا طعم له! إن الدم الذي يلون الشر هو الذي أعطاه حرارة الوردة وأزلية التراب، انظر جمال وليد إسماعيل حسن، انظر لروعة بابايات استيلا قيتانو، أميمة حسب الرسول، صلاح إبراهيم، بابا بلوم، واشتياق، من الذي أكد جمال هؤلاء؟ من الذي شق نهر عطبرة على صخرتين كبيرتين، وأنشأ على شطه كمبو كديس، الأنادي، والرميلة، يد خبيثة، يد خيرة، الجامع الكبير، زاوية محمد عثمان، العرديبات، بنات البني عامر، والباريا والعنسبة، البجوك، فلاتيات الشوارع الغربية، مسكيت مدرسة البنات، يد شريرة هي اليد الخيرة ذاتها، دم الحلاج أضاءه أكثر، قتلة محمود محمد طه، طبخة دمه، الذين صنعوا البهار، الذين ولغوا الدم، الذين رقصوا على القبر، الذين عندما سمعوا نشيده تبولوا في أرديتهم، هم الآن الحجر الذي يدل على الرمس، كلما عرقوا تفصدت مسامهم دما نعرفه، دم يدل عليهم، دم ناره هنا لا تنطفئ، على إيقاع الصيد ومراكب الكرنقو، على طس الأسماء، على بغم الكلام، على ناصية روكسي تسأل روحه روحه، الصادق، لما ولج دائرة طائعا، أولج مليون دائرة قسرا، طالما كفر بإبليس، دعه، فالله يؤجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات.
بغم الخطيئة
أعطيناك كل ما تقوى على أخذه، أعطيناك شوارع الطين والأطفال المشردين، وبقايا أحشاء الذبائح بسوق النوبة، أعطيناك بنياتنا السوداوات الجميلات، وهبنا لك عطر إبطهن الممهور بالمكافحة والمنافحة، والسعي اليومي وراء الخبز، أعطيناك أزقتنا، وقطاطينا، وأزيار المياه، والطحلب الذي في باطنها وخارجها، أقسمنا على رأس حرابنا والتراب على أن نعطيك الخوف، بذا تكون قد سلبتنا الحياة، أبقيتنا عراة يضحك علينا الرهو والسمبر، وطيور الكلج كلج الساخرة، وسوف لا نرى عري بعضنا البعض، فالعري يا حبيبنا حجاب، وحجاب العاري بصيرته، بغم الخطيئة، بغم كلامي إليك، بغم الغياب الطويل، أعطيناك كل ما تقوى على أخذه، صلاتنا، صيامنا، قيام الليل، عهر العاهرات، مياه الواردين، بلح الفقراء لالوب الناسكين، لعب أطفالنا، بول البائلين، السلام الودع، السفر، موت الأصدقاء، قبر الذي لا قبر له إلا في أحشاء قاتليه، كل ما تقدر على حمله، حملناكه، سوسن الجميلة، حفرة يقف عندها عبده ويعتذر على مواصلة السير، طلقتان منتصف الليل، جندي يسأل عن الطريق إلى الحامية، الحامية، وهبناك السكة والتكة والفكة والكحة والحكة، وقول القائلين وقلناك، في الشعر ومقام الشعر، وخالد بخيت، وكل ورقة شجرة، وكتب الجغرافيا وتاريخ الوردة، أعطيناك أشعار بابكر الوسيلة وبنته، والجبال التي في بيته وقلبه كله، كله، كله، ثم لم نقصر، أعطنا فقط، أعطنا الرجوع.
بغم ويلتاه
أزهرت برتقالتا حبيبتي ورك عليهما الطير، الطنان الصغير يمتص رحيق الوردة الصغيرة، يسكن في التويج، يطرق رجل الباب المرحوق، تنق ضفدعة، تبوم بومة عجوز، على شجرة تمر هندي جوار البرتقالتين، تستيقظ البنت، تفتح وردتيها في كسل، وردتا غاردينا بيضاوتان، يسمع نوسهما الطنان، يطرق على تويج الزهرة، تعرف الوردة الطنان، وتراه عندما يراها، وعندما يغفل عنها أيضا، وعندما يقبل وردة مجاورة تنهض الصبية، تقف على غصنيها، ثعبان يلتف بأحد الغصنين، يصعد نحو الوردة، يدب حزينا حذرا، سوف لا يزعج الطنان، يريد أن يقتنصه وهو في مزاج رايق، تتمطى الصبية، تمد أفرعها في جهات الله الكثيرة، يرك سرب من عصافير الجنة جنة ، ينشد السرب أناشيد الصباح البهيج، يبتسم الثعبان وهو يرتقي الغصن، عصفور الجنة جنة ألحم من الطنان، سوف أصطاد عصفور جنة جنة، تتثاءب الصبية، يصعد بخار الماء إلى السماء تمتص وريقاتها الضوء والأكسجين، الجذور البعيدة المتوغلة بين الطين والرمل والحصى، تشرب شاي الصباح، أمها سيدة جميلة يعرفها الناس، ويعرفها كلبها وقطتها العجوز هنا في الهامش لا أحد يرى جمالك، يرون عوزك وفقرك ويديك الممدودتين، ترك عليهما حدأتين حرتين تطيران عندما تحاول قفل أصابعك على مخالبهن، تشرق هذه الشمس علينا جميعا، ويخصنا الله معا بالصحيان، الذين في البيت والذين خارجه عندما تلبس البنت طرحتها، كل شيء يكون قد تم، أتمه الله بقدرته، نحن يا حبيبتي الصغيرة لا نستطيع أن نعيق الحياة مهما تجملنا بالشر والقبح وعفونة الريح وتغربنا.
بغم الشجرة
يقف الآن الأحباء والأصدقاء والأعداء على حافة المقام، ويسع المقام الشعر وبسم الله الرحمن الرحيم، يكفيك من القول القائل من المطر العشب، ومن الرمل البيت، يكفيك من الثمر الشجرة، تمد يدك - لو مددتها - مهبطا للنسور، ويدك هشة، قلبك كسير، دربك معوج، وبصرك اليوم حديد، ماذا تفيد الرؤية والقلب محجوب؟ ويلك ... إذا عرفت كل لغات البشر وعجزت عن مخاطبة شجرة.
خشم القربة
24 / 1 / 2003
ثمار البيت
قال لي جدي: ثمرة البيت الظل، ثمرة الشوكة الوخز، ثمرة الوخز الآهة.
ثم نام، قلت له: ما ثمرة النوم؟ قال: الأحلام.
ثمرة الأحلام الإنسان.
وثمرة الإنسان الحروب.
ثم شرع طبوله في وجهي، شرعت في وجهه كتاب الانفجار الكبير لجيمس هاوكينج.
وأخذنا نتجادل في معنى الكون.
عرجنا لسبل الخير والمعصية، تجادلنا في أنني - إذا صمت - أصبح طودا وأكبر كذاكرة الأطفال، وإن الطفل يولد مختل الأخلاق فيفسده أبواه أو يصبح مثلي - من رحمه الله - مفخرة الضالين.
أنا لا أكتب شعرا.
بل أكتب نثرا بأدوات الشعر، أو أكتب شعرا بألوية النثر، أو أني أتحرر من قيد الاثنين الذهبي معا، وأمشي في الظلمة ممتطيا شاع الروح المجنون، كسعلوات العقل الغيبي.
جدي يفهم معنى الشعر المكتوب بغير حروف وصياح، ويفهم في موسيقى الضوء وكيمياء الوشم، وأنا الجاهل بما يجهل جدي، والعارف في السر: حريف الروح.
من يغضبك يثير جنون ذنوبك.
من يكرهك، يقول أبي: جنبك شرور محبته.
ثمرة البيت الأطفال، ثمرة الأطفال الأم، ثمرة الأم أبي.
ثمرة الشوكة خوف الشجرة، وثمرة الشجرة أن يألفها الطير.
ثمرة النوم سفر الروح.
ثمار الروح السياف.
ثمرة الأحلام بنات الليل، ثمار البنت الأحضان.
ثمرة الحرب.
ثمرة الإنسان.
ثمرة الوهم.
ثمرة النص السردي كتاب: هكذا تكلم زرادشت.
ثمار زرادشت الأديان.
ثمار الأديان.
ثمار الأسئلة.
ثمار طيور الفجر.
ثمار المخبول الموتور: في أديس أببا، كل شيء بارد، ما عدا النساء والبيتزا دي-نابولي.
أديس أببا
14 / 9 / 2010
طيور تقول لك: صباح الخير
ليس في غير هنا، يقول لك الطير صباح الخير، يسألك عن أحلام الأمس، سوء وسائدك، هل أفزعتك أمطار الليل الرعدية، أم أنك مثل الطير لا تفزعه الأمطار؟
يحدث هذا في الكرمك جنوب النيل الأزرق.
في أحضان الجبل الشامخ، المتوج بشجيرات البامبو.
توجد كل أجناس الطير وألوانه، تدهشك موسيقى حناجره المجنونة، في الكرمك يتقن الطير لغات الأشجار جميعا، ويتحدث للغزلان وللأعشاب.
في الأودية يحاور الطين الطيب والأحجار، يؤانس الورد والثعابين الباردة الملساء، يرك على نيمة البيت، يقول لي: صباح الخير.
تسألني طائرة صغيرة ليست لها خبرة عميقة في الحياة عن وسادتي، أقول لها: إنها من قطن فرز ثالث مغشوش، ملوث بدخان ومردودات زيوت الماكينات، تصدقني طائرة مزركشة في فمها جندب ...
ليس في غير هنا، اقصد هذا البيت تنشدك الأطيار صباح الخير، تتراقص في حبل غسيلك، وعلى حافة زنك السقف، على بامبو الشباك سمعت طائر صعلوك يغازل طائرة حسناء: شيؤك فينق.
كلما فضضته، أنبت بكارة أخرى، وكلما قبلتك أطل طائر برأسه من الشباك صائحا: وووويك سييييك.
أنا أعلم لغة الطير؛ لذا أستمتع بما يهمس العاشقون إلي، يأتيني الطير، يودعني أسراره، يقول لي: صباح الخير.
ليس في غير الكرمك يقول لك الطير صباح الخير، ويسألك عن مسند رأسك وطباع حبيباتك، وتدهشك ترانيم العشق الطيرية.
القاهرة
5 / 10 / 2010
سيرة ذاتية للشاعر مايا كوفسكي
السياسي يقطف الوردة ، يستنشق عبيرها، يشرعها في جيب سترته إعلانا عن إعجابه بها، عندما تذبل يرميها.
يلتقطها الشاعر، ينفخ فيها من روحه: تطير فراشة.
يطمح السياسي أن يصبح ملكا.
أما الشاعر فغاية حلمه أن يصير وردة، يقطفها السياسي، يستنشق عبيرها، يشرعها في جيب سترته إعجابا فتذبل.
أصوصا - إثيوبيا
25 / 12 / 2010
جمهرة النشوة
الشجرة تستحم بضوء الشمس.
تغسل إبطيها في ملح شعاع الظهر، تغازل عريها أطيار الجنة، في ذاكرة الشجرة عش السنجاب تبلل بالضوء.
تنوس أغصانها تيها، ثم عندما تشاء الشجرة تثمر نساء يتمرجحن في السماء، نساء عالقات في اشتهاء الضوء.
لما تقبلها الرياح الحبيبة يرقصن، يتساقطن، امرأة، امرأة، امرأة.
الشاعر في عزلته يستنجد بالظل، على كتفيه سلال الأوطان المجروحة والفكرة، الشاعر مثل نساء السلطان، لا يتشهى شيئا، لا يرجو حبا، لا يتألم في لذة، يعطي ما يعطى، وما للأطفال لهن.
الشجرة تتفيأ ظلها، تتذكر حكايات الشمس، تطهو للبذرة عبق النوار الأشتر، الشجرة أم الشمس، ولها ما للشمس من الأسماء، ولها ذات المفعال الضاري، منذ الليلة ألبس عري، أتباهى بسرة امرأة مجنونة على شفتيها خارطة للدنيا، اقرأ في فخذيها شجن الليل وآيات المسجونين الكفرة، يتسرب من بين نعاس الأشجار صرير النهد كداء الإرواء.
افعلها يا مفتون بها، يا مجنون بطيب القلب.
افعلها يا قاتلها وحدك.
افعلها يا شاجرها وصانع من سوق خطاياها حبل مشنقة الأيام المرذولة، يا حاطبها، يا من فض بكارة أست العشق بقبلته، افعلها وتمطى بلذة ماء البحر، ملح الحيتان وجمهرة النشوة.
إني أمقتك مرارا.
إني أتشهاك مرارا.
إني أمتص رحيق الحنظلة المبروك بعينيك.
الليل قنديل أعمى، يمسخ في ظلمة نفسي الأشياء.
كزهرة زقوم: الشاعر في شجرته.
يا صحبي، اكتب سيرتك وارحل.
ارسم خارطة خطاياك وارحل.
ارو موسيقى الظمأ الأبدي.
فيم ترحل، اختصر الروح رجاء، بدماء الصوفي أقيم مآدب جرحك، في قلبي.
الدمازين
30 / 1 / 2011
ظفر
ما حك جلدك مثل ظفر حبيبتك، ما حكها مثل ظفرك.
الكرمك
20 فبراير 2011
بئر الرغبة
أشم عبق البئر، رائحة الأعماق الحمضية تئز في أذني كطنين محشو بالرغبة، كما في عينيك دموع الإحساس المكبوت، أقول لها اصفي لي الطريق إلى اللذة، طريقتك إلى يوم الحشر، قالت: صلاة، ألم وصراخ؟ - لا أعرف.
قالت نفسي: لا أعرف.
تضحك: أنت تعرف أكثر. «لأنك مررت بكل طرقاتي قطفت عظيم شهواتي»، واختبأت في طياتها المجنونة.
أحبك؛ أعني أني لا أتردد في أن أوغل في هذا البلسم، ولا أتباطأ في طرقات اليم، أعشق عاصفة وموجا.
دخلنا الكوخ المسحور، كانت رائحة البئر المهجور تطاردنا، دلفنا إلى أروقة جسدينا، يمتلأ الكوخ بنار رغائبنا، بجمال خطايانا العذبة، بفتنة ردفيها، كانت تمشطها الجنيات بزيت الأعشاب، وتدلك نهديها حوريات من جنة هاروت وماروت وجهنم نفسي، توغلنا في الكوخ، أدركنا صرير وسائده، أدركنا أعراسا تقام على شفة الظل.
المرأة في الليل مثل نقيق الضفدع، تأتيك من كل جهات الأشياء، تملأ أذنيك وأنفك بالريح وبالأمطار، تقاسمك قنينات الأنس، وقد يتربص بك ثعبان النفس الأمارة بالسوء، لا تدري ما يهلكك وما ينجيك، لا تعرف كيف تصون رذيلة نفسك، كيف تدير بوصلة فضيحتك الفضلى!
إني أتبرأ مني، وأدين الشفقة في قلبي، وأقول لك ما قلت لمجوسي في جسدي:
ها أني أمنحك الأشياء.
ها أني ألتهم رماد نحيبك.
أتبصر السيل الجارف، يأخذنا للبحر.
ها أني أعطيك الشلو الآمن.
المرأة في الليل مثل عواء الذئب، تبعد عنك لهاث حبيباتك وتخيف دروب الصمت.
أشم الليلة لخنا أعمق، عمق اللحم الأحمر، عمق خيوط الدوبار الطبي، أنامل خاتنة شمطاء، تتعثر في الشطأ، يفيخ عجوز مخبول في ذاكرتي.
ليس بقلبي سر لك.
ليست بيننا أغنيات «أذكر رقصتك المجنونة يوم القيامة.»
ليست ببيتي أشجار زينة، ليست به نساء يجدن الحوار، وبالظل ينمو كورد الحمار المساء، سأحكي للماشطة أني لا أعرف من قبل: أطيب من جسدينا في الرغبة، وأنبل منك في عهر الشفتين!
