أما المطلب الثاني وهو طبيعي أيضا فخلو رجل لدكان كبير في شارع رئيسي ليفتح الدكتور حسان صيدلية، وخلو الرجل هنا ممكن؛ لأن الذي سيتقاضاه هو المستأجر لا المالك. والمستأجر يستطيع دائما أن يتهرب من عقوبة الخلو. ومهما يكن التناقض يدعو إلى الضحك المرير في هذا الشأن فهو واقع. المستأجر يستطيع أن ينال خلو الرجل لتركه لمكان لا يملكه، والمالك لا يستطيع الإفلات من عقوبة الجريمة نفسها إذا هو تقاضى خلو رجل لعقار يملكه. وكلا الشخصين مستغل لا شك في استغلاله، ولكن يظل التناقض مع ذلك يدعو إلى الضحك المرير.
وهكذا وجد متولي عبد القادر نفسه في حاجة إلى مائة ألف جنيه ليتزوج ابنه، وهذا حق له مشروع، وليفتح لنفسه صيدلية، وهذا أيضا حق له مشروع.
ولو كان حسان يجد أباه مضيقا عليه في الرزق، ولو لم يكن حسان يعلم أن أباه يعمل عند من تفوق ثروته عشرات الملايين، لرضي أن يبحث عن شقة في هذه العمائر التي يسمونها الإسكان الشعبي. ولرضي أيضا أن يظل كما هو أجيرا في صيدلية. ولكن وأبوه وكيل لصفوت المعلاوي فإن من حقه أن يطمع إلى ملك بيت وصيدلية. فإن أباه الذي استطاع أن يشتري له سيارة وهو في أول عهده بالجامعة لا بد قادر على أن يشتري له كل ما تطوف حوله آماله.
ومتولي يدرك هذا جميعا. وهو ذئب عجوز مرن على العمليات المالية من كل لون لها. وهو يعرف صفوت المعلاوي كما لا يعرفه أبوه أو أهله وذووه! فهو يراه حيث لا يراه أحد. ويعرف كيف ينقض على السوق انقضاض وحش كاسر لا يرعى حرمة ولا يقف به خلق، ولا يرده شرف أو تعطف قلبه رحمة. وفي أثناء العمليات التجارية لا يكون الحديث من صفوت إلا إلى متولي. وفي هذه الأحاديث تتضح نظرية صفوت في الحياة وفي التجارة وفي المال، وهي نظرية لا حداثة فيها، وهو حين يقولها لا ينشئ فكرا اقتصاديا أو إنسانيا أو اجتماعيا جديدا، وإنما هو يسفر فقط عن انتمائه إلى هذه الأفكار التي عرفتها البشرية منذ قتل قابيل أخاه هابيل. وقد رأى متولي أنه ما دام وكيل صفوت، فمن الطبيعي أن يكون من حزبه، وما دام الأمر كذلك فمتى تنقلب النظرية إلى عمل إذا لم تنقلب وهو في موقفه هذا من ابنه الذي يحرص دائما على أن يرضيه شأن كل أب يحب ابنه. وإن كان هو يختلف عن الآباء الآخرين فهذا الاختلاف سببه صفوت. فهو قد تعود أن يجد المال ليستجيب لرغبات ولده. وقد كان ما يحتاجه ابنه قبل الموقف الأخير هذا أمرا يدخل في دائرة الاستطاعة دون أن يحتاج متولي إلى طريق فيه غدر. أما اليوم فهيهات، فإنه إذا لم يلجأ إلى النظريات التي يعتنقها صفوت فلا خروج له من مأزقه هذا.
وفكر متولي أن يواجه صفوت ويشرح له الموقف. ولكن هذه الفكرة ما لبثت أن أصبحت موضع سخرية من متولي نفسه. أيقول لصفوت : أريد مائة ألف جنيه؟ فيقول له: وما له تفضل. أيتصور هذا؟ أيدخل هذا الرأي في حيز المعقول؟ إنه لو فعل ذلك فإن الأمر لن يعدو واحدة من اثنتين: إما أن يطرده صفوت من العمل فورا ويصدر أوامره في الشركة ألا يقترب منها متولي أو يتصل بأحد يعمل فيها. هذه واحدة، وهي بصفوت خليقة وبه أشبه. أما الأخرى فهي أن يتظاهر صفوت بالقبول وأنه على استعداد لشراء الشقة وفتح الصيدلية لحسان الذي هو بمثابة ابنه، ويظل يماطله حتى يحصل على ما عنده من أوراق هو يعلم مدى خطورتها، ثم يعصف به بعد ذلك. وقد تصلح هذه الفكرة لصفوت إذا قدر أن متولي لا يجسر على طلب هذا المبلغ الجسيم إلا بعد أن يكون قد أعد عدته وتسلح بكل ما يصل به إلى غايته.
ومتولي يعرف أن صفوت لن تفوته خطورة ما يحتفظ به متولي من أسرار. ولكن متولي مهما تكن حاجته إلى المال شديدة إلا أنه يخاف المواجهة ولا يشك لحظة أنه إذا واجه صفوت الذي عاش معه هذه السنوات - وهو بموقف منفذ الأوامر في حين صفوت في مكان مصدر هذه الأوامر - فإنه لن يلبث أن تنهار منه العزيمة وربما انقض عليه صفوت واستخلص من بين براثنه كل ما يحتاج إليه ليحصل على هذا القدر من المال.
رجل عجوز متولي. يجيد إحكام الخطة، وقد كان يشارك صفوت في الإعداد للعمليات التجارية. بل إنه كان أحيانا يقوم بالإعداد الكامل للضربة المالية. فإذا كان يصنع هذا ويصيب النجاح وهو يفكر لغيره، فكيف يجوز له أن يخطئ أو يقعد به السعي وهو يعمل لنفسه؟! وهل ابنه إلا نفسه وأعز؟!
رأى متولي الصحف تنقض على الذين يتاجرون باقتصاد الدولة. ورأى بين المتهمين أشخاصا لم يكن يتصور أن أحدا يجرؤ على المساس بهم. إذن فالأمر جد لا هزل فيه. وإذن فالمعتدون على أموال الدولة مصيرهم الوبال والسجن أو يردون للدولة حقها.
وعرف أن أجهزة الأمن والنيابة العامة لا ترحم أحدا، وأن الإشارة العابرة تكفي حتى تبدأ أجهزة المحافظة على أموال الدولة في التحري. فإذا وجدت بصيصا من حق أو شعاعا من احتمال صدق واجهوا المتهم وتركوا عليه أن يثبت عكس ما هو متهم به إذا كان يملك إلى هذا الإثبات سبيلا.
وحين دق جرس التليفون ليستدعي وجدان لم يكن يعلم أن الأمر يتصل بصفوت من أي سبيل. وحين وصل إلى مقر النيابة قدم إليه زميله البلاغ الذي قدم إلى الجهات المختصة ومعه التحريات التي تثبت أن صفوت قد قام بعمليات تجارية قدم عنها معلومات غير صحيحة كان من نتيجتها أنه حجب نصف مليون جنيه هي حق الدولة كضريبة أرباح تجارية. واستولى هو على المبلغ بدلا من الدولة. وقرأ وجدان الأوراق في عناية، ثم رفع رأسه إلى زميله: ولماذا استدعيتني؟
نامعلوم صفحہ