الكرمك
28 فبراير 2011
اللحن الأكثر قدسية وشبقا
أحبك، أريدك أن أغني هذه الأغنية: أحبك، الأغنية التي تخصك وحدك، تخص عينيك الجميلتين اللتين قال عنهما صديقي ابن الإنسان: إنهما مصباح الجسد، ورآهما سليمان حمامتين، وغناهما السياب غابتين، أحبك، هذه الأغنية لم يفنها بعد عصفور ، ولم ترقصها شاكيرا، ولم يلحنها استيف وندر، أغنية من أجلك وحدك ولك دون العالمين، أغنية تبدأ هكذا: أحبك، أحبك أيضا أحبك، لا نهاية لهذه الأغنية؛ لأنها في الأصل لا بداية لها، كل ما فكر فيه أولئك المهووسون بالبدايات والنهايات - أقصد ذلك النفر من الجن والإنس يسكنون بين هنا وهنالك، يغردون مثل العصافير وينبحون مثل كلب الجيران - كلهم كانوا يفتشون عما يظن أنه بداية أو نهاية، العالم اليوم ينام في الفيسبوك، كل النساء هنالك، بكامل زينتهن وغوايتهن، بجنون صدورهن، في الفيسبوك يمكنك أن تشم عبق إبطهن وحنان الروح، جميلات كمصابيح السماء، يفيخن، يشخرن، ينتعظن، ينسطلن بأفيون الغربة، يمارسن الجنس على شاشة التلفاز مع أزواجهن المغربين في البلاد البعيدة، حيث تفصل المسافة ما بين الجسد والجسد، يتشهين دفء أنفاسهن المصابة بالنستولجيا، وعندما ينجزن جراحات اللذة تهوهو أفخاذهن كالريح الضالة، قهوة هذا الصباح أحتسيها معك، أخلطها بسلاف أسنانك الجميلة، كم وردة تاهت في غياهب هذا الجمال المسحور؟ كم برتقالة؟ كم آية يا حبيبتي؟ كم من ذكور النحل حلقت في تلك السموات العميقة؟ نهداك موجتان في إعصار الجسد، فخذاك جنتان، عيناك كلمتان قالهما الرب بعد رحيل الأنبياء! أيتها السجاح، حبيبتي، جنيتي، امرأتي، جحيمي الجميل، خازوق ليلتي، بنت إبليسي، أبالستي المقربون، يا نبيتي! وسيتبقى كل ليلة من الليل ليل وحيد، يندس ما بين النافذة وجوارب الأطفال، ينتهره صياح الديك الغجري، ديك النشوة الخالدة، القهوة معدة تماما من أجلك، الفراش والمنضدة والكمبيوتر الشخصي، صورته معلقة على الحائط، فارتان تتناجيان، الباشمبو الصغير يفتتن بقطعة خبز، يغني طاهر سراجيه بلغة البرتي، لبنيات الأدك والأمبررو، يقول: إن شفاههن سوداء بفعل الوشم، البرتاويات الساحرات، وليلي يمضي في أحضانك الشاسعة، أغرق مثل حوت ميت في بحرك، لا تنقذني كل المخاوف التي خبرتها، وأنا مثل تلال الوهم المائية التي تبدو للظمآن ماء وللعاشق شفتيك، سأغني تلك الأغنية أعلم أنه لا بداية لها، أبدأها هكذا: الأغنية التي لا بداية لها، فلنفنها معا، تانك هما شفتاي، اعزفي عليهما اللحن الأكثر قدسية وشبقا.
الدمازين
27 / 8 / 2011
في مديح الحانثات
أن تنتظر امرأة ولا تأتي أبدا، خير من أن تنام وحدك؛ لأن انتظارها هو أيضا حضور، أغلق الباب جيدا على حنثها، تخلص من الوسائد الكسولة الرحيمة، لا تأبه لنداءات صرصار الليل الذكي، غناؤه لا يعود إليك بفائدة ترجى، إنه - يا للعار - يحاول جاهدا أن يغوي جندبة معتصمة في حنية ما في ذاكرته، تعلم كيف تحفظ تمائم الصبر عن ظهر قلب: بقدر ما أعطاك الله غريزة الحب، وهبك نعمة انتظار النساء.
لا تعول كثيرا على نحنحة الباب، قد تأتي المرأة من أي منفذ آخر، سرتك مثلا، فكرتك عن الله، كتاب علي ونينو لقربان سعيد، ثرثرة الجيران، سوء الظن، قارورة الماء الدافئ، صورتها على الحائط أو حتى ما تركته من عطرها في فمك، رسالة قصيرة بالوسائط، إيميل، متصفح جوجل، نباح كلب الجيران، أو نداء صبايا يلعبن في غرفة مجاورة، لا يعني أن توعدك امرأة أنها ستحضر، عندما تقول لك: سآتي إليك، هذا يعني فيما يعني إنني سأحاول أن آتي، أو إنني أفكر فيك بصورة جادة، أو ببساطة تقصد أن تقول لك سوف لا آتي إليك، من تظن نفسك؟ والمرأة الذكية قد لا تعني بتلك الجملة شيئا بعينه، حسنا كل ذلك سبيل أن تجد المرأة، وتستمتع بجماليات حنثها، إذن ما عليك إلا أن تتعلم كيف تحصلها في كل حال من هذه الأحوال، فالمرأة بالنسبة للرجل الذكي لا تخلف وعدا أبدا؛ لأن غيابها حضور أعظم، والإفادة من غيابها قد تكون في عظمة إيابها!
أنا لست غريبا ولست شاذا، لكنني لا أرغب في النساء، وعندما أجد نفسي متورطا في علاقة معهن، فإنني أدعوا الله أن يكن خائنات حانثات، وأن يكرهنني بأسرع ما يمكن، فمن لا يغفر للمرأة خياناتها الصغيرة لا يستمتع بوفائها الوفير، وأجمل النساء عندي اللاتي مثل الظل، عندما تشعر بهن يكن قد شرعن في رحلة المغادرة، بالطبع لا شيء يدوم، لا الحب، لا الكراهية ولا حتى متعة الفراش، تبقى ذكرى الانتظار البهي، مثل أثر مرور ثعبان على جسدك، باردة مرعشة، ناعسة ومخيفة.
ليس من طليق بيننا
لست هنا السجين الوحيد في قوقعة الحديد الباردة، لست وحدي من دخلها وأغلق سدتها بمؤخرة متحجرة، لست وحدي في السجن، أنا أصرخ الآن، أو أغني بهنيق خشن، كما يهمس أير في آذان أتانكم الفاجرات.
لست هنا في السجن وحدي، كلنا هنا، أقصد تلك الطيور التي تحلق عاليا في السماء، معلنة ملكيتها لكل ما هو ليس ملكا لي؛ الحدأة والغربان وعصافير ود ابرق، ضوء الشمس المتبختر المتعالي، الذي ادعى بالأمس أنه الأكثر حرية، سمعته وهو يقول ذلك لله، كعادتي قلت له دون تفكير: أنت كاذب ومدع.
لست وحدي في سجنكم، أنا سجانكم، وحوائط المبنى القديمة المصنوعة من خوفكم، وأنتم أيضا هنا دخلتموه بكامل إرادتكم الحرة، بكامل المصائر المشتركة بيني وبينكم، بكامل ظنونكم المطمئنة، ظنونكم الحسنة التي لها عبق أزهار الياسمين، لست السجين الوحيد هنا، لست ذلك الرجل الذي تظنون، الطائع الطيب الحزين المريب، لست من يقنع بالمكان تعويضا عن الألم، أتطلع دائما لصحبتكم، لمحبتكم، لجنونكم، أحتاج لكم في الغرفة الأخرى، في حجز انفرادي يخصكم، حبس ألذ ما يوصف به أنه الأكثر بغضا منا جميعا، والمقصود هنا صراحة: السجن، أنتم، وأنا.
ليس السجن خطيئتي متمثلة في مكان، فلم أرسمه في مخيلة الأشجار، قد أعني شجيرات الصيف العجفاء، لم أطعمه لأسماك صغيرة تسبح في بحيرات روحي منذ قوت ليس بالقصير، لم أنهقه في آذان أطفال المدارس الأبرياء المشاغبين، بل لم أسمع به مطلقا قبل أن أدخله وأجدكم تقبعون بجوفه في طمأنينة الحوت الأزرق، البناءون، المهندسون، الداعرات، الحراس، قائد الجوقة الموسيقية، أنتم وأنا، جميعا كنا ننتظر قدومي، ننتظر أن ننعم برفقتي! لا أتحمل فكرة أن الله قد أوصى نبيا تائها - أشبه بالسيد المعمدان - أن بالسجن توجد تلك الحرية المزعومة، وأنه خبأها هنالك بعيدا عن أظافر الشيطان، صديق الإنسانية اللئيم، وأن الله هو الذي قال للبحر انطلق، وللسحابة أن تقبع في السهل مثل أرنب حجري عجوز تشعل شهية كلاب الصيد، لست هنا وحدي، لست السجين الذي يحمل الرقم 66، أو الرقم 20 مرسوما بالدم، والوحدة ذلك الحبر السري السحري، وكل الذين حاولوا أن يعطوني تلك الصورة البغيضة المجنونة كانوا من الضالين، وهنا أستطيع أن أذكر بعضهم بالاسم: عصام عبد الحفيظ، النقر، صفية إسحق، نبراس جبريل، إيناس الطيب، عبد الله ديدان، الطيب المشرف، ماريا بيتر ومنى شوربجي، لكن لا يحق لي أن أخص بالذكر سوى رجل واحد ظل يطارد فضائحنا بصبر وحب، ويصنع مستقبلنا على حساب سمعته وراحته، صديقنا الذي عرف فيما بعد - وذكرته بعض الكتب السماوية والأرضية - باسم: إبليس، كان ينظر إلينا عبر ثقوب التهوية التي نبتت بدقة بين حجارة السجن، يتشمم فساءنا المبارك، وعندما يخلو فضاء الحجرات من الأوكسجين فإنه يكح بقوة عبر تلك الثقوب الرحيمة، واهبا إيانا نسيما وإيحاء تاما بالهواء النقي، وكنا - وما زلنا - نشعر بطيبة عينيه وهما تلمعان خلف الحجارة القاسية، في لمعانهما نجد عزاء كثيرا، ولو أنها ليست مدرسة الصبر الوحيدة التي لم ندخلها بعد.
لست وحدي هنا، كلنا سجناء، ليس من طليق بيننا، ليس من امرأة أو رجل انفك من ذاكرة الحبل وأسر الحديد، أثرهما نديا وحارقا وبه طعم الدم والماء.
لست وحدي في سجنكم الذي أحبه أكثر، وأبغض البقاء فيه إلى نهاية هذا اليوم الطويل! أريد أن ألتقط له صورا من الخارج، وأطلقها عبر صفحتي في الفيس بوك لتروها، أو أرسلها عبر الوسائط المحمولة على أكف الأثير إليكم في زنازينكم الرطبة، إلى شبكيات أعينكم مباشرة، وأعلم أنها سوف لا تعجبكم، ولكنكم ستحتفظون بها إلى حين أن تنبت شارة الحرية في قلب أحدكم فتهلكون.
أرسمه بالفحم والطبشور.
يظل الخارج داخلا على الدوام.
وليس من طليق بيننا.
ليس من حر بيننا.
كل من ادعوا ذلك أحبطوا في آخر المطاف، عندما أخبرهم إبليس بحقيقة الأمر، وقال لهم بملئ أفواههم: الخارج داخل، كما تلبسون جلبابا على عجل، ولا تميزون ما بين وجهيه، الخارج داخل، ليس من طليق بيننا، من له تلك الأجنحة الكاذبة التي يمكنها التحليق عاليا، بعيدا عن هنا، ذلك البغيض، وليس أيضا من بيننا غيرنا للأسف.
1 / 5 / 2013
قلبك منفاك الأعظم
المنفى هو المكان الذي يخلو من ذكرياتك الخاصة، كل الذي يقدمه لك هو ما لم ترغب به في بيتك، ولا تخدعنك تلك الحرية المدعاة، إنها محض كذبات مطلية بالثلج، وفي أحسن حالاتها مجرد مساحيق غبية، تعرفها بالوشم المرسوم بخديها الخشنين، ببقايا ما ترك العشاق السكرانين من قبلات بصقاء على فمها.
بالتأكيد أنا أكذب، أكذب مثل حرباء ضئيلة الحجم تتسلقني، تتلون بحلمي؛ أقصد بأفكاري التي لم أستطع أن أعبر عنها وأنا في بلدي:
بلدي يا بلدي يا بلدي.
أغنية حيرى، ما غنتها فيروز، أو شرحبيل، أفكاري الحامضة الطازجة، كنت أيضا سأكذب مرة أخرى: المنفى يا حبيبتي هو كل مكان غير الوطن، والوطن ببساطة هو المكان الذي تتشهاك نساؤه، ويقلن لك بلغة قريتك إنهن يعرفن كل أسرارك، المنفى إذن هو المكان الذي لا يعرف فيه الآخرون أسرارك، وتبدو أكثر غموضا كلما أمعنت في الوضوح. إذن الوطن هو كل مكان أنت فيه الآن؛ لأن عفونة فضائحك قد سبقتك إليه.
كل ما خبرته يصبح في سقط المتاع، كل شيء؛ أقصد كل شيء، لا أدري حتى ذكريات طفولتك تأتي إليك الآن بيضاء، تلونها بالريح العنيفة، تصب عليها زيت الكحل الأسود والأمطار، تشويها في شمس لا تشرق إلا ليلا، تستدعي شياطين أيامك الماضيات أيقونة أيقونة، يتبولون في أنفك، تتمشى بها وعليها، تزني فيها، تقول: إن الله هنا أيضا، ولا يسعفك الله، تستدعي طبول قبيلتك الكبرى، جدك الخاص برمرجيل، أحفادك غربان الفضاء الشاسع، تقرأ في أذن الأشياء دائرة إبليس مشوهة بدم الحلاج، لا يسعفك الحلاج، والمنفي يمضي، يهرول ما بين المنفى والمنفي، تغمر خيشومك أغبرة العدو، تمائم جدتك: أيها السحرة، يا آبائي السحرة، شياطين أمتي الهائمون في الغابات، يا طبول أحبتي، أقصد أني أنده ربا نوبيا قديما قتلته لعنتي قبل أن أولد بمليون عام ونيف: «أباد أماك».
كل ما أنت فيه هو الوطن، كل الجراح التي تنزف ذهبا وبرتقالا، كل البنيات الشهيات في الخرطوم وفي غير الخرطوم، أغنيات الجاز، نائحات بوب مارلي
The Wailers ، على أنهار بيتك حيث جلست وبكيت، وأنت لا تتذكر شيئا، قلبك أبيض أملس كالزيت، ذاكرتك مشحونة بالفراغ، كأنما لا رب لك، لا بيت لك، لا نشيد لك، لا توراة، لا قرآن، لا شيطان لك، أنت لك، ما أقبحك!
المنفى لا يعني في كل الأحوال المنفى، قلبك منفاك الأعظم.
19 / 3 / 2013
امرأة مثل دبيب النمل على الجرح
مهمتنا أن نأثم، لا أن أغفر لها، ومهمتها أن تخون جسدها وروحي، كالذي يبيع نفسه لنخاس؛ لكي يشتري بثمنها حريته مرة أخرى، وحدها لها الحق في أن تخونني! أن أعثر عليهم في خريطة جسدها المنهك: أظافرهم في حنيات إبطيها، شوارب مبعثرة في صدرها، دمامل الاشتهاء ودم الذبائح المغدور بها، فيخ السرر، فوران جراحات الروح المستعصية على البرء، البعض يوقع في أحراش العانات ومتاهات الشفتين حضوره؛ أي في دفترها لخيانات الأمس!
كانت تصرخ في بنطالي، في سروال الوقت المقدود، على جرحي: أحبك.
فأشم من بين أسنانها شواء العهر المشوي على جمر الفعلات، قبلات الريح العابرة السكرى على شفتيها، همسات رجال شتى ورماد الكأس، كانت تصرخ في رئتي بهواء مخنوق مدم: إني أكرهك، سأكرهك!
تتجول عارية في الصالة الواسعة، يلاحظ أن فخذيها أكبر حجما، وبالوشم المرسوم على نصف الظهر طيور جارحة، وبعينيها آثار شجار الأمس المحموم، وكل ما تبقى من محاولة انتحارها الكاذبة، كذبتها، كانت تجوب الصالة مشيا محزونا، وقد شربت كل زجاجات الخمر المنسي في جنبات البيت، وتحت فراش النوم، وفي وجر الجيران، نفدت علب سجائرها، مصتها بجنون، ولأن العسكر يحرسون الليل فلا أمل لشراء شيء قد ينقذ شهوتها للتدخين وللخمر غيري، أن تنهشني، أن ترقص في جسدي رقصتها للخمر وللدخان.
كانت تصرخ في وجعي: خذني.
امرأة مثل دبيب النمل على الجرح، مثل صراخ الطرشان إلى الطرشان، مثل خروج الأسماك من الرمل الحارق في شط الموت، مثل جراثيم الروح الموبوءة بالعلة، امرأة مثل صخور المعبد أن تعبد، كانت تصرخ أن آخذها، أن أشتريها منها بلا ثمن أو قبلة، امرأة مثل رماد الأشياء لا تدل على الأشياء، سوى صفة الوقت دليل خيانتها الكبرى.
حزمت جسدها في كتلة واحدة مثل قبضة اليد، لوحت به في الهواء كحجر، ثم قذفته نحوي، عبر أمام عيني كطائر مخبول، ثم هوى في المكان: «يضع لي بعض نقاط من مشروبه الأحمر في كوب اللبن، فأحسب أنني أطير، أستطيع أن أميز النشوة اللذيذة تلك، في ذلك العمل المبكر جدا، وما بين نومي وصحوي أصابعه تعبث في المابين، تتزحلق بخفة ورقة، عيناه المدمعتان تحملقان في عيني، كنت لا أفهم ما يفهم، ولم أعرف أن ذلك من الغرائب، ولا حتى في اليوم الذي كف فيه عن فعل ذلك بإصبعه، واستخدم أصبعا أكبر، أصبع لا ظفر لها، تعرق بين وقت وآخر مسيلة دما أبيض، لا أدري كم مرت من السنوات والأزمان وهي تعرق في أحشائي؟ قالت لي أمي: لا يمكنني فعل شيء، فقط تجنبيه.»
كانت وحيدة، ضائعة في ذات مقسمة لشظايا، مسمومة ومجروحة في أكثر من عضو وأرواح شتى، وأعرف أنها تعني ذلك وتعيه، في وحدتها حشدها، وفي ضجيجها سكونها، وعلى الجسد المرمي هنا الآن كل السعادة والحزن، يترهل قليلا عند الفخذين، على فمها شفتان ليستا للكلام، كجناحي عصفور تستخدمهما محاولة الطيران بعيدا عنها وعني.
سوف لا أغفر لك خطاياي، لا تغفرين لي عثرات الروح، أنا وأنت ما كان علينا سوى أن نأثم، أن نتمرغ في وحل الشهوات، مزيدا من الإثم يعني أننا نعيش في الوقت، ونتلمس حرارة المكان، وأن الدم يجري، «أحبك» لا أعرف معنى الكلمات الأخرى، لا يرسم قلمي وسمات الكره على جسدك: «يتكور الجسد المرة تلو الأخرى، يصفر، يسود، يبيض، يدمل، يدمي، تطوف أصابعه على ظهري، وظهري مسنون كالسكين، عظام ليلة البارحة، شحوم الأمس المحموم، ضلالات التشهي، دعاء الغفران، لسعة شمس طازجة، قالت لي: خذني.»
رائحة الأنثى أتحسسها بأناملها، تعطي مما تفتقد، الحياة معركتها الأخيرة، لا وقت لديها لتضيعه هنا، ستستغل أول قاطرة إليها في عزلتها، كنا نحتفل بالنصر عندما نفشل في تحقيق الهزيمة بنا، أحملها في كفي، ليست كشجرة مزهرة، ولا طفلة ملائكية، ولا إكليل الورد العطري ، أحملها في كفي كجنازتها، كقبور امرأة لا تحيى إلا في الموت، أحملها في كفي لا تخرج مني في جب الظلمة، كبقايا يخنقني دخان حريقها، تسمم قلبي نظرتها، اسميها: ميدوزا الأشواق.
أعرف أن محطتها جسدي، ستعود إلي من بعد رجال ونساء شتى؛ لأنها تجد عندي ما يفتقده كل الغير:
أخترقها مثل الحربة
وبذلك أحقق رغبتها في الموت
ديسمبر 2013
نشيد الشتات
تفرقنا
تناثرنا، تشتتنا، حرقنا بالجليد
شوينا في الصحاري
تمزقنا، تآكلنا
تسوسنا مثل أعواد الطلح
في وهاد ليس يدريها الجدود، ولا حلمت بها طيور بلادنا
ولا غنت لها جدات.
تناثرنا في البلاد
دون بيت، دون زيت، دون طوق للنجاة، ولا خليل.
دون لغة أو موسيقى، دون أعياد وأطفال وضحكات تسر
دون كلمات الحبيبة أو دعاء الأمهات
في بلاد لا أسميها بلادا
وطيور لا أناديها باسم غير أطيار غريبة
ونهود وخدود لا تحدثني بغير آيات الضياع
تشتتنا كالضباع الهائمات بلا وطن
مثل ذرات الرمال على الوجوه، سوف يغسلنا الغريب ولا كفن.
كم تخيرنا بين الحرب والقتل والمتأسلمين؟
فاخترنا السفر.
لا بلاد قد نصلها
لا عناوين لدينا
لا خرائط غير ما في القلب من جرح وتيه وضجر
يا بلادي، يا بلادي، يا بلادي
يا بلادي
كم دموع سوف تذرف؟
وجروح سوف تنكأ؟
ومحطات تضيع من الوصول كلما قلنا اقتربنا، تختفي بين المسافة والضياع ونحن نمضي لا نكل ولا نمل.
سأغني
رغم أني
ضيعت مزماري القديم
نسيت إيقاع الكلش
سأغني بربابة إصبعي
وأدق في الثلج اللئيم طبول أحبتي.
بإيقاع كإيقاع الجسد
وأقول: إني راجع للطين والأشجار، للبنت الجميلة والولد
ولكنني في الصبح أقتسم السيجارة والرغيف مع الطريق!
وأشم رائحة الجنود المجبرين على القتال
الصغار التائهين في مظلات اللجوء بلا رفيق
أشم صيحات الحريق
وترن في أذني صرخات دارفور الحبيبة والحريقة في أتون الظالمين
نداء انقسنا الضمير
طرقات المدافع في أقاصي كردفان
ويلوح لي من كل جرح مارد وشيطان رجيم
وأرى وجه إبليس القديم في شكل غول
غارقا في الدم، يلعق أرواح البشر
يأكل الأطفال والأزهار ، والأرض الخصيبة والشجر.
لا يرتوي!
لا يرعوي!
لا يكتفي!
ليس تشبعه الجنائز والمآتم.
جراحات البائسين.
ليس تشبعه المواسم والسنون الطاعنات: ليل طويل أو نهار.
ليس يشبعه العدم، فأظل أمضي لا بلاد قد أصلها، لا عناوين لدي، لا خرائط
غير ما في القلب من جرح وغم.
14 / 2 / 2013
ما لم أقله للسيد
لقد أخذك الشيطان بعيدا عنا، أو أخذنا عنك بعيدا، فبدأت - كما قال الفيتوري: «مثل سارية تغرق في الرمال»، وسوف لا نفتقدك؛ لأنك نحتك عميقا في المكان، وستبقى هنا إن شئت أم لم تشأ، ولكنني أجريت محاورة طازجة مع من قال لي إنه الشيطان، وانتهينا إلى الآتي: إن كل ما يتعلق بك وبالرموز - ونقصد بالرمز بقايا ذكريات الحضارات البائدات - لا دخل له فيما يحدث في الأرض الآن، وإن ذلك ليس سوى تشوهات في الخلق قام بها نفر عرفوا مؤخرا بالبشر - تفاصيل ذلك لدى الصديق عبد الله ديدان، سأوافيك برقم بيته لاحقا.
ثانيا: لم يكن للشيطان أيضا دخل، أو بالأحرى إنه لم يتدخل بعد في مسألة تخصك أنت بالذات - لم نسم ذلك لعنتك - فلقد قال لي صراحة: «لو علمت أن السجود ينجيني لسجدت.»
طبعا انتحل تلك الفقرة من طاسين شيخي الحلاج، وأضاف: أنا لا أسجد إذا سجدت لغير الله.
أما الأمر الأهم من ذلك: هو السؤال الذي فاجأني به الشيطان وهو يحملق في عيني، وبفمه ابتسامة شاسعة، لها رائحة أشبه بطعم العرديب، ولم أره رغم ذلك جادا أكثر مما هو الآن: من أنا؟
قلت له: أنت أنت.
قال لي - وهو يتمطى، فتقع القبعة الصغيرة البيضاء عن رأسه؛ ليظهر فراغ شاسع لا حدود له، فراغ مرعب ومربك، فلم يكن تحت القبعة غيرها، تحركت عيناه الكبيرتان تمسحان وجهي، وتعبرانه إلى ما لا نهاية، وفضلت أن أساعده في وضع القبعة في مكانها؛ حتى أجده وأدرك ضالتي فيه، ولكنه كان الأسرع مني على الرغم من أنه كان طاعنا في السن، ويبدو مرهقا من ثقل الأزمان عليه، وضعها، سألني: ماذا رأيت؟
قلت له: الفراغ.
ابتسم وهو يستعير من الفيتوري بيتا آخر: «الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء».
سألته دون تفكير: أتعرف الفيتوري؟
ابتسم، كانت أسنانه بيضاء وجميلة ومنتظمة، وبشاربه الأبيض يحلق ما يشبه الوردة كلما ابتسم، في الحقيقة كانت هذه هي المرة الأولى التي يبتسم فيها، نعم ابتسم بعد ذلك مرتين، أجابني: لا، من هو الفيتوري؟ أنا لا أعرف غير الله.
وتخطينا هذا الإشكال أيضا، وإشكالين آخرين صغيرين، تخطينا إشكالا آخر، ثم صلينا معا - ليس الفجر وليس العصر، وليست هي صلاة النقطة، وليس الصبح ولا المغرب، ليس العشاء أو الظهر، وليست صلاة جنازتنا.
صلينا معا في الوقت وفي المكان، أيضا سقطت قبعته مرة أخرى وهو ينهض، فبدا رأسه مرعبا وشاسعا ولا نهاية له، ولكن عيناه الشرستان تلاحقان الأشياء ووجهي بظفر جارح التقطها، قال لي: ماذا رأيت؟
قلت له: «الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء» ألم تعلمني ذلك.
قال: لا علم لي.
قلت له: لم أر غير الفراغ.
إذن يا صديقي: ماذا بعد؟
ما حملته لما لا يحتمل، ما شيدته لمن لا يسكن، ما قولته لمن لا قول له ولا لسان، ما أطعمته إلى من ليس بذي بطن وعاطفة وجوارح، لما صليته وأركعته لمن لا مواقيت له ولا هدى، لما أنكحته لمن هو بلا فرج، لمن؟
إذ قال لي الشيطان: يا بركة ساكن، اسمع عني كل شيء، وأنكرني بكل شيء، وإذا عبدتني عبدتك، وإذا كفرت بي فإنما أنت تكفر بك، إذا رأيت في الشمس شيئا غير القمر، فإنك لم تر الشمس ولم تر القمر، وكانت السماء مسحبة، ولم يكن الوقت ليلا ولم يكن نهارا، ما كنا لننتظر القيامة لنعرف الحقيقة، وما كنا لنتوق للموت لنصحو، وما كنا لنتأمل الجرح لنعرف وقاحة المدية، وما كنا لنستنشق الدم، أو نبارك المبولة، لنتحرى ديمومة الجسد، ولكن في سعة الفراغ مقبرة تكفي للجهل والمعرفة، سرير وثير للصحو والنسيان، جرار الأغنيات الطيبات وموسيقى نهاياتنا، سننشدنا بأناملنا، وصرصور العقل الذكي: السقوط في الهاوية يعني أن تدرك اللاقاع، والنهاية قد تحدث دون معانقة غرار صلب، الهواء الطازج يذبح كما السكين.
دعنا نبدأ من أول القول: ليس كل ما يقود إلى مكان ما، هو طريق، وليس كل ما لا يقود إلى مكان ما، هو غير الطريق، من قال لك: إن الشيطان لا يلبس لباس الشيء؟ ومن قال لي: ما لم يلبس لباس الشيء هو ليس بشيطان؟
ما لم أقله للسيد: إنه عندما سقطت قبعته رأيت في فراغ جمجمته جميع الأشياء، أظنني لم أر سواي.
لعنة الكتابة وكتابة اللعنة
كنت في غرفتي، وهي عبارة عن بناية صغيرة من الطين اللبن، وبعض أفرع الأشجار الغليظة والبانبو في مدينتي الصغيرة «خشم القربة»، بنيتها بنفسي بالطوب الذي صنعته من ذات تراب البيت، في مجرى مائي قديم قمت بدفنه وتحويله لاتجاه آخر، على الرغم من تحذير الجميع لي بأن الماء لا يترك مجراه، ولكن لخيبة ظنون الجميع لم يعد إلى مجراه حتى اليوم، مما أكد لأمي فكرتها الأساسية عني عندما داهمتني فيه، وأنا أضع أمامي كومة كبيرة من الأوراق، وفي يدي قلم كوبيا، أدون أشياء لا تنتهي بصورة متواصلة. قالت لي: «يا عبدو»، وهذا هو الاسم المحبب لديها ولدي «هل تدري ما تكتب؟» قلت لها: نعم. قالت لي: لا، أنت لا تدري ماذا تكتب؛ لأن ما تكتبه هو ما يمليك إياه الشيطان الذي كان يسكن معنا في البيت بالقضارف وأنت صغير، لقد كان صديقك، هل تذكره؟
وكنت أيضا أعرف أن كثيرا من أفراد أسرتي يعتقدون بأن لدي شيطان في بيتي، وأكد خالي جبريل - عليه الرحمة - أنه رآه ينزل ذات صباح باكر من شجرة التمر هندي التي في فناء داري، يلبس جلبابا أبيض ناصع البياض ويدخل إلى حجرتي، ورأته ابنة خالتي، وهي عادة ما تستيقظ مبكرة لصناعة كسرة الخبز التي تبيعها لأحد مطاعم القرية. لم أتعرف على ملامحه تماما، ولكنه كان عبارة عن كتلة سوداء تفوح منها رائحة عفنة، وصوته أشبه بالشخير، كان ينظر إلي عبر نافذة المطبخ، وعندما صرخت، هرب ناحية بيت عبدو الذي لم يكن موجودا حينها في المدينة إلى اليوم - حيث أنني أسافر كثيرا في البلدان - أترك بيتي دون حراسة، لا لأن ليس به ما يسرق غير الكتب، ومخطوطات كتبي التي دونتها في أزمنة لم يكن فيها الحاسوب الآلي مشاعا للفقراء؛ لكن لأن اللصوص يعرفون أن ببيتي شيطانا يحرسني، ويؤلف لي الروايات والقصص، ويصيبني بقدر من اللعنة معقول، لا يريدون نيل جزء منها ولو يسير؛ لذا عندما اعتقلت أول مرة في عام 1993 قالت لي أمي - عليها الرحمة - مرة أخرى: «يا عبدو خلي الكتابة»، عندما اعتقلت في مرات كثيرة لاحقات، كان يطالبني ضباط الأمن بأن أترك الكتابة «استرح وأرحنا»، في عام 2012، عندما أخذني شاب صغير من قوات الأمن الوطني إلى مكتب الاستخبارات بمدينة الدمازين قال لي: «اكتب لنا كل أسماء كتبك وموضوعاتها، وأعطني إياها في ذاكرة إلكترونية، واكتب لي إقرارا تلتزم فيه بألا تنشر هذه الكتب؛ لأنها ضارة بالمجتمع.» لأنني أطيع رجال الأمن وخاصة العنيفين منهم، الذين يستخدمون جملا مباشرة لا لبث فيما تعني، وأعلم أيضا أن الروائي مخلوق ضار؛ لأنه يخل بوضعية السكون الكسول التي يفضلها ولاة الأمر، تلك المحببة للمجتمع.
كتبت الإقرار وكسبت حريتي، لكن شيطاني اللعين الماكر لم يرضه ذلك، حيث وسوس في صدري بأن أحضر كتبي التي نشرتها بالقاهرة إلى معرض الكتاب بالخرطوم في نفس العام، كانت اللعنة الكبرى، حيث تعرضت حياتي لأول مرة لخطر الفناء الأبدي من خريطة الأحياء، وكدت أن أسجل حضورا دائما في دفتر الموتى لولا أنني هربت للمنفى حيث أقيم الآن، في قرية نائية وسط جبال الألب.
الجانب الآخر من لعنة الكتابة كان عاطفيا، ربما لشيطاني ابن مدينة القضارف الذي تعرفه أمي دورا كبيرا، هنا أستطيع أن أقول: إنها شيطانتي؛ لأنها أظهرت عداوة للمرأة ومقتا حامضا مستخدمة شيطنة الجن، ومكر النساء الذي ذكر في بعض الكتب السماوية وألمح إليه السيد بوذا نفسه ذات صفاء لتلامذته، الدليل على ذلك أنني عازب الآن، بيتي يخلو تماما من تلك المخلوقة الرقيقة؛ ذات الصوت الحنون التي تربت على كتفك في الصباح الباكر طابعة قبلة دافئة على خدك المعشوشب بالشعر الرمادي، أو على شفتيك الجافتين نتيجة لعطش أصابك في حلم ليلة الأمس الصحراوي، أو كوابيسك الكثيرة التي تتواصل نومة بعد نومة، بأنك تشوى في مقلاة بالجحيم مثل ديك رومي ليلة عيد الميلاد، تقريبا كل النساء اللائي عشقتهن - وهن كثيرات بالطبع - وكل النساء اللائي عشقنني - وعددهن مقدر ومعقول - اللاتي تزوجتهن وطلقنني - وهن لسن كثيرات كما يتبادر على ذهن البعض، حتى الصديقات المقربات وغير المقربات، مثل سلمى، ومي، وعلوية، وسونيا، وماريا، وسلوى وغيرهن - اتفقن على جملة واحدة قلنها لي في أوقات شتى بطرائق مختلفة وأساليب عدة، وفقا للغاتهن الأم وطريقة نطقهن للكلمات، وسعة خيالهن، ونوع العلاقة التي تربطني بهن: «أنت عندك حبيبة واحدة، وهي الكتابة، ولا قلب لك ولا تعرف كيف تحب»، كن يغادرنني غير مأسوف علي، وحيدا مصابا بلعنتي، أو مع شيطانتي، أو بنت إبليسي التي وهبتني مجدا أدبيا، ولعنة طازجة مباركة بلا نساء، ومطاردة دائمة من قبل السلطات، وحسدا وغيرة من جانب الكثيرين، ووحدة لا حدود لها.
الكتابة ملعونة ولاعنة، وهي مضرة بالمجتمع؛ لأنها رجس من عمل الشيطان، هي محاولة منه يائسة لتدوين ذاكرة الانحراف البشري؛ لذا يصطاد هذا الجني من البشر أصحاب الخيال الثر، وأغلبهم من ضعاف الإيمان الذين يعانون من وهن الذاكرة مصحوبا باختلال التوازن النفسي، حيث يحاولون معالجة ذلك عن طريق فعل التدوين، وخلق الأكاذيب السردية البالغة الغرابة، كثير منهم ملحدون! بعضهم تنبذه مجتمعاته الخيرة المؤمنة، وترمي به في الفيافي والمنافي البعيدة، ثم تعود في وقت ما آسفة، وتتوجهم بما تشاء من الألقاب المدهشة، هذا إذا نجوا من الذبح الرحيم، في الغالب يحدث ذلك بعد قتلهم بالإهمال أو المدى، إن المجتمع يخاف من كل الكتاب والكتب، حتى تلك المقدسة؛ لذا كانوا يقتلون الأنبياء خوفا من اللعنة التي قد تجرهم إليها زبرهم، ورحمة بالأنبياء أنفسهم، أما المؤلف المحظوظ هو المؤلف الذي لم يكتب كتابه بعد، الذي لم يعلن عن لعنته، إلا أنه يظل مثل القنبلة اليدوية، يمكنك أن تحتفظ بها في بيئتك طالما لم تنزع فتيلتها ، أما إذا فعلت، فعليك أن ترمي بها بعيدا وتلقي بنفسك على الأرض محتضنا التراب بكامل جسدك، مخفيا أذنيك تحت كفتيك الباردتين، صارخا بأعلى ما أوتيت من صوت كما في أفلام الحرب.
31 / 7 / 2013
ما بين الرواية وقرينتها
الناظر إلى الروايات المنشورة في هذه الأيام في السودان، وكثير من الدول العربية، يلاحظ أن هنالك خلطا كبيرا بين ما هو سرد فني، يمكن تصنيفه كعمل أدبي ثم تجنيسه كرواية، وبين ما هو ليس سوي تسجيل لثرثرة يومية أي «مؤانسة».
وهذا يثير سؤالا قديما حديثا عن علاقة الواقع بالعمل الفني، فالواقع في طبيعته المعطاة ليس فنيا؛ أي أنه ليس سرديا جماليا في كل تمظهراته، من ناحية الصورة ومن ناحية الحكاية، واللون والصوت وما إلى ذلك، لا نقول: إن تمظهرات الطبيعة حولنا ليست جميلة، ولكنها لا تصبح عملا فنيا، ولكن هذه الصورة وهذا اللون والصوت والحكاية - والزمن أيضا - أدوات في يد الفنان، إنسانا كان أم حيوانا، أو حتى الطبيعة نفسها من ريح ومطر وموج وبركان، بوعي وبغير وعي، لتتحول إلى عمل فني بديع، يتحمل القراءات المتعددة بعدد المتلقين، بل حتى بالنسبة للمتلقي الفرد تتجدد القراءة بعدد مرات التلقي، وتحدث متعة في النفس، وأسئلة، وهذا عين الجمال.
بذلك تصبح الرواية هي فن سرد الحكاية وليست الحكاية ذاتها، واللوحة هي أيضا صورة الشيء كما عكسه الفنان وليس الشيء ذاته، إن صورة الإنسان أو الحيوان، أو المنظر الطبيعي هو ليس عملا فنيا، ولكنه يبقى كذلك بعد أن يعمل عليه الفنان بأدواته، وهذا من البدهي والمعروف.
أقرأ في العادة كل الروايات التي أحصل عليها من المكتبة، لروائيين شباب أو كبار، وأحبذ الأعمال الصادرة حديثا، وأهتم أكثر بالكتابات السودانية الحديثة والأسماء الجديدة في الرواية بالذات، ولاحظت أن بعض الأعمال جميلة وجيدة، ولكن البعض بالرغم من أنها كتبت في زمن به موركامي، بابا كويلو، وماركيز، وباموك، وقبل مئات السنين كان هنالك الكبير دي سيرفانتس، في وقت بلغت فيه الرواية شأوا بعيدا من ناحية التقنيات السردية والجمالية، إلا أن الكثيرين يحاولون أن يبدءوا من الصفر، وينتجوا حكايات يومية بذات أدوات سردها الشفهية، فتصيب الرواية القارئ بالنعاس الشديد، كما تفعل الأحاجي التي نشأت لتنويم الأطفال، ويمكن تسميتها أشباحا، أو قرائن للرواية، سألت أحدهم ذات مرة: لم لا تقرأ ما كتب أو يكتب حتى تكون مواكبا؟ قال: إنه يريد أن يكون أصيلا، وألا يتأثر بأحد!
يعجب بعض القصاصين بالنكتة، ومع أن للنكتة أدواتها وطبيعتها، ويقوم بكتابتها في شكل قصة قصيرة، البعض قد تستهويه حكاية سمعها في محفل ما، حكاية مدهشة، ويقوم بكتابتها كما هي، فتصبح قرين تلك، والبعض قد تستميله الأسطورة، أو الحادثة التاريخية، أو السيرة الشعبية، أو السيرة الغريبة لأحد الأشخاص، الذين سمع عنهم أو عايشهم، وكل ذلك ليس سوى سرديات الطبيعة اليومية، والرواية هي عمل الخيال، أقصد أنها ابنة الخيال المدللة، مثارا هذا الخيال في أحيان كثيرة بذلك اليومي سابق الذكر، وإذا ظل الخيال بعيدا عن العمل الروائي، ولم يعمل فيه بنسب متفاوتة، سيبقى العمل المكتوب إما تاريخا - نكتة أو تسجيلا لأسطورة، سيرة ذاتية - أو غيره؛ أي أنه يحاكي الطبيعة، أقصد أن يقوم الفنان بما تقوم به الكاميرا، أو أداة التسجيل الإلكترونية، وفي الواقع هي أكثر براعة منه وأكثر دقة، ولا يكفي أن يكون هنالك راو؛ لكي يصبح العمل رواية فنية.
وهذا الخطأ وقعت فيه كثير من الروايات التي كتبت على عجل؛ لتؤرخ لثورات الربيع العربي التي لم تكتمل إلى الآن، فكان أكثرها عبارة عن تسجيل لثرثرة الثوار، أو الحوادث التي وقعت لهم وبهم أو عليهم، والتغيرات الفعلية على أرض الواقع، في الحقيقة كان هم البعض إدراك سوق الثورات لا أكثر، هذا السوق مربح وكبير، حيث حدثني صديقي المترجم البلجيكي بروفسير اجزافيه لوفان، أن كثيرا من دور النشر الفرنسية المتخصصة في الترجمة من العربية، لا تقبل نشر الأعمال المترجمة هذه الأيام ما لم تكن عن الربيع العربي، وبعض المترجمين الأوروبيين أيضا يفضلون أن يكون العمل الروائي عن الربيع العربي، والكتاب العرب يعون ذلك جيدا، فهذا هو مزاج القارئ الأوروبي الآن، أو ما يحب أن يقرأه من أعمال عربية.
لست من الذين يفرضون شكلا معينا للرواية، ولا تعريفا محددا لها، مع حرية التجريب لأقصى حد، ولكن يظل الحكم هو القارئ المتذوق للعمل الفني، وعلى الكاتب أن يختار جنس الكتاب، أن يكتب عليه رواية أو شعرا أو ما شاء، هذا شأنه وله مطلق الحرية في ذلك، والقارئ في ظل سوق الكتاب المفتوح، حيث تتوفر كل الأسماء الصغيرة والكبيرة، وكل العناوين الحديثة والقديمة، سيختار العمل الذي استطاع أن ينافس وأن يبقى؛ أي العمل الملتزم بالشروط الفنية التي تجعل منه شيئا ذا قيمة يدركها القارئ، وهذه الشروط في تغير وتحول دائمين، ولا أظن أن القارئ يجامل أحدا.
استثمروا في المستقبل، فإن المستقبل يدوم طويلا
دعونا نبدأ مباشرة بالسؤال التالي: هل يحق لأي شخص أن يحظر، أو يوصي بحظر كتاب أو عمل فني، لأسباب أخلاقية أو سياسية أو شخصية أو فنية؟
وهنا لا نتحدث عن إبداء الرأي والنقد مهما كان جارحا أو شخصيا، ولا نتحدث عن لجان القراءة والتقييم بدور النشر، ولا نتحدث عن النشر الخاص والحكومي، فمن حق أي ناشر كان أن يستعين بمن يراه من الأشخاص مناسبا؛ لاستشارتهم في القبول بنشر كتاب محدد أو عدم نشره وفقا لرؤاه الأيديولوجية - العقائدية - والفنية والربحية أيضا، لا أظن أن يختلف في ذلك خصمان.
السؤال الآخر: هل هنالك شخص - مهما بلغ من العلم والمعرفة في فن من الفنون - يستطيع أن يبدي رأيا نهائيا وقاطعا في مسألة إبداعية، ويصبح المرجع الوحيد والنهائي، بل يصدر حكما نافذا في الموضوع الفني المحدد؟ وذلك دون الرجوع والحوار، ومشاركة الرأي مع صاحب العمل الفني، والآخرين المتخصصين في ذات المجال، وجمهرة القراء والمشاهدين، والمستمعين الحاليين والمحتملين للعمل الفني؟
وربما قد أسأل أيضا سؤالا غبيا آخر: لم يظن الذين يحظرون الأعمال الفنية أنه يجب أن تبقى تقاريرهم سرية - سرهم في بئر، وهم يجهرون بآرائهم الأخرى علنا، وفي كل وسائل الاتصال الجماهيرية؟
أظن أن البعض سوف يفهم من أسئلتي تلك الآتي: (1)
أنني لا أعترف جملة وتفصيلا بما يسمى بالمواصفات الفنية والأدبية، ولا أحترم قانونها إطلاقا، ولا أرى أية ضرورة أو فائدة ترجى منه، بالتالي من حق الفنان أن يعمل في فنه، ومن الحقوق المدنية للآخر إذا رأى أن هذا العمل يسيء إليه أن يرفع شكوى ضد منتجه، ويقوم بالفصل فيها القانون الجنائي السوداني. (2)
إن من يجيز نشر عمل فني مثله مثل من يسمح بحظره؛ لأن الحق في الإجازة هو الوجه الآخر للحق في الحظر. (3)
أنني سوف لا أتعامل مع أية مؤسسة ثقافية اجتماعية، أو مؤسسة بها أفراد يصادرون حرية الكتابة والكتاب لأية أسباب كانت، ومن هنا أقدم استقالتي من كل المؤسسات الثقافية داخل السودان التي انتميت إليها، طالما كان بها أفراد يتعاملون مع المصنفات، ويقومون بدور أدوات القمع الثقافي والإنساني، مثلهم تماما من يحمل آلة الموت في دارفور، وليس كل من يقتل يستخدم مدفعا. (4)
أظنني بالشجاعة الكافية التي تجعلني أعتذر لموظفي إدارة المصنفات الفنية والأدبية، حيث ظننت أنهم يقومون بحظر الكتب بأنفسهم دون دراية وخبرة، عرفت الآن أنهم استعانوا ويستعينون بمثقفين وكتاب، كان يرجى منهم أنهم يؤمنون بحرية التعبير، وحرية النشر، وبالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، وبالإنسان، أعتذر لهم كأشخاص موظفين شرفاء، يعملون تحت مظلة قانون ظالم، ولا خيار لديهم، يؤدون وظائفهم كما يأمرهم القانون، ولقد قاموا بأداء عملهم على أكمل وجه. (5) «قالت الشجرة للشجرة التي يعمل فيها الحطاب قطعا: يد الفأس منا.» (6)
أنا لا أتحدث عن «الجنقو مسامير الأرض»، فهي ليست سوى واحدة من مئات الأعمال الفنية، التي أحيل بينها وبين أن تصل للقارئ. (7)
البيان الذي أصدره اتحاد الكتاب السودانيين في نسخة جريدة الأحداث اليوم الجمعة 15 / 7 لم يكن كافيا، فلقد نظر للقضية من جانب واحد، وترك الجانب الأهم، وهو سؤال حرية الكتابة، وربما يفهم منه بذلك أنه لا يجرم الشخص الذي يقوم بالتعاون مع المصنفات الفنية تحت قانونها الحالي أو غيره، وأنه يحمي أعضاءه وغيرهم من المثقفين الذين يتعاونون معها، لا أكثر (هذا ليس مكتوبا في البيان، وضد لائحة الاتحاد). (8)
ليس بإمكان أحد أن يحظر كتابا في هذا العصر النزق، الذي يخرج على سلطان السلاطين وفرعنة الفراعنة، ولا تستطيع أن تطوله أسيافهم، ويمد لسانه المبرقع إليهم في سخرية تكنولوجية، لا قبل لهم بشيطانيتها، أقول لإخواني المثقفين: استثمروا في المستقبل، السلطة الزمنية زائلة، وما ترونه اليوم حراما وضعيفا ومبتذلا، فإنكم قد لا تعرفون كيف يراه الغد.
15 / 7 / 2011
مانديلا
وجهت لبعض الأصدقاء النمساويين سؤالا مباشرا جدا: ما رأيك في المناضل نلسون مانديلا؟
فكانت إجابة الفنان التشكيلي بيتر شولنج: إنه بطلي، وأضاف على ذات الجملة البروفسير رودي بأسلوبه المرح: ولكنه لم يحظ بنساء خيرات، وهنا يقصد ويني، التي قال عنها مانديلا: «إن حياة زوجتي أثناء وجودي في السجن كانت أصعب من حياتي، وكانت عودتي أكثر صعوبة بالنسبة لها، فقد تزوجت رجلا سرعان ما تركها، وصار ذلك الرجل أسطورة، وعند عودة الأسطورة إلى المنزل ظهر أنه مجرد رجل»، أضاف: لقد تعرفت عليه أجيال أوروبا من خلال أغنية فنان الروك، والناشط السياسي البريطاني الشهير
Gabriel
وأنشطة حزب المؤتمر، سألت صديقة يونانية تعمل نادلة بالمطعم الإغريقي، أجابت: لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولها العذر، فذاكرة اليونانيين مشحونة بالأبطال الأسطوريين، واكتفيت بابتسامتها، بالصدفة البحتة قابلت بالأمس القريب رجلا من مدينة جوهانسبيرج، سليل أسرة من البيض الذين حكموا جنوب إفريقيا بنظام عنصري لمدى 340 عاما، رد لي وبعينيه بريق غريب: إنه بطل قومي، فلاحقته قائلا: ما أعظم ما قدمه نلسون مانديلا في رأيك؟
قال: ما فعله كان أشبه بالمعجزة؛ لأنه استطاع في وقت قصير جدا إنهاء سلطة مركزية قوية عنصرية عنيفة لها مئات السنوات، وأظن ذلك كان عملا خارقا للعادة.
ليس بالإمكان التحدث عن أول مرة سمعت بها باسم نلسون مانديلا، بل من الصعوبة أيضا ما هو عكس ذلك، أو لم يكن ذلك واضحا لدي، كما هو الحال لدى صديقي الروائي الكردي جان دوست: «كنت أسمع اسمه في صغري من إذاعة ال
BBC ، فأسأل أمي: من هذا الرجل المسجون؟ فتقول لي أمي: لا أدري يا ولدي، سجون هذا العالم تعج بالمظلومين، نعم يا سيدي هو روح إفريقيا، بل روح الإنسانية كلها ومحطم أوثان الاستعباد.»
لقد ظل الرجل حيا، وفاعلا في الحياة اليومية بالنسبة للكثيرين من أبناء جيلنا في السودان، حيث وجدناه منذ ميلادنا حبيسا في السجن، ولكن صوته القوي وحكمه المتفائلة تجوب شوارع وأزقة بلداتنا الصغيرات، وتتسكع في أروقة المدارس، وظل هنالك طوال الوقت وإلى اليوم، وكم تكرم المعلمون علينا في المدارس بأقواله، مثل: «الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما أن يكون حرا أو لا يكون حرا»، و«الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة»، وكم خلطنا بين شخصيته وشخصية عنترة بن شداد العبسي، الذي كان أيضا محبوبا في تلك السنوات اليانعات من عمرنا، وكان بطلا شعبيا وأحد مثلنا العليا، وألعاب الصبا وحكايات الجدات الطاعنات، في الحقيقة كان الشارع السوداني في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي يعج ويضج بالأسماء الإفريقية الكبيرة، زعماء تحرير، أبطال وطنيون وقوميون ومغنون، من الرعيل الأول والثاني، مثل جمال عبد الناصر، سياد بري، منقستو هيلا مريام، هيلا سلاسي، تفري بانتي، جومو كنياتا، مريم ماكبا، المغنيتان الصوماليتان مريم وزهرة، ديزموند توتو، كوامي نكروما، سيمورا ميشيل، جوشوان كومو، أم كلثوم، أحمد بن بيلا، أحمد سيكتوري، عبد الرشيد شيرماكي، جومو كنياتا، والرهيب أيدي أمين، ولكن صورة مانديلا كانت الطاغية على الجميع، وكانت حكمه وحكايات نضاله، ومقاومته وأقواله تتسرب من الزنازين والسجون المظلمة، من ريفونيا إلى جزيرة روبن، إلى سجن بولسمور، إلى سجن فيكتور فيرستر، وتنتقل عبر الصحافة، خلال زملائه المناضلين بحزب المؤتمر في أنشطتهم عبر العالم، ومغني الروك، الشعر الثوري، السنما المتجولة، الإذاعات العالمية، والاحتجاجات الشعبية في كثير من دول العالم الحر، مذكرات الإنسانيين الناشطين في مجالات حقوق الإنسان، وتضيف إليها المخيلة الشعبية الإفريقية وسعها، ومن ثم تتشكل صورة البطل، بل الأسطورة الحية، صورة الرجل الذي قهر السجن والسجان والعنصرية البغيضة، وظل بسيطا وعاديا، وعلى حسب قوله: «مجرد رجل».
ماذا تعلمنا من نلسون مانديلا؟ ماذا تعلم الحكام الوطنيون في كثير من دول إفريقيا من سيرة حياة مانديلا؟ ماذا تعلمت منه شعوب العالم؟ ماذا لم نتعلم منه؟ وتظل هذه الأسئلة ومثيلاتها تحوم في فراغ فشل المشروعات الوطنية والقومية للشعوب، وخاصة الإفريقية والعربية، وهي ذاتها التي تؤسس، - إما لمحن قادمة كما في السودان وبعض دول الربيع العربي، ما عدا مصر - في حركة رجعية نحو التفكيك، وإما أن تستلهم من أجل نهضة الشعوب، فاليوم تصبح سيرة مانديلا بعبعا مرعبا، وكابوسا يقلق مضاجع كثير من الحكومات الوطنية التي تخاف من شعوبها النزعة للحرية، أن تسلك طرائقه في النضال الدءوب المتفائل الذي حتما ينتهي بالنصر: «ولم يدر في خلدي قط أنني لن أخرج من السجن يوما من الأيام، وكنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذي أسير فيه رجلا حرا تحت أشعة الشمس والعشب تحت قدمي، فإنني أصلا إنسان متفائل، وجزء من هذا التفاؤل أن يبقي الإنسان جزءا من رأسه في اتجاه الشمس، وأن يحرك قدميه إلى الأمام، وكانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتي بالإنسان بقوة، ولكنني لم أترك نفسي لليأس أبدا، فقد كان ذلك يعني الهزيمة والموت.»
المثقفون السودانيون والمصنفات الأدبية والفنية
الجدل الدائر في الأوساط الأدبية في السودان في هذه الأيام نتيجة لرفض لجنة النصوص إجازة أعمال قصائد لشعراء سودانيين كبار، لهم تجارب في الكتابة ثرة وطويلة، أثار أشجان قضايا الحريات، وأوضح أن المثقفين ما استفادوا من إشكالات سابقة، وأنهم يلدغون من ذات الجحر مرارا وتكرارا، في الحقيقة إنهم يلدغون بعضهم البعض.
في نظرة سريعة لملف الكتب المحظورة في السودان، الذي بدأ فعليا بالعام 2005، نجد أن القائمة شملت عناوين في مجالات مختلفة، منها الثقافي والسياسي والاقتصادي، وهي قائمة يصعب الإحاطة بها.
بدأت الحملة بمجموعتي القصصية على هامش الأرصفة، ثم رواية أماديرا للروائية أميمة عبد الله، كما صودرت رواية صنع الله إبراهيم نجمة أغسطس، الصادرة عن دار شهدي للكتاب التقدمي بالخرطوم، ولم تسلم حتى الروايات المنشورة بالشبكة العنكبوتية، فحظرت رواية محسن خالد «تيموليلت» التي صدرت في حلقات على موقع
Sudanese online ، وفي معرض الخرطوم الدولي للكتاب 2007، تمت مصادرة بعض العناوين من دار عزة السودانية، فيما قبض على اثنين من عمال مكتبة مدبولي المصرية بتهمة الإساءة إلى الدين، عندما وزعا كتاب «أم المؤمنين تأكل أولادها» الصادر في القاهرة، وتم حظر المجموعة القصصية «رحلة الملاك اليومية» للروائي والقاص عيسى الحلو، الصادرة عن دار «مدراك»، ثم أطلق سراحها فيما بعد عن طريق تقرير إيجابي، تقدم به الأستاذ الروائي إبراهيم إسحق، كما تم حظر ما أطلق عليه البعض مجموعة قصصية موسومة ب «بنات الخرطوم» لسارة منصور، وصودرت رواية الجنقو مسامير الأرض في 2010.
توالت قائمة المصادرات لتشمل الكتاب السياسي «الحركة الإسلامية السودانية: دائرة الضوء، خيوط الظلام» للكاتب المحبوب عبد السلام، ولم تسلم حتى الكتب العلمية، فقد صادرت السلطات كتاب «مشروع الجزيرة وجريمة قانون سنة 2005» للكاتب الصديق عبد الهادي أبو عشرة.
في العام 2011 حظرت السلطات 17 كتابا لدار عزة السودانية، كان يفترض أن تكون ضمن معرض الخرطوم الدولي للكتاب، منها «مراجعات إسلامية» للدكتور حيدر إبراهيم، وتم حظر كتب الأستاذ محمود محمد طه، بجانب عنوانين أجنبيين، وكل كتب الشيعة.
في ضوء تجربتي الحزينة مع المصنفات الأدبية والفنية، يمكن تلمس الطرائق الغريبة التي يتم بها الحظر، قامت وزارة الثقافة متمثلة في الخرطوم عاصمة للثقافة العربية بطبع ونشر مجموعتي القصصية الموسومة ب «على هامش الأرصفة»، ثم قامت ذات وزراة الثقافة بعد أيام قلائل من نشر المجموعة بمصادرتها وجمعها وإخفائها إلى يومنا هذا، على الرغم من أن اللجنة التي أنشئت للفصل بالأمر برئاسة المرحوم الأستاذ عون الشريف قاسم، كان لها رأي إيجابي من خلال التقرير الذي كتبه المرحوم، حيث إنه أكد جودة العمل الأدبي المقدم إليها، ولكن في حوار شفاهي لي مع وزير الثقافة في ذلك الزمان، أكد لي أن سبب مصادرة مجموعتي القصصية هو «لغتها الخادشة للحياء العام»، وعندما ذكرته بقصيدة له شهيرة تخدش الحياءين: العام والخاص معا، تبين له وللحاضرين أن سبب المصادرة كان شيئا آخر لا علاقة له باللغة أو الأدب.
والموقف الآخر هو مصادرة رواية الجنقو مسامير الأرض في 2010، بعد أن نالت جائزة الطيب صالح من مركز عبد الكريم مرغني، وظلت إدارة المصنفات تماطل في الأسباب الداعية لحجبها من التوزيع بعد أن تمت طباعتها في مصر، إلى أن فتح الله عليهم بخطاب إشكالي يحدد أن سبب المنع هو مخالفة «الرواية» - وليس الكاتب - للمادة 15 من قانون المصنفات الأدبية والفنية، ثم عندما عرضت القضية في المحاكم، وأظهرت مجريات الأمور أن ذلك ليس سببا دستوريا أو منطقيا، أفرجت المصنفات عن اللائحة السرية للمحكمين الذين أولت إليهم أمر البت في مصير رواية الجنقو وأعمال أدبية أخرى لكتاب وكاتبات سودانيات، منهم نصان للقاصة والصحفية أزاهر كمال عليها الرحمة، كان الأمر أقل ما يقال عنه: إنه أكبر فضيحة ثقافية في تاريخ السودان، ولو أن القائمة كان بها بعض الأبرياء الذين وردت أسماؤهم نتيجة لالتباسات غير مبررة، لكن الموضوع كان مفجعا وأصاب الساحة الثقافية في مقتل، وأيقظ السؤال القديم الجديد: جدلية المثقف والسلطة.
ثم شكل الأمر شبه إجماع ثقافي بأن قانون المصنفات المذكور قانون لا أهمية له، وأن الأصل هو حرية الكتابة والنشر والتعبير، وأن القانون الجنائي السوداني يكفي بأن يتولى الفصل في القضايا التي تنجم عن سوء استخدام المبدعين للحرية المعطاة لهم؛ أي في حالة أن يبدو أن العمل الفني قد أساء إلى شخص ما - حقيقي أم اعتباري - ويستعين المعتدى عليه بسلطة القانون للفصل في القضية، التي فيها المتهم بريء ما لم تثبت إدانته، ولا يتم ذلك بأسلوب محاكم التفتيش وتخيل الإساءات، كما هو الحال.
والقضية المثارة اليوم في الأوساط الأدبية فيما يخص رفض لجنة النصوص إجازة أعمال شعرية لشعراء سودانيين كبار، هي تجربة، ويبدو أن المثقفين السودانيين سوف لا يستفيدون منها كثيرا، وستمر كما مرت سابقتها دون دروس مستفادة، ولكن الغريب في هذه المرة هو أن أحد الذين رفضت اللجنة إجازة أعمالهم الفنية، كان في يوم ما هو رئيس لجنة المصنفات الفنية والأدبية، وهو نفسه قام برفض أعمال كثيرة وأدا بيديه، والآن يسقى من ذات الكأس بمرارة تأباها نفسه كثيرا، ونراه يحتج الآن، ليس ضد القانون ولا ضد مصادرة الحريات، ولكنه يتحدث عن صياغة اللجان وتشكيلها؛ أي أنه قد يؤسس لمصادرة وكبت الحريات بصورة تضمن مرور أعماله هو في الأساس، ولا يهم الآخرون! والأحرى به أن ينتبه إلى أن موضوع الحريات لا يتجزأ، وأنه يجب استئصال الآلة من أصلها بدلا من ترميمها وطلاء وجهها العابس القبيح بألوان ضاحكة، فقد أصبحت المصنفات مثل آلة العقاب في قصة فرانز كافكا، التي تأكل الجلادين أنفسهم، هل يحتاج المثقف لهذا النوع من التناقض لكي يعيش، بأن يصبح وفقا لموقعه كمبدع داعية للحريات، وأن يكون هو ذات الآلة التي تقتلع حريات الآخرين؟ أليس ذلك نوع من الشزوفرينا؟
البيت
البيت بيتي، وبيت النملات العجولات، الستائر القديمة والمروحة.
بيت السحليتين الصغيرتين والفأرة.
البيت بيتي وبيت الضب والعنكبوت وبيته، وبيت الذبابتين العالقتين بخيطه، وبيت الثعبان الأرقط المتربص بي، الحية مصنوعة من الخشب، أهدتني إياها سيدة ومعها قبلة.
البيت بيتي وبيت الكتب الصفراء، شنوا أشيبي، هاروكي موركامي، فرانز كافكا، واسيني الأعرج، عراقي في باريس، وأرفف المكتبة العجوز وأخشاب الموسك.
بيت البعوضة يبتلعها الضفدع، بيت الضفدع.
البيت بيتي وبيت السرير الكبير ومنضدة القراءة، وصنبور المياه المعطوب، جركانة الخمر الفارغة، أعقاب السجائر، أحذية النساء القديمة، فراشتان تتحريان الرحيق في زهرة ميتة، الزهرة الذابلة، أسورة أمي القديمة، جلباب النوم، قصاصات الجرائد، صورة المهاتما غاندي على الحائط، وصوت الأذان البعيد، البيت بيتي وبيت المرأة الغائبة وسبحة العقيق اليمني الجميل.
بيت الطيبين والفاسقين والمارقين والخانعين.
بيت كل من يشبهني ويكرهني، يعجبني في المرأة أنها لا تستقيم إلا إذا اعوجت، وفي الرجل الانحطاط.
بيتي وبيتهن وبيتهم، والقط الذي يلعب اليوجا على الحائط، القط يصلي!
بيت الحائط والغائط وشجرة الجوغان العملاقة والمسكيتة الشريرة وبيت الحزانى المتشردين، وتاجر البضائع الكاسدة، يغتب التلفاز الآن رجلا يحبل بتوأم، بيت التوأم والرجل والتلفاز.
بيت الصافية وألم قشي ومختار علي، وصديقي المنسي في قبره والدجاجات.
بيت الكلب: أقصدني حينما لا تكون امرأة في بيتي، وتكون النافذة مشرعة، وقلبي يتلصص في خاطر سيدة بتشممها ويهر.
أتجول عاريا فيه ولا أخشى بوليس النظام العام، وإذا طرقت حذاؤه نافذتي أرد إليه بكل شجاعة - دون أن أهرع إلى جلبابي: تفضل، إنه بيتي.
عندما تلعب الصهباء بي، وأرى الشجرة أرنبا، فإن بيتي يصبح القفزة التي تفلتني من كلب الصيد، والعثرة التي تؤخرني من مصادفة الكارثة، ويصير المرأة الوحيدة الوفية التي تحتضن البيت، بيتي أيضا خمارتي التي لا تقود إليها خرائط الشرطة، ولا يعلم قنانيها المخبرون، بينما تقبل أغنياتها السحابات البعيدة، ويفوح خندريسها كروان وسكسفون ونساء لا يخشين في الحب لومة لائم.
بيت كتبي المغضوب عليها، والضالين، هنا أكتبها، أغنيها، أمارس معها الحب، وأمزقها وأبكي عليها، وحينما تنهض من موتها مثل الزومبي، أدفع بها إلى ناشر مجنون.
لوحة زيتية رسمها مستنير، بيت صديقي دكتور الجعلي، بيتي وبيت الجن والشياطين، أعشاب المطر الصيفي اللذيذ.
بيتي بيت بيتي الصغير المشيد من الطين اللبن، وأخشاب الشجيرات القتلى التي ماتت فداء لنا، وبيت روح أبي وأمي وبنت الطريق، وبيت حافظة الصدر التي نسيتها على رواية عوليس قصدا أم مكرا، فالبنيات يوقعن حضورهن فيما يتركن من متعلقات: دبوس الشعر، فردة جورب، رباط قصير من الكتان، خصلة طويلة دافئة على الوسادة، وتحت الوسادة حرير مجنون، أحمر الشفاه على كوب الماء وكاسات العرق، فانلة بيضاء من الساتان تشبه قبلة منسية في لسان نزق، تتركها النساء عادة تحت الملاءات، عدسات العين، قلامة الظفر، ناتفة الشعر، سؤال لا إجابة له، موسى لمحاولة الانتحار الفاشلة، قبلة سريعة من أعلى الكي بورد، عراك قصير، منديل تعب، قلم روج، واق أنثوي مستعمل، كركبة الباب، ونسيت أن أقول: إن بيتي هو أيضا بيت الباب والنافذة المشرعة.
عندما غنت فيروز لأمي
عندما أطلق أنبياء الإشعاعات الكاذبة خبر وفاة المغنية فيروز، قفزت جملة واحدة في ذهني، كانت تكمن هنالك عشرات السنين، وهي: «وجهان يبكيان» وكتبتها في صفحتي على الفيسبوك في انتظار من ينفي لي الخبر، نعم، أن ينفيه وحسب.
قد لا أدري متى هي المرة الأولى التي سمعت فيها غناء فيروز، ولكنني أتذكر كل شيء ما عدا التأريخ، كان الراديو الترانزستور الكبير كعادته يقبع في صندوق عجوز من الخشب الموسك قرب كرسي الخيزران الكبير الذي يجلس عليه أبي منذ العصر حتى بعد أذان العشاء، بعد أن يمر على محطات كثيرة، يتوقف عند محطات إذاعية بعينها، أهمها صوت العرب من القاهرة، وفي هذه المحطة بالذات سمعت لأول مرة - وأنا طفل صغير لم أدخل المدرسة الابتدائية بعد - فيروز تغني:
الطفل في المغارة، وأمه مريم وجهان يبكيان.
لم أعرف حينها معنى «وجهان» ولا «يبكيان»، حيث إن الكلمتين غريبتان عن أذني، ولم أسمعهما من قبل، وكانت الكلمة الثانية أقرب لي، حيث إنني سمعت كلمة قريبة منها وهي يبكي، وبكى، وبكاء أيضا، ولكن «وجهان» لم أسمع بها مطلقا، حيث إننا في العامية السودانية نستخدم كلمة «وش» لوجه، وليس بالعامية السودانية مثنى، إما جمع أو مفرد، وبالتالي «يبكيان» تصبح كلمة غريبة عندي ومبهمة جدا، أما «وجهان» فأغرب منها، ولكني على الرغم من ذلك انجذبت للأغنية وأحببتها جدا لسببين آخرين قويين، وهما جملة «وأمه مريم»، حيث كنت أظن أن المغنية تقصد أمي مريم بالذات، بل كنت موقنا بذلك، أما الطفل فهو أنا، أما المغارة فهي الغار الذي تحكي عنه كثيرا المعلمة بالروضة، الذي اختفى فيه الرسول
صلى الله عليه وسلم
من كفار قريش، وباضت عند عتبته الحمامة، وبنت العنكبوت بيتها في مدخله، كنت أعرفه جيدا، والدليل على أن الأغنية كانت لأمي مريم، أنها كانت تترنم بها متابعة السلالم الموسيقية الغريبة للصوت الفيروزي المدهش، في متعة أحسها إلى اليوم، وهي مشغولة بعمل إحدى الأغراض المنزلية، يعني أن الأمر كان عاديا جدا، فلا غرو والأغنية هي أغنيتها، وابنها الذي هو أنا.
أما الشيء الآخر الذي جذبني للأغنية فهو صوت المغنية، ما كان يهمني من أية طبقة صوتية هو، ولا من هي المغنية، ولا أية معلومة علمية أخرى أو فنية، ولكن ما همني وأعجبني وأمتعني - وأنا في ذلك العمر المبكر - هو أن الصوت كان يبدأ منسابا ورقيقا مثل صليل الماء، أو هديل حمامات جارتنا حواء، ثم فجأة وبعد طرقات من الموسيقى حادة وفجائية، يحتد الصوت ويصبح صادما وعنيفا، مثل قرع الطبول أو هذيم الرعود، ثم يعود مرة أخرى ناعما رقيقا وحلوا، وكنت أحبه كذلك، وكنت كلما أذيعت الأغنية بعد ذلك في راديو أبي أترك اللعب وأجلس في أدب، كما تجلس أمي للصلاة، إلى أن تردد فيروز المقطع الذي يخصني وأمي مريم، وأصبحت أميز صوتها من صوت أية مغنية أخرى في صوت العرب من القاهرة، أو المحطات الكثيرة التي كان يتجول عليها مؤشر راديو والدي عليه رحمة الله.
ولكن هنالك شيء آخر ارتبط عندي بفيروز، وهو كلمة القدس، وقد سألت عنها أمي، فقالت لي: إنها تعني «بيت المقدس»، ولم أفهم شيئا، أضافت أنه المكان الذي حجا إليه جدي حاج قدس، عندما تطوع في الجيش العربي في عام 1948، ونادى منادي الجهاد، وغنت النساء والبنيات أغنية: فلسطين تناديكم يا رجال العرب، تسلم أياديكم، وغنتها لي، وعندما عاد جدي بعد أن حرر فلسطين من أيدي الكفار الذين ما كنت أعرف من هم، ولكنهم - بلا شك - كانوا يشبهون لي كفار قريش الذين سمعت عنهم كثيرا، سمي بحاج قدس، وكان اسمه في الماضي إبراهيم عندلة، وهذا بالطبع أكد لي أكثر أن فيروز تغني لي ولأمي مريم، طالما حرر جدي القدس.
وظلت فيروز مغنيتي المفضلة وأنا أكبر يوما بيوم، وأتدرج في مراحل التعليم، ساقني إليها مرة أخرى الشاعر جبران خليل جبران، عبر سكن الليل، والمواكب، وكنت قد قرأت جبران وأنا في المدرسة الابتدائية، اشتريت كتبه من مكتبة القرية الصغيرة، بعد أن تعرفت عليه من خلال مجلة الدوحة القطرية، والعربي الكويتية، ومجلة المجلة - أطال الله عمرها.
الناشر الشبح
ينشط في أسواق الكتاب بالخرطوم ما أسميه بالناشر الشبح، وهو ناشر ليس له عنوان وليس له اسم، إنما هو مجهول يغير موقعه باستمرار، أو يقيم مؤقتا في حاوية بضاعة تجرها عربات، في رفقته عدد من الفنيين المهرة الذين باستطاعتهم إعداد ما لا يقل عن عشرين كتابا في اليوم من الحجم الكبير المجلد، مثل إصدارات الأستاذ منصور خالد، أو النزعات المادية في الثقافة العربية الإسلامية للدكتور حسين مروة، أو مئة نسخة من الحجم الصغير مثل كتيبات باولو كويلو، ودواوين محمود درويش، ومقالات رولان بارت في النقد.
كانت إشارة نائب رئيس اتحاد الناشرين المصريين المهندس عاصم شلبي في أن هنالك سوقان كبيران للكتاب المزور في مصر، يوجدان بالسودان والسعودية، يبدو صحيحا جدا فيما يخص السودان على الأقل، حيث يكاد ينحصر الكتاب المزور في السعودية على الكتاب الجامعي والعلمي.
المراقب لسوق الكتاب اليوم بالسودان الذي يسمى محليا «مفروش» وكثير من المكتبات الكبيرة، يلاحظ وجود ثلاثة أصناف من الكتب المزورة: تلك الواردة من مصر، وهي أكثر إتقانا وأشبه بالأصل، والأخرى وشبيهتها الواردة من سوريا، ثم المزورة محليا في منطقة السوق الشعبي بأم درمان، أو السوق العربي بالخرطوم، أو في أية حاوية متحركة في شوارع المدينة، وهي رديئة الطباعة والأوراق وأرخص سعرا من المصرية والسورية المنشأ، وأفاد الأستاذ نور الهدى - سكرتير العلاقات الخارجية في اتحاد الناشرين السودانيين - أنه بعد انخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار الأمريكي في السودان الآونة الأخيرة، توقف سيل الكتب الواردة من سوريا نسبة لارتفاع تكلفة الشحن، ولكن انتقل المزورون إلى العمل في السودان، وأخذوا يدخلون تقنيات متقدمة في هذا الشأن.
ينشط الناشر الشبح في صناعة الكتب ذات الطلب العالي والممنوعة عن النشر، والروايات الأجنبية المقررة في المدارس والجامعات، وتلك ذات الأسعار العالية جدا، حيث يقوم بعرضها بأقل من ربع سعرها الفعلي، محققا بذلك أرباحا كبيرة تفوق ما يتحصل عليه الناشر الفعلي والكاتب والطابع وكل الذين في سلسلة صناعة الكتاب؛ لأن الناشر الشبح يأخذ نصيبهم جميعا ويحل محلهم كافة، فهو الناشر والطابع، وفي كثير من الأحيان الكاتب نفسه؛ لأن بعض الإصدارات الجامعية يعاد تزويرها بدون الإشارة لاسم المؤلف، ويفيد مسئول كبير - لا يرغب في ذكر اسمه - أن مؤسسة علمية خاصة تقوم بطباعة كتب الطب الأجنبية النادرة محليا دون إذن ناشريها أو مؤلفيها.
هنالك أيضا الناشر الشبح الإلكتروني، فبينما بلغت مبيعات الكتب الإلكترونية في أمريكا 282,3 مليون دولار للربع الأول من العام الحالي، وهو رقم يزيد بأكثر من 28٪ عن نفس الفترة من العام الماضي ، إلا أن الكتاب الإلكتروني في السودان غير ربحي ولا يباع ويشترى، ولكنه يكبد الناشرين والكتاب خسائر فادحة، وله أغراضه الخاصة، إما أنه معارض ويقوم بنشر الكتب الممنوعة التي بها أفكار مخالفة لما هو مسموح به رسميا، ويصبح هدفه سياسيا واجتماعيا، أو أنه ينتمي للسلطات الحكومية، ويقوم بنشر الإصدارات المعارضة بعد إفسادها وإقحام فقرات وصفحات تفسد الموضوع أو تسيء للعقيدة مما يدخل المؤلف في حرج، وأحيانا كثيرة يكون الناشر الشبح الإلكتروني ليس أكثر من فاعل خير شرير شديد الضرر بحقوق الملكية الفكرية، حيث هدفه يتمثل في إشاعة المعرفة، وتوصيل الكتب العلمية والثقافية والأدبية، وتلك الدينية والدعوية وغيرها إلى القراء الفقراء والبعيدين عن مراكز البيع مجانا.
هنالك تطور حدث في هذا المجال، مثل اختراع القارئ الإلكتروني الذي سهل مهمة الاطلاع على الكتب المنزلة من الشبكة العنكبوتية وحفظها وتداولها دون أية رقابة، سوى الوازع الأخلاقي الذي قد يكون ضعيفا جدا عند البعض، ولعبت تقنية البلوتوز
Bluetooth
أيضا دورا كبيرا في نقل المواد الإبداعية في صورة ملفات سهلة القراءة والتداول مرارا وتكرارا.
أقرت إدارة التفتيش والرقابة بضعف آلياتها، وأرجعت السبب إلى قلة التمويل ونقص أدوات الحركة، واعترفت أنها لا تستطيع تغطية السوق بوضعها الراهن، وحملات التفتيش على قلتها غير متخصصة، وينصب تركيزها على المواد الإباحية والعناوين الممنوعة أكثر من صناعة الكتاب والملكية الفكرية، في الحقيقة لا يوجد دور رقابي ملحوظ على حماية حقوق الناشر والمؤلف في السودان، ويتم تفعيل قانون المصنفات الفنية والأدبية في الجوانب التي تحد من حرية الكاتب والكتابة لا غير، أما من ناحية الحقوق فيبدو التطبيق هزيلا ومتواطئا.
تختلف آراء ومواقف المثقفين السودانيين حول مسألة التزوير في المطبوعات، كثيرون ينظرون إليها من النواحي السلبية، ولكن هنالك آراء أخرى تقول غير ذلك، مثلا يرى الفنان التشكيلي السوداني سيف اللعوتة في معرض حديثه للجزيرة نت: «نشر الكتب والفنون والمعارف عامة دون إذن أصحابها ليس مشكلة، فالمعرفة هي حق إنساني، ويجب أن تكون مشاعا، وما يحدث الآن هو سلوك الطبيعة نحو التوازن وتحقيق مبدأ المشاركة ».
وقد أوجز بائع للكتب بمدينة بحري أسباب التزوير فيما يلي: ارتفاع سعر الكتاب، عدم توفر الكتب المطلوبة من قبل القراء بالكميات الكافية، منع بعض الكتب من النشر، ليس بإمكان الطلاب شراء الكتب الجامعية في طبعاتها الأصلية، هامش الربح في الكتاب المزور أكبر من هامش الربح في غيره، نفاد الكميات من بعض الإصدارات في الأسواق.
على رأس قائمة الكتب الأكثر تزويرا في السودان: المصحف الشريف، أعمال الدكتور منصور خالد - توجد الآن 700 نسخة منها قيد التحقيق ضبطت بمعبر العبيدية في الحدود السودانية المصرية - كتب الفلسفة - وخاصة كتب نيتشه ورولان بارت - كتب الطب والهندسة العلمية، القواميس اللغوية، مناهج تعليم اللغة الإنجليزية المتقدمة - وخاصة سلسلة
Head way
حيث أعلن الوكيل المحلي لناشر السلسلة
Oxford
إفلاسه وإغلاق منافذ بيعه جميعا بالخرطوم، بعد تكبده خسائر مالية فادحة - بعض الكتب المصادرة من قبل المصنفات الأدبية والفنية مثل كتاب الحركة الإسلامية للكاتب المحبوب عبد السلام، وهنالك أكثر من ثلاث طبعات مختلفة من رواية «الجنقو مسامير الأرض» لكاتب هذه السطور، قام بإعدادها الناشر الشبح.
في رأينا أن المخرج من هذه الأزمة لا يتمثل في الرقابة اللصيقة والحملات الشرطية فحسب، فالرقابة البوليسية الصارمة قد تكون ذات نتائج عكسية، كما حدث في الصين الشعبية، حيث فرخت أكبر أربع دور نشر سرية لتزوير الكتاب في الصين وربما في العالم.
الحل الحقيقي يكمن في إفساح حرية النشر والطباعة، ودعم مدخل إنتاج الكتاب، ورفع الرقابة السياسية عن الكتب، تنظيم أكثر من معرض للكتاب في العام، مع توسيع مشاركة الناشرين العرب والعالميين في هذه المعارض، إنشاء مكتبات عامة بالعاصمة والمدن للاطلاع والتسليف مجانا، وتوفير الكتاب العلمي بالجامعات والمدارس.
الشيء الأهم هو أن يعي القارئ أنه باطلاعه أو شرائه لكتاب مزور، قد يساعد على عملية نصب واحتيال، ويدعم أنشطة تقوم بتدمير صناعة الكتاب وإهدار حقوق أساسية، وفي حالة أنه تحصل على الكتاب مجانا من أية وسيلة إلكترونية كانت دون إذن صاحب حق النشر، فإنه في أغلب الأحيان يقوم بعملية سرقة منظمة يعاقب عليها الضمير والقانون.
عمان مدينة تحرسها الآلهة تايكي
1
مهما قرأت عن عمان، فإنك لا تعرف عنها شيئا، ولو وصفها لك هدهد سليمان، وغناها لك فكتور هارا، ورقصتها شاكيرا، ودندنها الشيخ إمام، فإنك ستظل جاهلا بها جهلك بجدي برمبجيل، لذا سوف لا أصفها لك، ولن أحدثك عن بيوتها المشيدة على قمم الجبال كأعشاش النسور، وعن القلاع والمدرج الروماني وكهف السيد الخضر، وعن بيت الآلهة تايكي حارسة مدينة عمان.
إن اكتشاف مدينة عمان شيء مفاجئ وعمل سحري يصيبك بالحب أو الجنون، يحج السودانيون عادة إليها بحثا عن الشفاء، بما يسمى السياحة العلاجية، وتتشفى هنا في السودان، طرفة تقول: إن تاريخ حياة الرجل يبدأ بالزواج كرمز لعنفوان الشباب، ثم الحج إلى بيت الله، بما يعني مرحلة ما بعد النضج ووسوسة الرحيل إلى الآخرة، ثم يختتم حياته السعيدة بالذهاب إلى الأردن لإجراء عملية البروستاتا، وبذلك يسدل الستار على حياة طويلة جميلة، فعل فيها كل ما عليه القيام به.
ورغم أن هذه الصورة حديثة نسبيا، إلا أن الناس في السودان يعرفون تلك البلاد الجميلة كقلعة صحية تأخذ عنهم آلام المرض، وتهبهم عمرا جديدا بغير أوجاع، والدليل القوي أنني بعد أن دعيت إلى حضور ملتقى عمان الثالث للقصة، بلغت أسرتي بذلك، فأخذوا يصرخون: إن شاء الله سلامة، ومن المؤكد أن الناس يعرفون الكثير عن البحر الميت وخليج العقبة، وحضارة الأنباط، والملك حسين، وأهل الكهف، والمدرج الروماني، وغيرها من معالم التاريخ والجغرافيا.
أول ما يثير انتباهك في تلك البلاد، نظافة كل شيء: الإنسان والمكان، وأجزم أنني لم أر مظهرا غير لائق البتة، ثم البنايات المتشابهات، حيث يوجد نمط واحد وأسلوب واحد للعمارة يخص عمان ويميزها عن بقية المدن، ذكرني ذلك بمدينة تورينو في إيطاليا؛ حيث أسلوب العمارة الباروكي، والأمر الذي لا يجعلك تشعر بالملل هو ذلك التنوع الطفيف مثل النوتات في النغمة الموسيقية الواحدة، فتجد بيوتا بمشربيات صغيرة، وأخرى بغيرها، وبين فينة وأخرى تلاحظ مسحة بدوية طفيفة على البنايات، اللمسة البدوية نفسها تجدها في البشر في صورة حفاوة وكرم دافق وترحاب بلاد حدود بالآخر ، وتجدها في روايات سميحة خريس، وقصص سعود قبيلات، ومحمود الريماوي، وهزاع البراري، وأظنني سأجدها عند عدي مدانات عندما أكمل قراءته، اللمسة البدوية موجودة حتى في أكثر الأشياء مدنية، سيارة الأجرة مثلا، فالسائق كث الشعر، الذي يعبر بي الطرق الفسيحة نحو المطار، كان يحكي معي كصديق قديم، وضحكنا كبدويين تقابلا في مفترق طرق.
2
هاشم غرايبة، سعود قبيلات، سميحة خريس، ود. هدى فاخوري ... عرفت عمان عن طريقهم، عمان المقاهي الليلية والأعراس البهيجة، والأفكار التقدمية، والنقاش الثري العميق، وتلمست التوجهات الوحدوية، ووجدت إجابات كثيرات على أسئلة حائرة في ذهني قد لا تطرح علنا، عن حريات الكتابة والنشر، حريات الفكر، الحريات الشخصية، وهذه الموضوعات هي أكثر ما تؤرق كاتبا من دولة تعاني من صراعات مريرة في مسألة الهوية والحكم.
لا يمكنني أن أفهم معنى للتضييق المخل في الحريات في دولة بها عشرات اللغات والقبائل، وعدد لا يستهان به من الديانات مثل السودان، ومقابل ذلك مساحة الحرية واسعة في دولة ملكية بها جماعات سكانية متجانسة، وعريقة في عروبتها، وقريبة جدا من التأريخ الإسلامي، بل تعد إحدى مواقع النشأة الإسلامية، لم أحس لحظة بأي هوس ديني أو فرق جهادية أو تهديد بتطبيق الشريعة، أو أقرأ صحيفة عنصرية تدعو إلى إعلاء العنصر العربي وتشتم ما هو غيره.
تعشينا في النادي الأرثوذكسي، وشاهدنا فيه حفل زواج أسرة مسلمة، والصبايا الجميلات يلبسن ما شاء لهن، ويرقصن كأنهن عصفورات الجنة، ولا وجود لقوات النظام العام المدججة بالأسلحة والتطرف، كما أنني لم أسمع أن فتاة قد اغتصبت أو تحرش بها شخص ما لأنها تلبس البنطلون، أو لأنها رقصت في حفل زواج، ولم أسمع برواية أو مجموعة شعرية تمت مصادرتها؛ لأن الأمة أمة رسالية، ولا تسمح بغير الأدب الذي يمجد فكرة الحاكمين، أحس بألم ومرارة وأنا أقارن ذلك بما آل إليه وطني، ذلك الذي كان جميلا وكبيرا.
3
جعفر العقيلي، بسمة النسور، وفهمية الزغبي.
هؤلاء يذكرون كلما ذكر ملتقى عمان الثالث للقصة (23-25 تموز 2011)، أهم ما حققه هذا الملتقى هو التشبيك العفوي لكاتبات القصة القصيرة وكتابها في الوطن العربي، تلك المفاكرة العميقة والنقاش الثري الذي يدور بين الكتاب - أكثره خارج القاعات - من جانب، والتعريف بأساطين القصة القصيرة في المملكة الأردنية الهاشمية من جانب آخر، ولو أن غالبيتهم معروفون في الوطن العربي وخارجه، إلا أن الملتقى كان بمثابة آلية لوضعهم مباشرة في قلب الحراك العربي.
هذه العاصفة السردية كانت حصيلتها أنني - الآن - أقرأ كتبا كان من المتعذر علي أن أجدها في السودان، وقابلت كاتبات وكتابا سوف يبقى أثرهم طويلا في حياتي، وليس ذلك إلا نتيجة الجهد المتواصل من جانب منظمي الملتقى، مثل القاصة الجميلة بسمة النسور، والقاص الصديق جعفر العقيلي، والسيدة الرائعة فهمية الزعبي، وكثير من الجنود المجهولين الذين لم نلتق بهم؛ لأن عملهم يتطلب أن يكونوا خلف الكواليس، يعملون من هناك بصمت وحب.
4
نميلة ...
الرحلة الجميلة هي الرحلة التي تتعطل فيها السيارة في مكان تختاره هي، وغالبا ما تختار العربة أمكنة لا يرغب فيها المرتحلون، كذلك فعلت عربة الصديق القاص جعفر العقيلي (التويوتا الهجين)، بعد أن عدنا من رحلة لم تكتمل إلى المغطس، وهو المكان الذي التقى فيه السيد المسيح بالسيد يوحنا الذي لقب بالمعمدان، فقد كان الأخير يعمد الناس كبشارة روحية بقدوم النبي عيسى ابن الإنسان، حيث عمد السيد المسيح بأن غطسه في نهر الأردن.
ولأن الموقع يقترب كثيرا من فلسطين المحتلة، كان علينا اجتياز خطة أمنية لم يتوافر زمن كاف لدينا من أجلها، لكننا وقفنا حيث شممنا عبق النهر، فطربنا أغصان أشجاره النبوية المرحابة، وسمعنا بقايا كلمات الرب العالقة في سماوات المكان.
كان صديقي السينمائي والمسرحي التونسي يوسف البحري مشغولا بالتقاط الصور، واكتشاف الزوايا التي تظهر جمال الأمكنة، وجعفر كعادته لا يكل ولا يمل، ويحاور ويجادل محاولا تجاوز بيروقراطية الترتيبات لزيارة المكان، أما أنا فكنت أرى يوحنا يخوض الماء إلى منتصف جسده، يباركه بكفيه، تحلق فوق رأسه حمامات، يظللنه بأجنحتهن، ويقلن لي: مرحبا بك في المغطس، يا ابن مريم (مريم اسم أمي).
كان الجو حارا بمحاذاة البحر الميت، والجندي البدوي الذي وجدناه في الصحراء تحت شجرة ينتظر أن تأتي عربة تقله منذ أكثر من عشر ساعات، لم يستطع السيطرة على دهشته، فبعد أن أفسحنا له المجال في العربة ليصل إلى وظيفته، ظل يسألني عن رفيقي كلما انفرد بي، أقول له: أحدهما تونسي، والآخر أردني، وأنا سوداني، ثم يسألني لماذا جئنا هذه الطريق الصحراوية غير المعبدة؟ هل تبحثون عن شيء ما؟ ويسألني ما إذا كنت أقيم بالأردن.
كانت العربة أعلنت ثورتها وضيقها من وعورة الطريق، وأظهرت إشارات خطرة، وحدثتنا شاشتها الإلكترونية أن نوقفها حالا ونتصل بالشركة المنتجة، واشتعلت لمبات حمراء وصفراء، مثلثات وعلامات تعجب، استعنا بالدليل الورقي المخبوء في جيبها من أجل الإفهام، استعنا بدعاء التونسي لله، أن يرزقنا مخرجا، تذكرت أجدادي الصالحين جميعا، وغير الصالحين أيضا، فلم تكن لدينا رغبة في الموت بهذا الوادي الوعر، إنه يصلح لالتقاط الصور، ولكن ليس الموت! بالنسبة لي لذة الموت لا تكتمل إلا أن يدركك في مسقط رأسك، أقصد أمكنتك المحببة لنفسك، سريرك الوفي، وليس في قمة صخرة، مهما كانت جميلة وموحية ومرعبة.
كنا في طريقنا إلى البترا، عن طريقة نميلة، بتفريعة من شارع بالكاد، تم تعبيده يقود إلى قريقرة، كانت الجبال شاهقة، والرمال صفراء، والمخلوقات الثلاثة التي التقيناها طوال توغلنا في وادي نميلة كانت ناقة، وقعودا، وجنديا بدويا يستقل العربة، الآن معنا.
توكل العقيلي وقاد العربة بعلاتها التي لا نعرف عنها شيئا، بوجود علامات الإنذار التي تتطلب منه أن يتوقف حالا، عبر طرق لا يمكن وصفها بأقل من مرعبة، كنا كمن في فيلم لهتشكوك، أو كابوس لعين، حيث تتشعبط العربة الصغيرة مثل عنكبوت نزق في الطريق رأسيا عبر ممرات ضيقة ترابية تتلوى في قمة الجبل الجيري، كأنها ثعبان أسطوري لا نهاية لطوله، وتهبط عموديا نحو الهاويات العميقات، تغني فيروز عبر جهاز تسجيل العربة، في هدوء وحب، ويمثل صوتها الحلو موسيقى تصويرية غير موفقة لفيلم الرعب الذي نعيشه، ويطمئننا البدوي بأننا سوف نكون في البيضا فوادي موسى، بعد دقائق معدودات، وستصبح الطريق سهلة من هناك إلى البترا، كنت أفهم كيف يرى البدوي المسافة، ففي السودان عادة ما يضاعف الشخص الذكي المسافة التي يقترحها البدوي خمس مرات، فالبدوي يرى كل الأمكنة قريبة منه، فهو ملك الفضاء الرحيب؛ لذا كنت الأكثر قلقا وتشككا في حقيقة دقائقه.
5
مدينة وردية كقلب العاشق ...
حارس البوابة المفضية إلى المدينة الأثرية البترا، وهو رجل نحيف يرتدي الزي المدني، أقسم بكل عزيز لديه ألا يتركنا ندخل للمدينة، التي تلوح لنا بكفيها الحجريتين أن نأتي حالا، قال: إن زمن الزيارة انتهى، وهو لا يغامر بأن يتركنا ندخلها في وقت متأخر، تعالوا غدا، لكنه - لسوء حظه - لا يعرف أنه يجادل شخصا لا حدود لصبره وطول باله، وأنه يمتلك منطق الإنس والجن، يبتسم ويضحك، لكنه يقول كلمات في قوة الصخر - ولو أنها تبدو في ليونة الماء.
كان جعفر العقيلي يظهر وجهه البدوي ومنطقه المدني في اللحظة نفسها، والحارس يزداد صلابة وتحديا، ويعد القضية مسألة حياة أو موت، إلى أن نقر العقيلي في أرقام جواله، وحدث شخصا، تبين لنا أنه وزير الثقافة الشاعر جريس سماوي، وأعطى الهاتف النقال للحارس، الذي سمع صوتا رسميا يأتيه عبر الهواء الإلكتروني، فيهدأ ثم، ومن فوره يجيء رجل من أقصى المدينة يسعى، يحمل كراسات ثلاثا لنا، فيها معلومات سياحية عن البترا، يبتسم الحارس ويفتح لنا الباب على مصراعيه، ويتمنى لنا زيارة موفقة وطيبة.
كان هذا الطقس لا بد منه، هذه المدينة التي كلف دخولها في الماضي الأرواح، وقد قتل عند بوابتها القائد أنطيوخوس الثاني عشر، في سنة 88 قبل الميلاد، وفر جيشه إلى قانا، وهلك معظم جيشه جوعا، ومن البوابة نفسها خرجت جيوش الملك عبادة الأول لتلحق الهزيمة النكراء بجيش الإسكندر جانيوس، ومنها أيضا خرج الجيش العرمرم؛ ليستولي على سهل البقاع ودمشق في سنة 85 ق.م، وعند البوابة نفسها كانت مراسم استقبال الفرعون المصري الزائر وابنته الجميلة، حيث بنى لها الأنباط قصرا خاصا سمي بقصر البنت، وهو ذو عمارة متميزة وغريبة عن عمارة الأنباط المتأثرة بالأسلوب الروماني الهلنستي.
ومن البوابة نفسها دخلت جيوش الرومان تحت إمرة القائد تراجان في سنة 106 ميلاديا، وأنهت استقلال دولة عربية قوية وفاعلة، نشأت من عمق البداوة والترحال؛ لتبني ملكا غريبا وجميلا وداهشا، إذن أليس لذلك الحارس الحق في الدفاع عن تلك البوابة التي تتمتع بهذا الموقع الاستراتيجي والأمني المتميز؟
كل شيء حولك لونه وردي، فهو لون الصخرة التي نحتت فيها هذه المدينة التي لا شبيه لها، إذ إنها نحتت في الصخر، ولم تبن منه أو فيه أو عليه، وتبدو الفكرة من وراء إنشائها واضحة منذ المدخل الضيق جدا، الذي ترتفع على جانبيه صخور عملاقة وشاهقة، كأنهما فكان عملاقان لحوت صخري، قد يطبقان عليك في أي لحظة؛ أي أنها بنيت لتكون حصنا آمنا لا يستطيع الغزاة دخوله إطلاقا، طول هذا المدخل يبلغ الكيلومترين، وينتهي فجأة في ميدان كبير تواجهك منه بناية، أو قل منحوتة ضخمة، هي ما اصطلح على تسميته الخزنة، وكعادته، كان صديقي يوسف البحري يعبر عن دهشته بالتقاط الصور، طلب مني أن أصوره في كل زاوية ومكان، وتوغلنا ليدهشنا المدرج العظيم الذي بإمكانه أن يسع 7000 شخص، والذي نحت أيضا على أسلوب المدارج الرومانية القديمة مثل التي توجد في عمان.
هناك أيضا مبنى المحكمة في طابقين، وهي أحدث من محاكم توجد اليوم في بلدان كثيرة، التقطت لصديقي صورا أمام ضريح الجرة، وضريح الحرير، وشارع الأعمدة، وضريح الجندي الروماني، وقصر البنت (بنت فرعون)، ولكل ما رأته عيناه اللتان تريان كل شيء.
كنت أعلم أن وراء كل منحوتة قصة، من ثلاثة جوانب: البناة، والمبني له، وحكاية المبني نفسه، هذه القصص الثلاث تحكي تأريخ المكان، وكلما تذكرت البناة طاف في خاطرتي عمال كثر كانوا ضحايا للحضارات العظيمة: بناة الأهرامات في السودان ومصر، بناة برج بابل، نحاتو مساكن البترا ومسارحها ومدارجها وأضرحتها، حفارو قناة السويس، ذلك النفر من البشر الذين لا ينتبه أحد إليهم، وفي الغالب ما كانوا يستمتعون بما يقومون به من عمل، علينا أن نتذكرهم ونحن في دهشة اكتشافنا لهذا الجمال الذي أبدع بدمهم وسقي بعرقهم وملح دموعهم.
حوار مع وداد الحاج
- تلقبون في الأوساط الثقافية بالزبون الدائم لمقص الرقيب كيف تم بناء هذه العلاقة الملتبسة مع الرقابة؟ - الرقيب، ذلك الوحش الوفي والقارئ المواظب لأعمالي، ناقدي المهووس المنحاز دائما ضد كتاباتي، المصاب بجنون العظمة وعقدة النقص في ذات اللحظة، الذي لا يؤمن إلا بأفكاره الخاصة عن الدين والأدب، وهو لم يسمع بهما بعد، والذي لديه مقدرة خارقة على وزن الأدب بميزان الدين والأخلاق وقانون النظام العام و«المشروع الحضاري» للسلطة، وكل شيء آخر ما عدا ذائقة الفن.
هذه العلاقة الملتبسة سببها سوء فهم لا أكثر، حيث يظن البعض أن في كتابتي ما يسيء لمشروعاتهم الأيدلوجية، ويخترق خطاباتهم المستقرة، بالطبع لا أقصد ذلك، كل ما أفعله هو أنني أنحاز لمشروعي الإنساني؛ أي أكتب عن طبقتي: أحلامها، آلامها، طموحاتها المذبوحة، وسكينتها أيضا التي تذبح هي بها الآخر، وحتى لا يلتبس الأمر مرة أخرى، أقصد بطبقتي المنسيين في المكان والزمان، الفقراء، المرضى، الشحاذين، صانعات الخمور البلدية، الداعرات، المثليين، المجانين، العسكر المساقين إلى مذابح المعارك للدفاع عن سلطة لا يعرفون عنها خيرا، المتشردين، أولاد وبنات الحرام، الجنقو العمال الموسميين، الكتاب الفقراء، الطلبة المشاكسين، الأنبياء الكذبة، وقس على ذلك من الخيرين والخيرات من أبناء وطني، إذن أنا كاتب حسن النية وأخلاقي، بل داعية للسلم والحرية، ولكن الرقيب لا يقرأني إلا بعكس ذلك.
عندما صودرت مجموعتي القصصية الأولى: على هامش الأرصفة، كانت قد صادرتها نفس الجهة التي قامت بطباعتها، وهي وزارة الثقافة في إطار فعالية الخرطوم عاصمة للثقافة العربية! حيث ظن بعض السلطويين أنني أحاكم مشروع العاصمة الثقافية العربية من داخله، وكان ذلك في 2005، ثم حدثت معاكسات هنا وهنالك، ولم يتم إعطائي إطلاقا طوال العقدين من الكتابة المتواصلة «رقم قيد» خاصا بالسودان لأي من كتبي، ثم جاءت الطامة الكبرى عندما صادروا روايتي: الجنقو مسامير الأرض، مدعين أنها تتحدث عن المسكوت عنه، وأن بها ما يخدش الحياء العام، وأنها تخالف قانون المصنفات الأدبية والفنية في المادة 15 منه، وقمت بتقديم شكوى ضد وزارة الثقافة، وهي الأولى من نوعها في السودان، والقضية الآن تنظر في المحاكم. - مباشرة بعد حصولك على جائزة الطيب صالح للرواية، قلت إنك تشعر وكأنك مصاب بالغثيان، هل تشعر بعدم جدوى مثل هذا النوع من التكريمات؟ - وما زلت أحس به، أشعر بأنني سعيت إليها مدفوعا، حيث إنها تمثل البديل الوحيد لتوصيل الكتاب إلى القارئ، والناقد الجاد في بلد لا توجد فيه مؤسسة ثقافية فعلية رسمية واحدة، ومكبل فيه العمل الثقافي بقوانين عفا عنها الزمن، وهي أقرب لقوانين محاكم التفتيش في القرون الغابرة، لقد كنت وصوليا وحقيرا وأنا أستلم تلك الجائزة وغيرها من الجوائز، حقيقة لم أحس بنيلي للجائزة أنني أنجزت بذلك شيئا ذا بال، بل فضحت نفسي أكثر، بالطبع، مع كامل احترامي لجائزة الطيب صالح ومركز عبد الكريم مرغني الذي يعمل في صمت وظروف صعبة من أجل الثقافة والإنسان. - أثارت ثلاثيتك - البلاد الكبير - من حولها الكثير من الزوابع التي لم تهدأ بعد لحد الساعة، وقيل: إنها تعرضت للحجز والمنع من التوزيع، هل يعني ذلك أنك أمعنت في القفز على الحواجز وتعدي الخطوط الحمراء؟ - المشكلة في المنفستو الخاص الذي أتبناه، ولم أحد عنه حتى الآن، لمن أكتب ولم أكتب، وكيف أكتب؟ - بعيد خروجك من مغامرة الثلاثية الأولى، خضت غمار عمل آخر، اخترت له اسم «الجنقو مسامير الأرض»، ويبدو أن شبح الرقيب لا زال وفيا لتعامله السابق معك رغم كونها حظيت بجائزة مسابقة الطيب صالح. - رواية الجنقو مسامير الأرض لم تشفع عنها جائزة الطيب صالح، ولا المحكمين، ولا القراء، وسوف تظل مصحوبة بلعنات السلطات السودانية إلى أن يمن لنا الله والشعب بثورة ديمقراطية في زمن ما، وتقام المؤسسات الثقافية التي ترعى الحريات، ويأتي وزراء الثقافة الذين يفرقون ما بين الأدب والأجندات الحزبية.
محنة الجنقو لا تنفصل عن محنة الشعب السوداني كله.
وتظل الكتابة عندي طقس حر لا يعترف بقيد، ولا سلطة، ولا مصنفات أدبية، ولا قانون نظام عام، الكتابة هي التي تخلق قانونها وأخلاقها ودياناتها السرية، ومشهدها القومي وقارئها أيضا. - كيف تصف لنا تضاريس راهن المشهد الثقافي السوداني؟ - المشهد الثقافي السوداني اليوم ضعيف على مستوى المؤسسات والاهتمام الرسمي، حيث لا توجد مجلات أدبية أو جرائد متخصصة في الثقافة، لا توجد دور عرض قومية أو اهتمام مؤسسي سوى بعض المسابقات هنا وهنالك ما بين وقت وآخر، حسب أمزجة أولي الأمر الذين تنام الثقافة في ذيل مراقد أولوياتهم، والحق يقال: ليست الثقافة وحدها تبقى هنالك في الذيل، ولكن الصحة والتعليم والخدمة الاجتماعية، ولكن يظل المشهد الثقافي واعدا بمجهودات المثقفين والكتاب الشخصية والذاتية، يراهن على الأجيال الجديدة في مجالات الإبداع الشتى، التي قامت على أكتاف أسماء كبيرة سبقتها، مثل: بشرى الفاضل، وتابان لولي ينج، السر آناي، إبراهيم إسحق، عيسى الحلو، مبارك الصادق، بثينة خضر مكي، زينب بليل، الطيب صالح، محمود محمد مدني، علي المك، محمد المهدي بشري، عالم عباس، النور عثمان أبكر، الفيتوري، كمال الجزولي، صلاح أحمد إبراهيم، عبد القدوس الختم، نبيل غالي، علي مؤمن، مجذوب عيدروس، محمد المهدي المجذوب، عبد الله شابو، وغيرهم، ويكفي اليوم أن نستعرض بعض الأسماء لتضح صورة المشهد الآن، في مجال الرواية نجد: منصور الصويم، أمير تاج السر، إبراهيم سلوم، حمد الملك، أبكر آدم إسماعيل، محسن خالد، طارق الطيب، جمال محجوب، عباس عبود، محمد جميل، الحسن البكري، محمد الطيب، هشام آدم ومحمد خير وغيرهم.
وفي مجال القصة القصيرة هنالك أحمد أبو حازم، أحمد عوض، استلا قايتانو، رانية مأمون، سارة الجاك، رامية رحمة، جمال طه غلاب، عصام أبو القاسم، فايز حسن العوض، عادل القصاص، يحيى فضل الله، كلتوم فضل الله، م.م.م. عثمان، الهادي راضي، وغيرهم.
وفي الشعر: نجد من أسماء هذا الجيل نجلاء عثمان التوم، الصادق الرضي، بابكر الوسيلة، عاطف خيري، عصام عيسى رجب، محمد الصادق، نصار الحاج، محمد مدني، رانية محجوب، محفوظ بشري، مأمون التلب، قرنق توماس، مارول مارول، أحمد النشادر، إشراقة مصطفى، خالد حسن، إيمان آدم وآخرين.
وفي النقد: يمكن أن نذكر بعض الأسماء الجادة، مثل هاشم مرغني، صلاح عوض الله، إبراهيم عابدين، أحمد الصادق، معاوية البلال، محمد الربيع محمد صالح، محمد جيلاني، وفاء طه، لمياء شمت.
معترفا بانحيازي لجيل التسعينيات، الذين استفادوا من تجارب من سبقوهم، وبنوا على ما تحصلوا عليه من تواصل إنساني ومعلوماتي في عصر ثورة الاتصالات وخاصة الإنترنت، واحتكوا جيدا بكتاب من جيلهم وأجيال سبقتهم في الوطن العربي وخارجه، وساعد المهجر أيضا في أن ترفد الرواية بكتاب شباب لهم ثقافة هجين، بالتالي اتسمت كتاباتهم بما هو مهجري وسوداني، بما هو عالمي ومحلي، وبما هو شخصي وعام. - هواجس الكتابة لدى الكاتب السوداني عموما ولدى بركة ساكن على وجه الخصوص. - يتباين الكتاب السودانيون في تلك كثيرا، حسب مدارسهم الفنية والأدبية، ومنطلقاتهم الأيدلوجية ورؤيتهم للأدب، فالبعض يرى أن الكتابة يجب ألا تتناول قضايا الواقع السوداني، مثل الحروب التي استمرت منذ استقلال السودان إلى اليوم، الصراع المر في دارفور، الحريات الشخصية، قضايا الهوية، بل يجب عليها أن تحلق عاليا في مجاهل اللغة الجميلة الشاعرية، وعوالم الحب ودواخل الإنسان، وهم كثرة، ولهم الحق في ذلك.
والبعض يرى غير ذلك - وأنا واحد من ذلك البعض - وهم قلة، حيث إن مشروعي هو الإنسان في كل حالاته: في فرحه وأحزانه، في تقواه وضلالاته، في جنونه ووعيه، وبالتالي أهتم بقضايا المجتمع، أتعامل مع الواقع مطوعا كل أعمالي وخبراتي الكتابية لذلك، فهاجسي الآن هو حرب دارفور ومعاناة التشريد والموت والفقر والجهل التي يعيشها الناس هنالك، كلما رأيت جندا يتوجهون لدارفور، كلما أرسل الصينيون طائرات وناقلات عسكرية للسلطة، كلما رأيت قاطرات تحمل دبابات ومدافع لدارفور، كلما شممت رائحة بندقية، كلما رأيت مسئولا يكبر ممجدا الحرب، كلما احتفل حربيون بانتصاراتهم، بكى قلبي، وانجرحت أحبار الكتابة، وانحاز قلمي للواقع. - مدى اطلاعكم على التجارب الإبداعية في الجزائر؟ - جزء مما تتلمذنا عليه كان من تلك الكتابات الجميلة لجزائريين، ويعجبني بصورة خاصة رشيد بوجدرة، وقرأته منذ وقت بعيد، وظللت أقرأه إلى اليوم، بالتأكيد قرأنا الطاهر وطار، وواسيني الأعرج الذي أعجبت بعالمه الجميل ولغته المدهشة، قرأنا لكثيرين آخرين عبر الشاشة العنكبوتية وموقع «المحلاج» للغرباوي، ولدي صداقات مع بعض المبدعين الجزائريين، مثل سهيلة بورزق صاحبة موقع «فوبيا»، ولقد نشرت لي ضمن كتاب سودانيين آخرين ثلاث قصص في ببلوغرافيا القصة السودانية بعنوان «غابة صغيرة»، وكانت قد صدرت ضمن فعاليات الجزائر عاصمة للثقافة العربية، أعدها الشاعر نصار الحاج.
نامعلوم صفحہ